هذا سفر للوردة في تجليها وصورها يقدمها الشاعر والكاتب السوري الكردي، وعبرها تكشف القصيدة عن "قبلة العالم الوحيدة" في أدق تفاصيل تجليها، حتى تمسي أكبر من ذاك الرمز الصغير. إذ تصبح مجازات الوجود وذكرى عابرة..

الوردةُ الكثيرة

علي جازو

أيّتها الوردةُ المباحة  - مقطوفةً ومُلبِّيةَ المجد-

برفقٍ وحذرٍ توضعين على القبور.

بداخلك الطمأنينة؛ كم نثقُ؟  بها نحلمُ ونرجو،

ونحن، من نحن؟ نهملُ أم ندَّعي وجودَها!

*      *       *

    يا للتردد الفتي القاني!

    يا للمزج الفريد الضئيل العاشق!

    يا للنزاهة الطاعنة!

  *       *       * 

أمخْلِصةٌ أنتِ إلى هذا الحدّ، صديقةٌ حرة ومغامرة ؟

ألهذا الحدّ مجهولةٌ أنتِ ،رقيقة رخوة ومتحسِّرة ؟!

لا أحدَ يهدِّدُنا مثلكِ.

لا أحد يصمتنا يقلقنا، وهو يجذبنا كلونك!

***

 من، سواكِ، يخشى هدوءَكِ ؟ أو يلثمُ بصمتٍ نورَكِ ،

أو يقتني بلا تضرّعٍ سلامَكِ الواهي الغريب  ؟!

***

أمِنْ صوتٍ دافئ نحملُ إليكِ .. ؟

أو نظرةٍ جديدة كبزوغك البريء؛

يمزجُ عطرك بضوء النهار !

للهواءِ..، يفتحُ عينَكِ للهواءِ

الشَّبيهِ برهافةَ ظلِّكِ .

***

إذا كانت عيني كهفاً أيتها الوردةُ، ملاذَ الدود،

فما هو قلبُ تاجِكِ الزاهي الصغير،

وكيف  ترابٌ - سرُّ الحبّ والفقر والعدم -

يخفق بلا وعدٍ حول أيامكِ ؟

***

يا كلَّ ما لا نراهُ من حياتنا المقفَلَة بوجهكَ.

لا وجهَ لكِ سواكِ، ومع هذا

ثمة من يسأل: (أيتها الوردة؟)

مثلما بيسْرٍ يُجاوَبُ:

إنه الليلُ، إنها العيونُ ذاتها؛

تحدّقُ في الرعب كأنها تحدق في الماء!!

***

أ أنتِ محْضُ كلمةٍ الآن ؟

لا مرئيةٌ وبسيطةٌ ومُقالَةٌ مثل تذكر عابر؛

كيف ندفعُكِ إلى شِّفاهٍ ضعيفةٍ ؟

حينها كيف بلا خوفٍ – من جديد – نراكِ

كأننا لم نركِ من قبل، لم نتكلَّمْ من قبل !؟

***

لستِ سوى عقلٍ وحيد، أيتها الوردة الكثيرةُ

على الأشياءِ كلِّها. وإنْ كانتِ النعومةُ والأمسياتُ،

رقائقُ الهواء؛ وقد غدا ممتلئاً بكِ!

***

شهيٌّ نقْشُك المتبسم!

البهجةُ رغم الأسى،

ترفعينها جناحاً فوق جناح.

***

ثمَّ..، على تلويحةٍ أخيرة ، على تموّجِ هَشاشةٍ مرجفٍ،

ينسابُ ليلُها، كأنما من عيونٍ مائيةٍ ،

من أجفان مطبقةٍ يشرقُ جسدُها ويتنهَّدُ ..

أهيَ شهوةٌ لا تنفدُ ، تلهّفٌ ساكنٌ ؟

وما هي إلا سكناتٌ رهيبةٌ ، تنفسٌ سرّيٌ .

***

أفكِّرُ في لمساتكِ المخمورة .

أعرفُ أن الموتَ يلمسنا مرةً ؛

حسْبُها لننامَ طَيَّكِ !

***

أيتها الوردةُ.. أيتها الوردةُ:

لو أنَّ لي فماً مثل قلبِكِ اللاهب،

لو أنَّ لي يدَ الصَّباحِ قرْبَكِ أبداً!

***

مهْلَكِ أيتها البهية، يا لقاء البداية والرعب!

 أمِنْ عائلة التراب يخرجُ طفلُكِ الأثيري؟ مثلما يولد

 نجمٌ من ظلام السماوات السائل ..

 وما تنميه جذورُكِ الدقيقة كالدموع أبعد مما نراه .

             *       *        *

الأمسُ. ألَمْ يكنْ نَوْماً في نسيجِك المكوَّنِ من مِزَقٍ مذهِلةٍ ؟

وهاهو – لا يتبدَّلُ ولا يتجمَّدُ – مكرِّرَاً نومَهُ المستمرَّ ..

كيدَيَّ ؛ مشغولتين بفَوْحكِ  المنهِكِ،بإطلالتكِ الشبيهة

بعينٍ غمرَها النّورُ ولمْ يلمسْ سوى طراوةٍ مطلقة !

              *    *    *

أيتها الوردة يا أختاً سعيدةً في البُعْدِ تمكثين ..

يا مرآةً صغيرةً لا تستحقُّ الموتَ،

يا محنةُ: ليسَ يراكِ سوى من فَقَدكِ،

ليس يراكِ سوى من سيفقدك !

 

 

أما نزال موثقين إلى دفء شبابكِ ،

وأنتِ تتحولين بلا تفادٍ وتنشرين بلا اكتراث

وبلا تطاولٍ وهْجَ دوائرَ صغيرة وملتهبة ؟!

يا لَهُ من خالقٍ ؛ يجعلك على الدوام وحيدة

وكاملة، كأنك أنتِ فقط تخلقين نفْسكِ يوماً بعد يوم !

 

لستِ سوى ممرٍّ أيتها الوردة ،

لستِ سوى دمٍ ممريٍّ قصير،

وما أنا إلا عينٌ آلمها الوقتُ:

رأيتُ قلبي أمامكِ  وحدكِ !

 

لكأنَّ أوراقَكِ نُزِعَتْ بلطْفٍ من جسد طائرٍ غريب !

لكأنها كلُّها نبضاتٌ مغروزة  في جراح صامتة،

وإذْ أراها بهذه السكينة المرتعشة ، أرى  السماءَ :

لمَنْ ، يا سماءُ: حملتِ كل تلك الأجنحة !

أيتها الوردة التي لا تضمر عدا الخوف،

ولا تطمح  لشيء سوى العزلة والحب،

ولا تجرؤ غير النظر في الموت .

سخيةٌ أنتِ ، ساذجة وعمياء .

 من أوقفكِ لتشهدي ماءً يقطّرُكِ  !

***

بثباتٍ، بولَهٍ وثباتٍ، – أهو السموُّ فقط ؟ –

بحرصٍ رقيقٍ وديعةً تظهرين .

ألأنَّكِ صامتةٌ متألقة، ومترددةٌ

مثلما يجدرُ بنجمةٍ وحيدة وسط النجوم !؟

 

في مزاجٍ صَدٍّ  كتردُّدٍ مراهقٍ،

بنقاوةٍ مفتونة، مسترخيةً من كثرة التعب،

 

يتكثفُ ظلُّكِ  -  وهو ذاتُكِ نفسها -

كما تتَّقدُ رغبةٌ وسيمةٌ في نهايةٍ حرّةٍ موجعة !

 

فمي – هذا المخلوق من عذابِ وجهي –

شفتاي كأنما للموت فقط تفتحتا ..

وعيناي لأجلك ،عيناي تنتظران الفجرَ

أخرسَ ولامعاً وضئيلاً كالندى  !

 

ما من شيءٍ لا يُحتَمَلُ منكِ سوى ندائكِ !

لستِ الابنةَ ولا خجلَ الضيفة ولا سهرَ الأمل الخائبَ،

لستِ رقةَ الملامسات المشتركة فقط، بل قلقٌ واضحٌ ،

أنتِ ، الشمسُ اليومية لعَسَلِ فقرنا الدائم !!

 

أيتها الوردة – دائماً – أيتها الوردة :

هي ذي قسوةٌ كليةٌ تهيمِنُ.

لن نرحمكِ قط ولن ننساكِ ،

دون أن نتحطَّمَكِ داخل موتنا – عراةً

وحيدين – مثلما شاءكِ السرُّ وحيدةً ،

يا حقيقةَ وحرارةَ ليلنا المتروك !

 

يا لتموّجاتِ حيرتكِ المحبوسة في ثنياتِ غشائك !

ما كان لهذه التنهيدة المريرة أن تُسمَعُ

لولاكِ أيتها الوردة الكتيمة المتلهفة ،

   لولا أنَّكِ تغرقين، مثارةً بالحياءِ ، وأنتِ تتفتحين !

 

لأنكِ قسوةُ الزهد المنفعلة لتشابهِ الرغبة المستحيل،

من يطلقُ النظرَ نحوكِ، مرة فحسب،

على مراياكِ العنيدة السافرة !؟

 

ما من وجْدٍ أكثر تناقضاً منكِ !

ومهما كثرت أسماؤكِ المجهولة من عيوننا ،

ثمة من يشهدُ قرْبَكِ، انحناءَكِ  الخريفي المقتنى !

ثمة من يحمل عنكِ صعوبةَ وروعةَ بهائكِ المتحول؛

لا يمنعنا عن أي شيء، رغم كونه لا يثبت شيئاً،

سوى عزوفنا عن حلْمِكِ المسكون بعُرْيكِ !!

 

في جلاء النور أو المرآة ، مأسورين ولا مبالين ،

كل حين يتعزّزُ حضورُكِ المشرِّفُ ،مداعِباً رجاءاتنا،

كما لو أنه يودِّعُ انعكاساته الزائلة على كل وجه !

أيتها المدمَّرَةُ المتواضعة بوفائها النادر،

ألمسكِ .. ألمسكِ كما لم تلمسْ يدٌ ارتعاشةَ احتضارها  !

 

يا لرؤيتها ! يا لسناء النظرات المنقلبة !

ما كان سهلاً ، رفيقَ التناول كمعصم فتاةٍ عاجزة،

غدا الآن سقوطاً عالياً ، نادراً ، متوهجاً

مثل شذرات خلفتها شهبٌ دامعة .

 

بالكادِ نتذكركِ ، بالكادِ نراكِ .

هل من يأسٍ أكثر جرأة من بتلاتكِ المغبشة،

أيتها الغارقة: تشبهين النهار؛ لهُ بنيتِ

المرآةَ التي تستحقُّ الأحلامَ التي تُنسى !!

 

يا وردةً ليست أيامُنا سوى فقدان جمالها،

يا وردةً لا تعيش بيننا إلا لتمتزج بأنفاسنا ،

إلا لنحلم بها كما لو كانت غائبة !

لن نبكيكِ بعد الآن ، غير أننا

 لم نعرف منكِ ما هو أجمل منكِ .

 

نسيتْ هبوبَ الريحِ ، ارتعشتْ :

هي ذي الوردةُ ، من فم كالأزرار المشبوكة ،

في وجه أكثر الجراح سلاماً

تهتزُّ على غُصنةٍ حاملة !

 

ما تصنعينَ أيتها المصغية في نِقابٍ من الندى،

أيتها الرخيمة  المحتفلة ؟:

إذا كان مجدٌ آخرُ بعد حضوركِ القصير ،

أين يمكنه السطوعُ من ضوعِ شذاكِ .

 

كيفما كنتِ ، على فمي يتألقُ اسمُكِ:

وحيدة ورقيقة، لا تغادرين بيتَكِ المفتوح.

الهواءُ ، واسعاً ، يحملكِ ويضمُّكِ ،

واسعٌ ، ومحالٌ أن يُحضَنَ أو يضيع !

 

تتقنعين ، تتعرين ، تذوين، ولا أحد يفكّرُ رجاءَكِ السحيق .

لكنْ ، من عذَّبَتْهُ رغباتٌ كإشراقاتِكِ المبهرة الماضية ،

كيفَ لا تؤذيه تفجّراتُكِ البطيئةُ الهائمة؟

 

أيتها الفتيَّة بلا عمرٍ سوى لحظات مذهلة ،

أيتها الوردةُ – الصمتُ، الرغبةُ والعجزُ ،

يا للسكينة التي لا تقطُّعَ فيها،

يا للمداعبات التي لا تمنحُ غير شكلها العذب !

يا للنغمة ، يا للنغمة ! من يلمسْكِ يخلعْ قلبكِ .

 

رجاؤنا الوحيدُ هو الموتُ عبْرَكِ ؛لا لأننا

من يأسٍ نحادثكِ أيتها الوردة العزيزة،

بل لأنكِ الوحيدة التي نتمنى كلامَها !

 

كلُّ ألمٍ يشفى إلا سلامُ قلبِكِ ،

مثل فاقةٍ مثل الموت ، بين ظلالكِ

الفائضة كحُمَّى الربيع المتدفق؛

تجفُّ معابرُها الهشة المؤلمة،

ومثل الموسيقى أبداً تذهبُ ، تذهبُ وتعود .

 

غريباً بين غرباء ، معكِ أمكثُ .

حياتي ليست لي أيتها الوردة .

غيابكِ وحده دار متعتي الغاضبة المتوسلة؛

أنا الهارب مما يرضي ولا يبهجُ ،

سوى ماتفضينه بخشيةِ: حزنُكِ وجمالُكِ !

 

يا شكل الأسى، يا رفضاً ممتلئ الرقة، أيا ..

درعَ الفراغ الكلي، وتلويحة الوداع الأسيرة !

أنتِ حياءُ الانسيابُ الأقسى ،القيدُ الأبيض الثقيل ،

النافذة المهيمنة العمياء وسط خوفنا المظلم الأخير .

 

أيتها الوردة المعنَّفَةُ المرجوَّةُ

أيتها الليلة الحزينة الصافية،

ألا تكفين عن صراخكِ الصامت !

 

أبوسعِ صدري أن يتنهد حولكِ،

حتى إذا ما تنفستِ أتنفسُ معكِ،

وما جدوى سُكْنى الرماد ،

إذا لم تكن أنفاسي المحتارة

سوى غروب عذابِاتكِ المنكمشة ؟!

أختنق مثل دمعة تشعُّ في عين تسهو،

لا هي تبكي ولا هي تيبس ... !

من يراها ضئيلة مسحورة وفاجرة، لا يعرف نبلها العاري.

وسواء كانت الرمز أم الحكمة، الألم الزائر أو النوم القاسي،

فالريح المنبثقة التي أذلَّتْ وجهَها المسكين

 تحرّرُ الذكرى الدائرة، قبلةُ العالم الوحيدة !

 

كاتب وشاعر سوري كردي