على خلاف النزعات البنيوية، يخلص الكاتب للقول بأن نظرية التلقي كما يقترحها ياوس، تدعونا إلى إعادة إدماج البعد التاريخي في قلب الرؤى الأدبية، كما أنها تدعونا إلى الحذر ممن يؤكدون وجود ثوابث متحررة من الزمكانية، فسيرورة الأدب التاريخية تتعلق بـ"المرسل إليهم" الذين يرفضون، أو يعيدون خلق الحدث المتلقي.

تأملات في نظرية التلقي لهانس روبيرت ياوس

بنيامين هوغو لوبلان

ترجمة: سعيد بن الهاني

 

إن النصوص الستة التي تشكل جزءا من هذا الملف هي ثمرة تأملات لمجموعة مكونة من ثمانية طلبة وطالبات الدكتوراه في العلوم الدينية لجامعة لافال Laval تحت إشراف الأستاذ André Couture. تقترح هذه الندوة- مع الاعتماد على الخطوات المنهجية النوعية والمختلفة لكل المشاركين - أن تترك شيئاً فشيئاً انبثاق طيمة مشتركة، وسؤالاً منهاجياً، وأيضاً إشكالية بحثية قابلة لأن يتفق حولها الجميع. يتعلق الأمر بجعل طالب الباحث في الدكتوراه ينخرط بعمق في بحثه الخاص، مع فتحه على أسئلة لم يطرحها ربما على الأقل بهذه الطريقة بعد. ففي هذه الندوة التي جرت في موسم 2002/ 2003 (في خطوة ملازمة مع جامعة Québec بـ Montréal وجامعة Concordia) وبعد كل أنواع النقاشات المثمرة تقريباً، انتهت عند طلبة جامعة Laval بأن تفرض طيمة التلقي نفسها، كما ظهرت في هذا العمل الحاسم لهانس روبيرت ياوس "من أجل جمالية التلقي". الهدف المقصود بهذه الخطوة المنهجية هو في نفس الوقت كان واحداً التوحيد والتعميق في نفس الوقت: أن تجعل هؤلاء الدكاترة يعيشون تجربة ندوة علمية حقيقية تدور حول طيمة معينة، وفي نفس الوقت، وأن تجعل هؤلاء الباحثين اليافعين يحملون رؤية جديدة حول موضوعات بحثية معروفة.

ما دام التلقي يريد أن يكون الطيمة التي تمفصل ست مساهمات محتفظ بها هنا، وجب القول هنا أولاً بعض الكلمات. تصلح هذه الكلمات إلى إدخال الأشغال الثمانية في أبريل 2003 خلال ندوة اختتام هذه الندوة. يبدو من المفيد استعادتها هنا لتدقيق الإسهام في البحث في نظرية التلقي وموضعتها من زاوية نظرية. من القوة الاعتراف بأن في هذا الميدان كما في ميادين كثيرة أخرى تكثر المدارس تغتني، ولا يمكن ببساطة أن نثير تصوراً معيناً بدون الانحسار من جهة أخرى إجبارياً في اختيارات معينة.

بطريقة عامة: نقصد بـ"التلقي" مشروعاً متعدداً لنظرية أدبية ألمانية تركز على رد فعل القارئ أكثر من المؤلف والنص كما كنا نفعل ذلك عادة(1). أسسها هانس بروبيرت ياوس (1921-1997) وولفجانج إيزر (1929) خلال مؤتمرين صحفيين افتتاحيين بجامعة كونسطانس(2). لقد انفصلت "جمالية التلقي" (Rezeptionsasthetik) لوقت قصير عن النظريات الأدبية الأخرى بتحديها لفكرة كون فعل القراءة فعلاً سلبياً un acte passif على العكس من ذلك تفترض هذه النظرية مشاركة حيوية للقارئ تبعاً للقيم الأدبية (أو شروط التملك) التي تتطور وفقا للزمان والمكان. "يستجيب وجود نشاط جمالي للإنتاج صادر عن المؤلف للنشاط الجمالي للتلقي الصادر عن القارئ. إن كل فعل قرائي هو إبداع. وفي النتيجة كل فعل للتلقي هو فعل فريد من نوعه"(3) ينتج عن ذلك، بالنسبة للعمل، ترهينات وتحققات متنوعة جداً، حسب الدلالات الاحتمالية التي تجد نفسها معبأة من طرف فعل القراءة(4).

لا ينبغي لهذا التقاطع النظري بين المؤلفين الذي يشاركهما كذلك الرأي طبعاً Man Fred Fuhrmam، Rainer Warning، Karlheinez Steirle، Gunter Buck، Jurgen Habermas، Peter Szondi، Hans Blumenberg(5)، أن يخدعنا مع ذلك. بالفعل، فبينما إيزر يفضل المقاربات التأويلية للنقد الجديد new criticism الأنجلو ساكسوني، والنظرية السردية، مستلهما بما فيه الكفاية رومان إنجاردن والفينومينولوجيا الألمانية، فإن ياوس فقد انشغل بالأحرى بإعادة إدماج التاريخانية في النظرية الأدبية. على عكس إيزر الذي بقي في حدود العلاقة الفردية بين القارئ والنص (كيف للقارئ أن يتماهى – أو "يستجيب" للنص).

يمنح ياوس أهمية كبرى إلى (توثيق) تسجيل تلقيات متعاقبة في تاريخ معين (Rezeptionogeschichte)، ليس فقط الأثر الراهن (wirkung) ) بالنسبة لياوس لنص ما على قارئ معين هو الذي يستحق الانتباه، بل كل التاريخ أو سلسلة الآثار الناتجة، فضلاً عن المسافات الجمالية (أو القطائع) الحاضرة في هذه السلسلة (كادامر).الهدف هو قياس جيد لهذا المجموع، وما يمكن أن يكون له من تأثير على التلقيات اللاحقة، بعبارات أخرى، وحسب عبارة معينة لـروبيرت س. هولب Robert C. Holub إذا كان إيزر يهتم زيادة على ذلك بـ "العالم المصغر للجواب" (أو الأثر)، فإن ياوس من جهته يبحث بالأحرى عن تحليل "العالم الكبير (المكبر) للتلقي"(6). بوضعنا أمام هذا البديل، واعتبارا للتوجه التاريخي أو الاجتماعي قطعا لمجموعة أشغالنا، فقد كنا مستعدين –منذ بداية هذه الحلقة الدراسية- أن يقع اختيارنا على نظرية ياوس. ليس فقط تأويلها للتاريخ الأدبي، باعتباره سيرورة جدلية للتلقي والإنتاج الجماليين، بدا لنا أنها تفتح آفاقا جديدة للتحليل في العلوم الدينية، لكن كذلك بعض الأفكار والمفاهيم المؤسسة لنظريته هي الأخرى أيضا أغوتنا بحجم خصوبتها الاستكشافية.

يدين ياوس خاصة لكادامر، من بين ما يدين له هو أن العمل يقدم باعتباره جوابا عن سؤال معين. تبعا لهذا المنطق (لا يقتسم هذا الرأي معه كل منظري هذه المقاربة)، لا يمكن أن نفهم عملا ما إلا إذا كنا نفهم سلفا لأية سؤال (أو أسئلة) في الغالب ضمني (أو ضمنية) يحاول العمل الإجابة عنها. إن سيرورة التلقي تبقى إذن مشدودة إلى فعل أن القراء الذين يطرحون سؤالا معينا حسب محيطهم التاريخي، السياسي أو النظري يقبلون أو يرفضون الجواب الذي حمله لهم النص. فضلا عن هذه الفكرة التي تدور بالضبط حول الأثر، يضيف ياوس لها بعدا تاريخيا هو مفهوم "أفق التوقع" (Erwartungshorizont). تمت استعارة هذا المفهوم من هوسرل وبلورته بغية إقامة رابط نظري بين التجربة الحاضرة لعمل معين، وترهيناته الماضية –بين الجمالية والتاريخ، باختصار-، إن هذا المفهوم يرتبط بـ"محتويات الوعي" القابلة للاحتفاظ أو التعديل، حسب علاقة التعلق المتبادل والدينامي (الحي) القائم بين القارئ، الناقد والمؤلف. إن هذا "الأفق" القابل للتمييز موضوعيا سيكشف في العمل نفسه، بسبب "عبر-ذاتي" trans-subjectivité لتوقعات جماعية "يشترك (في نفس الوقت) فيها المؤلف ومتلقي العمل(7). أكيد، يمكننا أن نبرهن، على غرار هولب Holub، أن المفهوم يبقى غير دقيق. في الواقع، يحيل ياوس على مستوى معين عدة عبارات مثل "أفق التوقع"، "بنية الأفق"، "أفق مادي للشروط" (Materieller bedingungshorizont) و "أفق تجربة الممارسة المعيشة"(8) بدون أن تكون مفسرة بوضوح.

ما يلاءم الاعتراف به، ويسمح لنا بالإختيار بين خيارين: إما الاحتفاظ بتعريف محافظ مثل تعريف سيلفيا Silvia Gerritsen و طارق راجي Tariq Ragi هو "تجربة القراءة بمعاييرها ونسق قيمها الأدبية والأخلاقية والسياسية. إلخ"(9)؛ وإما بملاءمته لحاجة خصوصية تخصصنا العلمي أو هدفنا وبدون أن نخون بالرغم من ذلك المعنى الأول (إما في الأصل، نسقاً بيذواتيا للإحالات). بينما، وبسبب أن "أفق التوقع" يستدعي البعد الاجتماعي، فإن الخيار الثاني لا يبدو لنا أبداً قضية للتداول، وبالتالي يفسح المجال لإغناء خطواتنا المنهجية من البحث المرتبط بها تؤدي في المقابل إلى توسيع نظرية اعترف بضيقها ياوس نفسه بقوله: "لن أبحث عن معارضة أن مفهوم "أفق التوقع" كما أدمجته، يتم إدراكه أيضا أنه تطور في الحقل الوحيد للأدب، حيث سنن المعايير الجمالية للجمهور الأدبي المحدد، كما تمت إعادة تشكيلها كذلك، يمكن ويجب أن تصاغ سوسيولوجيا حسب التوقعات النوعية للجماعات والفئات. وتحيل أيضا إلى اهتمامات وحاجات الوضعية التاريخية والاقتصادية التي تحدد توقعاتها"(10).

إن هذه المرونة النظرية بعيداً عن الخيانة الابستمولوجية تكشف عن نفسها بأنها ركيزة لا يستهان بها بالنسبة للتاريخ الأدبي والفن بصفة عامة. بدون شك، وكذلك الشأن بالنسبة للأعمال الفلسفية والدينية – بل حتى بالنسبة للأفعال الاجتماعية والسبب هو أن النص –بمجرد تلقيه- يقدم نفسه بطريقة لا تناقش كحدث، وكيف لا يمكن أن يقول أكثر وقائع اجتماعية جديدة؟ إن هذا "الانفتاح" الذي يتميز به مفهوم التلقي –الموجه بنفسه على أن يعاد امتلاكه وترهينه من جديد- سيحدد اختيارنا.

إن نظرية التلقي كما يقترحها ياوس، تدعونا إلى إعادة إدماج -على عكس مختلف النزعات البنيوية (مثل تلك لـكلود ليفي ستاروس أو رولان بارث)- البعد التاريخي الضروري (أو الدياكروني) في قلب الرؤى الأدبية، الأنثرولولوجية والسوسيولوجية، إنها تدعونا إلى الحذر في مواجهة خطاب من يدعون المحبة المطلقة، والذي يؤكدون وجود توابث متحررة من كل نزعة تاريخية. إن العمل لا يمكن أن يكون إلا وفقا لتحققات متوالية من طرف قراء تطوروا في سياقهم الخصوصي كما هو الشأن بالنسبة للفعل الاجتماعي الذي لا يمكن إدراكه (أو لا يمكن أن يدرك) بدون التأويلات الجماعية للفاعلين الاجتماعيين المحددين تاريخيا. إن السيرورة التاريخية للأدب شأنها شأن التقليد الديني أو التغير الاجتماعي، تتعلق تعلقا وثيقا بـ"المرسل إليهم" شريطة أن هؤلاء (المرسل إليهم) يرفضون، يحتفظون أو يعيدون خلق الحدث المتلقي.

 

هوامش:

(1) لكي نعرف أكثر حول إسهامات السابقين (أعمال Roman Ingarden بنيوية براغ، هيرمينوطيقا هانس جيورج غادامر، سوسيولوجيا الأدب حسب Lowenthal معاً، Julian Hirsh و Levin Schucking) نتصفح للفائدة العمل الرائع الصغير الممهد لـ R.C.Holub

Reception Théory A critical introduction. London et New York Methuen, 1984, p22-52.

2 H R Jaun "literatur geschichte als provokation fur die literatur wissenschaft" (1967), publié dans Id. literatur geschichte als Provokation, Francfort swhrkamp, 1974, 9144-207; en français: l'histoire de la littérature: un défi à la théorie littéraire dans H R Jauss: pour une esthétique de la réception, Paric, Gallimard, 1978, p21-80 et W. Iser "Die Appellstraktur der tentes (la structure d'appel du texte) (1968) publié dans R. Warning Rezeptionsasthetik théorie und Paris, Munchen, Wilhelm Fink, 1975, p228-252.

3 S. Gerritsen et T. Ragi: pour une sociologie de la réception, Paris, L'harmattan coll "les cahiers du (CEERESS) 1998 p28.

4 نفسه.

5 G. Lernout, a reception theory dans M. Groden et M Kreiswirth, the shou Hopkins guide to literary theory. Zhiticism, the hohn hopkin university press, 1997, source internet http://www.press.jh v.edu/books/hophins-guide-toliterary-theory/reception-theoryhtml.

6 RC Holub, Reception theory, p83. voir également Robert F. Barsky (avec la coll de D Fortier). Introduction à la théorie littéraire, sainte-Foy, presses de l'université du Quebec, 1997, chap 7 "les théories de la reception".

7 جون ستاروبنسكي "مقدمة" لكتاب هانس روبيرت ياوس من أجل جمالية للتلقي ص 16.

8 R.C Holub, Reception theory p 59.

9 S Berritsen et T Rabi, pour une sociologie de la reception p 31.

10 روبير ياوس من أجل جمالية التلقي ص 258.

 

المصدر:

Article

Benjamin-Hugo Leblanc

Laval théologique et philosophique, vol. 61, n° 2, 2005, p. 227-231.

Pour citer cet article, utiliser l'adresse suivante:

http://id.erudit.org/iderudit/011814ar