أود هنا كالعادة إشراك قراء (الكلمة) في تأمل بعض ما شاهداته هذا العام في مهرجان آفينيون المسرحي الذي اهتم بالربيع العربي من ناحية، وبما يمكن تسميته بأزمة الضمير الأوروبي من ناحية أخرى، وأحب هنا أن أعرض عليهم بعض استقصاءات هذا العام الأوروبية، ورؤاها التجريبية الشيقة، بعدما كتبت عن تناوله للربيع العربي في منابر أخرى. لأن إضافات المهرجان الأوروبية من أهم ما يقدمه هذا المهرجان كل عام. لأنه كما قلت أكثر من مرة مهرجان أوروبي في المحل الأول. يهتم بأن يجلب إلى ساحته أبرز إنجازات المسرح الأوروبي في العام المنصرم، أو يشارك في صياغتها، ووضعها في فضاءاته المميزة. حيث استطاع المهرجان عبر سنوات عمره الطويلة (65 سنة) أن يخلق نوعا من التراتب في فضاءات العرض المسرحي المختلفة المتاحة له. فجعل الفضاء المميز في ساحة الشرف بالقصر البابوي، هو فضاء الشرف فيه. ليس فقط لأنه فضاء تاريخي مهيب في مبنى يعود إلى القرن الرابع عشر، ولكن أيضا لأنه أكبر فضاءات المهرجان من حيث سعته، حيث يسع ألفي متفرج. ولذلك لابد لمن يعرض فيه أن يكون قادرا على غواية هذا العدد الكبير من الجمهور كل ليلة، ولعدة ليالٍ متعاقبة، مع ارتفاع ثمن تذاكره عن بقية تذاكر عروض المهرجان الأخرى (حيث يبلغ ثمن التذكرة فيه 38 يورو، في حين أنها 27 يورو في الفضاءات الأخرى). ويليه من حيث المكانة «مسرح الأوبرا» في قلب المدينة، وهو من طراز مسارح القرن التاسع عشر التقليدية، ويسع ألف متفرج، وهي نفس سعة فضاء غريب آخر، وفي قرية قريبة من آفينيون هي قرية بلبون، هو فضاء «محجر بلبون» والذي لم يكن إلا هوة خالية خلفتها عملية التحجير في هذا المحجر، وأصبحت مهاويها لا تقل مهابة عن جدران القصر البابوي. واكتسب هذا الفضاء أهميته منذ اكتشفه بيتر بروك قبل ما يقرب من عشرين عاما وعرض فيه مسرحيته الشهيرة المأخوذة من ملحمة (المهابهاراتا) الهندية. ثم تتتابع بعد ذلك الفضاءات. ولذلك أحرص على مشاهدة العروض التي يختارها المهرجان للعرض في هذه الفضاءات الثلاثة، وإن كانت مشاهداتي لا تقتصر عليها بأي حال من الأحوال.
أزمة الضمير الأوروبي:
(أزمة الضمير الأوروبي) هو عنوان كتاب شهير لبول هازار، حرص طه حسين على تقديمه ضمن مطبوعات مجلته الرائدة (الكاتب المصري) عام 1948 وترجمه جودت عثمان، ومحمد نجيب المستكاوي، وكان من أهم الكتب التي كونت وعي جيلنا بالنقلة الحضارية والعقلية وبالتالي الضميرية التي انتابت الحضارة الأوروبية، والحضارة الإنسانية معها. ولا أريد هنا أن اكتب عن هذا الكتاب المهم، وإن كنت أود أن أحث القراء على البحث عنه وقراءته، وخاصة في هذه المرحلة الحرجة التي تعيشها مصر بعد ثورتها النبيلة التي تنهشها المؤامرات من كل صوب. ولكني أريد أن أستخدم عنوان هذا الكتاب المهم بمعناه المباشر الذي يستدعيه أول الأعمال المسرحية الأوروبية الخالصة والمشغولة بهم أوروبي خالص أيضا، فقد تذكرت معه كشوف هذا الكتاب ومقولاته القيمة بعدما شاهدت هذا العمل، ألا وهو عمل المسرحي الإيطالي روميو كاستيلوتشي Romeo Castellucci الرائع والمثير للتفكير، والذي يحمل عنوانا لا يقل بساطة وتعقيدا (حول مفهوم الوجه بالنسبة لابن الرب Sul Concetto di Volo Nel Figlio di Dio). وقد حرصت على مشاهدة عمل كاستيلوتشي، وهو من أبرز مخرجي المسرح الإيطالي المعاصرين بعد الراحل الكبير جيورجيو ستهلر Giorgio Stehle، الذي حول المسرح الصغير في ميلانو إلى أحد أبرز المعامل المسرحية في العالم. فقد شاهدت عام 2008 عمل كاستيلوتشي المبهر، الذي مسرح فيه (الجحيم) القسم الأول من (الكوميديا الإلاهية) لدانتي، والذي استضافه المهرجان في ساحة الشرف بالقصر البابوي. وظلت بعض مشاهد هذا العرض عالقة في ذهني رغم مرور عامين: مشهد افتتاح هذا العرض بثلاثة كلاب حقيقية تنقض على رجل وتنهشه أمامنا على الخشبة ولا تتركه إلا مضرجا في دمائه، ومشهد الممثل الذي تسلق حائط القصر البابوي الذي يزيد ارتفاعه على أربعين مترا، وقد حبس انفاس الجمهور الذي يتصور تهاويه مضرجا في دمه في أي لحظة. لكنه آثر أن يعرض عمله هذا العام (وهو عمل شاركت في أنتاجه أربع دول أوروبية هي النرويج التي عرض فيها أولا، وبريطانيا، وفرنسا التي جاء به إلى مهرجانها العتيد هذا، وإيطاليا بالطبع) في (مسرح الأوبرا) لأنه في حاجة إلى مساحة مغلقة، ومسرح تقليدي يتمكن فيه من التعامل مع حواس السمع والشم والبصر. فكاستيلوتشي مغرم بالقوة الجسدية أو الحسية للمسرح، وهو من التلاميذ القلائل في المسرح المعاصر لمسرح القسوة لأنتونين آرتو، والذين يؤمنون بأن على المسرح أن يكون المرأة القاتمة لوجودنا، والقادرة على أن تصدمنا، بل تزلزلنا وتخرجنا من دعة الاستنامة لما اعتدنا عليه. فالمسرح عنده مرصود للتعامل مع الأسئلة الكبرى، أسئلة الوجود بالمعنى الفلسفي للكلمة. ولابد أن يعي القارئ العربي أن المسرح الأوروبي خاصة قد تغلب كلية على كل المحرمات التي تكبل انطلاق المسرح العربي إلى سماوات الإبداع الحقيقي. فليس ثمة أي محرم، بما في ذلك المحرم الديني يمكن أن يعوق طرح المسرح لأسئلته الكبرى علينا.
والواقع أن مسرحية كاستيلوتشي (حول مفهوم الوجه) هي أكثر المسرحيات التي شاهدتها في مهرجان هذا العام بساطة وتعقيدا وفلسفية في آن. لأنها تطرح بعض الأسئلة الجوهرية التي يواجهها الإنسان الغربي في هذا العصر. أسئلة حول طبيعة الله نفسه، ومدى مسئوليته عما يدور في العالم من أخطاء وشرور، وهي أسئلة لم يطرح الأدب الأوروبي على نفسه بهذه الجرأة وبهذا العمق منذ القسم الخاص برئيس محكمة التفتيش في رائعة دوستويفسكي (الأخوة كرامازوف). فعلى المستوى السطحي والمباشر، نجد أننا بإزاء مسرحية لا يقال فيها الكثير، فقد قدم كاستيلوتشي مع البرنامج نص المسرحية، والذي يتكون من ورقة واحدة كتب عليها كل الحوار الذي يدور في المسرحية مترجما للغة الفرنسية. ولا يخرج الحوار عن عدة جمل تدور بين الابن وأبيه من نوع: لا ليس الآن! هل فعلتها ثانية؟ فيرد الأب آسف، ويقول الإبن لا ليس مرة أخرى، ويرد الأب آسف، ليس بوسعي السيطرة عليها .. وهكذا. لأننا بإزاء مسرح يتقلص فيه الحوار إلى أقصى حد، حد التقتير بالكلمات، ويعتمد على الحركة، وعلى التعامل مع الحواس المختلفة، وعلى لغة الصمت معا. وتبدأ المسرحية بمشهد بالغ البساطة والجمال والعصرية معا، يسيطر عليه اللون الأبيض كلية، وكأننا في عالم من النقاء والبراءة. وينقسم فضاء الخشبة إلى قسم على اليمين يمكن اعتباره غرفة نوم بها سرير خشبي عصري أبيض، ومفروش بملاءات ومخدات بيضاء؛ وآخر على اليسار لغرفة معيشة حديثة بها كنبة بيضاء، وكرسي وثير بمسندين أبيض، ومنضدة بيضاء عليها تليفزيون حديث من النوع الرقيق، في أحد البيوت الأوروبية العصرية التي تتسم بالذوق والبساطة. وفي خلفية المشهد نرى صورة كبيرة (عشرة أمتار في سبعة أمتار) لوجه المسيح تسيطر على المشهد كله، مأخوذة عن واحدة من أشهر صورة، ألا وهي تلك التي رسمها أنتونيللو دا ميسينا Antonello da Messina في القرن الخامس عشر. وحينما ندخل إلى المسرح يكون المشهد مضاءا، وصورة المسيح تسيطر عليه كلية، فهي الوحيدة الملون، بينما كل شيء عداها باللون الأبيض.
وحينما تبدأ المسرحية يأتي عاملان من عمال المسرح في ملابسهم السوداء بعجوز بلحية بيضاء، في روب أبيض، ضعضعته الشيخوخة والخرف، ويسندانه حتى يجلسانه على الكنبة البيضاء أمام التليفزيون. ويجلس أمامنا صامتا لوهلة، يشاهد شيئا في التليفزيون الصامت، لأنه يضع سماعات الصوت في أذنيه. ثم يدخل ابنه وقد ارتدى بدلة سوداء أنيقة، على قميص أبيض، وربطة عنق، بيده تليفونه المحمول ويستعد للذهاب لعمله، ويريد أن يطمئن على والده قبل الخروج. ويناديه: بابا! لكن الأب لا يرد، فيقترب منه ويرفع عن أذنيه السماعات التي كان ينصت لها، وكأنه في عالم مغلق. ويصب له كوبا من الماء، يقطر فيه بعض قطرات الدواء، ثم يجهز له حبوب الأدوية التي عليه تناولها قبل خروجه، ويعطيها له. فيأخذها الأب ويشرب بعدها الماء. ويهم الابن بالخروج، ولكن الجمهور يبدأ في شمّ رائحة كريهة أطلقها عليه المخرج؟ وكأنما يطرح عليه بها أول تساؤلات المسرحية، هذا عالم أبيض جميل نظيف، فمن أين تأتي الرائحه القذرة؟ ثم يسمع الأبن وقد هم بالانصراف توجعات أبيه، وقد أمسك الأب ساقه. فيعود إليه الابن ويسنده كي يأخذه للحمام، وعندما يستدير الأب ويعطي ظهرة للجمهور نرى بقعة بنية كبيرة في مقعدته، فقد غاط على نفسه، وهذا هو مصدر الرائحة الكريهة. وفي منتصف غرفة المعيشة يقف ويطلق لما بقي في أمعائه العنان، فينزل أثره على ساقه وعلى أرض الغرفة. حينها يطلق المخرج أيضا رائحة كريهة ليكمل التأثير الواقعي للمشهد، ويجعله يتخلل حواس المشاهدين. ويخلع الابن جاكتته، ويأتي بقفاز من البلاستيك يلبسه في يديه، وجردل ماء وإسفنجة، ويبدأ بتؤدة، وبصبر وتحنان في خلع ملابس والده الملوثة قطعة قطعة، ووضعها في كيس من البلاستيك، وتنظيف جسده الملوث باسفنجة مبللة، من إليتيه إلى ساقيه، أمامنا على المسرح في فعل طقسي بطيء يستغرق عدة دقائق، ينظفه فيها تماما، ويضع له حفاضة نظيفة من حفاضات الكبار. ثم يلبسه ملابس نظيفة ويجلسه في مكانه من جديد، بعد أن وضع منشفة نظيفة على الكنبة، كي يداري بها أثر فعلة الأب الأولى عليها.
هل فسد العالم وتلوث للأبد؟
يحدث هذا كله دون حوار، اللهم تلك الكلمات الروتينية البسيطة، بابا لا عليك! بابا هات يدك كي ينظفها له، وهكذا. وبعدها ينفجر الأب في بكاء خفيف، ويخفف الابن عنه، وهو يزيل كل آثار ما فعله، ويضع كل الملابس القذرة في كيس، يأخذه للخارج، ويجيء بممسحة يمسح بها الأرضية. وبينما ينظف الأرض، وينقل أباه من مكانه ليمسح ما تحت قدميه، نكتشف أن الأب فعلها من جديد. ويتكرر مشهد تنظيف الأب، وتغيير ملابسه من جديد، بنفس التؤدة والتحنان والصبر، في نوع من التذكير بأن الدراما منذ توصيف كينيث تاينان لمسرحية بيكيت (في انتظار جودو) بأنها مسرحية لا يحدث فيها شيء مرتين، تتطلب أن يحدث الشيء مرتين كي تتأكد دراميته. هكذا يدور أمامنا فعل خلع ملابس الأب وتنظيفه، وتلبيسه ملابس نظيفة ناصعة البياض من جديد، ثم يأتي الإبن بممسحة، ويمسح الأرض، ويجمع الملابس الملوثة من عليها، مرة ثانية. ففي حضور الوجه، وجه المسيح، يتحول فعل تنظيف الأب إلى صلاة من نوع ما. ولكن ما أن يحدث الفعل للمرة الثالثة، حتى ينفد صبر الابن، ويبكي هو الآخر كما يبكي أبوه، وكأن ما شاهدناه كان اختبارا في المجالدة. فيجلب كرسيا متحركا، يضع عليه الأب، ويذهب به إلى سريره، الأبيض الناصع البياض، يجلسه عليه، ويذهب لإحضار منشفة كبيرة، ولكنه ما أن يعود بها حتى يجد الأب قد لوث السرير وهو جالس على حافته وقد أخذ وسخه ينز عليه، فيتجه الابن إلى صورة المسيح يناجيها في صمت، بينما يضع الأب الجالس على حافة السرير رأسه بين يديه، ويبقى هناك جامدا حتى نهاية المسرحية. وكأن السرير قبر من نوع ما. ويغرق المسرح في لحظة صمت كأنه صلاة من نوع خاص.
ويجيء عمال المسرح ليزيلوا كل الأثاث من على الخشبة البيضاء، ولا يبقى عليها سوى السرير الأبيض والأب الجالس على حافته. وآثار الوسخ وعلاماته العشوائية التي خلفتها آثار عدم قدرة الأب على السيطرة على نفسه، وخاصة في منطقة حجرة النوم، وكأنها لوحة تجريدية عبثية. أما القسم الآخر الذي احتلته حجرة المعيشة التي أزيلت، فيظل فارغا للحظة. ثم يجيء مجموعة (تسعة) من الصبية الصغار، واحدا واحدا، أو واحدا واحدة، في أيقاع بطيء، وعلى ظهر كل منهم حقيبة، يضعها بجواره على الأرض، ويجلس قرب حافة الخشبة الأمامية وظهره للجمهور، ثم يبدأ الصبية في إفراغ حقائبهم واحدا بعد الآخر وبنفس الإيقاع الطقسي، فنجد أن بها قنابل يدوية، ينزعون فتيلها بأسنانهم، ويلقونها بكل قوتهم على صورة المسيح التي تسيطر الآن كلية على المشهد وقد جعلتها الإضاءة تتوهج مع إلقاء القنابل عليها، تصطدم بها كل قنبلة ثم تسقط على الأرض في قعقعة خاصة ومتتالية، ولكن برغم كثرة ما يقذفونها بها، وبرغم وقوع الكثير من القنابل عليها، فإنها لا تتأثر إطلاقا، بعبث الأطفال هذا، حتى ينهي الصبية كل ما معهم من قنابل ويذهبون فرادى أو جماعات كما جاءوا.
ويغرق المسرح في الصمت من جديد. يقوم أثناءه الأب من على سريره ويمضي بتؤدة حافيا ويغادر المسرح هو الآخر، وتبدأ صورة المسيح في التغير، وكأنها تبكي بدموع سوداء تنساب على سطحها، وكأن سحابة سوداء أو مجموعة من الكدمات بدأت تحط عليها وتنوش أطرافها، وقد أخذت حركة تدميرية تنتابها من الداخل، ونشعر بحركة شخوص خلفها، خاصة وأنها قماشها من النوع المطاطي، وكأنهم يمزقونها، ويحدثون قطوعا فيها، ثم ينساب أحدهم داخلها من خلال موضع الفم في الصورة. ثم تأخذ الصورة تحت وقع هذا التدمير الداخلي في الاسوداد تدريجيا، والتمزق من الداخل، وهي التي لم تؤثر فيها قنابل الصبية قبل قليل، حتى تتحول بالتدريج إلى لوحة سوداء ناصعة السواد، يرى الجمهور فيها صورة مهزوزة لأنفسهم، بعدما تحول سطحها إلى مرآة سوداء كتب عليها بخط كبير وباللغة الانجليزية «أنت راعيّ You Are My Shepherd». فهل المسيح هنا وقد تشوهت صورته حد الانمحاء، هو راعي هذا الجمهور العصري الذي شاهد للتو مسرحية تحولت إلى نوع من الطقس الأوليّ، وإلى نوع فريد من الصلاة، صلاة للعجز عن السيطرة على ما يملأ العالم من «خراء»، فهي كما يقول مخرجها في حوار معه مسرحية عن ميتافيزيقا «الخراء» أو روح الغائط الذي يعمر العالم بتجليات مختلفة، والذي يجبرنا الخطاب المسيطر فيه لمرارة المفارقة على التعايش معه بحب.
هكذا تنتهي تلك المسرحية المدهشة والمزعجة معا، ولا تنتهي الأسئلة المقلقة التي تطرحها علينا، بل لعها تبدأ. تبدأ من هذا المنهج المسرحي الفريد الذي يهتم ببلورة قوة المسرح الجسدية التي تصل كثيرا إلى حد العنف والقسوة والسادية، لأن للشكل المنفذ بدقة وصرامة متناهيين محتواه في هذا العمل المسرحي. وهي كلها أسئلة عن محنة الضمير الأوروبي المعاصر. فوجه المسيح الذي لم يتأثر قط مما ألقى عليه من القنابل سرعان ما انطمس حينما جاءه التدمير من الداخل: هل يرمز الداخل إلى المؤسسة الدينية نفسها؟ وما هي دلالة تحول صورة المسيح إلى مرآة معتمة يظهر فيها الجمهور؟ وهل العلاقة بين الأب والأبن هي تجسيد معاصر للعلاقة بينهما في الثالوث اللاهوتي في المسيحية؟ وإن كانت كذلك، فهل أصبح الأب عاجزا كلية عن السيطرة على ما في العالم من شر وفساد؟ من غائط، وكلمة «الخرا» الشعبية من أكثر الكلمات شيوعا في اللغات الأوروبية حيث تصف حال العالم، وحال العمل، وحال البشر في العصر الحديث، ومن هنا كان هذا التجسيد الصادم لها على المسرح، مسرح القسوة بلانزاع.
ألق التجريب وحيوية الصورة:
لا شيء يعادل تعدد الرؤى واختلاف وجهات النظر في الفن كما في الحياة. فالتعدد غنى، والواحدية فقر وإملاق. وهذا ما كشف عنه عملان مهمان شاهدتهما هذا العام، كل منهما قدمه علم من أعلام الإخراج المسرحي في بلده. وهما عملان يعتمدان على نص واحد، على مسرحية من كلاسيكيات المسرح العالمي، وهي مسرحية (الآنسة جولي Mademoiselle Julie) للكاتب السويدي الشهير أوجست سترندبرج (1849 – 1912)، والتي تعد بأي معيار من المعايير من العلامات الفارقة في المسرح العالمي، حيث كانت كتابتها عام 1888 إيذانا بتغير المسرح في العالم، وبميلاد مسرح جديد. ليس فقط لأنها صودرت في كوبنهاجن، حيث كتبها سترندبرج الذي كان يقيم فيها وقتها، وبعدها في ستوكهولم، ولم يتح لها أن تعرض على خشبة المسرح إلا في باريس عام 1893، لتصبح بعد ذلك أكثر مسرحيات سترندبرج عرضا في العالم كله على مر أكثر من قرن من الزمان. ولكن أيضا لأنها مسرحية فتحت العمل المسرحي على الكثير من الاحتمالات التجنيسية والتأويلية والإخراجية معا: حيث لا يعرف مشاهدها إذا ما كانت مأساة أم دراما، مسرحية طبيعية أم عملا شعريا تعبيريا ورمزيا؟ أو إذا ما كانت دراسة درامية اجتماعية أم أنها مجرد استقصاءات في التحليل النفسي للشخصية على خشبة المسرح؟ وهل هي مسرحية عن الصراع الطبقي أم مسرحية عن الصراع بين الجنسين؟ أم تراها مسرحية اغتيال الفظاظة والأنانية والفراغ للأمانة والمثابرة والعمل الشاق؟
لكنها في جميع الأحوال كانت ثورة في المسرح الأوروبي أو العالمي وقتها، وقبل أن يطلع عليه أنطون تشيخوف، بعد عقد من الزمان بروائعه الأربعة الشهيرة («النورس» و«الخال فانيا» و«الشقيقات الثلاث» و«بستان الكرز»). فقد فتحت الباب بحق أمام استخدام الصمت كلغة إضافية في المسرح الحديث، وبدأت استقصاءاته الخصبة التي لن تتوقف حتى اليوم بعما أغناها بيكيت ومن بعده هارولد بنتر بتجاربهما الخصبة. كما أنها من الناحية الموضوعية تطرح قضايا سابقة لزمنها، مثل قضية تحرير المرأة ودور المرأة القوية المسيطرة في الصراع بين الجنسين. وإن كانت تعرضت للنقد الشديد من النقد النسوي لعدائها للمرأة في مستوى من مستويات التأويل الشهيرة لها. فالمسرحية في توصيف سترندبرج نفسه لها هي دراسة في امرأة مريضة ذات عقل مشوش، تعاني حسب تصور العصر الذي كتبت فيه من مزيج من الهستيريا والمازوكية النسوية. لكننا وبعد إعلان رولان بارت عن «موت المؤلف» لا نهتم كثيرا بما قاله سترندبرج عن مسرحيته، وإنما بما يتيحه النص نفسه من تأويلات إخراجية متعددة، لاتزال تترى بالرغم من مرور أكثر من قرن على كتابتها.
وقد كان التأويل الإخراجي الأول لأحد أقطاب الإخراج المسرحي الفرنسي المعاصر وهو فريدريك فيزباش Frédéric Fisbachوقام ببطولة العرض، أي بدور الآنسة جولي، الممثلة الفرنسية الشهيرة جوليت بينوش Juliette Binoche مما خلق تهافتا كبير على تذاكر هذا العرض، وطوابير طويلة أمام شباك تذاكره من أجل التذاكر المرتجعة. ومع أن العرض، على عادة العروض الأوروبية التي تحترم النص المسرحي، وخاصة لو كان من عيون النصوص المسرحية كهذا النص، فإن المخرج أراد أن يضيف له بعض لمساته التأويلية، ولكن دون أن يغير فيه أو يزيد عليه بكلمة واحدة. فالمسرحية الأصلية ليس بها إلا ثلاث شخصيات: هي جولييت (25 سنة) ابنة الكونت صاحب القلعة الثري، وجان (30 سنة) مدير قلعته أو مدبر المنزل، وكريستين (35 سنة) الطباخة. وهي من المسرحيات التي تعرف باسم درامات المطبخ، حيث تدور أغلب أحداثها فيه. وهي أحداث يمكن اختصارها، في أنه في ليلة منتصف الصيف، التي تدور فيها احتفالات سنوية صاخبة منذ زمن السويد الوثنية، لاتجد جولي من يراقصها بعدما فسخت خطبتها، فتدعو جان ليفعل ذلك، ويغازلها جان، وتغريه بالنوم معها، مع أنه مخطوب لكريستين. ويسحرها بحديثه عن تعلقه بها منذ كانت طفلة، وبمشروعه لشراء بيت ريفي كبير في إيطاليا يحوله إلى فندق، يديره ويتيح له الاستقلال المادي ويكسب منه الكثير من المال. ولكنه لا يخبرها بأنه ليس لديه المال لتحقيق هذا الحلم، ولا بأنه يطمح من خلال علاقته بها أن توفر له المال الذي يمكنه من تحقيق حلمه. ويعترف جان لكريستين بما فعله مع جولي، وبأنها ستهرب معه إلى إيطاليا، بل تعرض عليها جولي أن تجيء معهما لتعمل طباخة في مشروع الفندق. وما أن يكتشف جان أنه ليس لدى جولي أي مال، حتى ينقلب الأمر ويبدأ في إساءة معاملتها، ويدفعها ذلك إلى حافة الجنون والانتحار، فيخسرها بعدما خسر كريستين، ويعود لوضعه كخادم، بعدما يدق الكونت الجرس طالبا إياه. تدور المسرحية إذن في ليلة القديس جون، ليلة منتصف الصيف، حيث يمتد النهار في استوكهولم حتى الحادية عشرة مساء، وتستطع شمس منتصف الليل في شمال السويد، وتستمر احتفالات منتصف الصيف الوثنية حتى شروق شمس اليوم التالي بعد أقل من ساعتين من غربها، وهذا هو زمن المسرحية، في هاتين الساعتين بالتحديد. تلعب فيها جولي، وهي فتاة أرستوقراطية جميلة في الخامسة والعشرين من العمر تتنازعها مجموعة من الرغبات والدوافع المتضاربة التي تمتد جذورها في سيرتها الشخصية. فقد كان القرن التاسع عشر يؤمن بدور الوراثة في صياغة الشخصية، ولذلك فقد لعب غياب الأب دوره في حياتها، والأب هو الشخصية الغائية الحاضرة في المسرحية، حيث لا يظهر أبدا على الخشبة، ولكن حضوره يجثم على الكثير من الأحداث، وعلى صدور الشخصيات، وخاصة الشخصيتين الأساسيتين: جولي وجان. كما أن شخصية الأم القوية، والتي كانت امرأة متحررة، نسوية، قبل الأوان، وكانت تكره الرجال وتحتقرهم تركت بصماتها على جولي التي يبدو في تشخيص سترندبرج نفسه لها أنها تعاني من مزيج من السادية والمازوكية، ومن نوع من الهستيريا التي كانت من الأمراض الشائعة بين النساء في ذلك العصر. لكنها أيضا تعاني من نزعة تدمير الذات، وهي نتاج الرغبة في تدمير الآخرين. ولذك فإنها تريد من جين أن يهينها مرة، وأن ينقذها من الهوان أخرى، أن يكون سبب دمارها، وأداة خلاصها معا. فجولي ممزقة بين الرغبة في السيطرة على الرجل والخضوع له في الوقت نفسه، كراهية الرجل ومعاملته وكأنه كلب يحتاج إلى التدريب والطاعة، والشبق للاستسلام له.
أما جان، فإنه لا يقل عن جولي تعقيدا وتناقضا، فهو مدير المنزل في الثلاثين من العمر، مقيد بوضعه الطبقي وبأن يظل خاضعا لسطوة تلك السلطة الطبقية حتى النهاية، برغم رغبته الواضحة في التسلق الطبقي والتحرر من هذا الوضع المتدني الذي لا يقبله، وأن يفتح فندقا في شمال إيطاليا يمكنه من أن تحقيق استقلاله الاقتصادي كالكونت، والد جولي. لكنه لا يريد أن يحقق هذا التغيير في وضعه الطبقي بالعصامية والعمل الشاق، وإنما يعتمد على الكذب، والنصب، والمراوغة والنفاق الاجتماعي, ويعيش على مزيج من الحقد الطبقي وكراهية النساء والرغبة في إذلالهن كي يحقق نفسه المخفقة في أن تتحقق عن طريق تغيير وضعه الطبقي. أما كريستين طباخة القصر، في الخامسة والثلاثين، فهي خطيبة جان وهي أكثر الشخصيات طبيعية وبساطة، وأكثرها استقامة، وأقلها خللا من الناحية النفسية في المسرحية. بالصورة التي يمكن اعتبارها معها شخصية ثانوية، لولا معرفتنا بأنه ليس ثمة أية شخصيات ثانوية في المسرح الحديث,
ومع أن المخرج التزم بالنص، فإنه قدمه في إطار عصري حديث، واستخدم الستائر اليابانية الشفيفة والحوائط الزجاجية المتحركة التي توحي بالسجن والحصار، دون أن يكون ثمة حصار. لكن شفافيتها وسيطرة اللون الأبيض عليها، فكل شيء في هذا العالم الداخلي حتى الأرضية باللون الأبيض، توحي في الآن نفسه بالرغبة في الدخول إلى دواخل الشخصيات من ناحية وبأننا في نوع من المصحة من ناحية أخرى، مصحة للتحليل النفسي للشخصيات على خشبة المسرح وبطريقة المخرج البالغة الخصوصية. وتقوم تلك الستائر اليابانية البيضاء ايضا بتقسيم الفضاء المسرحي إلى قسمين تساهم الإضاءة في حجب أحدهما عن الآخر حينما تقتضي الضرورة ذلك: قسم أمامي من حجرة ومطبخ عصري حديث تحتله كريستين في معظم الوقت، وقسم خلفي من غابات السويد السامقة وطبيعتها الغنية الخصبة يدور فيه الرقص الصاخب والاحتفال بليلة منتصف الصيف، في نوع من التساوق بين الإنسان والطبيعة في الخارج، في مقابل اضطرابهما معا في الداخل. ولعب المخرج بالإضاءة ببراعة، حيث احتفظ بالخلفية الطبيعية تلك في ضوء خافت معظم العرض، ولم يسلط عليها الضوء الباهر، وكأنما سطعت عليها الشمس إلا في نهاية المسرحة بعدما سطعت بالفعل شمس المعرفة على الموقف كله. وكانت إضافته لعدد من الشخصيات التي ترقص في خلفية المشهد، وتتعانق بحسية دون أن تتبادل أي كلمة، تأكيدا على المفارقة بين العالمين: عالم الطبيعة الحسي المنطلق الحر الذي تتوق إليه الشخصيات المحبوسة في الداخل، وعالم القواعد الاجتماعية الصارمة المقيد داخل الحجرات. لكن العالم الداخلي الذي تشعر فيه كل من جولي وجان بالحصار، هو في الوقت نفسه عالم كريستين، الطباخة التي تعمل في مطبخها الأبيض النظيف هذا طوال الوقت، هي الوحيدة التي يمكن القول أنها تتحقق بالعمل، بينما لا تعرف الشخصيتان الأخريين ماذا تعملان، وتضيعان في المساحة الواقعة بين المساحتين. كما كان استخدامه للون الأبيض في الأثاث، واستخدام اللون الذهبي المتألق، لرداء الآنسة جولي اللامع تجسيدا للغواية ولسحر وضعها الطبقي معا.
كما استطاع في تأويله الذي مال إلى نفي تهمه العداء للمرأة عن النص، والتركيز على رداءة سلوك جان وتسلقه الاجتماعي الفج، وعجزه في الوقت نفسه عن تحقيق حلمه بالتحرر من وضعه كخادم في قلعة الكونت، وتقديمه كشخص يؤذي كلا من جولي وكريستين معا، أن يرد عن المسرحية بعض التهم الشائعة عنها، بصورة جعلت المسرحية دراسة اجتماعية ونفسية عميقة للفجاجة والسطحية وللكذب والنفاق الاجتماعي، والتخلي عن القيم الإنسانية البسيطة والنبيلة معا. كما أن المشاهد لايدرك أهمية ما وضعه في خلفية المشهد إلا في نهاية المسرحية، حينما يختفي كل شيء ويصبح الفضاء المسرحي معمورا بالوحدة والوحشة وقد ظهرت فيه الشخصيات الثلاثة وكأنها ضائعة حقا.
لكني لا أستطيع أن انهي حديثي عن هذا العرض الجميل دون كلمة عن دور النجمة السينمائية، جولييت بينوش، في هذا العرض. فنحن نعرف أن السينما هي التي تلجأ للمثل الذي يثبت نفسه على خشبة المسرح، وخاصة حينما تحتاج إلى ممثل لدور صعب يحتاج حقا إلى تمثيل، وليس إلى مجرد نجم يوجهه المخرج كيفما شاء. ولكن ثمة ممثلين وممثلات صنعوا مجدهم في السينما يسعون إلى تجربة المسرح، أو يسعى لهم المسرح حينما يحتاج إلى نجم يحقق للعرض شيئا من الرواج. ولا أخفي عن القارئ أن قيام بينوش ببطولة هذه المسرحية كان له فعل السحر على شباك تذاكرها، وإقبال الجمهور عليها. ولكني ومن خلال معرفتي المحدودة بنجوم السينما الفرنسية وأخبارهم، أعرف أن جولييت بينوش حريصة على العمل في المسرح بين فترة وأخرى، فقد شاهدتها لأول مرة على خشبة المسرح القومي الانجليزي، كي ترهف إمكانياتها التمثيلية، ولا تعتمد فقط على نجوميتها كغيرها من الممثلات. والواقع أنني كنت محظوظا هذه المرة وشاهدتها عن كثب، فقد جلست في الصف الثاني من المسرح، هذه المرة، وأدركت كم هي ممثلة مسرحية جيدة استطاعت ان تستأثر بالحضور المشهدي برغم حجمها الصغير الدقيق، كما استطاعت أن تجسد تأويل المخرج الذي يقدمها كفتاة شبه ضائعة بين صدمتها في خطيبها الذي تخلى عنها، وإحساسها بجمالها ووضعها الاجتماعي المتميز، وضعفها في الوقت نفسه إزاء غوايات جان الرخيصة والتي تداعب الجانب الفج في شخصيتها، من خلال نفاقه المستمر لها، وحديثة عن ولعه بها منذ كانت صبية صغيرة. فقد استطاعت بحق، وهذا ضروري للتأويل الإخراجي، أن تجسد لنا هذا المزيج الغريب من البنت الغندورة الشاعرة بجمالها وتأثيرها، والبنت الضائعة والجائعة للحب الحقيقي والحنان، والمرأة الشابة التي تبحث عن طريق وعن مستقبل. هذا المزيج المعقد هو ما قدمته جولييت بينوش باقتدار على خشبة المسرح في هذ التأويل الإخراجي الذي بلور ضعفها الإنساني ورغبتها في التحقق الحسي والفعلي معا.
ثورة الفيديو .. وتفكيك العرض المسرحي:
أما التأويل الإخراجي الثاني لمسرحية سترندبرج تلك، والمغاير كلية، تقنية ومنظورا ومنهجا إخراجيا، لما قدمه فيزباش، فكان بعنوان (كريستين: أخذا عن الآنسة جولي Kristin, Nach Fräulein Julie) والذي جلبه أهم المسارح الألمانية المعاصرة، وهو مسرح الشاوبونه ببرلين، وأخرجته المخرجة الانجليزية الشهيرة كيتي ميتشيل Katie Mitchell مع المخرج الألماني ليو فارنر Leo Warner، عن إعداد للمسرحية أعدته كيتي ميتشل نفسها. وميتشل من أبرز المخرجات في بريطانيا، وقد شاهدت لها أكثر من عرض في المسرح القومي الانجليزي، استطاعت عبره أن تبلور بصمتها ولغتها الإخراجية المتميزة وهي لغة لها مفرداتها الخاصة والفريدة معا. والتي تعتمد على الاستخدام الحاذق لفن الفيديو، وخاصة بعد ثورة الكاميرات الرقمية، في خلق نوع من التوازي أو التواقت بين التمثيل الذي يصور ويعرض علينا عند تصويره بكاميرا فيديو على الشاشة في الوقت نفسه، ولكن في كثير من الأحيان بعد تمريره عبر رجرجات سطح مائي تبدو الصورة معه متحركة ومرتجفة معا. ويمكن القول بأن إضافة ميتشيل الإخراجية تتمثل في تمكين المسرح الحديث من الاستفادة بشكل جيد من تلك الثورة التي أحدثتها كاميرات الفيديو الرقمية في عالم المسرح، حتى يجمع على الخشبة بين ميزات المسرح (الحضور الحسي المباشر للممثل) وميزات السينما (تكبير الصورة والتركيز على أدق الحركات والتعبيرات والخلجات) لكن الجمع بين الإثنين ليس مثل المجموع الحسابي لرقمين، ولكنه يخلق نوعا جديدا أو وسيطا تعبيريا جديدا أكثر خصوبة وثراءً من مجموع الاثنين.
ولكن دعنا نعود إلى «كريستين» الشخصية المغدورة أو المظلومة في مسرحية (الآنسة جولي) والتي نقلتها كيتي ميتشيل إلى مركز الحدث بعد أن وضعها ستريندبرج في هامشه. ولا يمكن فصل شكل العرض عن محتواه في هذا العمل المسرحي الجميل، لأن استخدام ميتشيل لكاميرات محمولة وأخرى ثابته، توجهها للشخصيات الأساسية وهي تمثل، وتعرض نتيجة التصوير مباشرة أمامنا على شاشة كبيرة وضعت أعلى المشهد، مكنها من أن تعيد تقديم المسرحية من منظور كريستين. ولا تركز تلك الكاميرات على الوجوه، في لقطات قريبة فحسب، وإنما أحيانا على حركات الأيدي، وعلى الأزهار ورجرجة الماء في الأوعية وغير ذلك من اللقطات الدالة والموظفة إخراجيا بمهارة ملحوظة. فأصبحت بذلك المسرحية دراسة في الخيانة، ومواجهة بين من يلتزمون بالموقف الأخلاقي الأعلى، كما هو الحال مع كريستين، ومن لا يعبأون بالقيم أو الأخلاق في عالم يعاني من التردي والانحطاط. وأصبح تقديم العمل من منظور كريستين انتصارا لهذا الموقف الأخلاقي الأعلى، بصورة يؤكد معها العرض أن الجمال، حتى لو كان قاصرا على جماليات المشهد المسرحي، والأخلاق الراقية صنوان. فبدت كريستين في هذا العرض، برغم أنه أقل جمالا من جولي اكثر جذبا لانتباهنا واستئثارا باهتمامنا. حيث تبدأ ميتشيل عرضها بوضع كريستين في مركز المشهد، وهي تنظر من النافذة، وكأنها تتأمل ما يدور حولها، وقد ارتدت ملابس رمادية تشير إلى رمادية وضعها في المسرحية الأصلية، وليس في معالجة ميتشيل لها، والتي أحالتها إلى ضمير المسرحية المؤرق.
في الوقت الذي تعرض الكاميرات صورتها على شاشة كبيرة، سرعان ما ترفع هذه الشاشة وعليها صورة كريستين لاتزال، نرى فيها كل حركات وجهها وخلجاته، وصور أزهار على المائدة المجاورة لها وقد صورتها الكاميرات إلى أعلى المسرح، حيث تتكشف الشاشة عبد رفعها عن غرفتين: أولاهما بها امرأة تعزف التشيللو، وهي الموسيقى الوحيدة المصاحبة للعرض المسرحي، وثانيتهما هي الغرفة التي يدور فيها الحوار بين الآنسة جولي وجان فيما بعد، وتدور فيها معظم الأحداث المسرحية ولكن بعد تمريرها بصريا خلال مرشح وعي كريستين ورؤيتها لها، بينما تشكل مقدمة المسرح المطبخ الذي تعمل فيه كريستين وتعد به الطعام، وتقدمه لجان، الذي يأكل وحده وهي تراقبه، فنراقب معها على الشاشة تجليات الكذب على وجهه، وهي تسأله إذا ما كان سيراقصها بعدما تفرغ من عملها، ويجيبها بالإيجاب، ولكننا نعرف أنه سرعان ما سينصرف عنها، حينما تتاح له فرصة مراقصة جولي. ويستمر عرض المسرحية الأصلية على الخشبة، بينما نرى على الشاشة العلوية إضافات المخرجة التأويلية لها، وهي تضيف إليها بعدا جديدا.
والواقع أن أهم ما أضافه تأويل ميتشيل الإخراجي لهذه المسرحية المهمة، فضلا جمالياته المسرحية المتميزة والتي تستحق التأمل والتقدير في حد ذاتها، أو ربما بسببها، فهو أنها نقلت كريستين من هامش الأحداث إلى مركزها كما يقول عنوانها. وأعادت رؤية المسرحية برمتها من منظور نسوي حديث، يرى فيها مدى جناية الوضع الطبقي الجائر على المرأة عموما، وعلى نساء الشرائح الدنيا من المجتمع خصوصا. وكيف أن كلا من جان وجولي قد أخطأ في حق كريستين، بالصورة التي أصبحت معها كريستين في مسرحيته، لا مجرد شخصية ثانوية كما هو الحال في المسرحية، ولكن الشخصية التي تستحق أن تكون في مركز الأحداث، لأنها الشخصية صانعة الحياة فيها، بينما لاتصنع بقية الشخصيات شيئا.
ثورة الفيديو .. تفكيك التاريخ الفرنسي ومساءلته
لم يكن عرض كيتي ميتشيل، من بين العروض الكثيرة التي شاهدتها هذا العام، هو العرض المسرحي الوحيد الذي يعتمد اعتمادا كبيرا على مفردات لغة العرض الجديدة تلك، والتي تجمع بين ميزات المسرح والسينما، فبالإضافة إلى عمل كيتي ميتشيل، كان هناك عمل جميل آخر بعنوان (دم وورود: ترتيلة جان وجيل Sang & Roses: Le Chant de Jeanne et Gilles) للمخرج الهولندي المرموق جي كاسيير Guy Cassiers يعود موضوعه إلى القرن الخامس عشر، ويستخدم شخصيتين تاريخيتين معروفتين: هما جان دارك (1412 – 1431) المحاربة الفرنسية المشهورة، والتي أرسلتها الكنيسة للمحرقة بتهمة التجديف، ثم أضفت عليها هالة القداسة بعد قرون، وجيل ريتز (1404 – 1440) أحد بارونات الأرستوقراطية الفرنسية، واحد الذين آمنوا بجان دارك وحارب إلى جانبها كأحد قوادها، والذي حوكم هو الآخر وأعدم بتهم عديدة كانت منها الهرطقة وقتل الأطفال. وكما هي العادة فإن اللجوء للتاريخ في العمل الفني غالبا ما ينصب على الحاضر، إذ يكشف الكاتب توم لانوي Tom Lanoye والمخرج معه عبرهما، أو بالأحرى عبر قصتهما الفريدة، وعبر الاستخدام البارع لكاميرات الفيديو الرقمية، كيف أن ما دار في هذه الفترة الباكرة من القرن الخامس عشر، بتخلفه وتعصبه وإيمانه بالخرافة وتعطيل العقل، مازال يدور في عمليات التحريض والتهييج في العصر الحديث. فهدف كاتب المسرحية المعلن، وهو من أبرز كتاب هولندا الشباب حيث يكتب الشعر والرواية والمسرحية، هو أن يجعل القرن الحادي والعشرين يتعرف على الكثير من ملامحه فيما دار في القرن الخامس عشر، وأن يرهف وعي أوروبا بماضيها وتاريخها المشترك، والذي يساعدها على فهم تجليات هذا الماضي المعاصرة.
فما شاق الكاتب والمخرج في تقاطع مصائر هاتين الشخصيتين المختلفتين، ليس اختلافهما وإنما تماثلهما بعدما ألقت بهما المقادير في مواجهة أحدهما الآخر أثناء حصار اللورين Orléans. وكيف أن نهايتيهما المتشابهتين: إعدام جان دارك بتهمة السحر والهرطقة، وإعدام جيل ريتز بتهمة التجديف وقتل الأطفال، تكشف عن أنهما شخصيتان أقلقتا المؤسسة في عصرهما بطريقة دفعتها للتخلص منهما كل على حدة. فالمسرحية في مستوى من مستويات التأويل فيها هي دراسة فيما يقلق المؤسسة، ولماذا تستشعر الخطر من سلوك الأفراد ورؤاهم غير الانصياعية. وتدور أحداث المسرحية في عام 1430، في الفترة التي تدعى بخريف العصور الوسطى، بينما كانت حرب المئة عام تدور رحاها بين فرنسا وبريطانيا، وكانت ممارسة السحر والخرافة متفشية في كل مكان، وكانت أوروبا تعاني من المجاعة، وكان داء الطاعون قد هاجم أجزاء منها من جديد. لكن المسرحية تريد أن تكشف لنا وسط هذا المناخ عن طاعون آخر، سيتجلى في أحداث محاكمة جان دارك وإرسالها إلى حتفها حرقا في العام التالي، وفي سعار الكنيسة الكاثوليكية والسلطة الملكية الأرضية معا، فلم يكن ثمة تمييز كبير بين الإثنين، لفرض سيطرتها المطلقة على الجميع بأي ثمن، وحساسيتها الشديدة لأي أفكار جديدة أو مراكز قوى جديدة بازغة، إذ كانت تصفها جميعا بالهرطقة، وتستشعر أنها تشكل خطرا على سلطتها المطلقة وتتحسس كثيرا من عواقبها.
وقد عرض هذا العمل، لأهمية المفارقة، في ساحة الشرف بالقصر البابوي، الذي تعمر فضاءه أصداء الماضي العريق، وبالتحديد أصداء تلك السلطة الكنسية المطلقة التي يقوم العرض بتفكيكها أمامنا وفي ساحة هذا الفضاء ذاته في نوع من ترجيع الصدى. وقد شيد المخرج في خلفية مساحة العرض أو الخشبة، جدارا موازيا لجدار القصر البابوي السامق يتكون من مجموعة شاشات أو شاشة ضخمة مصنوعة من مربعات كبيرة متجاورة مساحة كل منها متر في متر تقريبا، ويتكون الجدار من 16 مربعا طولا بارتفاع عشرة مربعات، وسوف يتحول هذا الجدار/ الشاشة الضخمة إلى شاشة عرضه الرئيسية، بينما سنجد على الخشبة شاشتين كبيرتين إحداهما مائلة والأخرى عمودية على مقاعد المشاهدين، ستتحركان على محاور وبزوايا معينة أثناء العرض، كي نرى فيهما المشهد الذي يتم تمثيله أمامنا وقد انعكست بعض ملامحه على الشاشة الكبرى في المواجهة، أو وأحيانا بالتزامن معها على احدى الشاشتين المنصوبتين على الخشبة. بالصورة التي تمكننا من مشاهدة المشهد من أكثر من زاوية في آن. كما يتبدى من خلال الصورة التالية:
لكن الفارق الكبير بين منهج جي كاسيير ومنهج كيتي ميتشيل في استخدام الفيديو لتفكيك المشهد المسرحي وتأمله هو أن جي كاسيير يصور مشاهده سلفا، ويعرضها على الشاشة ليس في حضورها المحايث والفوري كما تفعل ميتشيل، ولكن كصورة إضافية ومسبقة أي مجهزة سلفا، وليست مصورة أمامنا في اللحظة ذاتها كما تفعل ميتشيل، وبالتالي فإن كاميراته ليس حاضرة على الخشبة كما هو الحال مع كاميراتها، ولكنها غائبة عنها تقدم لنا شيئا موازيا تم إعداده من قبل. وليس هذا الفرق بأي حال من الأحوال مجرد فرق تقني، ولكنه فرق منهجي ودلالي معا، لأن للمحايثة الزمنية سحرها وتلقائيتها وعيانيتها معا. حيث تؤكد أننا نرى التجليات المتباينة للشيء نفسه، وليس التوازي بين ما يدور على الخشبة وما تم تصويره من قبل، أو مادار قبل قرون من الزمان. وربما نستطيع تأويل منهج كاسيير بأنه أحد وجوه تاريخانية موضوعه، فالتاريخ معطى مسبق، وكأن صورة جان دارك التي تتبدى أمامنا على الخشبة وإن جسدتها نفس الممثلة، هي انعكاس لصورتها المسبقة التي تتجلى على الشاشة، وإن في نفس الملابس ونفس الشخصية. بصورة تريد أن تخبرنا بأن الحضور العياني للمثلة على الخشبة ليس إلا مجرد تجل درامي للحضور التاريخي للشخصية التي تجسدها. والواقع أن هذا المنهج التقني الذي يسعى لتجسيد الفجوات بين التاريخ والراهن، هو الوجه الآخر لما تريد المسرحية أن تقدمه، من أن حالة التمزق التي تعيشها أوروبا الآن ليست مختلفة كثيرا عن حالتها إبان حرب المائة عام، التي تريدنا أن نراها على مراياها. وأن تعريض أم الملك جان دارك لاختبار العذرية لا يختلف كثيرا عن تعريض المجلس العسكري المصري المتظاهرات ضد حكم العسكر وحكم مبارك لاختبارات العذرية، فما أشبه الليلة بالبارحة.
ولا يقتصر الاختلاف بين المنهجين على هذه الفوارق، ولكنه يتجاوزها في أن كاسيير يسعى لأن يجمع بين أحدث تقنيات التعليق على الحدث الدرامي وتفكيكه، من خلال الفيديو، وأقدمها وهو التعليق عليه وتحليله من خلال الكورس. وهذا التجاور، بل والتفاعل، بين أحدث التقنيات وأقدمها هو ما يضفي على عمله الكثير من الطزاجة والحيوية. ويصل هذا ذروته في مشاهد التحولات التي تتغير فيها مواقف الكنيسة من جان دارك تغيرا كليا من المباركة وإلباسها الطيلسان الكنسي، إلى المحاكمة وإعلان حرمانها الكنسي والحكم عليها بالحرق. حيث تتوجه جان دارك أثناء تلك المحاكمة إلى الكورس وتطلب منه أن يلهمها الجواب الصحيح على أسئلة المفتش الكنسي الذي يفتش في ضميرها، ويطرح عليها أسئلة لاهوتية عويصة لا تحيط بها مداركها، بل تبدو للمشاهدين في صورة ألغاز، وكأنها تقرر أن صوت الجماعة/ الكورس/ هو صنو صوت الرب الملهم والمخلص معا. وإلى جانب هذا الجمع بين أحدث تقنيات التعليق على الأحداث وأقدمها، يقدم العرض توازيا آخر بين ما يدور لجين، وما يدور لجيل ريتز بما في ذلك خداع الكنيسة لكل منهما كي توقع به في حبائلها. فالمسرحية تسعي إلى تقطير التجربتين المختلفتين، فجان دارك فلاحة فقيرة من أقصى أطراف السلم الاجتماعي، أما جيل فهو ارستوقراطي متعلم أقطعه الملك إقطاعيات واسعة لخدماته السياسية والحربية ومن الطرف الأقصى الآخر. ومع هذا فقد كان مصيرهما واحدا، بل كان ثمة تشابه كبير في وقائع محاكمتيهما، وفي محاولات المحكمة الكنسية للإيقاع بكل منهما، لأنهما في نهاية الأمر، وبرغم اختلاف المشارب والخلفيات يشكلان نفس الخطر على سلطة الحكم المطلق، إذ يطرحان عليه عددا من الأسئلة المقلقة حول الفرد والرب والمصير والمستقبل، وأهم من هذا كله حول الوطن نفسه. بالصورة التي عرت معها المسرحية ضعف الحكم المطلق، مهما كان جبروته، وهشاشته، وأهم من هذا كله افتقاره للشرعية وللأرضية الصلبة التي لا تزعزعها أحلام الفرد في التحقق.
ثورة الفيديو .. وعالم الرقص الحديث
لم يقتصر استخدام ثورة الفيديو والكاميرات الرقمية في عروض هذا العام على هاتين المسرحيتين، ولكن كانت هناك مسرحيات سوفوكليس الثلاثة عن النساء، (التراشينيين Les Tranchiniennes) و(انتيجوني Antigone) و(إليكترا Électra) والتي قدمها المخرج الكندي اللبناني وجدي معوّض في محجر بولبونCarriére de Boulbon ، واستخدم فيها مع كاميرات الفيديو الظلال الطويلة للشخصيات، والتي تحولها برغم حضورها أمامنا على الخشبة إلى أشباح هائمة في فضاء هذا المحجر العتيق والمهيب، والذي اكتشف أهميته المسرحية كفضاء متميز قبل أعوام طويلة بيتر بروك حينما قدم فيه عمله الشهير (المهابهاراتا). لكن تجربة وجدي معوض في إعادة تقديم كل سوفوكليس في ترجمة فرنسية حديثة ورؤية إخراجية جديدة تتطلب مقالا مستقلا، خاصة وأن هذا العام هو العام الأول في تلك التجربة، قدم فيها مسرحياته الثلاثة التي تدور حول النساء، وسيقدم في العامين القادمين بقية المسرحيات السبع. لذلك سأنهي هذا المقال بتناول تجلي ثورة الفيديو وتقنياتها في مجال مسرحي آخر هو الرقص الحديث. والواقع أن الرقص الحديث كان من أسبق الفنون المسرحية استخداما لتقنيات الكاميرات الرقمية، ولكن هذا الاستخدام اكتسب أبعادا درامية أعمق في العمل الذي شاهدته هذا العام من هذا الفن.
وقد شاهدت في مهرجان هذا العام عملين مهمين من الرقص الحديث استخدما نفس التقنية في بلورة لغة عرض مسرحية حركية بصرية بالدرجة الأولى، أولهما بعنوان (قفلات Courts-Circuits) لفرانسوا فيريه Francios Verret يتعامل مع حالة عالمنا اليوم وما يعتريه من ترد وفساد بسبب الأزمة المالية وعواقبها، والثاني بعنوان (معرض عالمي Exposition Universelle) لرشيد أورمضان يتعامل مع قضايا الهوية وطبيعة الشخصية الفرنسية ومعاناة الفرنسيين من أصل مغاربي مثله. ومع أن رشيد أورمضان استخدم بعض أدوات تلك اللغة الجديدة باقتضاب وتقشف، فإن عرض فرانسوا فيريه هو الذي أحالها إلى لغة أساسية من لغات العرض لا يمكن تصور العمل أو فهم مراميه دون مفرداتها اللونية والبصرية والحركية، وهو الذي سأتوقف عنده بشيء من التفصيل هنا، لأنه يردنا من جديد إلى أزمة الضمير الأوروبي التي بدأنا بها تناولنا لهذه المجموعة من العروض. فالمخرج يعي أن رؤيته ليست مفصولة عن اللغة التي تتخلق فيها، وأن من الصعب عليه أن يتحدث باللغة المنطوقة والمكتوبة عن عمل يتجسد في لغة مغايرة كلية هي لغة الحركة والصورة واللون والتفاعل بينها جميعا لخلق تراكيب جديدة ومغايرة لتراكيب اللغة العادية ولعلاقاتها النحوية والاشتقاقية والسياقية المألوفة. حيث يقول لنا في برنامج العرض إن «المسرحة أو الدراماتورجية هي عصب العمل، وعصب الشكل الفني فيه .. وهو ما تتولد به مستويات متعددة لقراءته، وتلقيه، والإحساس به، والتناغم مع ما يقدمه لنا على الخشبة». فالخشبة عنده هي مساحة مقتطعة، لا من الفضاء وحده وإنما من الزمان أيضا، يصوغ عليها فضاءه الجديد وزمنه الفريد كي يحيلها بهما معا، ومن خلال استخدامه لوثائق أدبية وسينمائية وحركية راقصة وتشكيلية وموسيقية، إلى استعارة قادرة على الحوار مع زماننا وإشكالياته المعقدة.
وعنوان هذا العمل (قفلات Courts-Circuits) مأخوذ بالطبع من المصطلح الكهربائي، حينما يستعصي على التيار التدفق بسلاسة بسبب خطأ في توصيلات الدائرة الكهربائية، فإنه يحرق مساره، أي أسلاكه، ويقفل المسار ويدمره. ويسمى بالإنجليزية أو الفرنسية بالدائرة القصيرة، وإن كانت الترجمة العربية، أكثر دلالة على ما يدور. لأن ما يدور في هذا العرض الغنائي الحركي الراقص هو مجموعة من «القفلات» والأحداث والمواقف المجهضة بسبب أخطاء جوهرية أدت إلى استعصاء سلاسة تدفق الحياة الطبيعية واستمرارها. ويستلهم هذا العرض الراقص كما يقول مخرجه ومصممه عددا من النصوص، بعضها بشكل مباشر مثل رواية الكاتب الأميركي دون ديليلو Don Delillo الأخيرة (الرجل الذي يسقط Falling Man) والتي ينطلق فيها من صورة الرجل الذي ألقى بنفسه من برج التجارة العالمي أثناء احتراقه في 11 سبتمبر 2001 ويتجول فيها في شوارع نيويورك عشية تلك الحادثة، كاشفا لنا كيف أنها شوارع معمورة بالخراب. وكتاب المحلل النفسي البريطاني وطبيب الأمراض العصبية الشهير أوليفر ساكس Oliver Sachs (يقظات Awakenings)، وهو كتاب عن حالة غريبة من المرض العصبي، يصاب فيها المرضى بعصاب مرضي يجعلهم مرهقين باستمرار وعلى وشك السقوط إعياءً في أي لحظة، حتى لو أنفقوا جل وقتهم في الراحة، وهي حالة تتطلب استخدام أدوية قوية المفعول وذات آثار جانبية خطيرة. وهذا هو السر في كثرة مشاهد السقوط إعياءً في العمل، وفي أن العلاج مما تعانيه الشخصيات لا سبيل إليه دون الوقوع في أحبولة أخطار جديدة. أما الأعمال التي استلهمها العرض بشكل غير مباشر، والتي تتجلى من خلال بعض الإشارات التناصية فيه، فهي أعمال الكاتبة المسرحية الانجليزية سارة كين التي انتحرت وهي في شرخ الشباب والتي تميز مسرحا بالصدمة والعنف والبذاءة، وتحولت بعد انتحارها إلى إيقونة مسرحية، وأفلام بازوليني وتاركوفيسكي والمخرج الأميركي المستقل آبل فيرارا.
وتدور المسرحية، كما هو الحال مع رواية دون ديليلو في عالم ما بعد الصدمة، حيث تجد الشخصيات نفسها في حالة من الضياع النسبي، وعدم القدرة على عقلنة وضعهم، وقد انسد الأفق أمامهم، ولكن ما يشد بعضهم للبعض هو الرغبة في البقاء على قيد الحياة، والوعي بأنهم مهمشون ألقي بهم خارج عالم القرار. لذلك كان طبيعيا أن يبدأ العرض في مساحة خالية، فهناك شاشات وأثاث في جانب من جوانب المسرح، وفي الجانب الآخر أكوام من الأطر الخشبية الضخمة التي تستخدم في نقل البضائع الثقيلة، بينما تندلع ألسنة النيران على الشاشات. ونجد وسط ألسنة النيران أطياف شخص يحترق، وكأننا بإزاء طيف من أطياف محمد البوعزيزي الذي أدى حرقه لنفسه إلى اندلاع نيران الربيع العربي، أم تراه أحد ضحايا 11 سبتمبر، وفق استلهام العمل لديليلو، الذي كان عليه الانتظار لأكثر من عشر سنوات حتى يشعل احتراقه حركات الاحتجاج «والاحتلال» ضد الرأسمالية المتوحشة التي مثلها البرجان اللذان احترقا ودمرا، في تلك «القفلة» التي أصبحت أشهر «قفلة» في تاريخ العالم المعاصر. لكن ما يكسب هذا العرض الحركي البصري الراقص قدرته التنبؤية، إذ يبدو الآن وأنا أكتب عنه بعد اندلاع حركة «احتلال وول ستريت» أنه استشرف هذه الحركة وتنبأ بحتمية وقوعها، هو الوعي بأن شخصياته التي تشعر بالضياع وانسداد الأفق، ليس لها أي خيار إلا الانخراط في إيقاع العالم المحموم الذي أدى لضياعها، وهو إيقاع سريع محموم يحيلها إلى كائنات أثيرية أو شبحية لا معنى لها، ويوشك وجودها أن ينمحي، وهو أمر جسدته الإضاءة والحركة وتفاعل الصورة مع الأصل ورؤية بعضها من خلف الشاشات التي يعرض عليها في الوقت نفسه بعض ما يدور وسط خرائب هذا العالم ووحشيته، فنحن في عالم مترع بالعنف والوحشية التي نرى بعض تجلياتها على الشاشات أيضا في مشاهد أخرى.
وكأن الإنسان، في هذا العرض الذي تتعدد فيه اللغات (إذ يستخدم في كلماته الحوارية القليلة وأغنياته المتعددة الفرنسية والإنجليزية والإيطالية والإسبانية) والذي يقترب كثيرا من المسرح الشامل بالتمثيل والرقص والموسيقى والمشاهد الإيمائية والغناء، قد تحول في هذا العالم الغريب إلى كائن شبحي لا معنى له ولا قيمة. ولكن شخصيات العمل تعي في الوقت نفسه أنها محاصرة وضائعة، في عالم مجنون عدمي أعمى، تسعى جاهدة للانفلات من عدميته دون جدوى. غير أنها لا تملك إلا مقاومة شروطه القاتلة بكل ما تستطيع من قوة، وقد تيقنت أنها تعيش في عالم مترع بالقسوة والوحشية واللاعقلانية. هنا يستخدم المخرج سلسلة من «القفلات» تنتهي كل منها بسقوط الممثلين على الأرض، وكأن السقطة هي نغمة القرار فيه، تمنح عمله بنية إبيسودية متميزة. فنحن بإزاء عمل من المسرح الشامل تعتمد جماليات الدراما فيه على التجاور والمفارقة بين القلة التي تدير هذا العالم وتستمتع بخيراته، ونرى بعض ممثليها في كراسيهم الوثيرة وبلادتهم المثيرة للغيظ، والكثرة المهمشة التي تدور في طواحينه التي يتسارع إيقاعها على الدوام، دون أن يقابل هذا التسارع المجهد عائد ملحوظ. فبين المشاهد التي تدور على الشاشة لعالم مليء بالعنف والخراب، وكأنه أرض معركة لا يعمرها غير الدمار، الذي يرهف إحساسنا به تصاعد الدخان بين الفينة والأخرى من خطوط طولية في أرضية المسرح، ليلف بضبابه كل شيء، بين هذا كله والخليط الفني من الرقص العنيف، والغناء، والهستيريا الحركية والرقصات العصبية أو حتى العصابية، ندرك أن لحن القرار في هذا العمل هو الصدمة التي يتكرر فيها مشهد الإنسان وسط ألسنة النيران، وهو يرقص ولكنه رقص من نوع الذي يرقص مذبوحا من الألم، يتسم بالحركات البهلوانية والتشنجية والأكروباتية ولكنها تتسم جميعها برغم عنفها وعصبيتها، بنوع من الهارمونية الفريدة والجديدة معا. لأننا بإزاء عمل يعي تناقضات العالم وقبحه، ويعي في الوقت نفسه أن إنسانه مترع بالحركة والحيوية وأنه يريد ان يتحقق إنسانيا كغيره من البشر. بالصورة التي يتحول فيها العمل إلى صرخة احتجاج قوية على ما يدور في هذا العالم المريض من أحداث، أحالته لا إلى عالم تتدفق فيه الحياة بيسر وسلاسة، وإنما إلى مجموعة من القفلات التي تكشف عن أزمة الضمير الأوروبي الحادة في مطالع القرن الجديد.