أيّتها الوردةُ المباحة - مقطوفةً ومُلبِّيةَ المجد-
برفقٍ وحذرٍ توضعين على القبور.
بداخلك الطمأنينة؛ كم نثقُ؟ بها نحلمُ ونرجو،
ونحن، من نحن؟ نهملُ أم ندَّعي وجودَها!
* * *
يا للتردد الفتي القاني!
يا للمزج الفريد الضئيل العاشق!
يا للنزاهة الطاعنة!
* * *
أمخْلِصةٌ أنتِ إلى هذا الحدّ، صديقةٌ حرة ومغامرة ؟
ألهذا الحدّ مجهولةٌ أنتِ ،رقيقة رخوة ومتحسِّرة ؟!
لا أحدَ يهدِّدُنا مثلكِ.
لا أحد يصمتنا يقلقنا، وهو يجذبنا كلونك!
***
من، سواكِ، يخشى هدوءَكِ ؟ أو يلثمُ بصمتٍ نورَكِ ،
أو يقتني بلا تضرّعٍ سلامَكِ الواهي الغريب ؟!
***
أمِنْ صوتٍ دافئ نحملُ إليكِ .. ؟
أو نظرةٍ جديدة كبزوغك البريء؛
يمزجُ عطرك بضوء النهار !
للهواءِ..، يفتحُ عينَكِ للهواءِ
الشَّبيهِ برهافةَ ظلِّكِ .
***
إذا كانت عيني كهفاً أيتها الوردةُ، ملاذَ الدود،
فما هو قلبُ تاجِكِ الزاهي الصغير،
وكيف ترابٌ - سرُّ الحبّ والفقر والعدم -
يخفق بلا وعدٍ حول أيامكِ ؟
***
يا كلَّ ما لا نراهُ من حياتنا المقفَلَة بوجهكَ.
لا وجهَ لكِ سواكِ، ومع هذا
ثمة من يسأل: (أيتها الوردة؟)
مثلما بيسْرٍ يُجاوَبُ:
إنه الليلُ، إنها العيونُ ذاتها؛
تحدّقُ في الرعب كأنها تحدق في الماء!!
***
أ أنتِ محْضُ كلمةٍ الآن ؟
لا مرئيةٌ وبسيطةٌ ومُقالَةٌ مثل تذكر عابر؛
كيف ندفعُكِ إلى شِّفاهٍ ضعيفةٍ ؟
حينها كيف بلا خوفٍ – من جديد – نراكِ
كأننا لم نركِ من قبل، لم نتكلَّمْ من قبل !؟
***
لستِ سوى عقلٍ وحيد، أيتها الوردة الكثيرةُ
على الأشياءِ كلِّها. وإنْ كانتِ النعومةُ والأمسياتُ،
رقائقُ الهواء؛ وقد غدا ممتلئاً بكِ!
***
شهيٌّ نقْشُك المتبسم!
البهجةُ رغم الأسى،
ترفعينها جناحاً فوق جناح.
***
ثمَّ..، على تلويحةٍ أخيرة ، على تموّجِ هَشاشةٍ مرجفٍ،
ينسابُ ليلُها، كأنما من عيونٍ مائيةٍ ،
من أجفان مطبقةٍ يشرقُ جسدُها ويتنهَّدُ ..
أهيَ شهوةٌ لا تنفدُ ، تلهّفٌ ساكنٌ ؟
وما هي إلا سكناتٌ رهيبةٌ ، تنفسٌ سرّيٌ .
***
أفكِّرُ في لمساتكِ المخمورة .
أعرفُ أن الموتَ يلمسنا مرةً ؛
حسْبُها لننامَ طَيَّكِ !
***
أيتها الوردةُ.. أيتها الوردةُ:
لو أنَّ لي فماً مثل قلبِكِ اللاهب،
لو أنَّ لي يدَ الصَّباحِ قرْبَكِ أبداً!
***
مهْلَكِ أيتها البهية، يا لقاء البداية والرعب!
أمِنْ عائلة التراب يخرجُ طفلُكِ الأثيري؟ مثلما يولد
نجمٌ من ظلام السماوات السائل ..
وما تنميه جذورُكِ الدقيقة كالدموع أبعد مما نراه .
* * *
الأمسُ. ألَمْ يكنْ نَوْماً في نسيجِك المكوَّنِ من مِزَقٍ مذهِلةٍ ؟
وهاهو – لا يتبدَّلُ ولا يتجمَّدُ – مكرِّرَاً نومَهُ المستمرَّ ..
كيدَيَّ ؛ مشغولتين بفَوْحكِ المنهِكِ،بإطلالتكِ الشبيهة
بعينٍ غمرَها النّورُ ولمْ يلمسْ سوى طراوةٍ مطلقة !
* * *
أيتها الوردة يا أختاً سعيدةً في البُعْدِ تمكثين ..
يا مرآةً صغيرةً لا تستحقُّ الموتَ،
يا محنةُ: ليسَ يراكِ سوى من فَقَدكِ،
ليس يراكِ سوى من سيفقدك !
أما نزال موثقين إلى دفء شبابكِ ،
وأنتِ تتحولين بلا تفادٍ وتنشرين بلا اكتراث
وبلا تطاولٍ وهْجَ دوائرَ صغيرة وملتهبة ؟!
يا لَهُ من خالقٍ ؛ يجعلك على الدوام وحيدة
وكاملة، كأنك أنتِ فقط تخلقين نفْسكِ يوماً بعد يوم !
لستِ سوى ممرٍّ أيتها الوردة ،
لستِ سوى دمٍ ممريٍّ قصير،
وما أنا إلا عينٌ آلمها الوقتُ:
رأيتُ قلبي أمامكِ وحدكِ !
لكأنَّ أوراقَكِ نُزِعَتْ بلطْفٍ من جسد طائرٍ غريب !
لكأنها كلُّها نبضاتٌ مغروزة في جراح صامتة،
وإذْ أراها بهذه السكينة المرتعشة ، أرى السماءَ :
لمَنْ ، يا سماءُ: حملتِ كل تلك الأجنحة !
أيتها الوردة التي لا تضمر عدا الخوف،
ولا تطمح لشيء سوى العزلة والحب،
ولا تجرؤ غير النظر في الموت .
سخيةٌ أنتِ ، ساذجة وعمياء .
من أوقفكِ لتشهدي ماءً يقطّرُكِ !
***
بثباتٍ، بولَهٍ وثباتٍ، – أهو السموُّ فقط ؟ –
بحرصٍ رقيقٍ وديعةً تظهرين .
ألأنَّكِ صامتةٌ متألقة، ومترددةٌ
مثلما يجدرُ بنجمةٍ وحيدة وسط النجوم !؟
في مزاجٍ صَدٍّ كتردُّدٍ مراهقٍ،
بنقاوةٍ مفتونة، مسترخيةً من كثرة التعب،
يتكثفُ ظلُّكِ - وهو ذاتُكِ نفسها -
كما تتَّقدُ رغبةٌ وسيمةٌ في نهايةٍ حرّةٍ موجعة !
فمي – هذا المخلوق من عذابِ وجهي –
شفتاي كأنما للموت فقط تفتحتا ..
وعيناي لأجلك ،عيناي تنتظران الفجرَ
أخرسَ ولامعاً وضئيلاً كالندى !
ما من شيءٍ لا يُحتَمَلُ منكِ سوى ندائكِ !
لستِ الابنةَ ولا خجلَ الضيفة ولا سهرَ الأمل الخائبَ،
لستِ رقةَ الملامسات المشتركة فقط، بل قلقٌ واضحٌ ،
أنتِ ، الشمسُ اليومية لعَسَلِ فقرنا الدائم !!
أيتها الوردة – دائماً – أيتها الوردة :
هي ذي قسوةٌ كليةٌ تهيمِنُ.
لن نرحمكِ قط ولن ننساكِ ،
دون أن نتحطَّمَكِ داخل موتنا – عراةً
وحيدين – مثلما شاءكِ السرُّ وحيدةً ،
يا حقيقةَ وحرارةَ ليلنا المتروك !
يا لتموّجاتِ حيرتكِ المحبوسة في ثنياتِ غشائك !
ما كان لهذه التنهيدة المريرة أن تُسمَعُ
لولاكِ أيتها الوردة الكتيمة المتلهفة ،
لولا أنَّكِ تغرقين، مثارةً بالحياءِ ، وأنتِ تتفتحين !
لأنكِ قسوةُ الزهد المنفعلة لتشابهِ الرغبة المستحيل،
من يطلقُ النظرَ نحوكِ، مرة فحسب،
على مراياكِ العنيدة السافرة !؟
ما من وجْدٍ أكثر تناقضاً منكِ !
ومهما كثرت أسماؤكِ المجهولة من عيوننا ،
ثمة من يشهدُ قرْبَكِ، انحناءَكِ الخريفي المقتنى !
ثمة من يحمل عنكِ صعوبةَ وروعةَ بهائكِ المتحول؛
لا يمنعنا عن أي شيء، رغم كونه لا يثبت شيئاً،
سوى عزوفنا عن حلْمِكِ المسكون بعُرْيكِ !!
في جلاء النور أو المرآة ، مأسورين ولا مبالين ،
كل حين يتعزّزُ حضورُكِ المشرِّفُ ،مداعِباً رجاءاتنا،
كما لو أنه يودِّعُ انعكاساته الزائلة على كل وجه !
أيتها المدمَّرَةُ المتواضعة بوفائها النادر،
ألمسكِ .. ألمسكِ كما لم تلمسْ يدٌ ارتعاشةَ احتضارها !
يا لرؤيتها ! يا لسناء النظرات المنقلبة !
ما كان سهلاً ، رفيقَ التناول كمعصم فتاةٍ عاجزة،
غدا الآن سقوطاً عالياً ، نادراً ، متوهجاً
مثل شذرات خلفتها شهبٌ دامعة .
بالكادِ نتذكركِ ، بالكادِ نراكِ .
هل من يأسٍ أكثر جرأة من بتلاتكِ المغبشة،
أيتها الغارقة: تشبهين النهار؛ لهُ بنيتِ
المرآةَ التي تستحقُّ الأحلامَ التي تُنسى !!
يا وردةً ليست أيامُنا سوى فقدان جمالها،
يا وردةً لا تعيش بيننا إلا لتمتزج بأنفاسنا ،
إلا لنحلم بها كما لو كانت غائبة !
لن نبكيكِ بعد الآن ، غير أننا
لم نعرف منكِ ما هو أجمل منكِ .
نسيتْ هبوبَ الريحِ ، ارتعشتْ :
هي ذي الوردةُ ، من فم كالأزرار المشبوكة ،
في وجه أكثر الجراح سلاماً
تهتزُّ على غُصنةٍ حاملة !
ما تصنعينَ أيتها المصغية في نِقابٍ من الندى،
أيتها الرخيمة المحتفلة ؟:
إذا كان مجدٌ آخرُ بعد حضوركِ القصير ،
أين يمكنه السطوعُ من ضوعِ شذاكِ .
كيفما كنتِ ، على فمي يتألقُ اسمُكِ:
وحيدة ورقيقة، لا تغادرين بيتَكِ المفتوح.
الهواءُ ، واسعاً ، يحملكِ ويضمُّكِ ،
واسعٌ ، ومحالٌ أن يُحضَنَ أو يضيع !
تتقنعين ، تتعرين ، تذوين، ولا أحد يفكّرُ رجاءَكِ السحيق .
لكنْ ، من عذَّبَتْهُ رغباتٌ كإشراقاتِكِ المبهرة الماضية ،
كيفَ لا تؤذيه تفجّراتُكِ البطيئةُ الهائمة؟
أيتها الفتيَّة بلا عمرٍ سوى لحظات مذهلة ،
أيتها الوردةُ – الصمتُ، الرغبةُ والعجزُ ،
يا للسكينة التي لا تقطُّعَ فيها،
يا للمداعبات التي لا تمنحُ غير شكلها العذب !
يا للنغمة ، يا للنغمة ! من يلمسْكِ يخلعْ قلبكِ .
رجاؤنا الوحيدُ هو الموتُ عبْرَكِ ؛لا لأننا
من يأسٍ نحادثكِ أيتها الوردة العزيزة،
بل لأنكِ الوحيدة التي نتمنى كلامَها !
كلُّ ألمٍ يشفى إلا سلامُ قلبِكِ ،
مثل فاقةٍ مثل الموت ، بين ظلالكِ
الفائضة كحُمَّى الربيع المتدفق؛
تجفُّ معابرُها الهشة المؤلمة،
ومثل الموسيقى أبداً تذهبُ ، تذهبُ وتعود .
غريباً بين غرباء ، معكِ أمكثُ .
حياتي ليست لي أيتها الوردة .
غيابكِ وحده دار متعتي الغاضبة المتوسلة؛
أنا الهارب مما يرضي ولا يبهجُ ،
سوى ماتفضينه بخشيةِ: حزنُكِ وجمالُكِ !
يا شكل الأسى، يا رفضاً ممتلئ الرقة، أيا ..
درعَ الفراغ الكلي، وتلويحة الوداع الأسيرة !
أنتِ حياءُ الانسيابُ الأقسى ،القيدُ الأبيض الثقيل ،
النافذة المهيمنة العمياء وسط خوفنا المظلم الأخير .
أيتها الوردة المعنَّفَةُ المرجوَّةُ
أيتها الليلة الحزينة الصافية،
ألا تكفين عن صراخكِ الصامت !
أبوسعِ صدري أن يتنهد حولكِ،
حتى إذا ما تنفستِ أتنفسُ معكِ،
وما جدوى سُكْنى الرماد ،
إذا لم تكن أنفاسي المحتارة
سوى غروب عذابِاتكِ المنكمشة ؟!
أختنق مثل دمعة تشعُّ في عين تسهو،
لا هي تبكي ولا هي تيبس ... !
من يراها ضئيلة مسحورة وفاجرة، لا يعرف نبلها العاري.
وسواء كانت الرمز أم الحكمة، الألم الزائر أو النوم القاسي،
فالريح المنبثقة التي أذلَّتْ وجهَها المسكين
تحرّرُ الذكرى الدائرة، قبلةُ العالم الوحيدة !
كاتب وشاعر سوري كردي