قد تكوّن قصيدة بدر شاكر السيّاب «في المغرب العربي»،[1] من بين أهم قصائده دلالة وقيمة. " إنّها في جميع الأحوال قصيدة مميزة تشكّل علامة فارقة في مسيرته الإبداعية نظراً لما إتّسمت به من بناء متوازن ومتماسك الى حدّ بعيد، ومن إرتياد لطرق في التعبير ومن محاولة تجديد في الإيقاع لا تخلو من جرأة ومغامرة ـ هي تتناول نضال العرب في الجزائر وشمال أفريقيا من أجل إستقلالهم وتحرّرهم ونهضتهم، معبّرة عن الإلتزام السياسي القومي في مسيرة الشاعر الفكرية والإبداعية"[2]. وتتّضح من ذلك أنّ قصيدة «في المغرب العربي» في نطاق الإلتزام القومي العربي، وقد نظّمها السيّاب عام 1956، ونشرها في مجلة الآداب في عدد آذار من العام نفسه وفيها تجاوب حي عميق بين الشاعر والإنتفاضات العربية التحرّرية في شمالي أفريقيا، في تونس والمغرب والجزائر، وفي كلّ بقعة عربية أخرى. فضلاً عن تجاوبه مع الفكر القومي العربي، وشعاراته الإيديولوجية الحديثة التي أخذت تنتشر في الأقطار العربية المختلفة، ومع التراث العربي والأمجاد العربية وتاريخ العرب القومي والحضاري[3]:
قرأت إسمي على صخرة
على آجرة حمراء،
على قبر فكيف يحسّ إنسان يرى قبره؟
يراه وإنه ليحار فيه:
أحي هو أم ميّت؟ فما يكفيه
أن يرى ظلاله على الرّمال
كمئذنة معفّرة
كمقبرة
كمجد زال
كمئذنة ترّدد فوقها إسمُ الله
وخط اسمٌ له فيها[4]
من هذا المطلع، يتّضح أن السيّاب في هذه القصيدة وبلسان الإنسان العربي، يهدف إلى التعبير عن شخصية الأمّة وتاريخها وواقعها وتطلّعاتها. فلقد كان لأمّة العرب حضورٌ في ما غير من الزمان على إمتداد إمبراطورية واسعة الأرجاء شملت من بين ما شملته بلاد المغرب العربي في شمالي افريقيا، وتجلّي حضورها دولاً ومؤسسات ولغة وثقافةً، وديناً ومنشآت، وتراثاً عربياً غنياً بالفكر والأدب والفن والعلوم، وحضارة إنسانية شامخة ماتزال آثارها قائمة في بلاد المغرب العربي[5]. ولقد إنطلق الشاعر من ظاهرة صغيرة جدا، من كتابة منقوشة في وحشة الصحراء على آجرة حمراء عند بقايا قبر. هذا الشئ الصغير فتح بابا عريضاً أمام السيّاب على مدى آفاق شاسعة من تاريخ الأمة العربية وقضاياها وجوهر وجودها ماضياً وحاضراً ومستقبلاً وكان مفتاحه حيرة إستبدلت به أمام إسمه المنقوش على حجارة القبر. فهو من جبهة يرى قبره بعينه، واسمه وتاريخ وفاته، مما يوحي إليه بأنه حيّ ، فيتساءل «أحيّ هو أم ميت»؟ وكأنه في غمرة هذا الإرتياب، يريد أن يطرح السؤال الجوهري على أمّته من خلال ذاته: «أحيّة هي أم ميّتة» فالإسم المنقوش على آجرة القبر هو في الحقيقة إسم الأمة العربية، والقبر هو ماضيها وأمجادها التاريخية فالسيّاب لا يكفيه أن يكون له ـ وبالتالي لأمته ظلّ وجود، وإنّما هو يريد له ولها وجوداً حقيقياً حياً فاعلاً، لذلك نراه كمقبره ... كمجد زال... كمئذنة تردّد فوقها إسم الله . ... وخطّ إسم لها فيها. لأنّ ذلك هو مثابة ظلّ للوجود، وليس وجدوا حقيقيأ، رغم أن المئذنة ترمز بشموخها إلى شموخ ذلك الماضي، وفي أعلى الشموخ تردّد من قبل اسم الله الذي يرمز الى العظمة والقدرة والقداسة وروعة الخلق والإبداع، والى قيم الخير والحق والجمال وسوى ذلك ما يترجم على الصعيد البشري تراثاً حضارياً:
وكان محمّد نقشاً على آجرّة خضراء
يزهو في أعاليها...
فأمسى تأكل الغبراء
والنيّران من معناه
ويركله الغزاة بلا حذاء
بلا قدم
وتنزف منه دون دم
جراحٌ دونما ألم
فقد مات ...
ومتنا فيه، من موتى ومن أحياء.
فنحن جميعنا أموات
أنا ومحمّد والله
وهذا قبرنا: أنقاض مئذنة معفّره
عليها يكتب إسم محمّد والله
على كسر مبعثرة
من الآجر والفخّار[6]
وقد يبدو من المستغرب ـ أوّل الامر ـ أن تعلو هذه النغمة الألوهية والإنسانية في قصيدة السياب التي تتحدّث عن النضال العربي أوعن الأوضاع العربية عامة، ولكن حسب إعتقاد الناقد وأبحاث الدكتور إحسان عباس؛ بأنّ هذه القصيدة (المغرب العربي) وخصوصاً هذا المقطع يؤكد الحقيقة نفسها بأنّ هذه الظاهرة الألوهية والإنسانية في شعر السيّاب كانت ذات دلالة عكسية نعني أنّها قول على الألم الدفين لإندحار الإنسان وما يؤمن به من مثل دينية. وتفسيراً لهذا الأمر الذي يبدو محيّدا نقول أنّ الناس الذين يتحدث عنهم الشاعر في هذه الفقرة ينقسمون في ثلاث فئات ؛لا في فئتين قوية وضعيفة): فئة الغزاة الذين يؤمنون بآلهة جديدة تحمل أسماء «فحم» و«حديد» وما أشبه، وهم الذين يولّهون قولهم تحت أسماء ترمز الى تلك القوة، وهؤلاء هم الذين يسلّطون «طائر الحديد» ليرمي الحضارة بحجارة من سجيّل، وقد سمّوا أحياناً «التتر» وأحيانا أخرى «الصليبين» وهم يعودون في تاريخ الإنسانية تحت أسماء مختلفة، وقد ظهروا في المغرب العربي يحطّمون ويقتلون، كما تدفّقوا تحت اسم «الصهايّنة» إلى المشرق العربي كطوفان من الظلام. والفئة الثانية هم الثائرون الذين مايزال إلهم فيهم يحمل في مقدمتهم راية الثورة، إلهم العربي رمز الحياة والقوة وتحطّم على أيدي أولئك الثوّار ما عداه من إلهة كانت تعبد لأنّها ترجى أو تخشى. وأما الفئة الثالثة فهي جماعة المغلوبين والمستسلمين إلى سبات عميق، وهؤلاء هم جميع الشعوب العربية، كما يصفه الشاعر وهم سكان القبور التي لا تثور ـ وربّما أنّ هؤلاء موتى، لهذا مات محمّد فيهم كما إندثرت معاني الألوهية بينهم[7].
و لكن التراث الحضاري العربي، وشخصية الأمة العربية، وأمجادها ، لها قلب ينبض ويبثّ فيها حرارة الحياة هو النبي محمّد فمن اسم الله في أعالي المئذنة، كان إسم محمّد منقوشاً على آجرة خضراء «يزهو في أعاليها» وليس محمّد على المستوى القومي عند العرب نبياً فحسب، مبشراً بالإسلام، وناظراً لتعاليمه. وإنما هو إنسان عربي، وقيمة عربية فاعلة، وذروة في عطاء هذه الأمة، وإبداعها. وبقدر ما هو عنصر روحي إصطفته الإرادة الإلهية ليكون رسول الله إلى العالمين، هو أيضاً عنصر قومي عربي، وحصيلة إنسانية وحضارية في تاريخ الأمة لذلك إقترن إسمها بإسمه، ما اقترن اسمه باسم الله، وشاع بين العرب اسم محمّد تدعو به أبناءها تيمناً وتقديساً وتخليداً لرمز حضارتها ووجودها القومي. لكن الزّمان قد إنقلب في الحاضر الراهن وانقلبت معيارالمقاييس والقيم، فغدا المجد العربي عرضة للعبث والمهانة. «تأكل الغبراء والنيران من معناه، ويركله الغزاة بلا حذاء، بلا قدم» . و«تنزف منه دون دم، جراح دونما ألم». إزاء ذلك يشعر السيّاب بموت هذا المجد في عناصره الثلاثة المتلازمة: الإنسان العربي، والعبقرية العربية التي أضحى محمّد رمزاً لها، والقيم الخلّاقة المبدعة خيراً وحقاً وجمالاً وقداسةً وعظمة والمتمثّلة في اسم الله.
فيعبّر عن هذا الشعور بقوله «فنحن جميعنا أموات؛ أنا، ومحمّد والله». غير أنه يستدرك بعد ذلك أن ما يراه من موت ليس حقيقياً، فالأمة التي صنعت ماضي العرب وتاريخهم وأمجادهم لا يمكن أن تموت. فهي منذ أيام أبرهة الأشرم ومهاجمته الكعبة قبل ظهور الاسلام ، في صراع قومي ضد الموت والفناء. فمنذ ذلك الحين قد أخذت تدرك وجودها القومي، وتتصرّف بوحي منه، في مواقفها الحرجة، وظروفها التاريخية المتأزّمة لتخرج بفضله منتصرةً على ما يحيط بها من الأخطار. هكذا فعلت في عام المقبل يوم تصدّت لأبرهه الأشرم وجنوده وأفياله، وردتهم عن الكعبة رمز كرامتها ووجودها وقيمها، وهكذا فعلت يوم ذي قار، وفي كل فترة من فترات التاريخ التي تألّق فيها مجد العرب، فكانت ثورة دائمة في سبيل الحق والكرامة والقيم الانسانية العليا.[8] ومن الجدير بالذّكر إن يأس الشاعر في المرحلة التموزية لم يكن يأساً من الحياة أينما كان يأسا من الثورة ومن مخاضها، إنّه يأسٌ من تغيير حالة القهر التي كان يعيشها العرب. وكذلك الشاعر يحسّ بأنّ كل شيء كان في عدد الأموات ... الشعب ... التراث ... الدين. فيكف إذن يمكن تغيير الواقع؟ يمكن أن نجيب على هذا السؤال ؛ بأنّ الثورة معجزة، لأنّ حدوثها لا يمكن أن يتمّ على أيدي الموتى. لكنّ هذا اليأس من الحياة في المرحلة الذاتية يقود الشاعر إلى طلب الموت.[9]
"والمغرب العربي هي من أوّل القصائد التي تصوّر الشاعر فيها، تصوّر إنساناً ميتاً ولكنّه حين إستيقظ رأى قبره، وهذا رمز الإنسان الشرقي العربي الذي تحطّمت حضارته (رمزها) المئذنة التي كان قد كتب عليها إسم الله ومحمّد وإندثرت، وأخذ الغزاة الحفاة (لأنه لا حضارة لهم) يركلون ذلك الحطام بأقدامهم دون أي إهتمام بقداسة تلك الرموز الحضارية، وعلى مقربة من قبر هذا الميت العائد كان هناك قبر جده الذي صنع تلك الحضارة، وصوته ينبعث من وراء القبر"[10]. ويستعيد المقطع الثاني، المطلع الأول ليعود من خلال ذلك إلى مبتدأ القول، إنّما متصلا بما إنتهى اليه من رجوع الى الماضي والتاريخ يذكر بأوضاع مماثلة لتلك المأسويّة الراهنة. لذلك تتقدّم الوعي بهذه المأسوية وقد أضحى تاريخيا الدّالة ليستقرئها في بعديها الحاضر والماضي عبد القبر، الصورة الرمزيّة. عليها وقد أصبح قبرين نظراً إلى ما يمثّله الإندحار من تقريب بين الأمس واليوم، على الرغم من الفاصل الزمني المديد بينها. ولمّا كان القبر الأول تجيسماً لإنهيار الحضارة العربية الاسلامية في المغرب العربي اليوم ولتهشيم الكيان الوجودي بأبعاده المتعددة لشعبه كما أتيحت معاينته أعلاه، فإنّ القبر الثاني تجسيمٌ لما تعرّض له هذا الكيان وتلك الحضارة تاريخياً من مآس ونكبات. فهما رغم التباعد الزمني يجتمعان في الإنهيار المأسويّ الذي يتجسّم في حفرة تضمّها معاً: الماضي المتمثّل بجد الأب والحاضر المتمثّل بالمتكلم، حيث لا يعدو الجد أن يكون رملاً ونثارة سوداء دلالة على الخراب والدمار الذي أصاب ذلك الماضي، وحيث يتقدّم المتكلم إبناً له في هلاكه وتفتّته، فتلتحق صورته طينا يابسا بصورة الجد رمادا رمليا اسود لتولفا سلاله من الهزائم والإنكسارات تجد في الحفرة اللّحديّة الجامعة قبرا جماعياً تاريخياً يرمز إلى ذلّها وإنطماسها، ولتسعيد معاً صورحطام الآجر والفخّار لأنقاض المئذنة المعفّرة، رمز الإنهيار الحضاري كما تبدي في المقطع الاول.
لكن الصورتين المذكورتين لا تحيلان على هذا الحطام وحسب، بل تحيلان أيضاً على ذلك الموت المزدوج الذي أثار قلق وحيرة المتكلم في البداية، ذلك أنّ المأسوية التي ظهرت هناك في موت لا معقول يضاف إلى موت فجائعي متّخذة من الإنهيار الحضاري منطلقها، تجد هنا في ما آلت إليه القرابة الدّمويّة، أساس العصبية القبلية وواحدة من أبرز مقومات السلطة العربية الاسلامية، تعبيرها المميّز حيث يماثل طرفاها الجدّ الأكبر وسيلة الأصغر في الموت والإنهدام. هكذا يعي المتكلّم وضعه الراهن : موتاً ذاتياً وجماعياً سلاليّاً وعرقياًً وتاريخياً في الوقت نفسه، يعلنه اسمه المكتوب على القبرين المجتمعين في حفرة البؤس والإنحطاط والإنكسار.[11] ويربط الشاعر بين السلف؛ أمة العرب وبين الخلف، فالاسم الذي قرأه على صخرة القبر إنّما قرأه في الحقيقة على قبرين: قبرٌ لجد أبيه الذي مازال يحنّ إليه، والذي لم يبق منه سوى «محض رمال» و«محض نثارة سوداء». وبه تتمثّل معنويات القوم وروابطهم التاريخية، وقيمهم الإنسانية، وقبره هو، بما يمثّله من موت حضاري، وضعف وتفلّك، وواقع متصدّع منهار، وبقايا نبض وتحرك وتطلع إلى الحياة مما إعتبره الشاعر ظلاً للوجود، وتساءل بسببه عمّا إذا كان حياً أم ميّتاً. وكأنه يريد أن يجعل من الحياة العربية العصرية في بعض وجوهها على الأقل إمتداداً لتلك الحياة السالفة، وإستمراراً لحركتها وتفجّرها وإندافاعها[12]:
وكان يطوف من جديّ
مع المدّ
هتاف يملأ الشطآن «يا ودياننا ثوري».
ويا هذا الدم الباقي على الاجيال
يا إرث الجماهير
تشظّ الآن واسحق هذه الأغلال
وكالزلزال
هزّ النير، او فأسحقه، وأستحقنا مع النير»
وكان إلهُنا يختال
بين عصائب الأبطال
من زند الى زند
ومن بند الى بند[13]
ففي المقطع الثالث حديث المتكلم عن جده، فيظهر أنّ هذا الأخير ليس نثارة رمل ورماد فقط، ما أوحي المقطع الثاني بذلك، فما خلّفه الأسلاف إلى الأجيال اللاحقة ليس هزائمهم وإنكساراتهم وحسب، بل، وهذا هو الأهم، نضالهم في وجه الإستعباد وثورتهم على القهر والإستغلال كما يدلّ على ذلك هتاف الجد يستصرخ الأرض ويستحدث سلالة المناضلين من الشعب لتحطيم ما يكبّلهم والتضحية بالذات وحتى بالجميع في سبيل ذلك إن اقتضى الأمر وكما يتّضح البعد الرمزي لله في هذا المقطع، فهو هنا جزء لا تجتزأ من هؤلاء المناضلين في سبيل الحرية ومن مآثرهم وإنجازاتهم على هذا الطريق. كان موته هوالآخر الملاحظ آنفاً لم يكن وكما حال الجدّ والأسلاف، إلا نتيجة إنغماسه في هذا الكفاح التحريري ضمن هذا المنظور لا يعود الله ذلك المفهوم الديني التقلييدي الغيبي المتعارف عليه، إنّما يتقدم كمفهوم جديد إنساني حضاري أنّه ورمز الإنسان العربي حضارته التّليدة الراقية وكفاح من أجل القيم النبيلة كالحرية والعدل ...يزهو إنتصاراته ويكبو بهزائمه.[14]
" فقد حقق هذا الجدّ إنتصارات في ذي قار، ولكن أبناء إنقسموا فريقين، فريق حمل راية الثورة في جبال الريف وفريق عرف عار الهزيمة في يافا ترى ما الذي حطم هذه الحضارة؟ إنها غارات الجراد من التتر والصليبين وهما سيّان، فلمّا إندحر الصليبيون بالأمس جاء واليوم ينتقمون لأنفسهم من قوتنا وإنتصارنا وإنتصار إلهنا؛ وهكذا إرتبط الماضي والحاضر بإرتباط قبرين (كهفين متجاوزين يعيش فيها الجدّ وحفيده)"[15]. "ومن ثنيات الماضي عبر المراحل التاريخية المتعاقبة كان ينبعث الشاعر الهتاف من غبار الأجداد، فيطوف مع مدّ البحار لميلأ الشطآن بدوية، منادياً كلّ أرض عربية لأن تثور، مخاطباً «هذا الدم الباقي على الأجيال إرثاً للجماهير» داعياً إيّاه لأن يتشظّى وينقضّ على الأغلال التي تكبّل الأمة العربية فيسحقها ويسحق معها الإستعمار والذل والعبودية، وإذا إقتضى ذلك أن يسحق جيلاً من أجيال الامة ، كي يحرّرها، فلا بأس بسحق الجيل الحالي ، ليكون له شرف الفداء وكأنّنا بالشاعر، حين يشير إلى هذا الهتاف الداعي إلى الثورة ويركّز عليه ويبرزه، يبارك في الإرث العربي هذه النزعة الدائمة إلى التحرر، وإلى تحطيم القيود والإنحلال، ومحافظة على الإستقلال والحياة الكريمة وكرامة الأمة وكيانها وحقوقها، وترسيخاً لوجودها في أرضها، وحضورها بين الأمم العريقة في الحضارة والقيم الإنسانية. ناهيك بدعوة الأمة العربية في المغرب العربي وفي فلسطين، وكل قطر من أقطار العرب، إلى معمودية الثورة ليتجلى الدم العربي والإرث العربي رائعين مباركين كما تجلّيا من قبل في يوم ذي قار حيث دارت حرب بين العرب والفرس لأسباب قومية، فإنتصر العرب على الفرس رغم ما كان للأمة الفارسية يومذاك من قوة وعظمة وسيطرة ومجد. ولاغرابة فالحق هو الذي ينتصر دائماً مهما يتألب عليه من قوى الباطل في جيوش المغتصبين والمستعمرين. ان الإله العربي الذي كان يختال على مر التاريخ بين عصائب الأبطال «من زند إلى زند، ومن بند إلى بند» هو نفسه إلى الكعبة الجبّار، الذي نصر العرب في ذي قار، وإله الأمة العربيه في نضالها القديم ونضالها الحديث"[16]:
إله الكعبة الجبار
تدرّع أمس في ذي قار
بدرع من دم النعمان في حافاتها آثار
إله محمّد وإله آبائي من العرب،
تراءى في جبال الريف يحمل راية الثوار
وفي يافا رآه القوم يبكي في بقايا دار
وأبصرناه يهبطُ أرضنا يوماً من السُّحُب:
جريحاً كان في أحيائنا يمشي ويستجدي،
فلم تضمدُ له جرحاً
ولا ضحيّ
له منّا الخبز والأنعام من عبد[17]!
" تلك هي الصورة العامّة التي تتمثّل للألوهية في قصائد هذه الفترة ومع أننا لا نفي الجرأة التي صاحبت التعبيرهنا، كما لا ننفي إيمان الشاعر بأنّ إله كل قوم يكون على شاكلتهم، فإننا نرى أنّ الدافع لهذا التصوّر إنّما يمثّل غيرة دينية على ما أصاب الشعوب العربية والإسلامية من ضعف شديد، ولهذا ذهب في تيار هذه الغيرة المقترنة بروح الثورة بطلب أن يعيد العرب ـ كما أعاد عرب المغرب فيهم ـ محمّد والاله العربي"[18]. وفي المقطع الرابع يكتمل معنى الله فيه إستكمالاً وتحقيقاً وتمثيلاً صريحاً لما إنتهى إليه وثمّ الايحاء به في المقطع السابق، في أوضاع ثلاثة؛ فارساً قاتل في ذي قار، وثائراً يناضل في جبال الريف، ومهزوماً في يافا يلجأ جريحأ إلى البلاد العربية. في الأول يجري إستلهام التاريخ القديم في بعض وقائعه التي إنتصر العرب فيها على الفرس في ذي قار أوائل القرن السابع قبل بدء الدعوة الإسلامية. وإعتماد الرمز التاريخي هنا يتعدى الاشارة إلى إنتصار العسكري فهذا الإنتصار لقيم معطيات المختلفة التي واكبته هو إنتصار للقيم العربية من وفاد وشجاعة وكرامة وتآزر وحسن تخطيط وتدبير... على صفات الغدر وظلم والإستبداد التي واجهتها. تأتي صورة الله هنا للإيحاء بهذه الدلالة وللتأكيد على قدرات العربيّ الفريدة التي تمكّنه من الإنتصار على عدو يفوقه قوة وعدداً وعتاداً. وهكذا فإنّ رمز الله في هذا المقطع بشكل حاسم يدلّ إعتماد الشاعر رمزاً دالاً على الإنسان العربي الحضاري. [19] "هذا الإله الذي إنتصر في حرب ذي قار، وحمل راية الثوّار في جبال الريف المغربي إن هو إلا القومية العربية التي تربط ما بين الأجيال السالفة من عهد الجاهلية، والأجيال الحاضرة في القرن العشرين وهي التي نكبت في فلسطين، وأضحت جريحة تمشي في أحياء العرب فلا تجد من يتحرك لنجدتها، أو يضمّد جراحها. وكان العرب قد أصابهم الذهول من هول الضربة، وسيطر عليهم الخوف من معالجة الأمة الجريحة، ومداواتها بالثورة، والبعث والإحياء، فراحوا يصلّون في إرتعاش"[20]:
بآيات يغصّ الجرح منها خير ما فيه
تداوي خوفنا من علمنا أنّا سنحييه
إذ ما هلّل الثوارمنّا: نحن نفديه[21]
فالشاعر يستمر الحديث عن موضوع الإله في المقطع الخامس، فالإله (الإنسان) العربي (الفلسطيني) الجريح يعرف هنا مع المؤمنين به وجهاً آخر من العلاقة مختلفاً عن ذلك القريب من التخلّي الذي إنتهى اليه المقطع السابع فصلواتهم تعبّرعن لوعة تأثّرهم بمصابه حتى لتكاد تكون نوعاً من الرثاء له، كان موته واقع لامحالة وجرحه قاتل وشفاءه ميؤوس منه. بل يبدو إنفعالهم بمصابة حادّاً إلى درجة يصبح الجرح عندها في كيانهم، ولا يملكون لعلاجه رغم إهتمامهم العاجل بذلك غيرآيات قرانيّة إن كانت لا توقف النزف فإنها مع ذلك تمنع خيرما في الدم أن يتسرّب ويزول، كما تعالج خوف العرب جميعا الذي يتملكهم إزاء حقيقة معرفتهم أنّ إفتداء الثوّار لهذا الانسان هو الطريق اليقينيّ لشفائه وخلاصه.[22] النكبة العربية في فلسطين ليست وليدة مصادفة، وإنما هي وليدة قحط عام، حل ببلاد العرب طوال قرون متعددة. قحط حضاري إستبد بمعظم أوطانهم، فباتوا يتخبّطون في ظلمة الإنحطاط، وقد قلّ الخير في أرضهم كأنّما إحرقتها أسراب الجراد، حتى الحبالى من النساء والأنعام ما عادت تلد سوى الرماد. وقد انتهكت المقدسات وذللّت النفوس وصنع من أهلّة المآذن نعال لسنابك خيل المستعمرين. وعضّ الجوع أبناء البلاد نصارى ومسلمين، فدبّ الفناء فيهم وسكنت ريحهم حتى إذا جاء العصر الحديث بدأوا يتحركون لينهضوا من كبوتهم وينفضوا عنهم غبار الإنحطاط ويثوروا على واقعهم الزريّ، وينفروا للجهاد[23]:
أغار من الظلام على قرانا
فأحرقهنّ سرب من جراد
كأنّ مياه دجلة حيث ولّي
تنمّ عليه بالدم والمداد
أليس هو الذي فجأ الحبالى
قضاه، فما ولدن سوى رماد؟
وأنعل بالأهلّة في بقايا
مآذنها سنابك من جواد؟
وجاء الشام يسحب في ثراها
خطى أسدين جاعا في الفؤاد؟
فأطغم أجوع الأسدين عيسى
ويل صداه من ماء العماد
وعضّ بني مكّه ... فالصّحارى
وكلّ الشرق ينفرّ للجهاد؟[24]
وفي المقطع السادس: وبدون مقدمات وبشكل مفاجئ ينتقل المقطع السادس إلى تناول الغزو الفرنسي والأوروبي للبلاد العربية ويجري تعقّب أحداث الغزو وآثاره في مشاهد متعاقبة تبرز الأوضاع والحالات المروعة التي نشأت عنه. المشهد الأول عام وشامل وإنّما مدمّر ومبيد بشكل حاسم، يتقدم فيه الغزاة سرب جراد، تلك العناصر التي أضحت مثلاً في الإجتياحات الدراسة ورمزاً للبلاء المدمر. ويأتي تعيين مصدرها بالظلام ليدلّ على الموقع الجغرافي الذي جاءت منه، على الغرب (فرنسا وأوروبا) وعلى الموقع الحضاري الذي تنطلق منه، على الجهل والبدائية والإنغلاق والتعصّب والظلم والظلامية. إنها تجعل من القرى الدالة ـ على الأمن والإستقرار والتحضّر أهداف تخريبها وموضوعات إجتياحها اللذين يتذخذان الشكل الأكثر شراسةً وإيذاءً ورعباً. بالمقابل تتّخذ العذابات والمصائب المتولدة من هذا الغزو الشكل المائي، شكل الدم المراق لأبناء البلاد والحبر المتلف في خزائهنم ومكتباتهم، اللذين بتدفّقهما نهراً عظيماً (دجلة) يدلان على ما بلغه التقتيل للأنفس والتبديد للثروات الحضارية في البلاد العربية على أيدي هؤلاء الغزاة البرابرة الغربيين من تعسّف وهول فاقا كلّ حد.[25]
و بعد أن يعرض السيّاب هذه الصور من الواقع العربي الأليم، يتساءل ـ وهو أميل إلى النفي ـ عمّا إذا كانت أمّته تستحق هذا البلاء العظيم . فهي في الواقع أمّة مسحوقة مقهورة، مغلبوة على أمرها، قوي عليها المستعمرون وإستبدوا بها، وعبثوا بمقدوراتها، وإستغلوها، وتركوها فريسة للجهل والجوع والعجز. لكنها رغم المصائب التي حلّت بها. والفقر الذي مزّق أحشاءها، مازالت تحافظ على إصالتها وعلى قيمها ومثلها العليا، ولم تفعل مافعله غيرها من فحش وظلم وشر فهل ينبغي أن يقتص منها[26]؟:
أعاد اليوم كي يقتصّ من أنّا دحرناهُ
وإنّ الله باق في قرانا، ما قتلناهُ ؟
ولا من جوعنا يوما أكلناهُ ؟
ولا بالمال بعناهُ
كما باعوا
إلههم الذي صنعوه من ذهب كدحناهُ ؟
كما أكلوهُ إذ جاعوا
إلههم الذي من خبزنا الدّامي جبلناهُ ؟
وفي باريس تتخذ البغايا
وسائدهنّ من ألم المسيح...[27]
وفي هذا المقطع، فضلاً عن ما ذكرناه، إشارة الى علاقة الشعوب القوية بالشعوب الضعيفة، وعلاقه الأغنياء بالفقراء، والمستعمرين بأهل البلاد التي إستعمروها. كما أن فيه نفحة من الواقعية الاشتراكية التي تنتصر للضعفاء والفقراء والكادحين ممن يأكلون خبزهم بعرق الجبين، ويشقّون في انتاج ما يستغله بالباطل اهل القوة والثراء والجشع الرأسمالي. وعلى هذا يكون الفقراء الكادحون اهل الفضل والعطاء. ويكون الاغنياء المستبدّون اهل الشر والفساد والاستغلال. وإذ كان لهذه الاحوال من علاج، فالثورات الشعبية، وضروب النضال القومي هي العلاج الفعّال وهي الطريق الوحيد الى الخلاص والتحرر من كل نير. "ويتوقّف السيّاب امام نموذج من هذه الثورات القومية في المغرب العربي، متوسّماً فيه الخير، معلقاً عليه الآمال، مطمئنا الى أن أمّة العرب لم تمت، وإن إلهها المتمثّل في القومية العربية مازال مقيماً فيها ليدرأ عنها كل خطر يهدّدها بالفناء"[28]. وتتعدّد المشاهد الشواهد على الدمار المتعدّد الأوجه الذي حمله الغرب الى بلاد العرب في هذا المقطع من القصيدة. فهو دمار إنساني قبل أي شيء آخر، يقضي على الحياة ويحوّل دون إستمرارها محوّلاً الخصب (الحبل) إلى عقم (رماد) ودمار حضاري يهدم الصروح الدينية (الجوامع) رموز التآلف والإنسجام ويمتهن شعائرها المقدسة (أهلّة المآذن) فيما هو يصطنعها وسائل مبتذلة (نعال خيل) لأعمال الحربية وغاياته العدوانية. يحتاج بلاد الشام وحشية تجمع الى العنف التدنيس والتخريب دون أن تميّز بين مسيحيته أصلية تدعو الى المحبة والتسامح ومساعدة الآخرين (فتشبع جوعها بعيسى المسيح وتروي ظمأها بما العمادة) وبين الإسلام وطيد الكيان والعصبية (فتعضّ نبيّه) فيأتي نهوض العرب والشرق للجهاد دفاعاً عن الخصب والحياة، عن الدين والحضارة، عن تراب الأرض ومائها ضد ما يصيبها من مكروه ومن يتعرض لها بالأذى.
على أن الجهاد هنا، مثله مثل الصلبيّة ليس مفهوماً دينياً. فكما أنّ الغزوات الصلبية لا تقدّم هنا حملات دينية (مسيحية) إذ لا يتعيّن هدف ديني من ذلك التدمير الذي عوين أعلاه، والذي كان من ضحاياه عيسى المسيح نفسه، لايأتي الجهاد إجراءً دينياً (إسلامياً) إذ يضمّ الشرقيين كلهم لكفّ أوجه العدوان المختلفة عليهم، ليبقى البعد الحضاري الإنساني للصراع بين الغرب (المعتدي) والشرق (المقاوم) هو البعد المهيمن والطاغي فيه، وإن كان الدين (الإسلامي ) أحد عناصره البارزة الأمر الذي يتيح تقديمه مجازاً رمزاً دالاً على الكل الذي ينتمي إليه[29]:
قرأت اسمي على صخرة
تنفّس عالم الأحياء
كما يجري دم الأعراق بين النبض والنّبض
ومن آجرة حمراء ماثلة على حفره
أضاء ملامح الأرض
بلا ومض
دمٌ فيها فسمّاها
لتأخذ منه معناها
لأعرف أنّها أرضي
لأعرف أنّها بعضي
لأعرف أنّها ماضي، لا أحياه لولاها.
وأنّي ميتٌ لولاه، أمشي بين موتاها.
أذاك الصاخبُ المكتظّ بالرايات وادينا ؟
أهذا لونٌ ما فينا
تضوّأ من كُوي «الحمراء»
ومن آجرة خضراء
عليها نكتب إسم الله بُقياً من دم فينا؟
أنبرٌ من أذان الفجر؟ أم تكبيره الثّوار
تعلو من ماضينا...؟
تمخّضت القبور لتنشر الموتى ملايينا
وهب محمّد، وإلههُ العربي والأنصار:
إنّ إلهنا فينا[30]
هذا البعد الذي يتراءى في المقطع السابع حيث تحاول الصيغة الإستفهامية بتعدّد أسئلتها المركّبة أن تحيط بمعطياته الجديدة في خضم الصراع المحتدم آنذاك مع الهجوم الإستعمار الفرنسي على المغرب العربي (والبلاد العربية) فيبدو هذا الهجوم للمتكلّم محاولة من الغرب للثأر من الإندحار الذي انتهيت اليه حملاته الصليبية على الشرق من ناحية، نتيجة للتناقض القائم بين حضارة عربية قائمة على الايمان والوفاء والقيم الاخلاقية السامية وحضارة غربية قائمة على المنفعة المادية والنهب والاستغلال من ناحية ثانية. إن الصراع الراهن بين الغرب الذي يغزو العرب اليوم ومن هؤلاء يتحدّد إذاً بوجهيه غيرالمنفكّ أحدهما عن الآخر، التاريخي والحضاري. إذا كانت الإشارة الى التاريخي تتّخذ صورة الإنتقام لهزيمة سابقة فإن التعبير عن الحضاري يتّخذ صورة الموقف المتناقض من الله كرمز اختزالي دال على رؤية حضارية شاملة. فالعرب إذا يصونونه وإلا يرتدّون عليه أو يخونونه أو يخضعونه لحاجاتهم العابرة ومصالحهم المادية المتقلّبة إنما يحافظون على القيم والمبادئ المرتبطة به أو الممثلة فيه كالخير والعدل والصدق والوفاء في حين لا يحفل أهل الغرب بذلك كلّه، فهم لا يتورعون عن المتاجرة بالله وتسخيره لمصالحهم وإحتياجاتهم، على أنّ الهمّ ليس إلا إله الربح والنهب والقمع والإستغلال، كوّنوه من كدح وتعب وبذل شعوب البلدان التي غزوها أو إستعمروها، أو أنه ليس إلا مجموعة القيم والمبادئ المعبّرة عن هذا كله[31].
وهكذا يصوغ السيّاب من إلتزامه القومي العربي، ومن الثورة العربية المغربية في شمالي أفريقيا، أنشودة قومية تمجّد مآثرالعرب في اللغة والدين، ولا عمران والحضارة، والقيم الإنسانية، وتربط ربطاً قوياً لا ينفصم بين ماضي الأمة العربية وحاضرها ومستقبلها، وبين شخصيتها وأرضها وحياتها بصورة عامة في إلتحام قومي متماسك تزيده الأيام نمواً وصلابة وحيوية، وخلوداً مدى الدهر. من الإسم العربي المنقوش على الصخرة في وحشة الصحراء المغربية الى الاسمين اللذين يقترن بهما. إسما محمّد والله، واللذين يتنفّس بينهما عالم الاحياء على نحو ما «يجرى دم الأعراق بين النبض والنبض». «ومن آجرة حمراء مائلة على حفرة». ينبجس دم عربي يضيء ملامح الارض بلا ومض.و من هذا الدم العربي تأخذ الأرض معناها لإلتصاق الإنسان بأرضه وإرتباط هويته بها فتعرف الأمة أنها أرضها، وأنها جزء منها، تمثل لها الماضي الذي تحيا به حاضرها، وتسمتدّ منها كيانها. ومن ذلك كلّه تشكلّت ثورة العرب في شمالي أفريقيا، وإستمدت نورها من كُوي «الحمراء» في تاريخ بلاد الأندلس حيث تتجلى الحضارة العربية بأبهى حللها، ومن الآجرة الخضراء المكتوب عليها اسم الله بدماء عربية مجاهدة في سبيل الإسلام. ويتساءل الشاعر في ختام القصيدة عما إذا كان هذا الصخب الثوري نبراً من أذان الفجر، أم تكبيره تنطلق بها ألسن الثّوار منادية: «الله اكبر» لتنشر القبور الملايين من موتاها العرب، ولتؤكد مع «محمّد، وإلهه العربي، والأنصار»: «أن إلهنا فينا»"[32].
إن كان الصدام بين الطرفين: الإستعمار الغربي والبلدان العربية إتخذ شكل الصراع بين الصلبية والإسلام في الماضي فإنه اليوم يتّخذ شكل الصراع بين الرأسمالية الملحدة والعروبة المومنة. لعلّ هذا الشكل الأخير هو الذي يومئ اليه المقطع الثامن الذي يمضي إلى واحد من أبرز مراكز الحضارة الغربية، ممثلاً في واحدة من حاضراتها الأكثر رقياً (باريس) والمعنيّة أكثرمن سواها على كل حال بالغزو الجديد الذي كان الغرب (الرأسمالي) على البلاد العربية (في المغرب) آنذاك. فيستعرض من مشهد واحد يكاد يحتل بأكمله وضع هذه الحضارة فيه ليبيّن فيه مصدرها العوامل الفاعلة فيها والدامغة لها في الإعتداء على الحضارة العربية، فيتمّ التركيز على الإنهيار الخلقي والديني في هذا الوضع حتى ليعدّ التهتك والإنحلال والفجور التي تعمره مصدراً وسبباً للغزوات التي يشنّها الغرب على هذه الحضارة يتقدّم هذا العرض تأكيدا للطرح الذي سبق التّعرض له في المقطع السابق بصدد الصراع الحضاري بين الغرب والعرب ـ فباريس البغيّ الكافرة العقيم لاتلد إلا مسوخ الشر التنينية الحديديّة التي تهاجم صروح الخير والحضارة الاسلامية العربية. (فبغايا هذه الحاضرة الغربية يعتمدان هنا رمزاً لمجتمع الغرب وحضارته، وهنّ إذ يتّخذن من عذاب المسيح وسيلة راحة يشرن الى إنقلاب القيم المسيحية في المجتمع المذكور وحضارته، وهو إنقلاب يمثّل كذلك في رحم هذا المجتمع، كما تقدّمه حشايا البغايا، تكاثراً لقوى تدمير وإهلاك تنطلق للقضاء على رموز الحضارة الاسلامية العربية.
تنكشف الحضارة الرأسمالية الغربية في موطنها عن إستلاب فظيع للإنسان وتحطيم وحشي للقيم النبيلة يعطّلان سلوكها خارجها. تتّخذ البغايا نموذجاً لتصوير هذه الحضارة لانّهن يجسّدن أكثرمن سواهن خضوع الإنسان فيها، في كيانه وسلوكه وعلاقاته الأكثر حميمية، لعلاقات السوق والتبادل السلعيّ فحيث تعمّ قيم الريح والنهب والإحتكار ليس الله هوالذي يصبح سلعة، أو المسيح الذي يتحوّل بضاعة، بل الإنسان نفسه، ولا يعود الدين إلا مظهراً متقلّباً ومطيّة مبتذلة للمآرب الخاصّة مهما كانت تافهة او مؤذية. في غياب القيم الرفيعة يغيب الحبّ والخير والخصب، وتعمّ الكراهية والشر والعقم وتتنامى في رحم الأسلاب المهين، ليتولد عنها قوى لا إنسانية ، متعاظمة البشاعة تجد في حضارة العرب والمسلمين الإسلامية نقيضها وعدوها الذي تلاحقه لتبيده.
" وهكذا يجري هنا دحض واضح للإدعاءات «الانسانية» للحضارة الغربية الرأسمالية وتأكيد على تحقيرها للقيم وتشويهها للإنسان، وعلى سعيها إلى تعميم هذا التشويه الإستلابيّ على العالم (العربي والإسلامي) بالحديد والنار (الإستعمار ـ البربرية الجديدة) "[33]. "وما ذكرنا أنّ الماضي والحاضر إرتبطت بإرتباط قبرين (كهفين يعيش فيهما الجد وحفيده)، وما كاد هذا الرابط يتمّ حتى تنفسّ عالم الأحياء، وعلت تكبيرة الثوار وأطلعت شمس النهضة من كُوي الحضارة العربية في قصر «الحمراء»"[34]:
وهب محمّد وإلهه العربي والأنصار[35]
وينطلق المتكلم، هنا من وعيه لواقع موته الحضاري الوجودي نحو وعي يتخطّاه إثرما تبيّنه من أبعاد الصراع بين العرب والغرب في المقاطع السابقة، فيكشف في تلاحق القتلى والقبور في بلاده شرط الحياة وتجددها. بل أنّ الموت في مواجهة الغزاة (الفرنسيين) هو الذي يحدّد الإنتماء الجغرافي والتاريخي وبالتالي الوجود الفعلي للذات التي بدون ذلك يصبح وجودها سدى، مسأوياً للعدم، هكذا يتقدم المقطع منقطعاً عن سابقه والقسم الثاني ليتّصل بما أرهصت به نهاية المقطع الخامس والقسم الأول (البيتان السادس والستّون والسابع والستّون) وبالتالي لهذا القسم ليكمله وليعيد كتابته في آن. وكذلك نشير بأن القصيدة (المغرب العربي)، تفتح بصورة كهفية بطل منها الإنسان المشرق العربي ـ يقوم من قبره ليرى كيف كان القبر المجاور له سر تلك الحضارة التي تتمثّل في آجرة نقش عليها اسم الله ومحمّد، ثم ليبصر الشمس ـ شمس الثورة الجديدة ـ تطلع من المغرب إن هذه القصيدة من أشد القصائد التي لايعتور بناءها إفتعال أو ضعف، وكأنها قد وضعت عفواً، فجاءت العفوية في خظتها أجمل من البناء المتعمد، وبين الحفيد والجد (و تغير معنى الواقع والرموز، وتعدّ المقارنة بين الحاضر والماضي وبين الحفيد والجد (و تغيير معنى الألوهية بين ذي قار ويافا) وبين المشرق العربي والمغرب العربي وبين صلبية القديمة والجديدة من أجمل ما استطاع السيّاب أن يكتبه في محتوى شعري، أما الخاتمة التي تستشرف اليقظة الكلية لشقيّ العالم العربي فإنها من أشد النهايات إرتباطاً بكل ما تقدّمها. لقد نسج السيّاب تاريخ الأمة العربية من خلال بضع لمحات ورموز، وكان رحاب النفس رحب الأفق طلقاً على القاعدة الكهفية، وما ذلك إلا لأنه إنحاز في النهاية إلى الشمس، إلى اليقظة على الأضواء المنبثقة من كُوي الحمراء36].
أما وعي الذات لموت الحضارة العربية في قصيدة المغرب العربي لم يعد مصدر اضطراب وقلق (كما في المقطع الأول) وإن وعيها لموت كيانها التاريخي لم يعد يقف عند حدود التماثل والتماهي بين الموتين المذكورين (ما في المقطع الثاني). فما بدا هناك لا معقولاً ومرتجاً يظهر هنا طبيعياً ومتفتحاً، والإنتقال من إسم المتكلّم الى تعدد الاسماء في نطاق الموت يكشف مدى لم يكن يتيحه التلبّث عند الإسم الواحد (في الأبيات 33 و34 ...) ان الموت الذي يضاف الى موت آخر لم يعد يدلّ على تفاقم الموات بل على عالم الوجود الحي الذي ينبثق هذا الموت منه، بل الذي ينبثق هو من هذا الموت بالذات، بقدر ما يكون هذا الموت ضامناً للحياة ومؤمناً لإستمراريتها كما يؤمن النبض تدفّق الدم المستمر بعده فيكون الموت بعد الآخر إستشهاداً متواصلاً، كفاحاً مستمراً يعطي الحياة زخمها وتحكم وتيرته بالذات جيشانها وحيويتها. لم يعد الموت تدميراً كيانياً وحضارياً ساحقاً تجسّده الآجرة الحمراء قبراً في الخلاء الجديب. (في الأبيات الاربعة الاولى) إنّه هذا الإستشهاد النضالي الذي يحمي الكيان القومي ويصون الحضارة القومية تجسّده الآجرة الحمراء شاهده تدّل بالدم الذي يهبها لوناً على إنتماء المدافعين عنها إلى الأرض القائمة فيها، إنتماء يعطي هذه الارض هويتها ويعطي أبناءها شخصيتهم ويعيّن في الإرتباط التاريخي والحضاري بينهم وبينها شرط الحياة الذي يتولّى تحقيقه، فيحوّل دون خروجهم من الحضارة والتاريخ والارض الى هامش الغفلة والإندثار.
"وهكذا تتّخذ الآجرة الحمراء هنا دلالة نقيض تلك التي عرفتها في مطلع القصيدة. إنها دليل النبض الحي للأمة وحضارتها وعلامة على إلتحام، لا إنثلام فيه بين الأرض والتاريخ والإنسان، يعطيها جميعاًً هويتها القومية والحضارية والإنسانية، ويحقّق لها وجداً راقياً فعالاً "[37].
"و قد مجّد السياب في قصيدة المغرب العربي، ثورة الجزائر، فعاد يتصوّر نفسه في داخل الكهف (القبر) وهو يصيح، رمزاً بذلك الإنسان المشرق العربي الذي تغيّر كل شيء في حاضرة حتى صحّ أن يسمّى عالمه قبراً، فالنّور فيه دجى، والشمس كرة جامدة، الدود ينحزّ تلك الكرة"[38]، والناس في هذا الكهف في الحقيقه ميّتون. بناء على ذلك يمضي الشاعر أخيراً الى متابعة ظاهرة النّضال العربي ليتمّثل في إتساع مداها وقوة إندافاعها حيوية الامة العربية وعظمة حضارتها. "تتلاحق المشاهد المعبرة عن هذا النضال في الأرض الممتلئة ثواراً ومقاتلين، في مآثر هؤلاء وتضحياتهم التي تصل عظمة الحاضر بالماضي، في تداخل البعد الديني والحضاري في المسيرة القومية التاريخية ... بل إنّ النضال العربي يبلغ من زخوره وإضطرامه أن يحيي الموتى ويبعث حتى الإله والأنبياء، إنّه الإله المقيم في الذات القومية يحقّق معجزات يتجاوز فيها كل معقول وغيرمعقول"[39]. "وتبدو هنا محافظة السيّاب على رمزي الكهف والشمس وعلى صلة الأول منهما بالرحم، إلا أنّ هذه القصيدة نسجت على منوالها، أي هذه القصيدة كانت في قصائد سياب الأقرب إلى العفوية، وهي نموذج للنتائج الطبيعي بين المقدمة والخاتمة ولا تذهب روعتها بتاتاً، لأن فيها البناء المعقّد الذي تمتاز بالتّلاحم القوي والتدرّج الحكم في المدى القصير، فهي لا تكلّف القارئ شيئاً من جهد لاستيعابها"[40].
بيد أن هذه المشاهد المفعمة بالمعاني في قصيدة المغرب العربي الدالة على صحوة نضالية جماعية لاتأتي متعلّقةً بالمقطع السابق عليها وحسب، بل إنّها تجئ كذلك متعلقة بمقاطع وأقسام النص السابقة كلّها حتى لتبدو وكأنها سلافة هذه المقاطع جميعاً أو خلاصتها الجوهرية. فالوادي المترع برايات الثّوار (بيت المئة) إستجابة لنداء الجدّ الداعي وديان البلاد إلى الثورة وتطوير لبنود الأبطال فيها (المقطع الثالث) وتعبير عن إمتداد الثورة الطافح من الجبال إلى الوديان، وبلورة لمفهوم الألوهية فيها بإلإعتباره طليعة ثورية مناضلة (المقطع الرابع) والضوء المنتشر من منافذ قصرالحمراء ومن الآجرة الخضراء التي يخطّ عليها دم الشهداء رمز حضاراتهم العربيّة الاسلاميّة (في الأبيات 101-104) يعلن تألق هذه الحضارة التي عرفت مجدها المشع في غرناطة ـ الأندلس، والتي عرفت أيام غرّها زهو النقوش الإسلامية على آجر مآذنها الشامخة (المقطع الأول) تألقاً يصل دم المناضلين العريق المتحدر من الأسلاف، ذخر الشعوب وإرثها الغالي الثمين (المقطع الثالث) مجد الماضي بالحاضر ويضمن إستمرارية الحضارة العربية ... وإذا يختلط أذان الفجر بتكبيرة الثوار من الحصون العربية (في البيتين 105 و106) فتلازم وتداخل البعدين الديني والحضاري في مسيرة النهوض الثوري للقومية العربية، وإعتماد الرّمز الديني للدلالة على الوضع الحضاري للأمة العربية كما في حمل الله راية الثوار (المقطع الرابع) وإحيائه من قبل الثوار بإفتدائه (المقطع الخامس) واقامة مكة في حصون منيعة (المقطع الثامن) ... فمن هذا المنظور ينبغي فهم المعجزات التي يأتي بها هؤلاء الثوار. فهم لا يكتفون، بتضحياتهم، بتخليص الأحياء من الموت الذي كان يتربّص بهم (المقطع التاسع) بل إنهم ينشرون الموتى من القبور (البيت 107) أو أن القبور معهم تتحول إلى نساء بالغات الخصب بعد أن كانت الحوامل في غيابهم يجهضن ولا يلدن غير الرماد (المقطع الرابع) وذلك بقدر ما يحيون الماضي في الحاضر، ما يحفظون الحضارة العربية العريقة ويتابعون انجازات أجدادهم الذين يندثرون بقدر ما يتردّى ابناؤهم في الحاضر (المقطع الثاني).
و هم يبعثون الله ومحمّدا والأنصار (البيت 108). لأنّهم بالإنتصارات التي يحقّقونها يتخطّون أوضاع الإنهيار والذل التي عرفتها الحضارة العربية والتي إتخذ موت الله ومحمّد تعبيراً رمزياً عنها (المقطع الأول). ليكون هذا البعث وذاك النشور دليلاً على إنتصارهم على الغزاة الأروبيّن الذين إرتبط حضورهم بالإجهاض وإغتيال الأنبياء وإيذائهم (المقطع السادس) وبالعقم والموت (المقطع الثامن).
إن كانت إنجازات الثوّار تبدو على هذا النحو معجزات تضاهي إن لم تتجاوز المعجزات الإلهية فإن الجملة الأخيرة (في البيت الأخير 109)؛ «إن إلهنا فينا» تأتي لتفسّر حقيقة أمر هذه المعجزات ولتوضح مغزى التناقض بين الحضارتين الغربية والعربية (المقطع السابع)، بل مغزى جملة الرموز الدينية التي تعمّر القصيدة. فليس هناك من قوى غيبية أو ماورائية يعتمد عليها لا شرقاً ولا غرباً. الرهان في الصراع بين العرب والغزاة هو على الإنسان العربي المناضل الذي يبذل دمه لجبه هؤلاء الغزاة المستعمرين ولوقف الإنهيار الحضاري . وكما مات الله ومحمّد مع الذات العربية المنهزمة المحطمة (المقطع الأول)، يبعثان هنا مع انتفاضتها الثائرة المجلجة . ما تصرّح به القصيدة هنا في نهايتها لم تكفّ مقاطعتها المختلفة عن التلميح إليه والإيحاء به :
إنّ الألوهية نضاليّة إنسانيّة، الرموز الدينيّة هي رموز حضارية إنسانيّة، الإنسان العربي الذي صنعها في الماضي قادر على صنع أمثالها بل أفضل منها في الحاضر والمستقبل. في هذه الخلاصة طرح لتصوّر ثوري لا يكتفي بالتهليل لنضال العرب ضد الإستعمار، وإنما يقدم مساهمته الخاصة في هذا النضال ساعياً كي تكون بمستوى الحدث، طليعيّة في مقاربتة ما أمكن ينطلق من الوقائع والأوضاع والمعتقدات السائدة دون أن يرتهن بها.إنّه على العكس من ذلك يتجاوزها ويسعى إلى دفعها نحو آفاق أكثر جذرية وتقدميّة لعلّ في هذا الطرح يمكن أحد أهم الأوجه الثوريّة والجماليّة للعنصر الدلالي في هذا النص. من جهة أخرى يبدو المقطعان الأخيران من القصيدة وكان كلاً منهما يختص بمعالجة جانب مختلف عن الآخر.[41]
يتناول القسم الأول إنهيار الحضارة العربية الإسلامية تحت وطأة غزو وحشي والمسؤولية الخاصة لأبنائها في ذلك، وهو يشغل المقاطع الخمسة الأولى (من السطر الأول حتّى 68)، حيث يعبّر عن هذا الإنهيار بالدّّمار والموت الشاملين والمتعددي الأشكال، وحيث تقدّم إنهيار نتيجة غزو جارف، ويبرز النضال لصدّه رهاناً وحيداً على صون الحياة والحضارة كما يثبت ذلك التاريخ العربي وكما يدرك ذلك الجيل الحاضر كأنّ هذا الطرح يدفع إلى متابعة كلّ من الطرفين المتواجهين: الغزاة الغربيين والمناضلين العرب ـ فيتابع القسم الثاني (في المقاطع الثلاثة التالية من السادس حتّى الثامن، من إلى سطر 96 إلى 98) أوضاع هؤلاء الغزاة في أوضاع هؤلاء الغزاة في حملاتهم البربرية تاريخياً على المنطقة العربية، وفي تناقض قيمهم المادية الرأسمالية اليوم مع قيم العرب الروحية الدينية، ومواقفهم كمستغلّين مع مواقع العرب ككادحين، وعهرهم الخلقي والحضاري الذي يتفجّرعدواناً إثماً على البلاد العربية. بينما يتناول القسم الثالث (في المقطعين الأخيرين من القصيدة من السطر 99 إلى 131): أحوال الثوار الفدائيين من العرب وجودهم فيبعثون بنضالهم البطولي حيوتيّهم المتحددة وتراثهم الراقي وقيمهم النبيلة. على هذا النحو تنظّم هيكليّة النص في أدائه للرؤية العامة فيه عبر طرح أوّليّ يتّجه إلى تفصيل وتطوير وحدتيه الأساستين بالإتجاه النامّ عن الموقف الخاص الذي يتبلور من خلاله. ولا يفتقر هذا الأبناء إلى قرائن تميّز وحداته الكبرى الثلاث وتعللّ تركيبها الداخلي في ترابط عناصرها المكوّنة من المقاطع المختلفة.[42]
ونضيف أخيراً بأنّنا نجد في هذه القصيدة التي يجوز تسمـيتها بالقصائـد العـربية ميـزة فارقـة من السهـل تمثّلها إذ نحن تذكـرنا حديث أفلاطـون في الجمهورية عن «الكـهف» الذي فيه بنو الإنسـان أسرى ومن ورائهم نار تنعكس عن ضوئها أشباح الحقائق الخارجـية في ظنـونها، حتّى إذ قيّـض لأحد منهم أن يخرج إلى النور الحقيقي بهره ضـوء الشـمـس (رمز المثـال الأسمى ) نقــول : إنّ هذه القصائد «الكهفية» تمثّل مسير الشاعر من خلال المفهومات الجمـاعية إلى حــومة لـذات، إلى الكهف القديم المريح الذي يمثّل في الرحم أو القبر، فهو ـ على نحو ما ـ يجد الـرّاحة في أن يكـون بين الموتى ويرى نفسه دائماً دفيناً ؛ لقد عاد إلى مشكلة الموت ولكن لا ليكـون وحـده بل ليكـون مع موتى كثيرين من أمته، وتخايله فكرة الولادة الجديدة أو الإنطلاق من الكهف عن لمعـان أسنة الثائرين في المغرب، ولهذا نراه يتلذّذ بتعذيب الذات في المقارنة بين موته وموت من هم علـى شاكلته وبين الأحـياء، ويتملـكه الشعور بالخجـل بل بالخـزي من أنه لم يستطـع بعد أن يهـبّ من رقدة القبر، أو أنّ ينطلق من ذلك الرّحم المظلم ـ إنّ الصراع بين الحقيقة الداخلية في الكهف ـ أي المـوت ـ وبيـن الحـياة فـي خارجـه هو لحـمة تلك القصـيدة .[43] وهذا ما كـان يتّضـح إلا عرضـنا هذه القصيدة (المغرب العربي ) بشيء من التحليل.
المصادر والمراجع :
[1] أنظر: م.ن، ج 1، ص 395، 396.
[2] بلاطة، عيسي، بدر شاكر السياب حياته وشعره، ص 89 ، بتصرف.
[3] أنظر: أبوحاقة، أحمد؛ الإلتزام في الشعر العربي، ص 432.
[4] السياب، بدر شاكر السياب؛المجموعة الشعرية الكاملة، ج 1، ص 172.
[5] أنظر: أبوحاقة، أحمد؛ الإلتزام في الشعرالعربي ، ص 432، 433.
[6] السياب، بدر شاكر؛ المجموعة الشعرية الكاملة، ج 1، ص 172، 173.
[7] أنظر: عباس، حسان؛ بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره، ص 196- 198.
[8] أنظر: أبوحاقه؛ أحمد؛ الإلتزام في الشعر العربي، ص 434، 435.
[9] أنظر: علي، عبد الرضا، الأسطورة في شعر السياب، ص178، 179.
[10] عباس، إحسان، بدر شاكر سياب دراسة في حياته وشعره، ص 199 ، بتصرف.
[11] أنظر: سويدان، سامي؛ بدر شاكر السياب وزيادة التجديد في الشعر العربي الحديث، ص 162، 163.
[12] أنظر: أبوحاقة، أحمد؛ الإلتزام في الشعر العربي، ص 434، 435.
[13] السياب ، بدر شاكر؛ المجموعة الشعرية الكاملة، ج 1، ص 174.
[14] أنظر: سويدان، سامي؛ بدر شاكر السياب وريادة التجديد في الشعر العربي الحديث، ص 164، 165.
[15] عباس، إحسان؛ بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره، ص 199.، بتصرف.
[16] أبوحاقة، أحمد؛ الإلتزام في الشعر العربي، ص 436، 437 ، بتصرف.
[17] السياب، بدر شاكر؛ المجموعة الشعرية الكاملة، ج 1، ص 174، 175.
[18] عباس، إحسان، بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره، ص 198، بتصرف.
[19] أنظر: سويدان، سامي؛ بدر شاكر السياب وريادة التجديد في الشعر العربي الحديث، ص 165، 166.
[20] أبوحاقة، أحمد؛ الإلتزام في الشعر العربي، ص 437، 438، بتصرف.
[21] السياب، بدر شاكر؛ المجموعة الشعرية الكاملة، ج 1، ص 175.
[22] أنظر سويدان، سامي؛ بدر شاكر السياب وريادة التجديد في الشعر العربي الحديث، ص 167، 168.
[23] أنظر: أبوحاقة، أحمد؛ الإلتزام في الشعر العربي، ص 438.
[24] السياب، بدر شاكر؛ المجموعة الشعرية الكاملة، ج 1، ص 175، 176.
[25] أنظر: سويدان، سامي؛ بدر شاكر السياب وريادة التجديد في الشعر العربي الحديث، ص 174، 175.
[26] أنظر: أبوحاقة، أحمد؛ الإلتزام في الشعرالعربي، ص 439.
[27] السياب، بدر شاكر؛ المجموعة الشعرية الكاملة، ج 1، ص 176، 177
[28] أبوحاقه، أحمد؛ الإلتزام في الشعر العربي، ص 440.
قد تكوّن قصيدة بدر شاكر السيّاب «في المغرب العربي»،[1] من بين أهم قصائده دلالة وقيمة. " إنّها في جميع الأحوال قصيدة مميزة تشكّل علامة فارقة في مسيرته الإبداعية نظراً لما إتّسمت به من بناء متوازن ومتماسك الى حدّ بعيد، ومن إرتياد لطرق في التعبير ومن محاولة تجديد في الإيقاع لا تخلو من جرأة ومغامرة ـ هي تتناول نضال العرب في الجزائر وشمال أفريقيا من أجل إستقلالهم وتحرّرهم ونهضتهم، معبّرة عن الإلتزام السياسي القومي في مسيرة الشاعر الفكرية والإبداعية"[2]. وتتّضح من ذلك أنّ قصيدة «في المغرب العربي» في نطاق الإلتزام القومي العربي، وقد نظّمها السيّاب عام 1956، ونشرها في مجلة الآداب في عدد آذار من العام نفسه وفيها تجاوب حي عميق بين الشاعر والإنتفاضات العربية التحرّرية في شمالي أفريقيا، في تونس والمغرب والجزائر، وفي كلّ بقعة عربية أخرى. فضلاً عن تجاوبه مع الفكر القومي العربي، وشعاراته الإيديولوجية الحديثة التي أخذت تنتشر في الأقطار العربية المختلفة، ومع التراث العربي والأمجاد العربية وتاريخ العرب القومي والحضاري[3]:
قرأت إسمي على صخرة
على آجرة حمراء،
على قبر فكيف يحسّ إنسان يرى قبره؟
يراه وإنه ليحار فيه:
أحي هو أم ميّت؟ فما يكفيه
أن يرى ظلاله على الرّمال
كمئذنة معفّرة
كمقبرة
كمجد زال
كمئذنة ترّدد فوقها إسمُ الله
وخط اسمٌ له فيها[4]
من هذا المطلع، يتّضح أن السيّاب في هذه القصيدة وبلسان الإنسان العربي، يهدف إلى التعبير عن شخصية الأمّة وتاريخها وواقعها وتطلّعاتها. فلقد كان لأمّة العرب حضورٌ في ما غير من الزمان على إمتداد إمبراطورية واسعة الأرجاء شملت من بين ما شملته بلاد المغرب العربي في شمالي افريقيا، وتجلّي حضورها دولاً ومؤسسات ولغة وثقافةً، وديناً ومنشآت، وتراثاً عربياً غنياً بالفكر والأدب والفن والعلوم، وحضارة إنسانية شامخة ماتزال آثارها قائمة في بلاد المغرب العربي[5]. ولقد إنطلق الشاعر من ظاهرة صغيرة جدا، من كتابة منقوشة في وحشة الصحراء على آجرة حمراء عند بقايا قبر. هذا الشئ الصغير فتح بابا عريضاً أمام السيّاب على مدى آفاق شاسعة من تاريخ الأمة العربية وقضاياها وجوهر وجودها ماضياً وحاضراً ومستقبلاً وكان مفتاحه حيرة إستبدلت به أمام إسمه المنقوش على حجارة القبر. فهو من جبهة يرى قبره بعينه، واسمه وتاريخ وفاته، مما يوحي إليه بأنه حيّ ، فيتساءل «أحيّ هو أم ميت»؟ وكأنه في غمرة هذا الإرتياب، يريد أن يطرح السؤال الجوهري على أمّته من خلال ذاته: «أحيّة هي أم ميّتة» فالإسم المنقوش على آجرة القبر هو في الحقيقة إسم الأمة العربية، والقبر هو ماضيها وأمجادها التاريخية فالسيّاب لا يكفيه أن يكون له ـ وبالتالي لأمته ظلّ وجود، وإنّما هو يريد له ولها وجوداً حقيقياً حياً فاعلاً، لذلك نراه كمقبره ... كمجد زال... كمئذنة تردّد فوقها إسم الله . ... وخطّ إسم لها فيها. لأنّ ذلك هو مثابة ظلّ للوجود، وليس وجدوا حقيقيأ، رغم أن المئذنة ترمز بشموخها إلى شموخ ذلك الماضي، وفي أعلى الشموخ تردّد من قبل اسم الله الذي يرمز الى العظمة والقدرة والقداسة وروعة الخلق والإبداع، والى قيم الخير والحق والجمال وسوى ذلك ما يترجم على الصعيد البشري تراثاً حضارياً:
وكان محمّد نقشاً على آجرّة خضراء
يزهو في أعاليها...
فأمسى تأكل الغبراء
والنيّران من معناه
ويركله الغزاة بلا حذاء
بلا قدم
وتنزف منه دون دم
جراحٌ دونما ألم
فقد مات ...
ومتنا فيه، من موتى ومن أحياء.
فنحن جميعنا أموات
أنا ومحمّد والله
وهذا قبرنا: أنقاض مئذنة معفّره
عليها يكتب إسم محمّد والله
على كسر مبعثرة
من الآجر والفخّار[6]
وقد يبدو من المستغرب ـ أوّل الامر ـ أن تعلو هذه النغمة الألوهية والإنسانية في قصيدة السياب التي تتحدّث عن النضال العربي أوعن الأوضاع العربية عامة، ولكن حسب إعتقاد الناقد وأبحاث الدكتور إحسان عباس؛ بأنّ هذه القصيدة (المغرب العربي) وخصوصاً هذا المقطع يؤكد الحقيقة نفسها بأنّ هذه الظاهرة الألوهية والإنسانية في شعر السيّاب كانت ذات دلالة عكسية نعني أنّها قول على الألم الدفين لإندحار الإنسان وما يؤمن به من مثل دينية. وتفسيراً لهذا الأمر الذي يبدو محيّدا نقول أنّ الناس الذين يتحدث عنهم الشاعر في هذه الفقرة ينقسمون في ثلاث فئات ؛لا في فئتين قوية وضعيفة): فئة الغزاة الذين يؤمنون بآلهة جديدة تحمل أسماء «فحم» و«حديد» وما أشبه، وهم الذين يولّهون قولهم تحت أسماء ترمز الى تلك القوة، وهؤلاء هم الذين يسلّطون «طائر الحديد» ليرمي الحضارة بحجارة من سجيّل، وقد سمّوا أحياناً «التتر» وأحيانا أخرى «الصليبين» وهم يعودون في تاريخ الإنسانية تحت أسماء مختلفة، وقد ظهروا في المغرب العربي يحطّمون ويقتلون، كما تدفّقوا تحت اسم «الصهايّنة» إلى المشرق العربي كطوفان من الظلام. والفئة الثانية هم الثائرون الذين مايزال إلهم فيهم يحمل في مقدمتهم راية الثورة، إلهم العربي رمز الحياة والقوة وتحطّم على أيدي أولئك الثوّار ما عداه من إلهة كانت تعبد لأنّها ترجى أو تخشى. وأما الفئة الثالثة فهي جماعة المغلوبين والمستسلمين إلى سبات عميق، وهؤلاء هم جميع الشعوب العربية، كما يصفه الشاعر وهم سكان القبور التي لا تثور ـ وربّما أنّ هؤلاء موتى، لهذا مات محمّد فيهم كما إندثرت معاني الألوهية بينهم[7].
و لكن التراث الحضاري العربي، وشخصية الأمة العربية، وأمجادها ، لها قلب ينبض ويبثّ فيها حرارة الحياة هو النبي محمّد فمن اسم الله في أعالي المئذنة، كان إسم محمّد منقوشاً على آجرة خضراء «يزهو في أعاليها» وليس محمّد على المستوى القومي عند العرب نبياً فحسب، مبشراً بالإسلام، وناظراً لتعاليمه. وإنما هو إنسان عربي، وقيمة عربية فاعلة، وذروة في عطاء هذه الأمة، وإبداعها. وبقدر ما هو عنصر روحي إصطفته الإرادة الإلهية ليكون رسول الله إلى العالمين، هو أيضاً عنصر قومي عربي، وحصيلة إنسانية وحضارية في تاريخ الأمة لذلك إقترن إسمها بإسمه، ما اقترن اسمه باسم الله، وشاع بين العرب اسم محمّد تدعو به أبناءها تيمناً وتقديساً وتخليداً لرمز حضارتها ووجودها القومي. لكن الزّمان قد إنقلب في الحاضر الراهن وانقلبت معيارالمقاييس والقيم، فغدا المجد العربي عرضة للعبث والمهانة. «تأكل الغبراء والنيران من معناه، ويركله الغزاة بلا حذاء، بلا قدم» . و«تنزف منه دون دم، جراح دونما ألم». إزاء ذلك يشعر السيّاب بموت هذا المجد في عناصره الثلاثة المتلازمة: الإنسان العربي، والعبقرية العربية التي أضحى محمّد رمزاً لها، والقيم الخلّاقة المبدعة خيراً وحقاً وجمالاً وقداسةً وعظمة والمتمثّلة في اسم الله.
فيعبّر عن هذا الشعور بقوله «فنحن جميعنا أموات؛ أنا، ومحمّد والله». غير أنه يستدرك بعد ذلك أن ما يراه من موت ليس حقيقياً، فالأمة التي صنعت ماضي العرب وتاريخهم وأمجادهم لا يمكن أن تموت. فهي منذ أيام أبرهة الأشرم ومهاجمته الكعبة قبل ظهور الاسلام ، في صراع قومي ضد الموت والفناء. فمنذ ذلك الحين قد أخذت تدرك وجودها القومي، وتتصرّف بوحي منه، في مواقفها الحرجة، وظروفها التاريخية المتأزّمة لتخرج بفضله منتصرةً على ما يحيط بها من الأخطار. هكذا فعلت في عام المقبل يوم تصدّت لأبرهه الأشرم وجنوده وأفياله، وردتهم عن الكعبة رمز كرامتها ووجودها وقيمها، وهكذا فعلت يوم ذي قار، وفي كل فترة من فترات التاريخ التي تألّق فيها مجد العرب، فكانت ثورة دائمة في سبيل الحق والكرامة والقيم الانسانية العليا.[8] ومن الجدير بالذّكر إن يأس الشاعر في المرحلة التموزية لم يكن يأساً من الحياة أينما كان يأسا من الثورة ومن مخاضها، إنّه يأسٌ من تغيير حالة القهر التي كان يعيشها العرب. وكذلك الشاعر يحسّ بأنّ كل شيء كان في عدد الأموات ... الشعب ... التراث ... الدين. فيكف إذن يمكن تغيير الواقع؟ يمكن أن نجيب على هذا السؤال ؛ بأنّ الثورة معجزة، لأنّ حدوثها لا يمكن أن يتمّ على أيدي الموتى. لكنّ هذا اليأس من الحياة في المرحلة الذاتية يقود الشاعر إلى طلب الموت.[9]
"والمغرب العربي هي من أوّل القصائد التي تصوّر الشاعر فيها، تصوّر إنساناً ميتاً ولكنّه حين إستيقظ رأى قبره، وهذا رمز الإنسان الشرقي العربي الذي تحطّمت حضارته (رمزها) المئذنة التي كان قد كتب عليها إسم الله ومحمّد وإندثرت، وأخذ الغزاة الحفاة (لأنه لا حضارة لهم) يركلون ذلك الحطام بأقدامهم دون أي إهتمام بقداسة تلك الرموز الحضارية، وعلى مقربة من قبر هذا الميت العائد كان هناك قبر جده الذي صنع تلك الحضارة، وصوته ينبعث من وراء القبر"[10]. ويستعيد المقطع الثاني، المطلع الأول ليعود من خلال ذلك إلى مبتدأ القول، إنّما متصلا بما إنتهى اليه من رجوع الى الماضي والتاريخ يذكر بأوضاع مماثلة لتلك المأسويّة الراهنة. لذلك تتقدّم الوعي بهذه المأسوية وقد أضحى تاريخيا الدّالة ليستقرئها في بعديها الحاضر والماضي عبد القبر، الصورة الرمزيّة. عليها وقد أصبح قبرين نظراً إلى ما يمثّله الإندحار من تقريب بين الأمس واليوم، على الرغم من الفاصل الزمني المديد بينها. ولمّا كان القبر الأول تجيسماً لإنهيار الحضارة العربية الاسلامية في المغرب العربي اليوم ولتهشيم الكيان الوجودي بأبعاده المتعددة لشعبه كما أتيحت معاينته أعلاه، فإنّ القبر الثاني تجسيمٌ لما تعرّض له هذا الكيان وتلك الحضارة تاريخياً من مآس ونكبات. فهما رغم التباعد الزمني يجتمعان في الإنهيار المأسويّ الذي يتجسّم في حفرة تضمّها معاً: الماضي المتمثّل بجد الأب والحاضر المتمثّل بالمتكلم، حيث لا يعدو الجد أن يكون رملاً ونثارة سوداء دلالة على الخراب والدمار الذي أصاب ذلك الماضي، وحيث يتقدّم المتكلم إبناً له في هلاكه وتفتّته، فتلتحق صورته طينا يابسا بصورة الجد رمادا رمليا اسود لتولفا سلاله من الهزائم والإنكسارات تجد في الحفرة اللّحديّة الجامعة قبرا جماعياً تاريخياً يرمز إلى ذلّها وإنطماسها، ولتسعيد معاً صورحطام الآجر والفخّار لأنقاض المئذنة المعفّرة، رمز الإنهيار الحضاري كما تبدي في المقطع الاول.
لكن الصورتين المذكورتين لا تحيلان على هذا الحطام وحسب، بل تحيلان أيضاً على ذلك الموت المزدوج الذي أثار قلق وحيرة المتكلم في البداية، ذلك أنّ المأسوية التي ظهرت هناك في موت لا معقول يضاف إلى موت فجائعي متّخذة من الإنهيار الحضاري منطلقها، تجد هنا في ما آلت إليه القرابة الدّمويّة، أساس العصبية القبلية وواحدة من أبرز مقومات السلطة العربية الاسلامية، تعبيرها المميّز حيث يماثل طرفاها الجدّ الأكبر وسيلة الأصغر في الموت والإنهدام. هكذا يعي المتكلّم وضعه الراهن : موتاً ذاتياً وجماعياً سلاليّاً وعرقياًً وتاريخياً في الوقت نفسه، يعلنه اسمه المكتوب على القبرين المجتمعين في حفرة البؤس والإنحطاط والإنكسار.[11] ويربط الشاعر بين السلف؛ أمة العرب وبين الخلف، فالاسم الذي قرأه على صخرة القبر إنّما قرأه في الحقيقة على قبرين: قبرٌ لجد أبيه الذي مازال يحنّ إليه، والذي لم يبق منه سوى «محض رمال» و«محض نثارة سوداء». وبه تتمثّل معنويات القوم وروابطهم التاريخية، وقيمهم الإنسانية، وقبره هو، بما يمثّله من موت حضاري، وضعف وتفلّك، وواقع متصدّع منهار، وبقايا نبض وتحرك وتطلع إلى الحياة مما إعتبره الشاعر ظلاً للوجود، وتساءل بسببه عمّا إذا كان حياً أم ميّتاً. وكأنه يريد أن يجعل من الحياة العربية العصرية في بعض وجوهها على الأقل إمتداداً لتلك الحياة السالفة، وإستمراراً لحركتها وتفجّرها وإندافاعها[12]:
وكان يطوف من جديّ
مع المدّ
هتاف يملأ الشطآن «يا ودياننا ثوري».
ويا هذا الدم الباقي على الاجيال
يا إرث الجماهير
تشظّ الآن واسحق هذه الأغلال
وكالزلزال
هزّ النير، او فأسحقه، وأستحقنا مع النير»
وكان إلهُنا يختال
بين عصائب الأبطال
من زند الى زند
ومن بند الى بند[13]
ففي المقطع الثالث حديث المتكلم عن جده، فيظهر أنّ هذا الأخير ليس نثارة رمل ورماد فقط، ما أوحي المقطع الثاني بذلك، فما خلّفه الأسلاف إلى الأجيال اللاحقة ليس هزائمهم وإنكساراتهم وحسب، بل، وهذا هو الأهم، نضالهم في وجه الإستعباد وثورتهم على القهر والإستغلال كما يدلّ على ذلك هتاف الجد يستصرخ الأرض ويستحدث سلالة المناضلين من الشعب لتحطيم ما يكبّلهم والتضحية بالذات وحتى بالجميع في سبيل ذلك إن اقتضى الأمر وكما يتّضح البعد الرمزي لله في هذا المقطع، فهو هنا جزء لا تجتزأ من هؤلاء المناضلين في سبيل الحرية ومن مآثرهم وإنجازاتهم على هذا الطريق. كان موته هوالآخر الملاحظ آنفاً لم يكن وكما حال الجدّ والأسلاف، إلا نتيجة إنغماسه في هذا الكفاح التحريري ضمن هذا المنظور لا يعود الله ذلك المفهوم الديني التقلييدي الغيبي المتعارف عليه، إنّما يتقدم كمفهوم جديد إنساني حضاري أنّه ورمز الإنسان العربي حضارته التّليدة الراقية وكفاح من أجل القيم النبيلة كالحرية والعدل ...يزهو إنتصاراته ويكبو بهزائمه.[14]
" فقد حقق هذا الجدّ إنتصارات في ذي قار، ولكن أبناء إنقسموا فريقين، فريق حمل راية الثورة في جبال الريف وفريق عرف عار الهزيمة في يافا ترى ما الذي حطم هذه الحضارة؟ إنها غارات الجراد من التتر والصليبين وهما سيّان، فلمّا إندحر الصليبيون بالأمس جاء واليوم ينتقمون لأنفسهم من قوتنا وإنتصارنا وإنتصار إلهنا؛ وهكذا إرتبط الماضي والحاضر بإرتباط قبرين (كهفين متجاوزين يعيش فيها الجدّ وحفيده)"[15]. "ومن ثنيات الماضي عبر المراحل التاريخية المتعاقبة كان ينبعث الشاعر الهتاف من غبار الأجداد، فيطوف مع مدّ البحار لميلأ الشطآن بدوية، منادياً كلّ أرض عربية لأن تثور، مخاطباً «هذا الدم الباقي على الأجيال إرثاً للجماهير» داعياً إيّاه لأن يتشظّى وينقضّ على الأغلال التي تكبّل الأمة العربية فيسحقها ويسحق معها الإستعمار والذل والعبودية، وإذا إقتضى ذلك أن يسحق جيلاً من أجيال الامة ، كي يحرّرها، فلا بأس بسحق الجيل الحالي ، ليكون له شرف الفداء وكأنّنا بالشاعر، حين يشير إلى هذا الهتاف الداعي إلى الثورة ويركّز عليه ويبرزه، يبارك في الإرث العربي هذه النزعة الدائمة إلى التحرر، وإلى تحطيم القيود والإنحلال، ومحافظة على الإستقلال والحياة الكريمة وكرامة الأمة وكيانها وحقوقها، وترسيخاً لوجودها في أرضها، وحضورها بين الأمم العريقة في الحضارة والقيم الإنسانية. ناهيك بدعوة الأمة العربية في المغرب العربي وفي فلسطين، وكل قطر من أقطار العرب، إلى معمودية الثورة ليتجلى الدم العربي والإرث العربي رائعين مباركين كما تجلّيا من قبل في يوم ذي قار حيث دارت حرب بين العرب والفرس لأسباب قومية، فإنتصر العرب على الفرس رغم ما كان للأمة الفارسية يومذاك من قوة وعظمة وسيطرة ومجد. ولاغرابة فالحق هو الذي ينتصر دائماً مهما يتألب عليه من قوى الباطل في جيوش المغتصبين والمستعمرين. ان الإله العربي الذي كان يختال على مر التاريخ بين عصائب الأبطال «من زند إلى زند، ومن بند إلى بند» هو نفسه إلى الكعبة الجبّار، الذي نصر العرب في ذي قار، وإله الأمة العربيه في نضالها القديم ونضالها الحديث"[16]:
إله الكعبة الجبار
تدرّع أمس في ذي قار
بدرع من دم النعمان في حافاتها آثار
إله محمّد وإله آبائي من العرب،
تراءى في جبال الريف يحمل راية الثوار
وفي يافا رآه القوم يبكي في بقايا دار
وأبصرناه يهبطُ أرضنا يوماً من السُّحُب:
جريحاً كان في أحيائنا يمشي ويستجدي،
فلم تضمدُ له جرحاً
ولا ضحيّ
له منّا الخبز والأنعام من عبد[17]!
" تلك هي الصورة العامّة التي تتمثّل للألوهية في قصائد هذه الفترة ومع أننا لا نفي الجرأة التي صاحبت التعبيرهنا، كما لا ننفي إيمان الشاعر بأنّ إله كل قوم يكون على شاكلتهم، فإننا نرى أنّ الدافع لهذا التصوّر إنّما يمثّل غيرة دينية على ما أصاب الشعوب العربية والإسلامية من ضعف شديد، ولهذا ذهب في تيار هذه الغيرة المقترنة بروح الثورة بطلب أن يعيد العرب ـ كما أعاد عرب المغرب فيهم ـ محمّد والاله العربي"[18]. وفي المقطع الرابع يكتمل معنى الله فيه إستكمالاً وتحقيقاً وتمثيلاً صريحاً لما إنتهى إليه وثمّ الايحاء به في المقطع السابق، في أوضاع ثلاثة؛ فارساً قاتل في ذي قار، وثائراً يناضل في جبال الريف، ومهزوماً في يافا يلجأ جريحأ إلى البلاد العربية. في الأول يجري إستلهام التاريخ القديم في بعض وقائعه التي إنتصر العرب فيها على الفرس في ذي قار أوائل القرن السابع قبل بدء الدعوة الإسلامية. وإعتماد الرمز التاريخي هنا يتعدى الاشارة إلى إنتصار العسكري فهذا الإنتصار لقيم معطيات المختلفة التي واكبته هو إنتصار للقيم العربية من وفاد وشجاعة وكرامة وتآزر وحسن تخطيط وتدبير... على صفات الغدر وظلم والإستبداد التي واجهتها. تأتي صورة الله هنا للإيحاء بهذه الدلالة وللتأكيد على قدرات العربيّ الفريدة التي تمكّنه من الإنتصار على عدو يفوقه قوة وعدداً وعتاداً. وهكذا فإنّ رمز الله في هذا المقطع بشكل حاسم يدلّ إعتماد الشاعر رمزاً دالاً على الإنسان العربي الحضاري. [19] "هذا الإله الذي إنتصر في حرب ذي قار، وحمل راية الثوّار في جبال الريف المغربي إن هو إلا القومية العربية التي تربط ما بين الأجيال السالفة من عهد الجاهلية، والأجيال الحاضرة في القرن العشرين وهي التي نكبت في فلسطين، وأضحت جريحة تمشي في أحياء العرب فلا تجد من يتحرك لنجدتها، أو يضمّد جراحها. وكان العرب قد أصابهم الذهول من هول الضربة، وسيطر عليهم الخوف من معالجة الأمة الجريحة، ومداواتها بالثورة، والبعث والإحياء، فراحوا يصلّون في إرتعاش"[20]:
بآيات يغصّ الجرح منها خير ما فيه
تداوي خوفنا من علمنا أنّا سنحييه
إذ ما هلّل الثوارمنّا: نحن نفديه[21]
فالشاعر يستمر الحديث عن موضوع الإله في المقطع الخامس، فالإله (الإنسان) العربي (الفلسطيني) الجريح يعرف هنا مع المؤمنين به وجهاً آخر من العلاقة مختلفاً عن ذلك القريب من التخلّي الذي إنتهى اليه المقطع السابع فصلواتهم تعبّرعن لوعة تأثّرهم بمصابه حتى لتكاد تكون نوعاً من الرثاء له، كان موته واقع لامحالة وجرحه قاتل وشفاءه ميؤوس منه. بل يبدو إنفعالهم بمصابة حادّاً إلى درجة يصبح الجرح عندها في كيانهم، ولا يملكون لعلاجه رغم إهتمامهم العاجل بذلك غيرآيات قرانيّة إن كانت لا توقف النزف فإنها مع ذلك تمنع خيرما في الدم أن يتسرّب ويزول، كما تعالج خوف العرب جميعا الذي يتملكهم إزاء حقيقة معرفتهم أنّ إفتداء الثوّار لهذا الانسان هو الطريق اليقينيّ لشفائه وخلاصه.[22] النكبة العربية في فلسطين ليست وليدة مصادفة، وإنما هي وليدة قحط عام، حل ببلاد العرب طوال قرون متعددة. قحط حضاري إستبد بمعظم أوطانهم، فباتوا يتخبّطون في ظلمة الإنحطاط، وقد قلّ الخير في أرضهم كأنّما إحرقتها أسراب الجراد، حتى الحبالى من النساء والأنعام ما عادت تلد سوى الرماد. وقد انتهكت المقدسات وذللّت النفوس وصنع من أهلّة المآذن نعال لسنابك خيل المستعمرين. وعضّ الجوع أبناء البلاد نصارى ومسلمين، فدبّ الفناء فيهم وسكنت ريحهم حتى إذا جاء العصر الحديث بدأوا يتحركون لينهضوا من كبوتهم وينفضوا عنهم غبار الإنحطاط ويثوروا على واقعهم الزريّ، وينفروا للجهاد[23]:
أغار من الظلام على قرانا
فأحرقهنّ سرب من جراد
كأنّ مياه دجلة حيث ولّي
تنمّ عليه بالدم والمداد
أليس هو الذي فجأ الحبالى
قضاه، فما ولدن سوى رماد؟
وأنعل بالأهلّة في بقايا
مآذنها سنابك من جواد؟
وجاء الشام يسحب في ثراها
خطى أسدين جاعا في الفؤاد؟
فأطغم أجوع الأسدين عيسى
ويل صداه من ماء العماد
وعضّ بني مكّه ... فالصّحارى
وكلّ الشرق ينفرّ للجهاد؟[24]
وفي المقطع السادس: وبدون مقدمات وبشكل مفاجئ ينتقل المقطع السادس إلى تناول الغزو الفرنسي والأوروبي للبلاد العربية ويجري تعقّب أحداث الغزو وآثاره في مشاهد متعاقبة تبرز الأوضاع والحالات المروعة التي نشأت عنه. المشهد الأول عام وشامل وإنّما مدمّر ومبيد بشكل حاسم، يتقدم فيه الغزاة سرب جراد، تلك العناصر التي أضحت مثلاً في الإجتياحات الدراسة ورمزاً للبلاء المدمر. ويأتي تعيين مصدرها بالظلام ليدلّ على الموقع الجغرافي الذي جاءت منه، على الغرب (فرنسا وأوروبا) وعلى الموقع الحضاري الذي تنطلق منه، على الجهل والبدائية والإنغلاق والتعصّب والظلم والظلامية. إنها تجعل من القرى الدالة ـ على الأمن والإستقرار والتحضّر أهداف تخريبها وموضوعات إجتياحها اللذين يتذخذان الشكل الأكثر شراسةً وإيذاءً ورعباً. بالمقابل تتّخذ العذابات والمصائب المتولدة من هذا الغزو الشكل المائي، شكل الدم المراق لأبناء البلاد والحبر المتلف في خزائهنم ومكتباتهم، اللذين بتدفّقهما نهراً عظيماً (دجلة) يدلان على ما بلغه التقتيل للأنفس والتبديد للثروات الحضارية في البلاد العربية على أيدي هؤلاء الغزاة البرابرة الغربيين من تعسّف وهول فاقا كلّ حد.[25]
و بعد أن يعرض السيّاب هذه الصور من الواقع العربي الأليم، يتساءل ـ وهو أميل إلى النفي ـ عمّا إذا كانت أمّته تستحق هذا البلاء العظيم . فهي في الواقع أمّة مسحوقة مقهورة، مغلبوة على أمرها، قوي عليها المستعمرون وإستبدوا بها، وعبثوا بمقدوراتها، وإستغلوها، وتركوها فريسة للجهل والجوع والعجز. لكنها رغم المصائب التي حلّت بها. والفقر الذي مزّق أحشاءها، مازالت تحافظ على إصالتها وعلى قيمها ومثلها العليا، ولم تفعل مافعله غيرها من فحش وظلم وشر فهل ينبغي أن يقتص منها[26]؟:
أعاد اليوم كي يقتصّ من أنّا دحرناهُ
وإنّ الله باق في قرانا، ما قتلناهُ ؟
ولا من جوعنا يوما أكلناهُ ؟
ولا بالمال بعناهُ
كما باعوا
إلههم الذي صنعوه من ذهب كدحناهُ ؟
كما أكلوهُ إذ جاعوا
إلههم الذي من خبزنا الدّامي جبلناهُ ؟
وفي باريس تتخذ البغايا
وسائدهنّ من ألم المسيح...[27]
وفي هذا المقطع، فضلاً عن ما ذكرناه، إشارة الى علاقة الشعوب القوية بالشعوب الضعيفة، وعلاقه الأغنياء بالفقراء، والمستعمرين بأهل البلاد التي إستعمروها. كما أن فيه نفحة من الواقعية الاشتراكية التي تنتصر للضعفاء والفقراء والكادحين ممن يأكلون خبزهم بعرق الجبين، ويشقّون في انتاج ما يستغله بالباطل اهل القوة والثراء والجشع الرأسمالي. وعلى هذا يكون الفقراء الكادحون اهل الفضل والعطاء. ويكون الاغنياء المستبدّون اهل الشر والفساد والاستغلال. وإذ كان لهذه الاحوال من علاج، فالثورات الشعبية، وضروب النضال القومي هي العلاج الفعّال وهي الطريق الوحيد الى الخلاص والتحرر من كل نير. "ويتوقّف السيّاب امام نموذج من هذه الثورات القومية في المغرب العربي، متوسّماً فيه الخير، معلقاً عليه الآمال، مطمئنا الى أن أمّة العرب لم تمت، وإن إلهها المتمثّل في القومية العربية مازال مقيماً فيها ليدرأ عنها كل خطر يهدّدها بالفناء"[28]. وتتعدّد المشاهد الشواهد على الدمار المتعدّد الأوجه الذي حمله الغرب الى بلاد العرب في هذا المقطع من القصيدة. فهو دمار إنساني قبل أي شيء آخر، يقضي على الحياة ويحوّل دون إستمرارها محوّلاً الخصب (الحبل) إلى عقم (رماد) ودمار حضاري يهدم الصروح الدينية (الجوامع) رموز التآلف والإنسجام ويمتهن شعائرها المقدسة (أهلّة المآذن) فيما هو يصطنعها وسائل مبتذلة (نعال خيل) لأعمال الحربية وغاياته العدوانية. يحتاج بلاد الشام وحشية تجمع الى العنف التدنيس والتخريب دون أن تميّز بين مسيحيته أصلية تدعو الى المحبة والتسامح ومساعدة الآخرين (فتشبع جوعها بعيسى المسيح وتروي ظمأها بما العمادة) وبين الإسلام وطيد الكيان والعصبية (فتعضّ نبيّه) فيأتي نهوض العرب والشرق للجهاد دفاعاً عن الخصب والحياة، عن الدين والحضارة، عن تراب الأرض ومائها ضد ما يصيبها من مكروه ومن يتعرض لها بالأذى.
على أن الجهاد هنا، مثله مثل الصلبيّة ليس مفهوماً دينياً. فكما أنّ الغزوات الصلبية لا تقدّم هنا حملات دينية (مسيحية) إذ لا يتعيّن هدف ديني من ذلك التدمير الذي عوين أعلاه، والذي كان من ضحاياه عيسى المسيح نفسه، لايأتي الجهاد إجراءً دينياً (إسلامياً) إذ يضمّ الشرقيين كلهم لكفّ أوجه العدوان المختلفة عليهم، ليبقى البعد الحضاري الإنساني للصراع بين الغرب (المعتدي) والشرق (المقاوم) هو البعد المهيمن والطاغي فيه، وإن كان الدين (الإسلامي ) أحد عناصره البارزة الأمر الذي يتيح تقديمه مجازاً رمزاً دالاً على الكل الذي ينتمي إليه[29]:
قرأت اسمي على صخرة
تنفّس عالم الأحياء
كما يجري دم الأعراق بين النبض والنّبض
ومن آجرة حمراء ماثلة على حفره
أضاء ملامح الأرض
بلا ومض
دمٌ فيها فسمّاها
لتأخذ منه معناها
لأعرف أنّها أرضي
لأعرف أنّها بعضي
لأعرف أنّها ماضي، لا أحياه لولاها.
وأنّي ميتٌ لولاه، أمشي بين موتاها.
أذاك الصاخبُ المكتظّ بالرايات وادينا ؟
أهذا لونٌ ما فينا
تضوّأ من كُوي «الحمراء»
ومن آجرة خضراء
عليها نكتب إسم الله بُقياً من دم فينا؟
أنبرٌ من أذان الفجر؟ أم تكبيره الثّوار
تعلو من ماضينا...؟
تمخّضت القبور لتنشر الموتى ملايينا
وهب محمّد، وإلههُ العربي والأنصار:
إنّ إلهنا فينا[30]
هذا البعد الذي يتراءى في المقطع السابع حيث تحاول الصيغة الإستفهامية بتعدّد أسئلتها المركّبة أن تحيط بمعطياته الجديدة في خضم الصراع المحتدم آنذاك مع الهجوم الإستعمار الفرنسي على المغرب العربي (والبلاد العربية) فيبدو هذا الهجوم للمتكلّم محاولة من الغرب للثأر من الإندحار الذي انتهيت اليه حملاته الصليبية على الشرق من ناحية، نتيجة للتناقض القائم بين حضارة عربية قائمة على الايمان والوفاء والقيم الاخلاقية السامية وحضارة غربية قائمة على المنفعة المادية والنهب والاستغلال من ناحية ثانية. إن الصراع الراهن بين الغرب الذي يغزو العرب اليوم ومن هؤلاء يتحدّد إذاً بوجهيه غيرالمنفكّ أحدهما عن الآخر، التاريخي والحضاري. إذا كانت الإشارة الى التاريخي تتّخذ صورة الإنتقام لهزيمة سابقة فإن التعبير عن الحضاري يتّخذ صورة الموقف المتناقض من الله كرمز اختزالي دال على رؤية حضارية شاملة. فالعرب إذا يصونونه وإلا يرتدّون عليه أو يخونونه أو يخضعونه لحاجاتهم العابرة ومصالحهم المادية المتقلّبة إنما يحافظون على القيم والمبادئ المرتبطة به أو الممثلة فيه كالخير والعدل والصدق والوفاء في حين لا يحفل أهل الغرب بذلك كلّه، فهم لا يتورعون عن المتاجرة بالله وتسخيره لمصالحهم وإحتياجاتهم، على أنّ الهمّ ليس إلا إله الربح والنهب والقمع والإستغلال، كوّنوه من كدح وتعب وبذل شعوب البلدان التي غزوها أو إستعمروها، أو أنه ليس إلا مجموعة القيم والمبادئ المعبّرة عن هذا كله[31].
وهكذا يصوغ السيّاب من إلتزامه القومي العربي، ومن الثورة العربية المغربية في شمالي أفريقيا، أنشودة قومية تمجّد مآثرالعرب في اللغة والدين، ولا عمران والحضارة، والقيم الإنسانية، وتربط ربطاً قوياً لا ينفصم بين ماضي الأمة العربية وحاضرها ومستقبلها، وبين شخصيتها وأرضها وحياتها بصورة عامة في إلتحام قومي متماسك تزيده الأيام نمواً وصلابة وحيوية، وخلوداً مدى الدهر. من الإسم العربي المنقوش على الصخرة في وحشة الصحراء المغربية الى الاسمين اللذين يقترن بهما. إسما محمّد والله، واللذين يتنفّس بينهما عالم الاحياء على نحو ما «يجرى دم الأعراق بين النبض والنبض». «ومن آجرة حمراء مائلة على حفرة». ينبجس دم عربي يضيء ملامح الارض بلا ومض.و من هذا الدم العربي تأخذ الأرض معناها لإلتصاق الإنسان بأرضه وإرتباط هويته بها فتعرف الأمة أنها أرضها، وأنها جزء منها، تمثل لها الماضي الذي تحيا به حاضرها، وتسمتدّ منها كيانها. ومن ذلك كلّه تشكلّت ثورة العرب في شمالي أفريقيا، وإستمدت نورها من كُوي «الحمراء» في تاريخ بلاد الأندلس حيث تتجلى الحضارة العربية بأبهى حللها، ومن الآجرة الخضراء المكتوب عليها اسم الله بدماء عربية مجاهدة في سبيل الإسلام. ويتساءل الشاعر في ختام القصيدة عما إذا كان هذا الصخب الثوري نبراً من أذان الفجر، أم تكبيره تنطلق بها ألسن الثّوار منادية: «الله اكبر» لتنشر القبور الملايين من موتاها العرب، ولتؤكد مع «محمّد، وإلهه العربي، والأنصار»: «أن إلهنا فينا»"[32].
إن كان الصدام بين الطرفين: الإستعمار الغربي والبلدان العربية إتخذ شكل الصراع بين الصلبية والإسلام في الماضي فإنه اليوم يتّخذ شكل الصراع بين الرأسمالية الملحدة والعروبة المومنة. لعلّ هذا الشكل الأخير هو الذي يومئ اليه المقطع الثامن الذي يمضي إلى واحد من أبرز مراكز الحضارة الغربية، ممثلاً في واحدة من حاضراتها الأكثر رقياً (باريس) والمعنيّة أكثرمن سواها على كل حال بالغزو الجديد الذي كان الغرب (الرأسمالي) على البلاد العربية (في المغرب) آنذاك. فيستعرض من مشهد واحد يكاد يحتل بأكمله وضع هذه الحضارة فيه ليبيّن فيه مصدرها العوامل الفاعلة فيها والدامغة لها في الإعتداء على الحضارة العربية، فيتمّ التركيز على الإنهيار الخلقي والديني في هذا الوضع حتى ليعدّ التهتك والإنحلال والفجور التي تعمره مصدراً وسبباً للغزوات التي يشنّها الغرب على هذه الحضارة يتقدّم هذا العرض تأكيدا للطرح الذي سبق التّعرض له في المقطع السابق بصدد الصراع الحضاري بين الغرب والعرب ـ فباريس البغيّ الكافرة العقيم لاتلد إلا مسوخ الشر التنينية الحديديّة التي تهاجم صروح الخير والحضارة الاسلامية العربية. (فبغايا هذه الحاضرة الغربية يعتمدان هنا رمزاً لمجتمع الغرب وحضارته، وهنّ إذ يتّخذن من عذاب المسيح وسيلة راحة يشرن الى إنقلاب القيم المسيحية في المجتمع المذكور وحضارته، وهو إنقلاب يمثّل كذلك في رحم هذا المجتمع، كما تقدّمه حشايا البغايا، تكاثراً لقوى تدمير وإهلاك تنطلق للقضاء على رموز الحضارة الاسلامية العربية.
تنكشف الحضارة الرأسمالية الغربية في موطنها عن إستلاب فظيع للإنسان وتحطيم وحشي للقيم النبيلة يعطّلان سلوكها خارجها. تتّخذ البغايا نموذجاً لتصوير هذه الحضارة لانّهن يجسّدن أكثرمن سواهن خضوع الإنسان فيها، في كيانه وسلوكه وعلاقاته الأكثر حميمية، لعلاقات السوق والتبادل السلعيّ فحيث تعمّ قيم الريح والنهب والإحتكار ليس الله هوالذي يصبح سلعة، أو المسيح الذي يتحوّل بضاعة، بل الإنسان نفسه، ولا يعود الدين إلا مظهراً متقلّباً ومطيّة مبتذلة للمآرب الخاصّة مهما كانت تافهة او مؤذية. في غياب القيم الرفيعة يغيب الحبّ والخير والخصب، وتعمّ الكراهية والشر والعقم وتتنامى في رحم الأسلاب المهين، ليتولد عنها قوى لا إنسانية ، متعاظمة البشاعة تجد في حضارة العرب والمسلمين الإسلامية نقيضها وعدوها الذي تلاحقه لتبيده.
" وهكذا يجري هنا دحض واضح للإدعاءات «الانسانية» للحضارة الغربية الرأسمالية وتأكيد على تحقيرها للقيم وتشويهها للإنسان، وعلى سعيها إلى تعميم هذا التشويه الإستلابيّ على العالم (العربي والإسلامي) بالحديد والنار (الإستعمار ـ البربرية الجديدة) "[33]. "وما ذكرنا أنّ الماضي والحاضر إرتبطت بإرتباط قبرين (كهفين يعيش فيهما الجد وحفيده)، وما كاد هذا الرابط يتمّ حتى تنفسّ عالم الأحياء، وعلت تكبيرة الثوار وأطلعت شمس النهضة من كُوي الحضارة العربية في قصر «الحمراء»"[34]:
وهب محمّد وإلهه العربي والأنصار[35]
وينطلق المتكلم، هنا من وعيه لواقع موته الحضاري الوجودي نحو وعي يتخطّاه إثرما تبيّنه من أبعاد الصراع بين العرب والغرب في المقاطع السابقة، فيكشف في تلاحق القتلى والقبور في بلاده شرط الحياة وتجددها. بل أنّ الموت في مواجهة الغزاة (الفرنسيين) هو الذي يحدّد الإنتماء الجغرافي والتاريخي وبالتالي الوجود الفعلي للذات التي بدون ذلك يصبح وجودها سدى، مسأوياً للعدم، هكذا يتقدم المقطع منقطعاً عن سابقه والقسم الثاني ليتّصل بما أرهصت به نهاية المقطع الخامس والقسم الأول (البيتان السادس والستّون والسابع والستّون) وبالتالي لهذا القسم ليكمله وليعيد كتابته في آن. وكذلك نشير بأن القصيدة (المغرب العربي)، تفتح بصورة كهفية بطل منها الإنسان المشرق العربي ـ يقوم من قبره ليرى كيف كان القبر المجاور له سر تلك الحضارة التي تتمثّل في آجرة نقش عليها اسم الله ومحمّد، ثم ليبصر الشمس ـ شمس الثورة الجديدة ـ تطلع من المغرب إن هذه القصيدة من أشد القصائد التي لايعتور بناءها إفتعال أو ضعف، وكأنها قد وضعت عفواً، فجاءت العفوية في خظتها أجمل من البناء المتعمد، وبين الحفيد والجد (و تغير معنى الواقع والرموز، وتعدّ المقارنة بين الحاضر والماضي وبين الحفيد والجد (و تغيير معنى الألوهية بين ذي قار ويافا) وبين المشرق العربي والمغرب العربي وبين صلبية القديمة والجديدة من أجمل ما استطاع السيّاب أن يكتبه في محتوى شعري، أما الخاتمة التي تستشرف اليقظة الكلية لشقيّ العالم العربي فإنها من أشد النهايات إرتباطاً بكل ما تقدّمها. لقد نسج السيّاب تاريخ الأمة العربية من خلال بضع لمحات ورموز، وكان رحاب النفس رحب الأفق طلقاً على القاعدة الكهفية، وما ذلك إلا لأنه إنحاز في النهاية إلى الشمس، إلى اليقظة على الأضواء المنبثقة من كُوي الحمراء[36].
أما وعي الذات لموت الحضارة العربية في قصيدة المغرب العربي لم يعد مصدر اضطراب وقلق (كما في المقطع الأول) وإن وعيها لموت كيانها التاريخي لم يعد يقف عند حدود التماثل والتماهي بين الموتين المذكورين (ما في المقطع الثاني). فما بدا هناك لا معقولاً ومرتجاً يظهر هنا طبيعياً ومتفتحاً، والإنتقال من إسم المتكلّم الى تعدد الاسماء في نطاق الموت يكشف مدى لم يكن يتيحه التلبّث عند الإسم الواحد (في الأبيات 33 و34 ...) ان الموت الذي يضاف الى موت آخر لم يعد يدلّ على تفاقم الموات بل على عالم الوجود الحي الذي ينبثق هذا الموت منه، بل الذي ينبثق هو من هذا الموت بالذات، بقدر ما يكون هذا الموت ضامناً للحياة ومؤمناً لإستمراريتها كما يؤمن النبض تدفّق الدم المستمر بعده فيكون الموت بعد الآخر إستشهاداً متواصلاً، كفاحاً مستمراً يعطي الحياة زخمها وتحكم وتيرته بالذات جيشانها وحيويتها. لم يعد الموت تدميراً كيانياً وحضارياً ساحقاً تجسّده الآجرة الحمراء قبراً في الخلاء الجديب. (في الأبيات الاربعة الاولى) إنّه هذا الإستشهاد النضالي الذي يحمي الكيان القومي ويصون الحضارة القومية تجسّده الآجرة الحمراء شاهده تدّل بالدم الذي يهبها لوناً على إنتماء المدافعين عنها إلى الأرض القائمة فيها، إنتماء يعطي هذه الارض هويتها ويعطي أبناءها شخصيتهم ويعيّن في الإرتباط التاريخي والحضاري بينهم وبينها شرط الحياة الذي يتولّى تحقيقه، فيحوّل دون خروجهم من الحضارة والتاريخ والارض الى هامش الغفلة والإندثار.
"وهكذا تتّخذ الآجرة الحمراء هنا دلالة نقيض تلك التي عرفتها في مطلع القصيدة. إنها دليل النبض الحي للأمة وحضارتها وعلامة على إلتحام، لا إنثلام فيه بين الأرض والتاريخ والإنسان، يعطيها جميعاًً هويتها القومية والحضارية والإنسانية، ويحقّق لها وجداً راقياً فعالاً "[37].
"و قد مجّد السياب في قصيدة المغرب العربي، ثورة الجزائر، فعاد يتصوّر نفسه في داخل الكهف (القبر) وهو يصيح، رمزاً بذلك الإنسان المشرق العربي الذي تغيّر كل شيء في حاضرة حتى صحّ أن يسمّى عالمه قبراً، فالنّور فيه دجى، والشمس كرة جامدة، الدود ينحزّ تلك الكرة"[38]، والناس في هذا الكهف في الحقيقه ميّتون. بناء على ذلك يمضي الشاعر أخيراً الى متابعة ظاهرة النّضال العربي ليتمّثل في إتساع مداها وقوة إندافاعها حيوية الامة العربية وعظمة حضارتها. "تتلاحق المشاهد المعبرة عن هذا النضال في الأرض الممتلئة ثواراً ومقاتلين، في مآثر هؤلاء وتضحياتهم التي تصل عظمة الحاضر بالماضي، في تداخل البعد الديني والحضاري في المسيرة القومية التاريخية ... بل إنّ النضال العربي يبلغ من زخوره وإضطرامه أن يحيي الموتى ويبعث حتى الإله والأنبياء، إنّه الإله المقيم في الذات القومية يحقّق معجزات يتجاوز فيها كل معقول وغيرمعقول"[39]. "وتبدو هنا محافظة السيّاب على رمزي الكهف والشمس وعلى صلة الأول منهما بالرحم، إلا أنّ هذه القصيدة نسجت على منوالها، أي هذه القصيدة كانت في قصائد سياب الأقرب إلى العفوية، وهي نموذج للنتائج الطبيعي بين المقدمة والخاتمة ولا تذهب روعتها بتاتاً، لأن فيها البناء المعقّد الذي تمتاز بالتّلاحم القوي والتدرّج الحكم في المدى القصير، فهي لا تكلّف القارئ شيئاً من جهد لاستيعابها"[40].
بيد أن هذه المشاهد المفعمة بالمعاني في قصيدة المغرب العربي الدالة على صحوة نضالية جماعية لاتأتي متعلّقةً بالمقطع السابق عليها وحسب، بل إنّها تجئ كذلك متعلقة بمقاطع وأقسام النص السابقة كلّها حتى لتبدو وكأنها سلافة هذه المقاطع جميعاً أو خلاصتها الجوهرية. فالوادي المترع برايات الثّوار (بيت المئة) إستجابة لنداء الجدّ الداعي وديان البلاد إلى الثورة وتطوير لبنود الأبطال فيها (المقطع الثالث) وتعبير عن إمتداد الثورة الطافح من الجبال إلى الوديان، وبلورة لمفهوم الألوهية فيها بإلإعتباره طليعة ثورية مناضلة (المقطع الرابع) والضوء المنتشر من منافذ قصرالحمراء ومن الآجرة الخضراء التي يخطّ عليها دم الشهداء رمز حضاراتهم العربيّة الاسلاميّة (في الأبيات 101-104) يعلن تألق هذه الحضارة التي عرفت مجدها المشع في غرناطة ـ الأندلس، والتي عرفت أيام غرّها زهو النقوش الإسلامية على آجر مآذنها الشامخة (المقطع الأول) تألقاً يصل دم المناضلين العريق المتحدر من الأسلاف، ذخر الشعوب وإرثها الغالي الثمين (المقطع الثالث) مجد الماضي بالحاضر ويضمن إستمرارية الحضارة العربية ... وإذا يختلط أذان الفجر بتكبيرة الثوار من الحصون العربية (في البيتين 105 و106) فتلازم وتداخل البعدين الديني والحضاري في مسيرة النهوض الثوري للقومية العربية، وإعتماد الرّمز الديني للدلالة على الوضع الحضاري للأمة العربية كما في حمل الله راية الثوار (المقطع الرابع) وإحيائه من قبل الثوار بإفتدائه (المقطع الخامس) واقامة مكة في حصون منيعة (المقطع الثامن) ... فمن هذا المنظور ينبغي فهم المعجزات التي يأتي بها هؤلاء الثوار. فهم لا يكتفون، بتضحياتهم، بتخليص الأحياء من الموت الذي كان يتربّص بهم (المقطع التاسع) بل إنهم ينشرون الموتى من القبور (البيت 107) أو أن القبور معهم تتحول إلى نساء بالغات الخصب بعد أن كانت الحوامل في غيابهم يجهضن ولا يلدن غير الرماد (المقطع الرابع) وذلك بقدر ما يحيون الماضي في الحاضر، ما يحفظون الحضارة العربية العريقة ويتابعون انجازات أجدادهم الذين يندثرون بقدر ما يتردّى ابناؤهم في الحاضر (المقطع الثاني).
و هم يبعثون الله ومحمّدا والأنصار (البيت 108). لأنّهم بالإنتصارات التي يحقّقونها يتخطّون أوضاع الإنهيار والذل التي عرفتها الحضارة العربية والتي إتخذ موت الله ومحمّد تعبيراً رمزياً عنها (المقطع الأول). ليكون هذا البعث وذاك النشور دليلاً على إنتصارهم على الغزاة الأروبيّن الذين إرتبط حضورهم بالإجهاض وإغتيال الأنبياء وإيذائهم (المقطع السادس) وبالعقم والموت (المقطع الثامن).
إن كانت إنجازات الثوّار تبدو على هذا النحو معجزات تضاهي إن لم تتجاوز المعجزات الإلهية فإن الجملة الأخيرة (في البيت الأخير 109)؛ «إن إلهنا فينا» تأتي لتفسّر حقيقة أمر هذه المعجزات ولتوضح مغزى التناقض بين الحضارتين الغربية والعربية (المقطع السابع)، بل مغزى جملة الرموز الدينية التي تعمّر القصيدة. فليس هناك من قوى غيبية أو ماورائية يعتمد عليها لا شرقاً ولا غرباً. الرهان في الصراع بين العرب والغزاة هو على الإنسان العربي المناضل الذي يبذل دمه لجبه هؤلاء الغزاة المستعمرين ولوقف الإنهيار الحضاري . وكما مات الله ومحمّد مع الذات العربية المنهزمة المحطمة (المقطع الأول)، يبعثان هنا مع انتفاضتها الثائرة المجلجة . ما تصرّح به القصيدة هنا في نهايتها لم تكفّ مقاطعتها المختلفة عن التلميح إليه والإيحاء به :
إنّ الألوهية نضاليّة إنسانيّة، الرموز الدينيّة هي رموز حضارية إنسانيّة، الإنسان العربي الذي صنعها في الماضي قادر على صنع أمثالها بل أفضل منها في الحاضر والمستقبل. في هذه الخلاصة طرح لتصوّر ثوري لا يكتفي بالتهليل لنضال العرب ضد الإستعمار، وإنما يقدم مساهمته الخاصة في هذا النضال ساعياً كي تكون بمستوى الحدث، طليعيّة في مقاربتة ما أمكن ينطلق من الوقائع والأوضاع والمعتقدات السائدة دون أن يرتهن بها.إنّه على العكس من ذلك يتجاوزها ويسعى إلى دفعها نحو آفاق أكثر جذرية وتقدميّة لعلّ في هذا الطرح يمكن أحد أهم الأوجه الثوريّة والجماليّة للعنصر الدلالي في هذا النص. من جهة أخرى يبدو المقطعان الأخيران من القصيدة وكان كلاً منهما يختص بمعالجة جانب مختلف عن الآخر.[41]
يتناول القسم الأول إنهيار الحضارة العربية الإسلامية تحت وطأة غزو وحشي والمسؤولية الخاصة لأبنائها في ذلك، وهو يشغل المقاطع الخمسة الأولى (من السطر الأول حتّى 68)، حيث يعبّر عن هذا الإنهيار بالدّّمار والموت الشاملين والمتعددي الأشكال، وحيث تقدّم إنهيار نتيجة غزو جارف، ويبرز النضال لصدّه رهاناً وحيداً على صون الحياة والحضارة كما يثبت ذلك التاريخ العربي وكما يدرك ذلك الجيل الحاضر كأنّ هذا الطرح يدفع إلى متابعة كلّ من الطرفين المتواجهين: الغزاة الغربيين والمناضلين العرب ـ فيتابع القسم الثاني (في المقاطع الثلاثة التالية من السادس حتّى الثامن، من إلى سطر 96 إلى 98) أوضاع هؤلاء الغزاة في أوضاع هؤلاء الغزاة في حملاتهم البربرية تاريخياً على المنطقة العربية، وفي تناقض قيمهم المادية الرأسمالية اليوم مع قيم العرب الروحية الدينية، ومواقفهم كمستغلّين مع مواقع العرب ككادحين، وعهرهم الخلقي والحضاري الذي يتفجّرعدواناً إثماً على البلاد العربية. بينما يتناول القسم الثالث (في المقطعين الأخيرين من القصيدة من السطر 99 إلى 131): أحوال الثوار الفدائيين من العرب وجودهم فيبعثون بنضالهم البطولي حيوتيّهم المتحددة وتراثهم الراقي وقيمهم النبيلة. على هذا النحو تنظّم هيكليّة النص في أدائه للرؤية العامة فيه عبر طرح أوّليّ يتّجه إلى تفصيل وتطوير وحدتيه الأساستين بالإتجاه النامّ عن الموقف الخاص الذي يتبلور من خلاله. ولا يفتقر هذا الأبناء إلى قرائن تميّز وحداته الكبرى الثلاث وتعللّ تركيبها الداخلي في ترابط عناصرها المكوّنة من المقاطع المختلفة.[42]
ونضيف أخيراً بأنّنا نجد في هذه القصيدة التي يجوز تسمـيتها بالقصائـد العـربية ميـزة فارقـة من السهـل تمثّلها إذ نحن تذكـرنا حديث أفلاطـون في الجمهورية عن «الكـهف» الذي فيه بنو الإنسـان أسرى ومن ورائهم نار تنعكس عن ضوئها أشباح الحقائق الخارجـية في ظنـونها، حتّى إذ قيّـض لأحد منهم أن يخرج إلى النور الحقيقي بهره ضـوء الشـمـس (رمز المثـال الأسمى ) نقــول : إنّ هذه القصائد «الكهفية» تمثّل مسير الشاعر من خلال المفهومات الجمـاعية إلى حــومة لـذات، إلى الكهف القديم المريح الذي يمثّل في الرحم أو القبر، فهو ـ على نحو ما ـ يجد الـرّاحة في أن يكـون بين الموتى ويرى نفسه دائماً دفيناً ؛ لقد عاد إلى مشكلة الموت ولكن لا ليكـون وحـده بل ليكـون مع موتى كثيرين من أمته، وتخايله فكرة الولادة الجديدة أو الإنطلاق من الكهف عن لمعـان أسنة الثائرين في المغرب، ولهذا نراه يتلذّذ بتعذيب الذات في المقارنة بين موته وموت من هم علـى شاكلته وبين الأحـياء، ويتملـكه الشعور بالخجـل بل بالخـزي من أنه لم يستطـع بعد أن يهـبّ من رقدة القبر، أو أنّ ينطلق من ذلك الرّحم المظلم ـ إنّ الصراع بين الحقيقة الداخلية في الكهف ـ أي المـوت ـ وبيـن الحـياة فـي خارجـه هو لحـمة تلك القصـيدة .[43] وهذا ما كـان يتّضـح إلا عرضـنا هذه القصيدة (المغرب العربي ) بشيء من التحليل.
المصادر والمراجع :
[1] أنظر: م.ن، ج 1، ص 395، 396.
[2] بلاطة، عيسي، بدر شاكر السياب حياته وشعره، ص 89 ، بتصرف.
[3] أنظر: أبوحاقة، أحمد؛ الإلتزام في الشعر العربي، ص 432.
[4] السياب، بدر شاكر السياب؛المجموعة الشعرية الكاملة، ج 1، ص 172.
[5] أنظر: أبوحاقة، أحمد؛ الإلتزام في الشعرالعربي ، ص 432، 433.
[6] السياب، بدر شاكر؛ المجموعة الشعرية الكاملة، ج 1، ص 172، 173.
[7] أنظر: عباس، حسان؛ بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره، ص 196- 198.
[8] أنظر: أبوحاقه؛ أحمد؛ الإلتزام في الشعر العربي، ص 434، 435.
[9] أنظر: علي، عبد الرضا، الأسطورة في شعر السياب، ص178، 179.
[10] عباس، إحسان، بدر شاكر سياب دراسة في حياته وشعره، ص 199 ، بتصرف.
[11] أنظر: سويدان، سامي؛ بدر شاكر السياب وزيادة التجديد في الشعر العربي الحديث، ص 162، 163.
[12] أنظر: أبوحاقة، أحمد؛ الإلتزام في الشعر العربي، ص 434، 435.
[13] السياب ، بدر شاكر؛ المجموعة الشعرية الكاملة، ج 1، ص 174.
[14] أنظر: سويدان، سامي؛ بدر شاكر السياب وريادة التجديد في الشعر العربي الحديث، ص 164، 165.
[15] عباس، إحسان؛ بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره، ص 199.، بتصرف.
[16] أبوحاقة، أحمد؛ الإلتزام في الشعر العربي، ص 436، 437 ، بتصرف.
[17] السياب، بدر شاكر؛ المجموعة الشعرية الكاملة، ج 1، ص 174، 175.
[18] عباس، إحسان، بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره، ص 198، بتصرف.
[19] أنظر: سويدان، سامي؛ بدر شاكر السياب وريادة التجديد في الشعر العربي الحديث، ص 165، 166.
[20] أبوحاقة، أحمد؛ الإلتزام في الشعر العربي، ص 437، 438، بتصرف.
[21] السياب، بدر شاكر؛ المجموعة الشعرية الكاملة، ج 1، ص 175.
[22] أنظر سويدان، سامي؛ بدر شاكر السياب وريادة التجديد في الشعر العربي الحديث، ص 167، 168.
[23] أنظر: أبوحاقة، أحمد؛ الإلتزام في الشعر العربي، ص 438.
[24] السياب، بدر شاكر؛ المجموعة الشعرية الكاملة، ج 1، ص 175، 176.
[25] أنظر: سويدان، سامي؛ بدر شاكر السياب وريادة التجديد في الشعر العربي الحديث، ص 174، 175.
[26] أنظر: أبوحاقة، أحمد؛ الإلتزام في الشعرالعربي، ص 439.
[27] السياب، بدر شاكر؛ المجموعة الشعرية الكاملة، ج 1، ص 176، 177
[28] أبوحاقه، أحمد؛ الإلتزام في الشعر العربي، ص 440.
[29] أنظر: سويدان، سامي؛ بدر شاكر السياب وريادة التجديد في الشعر العربي الحديث، ص 175، 176.
[30] السياب، بدر شاكر؛ المجموعة الشعرية الكاملة، ج 1، ص 177، 178.
[31] أنظر: سويدان، سامي؛ بدر شاكر السياب وريادة التجديد في الشعرالعربي الحديث، ص 176، 177.
[32] أبوحاقة، أحمد؛ الإلتزام في الشعر العربي، ص 441، 442 ، بتصرف.
[33] سويدان، سامي؛ بدر شاكر السياب وريادة التجديد في الشعر العربي الحديث، ص 179 ـ 181 ، بتصرف.
[34] عباس، إحسان؛ بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره، ص 199.
[35] السياب، بدر شاكر؛ المجموعة الشعرية الكاملة، ج 1، ص 178.
[36] أنظر: عباس، إحسان؛ بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره، ص 199-200.
[37] سويدان، سامي؛ بدر شاكر السياب وريادة التجديد في الشعر العربي الحديث، ص 183، 184.
[38] إحسان، عباس؛ بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره، ص 201، 202.
[39] سويدان، سامي، بدر شاكر السياب وريادة التجديد في الشعرالعربي الحديث، ص 184 ، بتصرف.
[40] عباس، إحسان؛ بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره، ص 202 ، بتصرف.
[41] أنظر: سويدان، سامي؛ بدر شاكر السيّاب وريادة التجديد في الشعر العربي الحديث، ص 184-187.
[42] أنظر: عباس، إحسان، بدر شاكر السيّاب دراسة في حياته وشعره، ص 198، 199.
[43] أنظر : عباس ، إحسان ؛ بدر شاكر السيّاب دراسة في حياته وشعره ، ص 198، 199
جامعة العلامة الطباطبائي – طهران