القاص العراقي يقدم وجهتي نظر متباعدتين متكاملتين. تكشفان مشاعر الزوجة والزوج إزاء بعضهما بعضا والتغيرات التي طرأت على علاقتهما. كما تكشفان الاختلاف في تكرار الحوار، وأن ما يبدو متشابها على مستوى الحدث يتعدد من خلال تباين منظور المتلقي.

لحـظتان

(قصة قصيرة تركيبية)

باقر جاسم محمد

(لحــظة المرأة)

«ما الذي يجري؟ لعلي واهمة. هل بدأ الزمن ينخر في صورتي الأثيرة لديه؟ منذ فترة ليست بالقصيرة وماجد لا يكاد يبدي اهتماما ً بي. كان لا يني يغازلني وأنا أبدي صدودا ً وتمنعا ً وفي داخلي كنت أشعر برغبة حارقة في أن لا يتوقف أو يمل من ممانعتي، لذلك كنت أنتظر أن يخلو البيت من أبنائنا الأربعة. وكما لو كان ذلك موعدا ً مع لحظة الوجود الأولى. لكنه يبدو هذه الأيام ساهما ً ومشغولا ً على الدوام. وحين سألته عما يعانيه قال إنه مجرد إرهاق بسبب العمل" خرجنا الآن من المنزل، كنت أنا من ألح عليه بالخروج. أبدى تمنعا ً غريبا ً. ثم قال بامتعاض:

- هيا، لنخرج!

قلت محاولة أن أبدد الجو المشحون توترا ً:

-         إذا كنت لا ترغب، فلن نخرج.

-         كلا. لنخرج.

-         حسنا ً. سألحق بك حال أن تنتهي من تشغيل السيارة.

" لست أدري كيف أتصرف معه، كان واجما ً لأكثر من ثلاث ساعات. فكرت بأن جو البيت و الأولاد ربما يمنعانه من الكلام. و لكن ها هو يبدو حرونا ً كما لم أره من قبل. كم كان رائعا ً حين تقدم لخطبتي. و قد بقي على دأبه في التغزل بي وفي عشقه لي حتى بعد أن رزقنا بأربعة أبناء. و كنت أشعر بسرور غامر حين لم يكن ينقطع عن مواصلة مغازلتي، لكنني لم أعد أشهد لحظات التألق العاطفي معه كما كنت و إن بقيت أرغب في أن يغازلني وأن أتمنع عليه. خصوصا ً بعد أن رزقنا بابننا الثالث. أعتقد أن أمومة المرأة الشرقية تقتل في داخلها الأنوثة. إيه كم مر من الزمن! لم أوافق في البداية على الزواج منه. كنت متعلقة بالأستاذ محسن الذي يبعد منزله عن منزلنا حوالي مئة متر. كنا نعمل أحيانا ً في لجان مشتركة لمدرسي الأحياء. و كان شابا ً لطيفا ً و وسيما ً، وغاية الأناقة. أما أنا فقد قررت مع نفسي أن لا أتزوج رجلا ً سواه. لكن، آه من الماضي الذي يطاردنا مثل قدر أعمى. سألت عن اسمه الكامل، و حين ذكره لي، أصابني نوع من الوجوم الذي حاولت أن أخفيه عنه. لقد عرفت حينها أنه لا يمكنني أن أتزوج منه لأنه ابن الشخص الذي قتل عمي في أحداث 1963. و أنا أعرف أن عائلتي لن تسمح بهذا  الرجل زوجا ً لي. بدأت أحاول سحب نفسي من حالة الود التي كانت قائمة بيننا. حاول أن يعرف السبب، و لكنني أغلقت أمامه كل السبل. يبدو أنه يجهل هذا التفصيل المعتم من تاريخ أسرته. و كان قد عبر لزميلة متزوجة و مقربة مني بأنه يحبني لعدد من الأسباب لعل أهمها أنني مختصة بتدريس الأحياء ولكنني أحب الأدب و أقرأه بشغف. لكن ذلك صار الآن ماضيا ً. كم كنت أرتبك حين نلتقي صدفة في العمل أو في السوق أو في الشارع. و بعد مدة يئس الأستاذ محسن من الحصول على موافقتي على طلبه، فبحث عن فتاة أخرى و تزوجها. و حتى بعد تزوجت أنا و تزوج هو، كنت أشعر بأن ضغطي يزداد و أن وجهي يغدو أكثر سخونة كلما التقينا. و قد خشيت أن يلاحظ زوجي ماجد هذه الحالة حين نكون في الشارع و نلتقي صدفة بالأستاذ محسن. مرت سنوات، وعرفت من صديقتي المقربة أنه لم يخلف لأنه عقيم. حينها شعرت بالأسف له. وسرعان ما استطعت أن أحافظ على رباطة جأشي حين نلتقي. صار في عيني أشبه بدمية بلاستيكية جميلة المظهر. و فكرت بمدى ضيق الحياة بدون أبناء. لكن ذلك صار ماضيا ً بعيدا ً. الآن سأرى إن كان باستطاعتي أن أفك عقدة زوجي ماجد و أجعله يتكلم."

منذ أن اتخذت مقعدي إلى جانبه في السيارة، و هو صامت. يبدو أنه عازف عن الحديث. وبدون مقدمات، قلت له:

- ماجد، عليك أن تزور طبيبا ً.

قال مستغربا:

-         لـِم ًَ؟

لا شك بأنه يتهرب من الإجابة الصريحة. أردفت بالقول:

-         لأنك قد تودي بنفسك.

-         لا أعاني من شيء.

-         هل تحاول أن تخدعني؟

-         ما هذا الكلام؟

-         إلا تلاحظ ما يحدث معك بين حين و آخر؟

-         لا شيء غريب، فأنا لا أعاني من شيء.

كنت أعرف مدى محبته لأبنائنا، و قد لاحظت أن وجهه امتقع أمس حين كنا جميعا ً في السيارة وأوشك أن يتسبب بحادث، فقلت:

-         كيف تقول ذلك؟ لقد أوشكت أن تتسبب بموتنا يوم أمس؟

-         أنت تبالغين قليلا. هي لحظة سهو.

-         لست الوحيدة التي لاحظت تكرار لحظات السهو هذه لديك. في الأيام الأخيرة. فقد تكلم أولادك في ذلك كثيرا.

-         أرجوك، لا تجعلي الأولاد يتدخلون في ما نحن فيه.

-         لكنهم جزء مما نحن فيه. ثم أن والدتك قد أوصتك بنفسك و بنا قبل أن ترحل عن عالمنا. أليس كذلك؟

أردت أن أجعله يدرك حجم معاناتي و أنا أرى زوجي الذي عشت معه برضا و حب يضيع من بين يدي. لاحظ أنه لا يريد الكلام. و أنا التي اعتقدت أنني سوف أجعله يتكلم حين انفرد به بعد أن استحال عليَّ أن أجعله يتحدث في غرفة النوم. ها هو يقوم بالعبث بالمرآة و قد يشغله هذا عن الطريق. قلت:

-         لقد قمت بتعديل المرآة قبل أن تشرع السيارة بالحركة، فما الذي حصل حتى تحاول أن تعدلها مرة ثانية؟

-         يبدو أن المطبات التي مررنا بها قد حرفت وضع المرآة فلم أعد أرى الخلف على نحو صحيح.

-         حين أسوق في هذا الطريق نفسه، و أمر بالمطبات نفسها، لا تنحرف المرآة عن وضعها. و أظل أرى ما خلفي بشكل صحيح. فما الأمر؟

ترى هل قسوت عليه؟ هل جعلته يحس بأنه يكذب؟ لا أدري؟ فجأة انتبهت إلى أنه يوشك أن يدهش رجلا ً عجوزا ً فقلت بصوت مرتفع:

-         أنتبه أمامك؟!

ضغط على دواسة الوقوف فاندفعت إلى الأمام بقوة.

قلت و الهلع يكاد يجفف ريقي:

-         أوشكت أن تدهسه. عليك أنت تتنبه لما هو أمامك.

-         أنت تشوشين علي َّ بكلامك هذا فيتشتت انتباهي.

"لست أدري لم َ ينظر إلي بطرف عينه. يا لي من امرأة أدركت الفشل بعد مرحلة من النجاح! و توشك أن تفقد زوجها فينهار بيتها! ترى هل فقد فحولته التي عرفتها فيه؟" قلت بصوت حاولت أن اجعله أكثر هدوءا ً و دفئا ً:

-         أتتذكر التل الذي ارتقيناه معا ً لنراقب الشمس عند المغيب أو عند الشروق أول أيام زواجنا؟

أنه صامت كالحجر. ثم قال:

-         أظن أنني قلت أنك تشوشين علي َّ!

-         و لكنك كنت ترجوني أن أتحدث و أنت تسوق. هل تذكر؟ مرة كنت صامتة و أنت تسوق، فقلت لي " تكلمي أرجوك. فأنت حين تتكلمين أشعر كأن سمفونية جميلة تعزف ويشتد انتباهي و استمتاعي بالسياقة.

-         كان ذاك منذ أكثر من عشرين عاما ً.

-         إذن، فأنت تتذكر! حمدا ً لله.

-         والآن ماذا تريدين؟

-         أن نذهب الآن في لحظة المغيب هذه لنرتقي التل مرة أخرى لنعيش تلك اللحظات.

-          هل سمعت بالمقولة المشهورة " إنك لا تدخل النهر مرتين."

-         ماذا تقصد؟

-         لا شيء.

-         كيف لا شيء؟

-         أرجوكِ.

إنه يحاول أن يتظاهر بالبراءة. لا بد لي أن أقع على ما يدور في نفسه. لن أهدأ حتى أعرف الحقيقة، و حين تحين لحظة الحقيقة، سأفعل المستحيل من أجل أن أستعيده و أحافظ على بيتي الذي يوشك أن يتهدم. و لكن كيف و هو يتحصن بهذا الصمت و العناد و يأبى أن يطلعني على أسباب مشكلته الحقيقية؟ كيف؟ كيف؟ فجأة كان هناك صوت اصطدام. أحسست برأسي يضرب الزجاجة الأمامية بشدة. ما الذي جرى؟ لا أرى جيدا ً لا أكاد أسمع صوتا  ً. إنني أختنق............................

 

 (لحظة الرجل)

«كم هي جميلة ! بل كم هي رائعة الجمال! إنها تجعلني أذهل عما بين يدي من عمل. و أنسى ما أنا فاعل. و قد أردت مرارا ً أن أتخلص من تأثيرها الساحق على حواسي و أعصابي فلم أستطع. فحين تحضر أمامي، يرتفع نبض قلبي، و يجف فمي، و أنسى كل شيء سوى النظر إليها. و كنت أعرف أن حالي لن يكون خفيا ً على الموظفين الذين يحيطون بنا في كل مكان. و لكن ما العمل؟" انتبهت إلى المكان، كنت أسير بسرعة معتدلة في زحام السيارات. و كان هناك لغط واسع ينبعث من جانبي الشارع حيث المارة و المحلات و الباعة المتجولين. (ربما أكتب عن حالتي هذه على الورق لأنه لن يفضحني، قد أكتب قصة، أو ربما مسرحية.)

قالت زوجتي سوسن:

- ماجد، عليك أن تزور طبيبا ً.

قلت:

-         لمَ؟

-         لأنك قد تودي بنفسك.

-         لا أعاني من شيء.

-         هل تحاول أن تخدعني؟

-         ما هذا الكلام؟

-         إلا تلاحظ ما يحدث لك من أمور غريبة بين حين و آخر؟

-         لا شيء غريب، فأنا لا أعاني من شيء.

-         كيف تقول ذلك؟ لقد أوشكت أن تتسبب بموتنا يوم أمس؟

-         أنت تبالغين قليلا ً. هي لحظة سهو.

-         لست الوحيدة التي لاحظت تكرار لحظات السهو هذه لديك. في الأيام الأخيرة تكلم أولادك في ذلك كثيرا ً.

-         أرجوك، لا تجعلي الأولاد يتدخلون في ما نحن فيه.

-         لكنهم جزء مما نحن فيه. ثم أن والدتك قد أوصتك بنفسك و بنا قبل أن ترحل عن عالمنا. أليس كذلك؟

لذت بالصمت، ثم تشاغلت بمحاولة تعديل المرآة حتى أرى صورة ما في الخلف على نحو أفضل. قالت:

-         لقد قمت بتعديل المرآة قبل أن تشرع السيارة بالحركة، فما الذي حصل حتى تحاول أن تعدلها مرة ثانية؟

-         يبدو أن المطبات التي مررنا بها قد حرفت وضع المرآة فلم أعد أرى الخلف على نحو صحيح.

-         حين أسوق في هذا الطريق نفسه، وأمر بالمطبات نفسها لا تنحرف المرآة عن وضعها. و أظل أرى ما خلفي بشكل صحيح. فما الأمر؟

و فجأة، قالت بصوت أكثر حدة:

-         أنتبه أمامك؟!

ضغطت على دواسة الوقوف فاندفعنا كلينا إلى الأمام بقوة. كان هناك رجل طاعن في السن يعبر الشارع بتمهل. قالت:

- أوشكت أن تدهسه. عليك أنت تتنبه لما هو أمامك.

- أنت تشوشين علي َّ بكلامك هذا فيتشتت انتباهي.

لم ترد على كلامي، فنظرت إليها بطرف عيني اليمنى فرأيت ظل غمامة قد ران على وجهها. "كم اختلف هذا الوجه! واختلفت هذه المرأة! لقد غزته التجاعيد، ولم تعد تلك الغزالة الهيفاء. فقد ازداد وزنها حتى أوشك أن يتضاعف. و كنت أنا الشاهد على الاختلافات في وجهها لأنني أدمنت النظر إليه و في تلافيف جسدها و تضاريسه كافة لأنني كنت أبتهج بالنظر إليها عريانة. ترى هل تراني، و تفكر بي كما أراها و أفكر بها؟" قالت:

- أتتذكر التل الذي ارتقيناه معا ً لنراقب الشمس عند المغيب أو عند الشروق أول أيام زواجنا؟

لم أجبها؛ و استأنفت السياقة بحذر. قلت:

-         أظن أنني قلت أنك تشوشين علي َّ!

-         ولكنك كنت ترجوني أن أتحدث و أنت تسوق. هل تذكر؟ مرة كنت صامتة و أنت تسوق، فقلت لي " تكلمي أرجوك. فأنت حين تتكلمين أشعر كأن سمفونية جميلة تعزف ويشتد انتباهي و استمتاعي بالسياقة.

-         كان ذاك منذ أكثر من عشرين عاما ً.

-         إذن، فأنت تتذكر! حمدا ً لله.

-         و الآن ماذا تريدين؟

-         أن نذهب الآن في لحظة المغيب هذه لنرتقي التل مرة أخرى لنعيش تلك اللحظات.

-          هل سمعت بالمقولة المشهورة " إنك لا تدخل النهر مرتين."

-         ماذا تقصد؟

-         لا شيء.

-         كيف لا شيء؟

-         أرجوكِ.

كنت أفكر أنه إذا لم يكن ممكنا ً أن أدخل النهر مرتين، فمن الممكن أن أدخله و هو  نهر آخر في المرة الثانية و مع امرأة أخرى. فحتى يكون الدخول نفسه دخولا ً آخر، علي أن أبحث عما يجدد في نفسي البهجة و يحرك في داخلي الرغبة الهامدة. و هنا حضرت أمامي تلك المرأة التي أثارت في داخلي وجع الاشتهاء مرة أخرى و رأيتها تتحرك بغنج و أنوثة طاغية، تتحدث عن الطقس و عن الفصول الأربعة هي تمرر سبابتها على شفتيها المكتنزتين مثل ثمرتي توت أحمر ناضجتين، ثم تقف قرب النافذة فينعكس ضوء النهار الساطع بريقا ً مذهلا ً في عينيها (..........) فجأة رأيت التي بجانبي بعيدة عني مثل غيمة في الأفق، و هناك أصوات و لغط. وشعرت بآلام هائلة في رأسي. و كانت هناك أشباح تتحرك. و رأيت أمي تنظر نحوي بعينين دامعتين. و هناك عدد كبير من النمل يسري فوق الجزء الأسفل من جسمي. ولون أحمر ينتشر فوق زجاج السيارة الأمامي. لم أعد أقوى على........................

 

الحلة 10/10/2009