الظاهر أن "نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي"، التي أخذت تفرض سلطتها المعرفية المحكمة، ومنذ أواخر السبعينيات من القرن الماضي وحتى الآن، وبوتائر متصاعدة، تقدِّم إمكانات منهجية ومقولات نظرية ومستندات تصورية لافتة على مستوى البحث في تداخل عالم الرواية مع أشكال "التمثيل الثقافي" بصفة عامة، وكل ذلك في المدار الذي لا يخفي تحيـُّز النظرية ذاتها للنوع الروائي بمعناه الأوسع الذي يدمج ــ وعلى أرض التمثيل ذاتها ــ الجغرافيا والتاريخ والإثنولوجيا والأنثروبولوجيا ... وغير ذلك من المعارف التي تسهم في تمتين النظرة الروائية التي يحرص أصحابها على صياغتها بنوع من الإحكام الفني الذي يحمي الرواية من الالتباس مع المعارف الأخرى، لكن على النحو الذي لا يجعل الرواية تسلم من "التمركز الثقافي للسرد". غير أن "الرد كتابة" (Contre Attaque par L’Ecriture)، وهو مفهوم قاعدي في النظرية، لا يمكنه أن ينحصر في الكتابة بلغات الإمبراطوريات الكلاسيكية التي كانت قد بسطت سيطرتها المادية المباشرة، وهيمنتها الثقافية غير المباشرة، على بلدان عديدة ولا سيما على مدار الفترة الممتدة من العام 1914 إلى 1931 التي بلغ فيها الاستعمار ذروته بحيث لم تبق فيها أرض لم تتعرض للاستعمار، أو لم تتحرش بها إمبراطورية من الإمبراطوريات الاستعمارية. لا يمكن أن ينحصر الرد كتابة في اللغة الإنجليزية أو اللغة الفرنسية فقط أو حتى الإسبانية، وإن بدرجات أقل ــ على اعتبار أنها كانت بدورها إحدى الإمبراطوريات الاستعمارية العظمى.
فـ"دلالات الرد كتابة" يمكنها استخلاصها، أيضا، من نصوص روائية عربية كثيرة، وكتبت أصلا باللغة العربية، من بينها رواية «جيرترود» التي أقدم على نشرها صاحبها حسن نجمي العام 2011 وبعد أن كان قد نشر العديد من النصوص في مجال الشعر والرواية والحوار والبحث الأكاديمي، وعلى نحو يؤكد على نوع من "المرجعية" التي يصدر عنها صاحبها في أعماله المتنوعة التي لا تخلو، في النظر الأخير، من "وحدة". ورواية «جيرترود» قابلة، في تصورنا، لأن تقرأ "قراءة ما بعد كولونيالية" وسواء من ناحية سندها الفكري المضمر والمندس في تفاصيل السرد، أو من ناحية الإطار العام للحكاية. وفي هذا السياق يلوح مفهوم الغرب (الرأسمالي) الذي يلوي بمراكز السرد الدلالية، وعلى النحو الذي يتكشّف عنه ذلك "السور السميك" الذي يفصل هذا الغرب عن "بقية العالم"، وعلى النحو كذلك الذي يجعل السارد يستقرّ على باريس باعتبارها فضاء ثقافيا جديرا بالكشف عن أشكال الانصهار والتنابذ في الوقت ذاته. باريس التي كانت، وخصوصا على مدار الفترة التي يشغلها السرد، النصف الأول من القرن العشرين، جديرة بأن تغري الكتاب والفنانين والفلاسفة والمنشقين، ومن الأسماء الوازنة والعالمية، ومن مختلف الأجناس والثقافات والقارات، على الإقامة فيها أو على الأقل العبور منها. كانت باريس "العاصمة ــ العالم" تبعا لمصطلح المؤرخ الفرنسي الأبرز وصاحب كتاب "هوية فرنسا" فرناند بروديل (Fernand Braudel)؛ شأنها في ذلك شأن لندن من قبل ونيويورك الآن.
وكانت باريس، وقتذاك، تعجّ بأسماء كثيرة بعضها كان قد نال شهرته العالمية الواسعة فيما كان البعض الآخر لا يزال يشق طريقه نحو هذه الشهرة. ومن بين هذه الأسماء، لكي لا أقول في مقدّمها، الكاتبة الأمريكية جيرترد شتاين (Gertrude Stein) (1874 ــ 1946) التي وصلت إلى باريس، ورفقة أخيها ليو (Leo)، العام 1904. وحتـّى إن كانت جاءت إلى باريس لتشتغل في إطار "مؤسسة إنسانية أمريكية"، فإن "مهنة الكتابة" كان لها ثقلها في تفسير انجذابها إلى باريس. وهذا بالإضافة إلى افتتانها، وكأخيها، بـ"الغليان الفني" (كما ينعته مؤرخو الفن) الذي كان يشهده "حي مونبارنانس" بحمولته الفنية العميقة، أو ما يعبـَّر عنه بـ"مدرسة باريس" بصفة عامّة خلال بدايات القرن العشرين، أو على مدار الفترة الممتدة من العام 1895 إلى 1950. وكان لها تأثير كبير على مستوى الدفاع عن الفن الحديث، ولا سيما على مستوى انتشار التكعيبية وعلى نحو خاص في أعمال بيكاسو وماتيس وسيزان. وكما ورد في موسوعة "وكيبيديا" (Wikipedia) فقد مر على يديها، وما بين 1905 و1920، ما يزيد عن 600 لوحة؛ ممـّا جعل من شقتها متحفا مفتوحا في وجه زوّار من العالم بأكمله.
وجيرترورد شتاين كاتبة وشاعرة وكاتبة مسرحية وناقدة فنية ونسوية أمريكية، وصاحبة مؤلفات عديدة. ولا يخفى أن النظرة إليها "خلافية" وإلى الحد الذي جعل البعض من معاصريها يرى أن "قيمتها الفنية" من الدرجة الدنيا، وكانت الكاتب ألأمريكي الأشهر أرنست همنغواي (وهو أحد أسماء "الجيل الضائع" تبعا للمصطلح الذي أطلقته شتاين نفسها) من الذين انتقصوا من قيمتها الفنية هاته. وحتـّى الرواية نقرأ فيها من أنه "لا شيء يأسرها أكثر من الرواية البوليسية وقصص الجريمة" (ص245)، وهي عبارة في غير حاجة لكي نقدّم فيها التضمين على التقرير. ومن جهتنا نتصوّر أن قيمتها الموازية، أو حتى الأحادية حتى نساير منتقديها، كانت نابعة من شقتها التي كانت أشبه بمتحف كما أسلفنا، هذا بالإضافة إلى صالونها الأدبي الذي كان يؤكـِّد على "المكانة الاجتماعية" للكاتب أو "وضعه الاعتباري" داخل المجتمع الذي ينتمي إليه أو يقيم فيه. ولعلّ هذا "الكسب الثقافي" ما جعلها تنجح في خلق نقاش إعلامي وأدبي وفني، وحول الأدب والفن بصفة عامة، قلـّما خلقه أو أثاره كتـّاب كثيرون وبما في ذلك من العالميين. ومن هذه الناحية بالذات تبدو أهميتها التي لخصها المؤرخ بروديل الذي سلفت الإشارة إليه قبل قليل، وذلك حين وصفها بـ"المفكرة الذكية والمتحمسة للأصدقاء والضيوف العابرين!"، وحين وصف صالونها بـ"المقر المفتوح بباريس". وصفوة القول، هنا، كانت شتاين من الشخصيات المثيرة في القرن العشرين.
أجل قد نتفهم اعتراض البعض على "اختيار" نجمي هذا، والمتمثل في جيرترورد شتاين دون سواها، وبحجة أن هناك أسماء أخرى (وفرنسية أيضا) كانت قد طبعت المرحلة ذاتها بأكملها. غير أن الأهم، في تصورنا، هو فيما تتيحه شتاين من إمكانات على مستوى تفجير القص أو الحكي وفي إطار من تداخل ــ ما يسميه النقد الأنجلو ساكسوني المعاصر ــ "التحقيق" (Diction) و"التخييل" (Fiction) تارة وفي إطار من تباعد التحقيق والتخييل نفسيهما تارة أخرى. بكلام آخر: الأهم هو في "الأفق الروائي" الذي بموجبه تتمّ التضحية بشتاين وعدم التضحية بها في الوقت ذاته، وعلى ما في هذا القول من تناقض ظاهري. والأهم، كذلك، هو في مدى استقطار دلالات "المكر" (المحمود، هنا) الذي عادة ما تخزّنه الكتابة عن الأشياء ومن خلال الآخرين.
وفي هذا السياق يجنـِّد السارد شخصية محمد الطنجاوي لـ"ولوج" عالم شتاين المتنوِّع والغني، ولا سيما من ناحية تعاطيها للجنس ونسج العلاقات مع الآخرين من فرنسيين وغير فرنسيين. وقبل ذلك تجدر الإشارة إلى أن السارد أصرّ بدوره على أن يكون عنصرا مشاركا في الحكاية إذا جاز أن نتكلم بلغة الرطان النقدي البنيوي. هذا وإن كانت مشاركة السارد لا تخرج عن دائرة الخطاب أو "عالم الخطاب"، ذلك أن مشاركته كانت من خلال "الكتابة وفي الكتابة وللكتابة" إذا جازت عبارة جون بول سارتر. فالسارد هو الذي يتولى "سرد حكاية" محمد الطنجاوي، وذلك حين "رخـّص" له هذا الأخير بـ"واجب السرد"... ومن موقع الطلب الممزوج بالترجي. غير أن السارد لن يتقوقع في الجرد والفرز وبالتالي العبور نحو التنظيم والتبويب والترتيب للوقائع والتفاصيل، وإنما سيتجاوز ذلك نحو "التدخـُّل" بمعناه الذي تنصّ عليه فلسفات التأويل والتفكيك. فالسارد ابتدأ من حيث أراد وانتهى إلى حيث أراد، ومن هنا منشأ "التمثيل المضاعف" إن لم نقل "الأحادي"؛ وهو ما سنتحدَّث عنه فيما بعد.
ويتحدّر محمد من مدينة طنجة التي نتيقن، ومنذ أول صفحة من الرواية، من أنها كانت في "عهدها الدولي": "طنجة الكولونيالية" بل و"المركز الكولونيالي الأمامي". طنجة التي كانت، وقتذاك، قد استهوت العديد من الشخصيات النافذة في عالم السياسة والدبلوماسية وفي مجال المال والصيرفة والأعمال وفي عمليات المافيا والجاسوسية والتهريب والدعارة واللواط .. إلخ. وطنجة التي كانت قد استهوت أيضا العديد من الشخصيات العالمية والوازنة في عالم الأدب والفن والإعلام. كتـَّاب لا داعي لعدِّهم أو حصرهم وبينهم عدد لا يستهان به من الأمريكيين من الذين أسهموا بدورهم في نسج "أسطورة طنجة" التي ستتضح أكثر على مدار الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. الأمريكان الذين كانوا بدورهم يسعون إلى أن يكون لهم موقع في طنجة الدولية حتى لا تظل القوى الدولية الأخرى تستأثر بها وتفرض عليها بمفردها "حضورها الكولونيالي" وفي مقدَّم هذه القوى الجارة إسبانيا؛ وهو ما عبـّر عنه السارد قائلا: "ولكن الأمريكان يذكرونهم، من حين لآخر، بأن طنجة ليست ملحقة إسبانية" (ص86).
وقد وفـّرت طنجة لهؤلاء فضاء يصعب العثور على ما يماثله في عواصم الغرب بل وحتى في نيويورك، وهذا ما عالجناه ببعض التفصيل في كتابنا "تدمير النسق الكولونيالي" الذي خصـّصناه لدراسة "موقف" الكاتب محمد شكري من الكتاب الأجانب من الذين أقاموا بطنجة على مدار الفترة المشار إليها قبل قليل. ولا بأس من أن نستعيد، هنا، ما كان قد قاله الكاتب الأمريكي جون هوبكنز (John Hopkins) (وموضِّحا): "لاحظت أن هناك عددا كبيرا من غريبي الأطوار قد شدوا الرحال إلى طنجة من كل بقاع العالم. كتاب وفنانون وسينمائيون ... لو كنت أقطن في نيويورك ذاتها لما سنحت لي الفرصة بالتعرف على كل هؤلاء كما هو الحال هنا بطنجة" ("حوارات أمريكية في طنجة"، صص122 ــ 123).
ومن بين هؤلاء الأمريكان، من الذين سيحطون بطنجة، مثلما ستنال منهم ذبابة أسطورتها، جيرترود شتاين التي آثر حسن نجمي أن يخوض ــ وسرديا ــ في عالمها. وهذه الأخيرة ستزور طنجة، وكما ورد في نص الرواية (ص256)، نتيجة وصية الرسام الفرنسي هنري ماتيس (Henri Matisse) الذي كان قد زار طنجة من قبل، وعلى وجه التحديد في العام ذاته (1912) الذي زارت فيه شتاين طنجة. وماتيس هذا هو الذي سيقول، ذات يوم، وهو على متن مركب يبحر من تونس إلى أوروبا: "كنت في الشرق، وأرغب في البقاء فيه". وهو الذي سيعرف أيضا بفكرة "الشرق أنقذنا" التي يشير إليها السارد بدوره (ص254) شأنه في ذلك شأن الرسام الفرنسي يوجين دولاكروا (Eugène Delacroix) الذي كان يودّ أن تكون له "عشرين يدا وأن يمتد اليوم إلى ثماني وأربعين ساعة" حتى يرسم كل ما يقع تحت عينه بالمغرب(1) والذي كانت أقدامه قد وطأت المغرب العام 1832 ودون تفوته زيارة طنجة؛ وهما من أقطاب الاستشراق البارزين في أوروبا، بل إن الفترة التي تشغل ما بينهما، كانت تؤرخ لـ"الفن الاستشراقي" وللتحولات الحاصلة فيه؛ وذلك قبل أن يأخذ الاستشراق في "التراجع" ابتداء من العام 1914.
كان الأجانب ينعمون في طنجة باطمئنان تام وبحرية مطلقة، وقد استمر هذا الوضع إلى الخمسينيات الصاعدة. يقول الكاتب الأمريكي وليم بوروز (William S. Burroughs) عن مدينة طنجة التي زارها أول مرة العام 1952: "مدينة الحرية المطلقة، تقريبا. مدينة افعل ما يحلو لك، فأنت حر. أنت في مكان يمنحك كل شيء أكثر مما لو كنت في بلدك الأصلي. أنت تقريبا مواطن فوق العادة. فوق القانون، تقريبا. يمكن أن تملك أنت الأجنبي السلاح وتستعمله ولا تخشى خطرا كبيرا..." ("حوارات أمريكية في طنجة"، ص88). و"في حال نزاع بين عربي وأمريكي فهذا الأخير يكون له دائما الحق، تلقائيا" كما يضيف، ونقلا عن كتاب "بول بولز وعزلة طنجة" (ص36)، وليام بوروز نفسه. إنه "المغرب الأمريكي"!
ونحن لا نعدم، وفي إطار من "الهوية السردية" للرواية، بعضا مما يمكنه نعته بـ"الدافع الاستشراقي" الذي أفضى بشتاين إلى أن لا تشدّد على أهمية الزيارة لطنجة فقط، وإنما إلى أن تشدّد على أن طنجة جعلتها "تولد من جديد" (ص256). يقول وليام بوروز (لاحقا) (وهو أحد أهم أفراد "جيل البيت") وفي منظور قد يفيدنا على مستوى استخلاص دلالات مثل هذا النوع من "الولادة": "طنجة. أعطتني الحرية. مكنتني من اكتشاف الذات، جزء من الذات لم أكن أعلم بوجوده. طنجة، لعبت دورا فرويديا، في حياتي. مكنتني من التمدد على الأرٍيكة والاعتراف بما يحتل لاشعوري وشعوري ... طنجة مكنتني من فقدان الذات، وسمحت لي بالعثور على جوهر وجودي. وقد أستطيع الزعم أنها شكلت وجودي بمحض الصدفة وبمحض الاستغراق في الوجود أو العيش" (عبد العزيز جدير: "حوارات أمريكية في طنجة"، ص91). وحتى إن كانت شتاين، وكما يخبرنا السارد، لم تقض إلا عشرة أيام، أو "ليالٍ" بتعبير السارد ("الإيروتيكي"، كما يمكن أن نضيف)، فإنها، وكـ"سائحة أمريكية" هذه المرة، ستغنم الشيء الكثير، ولا سيما في "ليلتها الذروة" ـــ كما ينعتها السارد ــ و"هي مع محمد في غرفتها" حين سيخلصها من غشاء البكارة الذي كان يقلقها (ص256). ومن ثم الحفاظ على "متوالية طنجة" وعلى وجه التحديد من ناحية "كليشيه الجنس"، دون سواه من الكليشيهات والتنميطات الأخرى، وعلى طريقة "الشرق المشرقن" على نحو ما هو موثـَّق في "أرشيف الاستشراق"؛ هذا وإن كان الغرب، في مثل هذه الحال، هو الذي تقدّم نحو الشرق، وليس الشرق هو الذي تقدم نحو الغرب، إذا جاز أن نتكلـّم بلغة مفجـِّر "نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي" الأكاديمي الأمريكي والكاتب الفلسطيني إدوارد سعيد. ومع أن شتاين كان بإمكانها أن تطوف جهات الأرض بأكملها فإن "طقس الافتضاض" لا يمكنه أن يؤدّى، وفي هناء تام، إلا في طنجة ... وطبعا في إطار مما يمكن نعته بـ"السرد التخييلي" الذي يلوي بمقاطع سردية عدة من الفضاء الدلالي للرواية. غير أن "برهان العسل"، وإذا جاز أن نأخذ بعنوان الكاتبة العربية سلوى النعيمي، لم يتوقف عند هذه الواقعة، ذلك أن الطمع في "الطريدة" سيجعل محمد الطنجاوي، و"الجميل" كما ينعته السارد (ص73)، وبعد أن كانت شتاين قد زوّدته بعنوان شقتها، يسافر، ودون أي احتراز يذكر، نحو باريس ... وذلك من أجل الإقامة بجوار شتاين في إقامتها بباريس.
والمؤكد، في تصورنا، أنه ليس هناك ما هو أسوأ من التلخيص، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بنص روائي يعجّ بالعديد من التفاصيل المتناسلة والمتدافعة. ولذلك يمكن التشديد، وبلغة التحوير النقدي، وفي حال الرواية التي نحن بصدد "قراءتها"، على أن محمد سيرقى إلى أن يكون إحدى مرايا شتاين جنبا إلى جنب مرايا أخرى في مقدمها مرآة أليس طوكْلاسْ (Alice B. Toklas) التي التقت بشتاين العام 1907 لتعيش معها "طوال ثمان وثلاثين سنة جسدين في جسد واحد، روحين منصهرين في روح واحدة. امتزج لحمهما ونفسهما" كما كتب الكاتب في نص الدليل الذي ذيـّل به الرواية. وكلام من هذا النوع جدير بأن يكشف على العلاقة الجنسية المثلية التي جمعت بينهما، ومن جانب شتاين نفسهما، وثمة مقاطع عديدة في الرواية تصوّر ذلك في وضوح تام وإن بطريقة "ناعمة". هذا وأن دور طوكلاس لم ينحصر في هذا الجانب فقط، إذ كانت تقوم بإدوار أخرى لفائدة شتاين ذات صلة بموضوع الكتابة والمراسلات والاتصال والطباعة.
وثمة أيضا مرآة الفنان العبقري بابلو بيكاسو الذي لم يكن يفكـِّر في الإقامة بباريس، ومقارنة مع لندن، أكثر من مدّة قصيرة كما نقرأ في الكتاب الأهم حول "حياة بيكاسو" الذي أنجزه المؤرخ الفني البريطاني جون ريتشاردسون (John Richardson). وكان بيكاسو لا يزال في طريق البحث عن الشهرة العالمية حين كانت شتاين تقتني منه، وبكثير من الكرم، لوحاته وفي فترة "لم يكن أحد في العالم راغبا فيها" كما قال بيكاسو نفسه(ص7). وبيكاسو هذا هو الذي سيخص شتاين بالبورتريه التكعيبي الشهير لها العام 1906 والذي احتفظ به الكاتب في الغلاف الأمامي من الرواية. بورتريه قابل لقراءات عديدة قد تتجاوز "دوائر الاختلاف" نحو "دوائر الصراع" (صراع التأويلات طبعا، وأخذا بأحد عناوين بور ريكور الشهيرة). بورتريه لم يعنِ، في حينه، إلا صاحبه بيكاسو والمعنية به شتاين. وقد تضمنت الرواية جانبا من هذا "النقاش" الذي لم يفت السارد أن يجعل محمد أحد المنخرطين فيه، وهذا على الرغم من اعتراض بيكاسو ــ وفي دنيا الإيهام الروائي ــ على بعض أسئلة هذا الأخير. غير أن شقة شتاين كانت تستقبل العشرات من المشاهير في مجالات متنوعة لعل أهمها مجال الرسم والفن بصفة عامة، وكل ذلك في إطار من ولائم وحفلات ولقاءات ... كانت تـُستنفر لها الشقة بأكملها. ويلخص السارد أحد اللقاءات قائلا: "كلـّهم هنا تقريبا، كلهم الليلة هنا. المشاهير وأزواج المشاهير. الفنانون. الشعراء. الإعلاميون. الناشرون. الدبلوماسيون. رجال المال والأعمال. العسكريون والمدنيون. الكبار والصغار. الفضوليون ومنتحلو الصفات" (ص193).
وكان محمد شاهدا على الوقائع والأحداث، على الولائم واللقاءات، مثلما كان شاهدا على العلاقة المثلية الجنسية بين شتاين وطوكلاس. وكما يلخص السارد: "اعتاد العادات والإيماءات والأمزجة السائدة في البيت" (ص136). وصار على علم ليس بخادمات شتاين فحسب، وإنما بتاريخ سياراتها المعطلة (ص130). وكان بدوره قد رشف من "كأس الجنس"، بل إنه على هذا المستوى ارتوى من شتاين حتى أرهقها، خصوصا وأنها كانت قد انقادت له. وحصل ذلك منذ اليوم الثاني من وصوله إلى الشقة بباريس، حيث سيصير بإمكانه أن يصف جسدها الزائد عن حده؛ وحصل ذلك أيضا بعد أن "كان قد صار طريـّا وتخلـى لها على شفتيه" كما يصف السارد (ص152). وسيغدق علينا السارد بأكثر من وجبة من وجبات الجنس التي وصلت ما بينهما وفي سياق أوسع شمل بركان الجنس مثلما شمل أشياء أخرى. وقد استمرت الحال على ما هي عليه إلى أن حصل ما حصل حين بادرت شتاين إلى أن تقطع مع محمد وعلى النحو الذي سيرغمه على جمع ملابسه وأحذيته والرجوع ــ بالتالي ــ إلى بلاده وعلى وجه التحديد إلى طنجة بوابة "شمال إفريقيا" أو "قلب الظلام". طنجة التي تنتسب إلى الشرق ذاته الذي ظل يعنـِّف بمحمد، وإن في صمت، في علاقته مع شتاين وداخل باريس عاصمة الغرب حيث الحرية والجنون والإبداع ... إلخ. وما تجدر ملاحظته أن ما حصل جاء بغتة، مما جعل محمد لا يملك إلا أن ينعت شتاين، وفي أكثر من لحظة من اللحظات التالية، بـ"الخنزيرة". ثم إن ما حصل كان غير قابل لأن يعاد فيه النظر، وبالتالي تدارك ما يمكن تداركه من أعطاب تعيد محمد الطنجاوي إلى "المركب" ذاته. ثم إنه حتـّى الصور التي جمعته معها، وفي دلالة على نقطة اللارجوع، اجتثث منها رأسها وبعثتها إليه عبر البريد ... وكأنها، وهذه المرة، وفي دلالة معكوسة، تذبحه "بلاغيا" إذا جاز أن نأخذ بتعبير "الذبح البلاغي" الذي يوظفه صاحبه إدوارد سعيد في كتابه "الثقافة والإمبريالية".
أجل لقد "آثر أن يبقى غامضا، وأن تظل علاقته خاصة بجيرترود" كما قال السارد (ص121)، غير أن حدث "القطيعة" الذي صدمه، بل وجعله يجن في القطار، يجعلنا لا نطمئن لهذا الغموض، بل ولا نستقـِّر حتـّى على تفسير واحد ومبتسر بصدد القطيعة. وعلى هذا المستوى فإن الرواية تطفح بالعديد من التوصيفات والأحكام وسواء قبل الحادثة أو بعدها، وهذه التفسيرات والأحكام جديرة بأن تسعفنا على إيجاد تفسير ولو مركـّب للواقعة. ومن ناحية فإن شتاين كانت مصرّة على فرض سيطرتها، وكانت شخصية صعبة تبتسم تغضب، وكانت حاسمة في أمور حياتها، هذا بالإضافة إلى أنها كانت على قدر عال من الاعتداد بالنفس والروح الارستقراطية. ومن ناحية موازية كانت امرأة مسترجلة، وكانت أليس طوكلاس قد سيطرت عليها مثلما كانت بدورها تميل إليها. ومن ثم فإن حبها لمحمد كان حبا لمحمد في حد ذاته، وربما ـــ وفي سياق الاقتباس دائما من أقوال وتعابير السارد ــ لأنها كانت تبحث عن لذة شرقية، هذا بالإضافة إلى أن جميع من دخلوا شقتها دخلوا مخدعها.
الظاهر أن ما صدم محمد ليس الجانب الآخر في شخصية شتاين (وعلى أهميته في سياق التفسير)، ما صدمه هو استحالة الحب ذاته. ومن ثم كان من المفهوم أن ترجع إلى أليس، وخصوصا بعد أن صارت لا تثق في "المغربي" الذي صار يرهق جسدها، ودون التغافل عن محيط شتاين الذي كان بدوره رافضا لمحمد. وهذا الأخير بدوره لم يكن يملك العدة الفكرية المناسبة لمثل هذا المحيط على الرغم من أنه بفضلها صار يكتب ويقرأ روائع الأدب الفرنسي. فالواقع كان أكبر من الطموح كما تعلمنا الحكمة المتداولة على نطاق واسع. ومن ثم فإن محمد، وعندما أجاب الراكب ــ الذي كان يجلس بجواره على متن الباخرة التي تقله من مرسيليا إلى طنجة ــ بأنه "عائد إلى الواقع" وليس "البلاد" (صص 294 ــ 295) كان في الواقع يستجيب لـ"الترسيم الخرائطي" الذي يفصل ما بين الغرب والشرق. لقد اصطدم محمد بـ"الغرب الماكر" (كما تنتعه بعض السرود القومية)، وعلى النحو الذي جعله يعي بأن هذا الأخير لا يمكنه أن يضمن له حتى قبرا صغيرا يليق به مثلما يطمئـِّن فيه كما يمكن أن يتحقق له في بلاده. فـ"الأرض"، هنا، وعلى "ثقلها"، لا تستحمله.
وعلى مستوى آخر فإننا لا نعرف بالضبط المدة التي أمضاها محمد في باريس وكأنه كان خارج الزمن. إنه كان يسير ضد التيار، وكان "خارج التاريخ"، ممـا جعله لا يعاين "أمثولة" طنجة التي وجدها قد تآكلت أو تغيـَّرت جذريا. لقد كان، وإذا جاز أن نأخذ بهذا التشبيه التمثيلي، أشبه ما يكون بـ"السمكة التي أرادت التنفس خارج الماء"، مما جعل موته "محتوما". ولكن، ومع ذلك، ومرة أخرى، يطرح علينا، ومن جديد، سؤال حول من المسؤول عن هذا "النهاية"؟ ومن هذه الناحية فإن محمد لم يكن يتحرك وحتى كشخص من لحم ودم، كان مفعول نسق بأكمله يفترسه في صمت. وكما يعلـِّمنا "النقد الثقافي" فإن الإنسان مفعول أنساق كبرى وأخرى صغرى، غير أنها تصب في الهدف ذاته. وعلى هذا المستوى فقد ظل محمد ذلك "المغربي" الذي يحكمه "المنطق الشرقي"، مما تم تلخيصه في "شرنقة الجنس". وهذا على الرغم من أن محمد لم يبلغ حد "العدوانية الجنسية" التي تتحدث عنها نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي، وعلى نحو ما نجدها في روايات عربية عنيت بموضوعة الغرب كما في حال رواية "موسم الهجرة للشمال". محمد لم يذهب للغرب "غازيا بقضيبه" ومنتقما للشرق الذي أنهكته جرائم الاستعمار. الغرب الذي تجاوز التعامل مع البلد الأجنبي باعتباره "امرأة" ينبغي إخضاعها نحو "فض بكارتها" كما يمكن أن نطلع على ذلك في كتاب "الاستشراق جنسيا" لإرفِن شكْ (Irvin C. Schick). والظاهر أن "لعنة الجغرافيا" هي التي قادت محمد إلى الغرب. ثم إن مهنة "الدليل السياحي" ما كان له أن يمارسها بالشكل ذاته في أي مكان آخر من غير طنجة.
الرواية تطرح، بدورها، ومن وجهة نظرها، مشكلة الإنسان العربي (Homoarabicus). وكما تطرح "غول الاستشراق" الذي واجهه محمد، هذا وإن كانت الرواية لا تطرح مسألة الاستشراق الاحترافي أو الأكاديمي أو الكلاسيكي الذي يصب في مصلحة الاستعمار ودعم الإمبريالية. فالرؤية الناظمة للرواية لا تهمـّها النزعة الاستشراقية أو الاستشراق السافر أو العقل الاستشراقي أو العقل الاستعماري المهيمن؛ ولكن مع ذلك هناك رؤية استشراقية باطنة جوبه محمد بها وأرغمته على الرجوع. والرؤية الباطنة، هنا، نسبة لـ"الاستشراق الباطن" الذي ميـَّزه إدوارد سعيد، وفي كتابه الإشكالي "الاستشراق"، عن "الاستشراق السافر". إجمالا إن محمد، والذي هو بمعنى من المعاني بطل في الرواية، كان "ضحية" نوع من الاستشراق الذي ينعت بـ"الاستشراق المتأخر/ العملي". غير أن صاحب الرواية لم يكن معنيا، وبسبب من مرجعيته الفكرية والجمالية، بالرد على هذا الاستشراق وذلك من خلال ما يمكن نعته بـ"السرد المضاد" أو "الاستشراق المضاد" أو "أسطورة الأصلاني" (ابن البلد الأصلي). وهذا على الرغم من بعض مظاهر الصدام الثقافي التي عبـرّت عن نفسها في أكثر من محطة من محطات الرواية، وسواء من ناحية محمد الذي أصرّ وفي لحظة الصدمة، ومن موقع المغلوب، على توصيف شتاين بـ"الخنزيرة"، وهو توصيف لا يخلو من "جرعة ثقافية شرقية قدحية" تعيد إلى الأذهان مفهوم "الدم" و"الحلال والحرام" ، أو من ناحية السارد نفسه حين يقول: "قبلت ليدْيا بأن هناك علاقة أكيدة بين القلب والعقل، لكن حالة تخلـّف مـّا، ثقافية أو حضارية، هي التي تفصل قرار القلب عن قرار العقل؟ ولم تعجبني الفكرة، بدت لي أمريكية أكثر مما يجب. قلت هناك تخلـّف مطلق لدينا في التدبير أو في الاقتصاد؛ صحيح. لكن الثقافة أو الفكر أمر آخر. إنكم تمثلون ثقافة أو حضارة كما نمثلها" (ص202). فالسارد يريد أن يطرح، هنا، مشكلة "التمثيل" وعلى النحو الذي لا يفرض "تفوق الثقافات" الذي كان في أساس تبرير "ظاهرة الاستعمار". فالاستعمار لم يكن بواسطة السياسة فقط، لقد كان للثقافة دور لا ينكر؛ وكان إدوارد سعيد قد برع في تفكيك "خطاطة الإمبريالية والثقافة" وتبيان "آليات تمفصلها". ولقد كنت حريصا على استحضار هذا النص من الرواية ولأهميته وعلى طوله، ولا لشيء إلا لأنه يشي بما يمكن نعته بمثابة "خلفية ثقافية" يصدر عنها الكاتب، هذه المرة وليس السارد، وسواء في روايته أو في باقي أعماله النقدية تعيينا. ومن هذه الناحية، وهو ما تكشف عنه الرواية ذاتها، فإن الرؤية الناظمة لهذه الأخيرة غير كاشفة عن أي نوع من "الصدام الثقافي" و"الصدام الزاعق" بصفة خاصة. الرواية كاشفة عن نظرة رحبة للغرب إلى حد التماهي بل والذوبان في أحيان وأحيان كثيرة كما يمكن أن نضيف. والمقصود، هنا، الغرب الفني. ولا داعي، هنا، لكي نستعيد العديد من المواقف والاقتباسات والانطباعات التي تمتد، على مدار الرواية، بأكملها وعلى نحو سلس وكاشف ــ في الوقت ذاته ــ عن كميات غير هينة من الإعجاب والتذوق. وكأن بنجمي، ومن هذه الناحية بالذات، يكمـّل النقص الذي أفضى بمحمد إلى "الانسحاب" من "ملعب الغرب". وأتصور أن حضور الكاتب في الرواية كان سيكون "مقحما" لولا هذا الاعتبار.
وكما أن المرحلة التي تعالجها الرواية أفسحت بدورها للكاتب بالتلويح بأفكاره، ذلك أن الأمر يتعلق هنا بـ"ثقافة عصر بأكمله" كما نعتها البعض. ومن هنا منشأ الأقوال الموجزة والشهادات المقتضبة والحكم الدالة والإضاءات القوية والانتقادات المهذبة. ومن هنا منشأ الطابع المعرفي، وحتى الأكاديمي المرن، للرواية الذي لم يتهدد عرشها الجمالي الباذخ. المؤكد أن الكاتب كان حريصا على نوع من "النقاء اللغوي" الذي جعله ينأى بها عن "التقطيع" و"التهجين" و"التكسير". وكما قال عميد البلاغيين العرب (الجاحظ)، وقبل قرون، "إن النثر فضـّاح الشعراء". وفي رواية «جيرترود» حافظ حسن نجمي على كبرياء الشاعر، بل أزعم أنه بدا لي، خصوصا وأنه سبق لي أن أنجزت كتيبا نقديا بخصوص شعره ("شعر الرؤية"، 2005)، في روايته شاعرا أكثر منه في مجاميعه الشعرية التي بلغت حتى الآن تسع مجموعات. ويمكن "التأكيد" على ذلك، وفي الرواية، من خلال نصوص عديدة تبدو لي، ومن خلال نظام الجملة ابتداء، متفوقة على قصائد نثرية يمكن تضمينها ضمن أنطولوجيا خاصة بالشاعر. وحتى لا أثقل مساحة الدراسة بالإحالات المطوَّلة أترك حرية استخلاص ذلك للقراء أنفسهم، وذلك من خلال الصفحات التالية: ص 31، ص284، ص315، ص322.
لم يبلغ حسن نجمي حد "الحدة الكولونيالية" (وضمنها "الاستشراق الجنسي المعكوس") التي نجدها في روايات عربية كثيرة عالجت موضوع الغرب أو ارتمت في موضوعة الغرب بلغة السبعينيات النقدية الشعبية، بل إنه لم يرغب حتى في رسم نهاية دراماتيكية لمحمد وعلى نحو ما نجد في أغلب الروايات التي عنيت بالموضوعة نفسها. وهذا اختيار للكاتب، ثم إن النظرية لا تسعى إلى تفسير كل شيء في هذه الدنيا كما أكدنا على ذلك في تقديم كل من كتابينا "الوعي المحلق ــ إدوارد سعيد والحال العربي" (2010) و"تدمير النسق الكولونيالي ــ محمد شكري والكتاب الأجانب" (2012). ولذلك فإن إفادتي من النظرية كان نتيجة تصوري لـ"عمل الناقد" ولاستقلالية العمل النقدي ذاته حتى وإن كانت هذه الاستقلالية لا تتأكد إلا من خلال التشابك المثمر مع النصوص. وما لم يكن النص، وبالتعبير التفكيكي، "قويا" فإنه لا يتيح للناقد أي شيء على طريق "التمثـُّل النقدي والفكري" تمييزا لهذا التمثـّل عن "التسمين المنهجي" أو "التبجح الأكاديمي" .
رواية «جيرترود» لا تعالج مشكلات الشباب ومن ناحية لغم الهجرة، ولا تعالج موضوع المرأة أو "زمن النساء" أو غير ذلك من المواضيع التي عادة ما يمكن أن نطمئن إليها في نفق بعض القراءات السوسيولوجية المبتسرة والبائسة. وكما أن الرواية تنأى عن "التوابل الإثنوغرافية" التي تطفح بها، وعادة، الروايات التي تعالج موضوع الهجرة من "الجنوب" إلى "الشمال". وحتى إشارة شتاين، والواقعية، إلي محمد، في كتابها "سيرة أليس طوكلاس" (1933)، وهو للمناسبة أشهر كتبها الذي ضمن لها تداول اسمها على نطاق واسع وداخل أمريكا نفسها، لا تعدو أن تكون، في نظرنا، مجرد "شرارة" لانطلاقة الكتابة أو "انبثاق الكتابة" (Surgissement) تبعا للمصطلح الأثير على الراحل إدمون عمران المليح. الرواية لا تعالج قضية معينة، ولا تدافع عن أطروحة معينة، بقدر ما تعالج موضوعا "زئبقيا" قوامه تمجيد الفن والإنسان والعالم، وكل ذلك في أفق الدفاع عن الإنسان ذاته وعن الجمال والحرية والجسدانية والاحتمال والانفتاح على ثقافات العالم .. إلخ. إن حسن نجمي، في روايته، يتحرك باعتباره شاعرا يسعى إلى "القبض" على "نبض المطلق" كما يسميه الفلاسفة والشعراء من الفلاسفة، لكن في المدار الذي لا يفارق "دفق الكتابة" أو "شرط الكتابة"، وكل ذلك في إطار ما بدا لنا أن نصطلح عليه بـ"لذة السرد" التي ارتأيناها مدخلا (نقديا) لقراءة هذا النص الذي هو من صنف النصوص التي لا يمكنها إلا أن تحظى بقراءات عديدة وــ طبعا ــ من خارج دائرة النقد الثقافي أو الشعرية الثقافية لكي لا أشير إلى نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي التي افتتحت بها نص الدراسة.