يرى الناقد أن رواية علوية صبح تدور في فلك وعي الجسد لحريته، كتابة سعت بها الروائية للنبش في فردانية الجسد بوصفه هوية ومعنى وليس محض غريزة، كما أنها كتابة إعادة فحص الفكرة المتعالية للرجل في السياق التاريخي والثيمي، مثلما هو فحصه في السياق التخييلي السردي.

علوية صبح في «اسمه الغرام»

الجسد بوصفه سرديات باسلة

علي حسن الفواز

علوية صبح تستعيد قوة الجسد، عبر استعادة لعبته في أن يكون سرداً، وفي أن يكون شغفاً يستنفر الذاكرة والمرآة، إذ تستعيد قدرته على الغواية، وظاهرته الافتراسيّة النقيضة للزمن. هذا المدخل هو إشهار لقراءة مقترحة تفتح مغاليق النص الروائي للكشف عما هو غائر في العديد من المرجعيات النصوصية والوجودية للذات والجسد والتاريخ والقرين.

استعادة الجسد/ الفكرة، والجسد/ الحكاية لا تتقمصها الروائية بوصفها تعبيراً عن مجموعة من الأقنعة السردية لحيوات تعيش في عتمة عالمنا، أو أنها تعبّر عن انثيالات لـ(هذيان) هذه الحيوات وهي مسكونة بطقوس لذتها أو خوفها واعترافاتها، بقدر ما هي مكاشفة واعية لما يمكن أن تتمظهر به (بطولة الجسد) الخبيئة والمهمشة، تلك البطولة التي تمنح الجسد حضوراً صاخباً، يتعالى على مراثي الجسد التاريخي وشيخوخته المفترضة، مثلما تمنحه لغته الاستثنائية (لغة التفاصيل والبوح والتلمس) فهي تزيحه عن مثيولوجيا الخوف والخطيئة إلى ما يشبه سسيولوجيا المشاركة والحميمية، وربما إعادة تأمل تموضعه الهوياتي الذي يستولد عبر ما هو جزئي، نوعاً من القوة العميقة التي تتجوهر فيها كثنائية ذات المرأة الناضجة عبر ما تكشفه في كينونة جسدها الذي (يكبر حبها ويصير ناضجاً وحلواً ومذاقه كالعسل). إذ يمكن لهذا الجسد المتعالي أن يدوّن يومياته الشخصية السرية من خلال شهوته المكشوفة والهاذية عبر ما تستدعي له من شفرات اللغة، وشفرات المرآة، تلك الشهوة التي ترى سيولتها، وتمسّ ارتعاشاتها وحدها بعيداً عن ما كان يتساقط على مرآتها اللغوية/ مرآة الزمن من شقوق التاريخ والتدوين أو وفوبيا الوجه الآخر للسرير والرجل/ الذكر الدي يبدو في الرواية عاجزاً، أو طارئاً، أو هامشياً.

في روايتها الجديدة "اسمه الغرام" الصادرة عن دار الآداب/ بيروت تنزع الكاتبة اللبنانية علوية صبح عبر استدراج زمنها السردي ليكون مقابلاً لزمن واقعي تتعالق فيه مستويات الكشف مع مستويات الاستشهاد عبر استحضار بنيات حكواتية تقوم على فكرة تعدد الشخصيات والأصوات، لكنها تتجوهر في تمثل هوية سردية للأنثى العاشقة، إذ يكون هذا التعالق باعثاً على إنتاج وظيفة تعبيرية لهذه الهوية والتي تحيل إلى نوع من التفاعل النصي كما يسميه سعيد يقطين بين الحكاية التي تخص بطلاتها مع ما ينثال منها من حكايات أخرى ثاوية لعوالم بطلاتها وارهاصاتهنّ للجسد والرجل والحرية واللذة، وبما يمكن أن يمنح الزمن الواقعي/ اليوميات بعداً سردياً مفتوحاً، توظفه الكاتبة في سياق الكشف عن تلك العوالم التي تخص ما هو مسكوت عنه في الحيوات الروائية لبطلات روايتها، إذ أن تلازم الزمنين سيكون هو الباعث أيضاً على اصطناع عوالم صاخبة تفضي للبحث عن الاشباع عبر تجاوز الاحساس بالخواء والعجز، والاندفاع بالمقابل إلى استعادات تعويضية عميقة- نهلة تستعيد حبيبها- عزيزة تكسر رتابة جسدها الشائخ بالنسيان- نادين تستعيد مثليته ظاهراتية سردية إلى الجسد ذاته، بوصفه نصاً قصدياً، تتكشف ملامحه وتفاصيله وعريه، وكأنه يمارس عبر هذه القصدية نزوعاً أكثر استيهاماً نحو تحريره من الوهم الإخضاعي للسلطة، السلطة التي تخص الليالي والتاريخ والشهريار والمثيولوجيا، وأحسب انها وجدت في العنوان الاستذكاري "اسمه الغرام" نوعاً من التبرير الذي يفضي إلى كل هذه الأضحيات، وإلى كل ما هو باعث على استنطاق الجسد الصانع للحكايات بوصفه بطلاً، أو بوصفه هوية، أو ربما بوصفه نصاً اشكالياً يصطنع له حواراً ضاجاً بين الكاتبة وقرائها، أو هو المقابل التعويضي للحوار الأكثر هوساً بين البطلة وعشيقها، أو بين البطلة وظلها الباحث عن اشباعات غائبة.

تضعنا الكاتبة بدءاً أمام زمن الرواية/ الزمن الواقعي/ حرب تموز/ يوليو2006 بكل رعبه ومظاهر موته الخارجية كباعث تأويلي للإشارة لوجود زمن داخلي أشدّ رعباً وأكثر قسوة وفداحة، تصنع له ثيماته وصراعاته ومستوياته النفسية المضطربة عبر أعراض ومونولوجات عميقة، إذ هو الزمن المكشوف على خرائب الروح والجسد والشيخوخة والعطالات، والذي يقود إلى المجاهرة بالكشف عن أحاسيس مضطربة لحيوات تعيش وقائعها بنوع من الرتابة والموت الحسي، والتي تجد في شفرة الجنسية الإشباعية إحساساً عميقاً بالأنوية العميقة للمرأة، والتي تكشف وترى وتستلذ، حيث تتكشف في جوهرها عن شفرات تعبيرية فيها الكثير من التمرد والاحتجاج الرمزيين على عطالة رغبة الجسد البعيد عن أشيائه الصغيرة، مثلما تجد فيها الباعث على كشوفات تمسّ الكثير من تفاصيل اليوميات المهملة والعادية، والتي تتحول إلى يوميات بهيجة، ساحرة، إذ تضعها أمام سرية الجسد غير المكتشف تماماً، مثلما تضع بطلاتها الخمس أمام صدمة الوعي المشبوك إلى أزماته الظاهرة والباطنة في السياق الاجتماعي والثقافي والديني.

صدمة الجسد والوعي، يضعنا أمام الكثير من الأسئلة، خاصة ما يتعلق بتقديم نموذج غير تقليدي للمرأة التي تمنح جسدها قوة حريته التعبيرية، ووعي هذا النموذج إزاء سايكولوجيا التابو الذي تتجاوز حساسيته المرأة باتجاه الاحتفاء بسرية هذا الجسد، باعتباره (البطل) القادر على إعادة مواءمة اللذة كموضوع انساني مع الذات المغتربة عنه، الذات هنا مثال للذات الواعية، لأنها غير معنية بتفريغ النزوات لذاتها، بقدر ما يعنى بتعاليها من خلال حلولها في الجسد الآخر/الشريك عبر شفرة اللذة لتحطيم قيود العزلة والخوف والتابو، وربما الايهام بأن هوية الجسد هي هذه اللذة التي تساكنه بالحميمية والقوة التي تجعله قوياً في حريته ومتوازناً واستعادياً ومتمرداً على شيخوخته وترهله.

في رواية "اسمه الغرام" مجموعة حكايات أو أصوات تصطنع الكاتبة لها ثيمات وصراعات ويوميات وأصوات هي جزء من التركيب السردي، مثلما هي (تحويل دلالي) لما يتمظهر في الكثير من وقائع المسكوت عنه، إذ تبدو هذه الحكايات عادية في ظاهرها، لكن المخيال السردي الشره للكاتبة يجترح لها سياقاً سردياً يتقصى تفاصيلها وسرائرها عبر استغوار أعماق الذات الأنثوية الباحثة عن آدميتها ووجودها وحريتها ولذتها، وبما يمنح هذه الذات الاحساس دافعاً عميقاً لتوهجها وإشباعها وإسباغ يومياتها العادية بنوع من العمق الدرامي، والبناء النفسي الغامر بصراعات واعترافات وأسئلة، إذ تبدو فيها حيوات بطلاتها وكأنهنّ يسعينّ عبر هذه اللعبة إلى كتابة الأشياء المناقضة للموت والعزلة والخواء من وجهة نظرهنّ، مثلما يعبرنّ عن الطابع الاغترابي لمحنة المرأة المعزولة في العالم الذي تحكمه القوة الذكورية الرسمية (السلطة، العائلة، المقدس، النظام الاجتماعي الصارم) والتي تؤنسن مرجعياتها على وفق قوة الأثر والتاريخ والنص، إذ يغيب الإنسان كثيراً هنا، الانسان العاشق، الحالم، الباحث عن حريته وشؤونه الصغيرة، مقابل الحضور الغرائبي للانسان العاجز (جواد)، أو صيّاد الشهوات (بائع الملابس) أو نموذج المثقف الدوغمائي (سليم)، والذي يمكن أن يكون حاملاً لأقنعة المحارب والقاتل والمسيس العصابي، وصانع التابوات والوصايا.

ثنائية الحضور والغياب تبدو في رواية علوية صبح مدعاة لقراءة المستويات الحكواتية في الرواية، ليس بمعناها التقليدي الذي يستعيد الحكاية، بل بوصفها بنيات سردية محمولة على مستويات واقعية كأحداث، ومستويات رمزية استعادية، خاصة لما تثيره هذه المستويات من تعالقات ودلالات ومعان إزاء استقراء نموذج المرأة التي تتمرد على الواقع الاجتماعي والعرفي والديني، اذ تتحول البطلة الى حاكية لسيرة جسدها المفجوع بإرث أنسنته الأفقية التي صنعها لها الزواج والأولاد والاحفاد، مقابل غياب الأنسنة الأكثر هوساً في لا وعيها، أنسنة المرأة الصاخبة المتمردة التي لم تشبع، والتي تجد في استعادة عشيقها لعبة سردية ايهامية، تتأنسن فيها اللغة عبر الاعتراف أو يمكن تسميته بـ(هذيان حمى الرغبة)، فالبطلة نهلا تضع هذا الهذيان وكأنه نصها السري المخبوء في لاوعيها (كان هاني أول من عرّفني إلى جسمي، وجعلني اكتشف كل تفصيل فيه).

الوعي القصدي للكاتبة إزاء ما تصنعه لبطلتها نهلا، هو ما يقودها كما أرى إلى تغييبها عن اللعبة السردية للحكايات، ربما لإدراكها أن دور نهلا قد استكمل رسالة نموذجه الرغائبي المحبط من واقعه، والباحث عن إشباعه عبر استعادة قرينه من خلال شفرة استعادة الرجل الغائب. وربما لأن نموذج نهلا غير القياسي، يضع أنسنة هذه العلاقة أمام اغتراب وجودي وهوياتي، وإذ تضع الكاتبة بطلتها سعاد في السياق الروائي، فإنها تجد فيها نموذجاً آخر، ربما هو أكثر واقعية، وأكثر تماهياً مع اغتراب المرأة المثقفة- أستاذة الفلسفة- إزاء جسدها وإزاء الرجل الدوغمائي الذي لم يعش الهواجس العميقة لحريته وإشباعته إزاء شريكه. هي قد تشبه نهلا في التواتر الحكائي، لكنني أجد أنها مختلفة تماماً، إذ أن سعاد شخصية مركبة من حيث توصيفها السردي، مثلما هي على المستوى النفسي مسكونة بالقلق والخوف وفكرة الخيانة أكثر من نهلا، إذ لم تعش سعاد الاحساس بلذتها الغائبة مع الرجل الآخر/ بائع الملابس المستعملة، والذي ولّد لديها إحساساً نكوصياً بالاحباط، ربما بسبب غياب قصدية الرغبة، وربما بسبب عدمية الشريك الذي لم يشاطرها وعي هذا اللحظة التي عاشت لذتها وإحساسها مثلما عاشتها صديقتها نهلا مع عشيقها هاني. ورغم أن نموذج سعاد في السياق الواقعي هو أكثر يومية وتكراراً، إلاّ أنها ظلت مع ذلك أقل هوساً في التعبير عن الفكرة البطولية للجسد حين يعلن بإشهار عن رغبته، اذ تقول سعاد (هذا الجسم جسمي وليس جسم نهلا، وتأوهاتي ليست تأوهاتها، وجرأتي ليست جرأتها) لكن موت سعاد على سرير نهلا يضع فكرة هذا النموذج إلى موت افتراضي لفكرة البطولة التي جسدتها نهلا، مثلما سعت الى التماهي معها سعاد.

رواية "اسمه الغرام" كتابة في بسالة الجسد، وفي وعي حريته العميقة، تسعى من خلالها الكاتبة للنبش في ذاتوية الجسد بوصفه الهوية والمعنى وليس الغريزة فقط، ولاستقراء مكنونات هذا الجسد عبر إعادة فحص الفكرة المتعالية للرجل في السياق التاريخي والثيمي، مثلما هو فحصه في السياق النصوصي الذي تتشكل هويته السردية عبر توظيف مفهوم المنظور وتبئيراته في تجلية علائق المرأة التي عادة ما يقترحها المنظور السردي كمقابل تعويضي لواقع مهزوم واستلابي، وكذلك عبر التعاطي الاشكالي مع أزمات الحرية والحرب والايديولوجيا والدوغما الفكرية والدينية، إذ تكون كتابة الجسد هي اللعبة الخارقة التي استغرقتها الكاتبة لكي تتلمس حريتها وقلقها واشباعتها عبر التعالقات السردية لهذا الجسد، ولحكاياته واصواته المتعددة ومدائحه الباذخة التي تعيدنا إلى العنوان/ الثريا المحمول على رمزية اضاحيه الغائبين.