منذ سنوات والممثل العراقي سامي الحصناوي يتخذ من فن المونودراما خياراً مسرحياً في مشروع مسرحي يقترب من مشروع "المسرح الفردي" لمؤسسه المغربي عبد الحق الزروالي، فقد قدّم الحصناوي خلال عقد التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين العديد من المسرحيات التي كان فيها ـ على الأغلب ـ مخرجاً وممثلاً، وأحياناً مؤلفاً. وشهدت مسارح مدينتي بابل وبغداد وعدد من البلدان العربية مثل الإمارات وليبيا تفاصيل هذا المشروع عبر العديد من المسرحيات المونودرامية، لكنه كغيره من مشاريع (مسرح الهامش = المحافظات) بقي بعيداً عن الإضاءة الإعلامية والتقويم النقدي، وكان آخر تفاصيل هذا المشروع مسرحية "إما.. أو" لمؤلفها د. عبد الكريم السوداني ومخرجها وممثلها سامي الحصناوي وتقديم كلية الفنون الجميلة ـ جامعة بابل التي عرضت على قاعة "عوني كرومي" في الكلية ذاتها بمشاركة عدد من طلبة قسم الفنون المسرحية.
ويعتمد نص المسرحية على نسق من العلامات اللغوية التي تنتظم في سياق سردي يكشف عن بنية مونودرامية تؤسس لمشهدية تقوم على مستويين من مستويات السرد، الأول هو ما يمكن أن نطلق عليه (العلامة المركزية) وهي الحكاية الكبرى التي تكشف لنا منذ المشهد الافتتاحي عن حال الشخصية وأزمتها النفسية حيث ترمي سيارة الخاطفين شاباً مخطوفاً ومعصوب العينين هو الشخصية المركزية في العرض، ويطلب إليه الخاطفون العد من الواحد إلى العشرين ليقرر: إما مغادرة الوطن قسراً، أو قتله، وبين الـ (إما) و الـ (أو) يتحدد مصير الشخصية، أما المستوى الثاني من مستويات السرد الذي يمكن أن نسميه (العلامات الثانوية) فتمثله الحكايات الثانوية التي يجري التذكير بها في نسق النص العام (حكاية جبار الحسون الذي يُختطف ويعود للحارة بعد دفنه، وحكاية أبو يعقوب المسيحي الذي يُختطف ابنه ويُقتل بعد دفع الفدية، وحكاية الصديق سعيد الذي يقتل أخته المختطفة بعد علمه باغتصابها من قبل الخاطفين)، وعبر المجاورة السيميائية بين المستويين يجري البوح الذاتي للكشف عن الجرح العراقي الغائر في العمق، حيث يصبح مصير الشخصيات معلقاً بين كلمتين هما من وجهة نظر علامية مرموزان يدلان على ثنائية الموت والحياة، فاختيار الشاب للـ(إما) يعني الحياة بعد مغادرة الوطن قسراً بكل مرارته وقسوته، لكنه اختيار يمكن أن يهبه الحياة، رغم أنها ستكون حياة معجونة بالغربة والذل والهوان بعيداً عن الوطن، أما اختياره للـ(أو) فيعني الموت عبر طلقة من مسدسات الخاطفين الذين يوزعون الموت مجاناً على الناس الأبرياء، ووسط التردد في الاختيار واستفزازات الذاكرة تنتهي المهلة القصيرة التي منحها الخاطفون للشخصية المركزية (العد من الواحد إلى العشرين) لينتهي الخيار تراجيدياً يُنهي حياة الشخصية بطلقة في الرأس فيتوقف البوح وينتهي كل شيء، ومع أن العلامات اللغوية على مستوى الحوار تؤكد أزمة فردية، إلا أنها تنفتح للتعبير عن الأزمة الجمعية عبر الحكايات الثلاث الأخرى، ما يدفع بالعلامات اللغوية الدالة على المكان والزمان إلى الانفتاح الدلالي والانتقال بالنص من سكونية العلامة إلى ديناميكيتها حيث تصبح ذاكرة الشخصية المركزية مصدراً سيميائياً لتحوّل العلامة وتعدديتها عبر فعل الاستذكار والبوح الذاتي، ما يُمهد لفعل الإخراج في انتقاله من أيقونيّة العلامة المسرحية إلى رمزيتها، لذلك نجد أن الرؤية الإخراجية تقوم بتصدير المكان عبر آلية (التصدّر السيميائي) الذي ينقل الحدث من مرموزاته اللغوية في النص الدالة على مساحة جغرافية محددة هي الشارع، إلى مساحة جغرافية أخرى هي (غرفة التبريد) الواسعة في مبنى كلية الفنون الجميلة ـ جامعة بابل، حيث يصبح المكان علامة مركزية في العرض تبوح بكل شيء مُوارية في الوقت ذاته الشخصية المركزية في المُدوّنة الأدبية كمرتبة ثانية، لذلك نجد أن العلامة المكانية تهيمن على مستوى السرد في العرض بدءاً من دخول المتفرجين الذي يأتي عبر ممرات ضيقة تفرضها معمارية غرفة التبريد الموحية بمكان مهجور يمكن أن يستخدمه الخاطفون لإخفاء ضحاياهم، ومروراً بمقاعد المتفرجين المكوّنة من بقايا علب الصفيح المتروكة في هذا المكان الخرب، وانتهاءً بالعمل على توظيف معمارية المكان في تأسيس إنشائية الفعل المسرحي عبر خلق (ميزانسينات) تقوم على الاستفادة من الأنابيب الضخمة التي تشغل الحيز المكاني، حيث عمل المخرج على توسيع مساحة السرد المشهدي بإضافته إلى شخصيات (الجرذان) لتعميق المكان من الناحية الدلالية، وتعزيز المستوى البصري في العرض عبر إسناد هذه الشخصيات لممثلين مساعدين عملت أجسادهم العارية على تحقيق التحول العلاماتي من السردي إلى المشهدي، وبذلك أسهمت هذه العلامة الثانوية في تعزيز الشكل الجمالي للعرض والانتقال به من المكان التقليدي إلى المكان الحر الذي ينفتح دلالياً في التأويل، فلم تكن (الجرذان) علامة دالة على الشكل الأيقوني للعلامة بل تعدى ذلك إلى المستوى الرمزي حيث تصبح الجرذان معادلاً موضوعياً لشخصيات الإرهابيين الذين يُمارسون أفعال الخطف والقتل وتدمير البلد، وما عمّق هذا المنحى الرمزي في العرض التوظيف الجسدي لممثلي شخصيات الجرذان الذي شغل فضاء العرض العلوي عبر السير على الأنابيب، وبذلك تجاوزت الرؤية الإخراجية حدود المكان النصّي المدون في النص الأدبي إلى إنشائية مكانية مبتكرة خلقت حالة من التواصل الحسي والذهني بين العرض والجمهور وأعطت له طابع (الفرجة المسرحية) القائمة على وجود حيز اللعب إلى جانب المتفرج المشارك في اللعبة عبر التعليقات المباشرة للمتفرجين، وهذه العلاقة المباشرة مع الجمهور منحت العلامة المسرحية في العرض أيضاً قدرة تعيين الفضاء المسرحي وشكله راسمة في الوقت ذاته حدوده الواقعية والوهمية على حدٍّ سواء، الأمر الذي انعكس على الطبيعة الأدائية للممثل سامي الحصناوي الذي تميز أداؤه بثلاثة مستويات، الأول: هو الأداء التقمصي (النفسي) الذي أدّى به شخصية (الشاب) وهي الشخصية المركزية في العرض، أما المستوى الثاني: فهو الأداء غير الاندماجي (العارض) الذي أدّى بواسطته الشخصيات الأخرى مثل: جبار الحسون وعدد من النساء والصديق سعيد وغيرها من الشخصيات التي أثْرَت هذا المستوى من التمثيل وفعّلت مخيلة الممثل الحصناوي في استحداث علامات جديدة لهذه الشخصيات قوامها الشكل الخارجي (الكاركتر) والطبيعة النفسية، الأمر الذي شكّل زمن إيقاع العرض عبر التحول من شخصية إلى أخرى حيث أمسك الحصناوي بهذا الإيقاع عبر انتقالاته الدقيقة بين الشخصيات المختلفة في أبعادها النفسية والاجتماعية والبايولوجية، لذلك نجد أنه استطاع أن يخلق ثنائية تتسم بالديناميكية بين الممثل الإنسان (الذات) والشخصيات المُتخيلة (الآخر) عبر إنتاجها بطريقة تتوافق مع وجهة نظر الشخصية المركزية، فالشخصيات المُستحدثة على خشبة المسرح ذات طبيعة وهمية لا وجود لها إلا في ذاكرة الشخصية المركزية (الشاب) ويتم استدعاؤها لضرورات فنية وجمالية في الوقت ذاته، فهي من جهة تعمّق مسار الحدث الدرامي عندما تمنح الشخصية المركزية قدرة البوح، ومن جهة أخرى فإنها تقوم بتقليل الضغط النفسي على أداء الممثل، بمعنى انه لا يظل أسيراً لحالة شعورية واحدة تتنامى حتى تصل إلى هدفها النهائي، بل ثمّة تقطّعات أو محطات استراحة توفرها طريقة أداء الشخصيات المُستدعاة من ذاكرة الشخصية المركزية، في ذات الوقت الذي يتحول فيه زمن الحدث من مُحدداته الواقعية المرتبطة بالزمن الرياضي، إلى مُحددات نفسية قائمة على جماليات الزمن الدرامي وما يخلقه من تحوّل دلالي في إيقاع الزمن الكلّي للعرض، وهذه الانتقالات الزمانية إلى جانب الانتقالات المكانية تكسر قيود السرد التقليدية التي تقوم عليها بنية المسرحية المونودرامية لأنها في استدعائها لهذه الشخصيات إنما تخلق حواراً مباشراً بين الشخصية المركزية والشخصيات المُستدعاة، عندها يتحول أداء الممثل سامي الحصناوي من كونه أداءً فردانياً يُعبِّر عن أزمة شخصية واحدة إلى أداءٍ قائم على نهج نقدي للمجتمع قوامه الموازنة بين مساحة الحضور للشخصية المركزية ومساحات الحضور للشخصيات الأخرى، وهذا التأسيس لعلاقات الحضور والغياب في العرض يتبعه التوظيف الدلالي لمفردات العرض ومكوناته السينوغرافية التي تتحول دلالياً مع طبيعة السرد المشهدي الذي يخلقه أداء الحصناوي في مستواه الثالث: وهو مستوى العلاقة المباشرة مع الجمهور عبر تقنية الارتجال التي اختلفت مستويات حضورها بين عرض وآخر (عرضت المسرحية لأربعة أيام متتالية) حيث اجتهد في تنويع العلاقة من الملامسة المباشرة مع الجمهور عبر الفعل والكلمة إلى خلق الموازنة بين العناصر السينوغرافية لإنتاج علامة مُتخيلة في ذهن الجمهور تبث دلالتها التي قد تتشابه عند عدد كبير من المتفرجين، لكنها في ذات الوقت تمتلك خصوصية الإنتاج لدى كل متفرج على حده، وإذا كانت آليات مثل: الحلم، الهلوسة، التخيل، عناصر قابلة لاستدعاء أفعال الشخصيات الأخرى واستحضارها قسراً أمام الجمهور، فإن هذه الآليات لا يمكن لها أن تمنح العرض تأثيره في الجمهور ما لم تستعنْ بوسائل أخرى مثل: الإضاءة والموسيقى واللون، وهو ما بدا حضوره واضحاً في عرض مسرحية (إما .. أو) رغم فقر التقنيات المتوفرة في كلية الفنون الجميلة ـ بابل، وهذه العناصر بدورها هي التي قدّمت لنا الشخصيات ليس بوصفها صوراً فوتوغرافية إنما بوصفها (إشارات) لتلك الشخصيات، ما يعني أن أداء الحصناوي كان يعمل على استعادة علامات السلوك الإنساني في الشخصيات التي قام بأدائها في العرض وتقديمها وفقاً لرؤيته الذاتية كممثل، وهي رؤية امتزج فيها فعل الدراماتورج كمُعد للنص الأدبي، والمخرج كمُفسر للمدونة الأدبية، والممثل كمُعبّر عن هذه الرؤى عبر تقنياته السمعية والبصرية، لذلك وجدنا هذا التنوع الأدائي في العرض من أجل خلق التواصل والمتعة مع الجمهور
مخرج وناقد مسرحي عراقي