تمر اليوم 28 سبتمبر الذكري الواحد والاربعين لرحيل جمال عبد الناصر ومصر تعيش ثورة هائلة أخري هي الأهم منذ قيام الضباط الاحرار بحركتهم المباركة كما أسموها والتي تحولت إلي ثورة تغيير هائل في كافة مناحي الحياة في مصر وفي تاريخ المنطقة، وما أهاج في نفسي الرغبة في الكتابة الآن هو ان أحد أهم رموز فكر هذه الثورة، والتوأم الفكري لمفجرها عبد الناصر، مازال بيننا يملأ الدنيا ويشغل الناس ويمنح عطاء فكريا مميزا لا يضاهيه عطاء على الساحة العربية في الوقت الحاضر، وذلك هو الاستاذ محمد حسنين هيكل. ومن اللافت انه كان بإمكاني على الأغلب أن أتوقف عند كلمة "الاستاذ" دون ان أكمل قائلا "محمد حسنين هيكل" اذ أصبح لقب "الأستاذ" حاليا في مصر، ورغم وجود الالاف من أساتذة الجامعات وخلافه، أصبح لا يعني به سوى محمد حسنين هيكل وحده، وهذا الاسلوب في اطلاق صفة تلخص شخصية الفرد في كلمة واحدة ربما ابتكره المصريون بحسهم التاريخي المرهف وقدرتهم الفائقة على التعبير "بالعامية" عن مكنونات وظواهر سياسية واجتماعية وفلسفية كبرى، ومثل هذا ما فعلوه بإطلاقهم كلمة "الست" على أم كلثوم وحدها، واستخدامهم كلمة "الريس" وحدها لتعني قائد الثورة عبدالناصر، ثم من تلاه من رؤساء ولكن ليس رئيس الوزراء مثلا وهكذا فباستخدام الوسط الثقافي والصحافي في مصر حاليا للقب "الاستاذ" باعتباره يخص محمد حسنين هيكل وحده هو بلا شك اعتراف جميل ومرهف بمكانة هذا الرجل الرمز، وقامته الباسقة على أرض مصر.
يمكن اذن ان يكون احد أساليب الاحتفال المجدي بذكرى ناصر هو الاقتراب أكثر من هذا الرجل الذي كان بلا شك أحد أهم روافد فكر ثورة يوليو، وأحد أهم المؤثرين، والمشاركين، في بلورة ذلك الفكر، ليس فقط عن طريق كتاباته التي واكبت أهم أحداث التجربة الثورية الناصرية، ولكن ايضا عن طريق علاقته المميزة بجمال عبدالناصر، على المستويين الفكري والشخصي معا، بما يمكن أن نقول معه ان أكثر الناس اقترابا من فكر عبدالناصر على الاطلاق هو محمد حسنين هيكل، وان علاقة "الريس" بـ "الاستاذ" هي علاقة لا مثيل لها ليس فقط في البلاد العربية، بل لا أعرف مثيلا لها في أي مكان آخر، وهي بالتحديد العلاقة الفكرية والشخصية الخاصة جدا بين قائد ثورة أحدثت تداعيات عالمية هائلة، وبين مثقف ومفكر وصحفي ارتفع ليكون هو المحاور الخاص، أو المرآة الفكرية الخاصة، التي يمكن لهذا القائد ان يفتح لها عقله وقلبه ليرى نفسه فيها بشكل أعمق، أو ليتعرف من خلال التواصل هذا على جوانب خافية من مكنون فكره وذاته.
هذه العلاقة بين زعيم سياسي وبين مفكر وكاتب صحفي، بالشكل الحميم الذي كانت عليه بين "الريس" و"الاستاذ" لا نجد لها مثيلا واحدا في أي من البلاد العربية، فإذا نظرنا الى الغرب، نجد انه حتى في حالة الرئيس الأمريكي جون كنيدي، الذي أحاط نفسه بمجموعة من المفكرين والمثقفين، مثل استاذ الاقتصاد الشهير جون كينيث جالبريت، انه حتى في هذه الحالة لم تقم مثل هذه العلاقة المميزة الحميمية الفريدة بين "السياسى" و"المثقف". ولا اعتقد انه من المبالغة ان نقول ان محمد حسنين هيكل هو "فيلسوف" ثورة يوليو، وهو الذى كتب "الميثاق" الذي كان يدرس في المدارس باعتباره "انجيل" الثورة حسب التعبير الغربي، أو "قرآنها" اذا عربنا التعبير، رغم ان من أهم مميزات ثورة يوليو انها لم تتشح بعباءة الدين ولا حاولت استغلاله أو توظيفه أو التحدث باسمه، كما حاول ويحاول الكثير من الحكام العرب والأجانب وليس آخرهم الرئيس "المؤمن"! محمد أنور السادات، فقد كان اتجاه الثورة قوميا عربيا مدنيا تحرريا، يحترم الدين ولكن من على مسافة تضمن عدم الخلط وعدم التدخل.
والذين يحسدون محمد حسنين هيكل من أجل "الظروف" أو "المصادفة" التى وضعته فى طريق عبدالناصر لكي يصبح محاوره الفكري يظلمون الرجل ويبخسون الموهبة حقها، فطريق عبدالناصر كان مليئاً بآخرين لكن لم يتمكن أى منهم احتلال مكانة تقترب ولو من بعيد من مكانة هيكل .. والذين يمنحون عبدالناصر فضل "صنع" هيكل أو خلقه، ليس عليهم سوى النظر في مكانة هيكل الآن، وبعد ثلاثين سنة من موت عبدالناصر، ليجدوا كيف أن هذه المكانة قد ازدادت ولم تنقص، اذن هو هيكل الرجل والعقل والموهبة الذي صنع من هيكل من هو، ولذلك وجد فيه عبدالناصر بذكائه الفطري مفكرا ومحللا يستفاد من فكره ويمكن الاعتماد على شعلة موهبته. أما الذين ينظرون بشك وريبة، بل والاتهام، الى كل علاقة بين مثقف بارز وبين القائد السياسي، على أساس أنها لابد أن تتضمن قدرا من "بيع النفس" وتضحية من المثقف بالمبادئ ارضاء للحاكم لضمان الاستمرار فى التمتع بموقع القرب المميز منه، فما على هؤلاء سوى النظر الى ما حدث بعد عبدالناصر، من علاقة بين هيكل والسادات، فلو كان هيكل ممن يريدون الاقتراب من القائد السياسي الأعلى بأي ثمن، لما كان أسهل عليه اجراء بعض التعديلات على مواقفه الفكرية واتجاهاته الأساسية لكي تواكب مواقف السادات، وبالتالي كان يمكنه البقاء في مواقع النفوذ العليا بمصر .. لكن اختلاف الرجل مع السادات بعد ذلك على أثر حرب 1973 وقرار السادات الانفراد بالحل السلمي مع اسرائيل، وما دفعه من ثمن مقابل هذا الاختلاف، من سقوطه من أعلى مواقع التأثير والنفوذ لينتهي مع كوكبة كبيرة من رموز مصر الفكرية والسياسية والدينية وقتها في غياهب سجن طرة، ولا شك ان هذه كلها تكشف لنا عن معدن مختلف في هذا المفكر البارز الذي اختار أن يعمل بتعاليم أفلاطون "ينبغي لنا ان نحترم الحقيقة أكثر من الرجال" ولذلك اختلف في أدب وتعقل وليس في تهور وصراخ، مع الرئيس السادات، مضحيا بذلك بكل أضواء المركز والنفوذ والسلطة.
ويكفي تأكيدا لتفرد هيكل وتميزه عن بقية الكتاب والصحفيين العرب النظر الى مكانة الرجل عالميا، ككاتب تتلهف على نشر آرائه دور النشر في أوروبا، بل وفي اليابان، وهو على حسب علمي ما لم يحدث لكاتب عربي آخر، وايضا كمفكر سياسي يحرص عدد كبير من ساسة العالم ومفكريه في الغرب على استمرار التواصل معه والالتقاء به، رغم ابتعاد هيكل عن مواقع النفوذ الرسمية في مصر من أكثر من ثلث قرن، وهو تأكيد على أن الرجل لم يكتسب أهميته ونفوذه من منصب سياسي منح له، ولكن من فكره وموهبته وقدراته وحدها، استمرار نفوذه الفكري الكبير رغم تجريده من المناصب الرسمية بل ومن القاعدة الصحفية التي يمكن له ان يستند إليها ليكتب وينشر، ولو كان محمد حسنين هيكل صحفيا وكاتبا غربيا وله مثل هذا النفوذ والمكانة لكانت مقالاته قد ظهرت في عدة مئات من الصحف في نفس الوقت، حسب نظام الكاتب "السيندكيت" المتعاقد مع مجموعات نشر متعددة تنشر له نفس المقال في نفس الوقت، مثل الكاتب "وليام بكلي"، مثلا، وهو الكاتب المحافظ الشهير صاحب أحد أقدم برامج الحوار الفكري التليفزيونية وهو "خط النار فايرنغ لاين" وصاحب ورئيس تحرير احدى أهم المجلات السياسية المحافظة بأمريكا "ناشيونال ريفيو". ورغم نفوذ بكلى وتأثيره الفكري خاصة داخل الدوائر المحافظة والحزب الجمهوري بأمريكا، إلا انه حتى هذا لا يمكن أن يقترب من مكانة ونفوذ هيكل، ومن الدور الذي قام به كفيلسوف لثورة يوليو، وفي عهد الرئيس المخلوع مبارك كنت تسعى جاهدا حتى تجد مقالا واحدا لهيكل في أية صحيفة مصرية.
فاذا لم يكن عبدالناصر، ولا الثورة، ولا الظروف، ولا الموقع، هي أسباب تميز ونفوذ هذا الرجل الفذ، وانما كان هذا كله نتيجة عقل وموهبة الرجل، فما هي أهم ملامح ومقومات هذا العقل الذي مكنته من اكتساب هذا كله، ليس هنا مجال بحث طويل في هذا المجال أرجع فيه لأهم ما كتب هيكل من مقالات إبان سنوات الثورة ومن كتب هامة بعدها، وان كان الرجل بلا شك يستحق مثل هذا البحث الذي يمكن ان يثمر فوائد كثيرة للمهتمين بقضايا السياسة والثقافة والعلاقة بين الاثنتين، وايضا المهتمين بأساليب التفكير والتأثير والاعلام، بل وباللغة وعلاقتها بالفكر، فكتابات هيكل هي أرض خصبة تطرح نباتاته كثيرة في كافة هذه المجالات. ولكني سأستخدم معرفتي بما كتبه هيكل من مقالات وكتب منذ الستينيات حينما بدأت اقرأ له والى الآن، مع اعترافي ان معرفتي هذه ليست شاملة لكل ما كتب .. وبالطبع ليس هدفي هنا تقديم آراء هيكل نفسها فهذه موجودة في مقالاته ومقابلاته، ولكن هدفي هو القاء الضوء على المميزات العقلية في أسلوب التفكير "الهيكلي" نسبة لهيكل التي جعلت آراءه هذه ذات أهمية ونفوذ لا تضاهيها آراء اقرانه المعاصرين.
لقد نشرت جريدة الأهرام - التي أحياها هيكل من الموت حين رأس تحريرها في الخمسينات - في هذا الشهر حديثاً مطولاً علي ثلاثة أجزاء لهيكل عن ثورة يناير أثبت فيه من جديد أنه مازال متفرداً في قدرته علي الرؤية السياسية الاستراتيجية الثاقبة، ولكني لكي استشرف أسلوب هيكل في التفكير سأعود إلي مقابلتين نشرتا منذ سنوات منحهما هيكل لصحيفتين مصريتين، واحدة أجراها الكاتب والاعلامي الشهير مفيد فوزي ونشرت في مجلة "نصف الدنيا" ثم في جريدة "الاهرام" والاخرى نشرت في "الاسبوع" عن لقاء أجراه أربعة من كتابها هم عبدالرحمن الأبنودي وجمال الغيطاني ويوسف القعيد ومصطفى بكري .. وفي الحوار مع مفيد فوزي سأله فوزي: مقالاتك المعنونة "بصراحة" كنا نقرأ فيها كف الدولة .. وأظن أن المعلومات التي كانت عند اطراف أصابعك ساعدتك على صياغة مضمونها بأسلوب أخاذ، والسؤال هو ما أهمية المعلومات في حياة الصحفي؟ وقد رد هيكل قائلا: "أخشى ان ينظر البعض للمعلومات على أنها كيس لب أو فزدق تأخذ منه بسهولة، فكل معلومة في حد ذاتها لا تساوي شيئا، لكن كل معلومة داخل نسق فكري تكتسب قيمتها .. ما يفرق شيئا عن شيء اسمه "النسق" .. فالمعلومة مثل السمك لا قيمة لها خارج مياهها وهي النسق الفكري".
وعندما يقاطعه فوزي متسائلا: هل كنت يا أستاذ هيكل تضع هذه المعلومات أمام الرئيس جمال عبدالناصر، صانع القرار، يتضايق من السؤال كما كتب فوزي ويقول: كأني فشلت ان أشرح لك معنى المعلومات! انت بسؤالك حولت المعلومات وكأنك بتطلع من جيبك مجموعة أشياء! وجمال عبدالناصر صديق اعتز به جدا، وأحترمه جدا، وأقدره الى أبعد مدى، وأقدر أيامي معه وعلاقتنا لم تنشأ بأني عرفته كصحفي، ولا اني عرضت عليه شيئا، ولكن حين قامت الثورة وبدأ هو دوره العام كنت أقرب الناس إليه بالحوار والمشاركة بالحوار". يلقي هذا الحوار ضوءا على احدى أهم خصائص أسلوب التفكير لدى محمد حسنين هيكل، وهو التفكير "السستماتيك" أى المنظومي أو المبني على أساس نظام متكامل، وهو تفكير ينظر الى "الكل" كمدخل لفهم دور وموقع ومعنى "الجزء" ولا يرى للجزء معنى سوى في موقعه داخل "الكل" أي داخل النظام المتكامل للأشياء، وهذا الأسلوب في التفكير له بساطة خادعة، اذ انه أصعب منالا مما يتراءى للوهلة الأولى، ولا يمتلك ناصيته الفرد تلقائيا، اذ إن الفرد يميل الى الانشغال برؤية الشجرة التي أمام وجهه، فتعميه عن رؤية الغابة، كما ان الانشغال بالشجرة عن الغابة ينسجم مع طبيعة الانسان في الشرق بشكل عام وفي البلاد العربية بشكل خاص، حيث ان العلاقة بالشجرة تظل علاقة فردية يمكن أن تكون حميمة، بينما تظل العلاقة مع الغابة علاقة ذهنية بحتة، تحتاج إلى مخيلة وقدرة تجريدية تتمثل النظام الشامل دون رؤيته بالضرورة، ويمكن القول بشكل عام ان العقل العربي يميل الى حميمية وفردية فكر الصدفة والمعجزة، الذي يقوم فيه الفرد بدور البطل أو المخلص أو المنقذ أو الزعيم أو الصديق الحميم أو رب العائلة أو شيخ القبيلة، الذي بيده التدخل لصنع الخير أو الشر لصالح الفرد أو ضده. ويمكن أن توصف هذه العقلية ايضا بالعقلية السحرية، وهي لا تستطيع أن تتخيل نظاما معقدا شاملا يحكم جزئيات الأشياء، ولا تحبذ هذا النظام لأنها تراه بارداً ميكانيكياً مجرداً من العاطفة وهي التي تريد الاحتماء في دفء المشاعر المتبادلة مع الفرد الآخر.. ولذلك تفشل جميع أنظمة المرور في كافة البلاد العربية، وكذا النظام بشكل عام. أما محمد حسنين هيكل فيتميز عن الفكر الشائع بين المثقفين والعامة على السواء في مصر والبلاد العربية بامتلاكه ليس وحده بالطبع ولكن معه نخبة قليلة جدا ومميزة من المفكرين العرب بعقلية شمولية تنشغل بالنظام الكلي وتراه في كل شيء حولها .. وتريد أن يكون لكل شيء نظامه المتكامل المنطقي، هذا النظام، أو "الهيكل" هو الذى يميز العقلية "الهيكلية" عن العقلية السحرية.
ومن الطرافة انه يمكننا استخدام هذا التعبير "الهيكلية" استنادا الى "هيكل" كنظام، وكاسم الكاتب في هذه الحالة ايضا ولذلك نجد هيكل يجادل فوزي ويوبخه على تصوره أن للمعلومة أهمية خاصة خارج منظومة السياق المحيط بها، ولذلك أيضا تقرأ كتابات هيكل فتجد أن كل حدث هو جزء من مجموعة متشابكة من الأحداث تشكل استراتيجية متكاملة لدى هذا الطرف أو ذاك، وهذه العقلية "الهيكلية" تعتمد كثيراً على توثيق الوقائع لكي يمكن الاستناد إليها كحقائق وليس كآراء، وهو فارق لا تعيه جيدا ولا تلتفت له العقلية السحرية، وتقرأ هيكل فتجده ينظر نظرة شامله الى العالم ككل متكامل، ليصل منه الى موقع مصر وموقع العرب، ويكاد هيكل أن يكون كل تفكيره تفكيراً استراتيجيا، ولا ينظر الى أي قرار أو حدث تكتيكي إلا في اطاره الاستراتيجي، وكان هذا هو جوهر خلافه مع الرئيس السادات، فبينما ركز السادات فكره على مصر وحدها ظل هيكل ينظر الى مصر باعتبارها قلب الأمة العربية وظل ينظر الى الأمة العربية باعتبارها تمتلك قومية تمكنها من لعب دور هام في ديناميكية الصراعات العالمية.
وقد كان هذا هو أهم دور له كفيلسوف للثورة المصرية من قبل، اذ ساهم بهذا الفكر بدون شك في بلورة مفهوم دول عدم الانحياز، وهي فكرة ثورية في وقتها، كان العالم مستقطباً بشكل كامل بين المعسكرين الشرقي الاشتراكي والغربي الرأسمالي، حتى ظهر عبدالناصر ومعه تيتو يوغسلافيا ونهرو الهند منادين بعدم الانحياز، وهي فكرة استراتيجية بالغة الأهمية في ذلك الوقت، وهي التي مكنت كافة الدول المستعمرة بفتح الميم الثانية من الحصول على حريتها، وقد كانت هناك بعض الاجتماعات في تلك الفترة بين عبدالناصر وتيتو مثلا، أو عبدالناصر وخروتشوف الرئيس السوفيتي وقتها، لا يحضرها مع الرئيسين من مصر سوى وزير الخارجية المخضرم د. محمود فوزي ومحمد حسنين هيكل، ويوضح هذا بلا شك المدى الذي وصل إليه هيكل كفيلسوف ومنظر الثورة المصرية واستراتيجية عدم الانحياز التي كانت هي رائدتها.
وتقرأ لهيكل اليوم فتجده مخلصا لتفكيره "الهيكلي المعتمد على الحقائق أولا ثم على اكتشاف النظام المتحكم في هذه الحقائق باعتباره المدخل الوحيد لإمكانية التأثير على الواقع، وفي حواراته يمكنك رؤية العقلية الهيكلية علمية منطقية، فهي تعيد ترتيب وتحديد كل سؤال قبل الاجابة عنه، انه ذلك العقل بالغ الدقة والنظام والترتيب الذي يمنح كتابات هيكل تميزها وقيمتها .. فبينما ما يزال يغلب على ما ينشر بالعربية أسلوب التفكير السحري الاعجازي الذى يعتمد الفرد أو الحادث باعتباره قائماً بذاته وراجعا لفاعله أو لصدفة أو لقوى غيبية خفية تحيك المؤامرات غير المفهومة لنا، يكتب هيكل بأسلوب أفضل العقليات الرصينة بين كتاب العالم اليوم حيث الرؤية شاملة واستراتيجية والاسلوب علمي موضوعي يعتمد الوثائق والتحليل المنطقي .. ويفعل هذا في النهاية بلغة عربية مميزة ومهيبة، لها جمال وبهاء النسق المتماسك كالمعمار الباسق فيما هي أيضاً لغة ذات جماليات أدبية وشعرية مفعمة بالحس العربي المرهف والثقافة الانسانية الراقية.
رغم شهرة ومكانة هيكل حاليا بين قراء العربية، فمن المؤكد انه لو كان هيكل كاتبا بالانجليزية لكانت له الآن مكانة عالمية فريدة، ان كتاباً مثل "صراع الحضارات" لصمويل هامنغتون والذي أقام الدنيا وأقعدها لا يعد شيئا فكراً وأسلوبا بالقياس الى أي من كتب هيكل، ان كاتبا مثل توماس فريدمان، الكاتب الشهير بـ "النيويورك تايمز" والذي زار مصر فتهافت لمقابلته عدد كبير من المثقفين المصريين، لا يضاهي هيكل على الاطلاق، بل لا يكاد يقترب من موهبته الفكرية والتعبيرية، ولا يمتلك أدوات هيكل الفذة من عقلية استراتيجية وفكر ابداعي ولغة محكمة حكيمة، بصيرة بعيدة المدى، وشجاعة أدبية وترفع بين أقرانه القليلين عن التكالب على مئات المزايا اليومية ونزاع الحياة الثقافية المصرية.
فتحية من وراء المحيطات الى فيلسوف ثورة يوليو الذي كتب ميثاقها وتراثها السياسي والفكري منذ أكثر من نصف قرن وهو يساهم بفكره المتجدد في حمل هموم وأحلام ثورة يناير الشابة الواعدة اليوم.
كاتب من مصر يقيم في نيو يورك