يسعى الباحث المغربي للكشف عن سر اهتمام النقد العربي والمغربي خاصة بأعمال رولان بارت والعودة المستمرة لكشوفها النقدية، ويرى أن السر يكمن في موسوعيته المعرفية، وتعدد زوايا النظر عنده، والمزاوجة بين التنظير والتطبيق، وثراء مرجعياته الفكرية والفلسفية، فضلا عن منهجيته التي تتسم بالمرونة والصرامة معا.

رولان بارت في النقد المغربي الحديث

لمناسبة الذكرى الحادية والثلاثين لرحيله

حسن مخافي

قلما يخلو مرجع من مراجع النقد المغربي الحديثة من إحالة أو أكثر على كتاب أو دراسة لرولان بارت. إنه حاضر بشكل يثير الانتباه إلى الحد الذي يجعل تأثيره باد على حركة الحداثة النقدية في العالم العربي عامة وفي المغرب بصفة خاصة. وربما يرجع هذا الاهتمام المتزايد ببارت إلى أحد أمرين أو كليهما:

الأول يتمثل في أن رولان بارت إذا نظرنا إلى أعماله بغض النظر عن تسلسلها الزمني مثقف موسوعي، تميزت دراساته بانخراطها في الفكر النقدي الذي يتسم  في آن واحد بالصرامة المنهجية وتعدد زوايا النظر. فهو ناقد وسيميائي ومحلل وكاتب، يتقاطع في رؤيته مع مرجعيات مختلفة: ماركس، فرويد، سوسير، ستراوس، فوكو، كريستيفا وغير هؤلاء من الذين بصموا ثقافة القرن العشرين ووجهوا بشكل أو بأخر المسار الثقافي للقرن الواحد والعشرين.

الثاني يتجلى في أن صاحب "درجة الصفر في الكتابة" لم يكن ينظر إلى المنهج من منطلق نزعة دوغمائية مسبقة وراسخة، وإنما كانت طريقته في التنظير والممارسة معا تقوم على المرونة واتساع الرؤية، وهذا ما جعله يستعصي على أي تصنيف، لأنه ببساطة يشكل لوحده مدرسة نقدية قائمة الذات.

وبالرغم من  هذا التعدد الذي طبع الحياة الأدبية والفكرية لرولان بارت فإنه استمر مخلصا للهاجس الذي شغله  طيلة حياته العلمية. لقد ظل ينافح من أجل الكشف عن سلطة اللغة المؤسساتية. ومن هنا اتسمت أعماله بالتنوع. فقد انشغل بالأدب وبالتاريخ والموضة والصورة والمجتمع والتشكيل والمسرح من أجل الكشف عن البنى التي تنتظم داخلها هذه المجالات والمعاني التي تثوي خلفها، وهذا هو الخيط الرابط بين أعمال بارت. وبفضل مقارباته المتأصلة التي تقوم على العلمية والرغبة والمتعة ونفاذ البصيرة استطاع تثوير النقد الأدبي والفني عندما وضع الموضوع في مركز اهتمام كل قراءة للنص الأدبي.

لقد سمي النقد الذي مارسه رولان بارت وآخرون "النقد الجديد" نكاية في النقد ذي النزعة الأكاديمية الذي يميل إلى تفسير النص الأدبي بخارجه، أي بالظروف المحيطة به اجتماعية كانت أو نفسية أو تاريخية .. وليس النقد الجديد الذي وضع أسسه صاحب "النقد والحقيقة" سوى إعادة اعتبار للنص الأدبي بالقبض على معناه واكتشاف بنيته وسره وجوهره. ولن يتأتى هذا إلا بشحذ مبضع نقدي يقوم على تقاطع اللسانيات والبنيوية والسيميولوجيا والتحليل النفسي، وجعل هذه المجالات المعرفية تتعايش داخل عملية التأويل. وبهذا فإن العمل الأدبي لدى بارت هو عمل مفتوح، إذ لا ينبغي أن نفهم النص على أنه نتاج محدود بالوعي الإبداعي للكاتب، بل هو أيضا وأساسا يتسع لوعي القارئ /الناقد. وهكذا يصبح النقد ضربا من الكتابة، يهدف إلى خلخلة العالم عن طريق مساءلته باستمرار, فالمعنى عابر والسؤال ثابت كما يقول بارت نفسه. إن ما يميز التراث البارتي بالإضافة إلى ما سبق أنه زاوج بين التنظير النقدي والممارسة، فهو بحكم اشتغاله على الأنساق كان يهدف إلى الوصول إلى "قواعد" عامة تؤطر موضوعه، وتسمح بنوع من التعميم يضمن لها امتدادا في الزمان والمكان، وهنا يكمن سر عالمية رولان بارت وانتشار أعماله وحضوره المؤثر في الحركات النقدية الطلائعية في العالم كله. ولا يمكن أن يكون النقد المغربي الحديث استثناء من حيث الاستفادة من أعمال رولان بارت، بل إن ظروفا موضوعية جعلت حضوره قويا ومؤثرا في ذلك النقد. ومن المفيد أن نسجل أن الكتاب والباحثين المغاربة لم يكتشفوا مؤلف S/Z دفعة واحدة، على الرغم من أنه أقام بين ظهرانيهم لفترة معينة بين سنتي 1968 و1969. ويمكن القول إن النقد لمغربي المكتوب بالعربية خاصة لم يكن بعد مهيأ لتقبل أفكار بارت التي كانت تتسم آنذاك بالجرأة حتى بالنسبة للفرنسيين أنفسهم، فما بالك بالمغاربة الذين كانوا يحاولون تلمس الطريق لإقامة نقد حديث.

إن النقد المغربي إبان مقام بارت بالرباط، كان قد خرج لتوه من هزيمة 1967 التي حولت مسار الفكر العربي المعاصر عامة، وبدأت تهيمن بأسئلتها المحرجة على الحقل الثقافي، وهو ما أدى إلى إعادة النظر في المفاهيم الكلاسيكية التي شكلت سلطة عمود الشعر وجهها البارز. وكان من الطبيعي أن يرتمي النقد الطليعي آنذاك في أحضان فهم خاص للنقد الماركسي الذي تم التعبير عنه بالمنهج الجدلي تارة، وبالمنهج الاجتماعي تارة أخرى، والذي لم يكن سوى خطاب إيديولوجي حول الأدب. وسيتوج هذا المسار في أواخر السبعينيات ببداية ظهور أعمال نقدية على شاكلة "المصطلح المشترك".  وعلى الرغم من أن بعض النقاد "الحداثيين" حاولوا أن يقللوا من حدة الهاجس الإيديولوجي في النقد بانتقالهم إلى البنيوية التكوينية إلى أن ذلك الانتقال لم يستطع انتشال الخطاب النقدي من مستنقع "نظرية الانعكاس"، مما عمق أزمته. وفي سياق هذه الأزمة سيكتشف النقاد المغاربة رولان بارت في إطار البحث عن مخرج نقدي يعيد بناء النقد المغربي وفق رؤية تركز على أدبية النص وليس على وظيفته الإيديولوجية.

إن تلك الأزمة تمظهرت بشكل واضح في المعركة الأدبية التي نشبت بين فريقين من النقاد على الصفحات الثقافية لجريدتي "المحرر" و"العلم". كان محمد برادة وإدريس الناقوري ونجيب العوفي في مقدمة الفريق الأول بينما كان حسن الطريبق وعبد الجبار السحيمي على رأس الفريق الثاني. ويمكن القول إن هذه المعركة في جانبها الإيجابي قد أفرزت أسئلة جديدة تجاه الفاعلية النقدية. وكانت مناسبة لإثارة مسألة المنهج في النقد المغربي. ومنذ ذلك التاريخ بدأ النقد المغربي المكتوب بالعربية يلتفت إلى فتوحات النقاد الغربيين والفرنسيين منهم على وجه الخصوص، وأصبح  يتحدث عن رولان بارت، وذلك ضمن سياق البحث عن الخروج من الأزمة بالاستئناس بالمناهج الحديثة في أوربا. يقول إدريس الناقوري في حوار نشر في شتاء 1978 وقد سئل عن المنهج البنيوي: "أريد أن أؤكد على الجانب الإيجابي في هذا المنهج. ويتمثل لي شخصيا في التطبيق أو الممارسة التي استطاع أن يبلورها ناقد أدبي كرولان بارت الذي عرف كيف يستغل هذا المنهج في بيان وإبراز طاقات اللغة وقدرتها على أداء معاني ومفاهيم متنوعة. وإذا كان هذا يصدق على اللغة الفرنسية التي هي لغة أرستقراطية عريقة، فمما لا شك فيه أنه يصدق أيضا إذا طبق بوعي وبجدية وبعمق على لغات أخرى مثل اللغة العربية".(1)

وإذا عرفنا أن إدريس الناقوري قد أبدى هذا الرأي تجاه بارت وهو لما يزل مأخوذا بالمنهج الاجتماعي، مما يعكس استعدادا لتقبل النقد الجديد، فإن إبراهيم الخطيب يعد من أوائل النقاد العرب والمغاربة الذين عملوا على تشخيص أزمة النقد المغربي، وحاول أن يتجاوزها من خلال بدائل مؤسسة على التجربة النقدية لرولان بارت وغيره من رواد النقد الجديد. فقد شكك الخطيب منذ وقت مبكر في أداء النقد الإيديولوجي الذي جسد ما أسماه "أزمة النقد المغربي" التي تكشف عن نفسها انطلاقا من كتابات نقدية لم تستطع أن تجيب على السؤال الجوهري وهو: ما الذي يميز ممارستنا الأدبية؟ أي ما هي المناهج التي تستطيع أن تبرز لنا خصوصية هذه الممارسة؟ وفي سياق جوابه على ذلك التساؤل يسجل الخطيب أن المشكل النقدي لم يعد مقبولا أن "يطرح بواسطة مفاهيم تتعلق بالتأويل وليس بالوصف. هناك تجارب وأبحاث قام بها أشخاص أو اتجاهات، وكانت تتجه إلى تحديد خصوصية العمل الأدبي في سياق الممارسة الأدبية. إن هذه الاتجاهات معروفة الآن ونصوصها موجودة بين أيدينا."(2) والإشارة هنا كما هو واضح إلى حركة النقد الجديد التي كان يقودها بارت.

إن المتأمل في ما آلت إليه المعركة النقدية في آخر السبعينيات يخرج بنتيجة مفادها أن النقد المغربي أصبح أكثر من أي وقت مضى مهيأ لإعادة بناء نفسه بشكل يحقق قطيعة مع النقد السلفي والنقد الإيديولوجي في آن معا، وذلك من منطلق الوعي بدور النقد في إبراز ما أسماه إبراهيم الخطيب خصوصية الأدب، التي ليست في نهاية الأمر سوى صيغة أولية ومحتشمة للأدبية بالمفهوم البارتي. ومن أجل ذلك فإن الإشارات التي أبداها الناقوري والخطيب اتجاه "النقد الجديد" كانت تفصح عن رغبة جامحة في الانفتاح على منجزات ذلك النقد الذي كان قد احتل مكانة بارزة في فرنسا. وهذا ما يفسر حضور رولان بارت كمرجع أساس في الخطاب النقدي منذ هذا التاريخ، أي منذ نهاية السبعينيات. صحيح أن بعض النقاد المغاربة الذين يكتبون بالفرنسية كانوا قد استلهموا بعض أعماله قبل هذا التاريخ، كما هو الشأن بالنسبة لعبد الكبير الخطيبي وعبد الفتاح كيليطو. ولكن الحاجة إلى آليات ومفاهيم "النقد الجديد" لم تتبلور في المغرب  إلا عندما تكون إحساس لدى المنشغلين بالحقل النقدي بضرورة رد الاعتبار للنص الأدبي الذي ظل مهمشا لردح من الزمن. وهو ما يعني أن المدخل الحقيقي لحضور رولان بارت في المغرب من هذه الزاوية بالذات اتخذ صبغة تاريخية من حيث إنه يستجيب لشرط تطور الخطاب الأدبي بالمغرب، الذي أملته ظروف موضوعية يتعلق بعضها بالتحول الطبيعي لذلك الخطاب، ويخص بعضها الآخر الانخراط في عملية المثاقفة الذي دشنها النقاد المغاربة مع النقود الأجنبية والنقد الفرنسي بالخصوص منذ وقت مبكر(3)  .

ومهما يكن من أمر فإن الانتباه إلى أهمية كتابات رولان بارت قد تكرس بشكل لافت للنظر في تلك الفترة بالذات، وأصبح للرجل حضور مرجعي في الجامعة المغربية. ومن المفارقات أن النقد المسمى أكاديميا الذي كان يكن العداء لبارت في فرنسا هو ما سيجعل نجمه يسطع في المغرب. لقد احتضنت الجامعة المغربية أفكار رولان بارت، فأصبح اسمه يتردد في المدرجات بفضل أساتذة أدركوا حجم الدور الذي يمكن أن يلعبه في تحديث النقد المغرب ومنهم عبد الكبير الخطيبي وعبد الفتاح كيليطو ومحمد برادة وحسن المنيعي وغيرهم. وغدا رائد النقد الفرنسي الجديد واحدا من المراجع الأساسية في الدرس النقدي بالجامعة. ولقد اتخذ الحضور البارتي في النقد المغربي صيغتين بارزتين:

- الصيغة الأولى تكمن في استلهام أبحاثه ودراساته في إثارة قضايا الأدب من وجهة نظر اتسمت في حينها بجرأة كبيرة، وكذا في الاشتغال على نصوص مغربية بمفاهيم بارتية، وهو ما سأقف على  بعض تجلياته بعد قليل.

- أما الصيغة الثانية التي تعد تجسيدا ملموسا لذلك الحضور فتتمثل في نقل أعمال بارت إلى العربية. فقد كان المغاربة سباقين إلى التعريف بأهم أعماله على الصعيد العربي.

وهكذا أصدر محمد برادة ترجمة "درجة الصفر في الكتابة"(4)  Le degré zéro de l’écriture سنة 1981، وكان للكتاب وقع قوي على النقد العربي عموما، وعلى النقد المغربي خصوصا لأنه يلامس قضايا تتعلق بجوهر العمل الأدبي. وفي سنة 1985 ظهر كتاب لبارت بالعربية يحمل عنوان "درس السيميولوجيا"(5) ضمنه مترجمه عبد السلام بنعبد العالي عددا من الأبحاث المختارة. وفي سنة 1986 ترجم إبراهيم الخطيب كتاب "النقد والحقيقة"(6)  Critique et vérité الذي يعد تثويرا لمفهوم النقد ودوره وموضوعه. وفي السنة نفسها نقل محمد البكري "مبادئ في علم الأدلة"(7) Eléments de sémiologie إلى العربية. وبعد ذلك بسنوات ظهر كتاب "المغامرة السيميولوجية" L’aventure sémiologique سنة 1993 وقد ترجمه عبد السلام حزل. وآخر كتاب لبارت ترجمه عبد الكبير الشرقاوي في السنة الماضية تحت عنوان "التحليل النصي"(8). هذا بالإضافة إلى عشرات الدراسات التي ترجمها مغاربة ونشرت في المجلات والملاحق الثقافية للجرائد الوطنية  والعربية.

إن هذا الإقبال من لدن النقاد المغاربة على ترجمة أعمال بارت ينم عن اهتمام مبكر بأعمال هذا الناقد الرائد، كما يؤكد من جهة ثانية على أن المغرب قد لعب دورا بارزا في التعريف بأعماله في البلدان العربية الأخرى. وهو ما حوله إلى سلطة مرجعية ليس في المغرب فحسب بل في جميع بلدان العالم العربي. إن هذه السلطة المرجعية ستعبر عن نفسها في النقد المغربي من خلال ثلاثة مظاهر رئيسة، جعلت هذا الناقد يحتل مكانة رائدة في المشهد النقدي العربي من زاويتين على الأقل: الأولى تهم تحديد المفاهيم التي تتعلق بالخطاب الأدبي والنقدي، والثانية لها علاقة بتحديث آليات المقاربة النقدية بتوظيف رؤية بارت المنهجية في التعاطي مع النصوص الأدبية وخاصة النصوص السردية. لقد كان المغاربة أول من طرح تساؤلات تهم جوهر الأدب العربي في إطار إعادة النظر في المفاهيم الكبرى التي تشكل المدخل الرئيس للإبداع. ففي السنة نفسها التي شهدت ظهور الترجمة العربية لـ"درجة الصفر في الكتابة" نشرت مجلة الثقافة الجديدة ملفا عن مفهوم "الكتابة"(9). وكان محمد برادة قد وضع مقدمة للنسخة العربية من الكتاب في عشرين صفحة تحمل عنوان: "البحث عن معرفة ممكنة للكتابة"، تتبع فيها تطور المفهوم لدى النقاد الغربيين. وعلى الرغم من أن المغاربة قد طرحوا ما يسميه برادة إشكالية الكتابة ضمن خصوصية الأدب المغربي، مما يعني استحالة الربط المباشر والآلي بين "درجة الصفر في الكتابة" وبين مساهمات النقاد المغاربة في صياغة مفهوم الكتابة، إلا أن مقارنة بين الكتاب وتلك المساهمات تسمح بالقول إن بارت قد لعب دور المحرض في إعادة النظر في مفهوم الأدب كما تداوله النقد العربي والنقد المغربي. وليس من الصدفة في شيء أن ينبري محمد برادة ومحمد بنيس وعبد الله راجع ونجيب العوفي ومحمد القاسمي دفعة واحدة للتنظير للكتابة. مع العلم أن مفهوم الكتابة بالذات لم يكن مفهوما متداولا في النقد المغربي أو العربي قبل هذه الفترة.

وبغض النظر عن الاختلافات التي سجلها المساهمون في التنظير للكتابة، ودون الخوض في الخصوصية التي دافعوا عنها تجاه ما جاء في"درجة الصفر في الكتابة"، فإن استلهام اجتهادات بارت في الموضوع  لا مراء فيها. ودون الخوض في التفاصيل التي لا يتسع لها هذا المقام فإنه يمكن تسجيل وجهين من أوجه حضور صاحب "النقد والحقيقة" بهذا الخصوص:

- الأول يبرز من خلال إعادة الاعتبار للتنظير النقدي. وتكمن أهمية هذه المبادرة في أن العرب والمغاربة من بينهم لم يولوا أهمية كبيرة للتنظير، فقد ظل النقد المغربي ممارسة قرائية للنصوص دون الارتكاز إلى أية خلفية تذكر حول مفاهيم الممارسة الإبداعية. يقول محمد بنيس في مستهل "بيان الكتابة": "هناك من يعترض. لن يقرأ ما سيشغل البياض. يقول: لسنا بحاجة إلى التنظير، نحن بحاجة إلى الشعر. يقول أيضا: تقديم الشعر، إصدار بيانات، تعيين الحدود، خارجة على عادتنا. إن سنة الشعر في المغرب هي الإنشاد. وتلك سنته في عموم العالم العربي. وما عداها ليس إلا تبريرا أجنبيا عنا، يستأنس به الباحثون عن شرعية وهمية. لك الحرية أيها المعترض، أما الشعر فما زالت تواجهه حالة ضاقت بصمتنا هنا في المغرب على الأقل. لم توجد بيننا صناعة شعرية تتجذر ممارستها. إذن كيف ننسى؟ كيف نستمر في تجريب خارج اللغة والجسد والتاريخ. نحن في حاجة إلى البداية. إنها السلطة التي لا تقوم الكتابة بدونها.."(10)

- أما الثاني فإنه يتلخص في إثارة بعض المفاهيم النقدية التي كانت مغيبة في النقد العربي والمغربي. ومن هذه المفاهيم التي تصلح مثالا، مفهوم المؤلف. فمن المعروف أن رولان بارت قد كتب عن "المؤلف" بحثا ظهر في كتاب Le bruissement de la langage أعلن فيه موت المؤلف لأن الكتابة  عنده قضاء على كل صوت، وعلى كل أصل. الكتابة هي هذا الحياد، هذا التأليف واللف الذي تتيه فيه ذاتيتنا الفاعلة. إنها السواد ـ البياض الذي تضيع فيه كل هوية، ابتداء من هوية الجسد الذي يكتب." (11) إن مفهوم المؤلف سيكون مدار كتاب سيصدره عبد الفتاح كليطو تحت عنوان L’auteur et ses doubles ظهر مترجما إلى العربية على يد عبد السلام بنعبد العالي بعنوان آخر هو "الكتابة والتناسخ"(12). وعلى الرغم من أن مقاربة بارت تختلف عن مقاربة كيليطو نظرا لاختلاف السياق الثقافي الذي يكتب فيه كل واحد منهما، إلا أن مجرد إثارة هذا المفهوم في الأدب العربي يشي بتقاطع كبير بينهما.

وبمقارنة سريعة بين "موت المؤلف" لدى بارت و"المؤلف وأضعافه" لكيليطو يتبين أن الأول كان وهو يرسم ملامح "مؤلفه" وفيا لمفهومه للكتابة من جهة ولتاريخ الأدب الفرنسي كما كان يتصوره من جهة ثانية. في حين ظل كيليطو محكوما بطبيعة الثقافة العربية التي "لا تقبل سرد المحاكاة، حيث يختفي المؤلف ليفسح المجال ويترك الكلام للكائنات الخيالية"(13). وهذا يعني أن التقاطع لم يلغ مبدأ الخصوصية. فقد برهن كيليطو من خلال هذا الكتاب عن استقلالية تامة عن كل الأدبيات الغربية بخصوص المؤلف مركزا على خصوصية الأدب العربي ومساره التاريخي  تجاه هذه المسألة.

- أما الوجه الثالث لحضور بارت في النقد المغربي فيكتسي بعدا منهجيا يتعلق بقراءة النصوص واستنباط القواعد العامة التي تحكمها. ويبدو من العسير هنا الوقوف عند نموذج تمثيلي واحد، لأن أغلب الدراسات التي أنجزت منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي إلى الآن تتخذ من بارت مرجعا أساسا. وبما أن السياق لا يسمح بتتبع التأثير الذي تركه بارت على النقد المغربي من هذه الزاوية، فإننا سنقتصر على الإشارة إلى دوره إلى جانب نقاد فرنسيين آخرين في خلق دينامية نقدية جديدة من ناحيتين على الأقل:

- الناحية الأولى تخص تبني عدد كبير من النقاد المغاربة للمنهج البنيوي في مقاربة النصوص واستنباط القواعد العامة التي تحكم العلاقة بين مكوناتها. وتبدو مساهمات رولان بارت وخاصة تلك التي عالجت نصوصا سردية حاضرة هنا بشكل كاد يفقد النص المغربي هويته لدى بعض النقاد. وبقدر ما أسهمت تلك المقاربات في الكشف عن خصائص نصية عجزت المقاربات التقليدية عن الوصول إليها، بقدر ما أصبح النقد المغربي بفعل الإغراء المنهجي نقدا نمطيا، تطمس فيه معالم النص ويهيمن عليه الهاجس المنهجي. ويمكن على سبيل المثال لا الحصر أن نمثل لهذه النزعة التي تمنح الأولوية للمنهج على حساب النص بالدراسات التي أنجزها سعيد يقطين في مجال الرواية وخاصة كتابيه "القراءة والتجربة" و"تحليل الخطاب الروائي"، حيث تتحول المقاربة النصية لديه إلى ترسانة من المفاهيم يضيع النص في خضمها ويصبح فقط شاهدا على نجاعتها.

- أما الناحية الثانية فتهم الدراسات السيميائية التي بدأت تظهر في المغرب مع مطلع الثمانينيات والتي تشكل اليوم اتجاها رئيسا في النقد المغربي، إذا صح أن نصنف هذه الدراسات في إطار النقد الأدبي. ويحتاج تحديد الدور الذي لعبته جهود بارت في هذا التخصص إلى متابعة دقيقة للأعمال التي أنجزت في هذا الإطار، وهو ما لا تسمح به مناسبة كهذه، ولكن تصفح الأعمال التي أنجزها محمد مفتاح وحنون مبارك وأنور المرتجي في مجال السيميائيات تبين مركزية ذلك الدور وأهميته، وخاصة في الدراسات الأولى التي ظهرت في الثمانينيات.

لا شك أن هذا العرض السريع الذي أريد له أن يقف على مكانة رولان بارت المرجعية في النقد المغربي الحديث لم يف الموضوع حقه من التفصيل والتدقيق،. ومع ذلك فإن الملاحظات العامة والتساؤلات الكبرى التي أثيرت تفصح عن موقع خاص ظل بارت يحظى به في النقد المغربي إلى جانب نقاد فرنسيين آخرين.. وهو ما يبرهن على انفتاح النقد المغربي وقدرته على إقامة حوار مثمر مع مختلف المرجعيات العالمية.  

 

هوامش:

(1)  إدريس الناقوري: دفاعا عن المنهج الاجتماعي. مجلة الثقافة الجديدة. العدد التاسع. السنة الثالثة. شتاء 1978. ص 18.

(2) إبراهيم الخطيب: تركة الماضي وشرعية التساؤل. الثقافة الجديدة العدد التاسع. السنة الثالثة. شتاء 1978. ص 32.

(3) لقد كان لتنظيرات ماركس وإنجليز وجورج لوكاتش وكرامشي وغيرهم أثر كبير في مد النقد المغربي في السبعينيات بأفكار تؤطر أعمالهم ضمن اختيار نقاد الطليعة آنذاك لما كانوا يسمونه "المنهج الجدلي". يراجع في هذا الصدد كتاب "المصطلح المشترك" لإدريس الناقوري. وأعداد مجلتي "الأقلام" و"الثقافة الجديدة" التي صدرت خلال هذه الفترة.

(4)  رولان بارت: درجة الصفر في الكتابة. ترجمة: محمد برادة. الشركة المغربية للناشرين المتحدين ـ دار الطليعة. الطبعة الأولى. الدار البيضاء ـ بيروت 1961.

(5) تضمن الكتاب ترجمة لدراسة Leçon التي ألقاها بارت في الكوليج دو فرانس في يناير 1977 وأبحاث من كتابه La bruissement de la langue الصادر سنة 19984، وبحث يحمل عنوان Sur la littérature الصادر ضمن Presse universitaire de Grenoble 1980. 

(6)  رولان بارت: النقد والحقيقة. ترجمة إبراهيم الخطيب. الشركة المغربية للناشرين المتحدين. الطبعة الأولى. الدار البيضاء 1985.

(7) رولان بارت: مبادئ في علم الأدلة. ترجمة محمد البكري. دار قرطبة للطباعة والنشر. الطبعة الأولى. الدار البيضاء 1986.

(8) رولان بارت: التحليل النصي. ترجمة عبد الكبير الشرقاوي. دار التكوين. الطبعة الأولى. دمشق 2009.

(9) مجلة الثقافة الجديدة. العدد 19. السنة الخامسة. 1981. 

(10) محمد بنيس: بيان الكتابة. المرجع السابق.

(11) رولان بارط: درس السيميولوجيا. ترجمة عبد السلام بنعبد العالي. (مرجع سابق) ص 81.

(12) عبد الفتاح كيليطو. الكتابة والتناسخ: مفهوم المؤلف في الثقافة العربية. ترجمة عبد السلام بن عبد العالي. المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء 1985.

(13) عبد الفتاح كيليطو: المرجع نفسه. ص 10.