يستبين المفكر المصري ملامح النفاق في الأدبيات التي تسوق لسان الثورة دون ذهنيتها. ويشير إلى أن المزايدة تفرغ خطاب الثورة من تأثيره، فهي كالمزايدة في الخطاب الديني الذي يعكس عقلية الرأي الواحد، فكلاهما ضد الثورة القائمة على تعددية الرؤى، واستمرار الحوار الوطني.

المزايدة في الخطاب الثوري

حسن حنفي

بقدرة قادر، وبين عشية وضحاها، وكما عبر الشاعر العربي:

ما بين غمضة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال

تبدل الخطاب الإعلامي والثقافي والفني من خطاب مغترب إلى خطاب ملتزم، ومن الحديث عن الصين والهند ونظام العالم الجديد، ومجتمع المعرفة، وعالم الحاسبات الآلية، وبيان الفرق الشاسع بين المجتمعات المتقدمة هناك، والمجتمعات المتخلفة هنا إلى الحديث عن الثورة وأسبابها ومكوناتها، بل والتحذير من مخاطرها والتنبيه على تحدياتها، في صوت رجل واحد، وهبة قلمية واحدة. وبدأ سباق في الخطاب الثوري. الكل يدخل فيه، ويزايد عليه ليحوز قصب السبق فيه. والفوز على باقي المتسابقين. هي عقلية السوق، ورجال الأعمال، والتنافس بين الشركات. الكل يريد كسب السوق، وتعميم الإنتاج. وهو سباق نحو السلطة. يُسمع صوته إلى النظام الجديد تنصلاً من النظام القديم، وإشارة إلى أنه مستعد للخدمة. القلم جاهز، واللسان مستعد، والفكر في الخدمة. هو سباق نحو الوظائف الخالية الجديدة في الإعلام والثقافة والفن، بل وفي الاجتماع والسياسة والاقتصاد بسقوط النظام القديم، وبداية النظام الجديد. لم يتغير شيء، تبرير الوضع القائم، وإعطائه المسوغات الشرعية. الحدث يقع، والثقافة تتلو. الثورة تندلع، والتبرير يتبع. التأييد والتصفيق لم يتغيرا. مات الملك، عاش الملك.

ظهر في الواجهة كتّاب لم يسمع عنهم أنهم كتبوا في الثورة من قبل. وبرز أساتذة لم يُعرف عنهم أنهم انشغلوا بالثورة من قبل، أسبابها ومكوناتها وقربها. وهرع أدباء لإصدار أي عمل أدبي عن الثورة. وبدأ فنانون يعدون أول أغنية أو فيلم عن الثورة. وافتخر إعلاميون بأنهم أول من كتب تقارير عن الثورة: نزلوا ميدان التحرير، وخاطبوا الشباب، وحاوروا الثوار، وعرّفوا بهؤلاء المجهولين. ولم يفعلوا ذلك من قبل، وكتبوا تقارير عن المعذبين في السجون والمعتقلات، وفساد النخب الحاكمة، والمطالبة بإلغاء قوانين الطوارئ، والمحاكم العسكرية. وإذا كانت كل هذه الأقلام ثائرة فلماذا استمر النظام السابق من السبعينيات وحتى الآن بجمهوريتيه على مدى أربعين عاماً يحكم عن طريق رجال الأعمال ورجال الأمن؟ بل إن نفس الأقلام التي كانت تدافع عن النظام السابق هي نفسها التي غيرت لونها، وخطها، لتؤيد النظام الجديد، وتتسابق نحوه، وتزايد في خطابها عليه.

وحوصر المفكرون الأحرار، والكتاب والفنانون الثوار. ولم يجدوا مكاناً لهم وسط هذا السيل الدافق من الخطاب الثوري والمزايدة فيه. لا مكان لهم في المنافسة. فالصدق لا ينافس الكذب. ولم يستطيعوا مواصلة خطابهم الثوري الذي كانوا يعملون فيه قبل الثورة. فالعملة المزيفة تزيح العملة الصحيحة. والخطاب الثوري الزائف تنقصه المصداقية. وبتكراره لا يصدقه أحد. ويصبح مثل الخطاب السياسي المزيف السابق الذي لم يعد يسمعه أحد. بل إنه يجهض الثورة، ويسد الطريق أمامها كي تنظّر نفسها بنفسها بناء على تجربتها الحية التي فجرت الثورة، ولم تفجرها الأيديولوجيات الثورية.

لم يتغير شيء في الخطاب السياسي إلا المزايدة فيه. فالعقلية واحدة، المدح والتبرير. "احثوا في أفواه المداحين التراب". في كلتا الحالتين، قبل الثورة وبعدها غابت العقلية الناقدة التي تبين عظم المسافة بين القول والعمل، بين المبدأ والفعل. وغابت العقلية المستقلة عن السلطة، القديمة أو الجديدة، والمرتبطة بمصالح الناس للدفاع عنها لمعرفة خيانة النظام السابق لها، وبطء النظام الجديد في الدفاع عنها. تغير النظام ولم يتغير الذهن. تبدل الحكم، ولم تتبدل طريقة التعامل معه.

والمؤسسات جاهزة لكل لون. نشأت للخدمة. وهي جزء من الدولة. والنظام هو الدولة. "لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر". الإعلام والثقافة والفن، كلهم مستعدون لتبرير النظام الجديد وتحليل مضمونه وبرامجه، والتعبير عن رسالته بالفنون. يتسابق الفنانون لإخراج أول فيلم عن الثورة. ويهرع الأدباء لكتابة أول رواية أو قصة أو مسرحية أو نظم قصيدة أو زجل عن الثورة. لقد انقلبت النخبة كلها ثائرة. وإذا كان الكل ثائراً فمن المسؤول عن النظام السابق؟

الثورة صنعها الشباب وليس الإعلاميين والكتاب صناع الخطاب الثوري والمزايدة فيه. صنعتها التجارب الثورية، تجارب الفقر والقهر والتشرد والعري والمرض والتهميش. خلقتها طوابير الخبز، وغلاء الأسعار، وغرق العبارات، وتصادم القطارات، وتكدس المواصلات، وحوادث الطرق، ورشاوى الموظفين، وقصور التجمع الخامس والساحل الشمالي وسواحل البحر الأحمر، وأراضي الجولف والطائرات الخاصة، وسيطرة الحزب الحاكم وفساد الحكم، وتسلط الشرطة، وهراوات الأمن المركزي. فجرتها الطاقة المكبوتة وتلقائية الحركة والبحث عن الحرية والكرامة والعدل. ثم يسرقها الخطاب الإعلامي والمزايدة فيه.

إن ثقافة الإعلام والإعلان والدعاية يصعب تغييرها بين يوم وليلة. فرجالها مازالوا في الساحة. يبحثون عن عمل. لا فرق لديهم بين نظام قديم ونظام جديد. تغيير الثقافة يتطلب عدة أجيال، ونشأة أجيال جديدة منذ الصغر تقوم على الثقة بالنفس، والقدرة على النقد، وعدم الخوف من عصا الناظر ولا شرطي الأمن، والاستقلال عن السلطة. فالسلطة في خدمة الشعب وليست في خدمة الفرد. والشعب مصدر السلطات. تغيير الثقافة المحافظة إلى الثقافة الثورية يحتاج إلى عمل دؤوب وخطط مدروسة وحوار وطني ومشاركة شعبية دون تكفير أو تخوين. يحتاج إلى وظيفة جديدة للثقافة تكون قبل الحدث وليست بعده، ممهدة له ومتنبئة به قبل وقوعه وتبريره. يتطلب الغوص في جذور الثقافة وأصولها لإعادة بنائها طبقاً للظروف الجديدة. يقوم على إنكار الذات، والتأمل في النفس، والعكوف على الأسباب والأهداف.

الثورة علم وليست إعلاماً، وتأصيل وليست دعاية، ورجوع إلى الوراء خطوة قبل التقدم إلى الأمام. الثورة عمل هادئ. فقد اندلعت قبل الفكر على عكس ثورات أخرى التي كانت تحقيقاً لأفكار وأيديولوجيات ثورية مثل الثورة الفرنسية والثورة الأميركية والثورة الروسية. المطلوب تغيير الذهن وليس تبديل اللسان، تبديل القلب أي الموقف وليس تبديل الخطاب. المطلوب هو التخلص من عقلية المزايدة والصوت المرتفع إلى المناقصة والصوت المنخفض. فالنتائج متضمنة في المقدمات. والفروع تعبير عن الأصول.

إن المزايدة في الخطاب الثوري مقتل للخطاب وللثورة في آن واحد. إذ يصيب الخطاب عدم التصديق، ونقص المصداقية. فلا يعود مؤثراً ولا فعّالاً، مؤثراً في الناس، وفعّالاً في تطوير الحدث. وهو مقتل للثورة لأنه سد للطريق أمامها، وتزييف نظري لها. فمن يصدق الثوار؟ من خانوا الثورة قبل سقوطهم أو من زايدوا في خطابهم بعد نجاحها؟ المزايدة في الخطاب الثوري مثل المزايدة في الخطاب الديني. فالعقلية واحدة، والثقافة واحدة، عقلية الفرقة الناجية الواحدة، وثقافة الرأي الواحد. وكلاهما ضد الثورة. فالثورة تقوم على تعددية الرؤى. وتستمر بالحوار الوطني بينها من أجل تحقيق الأهداف الثورية المشتركة.

 

نقلاً عن صحيفة الاتحاد الاماراتية