في مقالته يرى الناقد بأن هيمنة السكونيّة السياسية والاجتماعية تستدعي بالضرورة استنقاع اللغة وتخشبها في صيغ شعائرية يدافع عن استنساخها الاكليروس اللغوي، فلا هي بقادرة على مواكبة العصر والتواصل معه، ولا على تجديد نفسها بشكل حيوي عبر سيرورة إصلاح جدلي.

ظهير اللغة

عيد اسطفانوس

في المبدأ العلمي المتفق عليه في علم الوراثة عما ينشأ من نتاج في حال زواج الأقارب المتتالي، هو نفس النتاج في حال ما يتحدث الناس إلى أنفسهم لقرون طويلة، فالنتاج الحتمي في الحالة الاولى هو نسل عليل مشوه يفقد مع الزمن خصائص القوة المطبوعة على شريط جيناته، وفى الثانية يحدث نفس التأثير إذ تتوقف منظومة التباديل والتوافيق، بعد أن يتوقف إنتاج أو ابتكار ألفاظ أو معان أو تراكيب جديدة تتواءم مع العصر ومعطياته، ولا يسمع الناس سوى ما يتوهمون أنها محاورة، وفى الحقيقة هي لا تعدو كونها رجع أصواتهم القادمة من الماضي، وتبدأ المؤشرات الأولى لمظاهر انحطاط اللغة في منتجها الرئيس، وهو الكلمة أو اللفظ (الشائع منه أو المدون)، وهو ناتج الفكر والثقافة السائدة، فإذا كان المجتمع محافظاً (وهو تعبير مراوغ أحياناً عن مجتمعات جامدة مغلقة) فلا تسمع سوى قوالب مكررة ومعادة، فيستطيع الإنسان بقليل من الجهد أن يستكمل أي خطبة عصماء يبدأها أي من هؤلاء الذين يدعون أنهم حراس هذه اللغة، وفى الحقيقة أنهم أقاموا حولها سياجاً من الظنون والمخاوف، سياج عزلها عن الدنيا وعزل أصحابها، ولولا بعض من اختراقات جريئة محفوفة بالمخاطر هنا وهناك بدءاً من شعراء المهجر ومدرسة أبوللو والارهاصات الاولى في تجديد اللغة، مروراً بمعارك شعر الحداثة وقصيدة النثر، وحتى حروب تشريح النصوص وضحاياها الكثيرين، لولا كل ذلك لكانت هذه اللغة قد دفنت من زمن وتحولت إلى لغة ليتورجيات، وحتى لا يشهر البعض في وجوهنا السيف المعد سلفاً لمن يحاول الاقتراب من هذه التابوهات، فإننا نقول أننا هنا لا نتحدث عن محتوى كتب مقدسه عند أصحابها، ولكننا نتحدث عن لغة وظيفتها الرئيسة هو التواصل بين بشر، بشر يعيشون في مجتمع ويمارسون أنشطة حياتية تتطور مع الزمن كل دقيقة وليس كل عام، وعلى سبيل المثال فإن تسميات كثيرة لمنتجات وأفكار وأنشطة ابتدعها العقل البشرى لازلنا حيارى مختلفين في تدبير مقابلها اللغوي وفى النهاية نضع لها تعبيرات هي أقرب للانطباعات أكثر منها للتسميات، مما يضطر البعض إلى فتح الأقواس لحشر الكلمات الأجنبية داخلها منعاً للالتباس، وبينما ننعت أي لفظ جديد بأنه (الغريب الدخيل) يتباهى الانجليز بعدد الالفاظ والكلمات الجديدة التي تضاف لقواميسهم كل عام ويعتبرونه علامة الحياه للغتهم، فلا حياه لبشر دون أن يتوالد الناس ولا حياة لثقافة دون أن تتوالد اللغة، أما اللغات العقيمة فزوالها مسألة وقت. وعندما قال طه حسين أن اللغة لا تملك البشر ولكن البشر هم من يملكون اللغة، كان الرجل يرى (ببصيرته) جيش المتنمرين الذين ما لبثوا أن أوقعوا به في أول فرصة واتهموه بأبشع التهم، واللغة حتى تزدهر يلزم لها ظهير داعم وبالطبع يأتي عدد السنة المتحدثين بها في مقام متقدم، لكن ذلك لم يعد يكفى مع مرور الزمن، فلم يعد كافياً عدد المتحدثين بلغة ما حتى نضمن ازدهارها لكن يضاف إسهام هؤلاء وتأثيرهم في مجمل النشاط الانساني، الفكري والاقتصادي والتقني والاجتماعي والسياسي، والاسهام هنا أخذاً وعطاءاً ترجمة من اللغة واليها، تبادل منافع حياتية مع كل المجتمعات، بالإضافة إلى منظومة بحث علمي حر تدار باحتراف ومندمجة مع مثيلاتها في أرجاء الدنيا، هذا هو ظهير اللغة الداعم لازدهارها ونموها وانتشارها وتفاعلها مع المحيط البشرى، خلاصة القول أن ظهير اللغة هم البشر المنتجين المبتكرين متفتحي العقول المتصالحين مع أنفسهم ومع الآخرين. ولم يلتفت أحد إلى لغة يتحدث بها أكثر من مليار من البشر، إلا بعد أن غزت منتجاتهم الدنيا وأصبحوا قوة اقتصادية هائلة مرشحة لقيادة العالم، ومن ثم اهتمت الدنيا بلغتهم وأنشأت أقسام اللغة الصينية في معظم جامعات العالم، وهم لم يصبحوا كذلك إلا بعد أن انفتحوا هم أولا على العالم وعلموا أولادهم كل اللغات الحية لكن ليس بمبدأ (اعرف عدوك) الذى نعلم به اللغات في مجتمعاتنا متوجسين، ولكن بمبدأ اعرف وتعلم وانتج فتستطيع أن تقود العالم، وذهب شبابهم طلباً للعلم والبحث، وغزوا جامعات العالم المتقدم ونهلوا بلا حساسيات ولا خوف كل ما يستطيعون استيعابه والاستفادة به في بناء بلادهم، واليوم يشكل الصينيون والهنود نسبه معتبرة جداً في المراكز البحثية المتقدمة في جامعات أمريكا وأوروبا، ومعظمهم يستجلبوا بمنح من هذه الجامعات للرغبة في مثل هذه الانماط من الباحثين المثابرين. والكلمات العربية المنتشرة في لغات كثيرة معظمها كان ثمرة حقبة الازدهار الكبرى وهى حقبة انفتاح العرب على العالم في أزهى عصور حضارتهم، ولم تنتشر هذه المفردات بغزوات أو حروب بل كانت هي الأنسب والأصلح ولم يجد الآخرين غضاضة في استعمالها والاعتراف بأصولها اللغوية.

ومن فرط يأسهم من الواقع المحيط بهم وبعد أن سادت أنماط مستحدثة في التعامل في المعلومات والاتصالات والذوبان المتسارع لفارق الزمان والمكان بين البشر، ابتدعت الأجيال الناشئة تعبيرات تخصهم وحدهم وأصبحوا ينقرون على لوحة المفاتيح ويتخاطبون بمفردات غريبة، واكتفى (حماة اللغة وحراسها) بالاستهجان ولم يكلفوا أنفسهم عناء البحث في الظاهرة، فربما أمكن تشذيبها واستيعابها لكن العقول التي تحجرت حولت اللغة إلى تابوه مقدس ممنوع الاقتراب من حروفه لا بالإضافة ولا بالحذف ولا بالتعديل، ساعد على ذلك بيئة الركود الفكري والثقافي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي، البيئة التي تحض على الانعزال والتقوقع والخوف والتوجس بين المجتمعات وبين الأفراد داخل المجتمعات، البيئة التي يتوقف فيها النمو الطبيعي للأشياء الحية وعلى رأسها اللغة، ويبدأ الناس في استنساخ أفكارهم وألفاظهم وهم لا يدرون أنها بضاعة مستهلكة كقطع العلكة التي سبق مضغها، ولعظمتها وفضائها الرحب وشاعريتها المبهرة أنصفها كثيرين حتى من غير أبناء جلدتها وكانت لهم فيها مباحث قيمة لازالت معينا لكثيرين من طالبي البحث والتحقيق في قضية تجديدها، وهؤلاء لم يسلموا من تهم الصقت بهم وبأهدافهم على مر العصور،الصقها بهم مدعي الدفاع عنها وهم في الحقيقة يدفعونها دفعاً لتصبح فقط لغة ليتورجيات.