قرأت تقريبا كلّ ما كتبت السيّدة أحلام مستغانمي، من (ذاكرة جسد) إلى (عابر سرير)، ولا أزال أعجب من أمر هذه السيدة التي لم تستطع أن تتحرّر من سطوة نزار قبّاني، حتى أنّها تكاد لا تفعل سوى إعادة تسويقه، بضرب من الكتابة لا أتردّد لحظة في نعتها بـ'الكيتشيّة' سواء من خلال محاولة تجميل الواقع وإدانته في ذات الآن، أو على أساس من تجميع الكلمات بطريقة الكيتش، حيث كلمة من الشرق وأخرى من الغرب، فمحاولة صهرهما في تركيب بالنعت أو بالإضافة أحزاب البكاء/ لغم الحب /منصة السعادة/ مساء الولع/ شهقة الفتحة/ ذريعة من الموسلين/ أنغام الرغبة/ فتيل قنبلة الغيرة/ كمين مرمى خدعة الذاكرة/ ضيافة المطر /فاجعة الضوء/ ضوء ظهر/ مقبرة الذاكرة/ حفريات رغباتها/ كبريت حزنك/ قعر محيط النسيان/رماد الكلمات .. وما إلى ذلك وهو كثير، ناهيك عن التراكيب النحويّة المختلّة الناجمة عن جهل بأصول العربيّة وصيغها المخصوصة أو عن أثر الفرنسيّة مثل:
السجاد الكهربائي للأمتعة وصوابه: سجّاد الأمتعة الكهربائي.
هي ما تعودت أن تخلع الكعب العالي لضحكتها. وصواب التعبير : هي ما تعوّدت أن تخلع كعب ضحكتها العالي.
ـ وهي تخلع قفازيها السوداوين الطويلين من الساتان. والصواب: وهي تخلع قفّازيْ الساتان الأسودين الطويلين.
ـ في ذلك الزمن الجميل للسينما. والصواب : في ذلك الزمن الجميل زمن السينما أو : في زمن السينما، ذاك الجميل.
ـ رتّبت لهما المصادفة موعدا خارج المدن العربية للخوف: والصواب: خارج مدن الخوف العربيّة
ـ أعرف الطبقات السفلية لشهوتها: والصواب : أعرف طبقات شهوتها السفليّة.
فهذا وغيره ممّا يُعجب به كثير من العرب المعاصرين، يضعنا إزاء لغة لا لون لها ولا طعم ولا رائحة، بل لا شيء فيها من 'ماء اللغة' بل هي ورد بلاستيكيّ لا غير. إنّ من حقّ الكاتبة أن تنأى عن المألوف السّائغ إلى 'إخبار غير مألوف'، لكن شريطة أن يتسنّى إدراكه والاستدلال عليه في حيّز الخطاب نفسه. ونشير منذ البداية إلى أنّنا نقرأ هذه الصور في سياق النص حتّى لا يطوّحنّ الظنّ بالقارئ بعيدا، فيحملها على نوع من التباعد المنطقي الخاصّ، فيما هي محكومة بتباعد اعتباطيّ، لا سند له من الحكاية التي تحكيها؛ ذلك أنّ الصّورة عند السيّدة أحلام تظلّ، على 'نزاريّتها'، ثمرة ولع بالتراكيب الإضافيّة التي أفسدت نصّها ونسخته عالما استعاريّا كما هو الشأن في نماذج غير قليلة من الشعر العربي الحديث الذي ينضوي إلى 'الكيتش'، ويكتبه كلّ من هبّ ودبّ من العرب، و حتّى من لم يهبّ ولم يدبّ وليكن واضحا أنّنا نستثني تجارب شعريّة قد تكون قليلة مثل تجربة سعدي يوسف أو محمود درويش بدءا من 'سرير الغريبة'، حيث يَدخل الشاعر قصائده بمفردات وقعتْ للتّوّ من الأشياء التي كانت عالقة بها أو التي يحتفظ بها وهو يقشّر وقائع المعيش وأحداثه ويأخذ أغلفتها إلى نصّه ليعيد تركيبها في الميديوم/ الوسيط الشّعريّ ولا يتعلّق الأمر ههنا بكبير تنظير لما يمكن أن يتمفصل من علائق بين الفعل الفنّي واليوميّ، وإنّما يطالعنا النّصُّ كما لو أنّه واحد من اللّوازم التي يعود بها الشاعر إلى بيته، في سلّة، ويبسطها على المنضدة إلى جانب الجريدة ومعلّبات الفقاع والسّردين وزجاجة النبيذ .. فهذا ممّا بسّطنا فيه القول في غير هذا المقال، مظهر من مظاهر جماليّة 'المبتذل'، تلك التي يستعيرها الشاعر الحديث من جنسيْن فنّييْن آخريْن الرّواية والفنون التّشكيليّة، في تباين عن حكم في الشّعر بدا يستقرّ منذ عقود على أنّه من البداهات؛ ومفادُه أنّ القصيدة تُعْقَدُ أساسا على التّكثيف اللّغويّ.
أمّا الرواية فلا، لأنّها تعبير كنائيّ بالأساس ولا يعنينا ههنا أن نُسفّه هذا الحكمَ أو أن نمكّنَ له في النّقد الأدبيّ؛ وإنّما يعنينا الانتباه إلى أنّه إذا كان المطلوب في بناء النصّ توفّر تكثيفٍ لغويّ من شأنه أن يتولّى الاقتصادَ في العبارة، فإنّ ذلك لا يسوق إلى القول بتبذير الكلمات في استعارات لا قادح لها من سياق النصّ أو من طبيعة الشخصيّة، أو من ملابساتها، على نحو ما نجد عند السيّدة أحلام. فهذه الاستعارات لا تنمّ عن احتفاء باللّغة كما قد يُظنّ؛ وإنّما تكشف عن استخفاف بها، ولقد أفضى بها ذلك إلى زهد في تسمية التّفاصيل وترفّع عن دقائق الأشياء ورقائقها. وربّما حملنا ذلك على بعض سمات «الكيتش» حيث كلّ شيء في هذا العالم يفضي إلى النسيان: نسيان الطبيعة، ونسيان التاريخ، ونسيان الإنسان نفسه، كما هو الشأن عند ميلان كونديرا في (الكائن الذي لا تحتمل خفته). لكن شتّان بين كونديرا والسيدة أحلام التي لا تعي«الكيتش» من حيث هو حجاب يخفي الحقيقة وتعقّد العالم، أو هو تراسل أو تجاوب بين الكائن والنسيان؛ حتى أنّني أكاد أقرّر متعجّلا غير متريّث إنّ كاتبة كصاحبتنا 'منقـبة' ـ لغةً ـ أو هي متحجّبة من حيث لا تدري ولا تعي.
لغة السيّدة أحلام لا تقول تفاصيل اليوميّ، ولا تفاصيل الشخصيّة. بل هي تقتصد فيهما أيّما اقتصاد؛ ونكاد لا نقف في نصّها على أيّ تشكيل بصريّ، بل هي تقف مدفوعة مصدودة إزاء أيّ وصف أو تصوير هو من مقتضيات النصّ السردي. فما الذي يحوزه القارئ من صورة 'حزام زلازل' هذه المرأة أو من 'مياهها الجوفيّة' أو من 'سلّم ريختر الشبقي' وما إليها ممّا هو أمسّ بفنّ «الكيتش»، فالذي يتكلّم في هذا النصّ وتحديدا في مثل هذه التعابير ليس الشخصيّة كما تحاول أن يوهمنا السارد، وإنّما 'الكاتبة' التي لم تستطع أن تنفصل عن شخصيّاتها، فإذا هي تتملّى نفسها أو جسدها في مرآة 'لغتها'. وربّما حملنا ذلك على نوع من التكثيف البصري، ولكنّ التعبير الاستعاري على النحو الذي تجريه 'الكاتبة' محدود يفلت من الحقل البصريّ، ولا يحفل بالجزئيات والتفاصيل التي قد لا ننتبه إليها في معهود سلوكنا اليوميّ. ولا أحبّ أيضا أن أقول إنّ هذه 'الكتابة' التي تتمحّل على السرد، رواية مكثّفة أو قصّة قصيرة؛ وإن كنتُ أجدُ بينها وبين أسلوب القصّ المبتسر وشائج وأواصر، فلا أثر فيها لجماليّة اليوميّ.
وعليّ ها هنا أن أبدي ملحوظة وهي أنّ هذه الجماليّة لا تعني تحويلَ اليوميّ إلى موضوع جميل، فمن أشدّ خصائص اليوميّ التصاقا به خاصّية المعاودة والتّكرار بنفس الوتيرة تقريبا. وقد لا يكون هذا في حدّ ذاته مفيدا للنّصّ السردي شأنه شأن الشّعري، وإنّما يغنَمُ النص من اليوميّ نبض الحياة. وهذه 'كتابة' لا حياة فيها. ربّما هي ـ وهذا ما أرجّحه استئناسا بكلّ ما قرأت لها ـ لا تملك لغة السارد التي تثني الجسد، وتبسطه وترقّقه وتكثّفه أو تكشطه وتصبغه بما يفصح عن القصد الأيروسيّ الطّاغي لاعتبارات تتعلّق أساسا بحيويّة الجسد الجنسيّة الطّبيعيّة فـ'الكاتبة' تلاعب نفسها على نحو ما، تلاعب لغة نزار قبّاني ذات الاستعارات 'الجماليّة' الزائدة عن اللزوم، في عزلة عن شخصيّاتها. فلا شيء سوى ذكرى غائمة أو لحظة حنين حارق، كان يمكن أن تكون منفذا إلى مسارب الشخصيّة ودخائلها لولا هذا التكثيف الاستعاري الذي يعالق بعضه بعضا أو يراوغه، دون سند من سياق النصّ. ولولا هذا التّشكيل اللّغويّ الذي لا يلبث أن يقذف بالقارئ في مسار «الكيتشيّة» لا السرد، فينقطع حبل المعنى ويكاد لا يظفر بأيّة دلالة.
***
قد نسلك إلى مثل هذه الصّور من معنى معجميّ مباشر أو من ظاهر اللّفظ، ونتدرّج إلى المعنى الحافّ، على أساس أنّ الأوّل هو الأصل، والثّاني هو الفرع. وقد نسلك إليها من المعنى الحافّ الذي يمكن أن يستغوينا ويكون له وقع خاصّ من أنفسنا؛ حتّى ليحلّ لدينا محلّ الأصل، أو نحن نعتاض به عنه وربّما رأى البعض أنّ مردّ هذه الصور إلى المعاني الحافّة التي تغتذي من التّجارب الفرديّة الخاصّة والتّجارب الجماعيّة العامّة أو المتعارفة المرتبطة بتعلّم اللّغة حيث يكون للكلمة وقع عند بعض، هو غيره عند بعض. وهذا كلام فيه مقدار كبير من الصواب. غير أنّ أكثر هذه الصور إن لم تكن كلّها، لا ترجع إلى معان حافّة خاصّة بالكاتبة أو إلى 'فضل معنى' في المقول، قد يتقبّله قارئ، وقد يشيح عنه آخر؛ وإنّما إلى أثر نزار قبّاني في الكاتبة من جهة، وإلى قصيدة «الكيتش» التي تطغى على مشهد الشعر العربي المعاصر، من أخرى، حتى عند شعراء معروفين من أبناء جيلنا أو أكبر منّا بقليل. وربّما سمّيتهم في مقال قادم ـ وأمري لله ـ
إنّ هذا الفضل 'فضل المعنى' وهو ما نسمّيه الدّلالة التي هي عمل المتلقّي أكثر منها عمل المنشئ، إذ ربّما وهب النصّ معنى، وجاء المتلقّي وأضفى عليه دلالة، وبخاصّة ما تعلّق الأمر بمجاز، فالمجاز يقتضي التّأويل أوّلا وأخيرا؛ لا يبين في النصّ الذي نحن به، مهما احتشدنا له، ومن أيّ مسلك أتيناه، حتى لو حملنا الصورة على الاعتباطيّة وشتّان بين صورة تتمثّل أعلى درجة من الاعتباطيّة أو المصادفة التي تتعارض والقصد أو النيّة، وتضع طريقة جديدة في تدبّر العلاقات بين اللّغة والذّات، أو بين اللّغة والمجتمع، كما هو الشّأن في السّرياليّة عند كبار روّادها، وصورة متصنّعة يتسمّى فيها الشّيء باسم شيء آخر أو هو يصبح شيئا لغويّا، ولا مسوّغ لها سوى عجز 'الكاتبة' عن فعل التسمية، وأخذها بـ'استراتيجيا المجانبة'، أو سوى هوس لغويّ، لا نخاله يتمثّل عالم الشخصيّة القصصيّة.
ففي المستوى الأوّل الذي لا تستطيعه السيّدة أحلام المنصرفة إلى «أدب الكيتش»، تتحوّل الكلمة في العالم وعنه، إلى خيال تتراسل فيه وبه الأشياء والكائنات؛ وما يمكن أن يتيحه ذلك للقارئ من تبصّر في العلاقة بين الشّيء وتسميته، وبعيد تأمّل واستقصاء نظر، سواء استرسل إلى الصّورة واستأنس، وعدّها موافقة أو مناسبة استعاريّة، أو استهجنها وعدّها من فظّ الكلام أو من غريبه أو من الخشونة الاستعاريّة. وقد يعترض علينا البعض متذرّعا بكلامنا السالف وبالشواهد التي سقناها، فيرى في هذه التراكيب بالإضافة، أو في التراكيب النعتيّة وهي 'نزاريّة' المنحى مثل سابقاتها شيئا ما يلحقها بأشباه لها ونظائر في قول 'ما لا ينقال' إلاّ بهذه الطريقة.' على أنّ هذه الخشونة أو ما يسمّى بالتّنافر المنطقي في الصورة، ليس إلاّ مظهرا خادعا؛ ذلك أنّ مناط الأمر فيها تقنين استعاريّ، وطريقة خاصّة في تحويلها إلى نظام منطقيّ لا سند له من داخل الخطاب، وما يمكن أن ينهض به من إضاءة التّماثلات القائمة في منظومة القيم أو في سلوك الشخصيّات. فهذه صور وتهويمات استعاريّة، لا يتولّد منها أو بها أيّ مدلول ولا أيّ معنى حافّ ـ وهو أساس في الرواية التي تنزع إلى الإيهام بالواقع.
إنّ الرواية ـ أيّة رواية ـ تضع معنى الكائن موضع سؤال، في سياق العالم القصصي المتخيّل. والروائي يضيء لغز الشخصيّة أو باطنها أو وجودها. وفي هذا ما يعزّز القول إنّ المعاني الحافّة تعبّر عن علاقة بين الدالّ والمتكلّم أكثر ممّا تعبّر عن علاقة بين الدالّ والمدلول. والمتكلّم الأظهر في نصّ السيّدة أحلام هو نزار قبّاني لا غير. إنّ المعنى الحاف مفعول ظواهر لغويّة جماعيّة على قدر ما هو مفعول ظواهر لغويّة فرديّة؛ لأنّ الفرد كثيرا ما ينتج معانيه الحافّة، أي تلك التي يستوحيها من خواصّ علاقته بالأشياء، أو من ذكرى طفولته البعيدة. ومع ذلك فأيّ معنى أو دلالة يحوزها القارئ من مثل هذه الصور:
كيف لي أن أعرف قياس امرأة ما سبرت جسدها يوما الا بشفاه اللهفة؟ امرأة أقيس اهتزازاتها بمعيار ريختر الشبقي'
أعرف الطبقات السفلية لشهوتها
لا أعرف في أي عصر تراكمت حفريات رغباتها، وفي أيّ زمن جيولوجي استدار حزام زلازلها، وعلى أي عمق تكمن مياه أنوثتها الجوفية
***
نكاد نسلّم أنّ المجاز مجاز لاحتماله وجوه التّأويل. والتّأويل يكاد لا يعدو صرف النّص عن ظاهر ممتنع إلى مرجوح أو محتمل، سواء تقيّد بأعراف اللّغة وأنساقها، أو تحرّر منها. وهذا التّأويل إنّما هو مطلب نصوص أو صور تحمل في مطاويها النّقيض. على حين أنّ الصّور التي سقناها لا تنهض على مواءمة بين الكلمات والأشياء، حيث تنغلق صور الكلمات وتنفتح صور الأشياء إنّما هي صور مجازيّة تّجريديّة منغلقة على نفسها، لا تسبر حالة ولا تتمثّل مشهدا واقعيّا أو حتى غير واقعيّ. وربّما سوّغ بعضنا هذا الضرب من التّجريد كلّما صرفه صاحبه إلى استخراج إمكانات مجازيّة مسجّلة في أشياء طبيعيّة أو مصنوعة أو بحثا في هذه الأشياء عن علاقات مشابهة أو مماثلة أو قرابة. وربّما أمكن أن ننظر في هذه العلاقات من زاوية أخرى : فالشّيء يظهر بما ليس هو. والصّورة قد تكون طريقة من بين طرائق يظهر فيها الشّيء كيانا قائما بنفسه، ولكن دون أيّ إمكان لمثوله، ما دام ينضوي إلى الغريب اللاّمتصوّر أو إلى المحال المحض. والحقّ أنّه لا تبادل بين الأشياء في هذه الصور، وإنّما تبديل أو ضرب من 'قلب الأعيان' يخدع القارئ ويستغويه. وهو أشبه بطقوس السّحر حيث يمّحي الشّيء في صورة شيء آخر، وقد 'أنّسه' المجاز وقيّده إلى اسمه. وما حضوره إلاّ في غيابه، أو هو يظهر بما ليس هو في ذاته.
توهمنا الكاتبة بأنّها تملي على الشّيء قواعدها المجازيّة الخاصّة، لا تلك التي وضعها النّقد أو البلاغة، أو لأنّ الشّيء محكوم سلفا في رؤيتها اللغويّة بتأويل مجازيّ. وهذا حقّها الذي لا ننازعها فيه؛ بل نحن ننتصر له، فليس المجاز مجازا لاحتماله وجوه التّأويل، كما يقول البلاغيّون؛ وإنّما هو مجاز لأنّه مؤوّل أصلا، ما دامت الأشياء ليست هي الأشياء، أو ما دام شيء يقول شيئا آخر. ولكن هل أفلحت السيّدة أحلام في جعل الصّورة تتمثّل 'تمثّل' الذّات'؟ قد لا نتمحّل ولا نتعسّف على نصّها إذا قلنا إنّ الصورة عندها ليست صورة شيء، على قدر ما هي 'رسم' شيء أو تصميمه وعسى أن يكون واضحا أنّنا لا نصدر عن قواعد ملزمة أو 'حقائق' لا ينبغي أن يحرّفها الكاتب أو الكاتبة أو أن يغيّرها عن مواضعها. ونحن لا نطالبها أن تتوافق والممكن ولا أن تضع قارئها في هيئة انعطاف على الحقيقة إنّما نأخذ بالحسبان أنّها صور ومجازات لا تبرح بنيتها، 'مؤوّلة' قبل أن تطولها القراءة وتعالجها، أو أنّها فعل لغويّ مخصوص بإعادة تسمية الأشياء أي تدخّل الذّات اللّغويّ في العالم وطريقتها في إدراكه. غير أنّ الذي يتدخّل في كتابات السيّدة أحلام، أنّما هو نزار قبّاني أو هذا الأدب العربي الكيتشي الذي شاع وراج على نحو بائس، وبخاصّة عند طائفة من شباب الأدب.
وربّما حملنا هذا 'التهويم الاستعاري' منها على شعريّة الخطأ. والخطأ يمكن أن يُحدّ ـ ونحن نجرّده من كلّ حكم معياريّ أو قيميّ ـ على أنّه مَشيج لا غنى عنه في بناء الصّورة من حيث هي مخالفة بطبعها وانتهاك وخرق وتجاوز، وليست احتذاء أو عملا على مثال ومن حقّ الأدب علينا أن يحتفظ بقليل أو كثير من غموضه الذي لا ينضب، وأن تلتوي طرقه وتشكل على سالكها، ولكن دون أن يسوق ذلك إلى استنتاج متعجّل كأن نقرّر أنّ من شرائط الأدبيّة أو الشعريّة أن تبهم الكلام وتزيده إغماضا وتعمية. فلعلّ الأصوب أنّ الصورة تفصح عن المعنى الغامض محتفظة له بكامل حقيقته الغامضة دون أن يكون قابلا ضرورة للتّرجمة النّثريّة. لكن شتّان بين الصّورة في ذاتها قارّة في خطابها، والطّريقة التي يحتذيها المنشئ في الوصف والتّصوير. وقد يصعب، ما لم نميّز بينهما، أن ننفذ إلى معنى ونستحوذ على دلالة. وهل تستتبّ القراءة إذا اقتصرت على الصّورة في ذاتها أي دون حوافّها؟ وإذا قبل القارئ أن ينهج هذا المنهج، أفلا يجرّه ذلك إلى عالم من الغرابة، ويزجّ به في متاهة من الصّور التي ليست ممّا يقدر الخاطر أن ينالها بسرعة ولا هي ممّا يقع في الوهم من مجرّد النّظر. إنّ الخطأ قد يكون اضطراريّا. ولا مسوّغ له في تقديرنا سوى الإرادة في قول ما 'لا ينقال' أو ما يدقّ عن القول والوصف لقصور لغويّ أو لأنّ اللّغة لا تعرف كيف تؤدّيه؛ أو لأنّ الذّات تريد من اللّغة أن تبلّغها ما ليس تبلغه اللغة من نفسها.
ليس لنا إذن أن نحمل هذه التّراكيب الإضافيّة على معانيها الأوائل، ونلحقها بها في الحكم. بل لعلّ الأصوب أن لا نرى فيها إلاّ المعاني الثّواني التي هي ضالّة الشّعر، مادام للفظ في كل تركيب طبيعته وخصائصه، وله أثره ورسمه في الاسم الثّاني المضاف إليه، بل سيولته وتدفّقه؛ بل تولّده منه ونشأته عنه. غير أنّ الآصرة التي تنعقد بين الاسمين الأوّل والثاّني، أو بين المضاف والمضاف إليه، في هذه التراكيب الإضافيّة المجازيّة لا تُكسب الاسمين معا تعيينا وتخصيصا لم يكونا فيهما. إن من حقّ 'الكاتبة' أن لا ترى في الإضافة مجرّد نسبة اسم إلى اسم على وجه يكون فيه تخصيص أو تعيين أو تعريف، لكن شريطة أن تمتلك لغة قادرة على استحداثٍ أو إنشاءٍ أو إعادةِ تسمية تبينُ عن تدخّل الذّات اللّغويّ في العالم وسبيلها إلى إدراكه. وليس الأساس النّحويّ إلاّ منطلقا إلى رحاب الصّورة ومغامرة الذّات المنشئة ' الكاتبة'، بل هي الصّورة نفسها حيث وَصْـلُ اسم باسم هو أكثر من وصْـل معنى بمعنى لاعتبارات جماليّة. وإنّما هو طريقة في توليد 'معنى المعنى' أو المعاني المتعدّدة، أو هذا 'الشيء الثالث' الذي يتولّد من شتيتين متباعدين تجمعهما اللّغة في بنية واحدة،فإذا كلّ منهما ركيبُ الآخر، حتى لا يبينَ هذا، ولا هو ينفكّ، ولا إبرامه ينحلّ. وهذا ما لم تقدر عليه السيّدة أحلام حتى وهي توهمنا بأنّ الصّورة في مواضع من نصّها 'أوكسيمور' [ضديد] أو تركيب بالإضافة 'خلاسيّ' أو'هجين' كقولها:
'ضوء العتمة'، فهذا مثلا من مبذول المتن الرومنطيقي عند شاعر مثل فيكتور هيجو المشكل في هذه الصّور المنتظمة في هيئة تراكيب إضافيّة هو في جانب منه، مشكل بلاغيّ مردّه إلى الوجه في تسميتها استعارة من الوجه في تسميتها حقيقة. السّؤال إذن هو كيف نميّز في هذا النصّ 'إضافة مجازيّة' من 'إضافة حقيقيّة'؟
أهي إضافة تؤدّي عن نظام لغويّ مرتّب سلفا، يُعلم به أنّ حقّ الاسم أن يضاف إلى اسم دون آخر على ما يقتضيه الانسجام المنطقي بينهما، ويدلّ عليه، أم هي إضافة لا مرجع لها إلاّ ذاتيّة الخطاب الذي يقتدّها على مقتضى منطق نصّيّ خاصّ ووجهة نظر لغويّة ذاتيّة خالصة مقحمة بقوّة في النّصّ تفترض أحكامها على الأشياء وتتلعب بأسمائها ومسمّياتها ؟
أمّا إذا سلّمنا بضرورة الانسجام المنطقيّ في أيّ تركيب بالإضافة، فلا سبيل إلى الصّورة سوى التّعلّق بالمقولات النّحويّة من تعريف وتخصيص وتعيين وأخذ الحكم منها. ولن تكون الصّورة عندئذ أكثر من صدفة نتحيّل لها، حتّى تنشقّ عن ثمرةٍ عاقدٍ أحكم الشّاعر أو الكاتب نظم أجزائها، فهي تتقشر وتلين وتنفتح عمّا فيها من معنى خفيّ، هو ليس إلا المعنى الأصل على نحو ما لاحظنا في أكثر هذه الصور أمّا إذا سلّمنا بمنطق الخطاب فلا مناص من أن نسلك سبيلا أخرى، ومن الإقرار بأنّ الصّور عمل في حقل التّمثّل اللّغويّ، يبيّن أنّ العالم هو قبل كلّ شيء خطاب في العالم، وقول وكلمة، وأنّ معناه ليس معطى سلفا من لدن ذات مفارقة، أو هو مجرّد مجلي أو كتاب 'غير مكتوب' هو 'كتاب الطّبيعة' الذي نتعرّف فيه ـ على نحو ما نجد عند الميتافيزيقيّين ـ إلى الخالق ونتملّى قدرته وحكمته.
وهذه نظرة 'دينيّة' تتصوّر أنّ التّنوّع والاختلاف في الطّبيعة يمكن أن يتجمّع ويتآلف في بنية واحدة كلّية؛ إذا توصّل الإنسان إلى معرفتها أمكنه أن يضاهيها في عمله، وأنّ العالم يطوي في علاماته الظّاهرة على دلالات خفيّة مضمرة، تنطق بها لغة خرساء سحريّة ذات أجراس وإشارات خافية تتسمّى فيها، ما أفلحنا في الإصغاء لها وفكّ معمّياتها. أنما لا معنى ولا فضل معنى في هذه التراكيب الإضافيّة، كما تدلّ على ذلك مختلف الشّواهد التي أوردناها. فهي ليست سوى دلالة على أنّ 'المعاني الحافّة' هي هذه الدّلالات المتتاخمة المتجاورة التي تستحضرها الكاتبة أو هي تدور بخلدها، لا على مقتضى تجربتها الخاصّة، وإنّما تحت وطأة نزار قباني وسطوة «الكيتش» في أدب المرأة العربيّة الكاتبة عامّة. قد نشبّه هذه المعاني بـ 'طرر دوالّ، انفعاليّة شخصيّة' ولكن دون أن يترتّب على ذلك إقرار بأنّ المعنى الحافّ يمكن أن يحصر في نتاج فرديّ؛ فلعلّ الأقرب إلى الصّواب، أنّه في النصّ الذي نحن به مفعول لغتين: لغة قباني و'لغة' الكاتبة. وعسى ألاّ أكون أفسدت على عشاق السيدة أحلام متعة قراءتهم، أو صرفتهم عن كيتشيّتهم.
شاعر وأستاذ جامعي تونسي
عن (القدس العربي)