مقدمة
كنت أجريت سلسلة من اللقاءات مع المستعرب الاسباني Pedro Martínez Montávez بدرو مارتينث مونتابث لمجلة (الكلمة)، نشرت على حلقات في أعدادها 48، 49، 50. واليوم يمكن القول أن نص اللقاء المنشور في هذا العدد هو تتمة لتلك اللقاءات، وفيه حملت حزمة من الأسئلة المحورية يدور موضوعها حول الكيفية التي يرى بها المستعرب ما يحدث في العالم العربي الآن، ووجهة نظره في طبيعة الحراك الثوري ودوافعه، والمآل المحتمل له، إضافة لرأيه في مفهوم الحرية كما تمثلها الشباب العربي المنتفض، إلى جانب قضايا انبثقت من لب الحوار معه. وأثناء الإعداد النصي للقاء تابعت نفس النهج، الذي سرت عليه في اللقاءات السابقة. بمعنى أنني انسحبت وفرغت جملة النص من حضوري المباشر، وتدخلي في الحوار والحديث، وتركت للمستعرب كامل الفضاء الكلامي، بعد تقسيمه إلى مقاطع ذات عناوين دالة، يبدو من خلالها وكأنه يحاور متلقيا عربيا مفترضا. وأخيراً أترك لقارئ (الكلمة) حصيلة النص المعدّ بعد ترجمته عن الاسبانية:
تحولات الأنظمة لطغم حاكمة تسلطية استبدادية
دائماً ما كررت أن واحدة من مصائب العالم العربي تكمن بانعدام الحراك في تركيبة الأنظمة العربية الحاكمة. فهي لم تقبل بإدراج الإصلاح أو المشاريع الإصلاحية الجوهرية والبنيوبّة في برامجها السياسية. صحيح أنه، خلال العقد الأخير أو ما ينوف عنه بقليل، جرت محاولات إصلاحية ولكنها كانت جزئية وذات مضمون غاية في الضحالة، ويجب أن نتفهم أن الإصلاحات التي قام بها الجهاز الحكومي نفسه، لم يكن يقصد منها إلا تعزيز وتقوية طبيعة النظام الحاكم لا المصلحة الوطنية، وهنا تكمن المفارقة الإصلاحية وحقيقتها في البلاد العربية. بمعنى أنه لم يجر في أي حالة من الحالات أي مشروع إصلاحي عميق وبنيوي يطال جميع الحقول الحيوية للدولة والمجتمع سواء السياسية، أو الاجتماعية، أو الاقتصادية، أو الثقافية.
أود القول بأن الحراك الشعبي الذي يجتاح البلاد العربية لم يفاجئني على نحو خاص إطلاقاً، وذلك لأن المطّلع على إشكاليات هذه البلاد والمتابع لواقعها، يلاحظ تكرر التحذيرات والكلام عن الحاجة الملحة إلى إيلاء العناية والانتباه إلى مطالب الشعوب، ومن واكب المقالات المختلفة في الصحافة العربية عامة، أو من أصغى بانتباه للقاءات الوسائل الإعلامية السمعية البصرية مع أناس من الشارع، يعرف بأنه، ومنذ وقت لابأس به، يتم تداول مفاهيم تشير إلى التمرد المدني في عمقها، ووصل الأمر في بعض الحالات للحديث عن الحاجة للعصيان المدني على الأنظمة الحاكمة. وكما هو معروف، ظهرت في القسم الأعظم من العالم العربي، سواء في المغرب أو المشرق، حركات احتجاجية أهليّة مدفوعة بظروف اقتصادية تتعلق بالإفقار وأسباب الفاقة، والاعتراض على ارتفاع الأسعار دون زيادة الأجور، والمطالبة باحتياجات معيشية ضرورية كالخبز أو مواد غذائية أخرى، إضافة للحنق على زيادة نسبة العاطلين عن العمل، وتفشي الفساد والنهب للقطاع العام. ربما ما فاجأني، ولم أكن بانتظاره، هو أن أغلب هذه الحركات التي بدأت كحركات مدفوعة بظروف اقتصادية أخذت تتحول وتتقدم، لتتشكل كحراك واحتجاج سياسي واضح ضد الأنظمة الحاكمة نفسها.
تتطور الحياة العامة في كافة الدول العربية في مستويين مختلفين اثنين: الأول هو دائرة المسؤولين السياسيين في أجهزة السلطة، أما المستوى الثاني فيشكل الدائرة التي تضم الشارع العربي. وكما هو معروف، حافظت الأنظمة الحاكمة في البلاد العربية على مسافة بعيدة كل البعد عن شعوبها، وكان لها طريقها الخاص الذي يفارق طريق الشعب ويتجاهله تماماً، ولم تجانب هذه الأنظمة الصواب وتلتقط رسالة الشعب، ومطالبه أو رغباته، أو أنها اهتمت باقتراحات المواطنين قط، بل قامت بترك شعوبها على هامش الحياة السياسية. ووصل الأمر إلى أن طالب الحكام محكوميهم بشيئ وحيد، ألا وهو القبول الأعمى بسياستهم. بمعنى أن الحاكم يفعل ما يريد بينما يقع على عاتق المحكوم إظهار قبوله وتوافقه مع ما يملى عليه من قبل الحاكم، سواء في سياق الحكومات الملكية، أم الجمهورية، أو حتى في السياق الذي يبدو ظاهرياً على أنه ديموقراطي، وما هو بذلك فعلياً. وهنا يجب القول أن كل الأنظمة العربية آلت لتكون طغم تسلطية استبدادية لا تراعي مصالح شعوبها.
يا حرية يا زهرة وحشية ..
أذكر أنني قرأت منذ سنوات لقاء مع المغني مارسيل خليفة، وفي معرض الحديث الصحفي معه قال: "نحتاج الحرية كما الهواء الذي نتنفس". هكذا بوضوح عبر خليفة عن الحرية. أغلب المجتمعات العربية على وعي عميق بأنها تفتقر لمفهوم أولي وأساسي في الحياة، ألا وهو الحرية، ولكنها ليست الحرية بالمعنى "المجرد"، بل "المعين"، أي الحريات العامة: حرية الرأي، حرية التظاهر، الحرية النقابية، حرية الاعتقاد والإيمان من عدمه، حرية التعبير والإعلام ... إلى ما هنالك من تجليات عيانيّة لممارسة الحرية ضمن الحياة العامة، فالإنسان لا يستطيع الحياة دون حرية.
انطلاقاً من هذه الفكرة يمكن القول بأن المحرك أو الدافع الأساسي للحراك، ولكافة أشكال الاحتجاجات، التي تفجرت منذ عدة أشهر في العالم العربي هو المطالبة بالحرية، رغم أنه وكما أشرت سابقاً بدأ بمطالب اقتصادية يومية تطال حاجات أولية. من جانب آخر، يجب التنويه إلى أن مؤشر النمو الاقتصادي لدى العديد من هذه البلدان كمصر وتونس وسوريا على سبيل المثال سجل ارتفاعاً، وتطوراً ملحوظاً خلال السنوات السابقة، وهنا أستثني من حديثي البلاد النفطية، ولكن منافع النمو الاقتصادي في هذه البلدان لم تصل على الإطلاق إلى شعوبها. وبذات الوقت استفحل الفساد في كل الأمكنة، التي ينمو فيها الاقتصاد بشكل تهيمن عليه السلطة دون أن يترافق مع توزيع عادل. وعليه يجب القول بأن النسبة الأعظم لمنافع هذا النمو الاقتصادي عادت للقلة التي تشارك في الحكم أو لبطانتها. وسأقدم هنا مصر كمثال على هذه الحالة، فنظام مبارك كغيره من الأنظمة العربية هو نظام فساد من داخله، استولت فيه عائلته، إلى جانب رجال حكمه وأعوانه من وزراء ومستشارين، على عوائد النمو الاقتصادي الوطني، فشاركت المؤسسات الكبرى التابعة له – والتي مازالت فاعلة – في نهب القطاع العام والاستيلاء على ملكية الشعب وعلى مدى عقود طويلة.
ولكني أعود وألح بأن الطاقة الكبرى وراء الحراك الشعبي الآن هي العوز للحرية، فالعالم العربي ومنذ زمن بعيد هو فضاء مفرّغ من الحرية، وأضيف أن ما يقصد في هذا السياق هو "الحرية المجردة الفردية"، بل "الحرية العيانية وبصيغة الجمع"، أي "الحرية العامة" للرجال والنساء، الحرية المتعالقة مع المعيش اليومي والتاريخي على حد سواء. وأعتقد أن الشاعر أدونيس صار له وقت يكتب حول هذا الموضوع، ففي كتاباته التي ينشرها بالتزامن مع سيرورة الاحتجاجات والحركات الشعبية، يؤكد على موضوع الحرية كحاجة وضرورة جلية. بمعنى أن هناك ضرورة لممارسة الحريات في الفضاء العام للشعوب العربية، والتي لا يمكن لها الاستمرار والحياة بينما حرياتها مستلبة، فالكائن البشري في كافة مراحل الحياة يحتاج للحرية – حتى من أجل الموت هو يحتاج أن يكون حراً – ولذلك فإن المحرومين من الحرية سيسيرون تباعاً لمواكبة التيار الثوري، وهو ما يحدث الآن. وعملياً، كل الأنظمة العربية ستلاقي المصير نفسه بتنادي شعوبها للحرية.
الرؤية الغربية بأن انعدام الحرية ملازم للعوز الحضاري
في العديد من المحضرات والمداخلات الأكاديمية، وأثناء قولي أن العالم العربي يماثل "الفضاء الخاص" اللاسياسي فيما يخص ممارسة الحرية، كان الأمر يستدعي مني بالضرورة التنويه، إلى أن فراغ الحرية هذا لا يعني الخواء الثقافي أو الحضاري بأي حال من الأحوال. وتشديدي على هذه اللاحقة، أو التعقيب الكلامي يتأتى من أنني أعرف أن المواطن الغربي بالعموم فهم، ويفهم، أن انعدام الحرية مترافق بالضرورة مع العوز أو الفاقة الثقافية. وهو أمر غير صحيح إطلاقاً. ومن دواعي السخرية أن استنتاج "انعدام الحرية ملازم لانعدام الثقافة أو الحضارة"، قد يدفع هذا المواطن الغربي لوضع تتمة ذهنية له، ألا وهي: "وأنا من سيقوم بتعليمه كيف يصبح حضارياً".
هذا أمر مرفوض تماماً، وغير سليم من أساسه، فالمجتمعات العربية بالعموم، هي فضاء مفرغ من الحرية، ولكنها ليست فارغة على المستوى الحضاري أو الثقافي على الإطلاق. بل ويجب الإصرار على أن هذا البعد الحضاري والثقافي الخاص قادر، اعتباراً منه، على أن يولد ذاتياً فضاءه الخاص لحضور الحريات العامة فيه، وأعتقد أن هذا ما يبرر أغلبية حراك المواطنين، كما أنه واحد من القضايا الهامة التي يدور الجدل حولها في العالم العربي اليوم.
الذل.. الاستهتار بالكرامة وطريق الغضب الساطع
أمر آخر حصل للشعوب العربية ألا وهو الشعور بالغضب والسخط نتيجة الممارسة الاستبدادية للطغم الحاكمة العربية، التي لم تولي عنايتها الواجبة لشعوبها، ولا أصغت لمطالبهم العادلة في حياة كريمة، في إطار مجتمعات حديثة، فوصلت هذه الشعوب إلى حد لم يعد معه الاحتمال ممكناً، بفعل احتقار واستخفاف وازدراء الحكام نحوهم، واضحى الأمر هجوماً واعتداءً على شيئ غالٍ وأساسي لدى العربي - على صعيد الفرد أو الجماعة - ألا وهو الكرامة.
حسناً، حينما تختفي العدالة الاجتماعية بكافة أشكالها، ولا يكون هناك أي مجال ممكن لممارسة حق التعبير والحريات العامة على كافة المستويات، وفي جميع الحقول الاجتماعية والسياسية، وفي الوقت الذي لا تكتفي فيه أجهزة السلطة بممارساتها الظالمة والاستبدادية فقط، وإنما تعمل على اغتيال كرامة الأفراد والمجتمعات أيضاً .. ليس من المفاجئ ما يحصل الآن في الشارع العربي، بل وأعتقد أن ما يدعو للتساؤل، حسب ما أعرب عنه أكثر من محلل ودارس للواقع العربي، هو طول الوقت الذي استغرقه الشارع العربي، إلى أن أعلن عن حراكه المشروع نحو الحرية، فالبعض كان ينتظر حدوثه قبل الآن بكثير.
العوامل المحلية المؤثرة في الحراك لشعبي
كل ما أشرت له يصلح على مجمل ما يجري في البلاد العربية المنتفضة، بغض النظر عن خصوصية كل بلد منها على حدة، فكما هو معروف هناك سمات التقاء جامعة فيما بينها، ولكن هناك أيضاً نقاط تفرق وتميز كل بلد عن الآخر، فالسيرورة الذي يمكن أن يصير إليها الظرف التاريخي في بلد كتونس مثلاً، يختلف عما يمكن أن يؤل إليه في مصر، ومفارق للبحرين، أو ليبيا أو اليمن أو سوريا .. وحتى الآن لم يصل الحراك إلى مناطق أخرى كان من المنتظر أن تلحق بركب الاحتجاج الشعبي. وعليه فإن هذه الاختلافات الداخلية للمجتمعات العربية، في كل سياق وطني، يجب الأخذ بها بعين الاعتبار أثناء التقييم، وتقديم التحليلات لإدراك الطبيعة العامة والخاصة على حد سواء لكل واحد منها. وهو أمر لم يؤخذ بمحمل الجد في الدراسات والتحليل الغربي حتى اللحظة، فعلى سبيل المثال فإن العوامل التي يمكن أن ندعوها بالقبليّة أو العشائرية لها عامل مؤثر في مجتمع عربي محدد، أكثر مما لها في مجتمع آخر، وهذا ما يظهر كشرط يظهر أثره في كيفية توجه مجريات الأحداث. كذلك الأمر حين تناول تأثير عامل آخر وهو البرجوازية المدينيّة، أو ما يمكن أن ندعوه بالطبقة الوسطى بتعبير عام، وهي طبقة فقدت ثقلها المؤثر، ولكنها متطورة وبمكونات مختلفة، وأكثر وضوحاً في معالمها في هذا البلد العربي أكثر من ذلك الآخر، ويمكن أن تمارس تدخلاً في توجيه الحراك الشعبي. فالطبقة الوسطى السورية لا تستوي بشرط تاريخها الاجتماعي والاقتصادي مع ما يمكن أن نطلق عليه الطبقة الوسطى في ليبيا، أو حتى في مصر على سبيل المثال لا الحصر. فالعناصر البرجوازية المتشابكة في علاقاتها المالية مع التجارة في كل من سوريا، أو لبنان مختلفة تماماً عن تمظهرات البرجوازية في بلاد عربية أخرى.
دائماً ما أؤكد بأن العالم العربي هو مثال لكيفية التقاء عناصر مشتركة في أرجائه المختلفة، بذات الوقت الذي تتفارق فيه عناصر أخرى لتميز بلداً أو مجتمعاً عربياً عن آخر.
ضرورة الاستقلالية وحرية الاختيار وتقرير المصير للشعب المنتفض
عامل آخر مهم يجب أخذه بعين الاعتبار لهذا الفضاء الواسع العربي، ألا وهو أنه غير مستقل أو حر بالمطلق فيما يتعلق بقراراته. وكلما مرّ الوقت فإن الظروف تبرهن أن العالم العربي ليس مستقلاً بقراراته فهو مشروط من الخارج، بمعنى أن ما يحصل في العالم العربي اليوم، لا يمكن تفسيره بمحض عوامل داخلية خاصة، حتى أننا حتى الآن لا نعرف على وجه حاسم من يقف خلف البعض من أشكال الحراك الشعبي، بالطبع أنا لا أشكك بعدالة الحراك أو شرعيته على الاطلاق، ولكني أحاول القول أن العالم العربي ليس عالماً ذي سيادة، لا سياسياً ولا اقتصادياً، فهو يعتمد على الخارج أو بالأحرى لا يترك له الخارج من مفر في التحرر منه، بمعنى أن ما يتم اللعب عليه في موائد العالم العربي، يتم اللعب عليه على موائد أخرى في العالم. فهناك لعبات متعددة تتم على موائد مختلفة في العالم بذات الوقت.
في بداية هذا الحراك كان ما نسميه تجاوزاً التدخل الغربي في حده الأدنى، وأخذ ينمو مع الوقت بالتزامن مع اشتداد الحراك الشعبي. كذلك هناك عامل هام آخر يجب ملاحظته ويتعلق بطبيعة التدخل الغربي، فمع وضوح وجهة نظر الغرب فيما يحدث نرى أن مواقفه تجلت بطرق متمايزة ومختلفة من بلد لآخر. والمثال الأكثر جلاء لهذه النقطة هو التدخل المباشر في ليبيا بينما في سوريا لا زال التدخل الخارجي غير مباشر، رغم أن أحداث سوريا بالخطورة نفسها لما يجري في ليبيا أو أكثر، أما اليمن فالتدخل الخارجي مستتر وغير معلن من قبل المنظمات الدولية. الآن بعد مرور وقت على مجريات الحراك الشعبي، وظهور توابعه، والتي تحتاج للتفسير وفهم عوامل التأثير فيها في كل مكان على حده، إضافة للحاجة لفهم الكيفية التي يتدخل فيها الأجنبي، والتي لا نزال غير مطلعين عليها بشكل كامل حتى الآن، فعلى سبيل المثال ما هي هوية التمرد الليبي ومن أين ظهر، أو من هم المتحدثين باسم الشعب السوري. من جانب آخر، فيما لو قارنا ما أشير له مع مجريات ثورة 52 في مصر، أو ما يدعى بالانقلاب السياسي الذي قام به الضباط الأحرار، وهو حركة رئيسية في تاريخ العالم العربي عموماً. فإننا نجد أن أسماؤهم وهويتهم وغاياتهم كانت واضحة ومعروفة للجميع. بمعنى أن أي واحد كان يستطيع أن يشير بيده ويقول هؤلاء هم من يمثلون حركة التغيير السياسي.
التدخل الخارجي ومحاولة حرف المسار الثوري
حسناً، بالعودة لكلامي السابق أشدد بأن العالم العربي لا يملك السيادة في اتخاذ القرارات السياسية الخاصة به، فالتدخل بشؤونه من الخارج هو أمر سهل، وأعني بكلامي كافة أنحاء الفضاء العربي، على اختلاف الظروف وطبيعة هذا التدخل. وهو أمر لا يخفى علينا تلمسه الآن بالكيفية التي تتقدم بها فرنسا، أو بريطانيا أو الولايات المتحدة وحتى المسؤولين الاسبان - على وهن منطقهم وتابعيتهم في المجتمع الدولي - بالكلام واتخاذ المواقف بحجة ابداء الرأي.
هذا هو التدخل الخارجي – الذي ندعوه تجاوزاً- التدخل الغربي المرئي.
حسناً، والذي لا نراه، ولم يصل لمسامعنا حتى الآن؟؟!
ما أود أن أثير التساؤل حوله هو الكيفية التي تتعامل بها أجهزة المخابرات الغربية؟!!
هل نعرف عنها شيئ؟!!
لا شيئ.
ولكننا نحدس بأن الجهاز المخابراتي الغربي، أو التابع لغيره من البلدان، والمتواجد في الفضاء العربي يقوم بالفعل وتنسيق ما يريد حسب ما تمليه مصالح القوى السياسية وبحرية تامة دون محاسبة من أحد. بالطبع هذا الذي أقوله هو بغاية الخطورة، ولكن هناك بعض من الأمور التي أحاول أن أوعز بها من خلال الندوات التي أدعى لها، للنقاش حول الحرك الشعبي العربي، والتي غالباً ما تتجاهل الآن التطرق بوضوح للدور الغربي في التأثير على وجهة الحراك الشعبي، وأعتقد أن الموضوع سيصادف في المستقبل اهتماماً أكبر وسيتم الحديث عنها بشكل أوسع.
أعتقد أن أبعاد ما يحصل في العالم العربي أوسع من مجرد فتح قبر للاستبداد ودفنه لإحلال الصيغ الديموقراطية في الحكم السياسي - بغض النظر عن مدى صحتها أم لا- وممارسة الحريات العامة. الأمر أبعد من كل ذلك .. من الممكن أن يحدث تغيير في الخريطة الجيوسياسية والإدارية في العالم العربي. بمعنى أنه إلى جانب هذه الحركات التي نشهدها الآن، هناك محاولات تشظية وتفرقة داخلية على مستوى كل بلد عربي أو داخل أي كتلة عربية مجتمعة. وهنا تكمن الخطورة، وواجب الوعي لمحاولات التشظية ضرورة ملحة يجب أن تترافق مع الفعل الثوري، الذي يجري في الشارع وعلى الأرض. وهنا لا أشير للمحاولة الخفية لجر الحراك إلى المواجهات الأهلية فقط، بل لمحاولات شرخ وتجزئة الوطن الواحد، فالدول العربية كما هي حديثة العهد تاريخياً وبعوامل مصطنعة كثيرة مازالت حتى الآن.
ما هي النتائج في المستقبل القريب لهذا الحراك العربي في لحظة نعرف فيها أن المواجهات العقائدية الدينية الداخلية آخذة في التعمق؟؟ حتى الآن لا يتم التطرق بوضوح لهذا الأمر. والحديث عن الوحدة الوطنية لا يطال كافة حالات الحراك الشعبي، ويقتصر فقط على البعض منها. وخطورة مشاريع التشظية هذه قائمة ومحتملة، وخير مثال عليها سوريا وبدرجة أقل ليبيا.
موقف الغرب الامبريالي، وحلفاؤه في شبه الجزيرة العربية من الحراك الثوري
من كل ما سبق، أشير إلى أن واحدة من العوامل المفاجأة الآن، هو أن الحركات الاحتجاجية السياسية المطالبة بالحرية، تركت على الهامش منطقة عربية ذات حساسية كبيرة، ألا وهي شبه الجزيرة العربية – باستثناء البحرين واليمن – وهنا الجميع يعرف أن التطور الاقتصادي لدول مجموعة الخليج العربي والسعودية مختلف؛ كذلك المؤسسات الاجتماعية والسياسية فيها، وكما يعرف الجميع فأن طبيعة التواجد الأجنبي على أرضها مختلفة عن غيرها من البلدان العربية، مما يستدعي أن تتمتع هذه المنطقة بأقصى درجات الأمن المسيطر عليه في العالم. لست بمحلل سياسي ولا استراتيجي متخصص في هذه المواضيع، ولست أكثر من مستعرب أفكر حول العالم العربي، وأحاول أن أقرأ مشهدية الواقع التي أراها فقط. وأرى أن المشرق العربي مازال يشكل واحدة من المفاتيح الجيوسياسية لمصالح القوى الكبرى في العالم، ولا يغيب عن بالي التأكيد على ما يتمتع به المغرب أيضاً، وإن بدرجة أقل من الأهمية، لنفس المصالح الغربية بلا أدنى شك. وأعتقد أن هناك رغبة مبيته لإعادة ترتيب المشرق العربي إدارياً وسياسياً واقتصادياً واستراتيجياً من الخارج. ففي هذا الفضاء المشرقي تتواجد ثلاث هويات تاريخية قومية كبرى: العربية والايرانية والتركية. ونعتي بالـ"قومية" لا يعني بأي حال من الأحوال ما هو اثني أو عرقي على الاطلاق. وبالتوازي مع ذلك هناك هوية كبرى غير ذات طابع قومي، بل فوق قومية عقائدية دينية هي الإسلام. ومع تعقد الظروف التاريخية تمت محاولة إدخال هوية قادمة من الخارج، وغريبة عن هذا الفضاء، رغم أنها مُررت كما لو أنها قادمة من صلبه، وهي هوية غير قومية أقصد بها: الاسرائيلية.
حسناً كيف يمكن التوفيق بين كل هذه الهويات. هناك طريقتين للتوفيق بينها:
- إما بالمساعدة على إيجاد صيغة حليفة، مهيمنة ومسيطر لواحدة من هذه القوميات: العروبة أو القومية الإيرانية أو القومية التركية، وهذا الطريق ممكن نظرياً.
- أو بالمساعدة على إيجاد صيغة توازن بين هذه القوميات المحلية الكبرى المتعددة.
حسناً، هناك أمر مفروغ منه وواضح وضوح الشمس، ألا وهو أنه لن يسمح بوجود هوية وحيدة مهيمنة في هذا الفضاء الجيوسياسي من العالم، لأن ذلك لا يتوافق مع الواقع من جهة، كما أنه لا يخدم المصالح الغربية من جهة أخرى.
كذلك هناك استنتاج جلي يمكن الأخذ به بعين الاعتبار، ويتلخص بأنه من بين هذه القوميات المتعددة التي أشرت لها، نلاحظ أن الهوية العربية هي الأكثر وهناً، والأقل قدرة على المقاومة وفرض رأيها الخاص، من بين هذه القوميات وذلك بفعل سياق الأزمة التاريخية التي تعاني منها منذ وقت لابأس به. والحراك الشعبي الذي يحدث هو الامتحان لمدى قدرة الشعوب العربية على إعادة بناء قوتها التاريخية المفقودة والمتحللة.
مآل الانتفاضة، عقد اجتماعي جديد، وانعطاف ثوري بالتاريخ
أعود وأقول بأنني أتفهم ولدي أمل بالحراك الشعبي الذي يجري في الشارع، ولكني أترك تحفظي على المدى الذي ستتركه القوى الغربية وتوابعها العربية مفتوحاً أمام الشعب ليحقق آماله في الحرية. في كل الأحوال هذه الآمال والأهداف لا يقع تحقيقها في مسار المجال الديموقراطي على عاتق الشعب، أو كنتيجة مباشرة للاحتجاج الشعبي، بل بطريق آخر وخطط فقارية أخرى لبناء دولة ومجتمع مدني مغاير. الاحتجاج الشعبي مبرر على الدوام وعادل وضروري باستمرار كي يمهد الطريق نحو التغيير. ولكن المسألة بعد ذلك تتعلق بالكيفية التي سيتحدد فيها العمود الفقري للمرحلة اللاحقة، وهو أمر يحدده عقد اجتماعي جديد. فالوصول لتحقيق هدف جامع لعناصر بشرية متنوعة ومتعددة على كافة المسارات في المجتمع، يستدعي بالضرورة معرفة الكيفية التي لابد من العمل عليها، لصياغة عمود فقري لهذا الهدف المرغوب. وبدون ذلك لا وجود للمستقبل ولا لنظام مغاير آخر. وهذه العلاقة الفقارية التي أشير لها لا تتدخل فيها السياسة فقط، بل الثقافة والاقتصاد، وقبل أي شيئ آخر هي متعالقة مع الأخلاق. بمعنى أنه لا يمكن ترك كل شيئ للسياسة فقط، وإلا لن يكون هناك حلول، فالسياسة هي واحدة من العوامل التي تتدخل في إمكانية إحداث فقارية العلاقات التي تمهد للنظام المنشود.
وأعتقد أنه حتى الآن لا يتم الحديث عن هذه الأمور بصراحة.
حسناً، ما الذي يعنيه التكتم على هذا الأمور ذات الأهمية القصوى؟!
ولمَ يتم نزع أهمية هذا الموضوع وأفقه بعيداً عن الجدل الشعبي؟!!
في حقيقة الأمر لا أعرف؟
ولكنه أمر يقلقني كمستعرب، فما أسميه بالهوية العربية، والتي تحتوي على العامل الإسلامي كواحد من مكوناتها الهامة، ولكن غير الوحيد أو الحاسم بأي شكل من الأشكال، هذه الهوية العربية التي تخضع لمسار إضعاف وانحلال، فيما إذا سارت الأمور كما تسير، فإنها ستختفي أو ستتقلص إلى الحد الأدنى. ومن وجهة نظري هذا أمر هائل الخطورة. وسيتعكس على حقول عدة واحدة منها اللغة. في مداخلاتي العديدة كنت أقوم باستثمار ساخر للتلاعب اللفظي في الاسبانية بين Siria (سوريا) وبين Serio (جدّي). بمعنى أن سوريا قضية غاية في الجدية والخطورة، وما يحدث في سوريا هو نموذج تمثيلي لما يمكن أن يرى ويظهر للعلن ولما يبقى طي الكتمان والتستر عليه، رغم أنه يمكن أن يظهر للعيان في أي لحظة حاملاً مؤثراته.
خشية اسرائيل من الحرية واحتمال بناء ديموقراطية عربية
من اللافت للانتباه أنه عند تقاطع الطرق التاريخي والدرامي للحراك الشعبي، والذي يتضمن احتمال مخاطرة لا يستهان بنتائجها، تطرح وتسوق الآن عبر وسائل الإعلام امكانية جزئية لحل القضية الفلسطينية، رغم أنني شخصياً لا أعتقد بوجود أي حل مقبول أخلاقياً ويحفظ كرامة القضية. ولكن الأمر يدعو للتساؤل عن هذا التلازم بين الأمرين، وكأن دولة حرة ديموقراطية عربية هي تهديد لاسرائيل، لأنه يخلخل سرديات الكذب الذي تروج لها عن مفرد ديموقراطيتها في الشرق الأدنى.
في معرض الحديث هنا، وبالعودة للماضي نستطيع فهم توتر وقلق غولدا مائير حين الحديث عن لبنان وقت كان لبنان مثالاً عربياً للحرية والتعدد - الآن في قسم كبير منه تخلى وانزاح عن مثاله السابق- وأعتقد أنها لو قبلت بمثال لبنان الحر المختلف والمتنوع، لكان عليها القبول بحق فلسطين في الحرية. بالطبع المستفيد الأكبر سياسياً من جميع هذه الأنظمة الاستبدادية الشمولية الفردية العربية كان، ومازال هو المشروع الصهيوني في المنطقة.
الديموقراطية الغربية كنموذج معياري للبلاد العربية
لمن يتساءل حول مدى صلاحية النموذج الديموقراطي الغربي كنظام حكم عربي، في وقت دخلت فيه الديموقراطية الغربية في نفق أزمة حادة، أجيب بأن الفضاء الغربي لا يحوي على نموذج ديموقراطي واحد، فالديموقراطية الألمانية تختلف عن الفرنسية، التي بدورها تختلف عن الاسبانية، وعن البريطانية وهلم جرا .. أبداً لم يكن الفضاء الذي ندعوه بالغرب متجانساً، أو كلاً متماثلاً في مواقفه وتياراته الفكرية. ومصطلح الديموقراطية الذي شرع باستخدامه في اليونان القديمة، لا يمت بصلة لمعظم الديموقراطيات الموجودة في هذا الفضاء حالياً. بالتأكيد تتقاسم هذه الديموقراطيات نقاط مشتركة، تتأسس على المنحى المفهوماتي للديموقراطية، ولكن كل دولة تقيم أنظمتها بما يتماشى مع سيرورتها وخياراتها التاريخية والمجتمعية. وعندما أتحدث مع الجانب العربي أحاذر من استخدام ما يدعى بالديموقراطية الغربية كمعيار نموذجي للاحتذاء به. وقبل أي شيئ يجب التأكيد على أن الديموقراطية هي وليدة الاعتراف التنويري بالمساواة، والمواطنة، والتعدد، وحق الاختلاف، وحقوق الإنسان، وممارسة الحريات العامة.
حسناً ما الذي يستدعيه كل ذلك؟!
طبعاً ما هو جوهري هو البحث الخاص بكل بلد عن الصيغ، والطرق المناسبة، لكيفية تحقيق التمثيل السياسي، والتمثيل النقابي، والتمثيل المواطني.
والصيغ التي يتم الاستقرار على صلاحيتها في كل دولة أو أمة أو بلد يمكن أن تكون مختلفة جزيئاً في بنية نص دستورها، بما يتناسب مع ثقافتها وتاريخها الاجتماعي، وتلتقي في جوهرها عند الأسس التي ولدت منها الديموقراطية والتي أشرت لها سابقاً.
لا أفهم ما الذي تعنيه دعوة الشعوب العربية لتبني "النموذج الغربي الديموقراطي"، إضافة لأني لا أفهم كيف يمكن القول بذلك بينما هذا "النموذج المفترض"، يخضع بفعل الأزمة العالمية الأخيرة، لنقاش وجدل داخلي حاد حالياً. فمن الجدير بالذكر هنا أن صوت الشباب الغاضب الاسباني الذي خرج للشارع تمحور حول المطالبة بـ"ديموقراطية حقيقية".
وعندما يفتخر ويعتز ما يدعى افتراضاً "الغرب" بالقيم الديموقراطية، وحتى الأخلاقية أمام "الشرق"، فإنه ينسى أمرين هامين أن هذا "الشرق" تعرف عليه بوجهين: (الحضاري والاستعماري المدمر)، (الغرب المنشغل بالمعرفة والثقافة وصورته النقيض)، (الغرب الراعي للتقدم والغرب الراعي للتقدم لمصالحه الخاصة)، (الغرب الذي تبنى الديموقراطية له، لا لغيره فهي لا تناسبه حين تكون لغيره). وكل من يقول بأن الحل للبلاد العربية هو بنسخ "الديموقراطية الغربية" لا يعرف مدى سوء الذي يقول به؟؟ ويجب النقاش والبحث حول هذه الفكرة لا تركها معلقة في الفراغ.
توسع انتفاضة الشباب خارج الحدود العربية
أرى أن الحراك الشعبي العربي لم يقتصر على الشباب بل شارك فيه قطاع واسع من الشعب، وأعتقد أن ظهور الشباب فيه بنحو بارز، يلاقي تبريره في الناحية الديموغرافية ونسبة العمر الشبابي قياساً لمجمل عدد السكان في البلاد العربية. كما أود التأكيد على عدم اتفاقي مع من يحاول عقد صلة وصل مباشرة وجلية بين الحراك الشعبي العربي وحراك الشباب الاسباني. رغم أنني أشير إلى مؤثر العدوى ومؤثر المثال في هذه الحالة لا يمكن تجاهله بل يمكن تفسيره خاصة بوجود النت وشبكات التواصل الاجتماعي وغيرها.
وراهنية مراقبة ما يحدث في ساحة التحرير، أو سنغابور أو غيرها من ساحات العالم قد يولد هذا التعاطف، خاصة في لحظة أزمة حادة يعيشها الشباب الاسبان، مما يجعل خروجهم للساحة أكثر سهولة، ولكن أؤكد أنه لا مجال لعقد صلة واضحة ومباشرة بين ما يحدث هناك، وما حدث في ساحة لابورتا ديل سول (باب الشمس) أو غيرها من الساحات في المدن الاسبانية المختلفة.
الانتقال نحو عصر الديموقراطيات، وامكانية مشابهته لما حدث في أميركا اللاتينية
إن التحول الديموقراطي في أمريكا اللاتينية لا يمكن أن نرى شبيهه في العالم العربي حالياً، فحتى الآن لم تظهر شخصيات تاريخية عنت لشعوبها ما عناه لولا بالنسبة للبرازيل، أو حتى فيديل كاسترو أو تشابث، ومن التاريخ شخصيات مثل تشي غيفارا أو سلفادور ألّندي، رغم أن العالم العربي والعالم الأميركي لاتيني يمتلكان ناصية مقارنة ممكنة بين ظروفهما التاريخية وعناصرهما السياسية المكونة حتى درجة التشابه، خاصة في مجال امتلاك الثروات والطاقة المتراكمة، والمسيطر عليها من قبل أقليات داخلية أو مجموعات اقتصادية رأسمالية كبيرة خارجية، ولكنما يفترقان تماماً في سيرورة التاريخ السياسي التي قطعها كل منهما وطبيعتها.
أعتقد أن العالم العربي الآن يخلو من شخصيات سياسية تلعب دور العامل الجامع والرابط بين القوى الشعبية المنتفضة، ولفهم قولي أشير إلى أن لولا دا سيلبا خلال فترة لابأس بها، وبغض النظر عن الاتفاق معه من عدمه، تقدم وتحدث باسم معظم أنحاء أمريكا اللاتينية، سواء فيما يتعلق بالشؤون السياسية أم الاجتماعية، بينما لا نلاحظ حدوث مثل هذا المثال في العالم العربي، طبعاً حدث أمر مشابه مع جمال عبد الناصر، ولكن بعده لم تظهر أية شخصية عربية مماثلة في هذه القدرة، وأريد هنا أن أشير أنني لا أروج لناصر ولا للناصرية على الاطلاق، بل أتناول ظاهرة شخصية تتصف بقدرتها الجامعة بين مكونات مجتمعية وشعوب مختلفة.
تفادي احتمال التشاؤم في حضرة المستقبل
من جهتي ومع تقدمي بالعمر لن تتاح لي الفرصة لرؤية الوضع خلال العقود القريبة القادمة، ولكن الشباب الآن لديهم فرصة لرؤية الكيفية، التي ستكون عليها الخريطة السياسية والإدارية العربية، ربما سيكون الواقع مختلف – أسوأ أو فضل- عما هو موجود الآن، وهذ لا يعني أنني أقول أن الموجود الآن هو إيجابي بأي شكل من الأشكال، فمشاكل الحاضر هي في غاية الخطورة، ولا يغمرني التفاؤل بأن القضايا والمشاكل المستقبلية ستكون أقل خطورة، حينما أفكر بما يخطط له الآن من الخارج.
ولا منجاة من احتمال المصير المعتم، إلا في إدراك العرب لأبعاد ما يخطط له الخارج بأنفسهم وبأغلبية ساحقة، والعمل على اختيار مصيرهم الخاص، فيجب أن يكون حق تقرير المستقبل بأيديهم وأيدهن، وإلا فإن أي خريطة سياسية وإدارية عربية لن تكون جيدة لشعوبها، خاصة في الشرق الأدنى، وحالياً لا أرى وعي واضح لأجندات الخارج، أو حتى للمخططات الداخلية في منطقة الخليج والسعودية برعاية الخارج. وفي معرض الحديث هنا أذكر أنني في ملتقى تدخل فيه صديق لي يعمل في مجال الأبحاث الاستراتيجية السياسية، أشار لهذه الفكرة التي قلتها، إضافة لأنه أشار إلى تهميش وإضعاف دور مصر فيما يتعلق في القضايا العربية، الأمر الذي ترافق بشكل غير منسجم مع صعود دور دول صغيرة كقطر على سبيل المثال.
ظاهرياً يبدو ذلك وكأنه يتأتى من مقدرات وقرارات أهل السياسة في هذه الدول، ولكنه في العمق استجابة لمؤثر الوجود الخارجي فيها وما يلعبه في الداخل، إضافة لمؤثرات تعالق السياسي مع الاقتصادي، هذا إذا لم نتحدث على البعد الثقافي والأكاديمي الغربي الذي يخترق مثل هذه الدول. وهنا أود أن أقول أنه أمر جيد نشر العلم والمعرفة عن طريق المراكز الأكاديمية الغربية المتواجدة في هذه الدول العربية، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هل يقتصر عمل هذه المؤسسات على هذه الغاية أم أن وراء الأكمة ما وراءها.