ليس من المعتاد أن يكتب شاعر متأملاً شعره، لكن ما دفعني إلى الكتابة عن قصيدة قديمة لي هو ما أدهشني من مدى ما وجدت فيها من تنبؤ بثورة يناير المصرية وتصوير لتفاصيلها بشكل دفع إلى ذهني بعدة تساؤلات عن طبيعة الإبداع الشعري: هل يكتب الشاعر بوعي كامل بما يكتب أم يكتب بمزيج من الوعي والوجدان المبهم والإلهام المفعم بالرؤى والرغبات؟ هل تحلق به مشاعره لتستشرف ما يقع أولا في الحلم الانساني فيجئ الواقع لكي يحقق الحلم؟ هل حلوله في الوجدان الجمعي لمجتمعه يمنحه القدرة على توقع ما يعتمل في دخيلة ذلك المجتمع من رغبات متحفزة تنفجر في انتفاضات أو ثورات شعبية هائلة في أية لحظة؟
في قصيدتي "كفاية" - والإسم الأنسب لها هو "نبؤة" - والتي نشرت في "ميدل ايست أونلاين" في أبريل/نيسان 2005، أي قبل حوالي ست سنوات من الثورة، نجد القصيدة تتنبأ بظهور جيل جديد من الشباب للقيام بالثورة، ثم تصف القصيدة كيفية خروج هذا الشباب في الشوارع والميادين واستشهادهم بطلقات رصاص رجال النظام، وهذا ما وقع في الثورة بالفعل.
ولنتذكر أنه في الوقت الذي كتبت فيه هذه القصيدة في مطلع عام 2005، لم يكن أحد في مصر أو خارجها يتكلم عن احتمال ثورة يقوم بها الشباب، فقد كان السائد هو كتابات تنعي موت المصريين وانشغال الشباب منهم بكرة القدم وضعف أو موت الإنتماء الوطني لديهم وكان بعضهم يغامرون بالانتحار في البحر في هروب إلي دول أوروبية، مما جعل الكثيرين يتصورون أن مشروع توريث مصر من مبارك إلى ابنه قادم لا محالة، أما من كان يتصور أو يتمنى قيام ثورة ما فقد كانوا يتصورون أنها لن تأتي سوى من مصدرين محتملين لا ثالث لهما، هما إما "الاخوان المسلمون" لأنهم منظمون ومنتشرون ولهم وجود في الشارع، كما أن لهم ثأرا مع النظام الذي كان دائم المطاردة لهم، وإما أن الثورة ستأتي من العشوائيات الكثيرة التي تحيط بالقاهرة من كل ناحية في تصور أنها ستكون ما سمي بـ "ثورة الجياع".
ولكن الشعر كان له تصور آخر تماماً، فبعد أن تصف قصيدة "كفاية" كيف أن كل فرعون لا يترك السلطان إلا ميتاً علي كرسيه لكي يأتي بعده وريث من صلبه أو حاشيته ليصبح هو الفرعون الجديد في مسلسل استمر منذ فراعنة قدماء المصريين إلى فراعنة الحاضر، تتنبأ القصيدة بأن هذه السلسلة سيكسرها جيل جديد يقول لا:
لا يسمع الفرعونُ دمدمة القرى
ولا وجعَ الأرض تحبلُ بالآثام
يظلّ هو الفرعون شبيه الإله
المالك للأرض والنهر والناس
وارثاً للبلاد وما حولها من أبيه
إلى أن يموتَ على كرسيه
وفي يده الصولجان
وعلى رأسه الطيرُ
ومن حوله الكهّان
وعشرة آلاف من حرس السلطان
فيصعد ابنه للعرش
وتأتي إليه الجموع مبايعةً
تطلب منه الرضا والأمان
-2-
هكذا كان حال الزمان
هكذا ظل حال الزمان
من الأسرة الرابعة
إلى الأسرة التاسعة
إلى الأسرة الألفين
إلى لا نهاية
***
وفي لحظة ساطعة
جاء جيل جديد
وقال: كفاية!
ولكن القصيدة لا تتوقف عند مجرد التنبوء بجيل جديد يقول لا، رافضاً سلسلة التوريث، لكنها راحت تصف ذلك الجيل بأنه مختلف نوعياً:
جيلنا
ليس يشبه ما فات من أجيال
إننا لا نمت لأيامكم
لا نطيق الحياة مع الزيف
والخوف والإغتيال
نقول: كفاية
لكل الطغاة
وكل الغزاة
وكل احتلال
إننا ننتمي للحقول وللريح
إننا ننتمي للندى، والمدى، والجبال
إننا الطير لا نستطيب السكون
ولا نستقر بحال
إننا العاشقون على ضفة النهر
نسهر في الليل نرنو إلى السموات
ونقطف نجم المحال.
ولكن كيف سيحقق هذا الجيل من الشباب الثورة؟ هنا تأخذنا القصيدة إلى وصف مشاهد الخروج إلى الشوارع والميادين - ذاكرة اسم الميدان الذي ستتجمع فيه جموع الشباب الثائر فكان في القصيدة هو ميدان طلعت حرب - أحد الميادين التي تصب شوارعها في ميدان التحرير:
اليوم نرفعُ أوجهنا للسماء
فتلفحنا شمسُها الذهبية
اليوم نخرجُ للحرّية
من كل فجّ عميق.. في موجة بشرية
نتجمّع في الحَرَم الجامعيّ
نسير لميدان طلعت حرب
نمرّ بتمثال نهضةِ مصر
نشدّ على يدها الحجرية
فتنهض مصرُ الجميلة
من غفوة أبدية
تحمل باقة وردٍ، وراية
فتخفق أرواحنا حولها
هاتفين: كفـاية!
كما كان الهتاف في القصيدة هو "كفاية" حاملاً نفس معني هتاف ثوار ميدان التحرير "إسقاط النظام" ثم "إرحل".
فلا نجد القصيدة تصخب بهتافات الثأر والغضب والهياج، بل تصور الثوار وهم أقرب إلى الشعراء والعشاق، بل تسميهم هكذا فعلاً:
جاء جيل من الفقراء
من الشعراء
من الحالمين
جاء جيل من الأنقياء
من العاشقين
من الرافضين
إننا ثورة الياسمين
وانتفاضة ورد البساتين والغابات
إننا قادمون
كجيش فراشات
ندافع عن كبرياء النخيل
وعن ضفة النيل
وحق القرى في الهواء العليل
وحق المثول الطويل
أمام الجميلات
وحق المحبة
والعرس
والأغنيات.
حق المحبة والعرس والأغنيات هو حق نادرا ما تطالب به الشرعيات الثورية، ولم نسمع عن ثوار يطالبون به في العالم العربي، ولكن كان هذا بالضبط ما فعله ثوار ميدان التحرير الذين رأيناهم يغنون ويرقصون ويضحكون معاً، بل رأينا من يقيمون عرساً حقيقياً بين زوجين اختارا أن يكون حفل زفافهما في ميدان التحرير آخذين صورة نادرة بثوب الفرح بجانب دبابة للجيش المصري.
ولكن ميدان التحرير لم يحفل فقط بالاغنيات بل قام الثوار - مسلمين ومسيحيين- بإقامة الصلوات فيه أيضا، وكانت القصيدة قد أشارت إلى تلاحم كافة الأطياف من مسلمين ومسيحيين في الثورة التي تنبأت بها مشيرة إلى "المآذن والمنارات":
اليوم تنكسرُ اللا نهاية
فنخرج كالريح للطرقات
ونمرق كالنور في الظلمات
ونوقظ من نام من ألف عام
فينتفض الأموات
يسألنا الناس: ما الخطبُ؟
ما أمرُ هذا الصدى.. ما الحكاية؟
نقول: إقرأوا
إقرأوا ما سنكتبُ
فوق الحوائط والواجهات
فوق المآذن.. فوق المنارات
إقرأوا أجمل الكلمات:
"كاف" و"فاء" و"آية"
كفـاية!
كما جاء.. تصور القصيدة لسلمية الثورة صادقاً تماماً، على عكس المعروف عن كل ثورات التاريخ، فقد أراقت الثورة الفرنسية الكثير من دماء وجهاء ومتنفذي العهد البائد وساقتهم إلى المقصلة، وثورات أخرى سحلت الملوك في الشوارع، ولكن القصيدة تنبأت بثورة مصرية صميمة تحمل صفات الإنسان المصري المسالم الذي لا ينزع إلى سفك الدماء حتى وهو يثور، فلا نجد القصيدة تصخب بهتافات الثأر والغضب والهياج التي عادة ما تملأ القصائد الثورية، بل تصور القصيدة الثوار مسالمين طيبين "كجيش فراشات" يحملون الورود ويفتحون صدورهم عارية للجنود الحاملين للسلاح، متقبلين الرصاص واثقين من انتصارهم في النهاية لأن مطلبهم المشروع هو الحرية والحياة:
نعم قادمون
كجيش فراشات
فأعدّوا لنا
ما استطعتم من الخيل والطائرات
وأجيدوا الرماية
أجيدوا الرماية
لكي ينزف الورد في صدرنا
فنهوىِ وفوق الشفاه رحيق الأغاني:
" قلبي .. يميني .. لساني
.. .. روحي فدا أوطاني"
فيردد من جاء من بعدنا
كلمات الحكاية
أجيدوا الرماية
ولكن بماذا يفيد الرصاص
إذا الشعب يوما أراد الخلاص.
في النهاية كان الشاعر مؤمنا بأن الثورة قادمة، وأن الطريق الطويل للطغيان قد قارب نهايته فيقول مطمئنا ومبشرا:
عطشان للغدِ يا مصرُ
للموعد المرتجى
واللقاء الجميل
حين تنهض مصر
لكي تتحدث عن نفسها
وتقول: اتبعوني
إلى الغد يلمع فوق التلال
صار أقرب من كل حلم
وكل خيال
يا له من طريق طويل
مشيناه من ألف جيل وجيل
ولكن أقول: أبشروا .. أبشروا
فات منه الكثير
ولم يبق إلا القليل.
وكأن الشاعر كان مؤمنا بأن الثوره التي تصورها بحذافيرها وتفاصيلها ستحدث بعد أقل من ست سنوات من قصيدته النبؤة.
وهذا هو الرابط للقصيدة كاملة:
http://middle-east-online.com/?id=30292