تنشر (الكلمة) هذه الدراسة/ الكتاب التي يحلل فيها الباحث المصري واحدة من علامات كتابة كتابة الحداثة المهمة في الرواية «تلك الرائحة»، من أجل قراءة المسكوت عنه في النص، والتعرف على الظلال والرؤى الثاوية وراء النص، وذلك بتحليل الصوت والبطل الإشكالي وشبكة علاقاته وطبيعة السرد واللغة والتجنيس.

النَّصُّ الظِّلِّ: وقِرَاءَةُ المَسْكُوتِ عنه

«تلك الرائحة» لـصُنْعَ الله إبراهيم نموذجًا

ممدوح فراج النابي

إهداء: إلى الدكتور حسين حمودة على يَدّيكَ عَرَفْتُ كَيْفَ يَكُونُ النَّقْدُ إبْدَاعًا.

 

تصدير

 "الآخرون هم الجَحِيمُ"

                  سارتر

"في جميع المَقَابرِ يُوْجَدُ آخرون فقط "

                            باختين

"جفَّ النَّبْعُ الذي كان يتأَلمُ للآخَرِين...."

 صنع الله إبراهيم

على سبيل التقديم

تبدو لي مسألة وضع مقدمة لكتاب عن رواية واحدة مسألة غريبة وعجيبة في آنٍ واحد، ولهذا استبدلتُ على سبيل التقديم بكلمة مقدِّمة، وإحقاقًا للحق أنا استعرتها من رواية صنع الله إبراهيم نفسه، والتي صدَّر بها نصُّه «تلك الرائحة» الذي بصدد قراءته، ولكن الذي دفعنى إلى هذا، رغم عدم حاجة الدراسة إلى مقدمة، هو توضيح بعض الحقائق للقرَّاء. فهذا الكتاب، هو في الأصل دراستان مستقلتان نُشرتا من قبل، متباعدتان زمانيًا، فالدراسة الأصل هي «النصُّ الظلِّ وقراءة المسكوت عنه» كتبْتُهَا وأنا طالبٌ في السنة التمهيدية للماجستير في كلية الآداب جامعة القاهرة، والدراسة الثانية والتي جاءت بعنوان «السِّجن في الرواية» هي جزءٌ من فصل في رسالة الدكتوراه الخاصَّة بي أخرجتها وأضفت إليها بعض الأشياء. وما أن قرأ الأصدقاء الدراستين وجدوا انسجامًا قويًا، فحثُّوني على أن أضمهما إلى بعضهما البعض، ولكني كنتُ قلقا من هذا الرأي لما بين الدراستين من فاصلٍ زمني بعيد جدًا، تفاوتتْ فيه ثقافتي وقراءتي، ومن ثمَّ ظننتُ أنَّ من سيقرأ الدراستين معًا، سيلاحظ هذا الفرق، فقمتُ على سبيل التجرُّبة بقراءتهما كأنهما عمل واحد ـــ باعتباري الناقد الأول لعملي ــــ فهالني ما رأيت واعتقدت أن ما حَدَثَ بسبب رغبتي الداخلية في وضعهما معًا، فعرضتهما على بعض الأصدقاء علَّهم يُكذِّبون ظنِّي، لكن لحُسْنِ الحظِّ، أنَّهم أكدَّوا على ملاحظتي، بل زادوا بأن الدِّرَاسَةَ مكتوبة قريبًا، ولم يشعروا بأي اختلاف بين زمن كِتابة الدِّرَاسَةِ الأولى وزمن الثَّانيَّة. ومن ثمَّ كان العَزْمُ على ضَمْهِمَا معًا، مع إحداث بعض التغيِّيرات التي تتلاءم وطبيعة النَّصِّ الواحد، وكذلك حَذْفُ عنوان الدراسة الثانية، والاكتفاء بعنوان الدِّرَاسَةِ الأُولى.

الشِّيء الذي مازلتُ أخشاه هو مدى تقبُّل القارئ لكتاب يزيد عن حجم الرواية الأصلي قَلِيلاً، لِذَا فأرجو منه بأن يتمهل قليلاً في حُكمه، حتى يفرغ من القراءة، فإذا وجد فيما قرأ جديدًا، فهذا يكْفِيه وحسب، أما إذا ما لم يجد فحسبه أن أَضاع وقتًا قصيرا في قراءته، وليغْفِرْ لي. وعذري عنده أنني وقعت أسيرَ نَصٍّ لم أتخلص من تأثيره بَعْدٍ. أخيرًا، لا أجدُ من كلمات الشُّكْرِ التي تُعبِّرُ عن عميق حُبِّي وامِتناني للصِّديق «جمال محمد عطا» فلولاه ما كان هذا الكُتَّيْب رأى النور، فلقد كان لتحمُّسه وإعجابه بهذه الدِّرَاسَةِ، دافعين قويين لأن أزيدها لتصبح بهذا الحجم، فله مني أسمى الشُّكْر والتقدير، علِّي أكون قد حققتُ ما أراده.

مدخل:

على الرغم من تعدُّد الأعمال التي أصدرها صنع الله إبراهيم، تباعًا بعد روايته الأولى (تلك الرائحة) التي صدرت عن مكتب يوليو سنة 1966، وآخرها (الجليد) التي صدرت عن دار الثقافة الجديدة 2011، تظل لــ(تلك الرائحة) تجربتها البكر في طَرْقِ موضوع القهر الجسدي والمعنوي، الذي مارسه السجن على المقموعين داخله، بالإضافة إلى ريادتها الأولى في تجريب مغامرته التوثيقية داخل النصوص، وما استكمل ذروتها في (شرف) التي ألحقها بقائمة للمصادر في نهايتها. نعود إلى تلك الرائحة، الرواية القصيرة أو القصة الطويلة حسب التوصيف الشكلي لها والسؤال: لماذا الاهتمام بنص قديم والمؤلف نشر أحدث رواياته (الجليد)؟ والأجدر بالباحث أن يتناولها بالدراسة بدلاً من نصٍّ قديمٍ تعددت حوله القراءات. المتتبعُ لسيرة الكتابة في (تلك الرائحة) يرى أن أوليات التجريب والتشكيل بدأهما فيها، وما ألمحه وما صرح به مباشرةً من القمع والقهر، ليس بأقل فجاجة وكابوسية من (شرف)، ومن ثَّم تجدر الإشارة للحديث عن أشكال التجريب التي مارسها المؤلف، وما الدافع من وراء ابتكار طرائق سرد غير مألوفة على الكتابة؟!

الحق أن رواية بمثل حجم (تلك الرائحة) الصغير، أثارت العديد من الاستفهامات حول القضايا العديدة التي طرحتها، بل وطرحتها بجرأة وحدة عنيفتين، جعلت من الرواية مانيفيستو تحريضي ضد أشكال عديدة من القمع الفكري والجسدي، الذي عانى منه إنسان هذا العصر، لذا زخمت الرواية برسائل مشفرة تحتاج إلى وسيط لحل شفراتها؛ سواء في لغتها العارية، المختزلة، المكثفة، أو سخريتها اللاذعة للأوضاع المتردية التي تفشت في منظومة القيم، التي أبدلت نسقاً بآخر، مغايرًا عنه في الشكل والمضمون الذي يحمل في مضامينه المسكوت عنه. كما أن النص بصغر حجمه، ودلالات عباراته، يحيلنا إلى النص الظل؛ ذلك النص الذي يتشكل في وعي القارئ بعد قراءته للنص المكتوب، الذي هو في الأساس نص مُتَخيَّل من إبداع/ نتاج وعي ثقافي بالمؤلف، وهذا التشكل هو وليد وعى أبستِمولوجي لدى القارئ وقد يختلف من قارئ إلى آخر. لا أستطيع أن أقول إننى بصدد عمل نصٍّ جديد هو نتاج النص الأول/ المكتوب بعد حَلِّ شفراته وربطها بأنساقها الخارجية. وإنْ كان هذا جائزًا؛ ولكن ما أقوم به هنا، هو قراءة مُتخيّلة لما كان مكتوبًا أصلاً، ثم صُودِر أولاً من ذهن الكاتب لأسبابٍ خاصَّة بالرقيب الداخلى (الضمير)، وتعارضها مع الرقيب الخارجي/ السُّلْطَة. تلك المصادرات التي جعلت النصَّ يخرج في صورته النهائية المطبوع عليها خاصة، والتي مورست على النص فلجأ للعديد من أشكال المقاومة، ليتفادى بها النص المذبوح بعد إخراج أشلائه، وفقده دلالته التي أرادها .. ومن ثمَّ عَمَدَ المؤلف إلى كتابة إشكالية لا تقلُّ مراوغةً عما فعلته السلطة معه أثناء السجن أو بعد الخروج، فكان هذا النص المكتوب الذي هو بمثابة نص ناقص، تكتمل أجزاؤه بعد ردّ الشفرات إلى سياقاتها. لكن المصادرات التي مورست على النصِّ أفرزت العديد من الحمولات التي هي أشبه بالحيل الدفاعية أو أنواع من المقاومة، ليتفادى بها النص (المذبوح) إخراج أشلائه، وبالتالي تشكيل نص موازٍ للمصادر عن طريق حلِّ شفرات النص وربط الدوال بمدلولاتها داخل مقدمة النص.

-1- إشكالية الكتابة:

 تبدو رواية تلك الرائحة، من الروايات القليلة التي يمكن أن تُصنَّف تحت مسمى "إشكالية الكتابة" فالرواية على صغر حجمها، إلا أن قراءتها لا يمكن أن تنفصل بأية حال من الأحوال عن المقدمة والتي أسماها الكاتب نفسه (على سبيل التقديم) والتي لا تعد سيرة ذاتية للمؤلف بقدر ما هي سيرة ذاتية للكتابة. كما أن الكاتب عمد إلى الوثائقية، من خلال النصوص المبثوثة في السرد، والتي لا تنفصل عنه أيضًا. إذًا نحن أمام عمل مكتوب، وإذا أردنا تحرى الصدق، فهو مكتوب عدة مرات. فالنص الذي بين أيدينا، والمعلن عنه بمؤشر خارجي (تلك الرائحة) مغاير تمامًا للنص الذي أراده الكاتب ولم يكن بفعل الرقيبِ هنا، الذي تدخَّل بالمصادرة مرة وبالحذف مرات أخرى، ثم جاء دور الناشر ليصادر هو الآخر جزءًا من النص.

مما سبق يتضح لنا أن نص (تلك الرائحة) نص مذبوح من قِبلْ كثيرين بدءًا من الرقيب وانتهاءً بالمتلقي الإيجابي/ الناقد، الذي تدخل هو الآخر وأراد برؤيته المصادرة أو على الأقل حجب المُحرَّم عن العقول. بالإضافة إلى الكاتب نفسه ورقيبه الداخلي، الذي صادر من النص أشياء – في نظره – تتعارض مع مساحة المسكوت عنه. فكلمة يحيى حقي التي ثبَّتها في الاستهلال المبدئي – وهى حيلة ذكية من الكاتب – ليظهر النص الخفي الذي أراده الكاتب، لا الذي نشره، نوع من المصادرة فيقول يحيى حقى: "مضى - الكاتب - فوصف لنا عودته لمكانه بعد يوم ورؤيته لأثر المني الملقى على الأرض. تقززت نفسى من هذا الوصف (الفيزيولوجي) تقززًا شديدًا لم يبق لي ذرة من القدرة على تذوق القصة، رغم براعته. إنني لا أهاجم أخلاقياتها بل غلظة إحساسها وفجاجة عاميتها، وهذا القبح الذي ينبغي محاشاته وتجنب القارئ تجرع قبحه"(1).

فرغم اجتياز النِّص المذبوح مسبقًا لمقصات الرقيب والناشر، يأتي الكاتب نفسه ليضع نفسه بين مقص الناقد الذي يعمد إلى مصادرة الفكرة من عقل المتلقي/ القارئ للنص المكتوب، فهو ينأى به عن تجرع القُبْحِ، هذا التحذير المشفّر يدفعه إلى التوقف عن القراءة، ما دام هناك (اشمئزاز وقبح وقيء) فالأجدر منه أن يدلف إلى رحابة نص تتنافى عنه هذه الأوصاف السابقة، فالناقد كما عُرِفَ عنه (مُغرِى بالقراءة) وليس حاجبها. بل إن رؤية المصادرة التي يحجبها يحيى حقي يؤكدها زميله يوسف إدريس بصياغة أقل حدة فيقول: "كان كاتبها صريحاً إلى درجة اشمأزت نفسى فيها من بعض تعبيراته"(2) كما أن رصده لهذا القبح بكل فجاجته جعله ينأى بنفسه، يوسف إدريس، عن الخوض في تابوهات محرمة، وإنْ كان هو نفسه يعرف غواية الكتابة، وقد أصدر من قبل (بيت من لحم، وحادثة شرف).

السؤال المطروح: ما الذي يودّه الكاتب من إعلانه مصادرة نصه بوثائق كتابية على ألسنة النقاد؟!

الناقدان جنحا بهذا النقد – المعجب به الكاتب – عن وظيفته الحقيقية التي هي أقرب إلى الإغراء بالقراءة منها إلى الإحجام عنها، وعمد السارد إلى بث هذه النقود، وملابسات النشر وإحجام أحمد حمروش عن نشر مقالته ما يؤكد إشكالية الكتابة لديه. فالمصادرات التي مر بها النص لخوضه في تابوهات المقزز والمحرمات حيث " يدخل في علاقة صراعية مع واقعٍ صُلْبٍ دال، نافيًا كل ما يعوقه عن الصدق في التعبير، وإعادة إنتاج الوعى بالعالم"(3).

 فهو بهذا التشكيل البنائى للنص يحاول أن يكشف عن نصه المصادر فعليًا/ كتابيًا، لا المنشور فالنص المعنون بـ (تلك الرائحة) هو أجزاءٌ من النصِّ المتخيَّل سابقًا والمفتت بفعل المصادرة لاحقًا، وهذا النصُّ الجديدُ (المُتَشَكِّل في وعينا) هو النص الذي يريدنا الكاتب قراءته.

-2-

 من خلال البحث عن دلالتي الجنس والوصف نحاول قراءة المسكوت عنه في النص المعلن. وليس أدل على المسكوت عنه عنوان النص ذاته (تلك الرائحة) مجهولة المصدر ليجعل المتلقي يتتبع ترددات الرائحة داخل النص، وأهمها الرائحة التي صدرت منه في صالون برجوازي، مما دفع الطفلة لأن تعلن عن رائحة (كاكا)، إلى رائحة المجاري الطافحة في وسط البلد. وإنْ كان بين الرائحتيْن، توجد رائحة أخرى زكمت الأنوف دون أن يعي الآخرون مصدرها فهي كما يشير محمود أمين العالم "تعد تعبيرًا رمزيًا عن واقع فاسد نعرفه، نشمه ونمارسه"(4). وقد كان الكاتب صريحًا على الأقل مع نفسه عندما أعلن في اعترافاته في مستهل تقديمه للرواية أنه: سيكتب كتابة مضادة للواقع فيقول: ألا يتطلب الأمر قليلاً من القبح للتعبير عن القبح ؟!(5). هذا القبح المعلن في الرواية، بدءًا من إطراد عنصري الجنس والشذوذ، وإصراره على وصف (المَنْىِّ) المقزز الذي أفرزه، والرائحة النتنة التي شمتها الفتاة واستعجبت منها، إلى بتر العلاقات الاجتماعية، وفساد المجتمع نفسه، هو صورة موازية لاحتجاج صامت من قبل السارد على معظم الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتردية. هذا الاحتجاج لا يعلنه السارد بملء فيه، خاصةً وهو خارج لتوه من عقوبة السجن ويخشى الوقوع في صدام مع السلطة، التي ما زال أحد أفرادها يطارده كل مساء، لذا يُحمّل نصه بدلالات الاحتجاج الصامت على كل ما يراه، ومع كون الاحتجاج صامتًا، إلا أن دلالته واضحة.

 فصورة العرى التي حفلت بها الرواية وانتهاك الأجساد على المستويين الذكوري والأنثوي، هي نوع من هتك الخيش المتهرئ الذي تغلَّف به الواقع تحت مظلة شعارات زائفة، إضافة إلى تعرية الذات؛ لتقفَ في مواجهة نفسها أولاً ثم في مواجهة الآخر، لتعَرَفَ مَنْ هي أولاً قبل معرفتها بالآخرين. هكذا رصدت الرواية الصغيرة الحجم ما لحق بَسْلَّم القيم والأخلاق، اللذين هما انعكاس طبيعي لسوء الأحوال السياسية والاجتماعية المتردية، أو على الأقل صدام ظل خافيًا بين السلطة والمثقف، هذا الصدام لم يعلنه الراوي (مجهول الاسم) إلا في مواقف قليلة فعلى لسان نهاد يقول: "تصوروا ماذا فعلوا بأبي، طردوه من شركته بعد أن أخذوها. وقالت: إنهم تأمروا عليه، واتهموه بأنه يتلاعب"!(6) ومع هذا الإعلان المضاد للثورة ومبادئها إلا أنه يتراجع، ويعلن عن مزايا الثورة، وما أفرزته من عدالة اجتماعية كانت مفقودة من قبل، ويلخص هذا المبدأ فيقول: "وجاءت الخادمة والطباخة والدادة وجلسن على الأرض يتفرجن"(7). هذا الصدام والتأرجح مع فكر وفلسفة الثورة كان غير مقبول إقراره في نصه، لذا لجأ إلى حيلة ذكية، ألا وهى تدعيم مقدمته بالآراء المنتقدة للرواية، وحاولت مصادرتها.

-3- دلالة الجنس

 حفلت هذه الرواية القصيرة بعدد غير قليل من العلاقات الجنسية والشذوذ، أفجعت قارئها مثلما أفجعت ناشرها من قبل. الجنس والشذوذ يطردان داخل الرواية بصورة مفزعة، حتى يكاد هذا الاطراد أن يكون إلحاحًا حادًا وعنيفًا من الكاتب، من خلال تتبعه ووصفه لهاتين العمليتين. والسؤال الذي يتبادر إلى ذهن قارئها قبل ناقدها: ما الدافع من إغراق رواية لا تتجاوز صفحاتها الخمسون – بالجنس والشذوذ – هل هو هروب واغتراب كلى للذات أم لشيء آخر؟! ربما قد أجاب الكاتب نفسه عن السؤالين في الوثيقة الاعترافية التي قدَّم بها الكاتب نصَّه فيقول: "ألا يتطلب الأمر قليلاً من القبح لتعبير عن القبح المتمثل في سلوك فيزيولوجي من قبيل ضرب شخص أعزل حتى الموت، ووضع منفاخ في شرجه، وسلك كهربي في فتحته التناسلية(8).

إجابة الكاتب نوع من الكتابة المضادة التي لا ترى في البساطة تجميلاً للواقع، وإنما العكس فالجمال عنده هو نقل الواقع بحذافيره، ففجاعة الواقع لا تقل بشاعة عن فجاعة الرواية، وليكن التقزز من كليهما دون النظر إلى مبررات الفعل. وإن كان "أحمد الزغبي" يرى أن الاطراد في إيقاع الجنس والشذوذ مثله مثل (إيقاع الموت، مثل إيقاع العبث والخواء) يقدِّمُ صورةً كئيبةً سوداوية لإنسانِ القرن العشرين المأزوم الممسوخ الذي يسعى، لا إلى تدمير نفسه ماديًا ووجوديًا فحسب، بل إلى تدمير ذاته، وهويته وقيمه روحيًا وأخلاقيًا وموقفيًا"(9). وإذا كان التدمير متحقِّقًا فِعْلاً فالسؤال: مَنْ الذي يدفعُ هذا الإنسان – ومنهم بطل الرواية – إلى تدمير ذاته؟ إنَّ فِعْلَ التدمير واقعٌ لا محالة في ظل الظروف التي وُجِدَ فيها البطل، خاصةً في حالته هو – حالة انفصال كلى عن الواقع الذي هو خارج إليه – فالراوي هنا – بإطراده لإيقاع الجنس – اختفى خلفه ليُظْهِرَ شخصيةً أخرى مغايرة تمامًا – لتلك التي دخلت السجن – خلقتها الظروف سواء في الداخل/ السجن أو في الخارج بالعلاقات المبتورة بينه وبين الآخرين سواء: الأقرباء أو الأصدقاء. إذن هي شخصية مغتربة داخليًا وخارجيًا. وبهذا الاغتراب تظهر شخصية ثانية، يمكن تسميتُها شَخْصِيَّةَ ظروف – إن جاز التعبير - هذه الظروف تدفعها لفعل ما تفعله ومن هنا نوّع الكاتب في العلاقات الجنسية، حتى تظهرَ في النهاية الشخصية (المكبوتة) التي شارك الأفراد والمؤسسات في صُنْعها، والتي تفشل في الإجابة عن سؤال الهوية/ الكينونة. عندما يسأله الضابط أثناء إجراءات الإفراج: "قال الضابط: ما هو عنوانك؟! قال: ليس لى عنوان، وتطلَّع إلى بدهشة إلى أين تذهب وتقيم؟! قلت لا أعرف ليس لي أحدٌ، كنتُ أعيش بمفردي، قال لابد أن تعرف مكانك لنذهب إليك كل ليلة"(10). هذه الشخصية تظهر فاقدة الهوية، والأدهى أنه يُقْذَفُ بها في مُجْتمَعٍ "يسير ويتحرك بشكل طبيعي دون أدنى شعور به وبأزمته "تلك الأزمة التي تتجسد مادياً أمام شقة أخيه "ذهبنا إلى بيت أخي: وقال أخي على السلَّم أنه مسافر ولابد أن يغلق الشقة، ونزلنا إلى صديقي وقال صديقي: أختي هنا ولا أستطيع أن أقابلك وعدنا إلى الشارع(11).

فهو في خروجه من السجن كان يعتقد أنه سوف يرى صورةً مناقضة عما رآه في السجن، لكن يفاجأ بأن الواقعَ ليس بأقلِّ فداحة من السَّجن في شيء. هذه الصدمة في أخلاقيات المجتمع الذي يستقبله بفتور، كما استقبله الأهل والأصدقاء ببرود، دفعته إلى هذا التحول غير السوي في العلاقات، وهذا ما نوضحه في رصدنا للعلاقات الجنسية والعلاقات بين الآخرين. أليس هذا المجتمع الذي صَدَمَ السَّاردَ وأحاله إلى مُشَوُّه/ مَسْخٍ، هو نفسه الذي دَفَعَ بسائق التاكسي إلى أن يتوقفَ في الطريق؟ "ليضع قطعة أفيون في فمه ويشرب الشاي."(12) فكلا من السارد والسائق يتشابهان في الهروب والاغتراب عن واقعٍ مؤلمٍ، لم يُفْصِح السَّائِقُ عن قُبْحِهِ، وإن كان أشار إليه من خلال شفرة (الأفيون). بل إن السارد عندما فكّر في طريقة السائق، يصل بهذا التفكير إلى حتمية المصير المجهول (المنتظر له) فيقول "وفكرت أنه محظوظ، فقد وجد طريقة يستعين بها على مواجهة الحياة" أليست الأسباب غير المعلنة التي دفعت بالسائق لهذا المصير من (دفع قطعة الأفيون في فمه) لكى يستعين بها على مواجهة رتابة الحياة، هي نفس الأسباب المعلنة من قبل السارد التي تجعله يهرب إلى داخله، إلى قهر ذاته، قبل أن يُقْهَر من الآخرين؟! وكذلك الاستنكار الذي أظهره الضابط عندما أَعْلَمَهُ السَّاردَ بعدم وجود عنوانٍ له، وتكبيله له؟! بقوله "لابد أن نعرف مكانك لنذهب إليك كل ليلة."(13) وإذا أضفنا إلى هذا جانب الجمود الذي اسْتُقبِلَ به من الآخرين: الأهل والأصدقاء والناس، وكذلك اللامبالاة التي يعيش بها هؤلاء الناس، وهي ما انعكست عليه إبان خروجه ومواجهة هذا الواقع بشخوصه - التي لم تقل بشاعة عن سطوة السجان والمسجونين - الذي ظنَّ أنه طَوْقَ النَّجَاةِ له من عتمة وقهر السجن، فإذا به يُلْقَى إلى سِجْنٍ ولكن الفارق بينه وبين السجن الذي خرج منه، أن الأول حركته محدودة والثاني رغم اتساع حركته إلا أنها هي الأخرى مُقيَّدةٌ، وإنْ بدت عكس هذا. ومن ثمَّ لا نستغرب ردَّ الفعل إزاء ما رآه من واقع، وانعكاس هذه الصورة المؤلمة التي لا يوجد فيه أىُّ شيءٍ مُبْهِجٍ، فبدء "كل الناس أراهم [كما يراهم] في الشَّارع وفي المترو متجهمين دون ابتسامة لأى شيء مفرح."(14) فالناس لا يبالون بالقهر والكبت، اللذين تمارسهما السلطة، وإنما جُلُّ ما يشغلهم هو مشاهدة التليفزيون والأفلام، وشراء المتطلبات والحاجيات من الأسواق بأقل الأسعار .. فزوج أخته "لا هَمَّ له إلا البحث عن شخص مسافر يأتي له بريكوردر" و نهاد تقول "إن مخرجًا رآها في الصباح وقال: إنها تشبه لبنى عبد العزيز"(15). بل تصل اللامبالاة للذروة عند تجاهلهم للجنود العائدين من اليمن، وهم يعلمون جيدًا ما أُصِيبَ به هؤلاء من بطشٍ وكيدٍ من رجال الإمام في اليمن، لكن تجاهل الناس يُقابلُ بردِ فعلٍ إيجابي من خلال محاولتهم إخفاء هذا الضيق عن طريق التهليل والتصفيق، لكن هذا الفعل الإيجابي ما يلبثُ أن يفترَ، فيرمى أحد الجنود بغطاء رأسه إلى الأرض.

كلُّ هذه العوامل السابقة تشتركُ في خلق شخصية محبطة، مغتربة لا عن وطنها، وإنما عن ذاتها المقهورة من كل المستويات، ومن هنا يحاول الراوى خلق شخصية المثَّقَف المُطَارَد "برائحة مريبة والعيون تراقب تحركاته، ومن ثم تحول إلى إنسان يجب أن تكون له كينونته المستقلة في وطن يكاد ينزلق به إلى الهاوية."(16) هذه الكينونة المستقلة تتحقق له عبر الجنس، حيث يفعله بإرادته دون قصد من الآخرين، وفى حالة تدخل الآخر ينفر عنه. فالكاتب يوازى بين (الجسد والكتابة) ولهذا فما يقيمه من علاقات جنسية يحقق به ما يفشل به في الكتابة، فهو عندما يُمسك بالقلم يُعْلن "لكنى لم أستطع الكتابة"(17) ومرة ثانية يقول "وجلست أحاول الكتابة، وعلى الأرض ظهرت بقع سوداء من أثر لذتي".(18) إذًا فالجسد لديه مرادف للكتابة، وما دامت الكتابة ترادف الجسد، فهو يمارس غوايته الكتابة عبر الجسد، ومع هذا يفشل في تحقيق ذاته التي يسعى إليها عبر الكتابة، عن طريق الجنس، في كثير من المرات. أما العلاقات الجنسية فتتم في الرواية عبر الأنواع التالية:

 أولاً: ممارسة بين طرفين: وتتم بين طرفين سواء باختلاف أحد الطرفين من حيث النوع ذكر/ أنثى، أو اتفاقهما على هذا النحو.

أ – ذكر مع ذكر:

 وقد ظهرت هذه العلاقة الشَّاذة في السَّجن، حيث الشخص يُقْهر فيه منذ دخوله، وهذا ما حدث مع الصبى في السجن وأحد السجناء "وأحاطه الرجل بساعده أسفل البطانية، وجعل يتحرك على جسد الصبى حتى التصق به" (ص 71)، لاحظ هنا أن السَّارد يُرَكِّزُ بؤرة السَّرْدِ على (مُبَئَّر) مقهور هو الصبى، وهو في حالة استسلام لمصيره، دون محاولة منه للرفض أو التمنُّع، وكأن هذا الشيء الذي مُورس عليه من قبل القَاهِر شيء حتمي من ملزمات المكان القمعي، الذي هو بداخله (السجن)، وفِعْلٌ من آليات السلطة، بل يتمادى السارد في إظهار صورة المُبَئَّر الصبى، في صورة مقززة منفرة بقوله "واهتزت البطانية وجذبها الشاب من فوق الصبى والتف بها كلها، ورقد الصبى عارى الفخذين."(19) هذا الَعُرِى الذي يُمَثِّل للسَّارد المحايد، انتهاكًا للكرامة الآدمية، يتخذه بعد ذلك الراوي قامعًا/ فاعلاً للآخر؛ ليَنْتّصِفَ به للصبى.

ب - أنثى مع أثنى:

 هذه الصورة للشذوذ تتناقض مع صورة الشذوذ في السجن؛ فهنا يتم الشذوذ بين طرفين يحمل كلاً منهما صفة الأنثى، بعكس السَّجن الذي يتم فيه بين (ذكر وذكر)، وهذا التناقض يظهر أيضًا في المكان، ومع هذا فجوهر التناقض يظل ثابتًا يحمل دلالة نكشف عنها بعد قليل. السارد في منزل صديقه رأى من النافذة هذه العلاقة الشاذة فيقول "رأيت فتاة في المنزل المقابل تحتضن فتاة أخرى وتقبلها في شفتيها".(20) فهنا مثلما تحيّد (سابقاً) ونقل صورة الصبى في السجن وآدميته المنتهكة، لا يتورع ويسجل لنا راصدًا بالمخيِّلَةِ صُوَرة (السجن – الذكر مع الذكر) وتتولد عبر التوازي بين الصورتين مجموعة من المفارقات الدالة.

 أولها: أن الصورة المستنكرة في هذا المكان تتوازى مع الصورة في المكان الأول/ السجن، على الرغم من اختلاف المكانين، وهو ما يشير بطرف خفي إلى أن السجن وخارجه لا يختلفان في ممارسة القهر والانتهاك للآدمية (على الأقل في الفترة السابقة). فإذا كان في السجن، يلجأ من بداخله لانتهاك كرامة من يرونهم أقل منهم وذلك لإثبات ذواتهم المنتقصة بالسجن، فإن في الخارج، يلجأ البعض لانتهاك كرامة البعض للتخلص من القيود المكبلة بها رقابهم دون أن يشعروا بخشونة (القيد الخارجي)، وهاتان الصورتان: الداخلية والخارجية، وما بهما من قبح وتقزز بغيض أدنى تعبير عن فاعلية السلطة في القهر.

 ج) ذكر مع أنثى:

 تعد هذه العلاقة أقل وطأة من سابقتيها لدى الناس، في تقبُّلها عند شرعيتها، أما إذا جاءت عبر علاقة (غير شرعية)، فيكون صداها احتجاجًا ونفورًا وإن كان أقل من سابقيتها. والملاحظة المترائية للقارئ أن الراوي يُصْرُّ على إقامة عدد من العلاقات الجنسية مع نساء غريبات، لا يرتبط بهن ارتباطًا يُعطى له حق الفعل. وبهذا يزيد من إفجاع القارئ ويحاول في النهاية أن يبرهن على فجيعته بـ(التقيؤ). التشديد الذي نحرص على إظهاره قبل الخوض في هذه العلاقات، أن العلاقات بين الراوي و(س) من النساء، تقوم على أساس العلاقة الجدلية بين الطرفين، بمعنى أنه في حالة رغبة الراوي إقامة علاقة جنسية، ترفض الأنثى والعكس صحيح. ومن هذا قوله "عرفت الألم عندما كانت أصابعي تتسلل إلى ساعديها وساقى تقترب من ساقها وترفضني، وعندما تَرَكتْ لى الفرصة .. لكنها كانت باردة."(21) هذا الجدل القائم بين الطرفين عُنْصري العلاقة، له مغزى بعيد ينخر في نفسية الراوي المضطربة، كما أن هذا الجدل سوف يكشف لنا عما طرحناه - سابقًا - من استخدام العري كأداة انتصاف لآدمية الصبى في داخل السجن، ومن هذا، في علاقته بنجوى يقول: "عندما فتحت الباب وجدت نجوى أمامي، احتضنتها، وضمتني هي بعنف، وألصقت جسمها بجسمي لكنى لم ألتصق بها، وأبعدتها عني، وجعلت أتأملها."(22) لاحظ الجدل في التناقض بين التصرفات من خلال الفعل واللافعل، وهذا ما يظهر في دلالة التضاد السلبى: ألصقت .. لم ألتصق بها. وكذلك الفعل (أبعدتها عني) لتشي بقرب (ضمني) ثم المسافة التي وضعتها بيني وبينها، ليخلق مساحة للتأمل (وجعلت أتأملها). ويأتي الجدل مرة ثانية فيقول "وجلست على السرير وأجلستها إلى جواري، ثم جذبتها وقبلتها في شفتيها، أبعدت وجهها، وقالت أحكى لي"(23).

بالمقارنة بين العلاقتين يتضح لنا:

أولاً: أن طرفي العلاقتين واحد هما: (السارد ونجوى).

ثانياً: أن العلاقة بين الطرفين تتسم بالجدل والتناقض، ففي حالة اندفاعها نحوه، كما في العلاقة الأولى يصد هو عنها، وفى حالة اندفاعه هو نحوها تصد عنه.

 ومن خلال هاتين العلاقتين الجدليتين يظهر لنا الوجه الآخر – الخفي – لهذا الجنس الفج، فهو بهذا لا يريد إقامةَ علاقة جنسية مباشرة محضة، فعلاقته بنجوى ما هي إلا انعكاس لحالة الصبى الذي قبل مهاجمتهم وافتراسهم دون اعتراض؛ لأنه مسلوب الإرادة في ظل قوى أعلى منه، سُلْطة تمارس عليه القهر، فتسيطر عليه الرؤية الكابوسية لحالة الصبى، وما صاحبها من قهر معنوي وجسدي خاصةً بعد إمعان التجريد بتركه عاري الفخذين؛ لذا يريد الانتصاف للكرامة التي جُردت عند الصبى في ظل عدم قدرته الدفاع عن نفسه، ولهذا لا يمارس الجنس ممارسة شهوانية/ بعنف، وإنما يتلذذ، ويشعرك أثناء الفعل وكأنه يبحث عن شيء مفقود والدليل ما يظهر في قوله "مررت يدى على وجهها كان ساخناً ناعماً، وأبعدت وجهها وهى تقول: تكلّم، وقل ما حدث، ووضعت يدى على فمها وجذبت رأسها إلى وقبلتها وأمسكت بشفتيها بين شفتي وعضتني."(24) فهو بهذا يحاول أن يمارس كل شيء بنفسه، لا يريدها أن تندفع نحوه، فاندفاعها نحوه، يشعره بعدم بذل الجهد في التجريد المعنوي أو الانتهاك. وما يؤكد أنه يسعى لأن يحقق ظفرًا قوله "كنت أريد بأن أحسّ بشفتيها ناعمة في فمي" ثم عقب كل مرة كنت أجعلها عارية وأتأمل ساقيها." ومرة ثالثة "كنت أطلب منها أن تعرّي ساعديها لأقبلها وأحسهما على جسدي."(25) هذا الإصرار العجيب منه بأن يجردها من كل شيء معنوي (بجعلها عارية)، حيث العرى مرتبط في ذهنه بانتهاك الكرامة، حيث هذه الصورة (صورة الصبي) تلح عليه بعنف ممزوج بانتقام، خاصةً عندما ترتسم صورته المتبقية (عاري الفخذين). حيث الأثر النفسي الذي تركه منظر الصبى العاري في السجن يكدّره، ويجعل منه رمزًا للإنسانية بأثرها وانتهاكاً لكرامتها، ومن هنا حيث هو مسموح، بفعل الكتابة أو في الخارج يريد الانتقام له، لا من أجل الصبى وحده بل من أجل الكرامة جمعاء، بنفس الطريقة التي فعلوا بها للصبى، لاحظ إصراره بجعلها (تقف عارية وتأمل ساقيها) "وطلبت منها أن تعرى ساقيها." ومثلما لم يكن للصبى رد فعل مضاد عند انتهاك كرامته، يوازى هذا اللافعل منه ويعكسه على النساء بإصراره بأنْ تتجرَّد بنفسها، استجابة لمطلبه، وبهذا تتساوى المرأة والصبى في عدم الإرادة و يصيران مسلوبيْن للإرادة. ومن العلاقات الجدلية قوله "وأظل راقدًا على ظهري وعيناي على السقف بمفردهما وأتمنى أن تستدير فجأة وتحتضنني"(26).

المشروع في إقامة علاقة صاحبها رجل، أن يبدأ هو لكن إمعانًا في إظهار حالة الاستلاب التي عكستها السلطة عليه، ظل راقدًا منصرفًا عنها، منتظرًا "أن تستدير وتحضنني"، وكأنه لا يقوى على فعل ذاتي/ إرادي. ويتكرّرُ الجدل مرة أخرى في قوله "وإني كنت متشوقًا لها دائمًا، وجذبتها ناحيتي لكنها ابتعدت." يستعيض بهذه العلاقة الجدلية المتمركزة حول (رغبة – صدود) بالتبادل بين طرفي المشاركة عن الانتهاك الحتمي الذي وجهه للصبى الذي هو صورة، من صور الإنسانية المغتصَّبة حقوقها، على الرغم من المواثيق المعلن عنها من قبل منظمات تُلزم نفسها بحماية الإنسان.

 وإذا كانت العلاقات الجنسية الجدلية القائمة بين الراوي والطرف الآخر(س) من الشخصيات مثل ما أوردنا ومثلما طَلَبَ من صديقه (امرأة)، وعندما يحضر له مُوَمسا يرفضها، وأثناء الممارسة يُمَارِسُ بدون رَغْبَةٍ، وهذا ما يُمَثِّلُ نوعًا من الحيل الدفاعية التي ينتصف بها الراوي لنفسه وللصبى من القامع/ السُّلطة، والمرأة بما توازيه من جَسَدٍ يُمَثِّلُ هو الآخر سُلْطَةً على الرجل، فإنه في ذات الوقت يعكس العلاقات الجدلية على الآخرين وعلى الأخص: زوج ابنة أخيه وزوجته، وفى إطار شرعي ممكن ومعلن بالزواج يقول "بالأمس أراد أن ينام مع زوجته، لكنها رفضتْ، لأنه قد جعلها تشترى الفاكهة من مصروفها، وعندما أعطاها جنيهين؛ فتحت له ساعديها"(27).

أراد بهذه العلاقة الغير سوية أخلاقيًا، أن يعكس لنا الابتزاز الذي تفشى بين الناس ووصل إلى أسمى العلاقات الإنسانية بين الزوج وزوجته، وكل هذا يشير إلى الانهيار في منظومة القيم الاجتماعية التي بدأت تسيطر عليها قيم السوق، أو بمعنى أدق تتحول من قيم الاستعمال (Use Values) التي تحترم الشيء لذاته إلى قيم التبادل (Exchange Values) التي لا تقدر الشيء إلا بما يساويه من مال(28). بهذه القيم التي تفرض نفسها في ظل ظروف متغيرة، تجعل من العقل مغيبًا – لحظيًا – في محاولة لطرد كل مفاهيم القيم الأصيلة حتى تتماشى مع نزواته وأهوائه. فالزوجة لا تمنح نفسها زوجها إلا بمقابل/ وسيط (مال)، وبذلك يصير المال الذي هو أحد أوجه المجتمع الرأسمالي (الوسيط) بين الإنسان والآخر في معاملاته مما يؤدى إلى الاغتراب والتشيؤ للشخصية.

- 4 - ثانيًا الجنس عن طريق طرف واحد

في النوع الأول من ممارسة الجنس الممارسة مع الآخر، يحاول الشخص المقيم للعلاقة، قَهْرَ غيره الطرف الثانى لإثبات ذاته (هو)، أما هنا فالسؤال الذي يتبادر: مَنْ المقهور؟! الواقع يقول لنا إن القَاهِرَ والمَقْهُورَ في هذه العلاقة هو شخصٌ واحدٌ، حيثُ الجنس يُمارِسُ من خلال طرف واحد، ومن ثم فالعلاقة أحادية الجانب، وما دامت أحادية الجانب فالأثر السلبى ينعكس على الشخص نفسه. نقف هنا أمام هذا المقطع ربما يتضح لنا المعنى الخفي للعلاقة:

 يقول الراوي: "وانتظرت أن تستدير (أي نجوى) فجأة وتحضنني، لكنها لم تفعل، وظللت مستيقظاً ثم شعرت بألم بين ساقى، فقمت إلى الحمام وتخلصت من رغبتي"(29). في هذه العلاقة طرفان (هو/ الراوي، وهى/ نجوى) ومع هذا فيقيم علاقة أحادية الجانب مع ذاته. الظروف الطبيعية، تقول حدوث مثل هذه العلاقة بين الطرفين، خاصةً والظروف المهيئة للفعل قائمة (هو/ هي/ السرير) أطراف العلاقة كاملة، إذن فما الذي يدفعه إلى فِعْلٍ أحادي الجانب، نستطيع أن نجيب على السؤال باطمئنان تام حيث في الحالة الأولى العلاقة بين طرفين قلنا أنه يقهر غيره ليثبت ذاته، أما في الحالة الثانية العلاقة الأحادية الجانب، فيقهر ذاته ليستغني عن الغير، بمعنى أن الطرف الثاني المفروض إقامة علاقة معه موجود (نجوى) ونائمة بجواره، وباستطاعته أن يوقظها ليشبع رغبته، إلا أن ذاته تأبى عليه أن يُحقِّرها بمجرد الإذلال لتحقيق نشوة طارئة. فيتخلص مما يدفعه إلى الإذلال. وهو نوع من المكابرة والعناد اللتين أراد بهما الراوي، أن يخلق لنفسه في مساحتها شخصيته في مقابل السلطة التي ترغم وتجعل الآخرين يرضخون لأوامرها، ومن هنا تظهر إشكالية البطل التي دعا إليها(لوسيان جولدمان).(30)

فإشكالية البطل – هنا- تتمثَّلُ في تَمَسُّكِه بالقيِّم الاستعمالية، في مواجهة مجتمع، تهيمن عليه قيِّم التَّبَادُّل. وهو هنا إشكالي لأنه يَعْرَفُ أنه لن ينتصرَ، ومع هذا فيستمر في المقاومة، فيتعامل البطل منذ لحظة خروجه من السجن، بل من قبل السؤال المقيِّد له (للدخول في سجن أكثر رحابة) أين عنوانك؟ وهو يتمرد على القيم التبادلية، محاولاً التمسك بقيم استعمالية. ومع محاولته إلا أنه يستمر في المقاومة. ومن النوع الثاني من ممارسة الجنس مع الذات ما عكسه على الفتاة التي تسكن في الشقة التي أمامه فيقول "كانت هناك نافذة معتمة أمامي، وإذا بها تضيء فجأة، ومن خلالها ظهرت فتاة خلعت ملابسها ببطء ووقفت أخيراً عارية. ثم ارتمت على سرير في ركن الغرفة ورقدت على وجهها وظهرها للضوء."(31) فإذا كان هو قد قهر ذاته من أجل تحصين إنسانيته، فالفتاة حذت حذوه، فقهرت أنوثتها، لا لمجرد القهر، وإنما للتحرر من سلطات أخرى للقهر: هي الرغبة في الامتلاك؛ لأن تحقيق رغبتها عن طريق شرعي لا يتأتى إلا أن تصير مومسًّا، وبذلك تعرض نفسها لمن يرغب ومن يرغب يدفع، وإذا دفع صارت مملوكة له/ لجسده. ومن هنا فهي فعلت ما فعلت للتحرر من ربق الامتلاك.

 ثالثًا: الممارسة عبر الخيال.

 هو نوع من الممارسة يخرج به الراوي من حالة الوعى إلى اللاوعي فمعظم التجارب السابقة تتم عن طريق الوعي، وقد تأتى صدفة أو بناءًا على ميعاد مسبق، أما في اللاوعي فهي تجارب خاصة به هو، يَخْلِقُهَا لنفسه من خلال لحظة شعورية خاصة به. ومن هذا فيقول: "وأغمضت عيني، تصورت فتاة الأمس بجسمها الأبيض أمامي على الفراش، ممتلئة وشعرها طازج، وأنا أقَبَّل كل جزء منها، وأمرُّ بجسدي على فخذها، أسنده إلى نهدها"(32). فحرص الراوي على إقامة مثل هذه العلاقة، تؤكد لنا بأنه يستطيع (من خلال إرادته) أن يقهر من يريد دون حضور فعلى له من خلال استحضار صورته. وبالطبع ليس الراوي هو الذي يفعل هذا، وإنما عكس السلطة على ذاته ليصور مدى البشاعة والفجاعة لقهر السلطة للناس. ومثل هذا يتكرر في ص 64 عندما يتخيل الفتاة التي رآها جالسة في المترو. بهذا النوع تنتهى العلاقات الجنسية التي من خلالها أراد أن يضع أمامنا القدرة على القهر والاستلاب للسلطة، في مقابل الخنوع والإذعان من جانب الشعب. وحاول أن يعلن عن تمرده على الخنوع بقهره لغيره، وقهر ذاته بتنوع الجنس واختلاف أطرافه ليحقق أدميته المُسْتَّلِبَة عن طريق الاغتراب والقهر المعنوى داخليًا. بهذا المنظور يمثل الجنس الطرف الثانى من السلطة، وهو الرغبة في التحرر من أي شيء حتى على الأقل شيئًا داخليًا بذيء مكروه، والجنس هو الخلاص من هذه القيود التي تُكَبِّلُهُ سواء في السجن أو في خارجه.

- 5- دلالة الوصف

يُعدُّ الوصف من أهم الأساليب في تجسيد المكان، بل أصبحَ تقنية ملازمة للمكان بصورة مباشرة، ويرجع هذا كما تقول الدكتورة سيزا قاسم إلى " محاولة الروائيين تجسيد العالم الحسى، الذي تعيش فيه شخصياتهم."(33) وهنا لا نقف عند وصف المكان فقط الذي كما يزعم الدكتور سمر روحى الفيصل "أن الروائى يسعى لتقريب المكان من القارئ حيث نُرَكِّزُ على وَصْفِ الشخصيات، حيث يشكل الوصف – هنا – وحدة أساسية داخل التركيب البنائي (لتلك الرائحة)، فليس مجرد تصوير فارغ المحتوى والدلالة، وإنما هو عَرْضٌ للعالم من خلال نماذج كتابية، وبالأخص عكس التصوير الذاتي للعالم من مفهوم خاص بالراوي. والراوي يَعْمَدُ في وصفه على النَّظَرِ لوجه مُحَدِّثِه أو بمن يلتقى به. بل يركز على التغييرات الطارئة في الوجه ووصف العينين. ونقسم الوصف هنا تبعًا لنظرة الراوى لمن يراهم إلى:

     التركيز في ملامح الوجه.

     وصف العينين (خاصة).

من خلال هاتين النقطتين، نصل إلى الأبعاد الخلفية لمقصد الراوى..

التركيز على ملامح الوجه:

 من ذلك قوله في وصف وجه أخيه "رأيت التجاعيد قد زحفت على وجهه وامتلأ جلده ببقع بيضاء."(34) ونفس الشيء نراه عند مجدى "وتأملت التجاعيد التي حفرت خطوطها في كل مكان بوجهه، وتقلصت عضلات وجهه." من خلال المقطعين السابقين يتضح لنا أن البؤرة التي يركز عليها الراوي هي/ الوجه، وفى وصفه يتتبع ملامح الوجه، والتغيرات التي حلَّت بالشخصية. وهذا التركيز على البؤرة الوجه) يَنُمُ عن تَرقُبٍ لشيء جديد أو العثور على شيء افتقده يريد أن يستوضحه من خلال الشخصية التي يراها ويركز على وصفها. كما أن الكل رأى أن الراوي في سرده كان لاهثًا مضطربًا، وكأنه يشعر بالمطاردة، فحاول أن يُكِّذبَ هذا عن طريق " الوقفة السردية" من خلال التدقيق في الوصف الذي يثبت اَلرَّوَى دون الجزع والهدوء دون الاضطراب. ومع هذا فكاد أن يخدعنا لولا لغته التي جاءت مضطربة، سريعة الإيقاع، مما أفقدنا شعوره بالاطمئنان.

 ومن الناحية الثانية: التدقيق في وجه محدثه عن طريق وصف العينين بقدرة هائلة.. والتفسير المقبول لدينا أنه "أي الراوي" يشعر باضطراب داخلي يلاحقه، وغربة ذاتية، فحاول التثبت بأي شيء، يُخَلِّصُه من هذا الشعور؛ فلجأ إلى التركيز إلى العين كمنقذ له، وحيث رؤية العين تشير إلى الاطمئنان والهدوء. ومن ذلك عندما يذهب إلى المجلة يقول " كانت هناك غرفة أمامى في نهاية الممر، وعندما اقتربت منها رأيت امرأة تجلس إلى مكتب وقد أسندت خدها إلى يدها، ولمحت دموعاً في عينيها."(35) فهو في وصفه يدقق على العينين، ودقة رؤيته ستتضح في السرد عندما يقول "لمحت دموعًا في عينيها"، فهذا دليل على التركيز حيث الوصف الدقيق للعينين، فرؤية الدموع داخل عينيها دليل على الاضطراب والحزن، وبهذا يحقق الاطمئنان لنفسه من خلال رؤيته الاضطراب والخوف سائدين عند الكل ولم يبق إلا الدموع للخلاص. ومن هنا تعمد قوله "دموعًا في عينيها" دون أن يقول "تتساقط"، حتى لا يُخلِّصها من القيود وإنما تركها تترقرق لاستمرار الحالة دائمًا. ومن وصفه للعيون: يقول "وهى تحمل طفلاً على ساعديها، وكانت عيناه قريبتين من بعضهما." وأيضًا "كانت الصورة لحسنية، وكانت عيناها في الصورة واسعتين رائعتين." وكذلك وصف عيني عمه وتأملت كتفيه، اللذين تضاءلا في فانلته، وعينيه الصغيرتين اللتين أوشكتا أن تختفيا خلف نظارته السميكة. ومن ذلك: وصفه لعيني ابنة عمته عندما رآها، يقول "كان شعرها منكوشًا، تتخلله خصل رمادية كثيرة وكانت عيناها منطفئتين، فيقول، وجلد وجهها بنيًا." ومرة أخرى عندما تجتر الذاكرة الذكريات يقول عنها "كانت طويلة وعيناها خضراوين." حتى وصفه للمرآة يقرنها بالعيون فيقول "مرآتان، بيضاوان كالعينيين" وفى نفس الفقرة يقول "ولم أرَ الرعب الذي كان في عينيه."

رَصَدَ لنا السَّارد من خلال وصفه للعيون الفئات المختلفة لشرائح المجتمع بدءًا من الطفل بعد الولادة، حتى لحظةِ الوفاة بتركيزٍ دقيقٍ. وهذا التركيز الدقيق يشير إلى مدلول هو حالة الترقب التي أُصِّيبَ بها السارد. فهو يبدو دائماً في حالة انتظار لشيء مجهول يترقبه ويريد أن يكشفه من خلال التدقيق في العيون ونظراتها وتلميحاتها ربما كان يريد أن يستكشف الأشياء التي لم يعاصرها في لحظة السجن حتى خروجه. ومن هنا فالعيون تتنوَّعُ، لا تستقر على وتيرة واحدة، وهو ما يعكس حالة اللاثبات التي أصابت الشخصيات، فنرى العيون التي تصيبه بالجزع والاضطراب كعيني والده، أو التي تصيبه بالهلع والخوف مثل عيون التي كانت جالسة على المكتب، أو العيون التي تعيد له الثقة وتدفعه للأمل في المستقبل مثل عيون الطفل، وحسنية، وصديقة ابنة عمته. كما يأخذُ السَّاردُ من العيون مجالاً لتوسيع رُقْعَةِ الوصف، فيشمل الوجه بأكمله ثم الجسد كله. بل يمكن القول أن في محاولته رصد التفصيلات الدقيقة، ما يؤكد الزعم السابق من محاولته للتشبث بأى شيء يصله بالخارج. ومن هذا الوصف: " وفى حجرة السيدات لمحت جانباً من وجه امرأة، كانت تطل من النافذة، وكانت ترتدى فستاناً أبيض بغير أكمام، وتبدو نظيفة جداً، ولا شك أنها استحمت قبل أن تخرج، وكان شعرها طويلاً ناعماً، ولا يمكن أن تكون قد فردته عند الحلاق، ولمحت بجوارها طفلة.. واضطرب صدري عندما تحولت بوجهها كله ناحيتي، ورأيت سمارها الخمري، وكان وجهها بلا كحل أو أصباغ، وألقيت نفسى في مواجهة عينيها، كانتا واسعتين صافيتين.. وللحظة ضعت" وفى هذا المقطع السردي الوصفي السابق، الطويل نسبيًا، يتضحُ لنا

أولاً: أن السارد قَدَّم لنا وَصْفًا دقيقًا، بل دقته تكاد أن تتطابق مع الواقع المرئي؛ فكأنّ الصورة أمامه وهو ينقل عنها ثانياً: أن الوصف الذي يقدمه السارد لا يقتصر فيه على وصف محدد، وإنما يُقدِّم صورةً بانورامية للوجه وما به من ملامح فهذا الوصف – بتفصيلاته الدقيقة – يتجاوز السارد به الوصف الكلاسيكي، المتمثل في تزيين الخطاب، إلى التصوير الواقعي، والذي يعتمد إلى حشد تفصيلات الصورة الخارجية – المتراكمة – ونقلها إلى الذهن، بما تحويه من دلالات عميقة خاصة بالسارد. فهو أراد أن يظهر فاعلية الاشتراكية الناصرية التي ألزمت الكثيرين الصمت، وحاول أن يَنطّق هذا الصمت دون النبس الناتج عن التصريح.. فاكتفى بإظهار الحيرة والقلق والاضطراب البادئ على الجميع والمنعكس على منظور الوجه. هذا القلق أفصح عن الكثير من الاضطرابات الداخلية – المكبوتة – واستطاع السارد من خلاله، أن يعكس حالة الواقع الاجتماعى بتركيزه على القلق الظاهر في العين، كما أحالنا عن طريق الوصف إلى حالته الداخلية، التي يريد أن يخفيها دائماً لكنها ظهرت عفويًا في تعمده الوصف المُلحِّ..

ومن الوصف ما يعكس دلالة خطيرة في تتبعه لثلاثة مشاهد لفتاة واحدة. في المرة الأولى يقول "ورأيت فتاة حلوة تسير بجوار قضيبا المترو – في بطء كأنما تجد صعوبة ما مع حذائها."

(ص 48). وفى المرة الثانية "وعندما نزلت من المترو شاهدت نفس الفتاة التي رأيتها من قبل تسير بجوار قضيب المترو في بطء" (ص54). وفى المرة الثالثة "ونزلت أمام البيت، ورأيت الفتاة الجميلة التي تسير بجوار قضيب المترو كل يوم، واكتشفت أنها عرجاء." ثلاثة مشاهد لفتاة واحدة، في مكان واحد، في اتجاه واحد، في حركة واحدة، بمراقبة شخص واحد (هو الراوي). هذا التوحد يدفع بنا إلى القول لوجود معادل موضوعي.

الفتاة هنا رمزٌ للشعب المقهور، وهى حسب الوصف تسير في خط واحد، بحركة "عرجاء"، وهذا ما فعلته السلطة، أولاً سلطة السجن التي حددت اتجاه حركته. من خلال إلزامه بتحديد عنوان يتمكن مبعوثها من التأكد من وجوده يوميًا فيه وثانياً: السلطة الكلية مع الشعب المقهور المتوازي (مع حركة الفتاة العرجاء) يسير مكبلاً بالعراقيل المتمثلة في القرارات والإملاءات التي تُثقل كاهل الشعب فيمشى كالمتعثر. وبهذا يكون الخط المستقيم المتوازي مع قضيب المترو، يُعادل الخط المرسوم من قبل السلطة والعرج بالنسبة للفتاة. يعادل الأحكام والعراقيل والقيود. كما أن الوصف أحالنا إلى مفارقة (Paradox) ولكنها مفارقة ذهنية لموقفين يتفقان ويختلفان. يتفقان من حيث السجن: سواء دخول السجن بناءً على أوامر خارجية، أو الدخول فيه بأوامر ذاتية: مثل موقف جاره "الذي أغلق على نفسه الباب، وبدأ يُخبِّط بعنف." فهذا الصوت الصادر من داخل شقة جاره، والذي يمثل حالة الفزع والهلع أحدث للراوي نوعًا من التداعي الحر (حسب مفهوم مدرسة تيار الوعى) بإحالتنا نحن – كقراء مشاركين – إلى لحظة السجن، وما يحدث داخله. فالجار لمَّا فتح قال له وهو يبكى "أنه نسى المفتاح عندما دخل وأنه يخبط منذ ساعة." فالجار كما وصفه وجده في حالة (بكاء) على الرغم أن الأمر بسيط للغاية فما بالنا بالسجن من خلال الجبر والإرغام من قبل السلطة وهنا يظهر السؤال من خلال عكس الفعل الموازي على الراوي: فماذا إذن لو فُعِلَ به مثلما فُعِلَ بالراوي؟!

- 6- المكان: الداخل والخارج .. السجن

 المكان عند الراوي يتعدى الحدود المسموح بها في الرواية – أي وظيفته – من تحديد بنية الحدث إلى تدخل في بنية الحدث، واعتباره محورًا رئيسًا، يرتكز عليه الراوي، في الوصف أو التعامل معه كشخصية محورية، تمثِّلُ هدفًا بعينه عند الراوي وعلى هذا الأساس. فالمكان هنا يأتى مفرّغ من المحتوى الذهني التقليدي باعتباره الأرضية (Background)؛ منحين الأبعاد المكانية(الواقعية/ الهندسية/ الاجتماعية...إلى آخرها) إلى حدث فعلى يُنمَّى. فالعنوان (تلك الرائحة) يشير إلى رائحة صادرة من مكان دون تحديد لمصدرها، ومن ثمَّ يبرز السؤال: من أيّ جهة تصدر الرائحة؟! والإجابة تتطلب مكانًا، ولهذا التحديد: نضع احتمالين: الأول: أن تكون الرائحة صادرة عن إنسان، والثاني: أن الرائحة منبعثة من مكان (ما). والاحتمالان لهما ما يدعمهما داخل النص، حيث الترددات كثيرة والاحتمالان صحيحان من وجهة نظرنا التقريبية. فالرائحة في الاحتمال الأول، منبعثة من إطار خاص محدد. وهذا الاحتمال له ما يؤكده، ويرجحه من تردد داخل النص " وكنت متعبًا وأريد أن أذهب إلى دورة المياه، وأطلقت من ظهرى رائحة شمتها الطفلة، وقالت رائحة كاكا، وتجاهلت الأمر، لكنها عادت تردد رائحة كاكا فجعلت أتشمم حولي وأقول لها أين، حتى اختفت الرائحة." (ص 47) هذا التردد يرجح الاحتمال السابق ولاحظ أن كلمة (رائحة) وردت بنصها أربع مرات. أما الرائحة في الاحتمال الثاني، منبعثة عن إطار عام – غير محدد، وهذا الاحتمال له ما يرجحه من ترددات داخل النص "وجاءت أختي وقالت: المجاري في البلد طافحة" (ص99). ومن ذلك أيضًا "ومضيت في اتجاه شارع سليمان ثم سرت فيه حتى الميدان، وكانت مياه المجاري تملأ الأرض، والمضخات منصوبة في كل مكان تحملها من داخل المحلات إلى الشارع، وكانت رائحة لا تطاق" (ص112)

 في المقتطف السردى الأول، لم ترد كلمة رائحة بنصها، وإنما جاءت بالمجاز. أما في المقتطف الثاني فجاءت بالصيغتين، اللفظ والمجاز. في المقتطف الأول جاء التعبير، بصفة العموم (فى البلد) وهذا ما يشير إلى أن الرائحة تنتشر في المكان بأكمله دون اقتصاره على مكان دون الآخر. وبذلك تشير كلمة الرائحة في الترددات السابقة إلي العفن السائد في البلد، وهذا يتنافى مع تردد الرائحة في مقطع خاص (برائحة نظافة المرأة). وبهذا تكون رمزية العنوان لا تشير للمعنى الحرفي للكلمة المجازية "المجارى طافحة"، وإنما تشير إلى معنى أعمّ أن هذه الرائحة تشملُ كافة أنواع الروائح التي تزكم الأنوف، ولا يستطيع الإنسان أن يفتح منخاريه ليتشممَ الهواء.

كما أن المكان داخل الرواية يرتبط بالحدث، فالسجن هو نقطة البداية، وشقته في مصر الجديدة التي يرصد فيها ما حدث له وما يحدث، ويُتابع من قبل السلطة. وبذلك فالعلاقة السجن/ الخارج منه، الشقة/ القادم إليها – علاقة تداخل، فالاثنان متشابهان من حيث الحركة المقيَّدة والمراقبة. فمن خلال حركته – التي بلا جدوى- يلتقي بالناس وبأصدقائه القدامى. كما أن المتتبع لحركة الراوي، يلاحظ حركتة السريعة وكأنه يهرب من الأماكن المغلقة، ويُفضِّل السير إلى جوار المترو في الشوارع والاحتكاك بالناس والذوبان فيهم، ومن هنا تتردد كلمات مثل (انغلق/ فتح/ باب/ وغيرها). وبهذا تكون الحركة دائرية. فبداية الرواية تبدأ من خارج السجن إلى مكان في شقته بمصر الجديدة. ودائمًا في المساء يكون موجودًا بداخلها ليتمِّمَ العسكري على وجوده، وفى نهاية الرواية يُسْرِعُ إلى المترو؛ لكى يصلَّ إلى غرفته حتى يلتقي بالعسكري وبذلك يصير المكان الأول/ السجن هو مرادفٌ وموازٍ للمكان الثانى/ شقة مصر الجديدة.

ومن شدِّة ما لاقاه في السِّجن، يلازم الراوي عالم السجن"35" الذي عاشه، إلى خارج السجن حتى غدا العالم الذي يخرج إليه "زنزانة كبيرة" لا تفارقه أو لا يفارقها، يبدأ الراوي بضمير المتكلم، سرده منذ لحظة الخروج من السجن، والذي عانى منه أكثر من خمس سنوات، دون أن يُقَدِّمَ لنا أسباب هذا الاعتقال، وإن كنا ندرك أنه سياسي يساري، يخرج عام 1964 إلى "الحرية" وهي اللحظة التي ينتظرها منذ زمن بعيد، وما أن تتحقق حتى يشعرَ بعدم الانتماء إلى هذا العالم "الذي يمضي الناس فيه، ولا يكترث به أحد"[ ص 3] المشهد الاستهلالي ينفتح على محاولة الضابط إيجاد عنوان للراوي يذهب إليه العسكري ليوقع في الكشف، وفشل الراوي في العثور على عنوان. يُجسّد هذا المشهد الاستهلالي الحالة التي سوف يخرج إليها، فهو سوف يلتقي بعالم لا يرتبط به، ولا يوجد به ما يؤكد انتماؤه إليه، فكأنه بدخوله السجن انفصل عن هذا العالم. فعندما يسأل الضابط عن عنوانه يقول "ليس لي عنوان" [ص 31]، وعندما يُكرّر عليه السؤال مرة ثانية "إلى أين إذن ستذهب أو أين تقيم؟" فيرد عاجزًا "لا أعرف ليس لي أحد" [ص 31] إجابة السارد تنمُ وتؤكد على إحساسه بعدم الانتماء لهذا العالم، الذي يُعْلن هو الآخر في الجانب الموازي، رفضه له، وعدم تقبله. فعندما يذهب إلى أخيه، يستقبله على السُلَّم (لاحظ على السلم)، ويخبره بأنه "مسافر ولابد أن يغلق الشقة" [ص 31] وإذا كان اللفظ حدث له مع أقرب الناس، لذا لم يكن غريبًا أن يتكرر اللفظ مرة أخرى من قبل صديقه ـ حتى وإن كان جاء باعتذار أن "أخته هنا، ولا أستطيع أن أقبلك" [ص 31]. في لحظة حاشدة ومؤثرة، يفقد الراوي الشعور بالانتماء لهذا العالم، الذي كان يتوق منذ لحظات للخروج إليه ـ بعدما لفظه أخوه، وأكدّه صديقه، فما أن ينزل إلى الشارع ـ بعد الغصة التي سببّها له الرفض المتوالي ـ راح يفتش عن ثمة شعور، فلم يعثر في داخله "عن شعور غير عادي فرح أو بهجة أو انفعال ما" [ص 31]. وبهذا ينجح السجن/ أو المعاناة التي عاناها السارد داخله، وامتداد أثره/ أثرها خارجيًا في إصابة الذات/ ذات السارد بنوع من عدم الانفعال بالعالم الذي صار هو الآخر ـ "يمضي في طريقه غير مكترث" [ص 31]. ومن ثمَّ فقد غدا زمن ما بعد السجن استمرارًا لزمن السجن نفسه، أو بتعبير الدكتور حسين حمودة "صار زمن السجن، زمن ما بعد السجن".(36)

بعد كل هذا يعود الراوي، في لحظة فارقة إلى السجن ـ مرة ثانية ـ بعدما فشل في أن يجد عنوانًا، يضمن للضابط تواجده فيه، وقد تشرذمت ذاته، وانمحت انمحاءً تامًا، ومن ثم لا يُسْتَغرب ردَّ فعل الراوي، إزاء ما يحدث داخل الحجرة التي يوضع فيها، أو بعد خروجه، وعلاقته بالآخرين حتى (في ممارساته الجنسية يمارس الجنس منفردًا رغم وجود طرف من الممكن أن يقيم العلاقة معها). فاللامبالاة والسلبية، والانكفاء على الذات، صارت سمات له. اللافت أن القهر الذي وقع داخل حجرة السجن ـ هذه المرة ـ لم يقعْ عليه، وإنما وقع على آخرين من قبل (المجنون) و(الصبي)، ومع هذا فإن آثار ما حدث تُلازم الراوي، وهو خارج السجن، وهذا ما يستشفه الباحث من الرصد التفصيلي شديد الحياد لأفعال المسجونين [راجع ص 32 / 33]. فصورة الشاب ضخم الجثة، وهو يضرب المجنون على وجهه، وتنهال ضرباته، حتى من شدتها يسمع الراوي صوت العظام "تطقطق"، إلى أن يسقط في مكانه وهو يلهث. وبالمثل، تبقى صورة اغتصاب الصبي من صاحب البطانية، ثم من جانب الشاب الضخم الجثة، ثم تركهما للصبي بعد الاغتصاب "عاري الفخذين" [ص 34]، عالقة في ذهنه لا تفارقه.

هكذا يقف الراوي أمام ما يرى ويحدث دون "انخراط عاطفي" بتعبير إبراهيم فتحي(37)، فعدم الانخراط العاطفي الذي بدا على الراوي له ما يُبرِّره، فهو قد عُومِل بنفس المعاملة منذ لحظات. فالراوي لاذ بالآخرين (أخوه/ صديقه) فقطع الآخرون أواصر ما مدّ، بحجج واهية، ومن ثم انكفأ الراوي على ذاته، دون محاولة للانخراط مع مَنْ حوله، بل يلازمه إحساس وشعور حاديْن بالاغتراب، حتى من ذاته نفسها (لاحظ أثناء ممارسته الجنس مع نجوى، يتركها، ويمارس مع ذاته [ص 45]). ويتضح هذا بصورة جلية، عندما يخرج في الصباح بعد أن ضمنته أخته، يخرج إلى هذا العالم، والذي بدأت مظاهره تتضح ـ منذ المرة الأولى ـ في عدم الاكتراث به، فقد لاحظ هذه المرة، أن "الناس تسير وتتكلم وتتحرك بشكل طبيعي كأني كنت معهم دائمًا ولم يحدث شيء" [ص 31]. وما أن يستقل الراوي بنفسه في الحجرة التي استأجرتها له أخته في مصر الجديدة يُقْدم الراوي على وصف تفصيلي لفعل عادي، وهو دخوله الحمام للاستحمام، ومراقبته لرغاوي الصابون .. فيقول: "وأخذت ملابس نظيفة ودخلت الحمام، وأغلقت الباب خلفي، وخلعت ملابسي، ووقفت عاريًا تحت الدش، ثم دعكت جسمي بالصابون، وفتحت الدش فوقي، ورفعت رأسي إلى أعلى وحدقت عيناي في عيون الدش الصغيرة، وسالت منه المياه، وأجبرتني على أن أغمض عيني. أحنيت رأسي وتابعت الصابون ودعكت جسمي بالصابون مرة ثانية، ومن جديد تابعت مياه الدش، وهي تأخذ الصابون وتجري به حتى البالوعة. وأغمضت عيني، ووقفت تحت الماء بلا حراك. ثم أغلقت الصنبور، وتناولت الفوطة وجففت بها جسمي في بطء، ثم ارتديت ملابسي، وغادرت الحمام وأشعلت سيجارة" [صص 34/ 35] هذا الفعل الذي يقوم به الراوي بآلية دون شعور ما تجاه ما يفعل، ودون دلالة أبعد من الاغتسال، بعد فترة القذارة، يُفصح كما يقول إبراهيم فتحي عن "درجة عالية من الاغتراب، اغتراب الراوي من أعماق شعوره"(38) الشيء الآخر الذي نستخرجه من حشد الراوي/ السارد لتفاصيل فعل عادي، يفعله أي إنسان، أن السارد لم يجد شيئًا [ما] يجذبه إلى هذا العالم الخارج إليه، خاصة بعدما أسفر عن وجهه القبيح، بدءًا من أنانية أخيه وصديقه اللذيْن رفضا استضافته بعد خروجه، وهو ما يشي بتمزق الروابط الإنسانية والتي يحتاجها ـ هو بعد خروجه من السجن ـ فلم يجد سوى سلبية مفرطة، لذا حاول أن ينزوى إلى ذاته/ جسده. وإزاء هذا أيضًا ينخرط السارد في ذكريات عن واقع آخر غير الذي دخل من أجله السجن، فقد تغيّر كل شيء " فقد تغيرت روح العصر، وليس صدفة أن الكلمات التي يستخدمها قد تغيّر مدلولها منذ زمن " [ ص 43 ]، ومن ثم تتدافع المونولوجات، والتي تعود إلى زمن آخر غير زمن السجن (زمن ما قبل السجن).

***

مثلما لم يشعرْ السارد بالانتماء إلى عالم السجن، فما يحدث له إثْر خروجه، يجعله يشعر بأنه لا ينتمي إلى هذا العالم، بعدما فشل في الانتماء إليه عبر طرائق اتصال متمثلة في إيجاد عُنوانٍ له، ورفض أخيه وكذلك صديقه له. الشيء الآخر الذي يجعل السارد دائم الإحساس بعدم الانتماء لهذا الواقع البغيض، ثمة شعور أن "هناك شيئًا ما ضاع وانكسر" [ص 45] يتضح بعد فترة من تنامي السرد، وتحرك السارد/ الراوي في هذا العالم الجديد (بالنسبة إليه) أن ما يشعر به السارد ليس مجرد إحساس، بل حقيقة تُجسِّد لملامح هذا العالم الجديد فالعالم لا يمل في إصابة السارد بالفجيعة من هول ما لاقاه في طريقه، فهو يقدم صورًا لا تقل بشاعة وفظاعة عن تلك الصور التي رآها في السجن، وما زالت تطارده. فصورة جثة الرجل "مُلقى على الرصيف بجوار الحائط، وقد غطته جرائد ملوثة بالدماء" [ص 35]. لا تنفصل عن صورة الصبي في السجن المنتَّهكة كرامته ثم يُلقى "عاري الفخذين" [ص 32] فكلاهما ألقاه عالمه في العراء، وصار بمثابة الشاهد، لا يُقدِّم دعمًا.

كما أن رد فعل السارد إزاء الموقفيْن، لا يكاد يختلف، فالسارد في حالة الصبي لم يزدْ دوره عن " المراقبة " دون أي انخراط عاطفي، وفي حالة الرجل الملقى بجوار الحائط، ملوَّثًا بالدماء، لا يزيد دوره ـ أيضًا ـ "عن المراقبة"، ثم مغادرة المكان بالأتوبيس. تساوي رد الفعل في الموقفيْن، يؤكد أن السجن، وما يفرزه من قهر وإذلال على الذات، والعالم الخارجي بما يحتويه من مفردات جديدة وصور رمزية لا تقل وحشية عن السجن. قد نجحا في إصابة ذات السارد بالاغتراب، وهو ما يفسر ـ لنا ـ إقدام السارد على الوصف الفزيولوجي الناتج عنه. ومن ثمّ نرى إطراد "تقنية الإسهاب في وصف الوظائف الجسمية من جنس وإفرازات منفردة، كأنها الطريق إلى التعبير عن نفسي كما أنا".(39)

لا تختلف نظرة الناس الذين تشكّلوا بمفردات الواقع، عن نظرة السارد، إزاء ما يصادفهم في المجتمع. فالناس في المترو ينظرون لهؤلاء الجنود العائدين من حرب اليمن وانفعالاتهم وصياحهم بـ "جمود ولا مبالاة" [ص 58]. الشيء الآخر الذي يتأكد للسارد من خلاله أن " هناك شيئًا ما ضاع وانكسر " الحالة التي يبدو عليها الناس في الواقع. فالحالة التي يبدو عليها السارد من وجوم وعدم ابتسام لها ما يُبرِّرها؛ أنه خارج من السجن لتوه لذا فهو نادرًا ما يبتسم أو يضحك، أما حالة الناس التي يبدون عليها – والتي يرصدها الراوي بوصفه مراقبا- فالناس تسير في "تسكع على غير هدى" [ص 46]، بل أن ملامح وجوههم متجهمة، فأوضاع البلد في سوء، فـــ"المجاري في البلد طافحة"[ص71]، أو حالة الغلاء التي تجتاح البلد لدرجة كما يقول خطيب أخت السارد "أن الحالة لا تطاق"، " فقد وقف ساعتين أمام الجمعية ليشترى اللحم"[ص 75] أو "الزحام الرهيب في المترو"[ص54]، أو"الفشل في العثور على خادمة". [ص57] ومن جرَّاء هذه الحالة المزرية، يحاول الناس أن ينسوا ما يحدث، بالإقدام على فعل يشعرهم بالغيبوبة/ الاغتراب، على نحو ما فعل سائق المترو، الذي توقف في الطريق "ليضع قطعة أفيون في فمه ويشرب الشاي" [ص 51] بل إن السارد يتعاطف معه لأنه وجد ما يستعين به على" مواجهة الحياة" [ص 5]. من الأشياء التي أدركها السارد، بعد خروجه من السجن ـ إضافة إلى ما سبق ـ أن علاقاتٍ وأشياء كلها تغيّرت، وأنه لم يعد كما كان، ولم يعد الآخرون من حوله كما كانوا، وقد تعدّ الأمر الأشخاص، أو كما يقول الدكتور حسين حمودة "لم تعد المدينة كما كانت"(16)، لقد كان الأمر ـ بكلمات صديقه المغتال - "نبلاً وأصبح الآن لعنة، وجفّ النبع الذي كان يتألم للآخرين (....) تغيرت روح العصر". [ص 57] هذا التغّير الذي شعر به السارد يدركه ـ أيضًا ـ على صديقه (مجدي) حيث "التجاعيد التي حفرت خطوطها في كل مكان بوجهه" [ص 56]. بل وصل التغير إلى أن "العمال لم يعد أحد يعرف كيف يكلمهم" [ص 55] كما قالت زوجة عادل، بل إن عادلًا نفسه يروي حكايات عن سائق خاله فهمي الذي "لا يستيقظ قبل العاشرة صباحًا، بينما يقوم فهمي بيه من النوم في الفجر" [ص 55].

- 7- حركة المكان:

وقد تبدو الحركة داخل الرواية من خلال حركة البطل و تحركاته عبر الأمكنة، التي يرتادها إما بحثا عن مكان يأوي إليه شقة أخيه، أو بحثًا عن عمل المجلة أو بحثًا عن الأمان (شقة صديقه وزوجته) تبدو حركة ارتداية. وارتداية الحركة من مكان ضيق إلي أضيق على الرغم من رحابة المكان (المنتقل إليه - خارج السجن) من منظورنا، فالسجن أو بمعنى أدق مكتب الضابط الذي ينهى فيه إجراءات الخروج هو بداية الحركة وهذا المكتب بما يمثله من صور(قهر/ قيود) ومثيلها السجن وما تفرضه مفردة السجن المكانية (الحاجز والقضبان) هو نقطة البداية، التي يخرج عنها الراوي، والممنى نفسه بأنه خارج إلى مكان أرحب / فسيح، على الأقل يتناقض في صورته وصفاته مع مكان الخروج / السجن. إلا أن المفاجأة أن المكان الثاني (مكان - الانطلاق - حسب أمنية الراوي) لا يقل بشاعةً وقيودًا عن المكان الأول / السجن. فحركته عند الخروج تبدأ وهو مُكَبَّلٌ (بوجود العسكري معه) الذي يريد أن يعرف العنوان الذي يفد فيه إليه. شقة أخيه وعلى الأخص أمام الباب على السلم. فالمساحة المكانية (ضيقة) بالنسبة لأمنيته/ خارج من السجن، والخبر الذي ألقاه عليه أخوه (لا يستطيع استضافته) يتوازى مع القيود وحواجز السجن. وبالمثل شقة أخته، أما الغرفة التي تستأجرها أخته له في (مصر الجديدة) فهي تصوير للعالم أجمع (عالمه هو)، العالم الذي ودّه وأراد التصالح معه، يتضاءل نظرًا للمتغيرات الاجتماعية التي تحكمه، وموقع السجين السياسي، وأثره على المحيطين، إلى عالم ضيق ربما يكون أضيق من عالم السجن نفسه. كما أن الارتداد يظهر مرة أخرى من نقطة أوسع (الشوارع/ بيوت الأصدقاء/ المترو) إلى نقطة أصغر/ أضيق: غرفته في مصر الجديدة عندما يسرع إليها تاركاً رحابة العالم، لينتظر توقيع العسكري في دفتره.

وهذه المقارنة وما تحمله من دلالات بين رحابة العالم (الشارع - القادم منه) إلى ضيق(حجرة - القادم إليها مرغمًا) إلى الضيق ذاته وما يحمله من معان معنوية تتمثل في جريه عندما تأَخَّر عن ميعاد العسكري فيضطر لرشوه. لكن كلمات العسكري، وتوبيخه تجعله يعود إلى صوابه ويتذكر أن عالمه ليس العالم الذي خرج من السجن آملا في احتضانه، وإنما السجن مازال مهيمنًا وملازمًا له، على الأقل في الحصار. كما أن تهمه شيوعي/ سجين سياسي التي لصقت به قبل اقتياده إلى السجن، صحبته لعنتها إلى خارج السجن، حيث تزيد من بؤرة المكان الضيق فالمجلة لا تُرحِّب به في العمل فيها، كما يرتبط وجوده فيها بحجرات مغلقة (حجرة سامى/ حجرة سرى) بل إننا نلاحظ - على الدوام - تواجد الراوي في أماكن مغلقة، وإذا انفتح على الخارج من خلال النافذة تطل عليه صورة السجن بما يوازيه (صورة الفتاتين اللتين تمارسـان الجنس) وتطابقها مع صورة (الصبي في السجن) أو صورة الفتاة العارية وما تماثله من (عرى الصبي في السجن). وهذه الأماكن المغلقة تتمثل في (حجرات/ صالون/ حجرة مكتب/ سفرة/ على السلم - الحمام/ السرير). هذه الأماكن ومفرداتها لها مدلول حسي دال على ضيق الأماكن وعلى الرغم من أن المتبادر إلى الذهن (أنها ضيقة كئيبة)، وهذه الكآبة لا تقل رائحة السجن ومن ثم نجد مرادفا لهذه في الأماكن التي يرتادها. السلم مع أخيه ــــ بتر العلاقات الاجتماعية.

     حجرة المكتب بتر لعلاقات الصداقة والعمل.

     حجرة الصالون ـــ رائحة الكاكا.

     المكان الواسع الشارع ـــ رائحة المجاري.

     شقته ـــــــ رائحة المني.

     المترو ـــــــ رائحة الأجساد المتلاصقة / العرق.

 إذن جميع الأماكن تترك صدى عليه مثل السجن، وهذا ما تؤكده ارتدادية الحركة. إلا أنه على الرغم من الدائرية إلا أن حركة الراوي سريعة مستفيضة عبر أماكن عدة.. ويظل السرير داخل غرفته هو مكان التجمع بينه وبين الآخرين خاصة (للتعرف على الجنس الثاني).

- 8- بنية السّرد:

ينتهج راوي " تلك الرائحة "، سردًا حِياديًّا، فمع سيّطرة الراوي / الأنا على السرد، وتحكمه في توجهاته، ومساراته، توازياته(40) التي يقيمها لربط الخارج ـ القادم إليه ـ بالداخل/ السجن ـ الخارج منه ـ إلا أن المتتبع لحركة السرد، يشعر أن هذا الراوي أشبه بـ "عين الكاميرا" مجرد شاهد عيان، وهي تقنية سردية متفرعة عن الرؤية الخارجية عند " جان بويون "، تسعى لرصد أفعال البطل، وعالمه، فيركز السرد على أفعاله من الخارج؛ معتمدًا على حاستي السمع والبصر، كما لو كان منتميًا إلى "السرد القصصي الموضوعي". الذي أشبه بآلة ذاتية الحركة Automation(41) وهو بهذا لا يقوم بأي استبطان داخلي، ولا يُعقِّب على أفعاله، كما لا يُعقِّب على الشخصيات الأخرى. فالسَّارد هنا بعد خروجه من السجن "الذي كان ينتظره" عندما يتلقى رفض أخيه لاستقباله، بذريعة "أنه مسافر ولابد أن يغلق الشقة" [ص 31]، لا نجد أي انفعال (ظاهر أو باطن) في رد فعله. وإنما كما يقول "ونزلنا وذهبنا إلى صديقي" [ص 31]، ويتكرر نفس الرفض من قِبَل صديقه، وكذلك يتكرر رد فعل السارد "وعدنا إلى الشارع" [ص 31]. الحيّاديّة التي يبدو عليها السرد، رغم اعتماده على راوٍ بضمير المتكلم، تؤكد أن الراوي جاء كشاهدٍ دون تدخّل. حيث السجن كانت فيه الذات، منفصلة ومعزولة عن الآخرين، فأثر هذا السجن مازال مسيّطرًا عليه بعد الخروج، حيث انفصاله عن هذا العالم الخارج إليه (والذي كان ينتظره)، يتأكد من رفض أخيه وصديقه له، لذا فالسرد يأتي مُعبِّرًا عن الحالة النفسية التي أُصيب بها السارد، من جرّاء صِدَامه المبكر مع هذا الواقع ـ الذي دخل السجن دفاعًا عنه ـ وعندما راح يفتش في داخله عن ثمة شعور "غير عادي، فرح أو بهجة، أو انفعال ما" [ص 31] لم يجد. لهذا تتكرر المواقف والأفعال التي يرصدها السارد، من الخارج، دون أدنى انفعال أو تعاطف، وكأنه يضع مسافة [ما] بينه وبين ما يسرد. وهذا ما نراه في مظاهر استسلامه لتفتيش العسكري له ـ بعد عودته إلى القسم مرة ثانية ـ وأخذ نقوده ووضعها في جيبه. [راجع ص 31]. وأيضًا رصده أثناء ركوبه للمترو، لعودة الجنود المصريين من حرب اليمن، ومظاهر فرحهم وابتهاجهم، في مقابل "جمود ولا مبالاة ركاب المترو" [ص58]. فيفتر حماس الجنود، رويدًا رويدًا، حتى أن أحد الجنود "يرمي بغطاء رأسه على الأرض" [ص 58]. حنقًا وغضبًا. فحالة اللامبالاة والجمود، كأنها حالة عامة وليست مقتصرة على السارد نفسه. وبهذا التناقض بين العالمين، تحدث المفارقة التي يهدف إليها السرد. وعندما يسير في شارع سليمان، يلاحظ أن مياه المجاري "تملأ الأرض، والمضخات منصوبة، في كل مكان تحملها من داخل الحوانيت إلى الشارع" [ص 77]، وجاء رد فعله الوحيد إزاء هذا الموقف المنفِّر، جملة تقريرية، تعكس حياديته "كانت الرائحة لا تطاق" [ص 77]

***

تقوم البنية السردية في هذا النصِّ على نوعٍ من التوازي بين السجن/ الداخل، وخارج السجن، مع اختلاف آليات القمع بين الخارج والداخل، وإنْ كانا متساوييْن في الأثر والنتيجة. فالحجرة الصغير (التي أشبه بزنزانة)، التي استأجرتها له أخته، على السطح، تتوازى في دلالتها مع السجن، فالحصار المفروض عليه، وهو في السجن، يتوازى مع الحصا ر الذي يفرضه الالتزام بالإقامة في هذه الحجرة، وانتظار موعد العسكري اليوميّ؛ ليوّقع في الدفتر. ومحدودية الحركة داخل السجن، تتوازى مع محدودية الحركة خارجه، فالسارد ينتقل عبر أماكن محددة، وحركته حركة دائرية(42)، تبدأ من الحجرة الضيقة، مرورًا بالمترو، إلى أحد الأماكن المختلفة، [شقة أخته، أو المجلة، أو شقة نهاد، أو شوارع وسط البلد]، ثم ترتد الحركة مرة أخرى عبر المترو إلى الحجرة الضيقة، مرة ثانية.

ومن ثمَّ يُمثِّل المترو "وسيلة أساسية تنظّم دورة الذهاب والإياب من الحجرة/ الزنزانة الصغيرة، إلى المدينة/ السجن الكبير، المفتوح، في حركة دائبة، لا تتوقف". كما أن الالتزام بالتواجد في موعد العسكري، يجعله يرتد من نقطة أوسع إلى الشوارع/ بيت أخته/ لقاء الأصدقاء في المقاهي، إلى نقطة أصغر "حجرة مصر الجديدة". ومن التوازي الذي يقيمه البناء السردي، بين عالم الداخل / السجن، وعالم الخارج، ثيمة انتهاك الجسد، فالصبي ـ داخل حجرة الحجز في القسم ـ اُنتهِكت كرامته ـ بفعل جنسي شاذ، من قبل الرجل ضخم الجثة، ثم تركه عاري الجسد، في دلالة واضحة للانتهاك، تتوازى مع الجثة الملطخة بالدماء بجوار الرصيف "وقد غطته جرائد ملوّثة بالدماء" [ص 35]. فترك الصبي عاريًا داخل السجن، بعد الاعتداء عليه جنسيًا، يتوازى مع انتهاك كرامة الجثة بسبب الإهمال والتهميش، فجثة الرجل لا تعني أحدًا، وكأن عالم السجن وآلياته القامعة التي انْتهكت كرامة الصبيّ، موازٍ للعالم الخارجي الذي لا تمل آلياته في قمع الضعفاء.

كما تتوازى الرائحة الكريهة، التي عبّرت أخت السارد عنها بقولها "المجاري في البلد طافحة" [ص 71] ومرة أخرى عندما يشمّها هو في قلب المدينة، أثناء سيره بشوارع عدلي وشريف وسليمان، حيث "مياه المجاري تملأ الأرض"لذا "فالرائحة لا تطاق" [ص 77]. إذْ تُصبح هذه الرائحة، التي يومئ إليها عنوان الرواية بنوع من "التبعيد" (تلك الرائحة) جدٌّ "قريبة" من قلب المدينة نفسه كأنه جردل البول في الزنزانة القديمة الصغيرة، قد انتزع لنفسه مكانًا هائلاً، بمركز المدينة كلها كما يقول "حسين حمودة". هكذا يكتسب السجن من خلال السرد وأوصافه، حضورًا رمزيًّا متعدّدَ الأبعاد، إلى جانب حضوره الواقعي، الذي يلحّ ُالسرد على إبراز تفاصيله الحسيّة، فيما يشبه الإيلام المتعمّد والسخرية المرة (راجع الانتهاكات التي تحدث داخل السجن، حيث الشاب الضخم الجثة، يضرب المجنون على وجهه، فينهال بالضربات "وسمعت صوت عظامه تطقطق "[ص 33] حتي يسقط المجنون وهو يلهث) فالسرد – هنا – رغم أنه تفصيلي، إلا أنه شديد الحياديّة، حيث الأفعال والأوصاف، تحدثان المفارقة.

****

 مادام السارد – في حياديته – أشبه بآلة ذاتية الحركة، فإن الأفعال غير المهمة مثل "احتساء الماء، وتدخين سيجارة، والذهاب إلى النوم، والاستيقاظ منه، والدخول فيه" تكتسب أهميةً مبالغًا فيها. كما أن من سمات نزع الإنسانية قَلَبَ نظام الأهمية، ووضع الأشياء ضئيلةَ الأهمية في الصدارة بعد تضخيمها. فنجد السرد ينهمك في وصف فعل عادي، وهو ما يعني بالاعتناء بسرد كل ما له علاقة بتفاصيل الحياة – يقوم به السارد مثل فعل الاستحمام، ومراقبة الماء، ورغاوي الصابون (راجع ص34). ويتكرر المشهد من خلال سرده لأفعال يومية، مثل الاستيقاظ، والفطور، وشراء الصحف، وقراءتها، ثم ارتداء الملابس. "وجاء الصباح فقمت واغتسلت، وارتديت ملابسي، وخرجت وتناولت ساندويتشًا، وابتعت صحف الصباح كلّها، ثم ركبت المترو، وراقبت أبواب العربة وهي تُغْلق."[ص 35] وقد تتكرّر مثل هذه الأفعال التقريرية، خلال اليوميات التي يُسجّلها الراوي، مع اختلاف في بعض التفاصيل، التي قد تزيد أو تقل - تبعًا للحالة المزاجية للراوي عند الاستيقاظ – مثل النزول لشراء اللبن، أو كي الملابس أو تلميع الحذاء. "وفي الصباح خرجت، واشتريت الجرنال وزجاجة لبن صغيرة، وخبزًا، وعدت فغليت اللبن، ووضعت فيه السكر، ثم غمست الخبز في اللبن، وقرأت الجرنال، ثم خرجت، وركبت المترو".[ص 56]

إلحاح السرد في الاحتفاء بمثل هذه التفاصيل الدقيقة، والتركيز عليها، ووضعها في بؤرة السرد، يأتي تجسيدًا لا إراديًا، لإرادة الفعل التي كانت مسلوبة منه، وهو في السجن، ومن ثمّ فالراوي من خلال سرده، يسعى لأن يقيم تعارضًا/ مفارقة بين ما حدث له في داخل السجن (حيث إرادته خاضعة لآليات السجن وأدوات القمع) وما يفعله بعد الخروج، خاصة أنه يكتشف أن "هناك شيئًا ما ضاع وانكسر"[ص 45] بل تعداه إلى روح العصر التي «تغيّرت»؛ فلم تعد المسلمات الاشتراكية، التي آمن بها (ودخل من أجلها السجن) كما هي، فقد اعتراها الزيف الاستهلاكي الدعائي، وأيضًا تمزَّق الروابط الإنسانية (علاقته بأخيه وصديقه)، واستشراء السلبية (لاحظ موقف الناس من الجثة الملقاة على الرصيف، وكذلك موقف الناس في المترو من انفعالات الجنود العائدين من حرب اليمن) وطفح المجاري، الذي عمّ كلَّ مكانٍ، كل هذا يدفع بالسارد لأن ينشغل بهذه الأشياء - والتي ربما هي في نظر البعض لا أهمية لها -؛ ليكتشف ذاته التي انسحقت بفعل آليات القمع والتعذيب في السجن، ويحقّق لإرادته - المسلوبة بفعل السجن - تحرّرًا في الفعل والحركة وتقرير ما يريد (لاحظ الإسهاب في سرد فعل الاستحمام، ومتابعته للماء ورغاوي الصابون).

-8- بنية اللغة:

جاءت اللغة في الرواية لغة (تقريرية) بعيدة عن الزخرف الفني والبديعي، لغة واقعية، تحمل دلالات من المباشرة والعفوية التي تحمل شفرتها ودلالاتها في آن واحد. بالإضافة إلى لغة السرد، التي هي الأخرى لغة عارية معبرة عن واقع يحشد التفاصيل ولكن بألفاظ مكثفة. ومن هذه النماذج: "وفى الصباح خرجت، واشتريت الجرنال، وزجاجة لبن صغيرة وخبزا، وعدت فغليت اللبن، ووضعت فيه السكر، ثم غمست الخبز في اللبن وقرأت الجرنال ثم خرجت وركبت المترو" (ص 97). في المقتطف السرد] السابق، لا تظهر لنا أية مفردات بلاغية، بل جميعها ألفاظ عارية، نستخدمها في لغة الحوار العادي. كما أن المشهد يقتصد في استخدام الكلمات والجمل الطويلة، فالجملة فعلية قصيرة. ويذكر تفاصيل ربما عند البعض لا أهمية لها. ومما يؤكد التقريرية: التوثيق داخل الرواية، مثل إضافة مقال لموباسان عن (رأيه في الأدب) هذه الإضافة تشير إلي أهمية التوثيق الذي يدعم به - صنع الله - لغته. وقد تعوّد عليه ـ وهو ما ظهر في الرواية الأخيرة ـ (أمريكانلي) ـ أو بالعنوان البديل (أمري كان لي) فأحال الرواية إلى سجل اجتماعي وتاريخي واقتصادي. فهو بهذا التوثيق يرفض الرمزية. ويُحمِّل اللفظ دلالته وتوجهه وواقعيته بل واقعيته المؤلمة التي تصل في أحيان إلى اعتبارها عامية. أما لغة المونولوج فهي لغة حالمة شاعرة: وجاءت مكتوبة ببنط كتابي مغاير للنص، وما عدا ذلك فهى لغة بسيطة شفرتها حلها يسير لا تحتاج إلي رمز ودلالة فهي تقريرية حيادية

كما يتخذ السرد، لغةً تقريرية، لغة عارية تُنِّحي اللغة الاستعارية التي تُضْفِي على الواقع أرديةً كاذبةً وزائفةً، وصولاً إلى الحقيقة العارية، أو يمكن أن توصف بـ" الدرجة الصفر في الكتابة " على حدِّ تعبير "رولان بارت"؛ حيث وظائف اللغة تتنّحى لتسمح بالوظيفة الإشارية، ومن ثمّ يكون الخطاب السردي، خطابًا شفافًا. وهذه اللغة ذات الوظيفة الإشارية، التي يتكئ عليها فعل السرد، وتعرض الأشياء والأفعال كما تدركها الحواس (لاحظ إطراد أفعال الحواس مثل "رأيت، أنظر، أتأمل، تطلعت، أطلّ") لها وظيفة أيديولوجية، كما يقول إبراهيم فتحي، حيث تعمد "إلى تقديم العالم كما هو، بعد نزع الأردية الاستعارية، والرمزية المفروضة عليه، ولا تجذب اللغة البسيطة الشفافة النظر إليها، بل تحوّله إلى الأشياء والأفعال".(43) فالسرد عندما يقدم لنا حادث اغتصاب الصبي من قبل الرجل ضخم الجثة، لا نجد استخدام مفردات جنسية، أو حتى ذكر لكلمة اغتصاب، وإنما أفعال تشي بالفعل نفسه، مثل حركة السيقان، وحركة الأذرع في الهواء .. فيقول السارد "وجذب صاحب البطانية فوقه، وبسطها بيده على صبي ممتلئ ينام إلى جواره [....] وكان غارقًا في النوم، وقد ثنى ركبتيه. وأحاط الرجل بساعده أسفل البطانية، وجعل يتحرك حتى التصق به، وراقبت ذراعه تحت البطانية وهى تتحرك على جسد الصبي تنزع بنطلونه والتصق ساقا الرجل بظهر الصبي [...] وهدأت الحركة أسفل البطانية بعد قليل، واهتز الغطاء، وقام الصبي جالسًا وهو يمسح عينيه ليفيق من النوم، وجعل يتطلع بين ساقيه".[ص 33]

هكذا يكتسب السجن من خلال السرد وأوصافه، حضورًا رمزيًا متعدّدَ الأبعاد، إلى جانب حضوره الواقعي، الذي يلحُّ السرد على إبراز تفاصيله الحسيّة، فيما يشبه الإيلام المتعَّمد والسخرية المرة (راجع الانتهاكات التي تحدث داخل السجن، حيث الشاب الضخم الجثة، يضرب المجنون على وجهه، فينهال بالضربات "وسمعت صوت عظامه تطقطق" [ص 33] حتى يسقط المجنون وهو يلهث) فالسرد هنا، رغم أنه تفصيلي، إلا أنه شديد الحيادية، حيث الأفعال و الأوصاف يحدثان المفارقة. وفي نص (تلك الرائحة) يلجأ السارد الأنا إلى الحلم المباشر المسرود بكل تفاصيله الدقيقة. فبينما السارد يجلس مع أخته وابنة عمه، وقد دار الحديث عن بعض أفراد العائلة المرضى. حيث قالت أخته إن "جدة نهاد مريضة، وأنهم لا يطيقونها"[ص72]. وقالت ابنة عمتي قبل "أن تموت أمي ظلت شهورًا في الفراش لا تغادره وكانت تبول فيه" [ص72]. وقالت أختي "إن زوجة ابن عمي سقّطت في شهرها السادس" [ص72] وبعد هذا الحديث ينصرف الراوي إلى حجرة ويقول: "ولابد من أني غفوت، فقد رأيت أني التقيت بأبي، وكان يبدو متعبًا. وجلس متربعًا على سريره. متجهمًا، ولم أعرف ماذا أقول له وأنا لي مدة لم أحاول أن أراه، كان موجودًا طول الوقت، ولم أفكر في الذهاب إليه، واستيقظت فجأة على صوت جرس الباب." [ص 73].

- 9- تصوير العالم .. بألوان من العلاقات:

تتسم الرواية بتجسيدها لعدد من العلاقات، ما بين علاقات قوية، وأخرى مهمّشة/ ضعيفة، تتميز بالفتور والجمود من قبل الطرف الثاني، وهاتان العلاقتان أفرزتهما السلطة بنوعيها. ومجمل هذه العلاقات تقوم بين ثابت الراوي، ومتغير الأشخاص، بحسب حجم الصلة ونوعها، كما أن موقف الراوى من هذه العلاقات، يتحدد باختلاف الشخص والموقف وكلاهما: الشخص والموقف/ الحدث في تَغْيَّر وتَبَدَّل مستمرين، على أثره تتغير نفسية الراوى، ومن ثمَّ فحجم العلاقة يتوقف على هذا التغيير. ومن هذه العلاقات:

أولاً: علاقات غير مباشرة:

ونقصد بها تلك التي تحدث بين الراوي و بين طرف الآخر من خلال وسيط، حيث لا يستطيع الراوي إقامة مثل هذا النوع – مباشرة – وجهًا لوجه. والوجه الممثِّل لهذه العلاقة يتحقق بين الراوي والسُّلطة. من أشدِّ العلاقات حساسية وتأزمًا في نفس الوقت. حيث يسود العلاقة توترًا وحذرًا. هذا التشكيل لنوع العلاقة يجعل العلاقة (ضدية) برغم حرص الراوي على ألا تظهرَ سمات الضدية عليها. وأقربُ توصيفٍ لهذه العلاقة أنها صدامية أو تحدٍّ من نَوْعٍ ما لطرفٍ واحدٍ هو الراوي (ذاته) وأدلُّ على هذا التوصيف، موقف العسكري منه عندما تأخر عنه، يقول الراوي: "وتركتهم، وأسرعت إلى المنزل، وقابلت العسكري على السلم، وقال: تأخرت وأخرجت علبة السجائر، لكنه هز رأسه وقال من الممكن أن تقضى هذه الليلة في الحبس، وأخرجت عشرة قروش، وصحبني إلى الشقة فدخلت وأحضرت الدفتر، ووقع فيه وأنصرف".(44)

العسكري هنا هو أحد أوجه السُّلطة، وتعامله مع الراوي يُمثِّل التعامل الحتمي في مثل هذه العلاقة، فرد فعل العسكري تجاهه يوضح الخطأ الذي كان منتظرًا وقوعه فيه وهو التغيب؛ حتى يعاقبه حسب الأوامر المنوط بتنفيذها من قبل السلطة. وإذا كانت علاقة الراوي بالسلطة، علاقة صدامية، فهذا التصادم أراد الراوي تلاشيه من خلال خَطْبِ ودِّ السلطة، وهو ما تمثَّل في سعيه إلى المجلة وهى أحد أوجه السُّلْطَة غير المباشرة. أراد الراوي أن يُقِيمَ عَلاقةَ ودٍّ وتَصَالُحٍ من جانبه، إلا أن محاولته تُقَّابل بالرفض. وهو ما تَجَلَّى في العبوس البادئ على وجه زملائه في العمل عندما زارهم في المجلة، ثم يتحولُ العبوس إلى ردِّ فِعْلٍ مُبَاشِرٍ وهو الرفضُ دون إبداءِ الأسبابِ. ومن هذا "وتركته – أى سري – وذهبت – الراوي – إلى حُجْرَةِ سامي في آخر الممر وفى هذه المرة وجدته، وقال لي: ليس عندي أي فكرة عما كتبته، ووقفت بجوار مكتبه وهو يكتب، ورفع رأسه إلىِّ فجأة وقال: ما نعطلكش، مُر على بعد يومين".(45) هذا الرَّد الحاسم لا يحتاج إلى تبرير.

لماذا فعل هذا؟! فالسؤال غير مُبَرَّر أساسًا، لسببين الأول أن الراوي خارج لتوه من السجن، والثاني أن المجلة هي أحد أوجه السلطة، ومن هنا فاستقبال الراوي للفعل يأتي وكأنه ينتظر هذا الرد.. فيقابله بفتور فيقول: "وخرجت إلى الشارع، ومشيت إلى المترو، ورأيت فتاة رائعة الجمال من زجاج شركة الطيران." من خلال علاقة الراوي بالسلطة المباشرة والغير مباشرة، يتحدد نوع العلاقة، وهى علاقة صدامية كما سبق أن ذكرنا، على الرغم من رغبته في إقامة ودٍّ إلا أنهم يرفضون ويقطعون حِبَال هذا الودِّ الغير مسموح به من جانبها، فدائمًا تضعه السلطة في موقف الأضعف، وضعفه هذا يؤكد الاستسلام والخنوع الملازمين له دائمًا كلما تقابل مع السلطة أو أحد أوجها المعبِّرة عنها (لاحظ موقفه مع العسكري، وموقفه في المجلة).

ثانيًا: علاقة الراوي ... بالعالم الخارجي:

هذه العلاقة متنوعة الأطراف تنحدر حسب الانتساب إليهم من جهة القربى، أو حسب ارتباطه بهم في العمل – سابقًا – وبرغم تنوع الأطراف التي يقيم أو يتشابك بعلاقات معها، إلا أنها تكاد تكون محسوبة من جانب واحد هو جانب الراوى.

1- علاقته بأسرته:

أبرز أفراد الأسرة هو «أخوه» الذي يتجهمه عندما يراه مع العسكري، ويرفض إقامته معه معتذراً بأنه مسافر وسوف يغلق شقته ثم يطوِّر هذ العلاقة بعدم استضافته في شقته وإنما يقابله على السلم. هذا التصرف الغير طبيعي، والمشين في ذات الوقت، الذي فعله أخوه، أبرز نوع العلاقة وحدَّد إطارها بأنها علاقة (مهمشة/ فاترة)، ولا ترقى لمستوى العلاقة بين الأخوين، خاصةً أن الراوي لم يصرح بوجود خلاف بينهما تفاقم إلى هذه النهاية الدرامية. وربما التبرير الوحيد وهو غير مقبول بالنسبة لنا؛ أنه خارج لتوه من السجن خاصةً، والقضية سياسية ولا يريد أن يزج بنفسه في علاقة مع السلطة. أما عن موقف البطل إزاء هذه العلاقة، فيستسلم ولا يحاول إقامة صدام. كما أن هذه العلاقة البشعة – في تصوري – عكست واقعًا مريرًا من جرّاء القوة المهيمنة للسلطة، التي أدت سطوتها إلى تبدد وتفسخ العلاقات الحميمة المتجذرة بروابط أسرية وذوبانها في مغبة الخوف والحذر. فتحولت بهذا إلى علاقة اسمية (منتسبة إليه بالأخوة) فقط. دون أن تطمح لأن تَصْعَدَ إلى تحقيق فعل واجب الأخوة.

2- علاقته بأخته:

تأتى هذه العلاقة أقل وطأة من سابقتها، بل ربما تُبدد ملامح العلاقة السابقة – نوعًا ما – فهى أبسط توصيف لها بأنها علاقة ناضجة بين «أخ وأخ » فهي تتردد عليه بين الفينة والأخرى. إلا أن الأوضاع الاجتماعية تشوبها أيضًا وتفسد من حميميتها فهي – أي العلاقة – وإن كانت قائمةً على أسس واضحة من التآلف القوى بينهما، إلا أن الأخت تحاول أن تستغلها – لمصلحتها – من حيث الحديث عن خطيبها وتأسيس منزل الزوجية. وبذلك تخرج من العلاقة الأخوية الخالصة، إلى أخرى قائمة على المصلحة والاستفادة من الطرف الثاني. أما التبرير الوحيد لمحافظته على خصوصية العلاقة، فراجع لأنها غير متزوجة، وتحتاج إلى من يرعاها ويتكفل بزواجها وإن كان هو فقير إلا إن وجوده يعطيها الحماية.

3- علاقة الراوي بالأب:

تبدو العلاقة غير واضحة بعض الشيء، فأبوه مات دون أن يسأل عنه لكن هناك جانبًا قويا يبرزه الراوي من خلال فنية الاسترجاع (Flashback)؛ ليوضح لنا أنها علاقة تأتى كنوع من التسرية والتعزية لنفسه عن علاقته بأخيه وأخته. فهى عكس سابقتيها: قوية، صلبة جمعت بين الأبوة والأخوة، علاقة بها من الشفافية الكثير، فكلما ثقلت عليه الأعباء يتذكره، يخرج بنفسه من الأزمات إلى واقع عايشه منذ زمن، لكن خلال التنقلات عبر الزمن: الحاضر، ثم العودة إلى الماضي، يبرز العلاقات القديمة بوالده، والحاضر بأخويه والمجتمع يبرز تلك الهوة بين زمنين مختلفين في كل شيء زمن مضى يسترجعه الراوي، وزمن حاضر، وآخر آتى يهرب منه لرؤياه المفجعة وواقعه البغيض. وصورة والده هي أحد أوجه هروبه من هذا المجتمع إلى آخر عايشه بوجدانه، والاسترجاع يمثل عنده حلقة الوصل بين زمانين، ويتشبث بها الراوي، فيتزحزح من خلالها من حاضر مادى إلى زمن فائت – مثمرة علاقاته – له مباهجه مما يجعل الراوي يسير في حذى بين الاستباق لسرد تفاصيل يومياته – ليعكس حاضره – المفجع – والاسترجاع للإشادة بمباهج عصر انقضى لكن يعايشه بخياله ويتمنى عودته الملاحظة المترائية خلال هذه العلاقات أن أفراد أسرته: الأب، الأم، الأخ، الأخت ذكروا بدون أسماء ودون تحديد ملامحهم. فتصير وكأنها علاقات مسطحة خارجية بلا أعماق وبلا ملامح وبلا مودة، ولا تفاهم بينهما وبين الأنا الساردة. وهذا يشير إلى حالة الاغتراب التي يدفع إليها الراوى "فيصير مغتربًا داخل نفسه محاصرًا نفسه من السلطة باحثًا بغير جدوى عن حب، عن علاقة إنسانية .. وفى طرف آخر يقف المجتمع غارقاً في ملاذه وتطلعاته الاستهلاكية(46).

هذه العلاقات الملتبسة، حسمها الراوي منذ البداية عندما أعلن للضابط «ليس لي أحد» وهذا يشير إلى وجود مسافة تفصله عمن حوله وتجعله في غربة عنهم. حتى علاقات الصداقة والعمل تأتى على نفس المستوى من السطحية والهشاشة، وبهذا تكون علاقة الراوي بالعالم أشبه بطرفين لا يلتقيان مطلقًا. حتى الناس في الشارع يرتبط بهم بعلاقة غامضة " كل الناس أراهم في الشارع وفى المترو متجهمين دون ابتسام لأى شيء تفرح."(47) إذًا هي علاقات سطحية تتلاءم مع العجز والفشل اللذين أصاباه في الممارسة الجنسية بأنواعها المختلفة. فرصده لهذه العلاقات غير المكتلمة بصورة طبيعية تعكس حالته الدائمة التي تنم عن تَرَقُّبٍ وتذكر. والتي تأتى كشكل من أشكال التحقق الذاتي والخلاص الذي لم يتحقق له حتى عَبْرَ الكتابة.

- 10- تلك الرائحة … والتجنيس الأدبى:

النوع الأدبي بصفة عامة مرن ومتطور، يتطور من عصر إلى عصر، ومن مؤلف إلي مؤلف إلى أخر. واكتساب النوع هذه الصفة، أغرت الكتاب إلى الولع بالتجريب في التشكيل، وعدم الاستقرار علي نوع محدد، وإنما تداخلت الأنواع الأدبية عند كثير منهم , وذابت الفوارق الشكلية في كتاباتهم. ولا نغالي إذا قلنا أن كثيرًا منهم نجح في طرق وتشكيل أنواع صارت مميزة لهم .. أمثال جمال الغيطاني في «الزيني بركات» ومحمد مستجاب «في مستجابياته»، وإدوار الخراط الذي وَسَمَ هذه التجارب المختلفة بأنها نوع من الحساسية الجديدة، أو الكتابة عبر النوعية ومازال بعضهم يطرق أشكالا جديدة، ويُجَرِّبُ وينوِّعُ، دون استقرارٍ على نَوْعٍ بعينه في كتاباته. وصنع الله إبراهيم واحدٌ من هؤلاء الذين ينتمون إلي فئة المراوغة في الكتابة، فنصوصه جميعها تتميز بإشكالية المراوغة والتجريب عبر أنواع مختلفة من الكتابة. وقد مارس هذه الغواية منذ نصه الأول الإشكالي «تلك الرائحة» الذي يتسم بأوليات التجريب والتشكيل فهذا النـص يتمـيز بإشكالية (التجنيس) مثلما تميز (بإشكالية الكتابة).

فالنص يدعونا إلى التساؤل إلى أي نوع ينتمي؟ هل إلى جنس الرواية؟ كما يشير المؤشر الخارجي على الغلاف: "تلك الرائحة وقصص أخري"؟ أم أنَّ النص ينتمي إلي جنس: "السيرة الذاتية"؟ مثلما أشار المؤلف عفويًا في الاستهلال المبدئي الذي صدر به الرواية تحت مسمى "على سبيل التقديم" والتي أسميتها من قبل "سيرة ذاتية للكتابة"؟ خاصة واعتماد المؤلف علي ضمير المتكلم/ الأنا بصيغة المفرد، الذي عدَّه كثير من النقاد مرادفًا للسيرة الذاتية، وقرينا للنفس البشرية وأغوارها، باستثناء (بعض الأعمال مثل: «الأيام» لطه حسين) التي اعتمد فيها علي ضمير الغائب، ليخلق لنفسه ـ من خلاله ـ مساحة سردية تسمح له بالتجول في محيطها، ويكون في مقدوره محاكمة الفتى الذي هو مرادفُ لذاته. يشير «صنع الله إبراهيم» في شهادته في مجلة فصول عدد الحرية والأدب، إلي كيفية تشكل العمل لديه خاصة هذا النص «تلك الرائحة» بأنه جاء عفويًا وفارضًا نفسه عليه، دون إرادة منه لكتابته. فهو لم يخطط لكتابه هذا النص، حيث كان يسجل يومياته بعد خروجه من السجن، وإذا بهذه اليوميات تتجمع وتطارده فينظر فيها، ويتخلق النص.

بذلك نكون أمام نص يحمل حسب حدود النوع الأدبى أصنافًا ثلاثة هي:

أولا: نوع الرواية: كما يشير التذييل أسفل العنوان على الغلاف الخارجي "تلك الرائحة وقصص أخرى" فعطف القصص الأخرى على (تلك الرائحة) يشير ضمنيا إلى أن (تلك الرائحة) تنتمي إلي (القصص)، وتحمل نفس صفاته، لذا عطف (بالواو) التي تفيد الملازمة والمشاركة في التصنيف.

ثانيا: نوع السيرة الذاتية: أي أنها سيرة ذاتية للمؤلف، وما يؤكد هذا التوصيف، التردد الذي ألمح به المؤلف في الاستهلال المسمى «على سبيل التقديم» حيث اعتراف المؤلف نفسه بأن هذا النص كتبه من مجموع «اليوميات» التي سجلّها عقب خروجه من السجن وهي تفاصيل عن حياته في السجن وبعده. بالإضافة إلي (احتواء النص) على معلومات تتطابق مع حياة المؤلف ذاته، مثل أنه كاتب وتجربة السجن، ومقالة موبسان عن الأدب.

ثالثا: نوع اليوميات: وقد أقر المؤلف بهذا في بدء الرواية أنه كان يسجل يومياته عقب انصراف العسكري الذي يتمم عليه كل مساء، وعندما تراكم لديه عدد غير قليل من هذه اليوميات انزعج، فأعاد صياغتها دون أية إضافة، فتشكل هذا النص بهذا المزج بين الأنواع الأدبية أو بالأدق تداخلها: الرواية/ السيرة الذاتية/ اليوميات.

يؤكد مرونة النوع في تقبله هذه الأجناس المختلفة إضافة إلي تأكيده قدرة المؤلف علي المراوغة والتجريب. وهذا التداخل بين الأنواع المختلفة يشير من زاوية أخري إلي تأكيد مقولة النقاد بأن الرواية "تتضمن بالضرورة عنصرا من سيرة مؤلفها، وما خاضه من تجارب". وهذا التأكيد نلمحه في إبداعات جيل الستينات مثل الغيطانى في «التجليات، ووقائع حارة الزعفران» وبهاء طاهر في معظم أعماله وخاصة «الحب في المنفى» وعبد الحكيم قاسم في «أيام الإنسان الَّسْبَعة و قَدَرُ الغُرَفِ المُقْبِضَةِ»، وإبراهيم أصلان في «مالك الحزين، و وردية ليل، وعصافير النيل» وبالمثل إدوار الخراط في «ثلاثية رامة والتنين وترابها زعفران، وبنات إسكندرية وغيرها». بل يمتد إلي الأجيال الحالية. من الكتاب الشبان مثل منتصر القفاش في «تصريح بالغياب»، وكتابات النساء أو كما أسماهم صبري حافظ الجناح النسائى في الإبداع، مثل مي التلمساني في «دنيا زاد»، وميرال الطحاوى في«الخباء، ونقرات الظباء»، وعفاف السيد في «السيقان الرفيعة للكذب» ونورا أمين في «قميص وردي فارغ. وحالات التعاط.. والوفاة الثانية لرجل الساعات» بل وصل الأمر بهنَّ أن تورد «نورا أمين» اسمها كاملا في النص بـ«نورا أمين عبد المتعال» و« مى التلمساني» تشير إلى إحدى قصصها «استقالة» وغيرها من الكتابات التي تحمل الكثير من صفات مؤلفها.

وبهذا تكون مسالة التداخل بين عالم التخيّل وعالم الواقع ليست جديدة على الأدب بل هي آخذه في التطور وساعية إلي (التحديد النوعي). وكان لهذا الخلط أن الكثيرين قد ربطوا بين الحياة الشخصية لإدوارد الخراط وشخصية ميخائيل فشخصية ميخائيل متطابقة كلية مع شخصية إدوار ومع هذا لا يمكن تصنيفها بمسمى «السِّيرة الذاتية»؛ وذلك لمخالفتها الميثاق السير ذاتي.

****

نَقِفُ عند حدود النوع أو التجنيس الأدبي في تلك الرائحة. والتي سبق أن طرحناه منتهين إلي تحديد نوع تلك الرائحة. وقبل هذا نعرض لمفهوم السيرة الذاتية باعتبار أن الراوية يمكن أن توضع تحت هذا النوع. فالسيرة الذاتية في أبسط تعريفاتها "قصة حياة المرء التي يتذكرها ويكتبها بنفسه".(48) مثل (واحات العمر، لمحمد عناني، والعيش على الحافة، لشكري عياد، وحياتى لأحمد أمين أو رحلة العمر لرشدي سعيد). أو على لسان غيره وتسمى (سيرة موضوعية) مثل نجيب محفوظ. وبهذا تكون السيرة لا تقتصر علي الأديب فقط فمن الجائز أن يكتب السياسي سيرته الذاتية مثلما فعل معظم الضباط الأحرار وجاءت تحت مسمى شهادات. والحكم الأول علي أن هذا العمل يدخل في إطار النوع (السير ذاتي) العنوان أو إشارة المؤلف أن متنه هو سيرة حياة، فنجيب محفوظ مثلا. جاءت سيرته الذاتية تحت مسميات (نجيب محفوظ يتذكر، أو نجيب محفوظ يقول، أو أصداء السيرة الذاتية، أو الحوارات التي حاوره فيها رجاء النقاش وغيره من الكتاب. إذن هناك وسيط بين النص والقارىء ولهذا السبب فرق النقاد بين مصطلحي:

     الِّسيرة الذاتية (Autobiography )

     والعنصر السِّير ذاتي(Autobiographical)

المصطلح الأول: السِّيرة الذاتية (Autobiography) هو نوع أدبي محدد له حدوده الواضحة وشروطه الصريحة التي يمكن من خلالها إلصاق نوع به، وأهمها العقد السير ذاتي كما يسميه «فيليب لو جون»، وهذا العقد الموثق بين المؤلف والقارىء هو الشرط الوحيد والجوهري كما يقول جابر عصفور في «زمن الرواية» الذي يخرج النص من الرواية ويلحقه بالسيرة الذاتية. وهذا الشرط (العقد السير ذاتى) يتمثُّل في إشراك القارىء وإخباره بماهية النص (الذي يدخل عتبته)، وهو تعاقد ضمني بين الكاتب والقارىء مؤدَّاه بأنَّ (ما سيقرؤه الآن سيرة ذاتية) للمؤلف المكتوب اسمه أسفل النص. وهذا العقد يأتي بتصريح مباشر تحت مسميات (سيرة/ قصة حياة/ أيامي .. وغيرها).

أما العنصر السير ذاتي (Autobiographical)، فهو عبارة عن إشارات صريحة ومعتمدة من الكتاب عن نفسه داخل النص، وهذه العناصر لا تتوفر بالضرورة إلا من خلال المؤلف ذاته، وبذلك لا يستطيع الناقد إدعاء علمه بها إلا إذا كان قريبا وملازما للمؤلف أو من خلال تصريح المؤلف نفسه عنها من خلال حواراته وشهاداته، وبذلك تتطابق المعلومات مع العناصر المعلنة في النص. وقد ربط كثير من النقاد بين ضمير السارد الأول/ الأنا والسيرة الذاتية فاعتبروا أن استخدام الضمير(الأنا) في السرد. يجعل الراوي/ الأنا والمؤلف الحقيقي يتطابقان. ومع هذا التطابق إلا أننا إذا طبقنا (العقد السير ذاتي) نخرجها من السيرة الذاتية ونلحقها(بالرواية) حتى لو اعتبروا أن الضمير الأنا قناع مخفي، ولو وجد تطابقًا تامًا بين الأنا الساردة والمؤلف مثلما ما حدث مع صنع الله إبراهيم في (تلك الرائحة)، والمقدَّم لها بلسان المؤلف ذاته في (سبيل التقديم) وما ورد في (شهاداته) وحواراته إلا أن هذا ليس معناه تطابق الوجه/ المؤلف، والقناع الراوي (الأنا). فهنا الضمير الذي استخدمه صنع الله (الأنا) هو لعبة لغوية تستخدم في ممارسة الكتابة يسمح للمؤلف من خلاله بالمناورة وتغيير مواقفة ومسافاته بإزاء آراء ذاتية ومعنية وتنويع طرائق التجربة، والتواصليه تبعا لإمكانات السنن الأدبية والجمالية وتبعا لضغوط الواقع الاجتماعي والسياسي. وبذلك يكون المبدأ الكتابى لا التخيلي هو المحك الأساس والفاصل النهائى لحدود التجنيس.

فالأنا كمـا يقول «صنع الله إبراهيم» في حواره في أخبار الأدب 19/10/2003 م بعد صدور روايته «أمريكانلى» هو الأقرب لذاته الذي من خلاله يستطيع التجول والتعبير عن خوالجه بحرية وليس بالضرورة ما ورد من أفعال على لسان/ الراوي. الأنا هو مطابق فعليا لواقعة الشخصي فالتجربة الجنسية ليست حقيقية هي من المخلية الإبداعية. وكذلك علاقة التوتر من الأهل ليس مطابقة للواقع الحياتي، ومع هذا فقد تعرض للتهديد بعد روايته (وردة) ولقطع الصلة بعد «تلك الرائحة». بهذا الاعتراف يخرج النص من «السيرة الذاتية» لسببين الأول: عدم توافر «العقد السير ذاتي» الذي يعلن فيه بأنه سيرة .. ويهيئ بعد ذلك القارىء علي قراءة النص في ضوء التوجه السابق. والثاني: اعترافات الكاتب نفسه التي تنفي وجود صلة بين النص ومؤلفه. أما بالنسبة للتصنيف الثاني بأنها يوميات، فقد ذكر المؤلف ذلك في الاستهلال وهذا الاعتراف في حد ذاته يعد نوعًا من «العقد» والوثيقة التي تلزمنا بقبول النص بنفس المسمى فهو يومياته التي سجلها عقب خروجه من السجن لكنه يعلن أنه أعاد صياغتها (شعرت وأنا أقرأ يومياتي الوجيزة، بأني أمام مادة خام لعمل فني، لا يتطلب مني بعد غير جهد التشكيل والصقل، وشعرت أني قد وقعت أخيرا علي صوتي الخاص) ص 37. كما أن لفظة يوميات ترددت أكثر من مرة داخل النص و بالأدق ثلاث مرات، هذا التردد جاء ليشير إلي أن ما تشكل من نص هو من مضمون اليوميات وليس هي.

فالنص الجديد مواز لليوميات باعتراف الراوي نفسه، لكن في ذات الوقت يبعد عن شكل اليوميات فهو يقول (تجمّع منها عدد قليل ربما ستة عشر يومًا) الستة عشر يوما لا نري داخل النص الجديد صدى لها لا في أعلي الصفحات كما تعود أصحاب اليوميات ولا اختلاف اليوميات. فالتشكيل النهائي يخرج من حدود اليوميات ويقترب من حدود جنس آخر. يبقي التصنيف الأخير بأنها «رواية» كما يشير العقد الموجود علي الغلاف تلك الرائحة.. وقصص أخرى) وهذا العقد تأكيد لانتمائها لجنس الرواية والقصة، ومع هذا الإعلان الملزم إلا أن حدود الجنس فيها تداخل بين الرواية/ القصة، فهي تخرج من حدود الرواية؛ لأن عدد صفحاتها لا يتوازى مع عدد الصفحات التي تحدد الرواية. وهي ليست قصة، لأن مساحتها أكبر من حجم القصة.

وبهذا يدخل النوع الثالث / الرواية في إطار المراوغة ومن ثم تلحق بنوع ثالث وسط بين الرواية والقصة تحت مسمى «النوفيلا Novella». وهذا المصطلح «The Novella» يعنى: القصة القصيرة الطويلة/ أو الرواية القصيرة. وبهذا يعني أن المصطلح «النوفيلا» يشير إلي تزاوج بين مصطلحي: الرواية والقصة. وخروج النص من حدود القصة بالحجم لا يعني أنه الفاصل الوحيد بين القصة والرواية، فالإطار الفاصل بين النوعين هو الانطباع الواحد والشخصية التي لا تمثل غيرها، هو ما يميز القصة عن الرواية التي مع قصرها مثل )تلك الرائحة( تتسع لانطباعات وشخصيات متنوعة ومتشعبة.

بعد الاتفاق علي أن حدود النوع الجنسي لم تكتمل في السيرة الذاتية أو في الرواية أو في اليوميات وبالتالي فلمرونه النوع الأدبي يمكن صياغة مصطلح يمكن إدراجها تحته وهو «رواية السيرة الذاتية» كما ذكر النقاد. فمصطلح «رواية السيرة الذاتية» كما هو مصاغ نوع مركب يجمع بين نوعين من الجنس الأدبي: الرواية وصيغة «السيرة الذاتية». واشتمال المصطلح علي النوعين لما يحمله كل نوع من سمات خاصة بحدود النوع إلا أن هذا لا يعنى الفصل بين النوعين في (البناء الهيكلي) للنص. بل إن المصطلح يشير إلي المزج بين النوعين وتشكيلهما في نوع واحد يحمل سمات النوعين معًا. فكلا من كاتب السيرة الذاتية والرواية يحتاج إلي الآخر فالسيرة الذاتية كما يقول لوسيان جولدمان. لكي تصبح شكلاً متماسكًا لا بد من صبها في القالب الروائي الأساسي وبالمثل فالرواية تتضمن بالضرورة، كما سبق أن أكد النقاد "عنصرًا من سيرة مؤلفها وما خاضه من تجارب". ولجوء الكتاب إلي كتابة الرواية السِّيرة ذاتية بدلا من السِّيرة الذاتية هو الخوف. وأن هؤلاء الكتاب كما يشير د. خيري دومة "وجدوا أنفسهم في حاجة مُلِّحَة لفرض خبراتهم الذَّاتيَّة الخاصَّة، في الوقت الذي كانوا فيه يَخْشَون من البوح الصريح، ويعجزون عن تمثُّل تجارب الآخرين من الداخل"(49). فصنع الله إبراهيم (ذاته) بعد تجربة السِّجن المريرة، وما عاناه لم يستطع مواجهة السُّلطة مباشرة بإعلان المساوىء، وما يعانيه المساجين من أفظع أنواع التعذيب، لذا تقنَّع بالراوي/ الأنا كقناع ليسرد تجربته الخاصة، وحتي لا تكون التجربة تحمل ذاته، صاغها في قالب روائي، ومن جانب آخر كان لجوءه للرواية لتوسيع منظور الرؤية لديه، ولا يجعل التجربة منحصرة في إطارٍ ذَاتيّ مَحْضٍ.

كلمة أخيرة:

وبعد، هل حقًا استطعنا الكشف عن النص الظل الذي أراده المؤلف، رغم كافة المصادرات التي مورست على النص سواءً من المؤلف نفسه أو من الرقيب أو حتى من النقاد أنفسهم. أستطيع أن أقول على الأقل بالنسبة لي أن الكشف عن دلالتي الجنس والوصف، قد كشفتا الكثير من الأشياء المبهمة التي تعمَّد المؤلف إخفائها والتمويه عليه لأغراض ليس لنا شأن فيها، ربما أبرزها الخوف من الرقيب. فالنصُّ على الرغم من قصره إلا أنه مفعمٌ بالدلالات والإيحاءات التي تجعل من النص واحدًا من أهم النصوص التي وضعت فضاء السَّجن، في دائرة الضوء، بل كشف عن القمع السياسي والاستبداد الفكري، الذي امتدّ حتى بين جموع المثقفين أنفسهم، وفي الوقت ذاته عكس لواقعٍ اجتماعي ظلَّ مسكوتًا عنه في ظلّ واقع سياسي قاهر مستبد. هذان الواقعان السياسي والاجتماعي أفرزا شخصيات مقهورة، عاجزة، غير متوائمة مع ذاتها أو متصالحة معها، تلك الذات التي أضحت ضحية للآخر. ومن ثم نقول إن النص الذي أراد المؤلف «صنع الله إبراهيم» تشكيله جاء نصا كابوسيًا معبرًا عن فقدان الأمل في حياة جديدة في ظل سلطاتٍ قامعةٍ لكل فردٍ يُعْلِنُ التعبير عن رأيه، بل هي مُخيبة للأمل في عقد صُلْحٍ مع السجن والعالم الخارجي. وبذلك تكون تلك الرائحة نقدًا لواقع اجتماعي فاسد ويحاول إفساد كل من حوله. على الجملة هي رؤية كابوسية صادرة من منظور بطل إشكالي محجم في كل أفعاله. وهي واحدة من ضمن روايات صنع الله والتي تلتها ناقدة ولاذعة للمجتمع السياسي والمدني .. وعلّها رصدت قبحًا أفجع الجميع يرونه ويتغافلونه عن عمد. وهذا ما يؤخذ عليها، وإن كنا قد بررنا هذا من قبل.

 

الهوامش:

1. صنع الله إبراهيم:" تلك الرائحة وقصص أخرى "، المقدمة، مكتبة شهدي، الاسكندرية، د.ت ص 7.

2. السابق نفسه: ص 21.

3. محمد بدوي: " الرواية الحدية في مصر "، الهيئة المصرية العامة للكتاب "، القاهرة، 1992، ص 282.

4. محمود أمين العالم:" ثلاثية الرفض والهزيمة "، دار المستقبل العربي، القاهرة د.ت، ص 35.

5. صنع الله إبراهيم: تلك الرائحة، مرجع سابق، ص 21.

6. السابق نفسه: ص21.

7. السابق نفسه: ص 21.

8. السابق نفسه: ص 37.

9. السابق نفسه: ص 7.

10. أحمد الزغبي: " الإيقاع الروائي في تلك الرائحة "، مجلة إبداع، الهئية المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ص 11.

11. صنع الله إبراهيم: تلك الرائحة، مرجع سابق، ص 17.

12. السابق نفسه: ص 18.

13. السابق نفسه: ص 18.

14. السابق نفسه: ص 20.

15. السابق نفسه: ص 42.

16. السابق نفسه: ص 36.

17. محمود حنفي كساب: " لجنة صنع الله إبراهيم وكبرياء الرواية "، مجلة إبداع، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، يناير 1985، ص 130.

18. صنع الله إبراهيم: نلك الرائحة، مرجع سابق، ص 45.

19. السابق نفسه: ص48.

20. السابق نفسه: ص 33.

21. السابق نفسه: ص42.

22. السابق نفسه: ص65.

23. السابق نفسه: ص44.

24. السابق نفسه: ص43.

25. السابق نفسه: ص48.

26. د. سيد البحراوي:" المدخل الاجتماعي للأدب "، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1 2000، ص 33.

27. السابق نفسه: ص48.

28. د. سيد البحراوي:" علم اجتماع الأدب "، الشركة المصرية العالمية، لو نجمان، ط1 1992، ص 59.

29. السابق نفسه: ص50.

30. د. سيد البحراوي:،" علم اجتماع الأدب"، مرجع سابق، ص 60.

31. صنع الله إبراهيم:" تلك الرائحة"، ص 60.

32. السابق نفسه:ص 62.

33. د. سيزا أحمد قاسم:" بناء الرواية " الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1993، ص 79.

34. صنع الله إبراهيم:" تلك الرائحة"، ص 56.

35. السابق نفسه: ص 46.

36. قدم صنع الله إبراهيم في عمله يوميات الواحات الصادرة عام 2006، عن دار المستقبل العربي أسباب الاعتقال، كما سرد لوسائل التعديب التي لاقاها المسجونون السياسيون داخل هذا المعتقل الرهيب.

37. د. حسين حمودة: " الرواية والمدينة،.... "، مرجع سابق، ص 232.

38. إبراهيم فتحي: " الخطاب الروائي،و الخطاب النقدي في مصر "، مرجع سابق، ص 42.

39. السابق نفسه: ص 43.

40. السابق نفسه: ص 57.

41. د. حسين حمودة: " الرواية والمدينة،... "، مرجع سابق، ص 234.

42. تعتمد البنية السردية في تلك الرائحة، على نوعٍ من التوازي بين خارج السجن، وداخله، وكأن السارد أثناء خروجه حمل السجن معه، وهذا ما سوف يكشف عنه البحث ـ والباحث.

43. د. سيزا أحمد قاسم: نقلاً عن إبراهيم فتحي، الخطاب الروائي، و الخطاب النقدي، مرجع سابق، ص 204.

44. إبراهيم فتحي: " الخطاب الروائي.. والخطاب النقدي في مصر "، مرجع سابق، ص ص 41 ـ 42.

45. صنع الله إبراهيم:" تلك الرائحة "، ص 63.

46. محمود أمين العالم: ثلاثية الرفض والهزيمة، ص 47.

47. صنع الله إبراهيم:" تلك الرائحة"، ص

48. فيليب لوجون:" السيرة الذاتية: المثياق والتاريخ الأدبي "، ترجمة عمر حلي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 1997، ص 17.

49. د. خيري دومة: " تداخل الأنواع في القصة القصيرة المصرية 1960: 1990"، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1999، ص 127.

 

المصادر:

 صنع الله إبراهيم:" تلك الرائحة وقصص أخرى ".مكتبة شهدي، الاسكندرية، د.ت.

المراجع:

1. إبراهيم فتحي: " الخطاب الروائي.. والخطاب النقدي في مصر "، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2008.

2. أحمد الزغبي: " الإيقاع الروائي في تلك الرائحة "، مجلة إبداع، الهئية المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1986.

3. د. حسين حمودة: " الرواية والمدينة: نماذج من كتابات الستينات في مصر"، كتابات نقدية عدد (100) الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، سبتمبر 2000.

4.. خيري دومة: " تداخل الأنواع في القصة القصيرة المصرية 1960: 1990"، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1999.

5. د. سيد البحراوي:" المدخل الاجتماعي للأدب "، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1 2000.

6. د. سيد البحراوي:" علم اجتماع الأدب "، الشركة المصرية العالمية، لو نجمان، ط1 1992،

7. د. سيزا أحمد قاسم:" بناء الرواية " الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1993.

8. فيليب لوجون:" السيرة الذاتية: المثياق والتاريخ الأدبي "، ترجمة عمر حلي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 1997.

9. محمد بدوي: " الرواية الحدية في مصر "، الهيئة المصرية العامة للككتاب "، القاهرة، 1992.

10. محمود أمين العالم:" ثلاثية الرفض والهزيمة "، دار المستقبل العربي، القاهرة د.ت.

11. محمود حنفي كساب: " لجنة صنع الله إبراهيم وكبرياء الرواية "، مجلة إبداع، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، يناير 1985.