يستبين الكاتب ملامح الطهرانية التفتيشية التي أوصلت السودان إلى التقسيم، ويوضح بأن ما حصل عزز من ثقل الدكتاتور بتحول مجمل السلطة إلى مؤسسة دكتاتورية محصنة بالمقدس. ويرى بأن المخرج الوحيد لمسايرة التاريخ هو عقد اجتماعي مدني، يقوم على نظام ديموقراطي علماني، يعترف بكافة مكونات المجتمع ويضمن الحرية وتوزيع عادل للثروة والسلطة.

رقصة الخراف المذبوحة

عيد اسطفانوس

وأتعشم أن يتغاضى القارئ عن الخطأ المجازي في العنوان، فذوات الأربع لا يفعلونها، أما الطير فيساعده على ذلك حركة أجنحته الهستيرية الناتجة عن موجة الألم الفجائي، لكن ربما دفعني مشهد نحر الخراف في شوارع الخرطوم ابتهاجاً بتوحيد القبلة (على حد قول أحد الملتحين أمام عدسات التليفزيون)، أقول دفعني هذا المشهد لأتخيل أن تهب الخراف في مشهد الحيوان الذبيح ينتفض من موجة الألم المباغتة ولتستقبل أطرافه آخر أوامر الحركة من المخ إلى الأطراف المرشحة للتقطيع تباعاً بعد قطع الشريان الرئيس وهو إعلان الانفصام رسمياً، وكنت أتخيل مرادفاً لهذا المشهد أن يهب الشعب السوداني منتفضاً احتجاجاً على مغتاليه عندما تصل إليه موجة الألم يوم التاسع من تموز، اليوم الذي تم فيه إشهار هذا الانفصال على الملأ، لكن تفاصيل المشهد تنبئ بوضوح عن مدى التأثير الهائل لموجات التغرير التي تعرض لها هذا الشعب المظلوم، حيث انطلقت زغاريد ونحرت ذبائح وأقيمت مهرجانات للكذب والدلاسة للتغطية على الجريمة التي لم تتضح معالمها بعد، لكن توابعها القادمة لا محالة سوف تضعها في حجمها وإطارها الصحيح، يومها سوف تنكشف أبعاد جريمة شنعاء تم فيها وأد مشروع إمبراطورية شاسعة غنية بموارد وأعراق واثنيات وثقافات ومعتقدات، يومها سوف يكشف التاريخ حجم الأكذوبة ومن تبناها ومن رعاها ومن مولها، وسوف يكشف التاريخ أيضاً الهدف الحقيقي الخبيث، الذي من أجله يذبح السودان ـ وغيره ـ ويقطع أطرافه من خلاف ويقدم أضحية على مذبح وثن مجهول الهوية، سبق والتهم أضحيات كثيرة دون أن يكون لها مردود على الشعوب المغرر بها، سوى الخراب والجوع والفقر والمرض.

وما يحدث في الصومال وتذيعه كل أنواع الميديا لهو مثال صارخ لنتيجة حتمية سوف يبلغها كل السائرون على نفس الطريق وبنفس السيناريو، لشعوب كثيرة منها من ذبح ومنها من ينتظر، ويومها سوف يكون أوان الندم قد فات ولن تجدي الدموع نفعاً. ولقد كان حقن الشعوب بالأكاذيب اليومية وبجرعات مقننه هي خطة محكمة لتدخل هذه الشعوب أولى مراحل الإدمان، فتاهت الحقائق وسط بحر من الأكاذيب، فلم يكن جون قرنق يوماً داعية انفصال، ولم تكن أمريكا وإسرائيل هما السبب الرئيس في ذبح السودان ـ وغيره ـ أما الحقيقة المؤلمة فهي هوس الدولة الدينية، التي يمولها الذين تملكهم الرعب من قيام أنظمة جديدة تحترم الشعوب وتجرم وتحرم استعباد البشر المولودين أحراراً، الذين تملكهم الرعب من صحوة شعوب مقهورة فتحت كوة في جدار سجن رهيب، تم فيه جلد الناس واستعبادهم واسترقاقهم وإرهابهم بوسائل وحشية، لم تعد تمت للإنسانية والحضارة بأدني صلة في القرن الواحد والعشرين.

أما مرحلة الإدمان الثانية التي نجح المدلسون في إدخال الناس فيها، فهي الأخطر على الإطلاق حيث يدافع الناس عن جلاديهم ويتبعونهم مغيبين. وبدءاً من أئمة التصوف الفطري النقي الرواد المهدي والميرغني إلى الشيوعي الكوني عبد الخالق المحجوب مروراً بالمسيحيين الزنوج لام اكول وجون قرنق وسلفاكير، أي من أقصى اليمين لأقصى اليسار عاش السودانيون بلا عنف ولا تعصب ولا فرز ولا تمييز، وقد كانوا أرض العرب الخصبة، وكذلك عاش العراقيون سنة وشيعة وكلدان وأشوريين ويزيديين وصابئة، وكانت العراق هي بوابة العرب الشرقية الحصينة، كما وعاش المصريون عرب وقبط ويهود وأعراب ونوبيين وأمازيج، وكانوا رصيد العرب البشري، وعاش اللبنانيون موارنة ودروز وسنة وشيعة وكانت لبنان واحة العرب الثقافية الزاهرة، فماذا حدث للنماذج الأربعة وغيرها في نصف القرن الماضي؟

الذي حدث أن كل ذلك أصبح في خبر كان. شعوب انقسمت، وثقافات انحدرت، وحضارات شوهت، وتاريخ تم تزييفه، وارتفعت جدران من الدماء، وانفصمت العري. هؤلاء هم الضحايا، وهذا هو الجرم فأين هو المجرم الذي نتستر عليه؟ الإجابة هي إنه مختبئ في مخبأ آمن، ولا يوجد ملجأ آمن للاختباء والهروب فيه من تبعات هذا الجرم غير الدين، حيث ملاذ محصن بنصوص غير قابلة للاختراق سبق وأنقذت كثيرين من جرائم وموبقات في حق هذه الشعوب، فما أن ترفع راية الجهاد ويزجّ باسم الله زوراً، حتى يصير انشطار، أو ذبح، أو تقسيم السودان ـ وأي وطن ـ هو (لتوحيد القبلة)، ويصير القتل والإبادة والفرز والتمييز والتطهير العرقي، تصير كلها وسائل لنصرة (الله). أي تتحول الجرائم التي تستحق العقاب إلى أهداف مقدسة ثوابها الجنه، ومن يستطيع أن يرفع صوته بعد هذا التبرير، أو على الأصح هذا التغرير، ووقت كتابة هذه السطور يجول السيد الترابي في المحروسة لينقل لنا خبراته في تقطيع أوصال الشعوب، وكيفية تقطيع عراقيب الجوعى إذا ما فكروا في الاعتداء على ممتلكات أسيادهم، وكذلك خبراته في طرق الاستمتاع باحتفاليات جلد النساء في باحات المساجد، وأقسام الدرك بتهمة ارتداء البنطلون، وخبراته الواسعة في تفسخ الشعوب بإرهاب الأعراق بقوانين الجلد، وقطع الأطراف، وجدع الأنوف. القوانين التي صيغت عن عمد ليختار الجنوبيون الانفصال عندما اقتربت عصابة البشير ـ الترابي من التحرش بأجسادهم، وهو في القاهرة الآن لينسق مع حلفاؤه وشركاؤه في تقسيم السودان ينسق معهم كيفية تنفيذ السيناريو في مصر، السيناريو المضمون النتائج وهو البدء بالتحرش بأجساد الأقباط، بعد التحرش بعقيدتهم ورموزهم، وهي القشة التي ستقسم ظهر البعير، فسيطالب الأقباط بكيان مستقل وسيظاهرهم قسم كبير من المصريين، وبالطبع سيهب كثيرون في العالم كله لمناصرتهم كل حسب أهدافه. ووقت كتابة هذه السطور أيضاً يتضور الصوماليون جوعاً، بفضل عصابات اتخذت من الدين وسيلة لبلوغ السلطة، والنتيجة تتحدث عن نفسها على كل الميديا في الكون كله. ملهاه مجانية يعجز أكبر مؤلف للتراجيديا أن يصيغ عشر مشاهدها، عندما يتجسد البؤس والفقر والمرض والجوع موسوماً ومرسوماً، على أجساد شبه عارية شبه ميته ووجوه يغطيها الذباب والبثور، وهي تقف في طوابير طويلة لتستجدي ملئ قبضة أرز من منظمات (الكفرة المشركين) وهي الوحيدة التي هبت لإغاثتهم، ولا نعتقد أنه يوجد غيرهم مؤهلين لهذه المهمة، هذا هو إنتاج حواريو السيد الترابي في أفريقيا، كيف يساق الناس إلى الجنة قطعان بائسة جائعة مريضة عوراتها مكشوفة في مأساة إنسانية بكل المقاييس يندي لها الجبين. والآن وبنفس السيناريو الذي ذبح به السودان وذبح به العراق وذبح به الصومال وذبحت به أفغانستان تجري المشاهد في مصر وبنفس التوالي الزمني يتم إزاحة حاكم ديكتاتور، ثم تنقض النموس المترقبة خلف التلال وتقتنص المشهد ويتم إزاحة الفاعل الرئيس (أي الثوار الحقيقيين) من الساحة إما بسبب إرهاقهم أو عدم خبرتهم، ثم يتم القفز على المشهد كله واحتلاله، ثم تحويل مساره بتغرير العامة والدهماء بشعارات حق يراد بها باطل.

وبدلاً من دكتاتور واحد يسهل إزالته تتحول السلطة إلى مؤسسة دكتاتورية متكاملة محصنة بنصوص (سماوية) وقوانين منزلة لا مجال للاعتراض عليها أو مقاومتها وإلا جاء العقاب الإلهي، ولم يكن متصوراً أن تتقدم اليابان دون أن يتنازل الإمبراطور عن صفته الالهية بعد أن كاد شعبه أن يباد، ولم يكن متصوراً أن تتحد أوربا وتتبوأ مكانتها إلا بفصل الدين عن الدولة، أي فصل المطلق السماوي المقدس عن الأرضي القابل للنقض والاعتراض والتعديل، أي أن الناس أدرى بشئون دنياهم، أي أن يملك الإنسان إرادته وحريته حتى يمكن حسابه عما اختاره بكامل حريته، وليس عما سيق إليه عنوة بالجلد، أي تظل للعقيدة مكانتها السامية بعيدة عن الصراع على السلطة الزمنية الزائلة ومنزهه عن ألاعيب السياسة ومناوراتها.

إن دستوراً واضحاً يحترم العقائد والثقافات لكل أطياف المجتمع لهو الضمان الوحيد لإقامة وطن حر ديمقراطي، دستور تتوافق عليه كل الأطياف ويضمن العيش الآمن للجميع. دستور يضمن مساواه مطلقة للكل ونقول مطلقة، دستور يضمن توزيع عادل للثروة على الكل، دستور يضمن توزيع عادل للسلطة على الكل، وقبل هذا وذاك دستور يضمن الحرية لكل فرد حرية العقيدة وحرية الرأي والتعبير السلمي عنه، دستور ينظم آليات لا التباس فيها لتداول السلطة، دستور يحظر أحزاب طائفية وميليشيات مسلحة، أما الذين لم يدركوا أن القطار تحرك وركبه الجميع، ولم يعد ممكناً إيقافه لإلقاء بعض الركاب من النوافذ، وأما اللذين يعتقدون أن لديهم من الموهبة الفذة للتحايل على إنشاء دستور يقهر قسماً، ولو ضئيل من الأمة نقول لهؤلاء أنكم لم تعوا دروس الماضي ولا دروس الحاضر.