يحق للعرب أن يفخروا بما ابتدعوه من نظم حاكمة على هذا الكوكب، فقد ابتدعوا نظم متفردة ليس لها مثيل، جمهوريات وممالك وسلطنات وإمارات، دكتاتوريات من الطرار الأول، بعضها يحكمها ملوك وبعضها يحكمها رؤساء وبعضها يحكمها أنظمة هلامية أخرى لا هي بهذا ولا هي بذاك، وفي المجمل كلها قبائل يتوارثها شيوخها ويورثونها لأبنائهم بشراً وأرضا، قبائل انفجرت في بعض مناطقها ثروات صنعت منظومة طفيلية ينافقها المجتمع الدولي كله لحين نضوب آبارها وسحب أرصدتها أو الوصول لبديل لمنتجها الرئيس، وفي رأيي أن تلك الثروات عطلت الحراك والتقدم الطبيعي لهذه المجتمعات، أي أنها كانت في الاغلب ثروات ظالمة إذا جاز التعبير لأنها خلقت حالة من التكاسل والاتكال والإستعلاء والتمايز الكاذب، هذه هي الحقيقة الصادمة التي يتعامى عنها الجميع، حقيقة ستزعج كثيرين لمرارتها والأكثر مرارة هو الاختباء منها.
وسنبدأ في هذا الطرح بتشريح الصورة على الساحة، صورة المعسكرين الرئيسين في هذه المنطقة المنكوبة من العالم، أي معسكر الجماهيريات ومعسكر الممالك ـ وإذا استثنينا ليبيا من المعسكر الأول وهي بنظامها البائد الشاذ كانت أقرب للمعسكر الثاني، وإذا استثنينا المغرب والأردن من المعسكر الثاني وهم أقرب اجتماعيا للمعسكر الأول، فيمكن استعمال تصنيف جماهيريات الفقر وممالك الغنى وهناك تصنيف شعبي طريف هو "جمهوريات الفول" و"ممالك الزيت"، وعموما كلها كيانات يغطيها هشيم مبلل بسوائل سريعة الاشتعال ويختبئ تحت سطحه شحنات هائلة من مواد شديدة الانفجار. ولنبدأ بجماهيريات الفقر فهذه الجماهيريات كلها ـ ونقول كلها ـ تغلي كمراجل، بعضها تم نفث بعض من بخاره والبعض لازال يغلي وبخاره مكتوم، والبعض لا يسمع له صوت غليان ظاهر ويغلفه هدوء نسبي، هذا الهدوء لأسباب ليس من بينها في رأيي أنها نظم لازال تاريخ صلاحيتها ممتد، ونحن هنا نتحدث عن السودان والجزائر تحديداً، لكن هدوء هذان القطران لأسباب أخرى مختلفة سوف نتعرض لها لاحقاً في سطور هذا الطرح، فربما نكتشف علاقة ما بين ما يجري على الساحة وبين الموضوع الذي يشي به العنوان وهو هدوء الممالك، وهل هو فعلاً هدوء حقيقي أم أنه الذي يسبق العاصفة؟
فالخيوط متشابكة كخيوط نسجها عنكبوت عملاق جاثم على المنطقة كلها منذ أمد بعيد وتحير كل مدعي القدرة على التحليل في تفسير هذه الصورة، فقد اشتعلت النيران في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن وهي مشتعلة قبلا في لبنان والعراق، واذا استثنينا الأولى وأضفنا السودان فهذا هو اتحاد الجمهوريات العربية القديم، ولعلكم تذكورن عبد الناصر ونواة حلمه الأول الوحدة بين مصر وسوريا، ثم تتالت مشروعات هذا الحلم ومسمياته ومراحله ومكوناته مرة بين سوريا ومصر وليبيا ومرة أضيفت العراق وفي مرحلة أخرى انضم اليها اليمن والسودان، هذا هو المشترك الأول بين هذه الجمهوريات المنكوبة قبل مشترك الحرائق المشتعلة الآن، أما المشترك الثالث هو أن معظم هذه الأقطار إن لم يكن كلها يحكمها عسكريون توارثوا حكمها إثر انقلابات على نظم ملكية سابقة، فقد انقلب عبد الناصر على فاروق وانقلب بورقيبة على الباي وانقلب عبد الرحمن عارف على فيصل وانقلب السلال على الإمام البدر وانقلب القذافي على السنوسي، والعجيب أن الترتيب الزمني لهذه الانقلابات كان تقريباً ـ بإستثناء العراق الذي اشتعل مبكراً لأسباب أخرى ـ هو نفس التتالي الزمني تقريباً لإشتعال النيران في هذه الأقطار مصر وتونس واليمن وليبيا وهؤلاء كما سبق ونوهنا هم الأعضاء القدامى لمحاولات فاشلة لإيجاد ولو صيغة واحدة لأي نوع من التوافق ولم تنجح، والتاريخ يقول أن "الممالك" كانت الجبهة الرئيسة في مقاومة أي نوع من التحالفات بين القوى التقدمية (في حينها) أي الجمهوريات، لأنه كان موجها بالأساس للقوى الرجعية (في حينها) أي الممالك، من هنا يتضح بأن الصراع (تاريخي) بامتياز ونظنه لايزال، فالجمهوريات التي اشتعلت كانت مهد لتيارات ليبرالية ظهرت مبكرا في الهلال الخصيب بالإضافة لمصر وتونس والسودان تيارات صدرت مبكراً هواجس خطرة لحكام هذه الممالك هواجس جعلت العداء متجذر.
أما عن ممالك الغنى أو بالأحرى "ممالك الزيت" وبالطبع نستثني المغرب والأردن من مسألة الغنى و"الزيت" هذه، وربما يفيد أن نذكر بأنه عندما ظهرت بوادر اشتعاال النار في المملكتين "الفقيرتين" سارع "الأشقاء" بإطفاء النيران، ولعبت وتلعب التيارات الراعية لمبدأ عدم الخروج على الحاكم بالتنسيق مع "معسكر الممالك" دور رجل الإطفاء وتمكن الملكان الشابان من السيطرة على الوضع سريعاً (والمملكتان بالمناسبة مدعوين للإنضمام إلى مجلس التعاون)، والذي يعتقد بأن المملكتين الفقيرتين أهميتهما محدودة بالنسبة للممالك الغنية، ربما لا يثمن جيداً دور الملك الهاشمي كحائط صد بينهم وبين إسرائيل وهذا يعفيهم من حرج المواجهة المباشرة مع العدو التاريخي، أما المملكة الثانية فهي الباب الملكي لعبور المحيط إلى الحليف الاستراتيجي للجميع هذا بالطبع إلى جانب علاقات تاريخية مرتبطة بالملوك (الآباء)، بالإضافة بالطبع لخطورة مبدأ المساس بأي نظام ملكي في المنطقة فلا زال مشهد أوراق الدومينو التي تداعت تباعاً من ابن على إلى ابن صالح لازال المشهد ماثلاً في الأذهان وبهذا تتضح تماماً صورة المعسكرين معسكر الممالك (الهادئة) ومعسكر الجماهيريات (المشتعلة).
أما عن الموقف في تلك الممالك فهو ما نعتقد بأنه نموذج أمثل لمقومات ثورة عارمة فهناك مليارات المليارات مدخول زيت وغاز طيلة ستة عقود ولا يعرف أحد عنه شيئ، وهناك مظاهر سفه لا حدود لها، وهناك فساد متجذر، والأدهى والأمر هناك فقر واستبداد وظلم اجتماعي بين مرتبط بحريات مقموعة بقوانين لا تعترف بأبسط حقوق البشر، بالإضافة لتراكيب سكانية خطرة (في بعض هذه الكيانات المواطنين أقلية بالنسبة للمقيمين) والأخطر من كل هذا هناك جيل جديد من الشباب في هذه الممالك يقرأ الأحداث ويفسرها من منظور جديد تماماً، فإذا كانت أجيال سابقة كانت ممنوعة من (الاختلاط) بالدنيا فالتكنولوجيا الحديثة التي هبطت من السماء أزالت الحواجز وأصبح هناك أجيال جديدة لم يعد ينطلي عليها هذه الحجج الواهية التي تدعم استمرار هذه النظم في توارث مستقبل هذه الأجيال ومقدراتها، هذه النظم التي انتهت صلاحيتها منذ قرون طويلة لكنها تقاوم حركة التاريخ بصبغ الشعر وشد وجه أنظمة اكتشفناها عندما سقط عن مثيلاتها هذا القناع الزائف.
وأظن أن هذا الجيل الجديد لا يقل عن أقرانه في المنطقة العربية فقد استطاعوا اقتلاع نظم فاسدة، اقتلعوها من جذورها الممتدة من عقود، والذي يظن أن ضخ الأموال في جيوب الناس يمكن أن يطفئ نيران تسري تحت الرماد هو واهم، فالشعوب تعلم بأن هذه أموالهم وتمنح لهم كمكرمة من أسياد إلى عبيد، وهي تؤجج مشاعرهم وتلهب الاحقاد الكامنة في قلوبهم، فهم متيقنون بأن مدخول كل هذه الممالك هو الآن في جيوب عائلات، ويعرفون أيضاً طرق الإنفاق السفيهة لهذه المليارات طيلة هذه العقود من الصرف على جيوش من البلاستيك الردئ تشتري أحدث المعدات لتأكلها الرمال (رأيناها في العراق وليبيا) وهي الآن رابضة في الربع الخراب ولا ندري ما هي عقيدتها أو أهدافها العسكرية وبلغة العسكريين ماهو اتجاهها الاستراتيجي وفي رأيي أن الهدف الوحيد لهذه المنظومات هو حماية ملوك هذه الطوائف من غضبة شعوبهم. أما بند الصرف المقدس والذي لا يستطيع أحد الإعتراض عليه أو طلب استبيان تفاصيله، وهو ما أنفق (في سبيل الله) في مصر وتونس والسودان والصومال والفلبين ونيجيريا وغيرها وغيرها، وقد تم جني ثمار هذا التمويل السخي، التمويل الهادر الذي أفرز برلمان كامل من الملتحين في مصر وتونس والمغرب وقد أصبح ظهيراً قوياً للدفاع عن الرعاه الممولين وهو التمويل الذي يفسر الموقف أيضاً في السودان التي تبدو عصية على الانجراف في تيار الثورة العارمة علماً بأن بواكير الليبراليين وبالأخص اليساريين منهم كانت السودان مدرستهم الأولى.
أما عن الجمهورية الثانية التي لم تلحق بالركب وهي الجزائر فإنه من الواضح أن تأثير عقد كامل من المذابح على يد الاسلاميين ربما جعل الجزائريون مترددون وخصوصاً بعد أن ركب الاسلاميون موجة الثورات في مصر وتونس وليبيا، واحتلوا بتنظيمهم وتمويلهم واجهة المشهد، وفي تقديري أنه نفس المشهد الذي يقلق السوريين الذين لم يحسموا أمرهم حتى اليوم حيث لديهم نفس المتنمرون الجاهزون للوثوب على أي تغيير، إنه مبدأ "التمويل الوقائي" إن صح التعبير فما دامت الممالك لا تستطيع الوقوف في وجه التغيير فعلى الأقل السيطرة عليه وتشذيبه وتهذيبه، ونظرة على واقع كل البلاد التي انفجرت فيها الثورات ربما يشي بحجم التأثير على مساراتها فبعد عام من المعاناه لازال الجميع في المربع الأول. والذي يعتقد بأن هدوء الممالك (المريب) هذا سيستمر طويلاً هو واهم، فحركة التاريخ ومنطق الأشياء وحتمية التغيير سوف تصحح المسار إن عاجلاً أو آجلاً.