ليست غرفة الإرسي العلية لدى الروائي العراقي مجرد مكان اختبأ فيه الراوي بعد هروبه من جبهة القتال، وعانى فيها من هواجسه ورغباته الجنسية بل تتسع على مدار الرواية لتكتنز بدلالات متعددة لتصير المسكوت عنه المقموع الذي تخفيه العادات والتقاليد والقيم المهيمنة التي يواجهها الراوي ويفضحها باحثا عن الخلاص.

الإرســــي (روايـــة)

سلام إبراهيم

إلى ... ناهدة القزمري .. همسة .. كفاح .. صلاح       

 

في برزخ الإرسي

المخبأ

تب.. تب، فاصلة صمت،.. تب.. تب، اصطدام مكتوم أشبه بوقع رذاذ خفيف. تب.. تب.. تسقط الكتلة المفتتة من السقف الخفيض. تسقط في بئر العتمة منفصلة عن عقادة الآجر المنخور.. تب.. واهنة تستقر على صدره، قدميه، بطنه، عنقه، جبهته منتشرة بنثارها الرطب. تب.. ترن في قعر الإبريق النحاسي، في حوض طاسة الماء المعدنية، على الكتب المكدسة جواره في الحيز الضيق بين فراشه والجدار. في استلقائه الساكن في حلكة المستطيل العريض جهة الرأس، والضيق جهة الأطراف والباب، يستقبل بعينيه الشاردتين، كائنات الغبار النشطة في عراكها المحتدم، وهي تدخل وتخرج من مسارات النور المتسرب من أربع كوى تطل على باحة البيت القديم. يندمل في حركتها العشوائية، الضاجة بصمتٍ، في حبال الضوء التي لا تنجح في إضاءة شيء من دكنة غرفة الإرسي العلية، بل تزيد الزوايا والجوانب حلكةً في عز النهار. يلاصق الجدار الرطب المتآكل جهة الباحة، ساكناً ينصت بشرود كلما خلى البيت وران الصمت، ينصت إلى وقع الجص المتساقط في خواء وحشته، فقد تشابهت النهارات والأيام والليالي، وهو في جحره الضيق المهجور هذا، لا يستطيع النزول إلى الباحة وغرف البيت إلا لفترات قصيرة، وقت خروج عمته الأرملة الجميلة معلمة  الابتدائي إلى مدرستها، أو حينما تزور أحداً. في تلك الأوقات يتمدد فضاء حريته كوناً، يصير فضاء البيت بكل غرفه وبلا قوانين وقواعد. في تلك الأوقات يدور بين الغرف. يتمدد على بلاط الباحة.. يتعرى فيها قبيل دخول الحمام. يظل عارياً بعد السباحة.. خفيفاً وهو يخوض في مناحي البيت. لذة لم يجدها في دار أهله المكتظ بإخوته العشرة. يحتدم بعالمه الذي اتسع من مستطيل ضيق كتابوتٍ، إلى فساحة غرف خالية، لكنها محتشدة بأنفاس أحباب غياب، بعبق طفولته، فساحة تتيح له حرية التلصص على نهر الحياة المنحدر خلف نوافذ غرفة الضيوف المطلة على مجرى الزقاق. يتلصصُ عبر زجاج النافذة العالية وسيمها المغبر. بكل شوق المستوحش، المضطر إلى الاختباء يمعن في وجوه المارة المضببة بغبار النافذة. يعتنق في شجنه حيوات الشارع المضببة. نسوة وأطفال. شيوخ وشبان. بغايا وأشراف. عشاق يسرقون القبلات في همس يشبه تساقط حبات الجص. يحدق عبر الزجاج المغبر. يرحل في شؤون القسمات، أشكال الأنوف، ألوان البشرات، عالم العيون الزاخر بالظنون. يذوب في تكور المؤخرات الضائقة بالعباءات. بالظهور المنتصبة، الهزيلة. تخدره الحركة المتقاطعة المتقابلة المتوازية الدائمة لأجساد المارة الحميمة، السادرة في شئونها. هذه صباحات الله التي ضاقت عليه، وتعسرت. وصار مجرد السير فيها حلماً عصياً، قد يكلفه العمر

تتعبهُ النافذة القديمة العالية، الارتكاز على أطراف أصابع قدميه والميلان المحسوب كي لا يُلْحَظْ من الخارج. يتهالك على الأريكة القريبة. فتظهر أشياء الغرفة من ظلالها الكثيفة رويداً.. رويداً.. المكتبة الصغيرة، المنضدة بخشبها الصاج العتيق وقوائمها القصيرة. لوحة محتشدة بالصور الفوتوغرافية. وجوه أقارب وأغراب تطل على جلسته من ظلال عالمها الساكن، شديدة الحياد في بسمتها الأبدية أو غضبها وضيقها. السجادة المعلقة بالجدار المقابل للنافذتين المطلتين على الزقاق الضيق، يتربع وسطها رجل جميل القسمات محاط رأسه المعمم بهالة ضوء. يحضن سيفه المشروخ، ويربض جواره أسدٌ وديع. الأرائك المتربة. سجادة الأرض القديمة. الرفوف المليئة بالمنحوتات الصغيرة، ديكة منتصبة تشرع بالصياح، ذئاب برأسين وثلاثة قوائم، وعول مطأطئة الرقاب، أبقار وقطط، نماذج مصغرة لقباب الأولياء معمولة من النحاس الرخيص والمعدن دأبت عمته على شرائها عند زيارتها المراقد المقدسة. الباب المفتوح على المدخل والمتصل إطارها الأعلى بدرفتي نافذة زجاجية عالية تشغل المسافة بين إطار الباب والسقف. ريشات المروحة السقفية الميتة. يمسح الأشياء بعينيه الذابلتين. يتخيل في استراحته الوجيزة امتداد الزقاق غير المرئي من النافذة، والمتصل بسوق المدينة المسقوف بالصفيح المثقب. يستعيد إيقاع الزحام، اكتظاظ المقاهي، لعبة انتظاراته اليومية على ناصية المقهى، ولهفته لرؤية وجه بهي وآخر.. وآخر حتى حلول الخدر والفتنة. يظل أحياناً حتى نزول المساء تائهاً في المخيلة، مخدراً بالضجة خلف النافذة، تعصف به الأشواق المبرحة إلى أن يجمد مرعوباً من طرق على الباب، رنة جرس يحطم سكون البيت، أو على صوت مفتاح ينحشر بثقب الباب، فيقفز باضطراب سائراً على أطراف قدميه، متحاشياً إصدار أي ضجة، يدلف إلى المدخل. يقطعه بقفزتين. ينحرف يساراً بحذاء جدار الباحة. ينحني والجاً من تحت منضدة مبردة الهواء العالية التي تسدّ السلم القصير المؤدي إلى الأرسي. يرتقي السلالم المتآكلة. يسد الباب الواطئ خلفه متهالكاً على فراشه المترب حيث يستلقي الآن. فمن شروط عمته، أن يلبث في عليته طوال النهار، ولا ينزل إلا لقضاء الحاجة أو للأكل إلى أن يجّن الليل. وعليه تحاشي الغرف المطلة على الزقاق إلا في حالة إطفاء النور. حرص أشد الحرص على الالتزام بذلك، ولكن حينما يخلو البيت وتعوي في صمته الوحشة، يتسلل إلى نافذة الدنيا وصباح الأزقة المشمس وبشرها ليعب من الضوء والضجيج والوجوه ما يصبره على انتظاره المجهول.

* * *

أتتبع روح الفتات الهابط من سماء سقفي المنخور.. تب.. تب. وقع وجدته لعبةً أزجي بها الوقت. أرهف السمع وأحاول تخمين أمكنة السقوط التي تخطئ جسدي المظاهر للجدار الأعرض، البعيد عن الباب، لعبة ممتعة حقاً أقضي بها النهار الذي يكتظ بالنساء اللواتي تخيط لهن عمتي الأردية. أحياناً تجذبني ضجتهنَّ. لم أجد الرغبة في التقدم بجذعي الأعلى مسافة ذراع لإلقاء نظرة من خلال أقرب طاقة، فباستطاعتي تخيل المشهد بشكلٍ تفصيلي. يتحلقنَّ في طرف الباحة حول ماكينة عمتي المنهمكة في الخياطة، والتي تخطف بصرها خلسةً بين الفينة والأخرى إلى الطاقات الأربع. بمقدوري رؤية اضطراب عينيها الزرقاوين في إنصاتها المشتت لما تقوله النسوة اللواتي يتحدثن في الوقت نفسه فيضيع الكلام مندغماً بصوت تشغيل الماكينة المتقطع. أمهات وزوجات، أخوات وعاشقات، أرامل رجالهن قتلوا أو فقدوا في جبهات الحرب أو المعتقلات. أركز أحياناً على أسماء معارف جلبت جثثهم قبل أيام، أو أعدموا في الساحات العامة بسبب هروبهم من الجبهات، عن حملات تفتيش وتمشيط تجري في أحياء المدينة. أتجمد رعباً متخيلاً لحظة القبض علي.

ـ سيحل دوري عاجلا أم أجلاً.

أقول لنفسي، وضجة النسوة تتخافت مبتعدة، لتتلاشى خلف صوت انطباق الباب. أسقط في الصمت منتظراً وقع التساقط الحميم.. تب.. تب ألاحق الأصداء المخنوقة لروح الفتات. فتترسخ محتلةً فسحة كينونتي. أقتفي أثر الصدى قاطعاً فواصل صمته الأخرس الدوار، أركب جنح الموجة الصوتية المكتومة الآتية من أزمنة سحيقة والذاهبة إلى آماد لا متناهية. أبحر في الحالك الممتد من لحظتي.. لنغمة اصطدام الفتات بالأشياء الغاطة في العتمة، نفس وقع ذلك التساقط الرتيب لنتف الثلج وأنا أسير في ذيل قافلة الرجال والبغال الخائضة في حلكة ليل الجبل الأخرس، أوصاني الدليل الكردي بالصمت والصمت إلى حين وصولي إلى قاعدة الثوار البعيدة، فالرجال خليط غير متجانس، من مقاتلين، وجنود هاربين من الجبهات يبغون اللجوء إلى إيران، عائلات مسيحية متجهة سراً إلى الحدود تحلم بالوصول إلى أمريكا، مهربو بضائع من المدن إلى القرى المحاصرة، خارجين عن القانون، قتلة، رجال مخابرات متنكرين، سياسيون شرفاء وأنذال.. ليس أمامي سوى الصمت وإطاعة أوامر قائد القافلة الذي لم أستطع تشخيص ملامحه بسبب الظلام. كنت أحدق بريبةٍ في الوجوه الملتحية، بحواجبها الكثة المضفية على الملامح المتصخرة مزيداً من القسوة. قسمات أراها على لهب القداحات المتراقص وهم يشعلون سجائرهم في الدروب البعيدة عن ربايا الجيش. يداخلني الشك كلما عبرنا جادة مبلطة، أو مضيقاً خطراً يمر من تحت مواقع الجنود، ومما زاد قلقي سقوط السائر أمامي ونحن نسير على حافة وادٍ إلى عمقه السحيق ولم يصدر منه سوى شهقة فزع تلاشت في الهوة، ورغم إخبار قائد القافلة فقد أمر بعدم التوقف لخطورة المكان، وعندما ألححت في السؤال عن مصيره، إلتفت نحوي هامساً ببرودة أعصاب:

ـ إنه جوار ربه الآن.

تلكأت في خطوي ذهولا.

ربت على ظهري قائلا بخفوت:

ـ امش..امش، لم تر شيئاً بعد !

قلت لنفسي وأنا أحث الخطى:

ـ إلى أين أمضي في المجاهل هذه بصحبة بشر لا أفهم لغتهم؟.

أي مجهول يتربص بي بين الجبال الوعرة التي أشار صوبها شيخ وسيم، أشيب الشعر. كنا نقف في حديقة بيته الفسيح، بمدينة ـ كفري ـ بساحاتها المقصوصة العشب، المرتبة على شكل مستطيلات، تفصل بينهما دوائر مزروعة بشجيرات الروز والقرنفل وأقفاص حديدية كبيرة فيها غزلان زاهية بعيونها الواسعة المحدقة نحو وقفتنا باطمئنان. كان يشير محدداً مسار القافلة التي ستأخذني بعد ثلاثة أيام. وقتها كنت لا أستطيع الربط بين ثراء الرجل وثوار الجبل، لكنه في اليوم التالي ونحن نخوض في حوارٍ متشعب حول كردستان والثورة الكردية التي اشتعلت في 1961 في عهد عبد الكريم قاسم، و اتفاقية ـ 11 آذار 1970 ـ أراني صوراً تعود إلى الستينات يظهر فيها فتياً، بملابس البشمرگه بصحبة ملا مصطفى البرزاني، وجلال الطالباني، وصوراً كثيرة مع جموع من المقاتلين ببنادقهم البرنو والسمينوف القديمة، وقاماتهم الناحلة، وضحكاتهم الجامدة على الورق الصقيل القديم، أطلت التحديق في الصور مفكراً بمصائر بشرها الشاخصين أمامي بهيئاتهم قبل عشرين عاماً. وعندما رفعت رأسي، وجدته يبتسم:

ـ تتساءل عن مصائرهم؟

أومأت بالإيجاب.

ـ منهم من قتل بعد أيام من التقاط الصور في المعارك، ومنهم من مات لاحقاً ومنهم من أصبح وزيراً، أو مهاجراً، أو تاجراً، أو سكيراً، أو متسولاً، أو جلاداً يقود مفارز خاصة لاصطياد الثوار، أو أساتذة جامعات، أو كتابًا وشعراء، ومنهم من قضى معدوماً، أو تحت التعذيب في الزنزانات. هكذا يا ولدي هي الحياة !!!

عرفتُ لاحقاً أن ذلك الشيخ هو ـ عطا الطالباني ـ. كانت زوجته صامتة ترمقنا بعطف، وتعد لنا أطيب الوجبات. سمعت لاحقاً أنها قتلت أيضاً برصاصة طائشة وهي فوق سطح البيت تستطلع معركة بين الثوار وقوات الجيش داخل المدينة.

ـ سترى العجب من أقرب الناس، ستطل على البشر وتتعرف عليهم بعمق. ستنذهل مراراً ورفيقك يضم قطعة خبز في ظرف عصيب، أو يجبن في لحظة حاسمة أو يزاحمك في الأكل واللبس والشراب. دع عنك أحلام الثورة النقية وشرف مقاتليها فهم ليسوا أنبياء.

سأتذكره طوال أيام الجبل، وما قاله يتكرر بالضبط، وأنا أصلاً غير مؤمن بالثورة والسلاح، لكنها الحرب وتلك الليلة المهولة التي قضيتها في ملجأ شقي والقذائف الإيرانية تتساقط حولي حتى انبلاج صباح المذبحة. زحفت في الغبش  بين الأجساد المجزرة والمذبوحة والصارخة بأيديها المقطوعة وأقدامها المهروسة. عدت ليلاً في القطار الصاعد من البصرة وقلت لزوجتي:

ـ جئتك من الموت.. ولن أعود.

ولم يكن لدي سوى حل واحد هو الالتحاق بثوار الجبل.

أخوض في ذيل القافلة قادما من المجهول وسائراً نحوه. ألزم صمتاً قبرياً، متتبعاً الكتلة الدامسة المتحركة أمامي. تجتاحني رغبة عارمة في البكاء، أحرزها بعناء، فتحتدم في نفسي بارح الأشواق وتلقيني إلى مسافات حزن قاتم، ووجه محبوبتي السمراء مضيئاً ينبثق من أغوار الظلام، من صلادة الصخور، من وحشتي، من وقع الثلج الخافت، وهسهسة احتكاك بنادق المسلحين بالملابس الفضفاضة. قسماتها الشاحبة، المأخوذة بصرخة يأسٍ خرساء تجول في أرجائها لحظة وداعها وهي تقف خلف باب البيت نصف الموارب، ووجه ابني ـ كفاح ـ الضاحك يمد رأسه ملاحقاً خطوي المبتعد باتجاه ضجيج سوق الخضرة القريب.           

 

 

أشـــــــواق

ـ هل سأراك مرةً أخرى؟.

ـ هل سألمس طفلنا.. أحضنه.. أحضنك.. هل؟!.

تأخذني يا حبي الهواجس والمخاوف. قد يعتقلونك رهينة.. قد أموت غريباً في الجبل.. هاهي ثلاثة أشهر مرت بلياليها الباردة، آلامها، كوابيسها. مرت ثقيلة، ودفعتني إلى فضاء فارغٍ مفتوحٍ. سكنتني أشواق لا براء منها. صاحبتْ لحظتي وأنا أتجول بين الجبال والقرى النائية، منفصلاً عن المقاتلين، ساهياً، حزيناً. تتخايلين جواري وحولي في الوديان والكهوف، في صباح الغابة الضاج بالعصافير، وفي ليل الجوامع وأحلامها. أستيقظ على ترديد المصلين الرتيب.. الله حي.. الله حي.. لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله..  أجلس متربعاً على السجادة البالية ملتفعاً ببطانيتي، نائداً معهم في غمرة سكرة الورع، أنود مشرفاً على حافة النحيب، إلى أن يبدأ الصبيب الساخن، فيختلط مشهد صفوف الرجال الورعين المتشبحين بضباب نور الفانوس الخافت ودمعي الدافق ولغط الأدعية والفجر المتسلل من النوافذ المطلة على الوادي وغابة البلوط. أتوسل مع هذه الأرواح المنسية بين الجبال إلى جلالة القادر كي يدعني أراكما مرة واحدة وحيدة. أدمنت هذا الطقس الذي وجدتْ به روحي السلام. وفي مرة وجدني الحرس المناوب أردد وأنا أنود اللازمة المنقذة، مما جعلني في اليوم التالي موضع سخرية المقاتلين:

ـ لم لا تلتحق بحزب الله!

ـ يمكن يصّلي بَسكوتْ!

أين لهم أن يفهموا ما بيّ؟. وحدك يا حياتي من يفهم حيرتي إزاء الأشياء والبشر والدنيا. أصبحت شارداً نَسْاء. تصوري مقاتلاً ينسى بندقيته.. صف رصاصه.. غطاء رأسه، في الجوامع.. في بيوت الفلاحين وخيم الرعاة. وََلكِ أن تتخيلي ما أضاف ذلك النسيان من سخرية أراها بعيون المقاتلين الشبان الأكراد النابضين قوة وحيوية، وهم يتغامزون ضاحكين كلما وقع نظرهم على هيئتي المبعثرة بملابس الفلاحين الأكراد التي لم أتعود عليها بعدُ، مما دفعني للمطالبة بحمل أثقل قطعة سلاح بندقية ـ عفاروف ـ قضمت ظهري، لكنها خففت قليلا من صورتي المخربطة. كنتُ أنوء بحملها أثناء تسلق القمم الشاهقة، لا بل أحتضر، فأستمد العزم من حلم رؤيتك متخيلاً لحظة إقبالي عليك واحتواء رمانتي كتفيك براحتي، فوران الرغبة في عينيك وأنتِ بين ذراعي. سأحضنك.. سأعجنك من أخمص قدميك الصغيرتين حتى قمة رأسك. سأدفن وجهي اليائس في شعرك الطويل. سأهبط إلى قدميك الطفليتين.. سأ.. سأ.. اسمعي يا حلوتي.. أسعد لحظاتي تكون في خلوة الاستحمام في غرفٍ طينية ملحقةٍ بالجوامع حيث تجري في أحواضها مياه الينابيع. كنت تنبثقين مضيئة من ظلال مكتظة بأبخرة الماء الفائر، المتصاعدة من قدرٍ كبير موضوع على صخرتين متباعدتين، يشتعل بينهما الحطب، تقفين إزائي عارية بنهديك الصلبين النافرين، وسرتك الملتفة مثل حلزون، ومتانة فخذيك الزلقين. تقتربين سائرة على صف الخشب المرصوف نحو دائرة التحمم، تلتحمين بيّ.. فأغور في تيهك اللذيذ، ثم أستيقظ على بللٍ وخيبة.. أترمد. أتضاءل. أسقط في يأسٍ موحلٍ. أرتجف.. أرتجف.. أرتجف من البرد وخوفي من ضياعكِ. أتسلل إلى باحة الجامع خفيض السقف. أندس تحت بطانية رثة جوار المحراب. وقبل أن أخفي رأسي، أرمق أجساد المقاتلين المبعثرين بأرجاء الجامع، على ضوء فانوس شحيح، موضوع على رفٍ حجري، ينتأ من الجدار البعيد. أتأمل أجسادهم المكورة، التي تبدو كأسمالٍ بالية مرمية في هذه الأركان المنسية، أسمال حية حزينة، تحلم في غفوتها الخفيفة بالأحباب البعاد، وأزقة الطفولة، وصبح المدارس والجامعات، بالبساتين والأنهار، بدفء البيت، تحلم.. وتحلم لتقتل غداً في كمين، معركة، أو تصطادها الطائرات المروحية التي تأخذ منا بين الحين والحين وجبة.. واحد.. أو اثنين. أو أكثر. ففي قرية "بولقامش" أخذت برصاصها ثلاثين مقاتلاً إلى الرفيق الأعلى الرابض في السماوات البعيدة فأراحتهم من مشاق التجوال والمخاوف ودبيب القمل والجوع وتباريح أشواقهم المضنية. من ناصية وحشتي القاحلة في عتم باحات الجوامع الراجفة بنور فانوس راقص له لون الجمر الذاوي، أتأمل يا حبي مصيري. ليس بفزعٍ لكن بإشفاق.. يا ملاكي بإشفاق..

كم هي حزينة ذواتنا التائهة في شعاب الجبال والأودية؟

نطوف والموت يطوف معنا. نسخر من الطلقة المارقة ظاهراً ونرتجف هولاً في أعماقنا الدفينة، ولكثرة ما رجفنا تجلدت الروح هاربةً من مشاعر الفزع، فالموت أصبح حقيقة صلبة، ونحن نراه يخطف واحداً منا بين الحين والحين. اسمعي يا روحي.. اسمعي عما أحيا فزعي. كنا نحاول عبور شارع مبلط من تحت ربايا الجيش. وفيما كنا نكمن قبيل العبور سمعت أحدهم يهمس للواقف جواره:

ـ كما اتفقنا تصوب نحوي ما إن أصاب ويتعذر سحبي!.

ـ مجنون!.

ـ لست مجنوناً، لو تمتنع أو تخطئ طلقتك.. سوف تجرم بحقي!.

ـ مالك كلما نعبر شارعاً تعيد نفس الكلام المخيف؟.

ـ لم تزر أقبية الجحيم.. فأين لك أن تستوعب مبلغ رعبي!.        

لم أهتم للأمر. فطالما سمعت مثل هذا الحوار، في استراحات المفرزة جوار ينابيع المياه، قبيل النوم وبعد سرد مفصل عما جرى للسارد أثناء اعتقاله. كان السرد اللاهث المصور لحظات الرعب والألم الجسدي يحيل نومنا إلى كوابيس تتمحور حول لحظة الإطباق علينا، كما حدث لمفرزة صغيرة كبست قبيل الفجر وهي نائمة في جامع قرية قريبة من معسكرٍ للجيش. لكن ما أن وطئت أقدامنا إسفلت الشارع حتى انهال علينا الرصاص. انبطحتُ سامعاً خلفي صوتًا:

ـ رفاق أصبت.. لا أستطيع السير.

في ضجة الرصاص، وعلى ضوء طلقات التنوير رأيته مُلقىً على مبعدة أمتار دون سلاحه. كان يدعوني كي أطلق عليه رصاصةً:

ـ ارحمني يا رفيق.. ارحموني!.

صوبت نحوه في لحظة خاطفة متذكراً تفاصيل سرده المرعوب، لكن إصبعي تيبستْ.. لم تقوَ الضغط على الزناد. ومن خلفي.. من ظلام الجهة التي من المفترض أن ننسحب صوبها جاءت صلية أهمدت جسده. في الصبيحة التالية كنت أتفحص الوجوه وجها وجهاً، أحاول الوقوع على من أطلق الرصاص، لكن الوجوه الصلبة جامدة جمود الصخور لا تبيح بشيء. لزمت الصمت.. فمن يصدقني؟. وظللت أهجس بالقاتل الرحيم في كل الليالي التالية، يشاركني ضحكي وخبزي ومنامي، متخيلاً فوهة بندقيته المشفقة وهي تفضي بيّ إلى بوابة العالم الآخر.

هل يسمى هذا فزعاً يا حبيبتي؟.. أم أن الأمر قُدّرَ علينا من قوى علوية، تخلت عن البشر. قوى عاقلة أصابها اليأس من شر الإنسان، فتركته يعمل ما يشاء بأبناء جنسه؟. الأمر سيان يا حبي. وجدت نفسي تزداد ضعفاً أكتمه في سري، وأفضي به في أغباش بيوت الله المبعثرة تبعثر قرى الجبال البعيدة. أبوح به نائداً مردداً ديمومته الراسخة في الأعلى، ناشجاً بصمت. قد تضحكين عليّ يا زهرتي الملحدة، المتوقدة المدلهة بحلم ماركس، الذي دفعك صبية يافعة إلى أحضاني. اضحكي كما تشائين. ففي لحظة ما سوف تتذكرين كلامي، لكن متى؟ وشبح مقتلي يحوم حولي في كل خطوة أخطوها في هذه المَجاهل الشاسعة الوعرة. اسمعي يا من تمكثين في لب قلبي.. اسمعي.. الموت ليس صعباً بالمرة عندما يحل، لكن شبحه الحائم، وما يبعث من أخيلةٍ موحشة هو المضني.. أتدرين ما كان يكمد أوقات خلوتي.. ويذرني رماداً مع مطلع كل فجرٍ؟!!!. كنت أتخيل جسدي البارد مهجوراً في مغارة موحشة، قرب طريق إسفلتي، في قعر وادٍ سحيق، أتخيل اللحظة تلك دونك ودون طفلنا الحبيب. وحشة جسدٍ تلظت روحه بأشواقها واندثرت. جسدي الحميم الذي أذاقك الشهد صافياً.. أتتصورينه ذلك الذي يطيب لك أن تلامسيه بأناملك الناعمة كل ليلة، وتبحثي عنه وأنت في عزِّ النوم.. أتتصورينه مُنَخّلاً بالرصاص، غارقاً في بركةٍ من الدماء، متروكاً في العراء في تلك المناحي البعيدة. أغفو من تعبٍ ووحشة.. لأراك جنبي في مدنٍ بعيدة لا يعرفنا فيها أحدٌ. مدنٌ لا حروب فيها ولا خوف. شوارعها خالية.. مهجورة. نجوب فيها مندهشين من غياب البشر والصمت ومحلات مفتوحة مليئة بما لذّ وطاب. نتجول في أزقة وحدائق وبساتين. ندخل بيوتاً وقصوراً وملاهٍ وحدنا، وكأننا في مدينة من مدن ألف ليلة وليلة الخالية. نتذكر ابننا الحبيب وكأنه مُودَع في مكان آخر من أمكنة الليالي العجيبة. ندخل بستاناً ونغفو متعانقين تحت شجرة تين. كنت أحس بجسدك الساخن لصقي متأججاً مثل تنور، فأمعن في شدة التصاقي، وبغتة يضج الصمت بلغطٍ، فأستيقظ على ترديد طقوس صلاة الفجر لأجد نفسي في حومة غبار الفجر والأدعية وسط أجساد المقاتلين المتناثرة في ظلال زوايا المسجد.

ملكتِ كياني وضمرت دونك كل المعاني. صرت أحلم بك فقط. أحلم متجرداً من كل ماعداك. فمنذ الأيام الأولى تبخرت كل أحلام الثورة وكتب اليسار الماركسي، من الدول والثورة إلى تاريخ الثورة الروسية لتروتسكي، مروراً بمذكرات جيفارا. لم يظل شاخصاً في ذاكرتي سوى وجه الشيخ ـ عطا الطالباني ـ الوسيم الذي أصرَّ على إيصالي بسيارة عمله ـ بلدية كفري ـ الرسمية لعبور نقطة التفتيش عند مخرج ـ كفري ـ  باتجاه ـ قادر كرم ـ. وجهه المرتوي وهو يسألني:

ـ ألديك زوجة؟

ـ وطفل عمره ستة أشهر!.

تَمعنَّ في قسماتي طويلاً، وكاد أن يقول شيئاً، لكنه سرعان ما كبح نفسه ناظراً نحو سلسلة تلال ـ كرميان ـ الجرداء المرئية من جلستنا. انتظرت ريثما التفت نحوي ثانية، فبادرت:

ـ أردت أن تقول شيئاً!.

ـ تساعدني كثيراً لو قلت أي شيءْ!.

أبحر في وجهي، وكأنه لا يراني ثم قال:

ـ سيكون العناء مضاعفاً عليك!.

لم أعر كلامه اهتماماً، لا بل كنت لا أستوعبه، وقتها كنت سكرانًا بالخلاص من هول جبهة الحرب، ومن فكرة خلاصي بالالتحاق بثوار الجبل. لكنني اكتشفت أنني عالجت الداء بالداءِ. كنت أراه في أوقات شرودي، وكأنه في جلستنا جوار قفص الغزلان كان يقلب ما سيصير إليه حالي خلف التلال حيث شفني وجدكِ وحولني إلى كائنٍ دنفٍ لا يروم من الدنيا سوى لقائك. وفي غمرة التجوال والقتال أصبحتِ مبتغاي.. أن أراك وأحضنك ذلك ما كنت أدفع عمري من أجله، ولم يمض سوى خمسة أشهر حتى كتبت للرفاق عشرات الرسائل، مصوراً حالي أفضل وأشجع من بطل رواية ـ الأم ـ لمكسيم غوركي. ومع كل رسالة أحلم بالأمكنة التي سأراك فيها من جديد. أمعنت في مبالغتي وإلحاحي، ناسجاً لهم عشرات القصص عن خطوط وشبكات تنتظر قدومي شخصياً لأنها لا تثق بغيري، مما جعلهم يسمحون لي بالتسلل في صباح من صباحات شباط الثلجية الباردة.. لأجد حالي محشوراً في فسحة الإرسي الضيقة. ممنوعاً من رؤيتك، ومن الخروج، أتقوت على رسائل تبعثينها مع ابن عمتي، رسائل زاخرة بأحلام الثورة فيستعر قلقي، وأنا أستشف منها مدى تورطك مع التنظيمات الحقيقية مما يزيد من رعبي وبؤس حالي، وعندما طلبت منك أن تسعي كي تحصلي لي على قطعة سلاح، حمله لي ـ حسون ـ بعد أيام ومعه ورقة تذكرين فيها أنك بعتِ سلسلة ابننا الذهبية من أجل ثمنه. فرحت بالقطعة وارتعبت منها، ومن حماسك.

ـ يا خالق الأكوان.. في أي ورطة وضعتني؟!.. وكيف الخلاص؟!

 أعيش في صمت مظلمٍ ووحشة أشد إيلاماً من وحشة الجبل. أتسلى بالإنصات لفتات الجص المتساقط من سماوات السقف الدانية الدامسة. أتتبع وقع الندف المرتطمة بخفوت بأشياء المكمن. وأحدق عند خمود البيت من ثقوب بحجم نصف آجرة صغيرة في أرجاء باحة البيت الخالية السابحة في شمس الظهيرة. أنصت لضجيج منتصف النهار، مفكراً في شؤون الخلق والدنيا، لأصل إلى لحظة فراغ الرأس من كل شيء، فأتمنى من أعماقي أن أكون في غير هذا الإرسي المعتم عتمه سرداب، زنزانة، قبر، جندياً في الجبهات وسط الجنود في الخنادق..

أن أكون سائراً في ذيل قافلة البغال، ألاحق كائنات غامضة تمخر عباب ليل الجبل الأخرس..

من جديد.. وجدتني أمسح عناء تلك الأيام الصعبة،

من جديد وأنا في هذا الجب المظلم والصمت والهواجس.. أحلم بالمقاتلين القساة.

لرنة حوافر البغال في اصطدامها بصخور المسلك..

لكسرة خبز جاف واستكان شاي وصحن لبنٍ صغير في غرفة طينية ضائعة في سفحٍ منسي..

لاسترخاء كسول بزاوية جامع قديم

للبرد بكهوف الجبل.. للهاث تسلق القمم الشاهقة..

للخوض بالثلج حد الحزام..

للمسير الطويل المضني.. للجوع.. لليأس الجميل

لاحتمالات مقتلٍ موحشٍ، لكنه مختلف، مقتلِ رجلٍ قائمٍ على قدميه وسلاحه بيده..

لطعم ماء الينابيع..

لجنون الأحلام المستحيلة.. ولذة تذكر الأحباب البعاد..

لكل هذه الأشياء مجتمعة مذاق فريد، لم أكن أشعر بطعمه.. وقيمة أن يكون الإنسان غير مهددٍ بجحيم أقبية، استحالت في المخيلة، إلى قماشة ناصعة من الرعب الخالص، غير مهددٍ بموتٍ ذليل يسبقه عذاب ولا عذاب السعير.

يا ملاكي الغائب..

تمنيت لو ينبت لي جناحان، أحملك وأحلق في الأعالي.. في عمق الليالي.. أقطع سهوب الجنوب الشاسعة.. وأهبط بك على قمة جبلٍ..

أقسم.. أنني سوف أقبل أول صخرة أجد خلفها معك يا حبي الأمان..

 

 

العمة الجميلة

يظاهر الجدار الأصم. وساقاه ترتكز أصابعهما، على حافة الجدار المقابل بفتحاته الأربع. يحملق بمخاريط الضوء الساقطة جواره وحوله وعلى جسده الخامد. ينصت لتخافت بقايا ضجيج ماكينة الخياطة التي هدأت منذ هنيهة، سبقها انقطاع لغط النسوة اللواتي تخافت خطوهنَّ المصحوب بخفق عباءاتهن السود. في سكونه المتحجر.. في معناه الجديد شديد البدائية حيث استحال وجوده إلى مجرد غزال مذعور في غابة.. ضاق معنى الحياة.. إلى مجرد رغبة في البقاء وعب الهواء. اكتشف أن العديد من طباعه قد تغيرت. أكسبه طول المكوث في الحلكة والصمت طباع حجر الجدار المنخور. سكون وعطن.. خواء وتآكل.. تأرجح على حافة الانهيار.. وعدم الرغبة في التحرك حتى أنه عاد لساعات طوال يتحجر تحجر آجرٍ مفخور. يحملق بيده الملقاة جواره، بثنية ساقيه، بفتات الجص المتراكم على قميصه، وكأنها تفاصيل تعود لتمثال قديم في معبد مدفون. يتخافت خطوها الذي يعرف إيقاعه البطيء الخفيف كأنه حفيف أجنحةٍ. إنها تتجه نحو المدخل. كفت منذ أسابيع عن أخباره حينما تغادر. كانت تفعل ذلك في الأيام الأولى، كأنها نسيته في دوى السكون، في تحجره.

كل شيء في هذا البيت المنزوي في زقاق من أزقة وسط المدينة ـ الجديدة ـ يستدعي الصمت. صمتٌ محاط بضجيج الأسواق القريبة واكتظاظ الشوارع بالأطفال الحفاة. صمتٌ مثل بركة يترسب في قاعها حال خروجها الذي عاد في الأيام الأخيرة يكاد يكون يومياً، بل أحياناً تقضي ليلتها عند عمته الثانية في طرف المدينة البعيد. يعدل جلسته. يستند على ركبتيه. يطل من الثقب الوسطي. يلصق جبهته المفتتة ببشرة الآجر المتآكل حول فتحة الثقب المربعة. يتألق الدوي الأليف، نائياً، قريباً. يستكين في بركة خوائه، غير راغبٍ بالنزول كما كان يفعل في الأيام الأولى كلما خلا البيت. ملَّ التحديق المضني عبر زجاج النافذة العالية المطلة على المارة الذاهبين والقادمين من وإلى السوق المسقوف. يحملق بحنيات الأبواب والشبابيك العمياء المستخدمة وسط الباحة كمنصات.. بتقعر قبة زجاج سقف الباحة المنقوش بزخارف ملونة، وطيور بيضاء ترف بزرقة الزجاج السميك، المرصعة أطرافها بشجيرات ورد. يحملق بسقف الباحة المعقود بالآجر، والممتد حتى سياج خشبي يستقيم بارتفاع متر، ترتكز عليه إطارات القبة الزجاجية. خلف قضبان السياج الحديدية في الزاوية المقابلة لمكمنه، رأى ذلك الطفل المذعور يرتجف في البرد جوار أخيه الصغير. كانا يطلان على هذه الباحة المكتظة بالنسوة النادبات، المحيطات في جلستهن الحزينة بتابوت مغطى. كان ثمة عراك في غرفة النوم المرئية من موضعهما. نافذتها المفتوحة على الباحة مسدلة الستارة. تزحزح يميناً محاولاً رؤية ما يجري، دون جدوى، فالباب نصف الموارب حجب المشهد، فلم يرَ سوى أمه وهي تحاول الإمساك بجسد يحاول الإفلات. عاد إلى الحملقة الشاردة بنقوش الإيزار المتشابكة حول حروف آيات قرآنية احتشدت بحرفها الكوفي بين دوائر ومربعات النقوش المحيطة بحافات أجساد الحروف المتفحمة، مفكراً بالميت المخفي تحته، إذ لم يخبره أحد بمن يكون، فأمه تسللت مضطربة بعد أن همست لها جارتهم، فلحقها مع أخيه. وتسلقا السلم المفضي إلى السطح متفادين زحمة المدخل والباحة. وبغتة انفتحت الباب، وظهرت عمته بثوبٍ أسود شفاف. توقفت لهنيهة شاملةً حشد النسوة، اللواتي حبسن عويلهن، ثم خطت نحو التابوت خطواتٍ سكرى. هبطت نحوه راكعة على ركبتيها. سكنت في الصمت ماسكة بأصابعها طرف الإيزار وكأنها تخشى ما يكون تحته. كان يحصر نظره في كفيها اللتين كانتا تنتفضان تارة، وتتخشبان في أخرى، ثم أزاحته من جهة التابوت الأوسع، فظهر وجه زوج عمته الوسيم المستدير مستغرقاً في غفوته. جمدت متكورةً فوقه، ثم ارتمت نحوه، وراحت تقّبلُ بصمتٍ الوجه المستكين. كان لا يستطيع رؤية ملامحها وهي تنحني معانقة المسجي في تجويف خشبته، فراح يتابع أصابعها البيضاء وهي تبحر في أنحائه، في مسارها المنحدر من الجبهة نحو الوجه والعنق والصدر والبطن والساقين. كان الحشد يضج تارة ويهمد، منتظراً خطوتها القادمة. العمة سارحة في نحت الجسد النائم. تحرز بأصابعها التفاصيل التي ستغيب إلى الأبد. عادت إلى الوجه. وحضنت بكفيها الرأس. رفعته كأمٍ ترفع طفلها المريض. وضمته إلى صدرها. شمته، وراحت تنوح مرددة:

              ردتك.. 

                       ما ردت دنيه ولا مال 

كان الحشد ينوح مع نواحها ويئن. جعلته يتكئ في تجويف خشبته. انتصبت متماسكة وخطت نحو غرفة النوم المفتوحة. لاحق خطوها الناحل فوقع بصره على سرير النوم مبعثر الأفرشة. اتجهت العيون نحوها وهي تجلس أمام مرآة الزينة. تناولت مقصاً وقصّت ضفيرتها الشقراء الطويلة. أرجحتها أمام المرآة. نهضت حاملةً الضفيرة على راحتيها المفتوحتين، وغادرت الغرفة. كانت أمي قد عدلت الإيزار ورتبته على التابوت. ارتكزت على ركبتها نصف قائمة جواره، ومدت الضفيرة على الإيزار. باعدت ذراعيها بوضع الصليب، ضمتهما إلى صدرها. تشنجت قبل أن تصرخ شاقةً ثوبها الأسود من الزيق حتى أسفل البطن. وانهالت لطماً على صدرها العاري. متمايلةً راحت تتطوى. تدور حول محورها بصمت وسط العويل والنواح، وكأنها تمارس طقساً بدائياً. لم يعرف وقتها لِمَ مات الرجل وأين وكيف؟. لم ينشغل في السؤال الخاطف سوى لحظة. كان مأسوراً بالمشهد المتجسد في الباحة. العمة شبه عارية تغرز أظافرها الحادة بالنهدين البيضاويين الصليبين، بالوجنتين الشاحبتين، بالعنق. تتطوح نافضة جذعها الأعلى يميناً وشمالاً. تَجَمَدَ عندما رفعتْ رأسها إلى الأعلى، ناظرةً إلى سماء ذلك اليوم الغائم، نضتْ عنها ثوبها الممزق، وصرخت صرخة واحدة مجلجلة غطت على نحيب وعويل النسوة الذي تخافت منبهراً، ليسمع ذلك السؤال الأبدي:

ـ ليش.. يا ربي.. ليش؟!.

وفي لب الصمت الخاطف. أزاحت الإزار ثانية، وسقطت فوق الغافي عارية، ممددةً على طوله. ظلت هكذا دون حراك. فصرخ حشد النسوة المتلفعات بثياب الحداد صرخة واحدة جعلته يرتعد. ويعتنق أخاه المختض، لينفجرا باكيين. ومن غلالة الدمع رأى أمه تسحبها بمساعدة النسوة ليحملنها وهي فاقدة الوعي إلى غرفة النوم. والنسوة يعدن ترتب غطاء الميت واضعات الضفيرة الشقراء المتينة على الإيزار. لاحقاً سيعرف أن زوج عمته تاجر الحبوب والنشط في الحزب الوطني الديمقراطي العراقي قتل برصاص الحرس القومي صبيحة الثامن من شباط 1963، وهو في طريقه إلى محله الكائن وسط شارع علاوي الحنطة.

  يندمج في خواء الباحة غائراً بجسده المتخشب، ينصت إلى الوجيب الخافت القادم من أحشائه.. من أحشاء الجداران، وكأن الوقع الرتيب قادم من سماوات بعيدة. تسربت رطوبة الآجر إلى عظامه، فغار في روح حيطان الباحة المتآكلة من أسفلها. الحيطان الحارزة لوعة العمة الجميلة، وأحزانها، وهي تكتوي بنيران الحرمان والوحدة، وتقاوم بضراوة سيل الخاطبين الذي لم ينقطع إلا بعد زواج أبنتها الوحيدة أكبر أولادها الثلاثة، وفقدان ابنها طالب كلية التربية الرياضية في ظروف غامضة عام 1978 ببغداد. قاومت بصمت حصار أخوتها الأربعة المرعوبين من فكرة ترملها وهي بنت التاسعة عشر. وفي ليلة صيفية سمع أمه تقول لأبيه أكبر إخوانها:

ـ بليتوا المسكينة بلوة. عوفوها. حرام.. حرام.. ما تريد تتزوج!.

ـ أش لون.. بعدها شابة.. والناس رايحة جايه عليها.

ـ الغصب حرام بالإسلام. بعدين قالت أريد أدرس، وأربي أولادي.

سمع أباه يطلق زفرة ويلوذ بالصمت.

اندفنت بين هذه الجدران. الصمت ذاك الصمت القديم.. أدمنته في وحدتها الطويلة، التي تقضيها جالسةً في بحر النهار، جوار عتبة غرفة النوم المفتوحة تحت ناظريه المتوقفين على سريرها المرتب، المنزوي في طرف الغرفة البعيد. كان يمر بها غروب كل يوم، في طريق عودته من دكان عمه الحداد. يدخل من الباب الموارب. يجدها في الموقع نفسه. تحضنه بحنان. يجلس جوارها. تطعمه. وترجوه العودة إلى أهله قبل حلول الظلام:

ـ عمه.. روح من غير مطرود.. أمك تنتظرك على نار.

يرن في أنحائه صدى كلماتها القديمة، الفائحة مَحَنّة وسلامًا. يشم في خلوته الموحشة عبقها القديم المسكر، وهي تعتنقه في المدخل قبل أن يخطو عابراً العتبة إلى ضجيج الغروب. سريرها مرتب فارغ. أي لوعة فركت روحها طوال أكثر من عشرين عاماً، وهي تستعيد حرارة جسد الرجل الذي مرَّ مثل طيف. لايزال يتذكر عريها القديم، نضارة وسطوع بشرتها البيضاء، رقصها المذبوح في إيقاعه الشرس. كم تلظت تلك التضاريس الرشيقة في أتون الشهوات التي تموت بحدود السرير البارد. وأي ليالٍ مضنية تقلب فيها الجسد الناعم على جمر الرغبات المكبوتة.

 ـ أي صبر هو صبرك يا عمة!.

وجد نفسه يصرخ محطماً جموده لصق الآجر المفتت، وهو يستعيد تباريحه المضنية، وافتقاده لسخونة ونبض الشريكة الحميم هذه الفترة الوجيزة، حتى إنه في ليلة غامر متسللاً إلى بيت أهلها القريب حيث تقيم منذ التحاقه بثوار الجبل، لكنه لم يجرأ على قرع الباب، بسبب ادعائها كونه مفقوداً في الجبهة.

عقب المناحة في بئر القبة الزجاجية، وعريها الصارخ وسط حشد الباحة احتشمت. عادت تخفي شعرها بشالٍ أبيض. وتلبس أثواب تصل حد الكاحل، وتكثر من زيارة مراقد الأئمة في النجف وكربلاء. كان يراها في طفولته، حينما يبيت في دارها هارباً من كف أبيه القاسي، تستيقظ في أنصاف الليالي، وفي الأسحار ترتدي رداء الصلاة ناصع البياض، المغطي جسدها من أم رأسها حتى القدمين، مؤطراً الوجه المرتوي، النائر القسمات، ترتل آيات قرآنية من كتاب الله المفتوح بصوت خافت، حتى يؤذن لصلاة الفجر. يشجيه صوتها المتهدج، الشارع بالبكاء وهو يهبط ويرتفع مع إنسراح وشهقة مهابط الحروف وتموجها. يشجيه الصوت.. يشجنه باعثاً بجسده المخبوء تحت الغطاء القشعريرة. كم ود ساعتها لو يزحف نحوها، ليتكور في حضنها الدافئ ويغفو. كان يتمالك نفسه بعناء، ويخلد في شجنه يرمق بعينين حالمتين، يختلط فيهما النعاس ببقايا الأحلام جلال مشهد العمة المرتلة على ضوء الشموع، القائمة في شمعدان طويل العنق، ينتصب جوار سجادتها المفروشة في مساحة الجدار الفاصل بين الغرفتين. يختنق بالعبرة الحبيسة التي تنطلق ما أن تنهمك في السجود والقعود والقيام، فيضيع نشيجه الخافت في اختلاط أصوات المؤذنين المتداخلة، والمنطلقة من مكبرات أصوات المآذن الكثيرة المصوبة من قعر أرواح الناس نحو سماء الله. تظل في قيامها وقعودها وسجودها إلى أن يغسلها ضوء الفجر الفضي المعتم، المتسرب خلل زجاج قبة السقف، والذي سرعان ما يوشح الجسد المتوحد بوجده، حاسراً مساحة ضوء الشموع الناري.. حتى يسقط في نومٍ عميقٍ ما أن يراها تمسح وجهها براحتيها المفتوحتين محدقة نحو السماء بضراعة، وتطوي السجادة.

ظلت تجلس في ذلك الوضع نفسه، جوار عتبة غرفة نومها. تنتظر ابنها الذي سافر إلى بغداد ذات جمعة ولم يعد. اصطحبها مرة إلى العاصمة، دارا بين الأقسام الداخلية، غرف أصدقائه في الحيدرخانه، قاعات المحاضرات في التربية الرياضية، شوارع الرشيد، الجمهورية، السعدون. سألا إدارة الكلية، الأساتذة، ولم يستطع إخبارها بما أسر له أحد أصدقائه الذي همس له جانباً عن خطفهم له من باب الكلية.

أدمنت الحملقة الشاردة بالمدخل، وصمتها القديم ذاك أختلط بلوعة أمرّ من الأولى. عيناها معلقتان بأذيال ستارة الباب الخارجية. تتوقع دخوله كل مساء. ورغم أنهم بعثوا بطلبها، ليخبروها بقتله ودفنه سراً. لم تكف عن الانتظار المفتوح.

في السنة الخامسة لانتظارها، وجدته يتسلل هو سراً إلى الدار في غبشة مساء مغبر. انتفضت من سكونها قائمةً. أخذته إلى صدرها، فشم عطرها القديم المسكر، المعطر سني طفولته الصعبة. راحت تتلمس جسده بأصابعها قطعةً قطعة وكأنها تريد الوثوق من حضوره الساخن، ناحبةً مرددةً:

ـ عمه.. أنت حي يا عمه.. أنت حي. قالوا أنت مفقود يا عمة.. يا بعد روحي يا عمة.

*   *   *

 

فوهة الخلاص

تتآكل قسماته من حوافها. تنث ترابها القديم. تتحلل عائدةً إلى عناصرها الأولى. يتطاير غبارها من ثقوب الآجر. يغيب في الظلال الوارفة، في أغوارها. يطفو في مخاريط الضوء المتشظي بأرجاء الباحة، في الأركان والسقوف والحيطان. يلهو متراقصاً في الزحمة المتلاطمة، في فيض موج الضوء العاري، متفادياً، مصطدماً، معانقاً غبار ملايين الذوات المفتتة منذ الأزل. كائنات تتفتت إلى عناصرها الأولى، حية في مهرجان وجودها الأزلي. يتتبع بعينيه الساهيتين بقايا قسماته بغبارها وهي تغادره، منفصلاً عن محنة وجوده في المكان، عن التفاصيل. يلتحم كيانه بذرات الغبار.. ذرات الخلق، وأنفاس كائنات غير مرئية تلوذ أبداً في خواء الأمكنة القديمة، في الظلال المنسية، في البساتين، في بقع الضوء الضائعة وسط الظلال. يستيقظ من غفوته المتشربة بأرواح أولئك المجهولين القائمين في صمته. تنحدر ذراعه المغبرة هابطة على الفراش اللين المترب، تندس كفه تحت الوسادة لتحضن المقبض البارد. تهبط على نفسه السكينة كلما لامسه، سكينة تخالطها خشية من احتمالات جبنه لحظة المواجهة المتوقعة. كم تخيل في لياليه الطويلة مشهد العثور عليه، وكفه تلتف حول المقبض وأصابعه على الزناد.

ـ هل يجرؤ على تصويب الفوهة الحالكة إلى القلب، أو الصدغ؟.

ـ هل سيجرؤ على الضغط؟.       

ـ هل لديه الشجاعة الكافية للإقدام على استقبال الطلقة المخلصة؟.

ما مقياس الشجاعة والجبن؟ وهو يجد نفسه في بعض المواضع شديد الجبن وفي أخرى شجاعاً حد التهور!.

يتراخى مظاهراً الجدار، وهو يستعيد أشد لحظات جبنه وقعاً على نفسه، تلك التي وقعت له في نضجه. يتذكر كيف صفتهم الشرطة العسكرية في مساء مظلم وسط ساحة صغيرة محاطة بعربات قطار قديمة، أعدت كسجن مؤقت للجنود الهاربين والمخالفين. كانوا قد قبضوا عليه لتأخره عن موعد التحاقه بوحدته. في ربكة خطا الجنود المسرعين للانتظام بصفين. كان يحاول الوقوف في الصف الثاني الأشد عتمة من الصف الأول الواقع في مستطيل الضوء المتسرب من غرفة قلم الوحدة الخشبية. انضغط بين الأجساد المسرعة تحت ضربات هراوات الشرطة البلاستيكية المعبأة بالحصى، مما جعله يتذمر بصوت مسموع قائلاً:

ـ.. شني القضية؟!.

قامت القيامة. وران صمت حجري على الهاربين المذعورين. وعريف الشرطة العسكرية يطالب من القائل التقدم خارج الصف:

ـ إذا كان أبن أمه وأبيه، فليخرج!.

 التفتَ نحوه. كان يقف مباشرة أمامه، وكأنه يطلب منه الخروج لإنقاذ الكل من عقاب جماعي كان يتوعد به العريف الشاخص في المكان الأعتم. كان يختض حابساً أنفاسه، متخيلاً الضرب المبرح الذي سينهال عليه في حاله خروجه، سيكون قاسياً مضاعفاً لتذمره ولشجاعة إقدامه على الخروج. لولا الظلام لفضحه ارتجاف جسـده. حركة المسجون الذي التفت جلبت إليه العيون، مما جعلهم يسحبونه إلى وسطهم، وينهالون عليه ضرباً بالهراوات، وركلاً بالأقدام وهو يقسم بأنه لم يقل شيئاً، وكان قوياً وشجاعاً، إذ لم يشِ به، ولم تصدر عنه صرخة ألمٍ رغم قسوة الرفس والضرب الذي جعله يتكور تحتهم واضعاً يديه حول رأسه المضموم إلى حضنه. كان يتمزق من هول الضربات التي من المفترض أن تكون حصته.. من مبلغ جبنه الذي يكتشف فداحته تلك اللحظة.. من شعورٍ بالخزي والعار لن يفارقه كل العمر، والجندي المدمي يعود إلى الصف، بعد أن كَلّتْ أيديهم وألسنتهم من بذيء الكلام والضرب. في طريقهم نحو عربات الحديد القديمة، يقترب منه يهمس في أذنه:

ـ بشرفي أنت ناقص!.

في الظلام الدامس، في لحمة الأجساد المكدسة في ضيق العربة، في بردها الصقيعي غط بنضحه، بعاره وأنت ناقص ستبقى ترن في نفسه كل العمر. مصحوبة بسؤال:

ـ هل أنا جبان إلى هذا الحد؟!.

سيحتقر نفسه. سيخجل وهو في الذروة بفراش الزوجية. سيقضي ليالي الإجازة الشهرية في السكر والنحيب. سيخفي جرح كرامته عميقاً. فلمن يبوح بهذا السر؟ وماذا يقول؟!. سوف يجد نفسه ليس جديراً بحبها المجنون، غير جديرٍ بأبوته. سيختلف إيقاع علاقته بالآخرين. سيصبح وجلاً، غير واثق من كلامه، سيطيل من الانفراد بنفسه. سيقلب الأمر طويلاً وعميقاً باحثاً عن سر هذا الجبن وجذوره.

أتكون تلك التجربة من غَيّرَ أحواله؟. أيكون ذلك الرعب المادي المحسوس في الكتلتين البشريتين المجاورتين لموقعه في زنزانة ضيقة في الأمن العام، من زرع بنفسه الجبن ورسَّخه إلى هذا الحد المخزي؟. كتلة مشوهة القسمات، عارية مسلوخة الجلد تهذي في حملقتها الخاوية ببقعة جدار السماء الأزرق خلف شبكة قضبان النافذة الصغيرة، سادرة في عالمها الجديد، تحاور أشباحها السابحة في فضائها الخالي من الألم. والكتلة الأخرى تلتفت نحوه مستنجدةً، صارخة:

ـ يا بوية.. تخبل أخوي.. تخبل!.

ثم انهال لطماً على قسماته المتورمة. وقتها لمس بعمق بشاعة الإنسان في قسوته. ورغم ما ذاقه هو من صنوف التعذيب، لم ينس ذلك المشهد المصحوب بصراخ رعبٍ قادمٍ من الأنفاق البعيدة وزنازين البواطن الغامضة، فظل يرتعد كلما خطر في خياله المشهد ذاك. ظل يرتعد ويشحب كلما أقبل نحوه شرطي سري يعرفه في السوق، في المقهى، في الشارع، في مكان عمله. صار يرى في الوجوه المريشة أبواباً تفضي إلى جحيم أمكنة لا ترى إلا في كوابيس المذعورين. حرز كل ذلك الرعب في أعماقه الدفينة. وصار وجوده منذ إطلاق سراحه في مساء صيفي من مساءات بغداد مجرد ذات تقاوم رعبها المكين. ذات تحاول العودة إلى سويتها الإنسانية. لكن يبدو أن الفزع استحال إلى جبنٍ وإلا كيف يفسر صمته وهم يضربون إنساناً بريئاً بسببه ويظل ساكتاً؟

ـ ناقص.. ناقص.. ناقص، على قد كياني.

هل هروبي من الجيش جبنٌ من الموت أو موقف أحاول به تقويم إرادتي المكسورة، وللتخلص من خزي موقف جبني ذاك؟!.

هل تسللي من الجبل جبناً من مشاق الحياة هنالك أم شجاعة؟!.

هل كل ما يجري ما هو إلا محاولة لملأ خواء النفس، والتطهر من رجس مشاعر إثمٍ؟!.

هل سأجرؤ ولا أصاب بالجبن، وأضغط عند المواجهة على الزناد؟.

هل كل ما أقوم به هو مجرد اختبار إراده؟!.

اختلط عليه كل شيء في هذه الزاوية المغبرة المظلمة، في هذا الصمت. أختلط وهو يجد نفسه راكباً هذه المغامرة الخطيرة التي لا تُعرف نتائجها، غير واثقٍ من شيء. لا يعرف ماذا يبغي. وحلم قربها أصبح نائياً، لا بل أشد نأياً مما كان عليه وهو بين رجال العصابات في الجبل. أصبح الأمر أكثر تعقيداً مما ظنَّ، فبدلاً من متعٍ كان يحلم بها هناك وجد نفسه في قيعان رعبٍ أحالت ليله ونهاره إلى كابوس متصلٍ، وخاطر الانقضاض عليه في أي لحظة يحوم كل الوقت، مصحوباً بشعورٍ بالعجز لم يختفِ إلا حينما جلبوه له. يتذكر كيف أخذته فرحة عارمة في الليلة الأولى التي استكان فيها المخلص تحت وسادته، المختصر رحلة أنفاق الجحيم المؤدية آخر الأمر إلى الفوهة المظلمة نفسها، الكامنة الآن بين ريش الوسادة وقطن الفراش. ظل يدس كفه في الظلمة الطاغية متلمساً برودة الحديد ونعومته، فتتغلغل في روحه السكينة، وتشعر أنامله بألفة ولذة وكأنها تمسد فخذ الحبيبة الأملس الطري. كم مرة حدق في الثقب الضيق الشديد الحلكة المؤدي إلى بيت النار؟!. كان يضع الفتحة بمواجهة مخروط الضوء الذي لا يضيء سوى مسافة قصيرة، فيقوم الظلام على حافة الضوء مثل جدار. كان يحدق شارداً، يفكر في الكون اللامتناهي، بأقماره وشموسه ونجومه السابحة في يم الظلام الأبدي الطاوي هذا الوجود الغامض. أليس الظلام هو الأصل، وما النور إلا لطخة منسية في غوره العظيم. ألا تبدو الشمس في يمه السرمدي كإصبع ضوء خافت، كاحتضار نور شمعة على وشك الانطفاء في ليل حالك لا قمر ولا نجوم فيه. ما عمر الكون، النجوم، الشموس، الأرض، البحر، وأي شساعة في ظلام هذا الوجود الغامض. وما تفاهة عمر الإنسان وتفاصيله، حروبه، أحقاده، آلمه، معاناته. ولماذا رغم وساعة هذا الكون يجد نفسه محشوراً في حلكة غرفة علية، يحملق في الفوهة وبئر ظلامها الناصع، وهي بدورها تحدق في الشحوب الذي غزا قسماته. شحوب من يطيل المكوث في الأمكنة المغلقة المظلمة الرطبة القديمة. تحدق الفوهة منتظرة ولوجهُ إلى باطنها الرحيم الخالي من الألم.

ـ تباً للإنسان!.

يتابع طرف سبابته اليمنى وهي تلج طرية في دائرة الزناد الضيقة. يبحر في استكانتها لصق نتوء الزناد، متخيلاً رجفتها قبيل الضغط، فيغور بالتجويف دافعاً الإبرة، فتنتأ واخزةً كعب الرصاصة التي تنطلق مثل برقٍ لتستقر في طراوة ودفء أحشاء الرأس ذاهبةً باضطرابه، وبالجسد إلى روح الغبار الساري في الظلال.

هل تجرئين يا أيتها السبابة على الضغط؟.

هل تكونين قارب نجاتي؟.

هل؟.

أو أنت يا سبابة ستخذلينني كما خذلتني الدنيا، وتركتني مذعوراً، مهجوراً، قانطاً في حجرة من العتمة والغبار، أزجي الوقت بالأحلام والمخاوف معذباً بالرعب الذي شوه ملامح عمتي الجميلة، وجعلها مطعونة محتقنة. تتحاشى التواجد معي في غرفة واحدة. وفي الأوقات القليلة التي أتمكن فيها من النزول إلى فسحة الدار تلزم الصمت وكأنها في حضرة كائن حجري. عدت لا أسمع صوتها الحبيب إلا في صباحات عطلتها المدرسية المشمسة، عندما تجلس إلى ماكينتها لتخيط للنساء أثواباً. كنت أتلصص عليها من الثقب وهي تأوي إلى فراشها البارد مبكرة. تلتحف بالغطاء، وتظل تحملق مشدوهة في ظلال المساء النامية في الزوايا ومداخل أبواب الغرف. أتأمل سكونها الطويل إلى أن يلاشي الليل الغرف والأبواب، والحيطان المنخورة وسريرها القديم والباحة بصبيب حلكته الباردة وكآبته الموحلة. تأخذني التباريح والوجد إلى حافة النحيب:

ـ لماذا يا عمة؟ أنتِ مثلي قانطةً وحيدة في هذه المساءات الحزينة. لماذا لا نطرد وحشتنا ولو إلى حين، بحديث ما، أي حديث يخلصنا من فداحة الصمت والرعب. ناديني يا عمة.. نادي ولو مرة واحدة ودعيني أنزل إلى جوارك. أتناول لقمةً معك. حدثيني عنك، عن أبي، عن حزنك الدامي، عن ابنك الغائب. نادي يا عمة.. أنتظر ذلك كل مساء، وسماع صوتك صار حلماً وقت الغسق الحزين، وقت تخافت ضجيج المدينة. ويموت حلمي على عتبة صمتك وأنت تلوكين خبزاً دون غموس، ترتشفين شاي المساء الخفيف، ثم تنسلين إلى سريرك.. لماذا يا عمة.. يا عمة قد أقتل قريباً، وأنت تعرفين أنني انصعت إلى شرطك، فلم أدل زوجتي على مكاني. مثلي هذه اللحظة مثلك، أرمل، فاقد الزوجة والابن، مذعور مثل ذعرك.. لا أدري متى ينقضون عليّ، في مكمني هذا أو أثناء خروجي الشحيح ليلاً لرؤية الأمكنة والشوارع ونوافذ بيوت الأحبة والأصدقاء. أنشج بصمت معاتباً قلباً كان يحنو عليَّ في طفولتي، ويضمني في حضنه الدافئ من قسوة أبي والناس، وكنت أشتكي إليه، وألوذ فيه أياماً وليالي.

تخفت المرايا. تشحب الأضواء. تهمد الكائنات الدقيقة وأرواح الظلال. يستلقي على الفراش. يتمدد في الحلكة عائداً إلى لعبة الإنصات وتخمين مواقع سقوط فتات الجص والآجر. سيفرزه الليل نحو بوابة كوابيسه. وأرق سهره القادم من أصوات بواطنه المبهمة. سيوتره صوت محرك سيارة يخفت، صفقة باب، خطى أقدام، سيستخرج المسدس قاطعاً أنفاسه، متردداً بين الانتظار لمعرفة جلية الأمر أو إزاحة زر الأمان ووضع الفوهة على الصدغ النابض بذعر. يصيبه حقد مباغت على الفوهة الباردة. يود ردمها. لم يكن يظن أنه متعلق بالحياة بهذه الكيفية الآخذة في التعمق مع تقادم أمد عزلته. ورغبة عارمة في الظهور والتجوال في شوارع طفولته، في مصافحة البشر.. كل البشر الطيبين والأشرار السائرين في شوارعها وأزقتها وشاطئ نهرها، الجلوس في مقاهيها، السباحة في فراتها المثقل بالطين، الضياع ببساتين المدينة، في.. في.. في. يجرفه الحنين إلى النخيل والعصافير، الفيء وحافات السواقي، الطيور الرافة في سماء العصاري، إلى عراك نسوة على الأرصفة، إلى صياح الديكة في الفجر، إلى بوابة ثانوية ـ الديوانية ـ للبنات النافثة من باطنها جوري الصبايا، إلى.. إلى حضن زوجته وطفله.. يحترق.. يتجمر.. يترمد. ينطح الحائط الخرب رامياً المسدس نحو باب الإرسي الصفيحي، ويعود إلى نشيجه المكتوم.

 

 

نافذة المساء

أصبحتُ وحيداً، غريباً. أكاد أفتقد توازني الهـش، وأدخل مساحات الجنون.

- ما جنيته من ذنبٍ يا ربي؟

أسأل نفسي كل لحظة هذا السؤال. وبعد أن أقلب تجربة عمري أجدني، أكثر من بائس، أبأس من مسكين وكنتِ المسافة الوحيدة التي أنارت ليل أيامي الدامس.     

يومي هباء، وأوقاتي خواء.

 مع اقتراب الخميس، يتحول شعور اللاجدوى، إلى انشغال جدي، يجعلني أمعن في احتقار نفسي، وما حولي من بشرٍ وموجودات، فابتداءً من المساء سأمكثُ متحجراً على فراشي في الإرسي. أُقبَر حتى مساء الجمعة، موعد مغادرة بنت عمتي وزوجها وطفلهم، الذين يزورون عمتي مرتين في الشهر قادمين من ناحية بعيدة تابعة لمحافظة ديالى. سينامان في الباحة تحت برجي تماماً. المسافة بين فراشهما وموقعي لا تزيد على ستة أمتار. زوجها ـ مدير ناحية ـ ومسئول حزبي. ستة أمتار تفصلني عن بوابة جهنم. ستة لا غير. سأستعين بروح الحجر القديم كي أعبر ساعات الليل، وبالتحديد ساعات نومهم. ستة أمتار وعشر ساعات ألبس فيها ثوب الحجر وكيانه، ممنوعاً من السعال والعطاس، الشخير وأي صوت. سأحبس أنفاسي. سأختنق برائحة البراز الذي ألفه بأكياسٍ من النايلون أكورها جوار العتبة. سأتوخم في الحر والباب مغلق. ستزكمني رائحة البول الذي أفرغه في قناني عريضة الأعناق. سأضطر إلى التقليل من شرب الماء. سيجف حلقي عندما يصدر مني صوت ما مسموع. سأتجمد مرات وأطل من الكوة كي أعرف رد الفعل، لينبسط مشهد مساء الباحة تحت ناظري، أحتدم غيظاً والرجل يجلس على كرسيٍ وثير حملته عمتي من غرفة الضيوف. يضع ساقاً فوق ساق، وأمامه على المنضدة العريضة أنواع المزات، صحون حمص مسلوق، باقلاء، سَلَطَات، شرائح لحمٍ مشوية، كرزات، فستق وبندق ولوز. يطلب من عمتي وضع شريط لأم كلثوم. يتمايل بجذعه الأعلى وهو يدندن بخفوت مع ـ فكروني ـ. يرتشف من كأسه، أحترق.. كم بحاجة أنا، إلى كأس خمرة، لكنها من قائمة الممنوعات الطويلة التي وضعتها مقابل إيوائي. ستظل عمتي تدور بين المطبخ والمنضدة، تغير صحون المزة التي تفرغ. تحضّر العشاء. تنتهز لحظة عودتها من المطبخ حيث تكون خلف ظهره، لتختلس نظرةً خاطفة نحو الثقوب الأربعة. من المؤكد أن رعبها يفوق رعبي، وهي تتخيل لحظة عثوره علي، أو مجرد شكه بوجود رجل في بيتها. كانت أوقات إنصاته للأغاني أوقاتاً مريحة. أستطيع خلالها التنحنح، السعال الخفيف، البصاق، التبول، الضراط.. أفعل كل هذه التفاصيل الفسيولوجية وأم كلثوم توفر لي الغطاء. أفعلها بلذة ليس لها مثيل، فبعد ساعة أو ساعتين ستصبح مستحيلة وأنا أدخل طوري الحجري في المسافة الفاصلة بين منتصف الليل وقيام ضجة النهار. أشعر بالحيف، وصاحب الكرش المخمور، بوجهه المتورد، وبشرته المصقولة اللامعة، وقسماته الجميلة، وصوته الأنثوي الآمر وهو يطلب ما يعنْ له، يسترخي في الباحة، غارقاً في حنو عمتي.. أنهضم، وأحاول إيجاد الأعذار لها. هل تداريه خوفاً على ابنتها التي يضربها أحياناً ضرباً مبرحاً كما أخبَرتهُ يوماً قبل الحرب، أم أنها تبالغ في خدمته والعناية به، وافتعال الأحاديث طوال الوقت الذي يصمت فيه المسجل كي تلهيه وتحرف انتباهه عن موقعي؟!. أتجرد من الأسباب والنتائج، ويتألق في ضجيج المسجل والحديث، صمتها المضني حينما نكون وحدنا في البيت.. في الدنيا.

أين أنتِ في هذه اللحظة؟!.

أين يا حلوتي؟.

أجدني أخمن مكانك بعد ظهر كل خميس،

هل تذهبين مع أهلك لزيارة الأضرحة المقدسة في النجف وكربلاء؟.    تحضرني الآن كتلتك الملتهبة وأنا أحضنك من الخلف جوار شباك الضريح المذّهب عند اشتداد الزحمة. أشعر برجيف ظهرك المنتصب، ليونة قامتك المشدودة خلف العباءة. أهمس لك بموقع اللقاء. أدع الكتلة البشرية تفصلنا. تتملصين من العائلة، وفي طريقنا إلى الغرفة التي استأجرتها في الفندق، كما يفعل كل عشاق مدن الفرات الأوسط. يبتدئ اللمس، وأصابعي تندس من كم العباءة إلى ما تحتها، تصعد وتنزل على جنبك الساخن، على نهدك الرامح الصلب اللدن القريب. تغمضين عينيك، وترمقينني برغبة طافحة، يتقد جسدك، تكادين أن تهوي بين ذراعيّ خلف عامود رواق الفندق. أسحب ذراعي، تتماسكين وتعدلين وضع عباءتك. وفي الغرفة المعتمة القذرة نمتلك الدنيا كلها بسمائها وأرضها. نغور في تيه خدرٍ سنتذوق طعمه إلى أخر العمر.

هاأنذا ألملم شتاتي المبعثر في الأغبرة والعتمة. أرتكز على ذراعي ساحباً جسدي، أرخي ظهري إلى الجدار، ألبث متعاجزاً قبل أن أتمسك بالجدراين المتقابلين وأنهض. أخطو نحو الباب بقامة محنية تتفادى الاصطدام بالسقف، أهبط على السلالم الحجرية الضيقة المتآكلة الآجر، عند آخر درجة أنكسر في انحناء شديد. ألج من تحت منضدة مبردة الهواء. أعب أنفاساً عميقة من هواء الباحة الخالية في سكون العصر. أعبُ نافثاً الأغبرة المثقلة نَفَسي. أشعر بالباحة تتمايل، القبة الزجاجية تدور وتتكور متدحرجة، الحيطان تتباعد بغرفها وأبوابها ومشاكيها ونوافذها، والبلاط ينحدر تحت قدمي. أتمسك بمساند المنضدة دافعاً ظهري نحو الزاوية القائمة بين كتلة المبردة والحائط. قدماي شرعتا بالانزلاق على حافة أخر بلاطة مالت. تشبثتُ محملقاً في الانحدار المريع، بالقبة المتدحرجة نحو قاعه. لففت ذراعيّ حول مسند المبردة الخشبي المتين. التحمت بالخشب مطبقاً أجفاني. ضمختني رائحته، فوجدتني ألوذُ خلف أكداس الخشب بدكان أبي القديم، أستنشق رائحة نشارته المنتشرة من لوح خشب الصاج، التي ينشرها أبي بمنشارٍ يدوي. أختبئ ساعات منصتاً لضجيج الشارع، لصوت المنشار الوالغ بأحشاء الشجر الميت. أتتبع عروق الخشب في الظلال الكثيفة، العروق المشكلة في مساراتها المتشابكة وجوهاً بشرية، أشجاراً، أنهاراً، أقماراً، شموساً، كؤوساً، حراباً، سيوفاً، كائنات تضحك وأخرى متجهمة، وجوه حيوانات خرافية أراها حية تكشر في وجهي، فأهرع راكضاً من مخبئي، أدفن وجهي في قميص أبي، فيترك المنشار ويحضنني مردداً:

ـ اسم الله بويه.. اسم الله.

فتتغلغل السكينة إلى نفسي شاماً رائحة جسده المعروق الطيبة. أباعد أجفاني شاعراً بقدميّ تستقران على البلاط الصلب الراسخ. أنفصل عن تدوير المسند. كل شيء بمكانه، الجدران ساكنة والقبة معلقة فوقي، وفضة ظلال العصر، أشياء المشاكي المنحوتة. يصيبني هذا الدوار كلما نزلت من الأرسي. أرتد إلى حضن أبي طفلاً. أرتد إليه في محنتي. أراه وأشمه، أحضنه وأذوب على صدره هو الذي غادر الدنيا وأنا بين ثوار الجبل. أظل أحلم بزيارة قبره في النجف. أحلم.. كيف الخلاص من ورطة الحياة هذه؟. أرمق صفحة السماء الظاهرة خلف قضبان سياج القبة. الغسق على وشك الهبوط. أحس بالوقت، وما أن أهبط من الإرسي الحالك حيث يكون الشعور بالزمن ضعيفاً أول الأمر، ثم يصير معدوماً مع طول المكوث، إذ يتكثف إلى عناصره الأولى الضوء والظلام دون تفاصيل وفوارق وتدرج. الوقت ضيق. يتوجب علي إعداد لوازم فترة التحجر والصمت قبل حلول المساء، قناني البول، الخبز، أكياس الغائط، ترموس الشاي، دورق ماء  وبن مطحون أمضغ مسحوقه الناعم المر كلما تأرجحت على حافة الغفوة. قبيل الصعود الأخير إلى كتلة الظلام المعلقة، أحاول تفريغ مثانتي وأمعائي، والأخيرة غالباً ما تتماسك منقبضةً بشدة، لتنبسط حال قدوم الزائرين، فأتلوى في الحلكة ريثما تستحكم الخمرة بالزوج ويتعالى صوت المسجل، عندها أفرشُ كيسي جوار البـاب. أتسابقُ مع المساء. أكوم أكياس عدتي على الدرجة الثانية من السلالم. أسحب جسدي المحشور بين ركائز حامل المبردة. أستدير مسرعاً نحو المدخل فالغرفة المطلة نوافذها على الزقاق. أصبح لقدمي دربة لصٍ محترفٍ، ولجسدي القدرة على الانحراف والاستقامة والانحناء والولوج من المنافذ الضيقة والواطئة دون تخديشٍ للصمت المطبق على الأمكنة التي أحلّ فيها. في الزاوية المنحرفة المعهودة ألوذ. أمدّ بصري خلل زجاج النافذة ومشبكها الصدئ المغبر، ملامساً أجساد المارة المطلية بلون العصر، الذاهبة والقادمة في الامتداد المؤدي إلى سوق المدينة. لإطلالة عصر الخميس مذاقٌ مختلفٌ، تشبه الإطلالة الأخيرة. أرتحل في الوجوه، فيء الحيطان، أرجوان الشمس المنثور على الجدران المقابلة لمكمني، أرتحل في شحوب القسمات لحظة مغادرتها ظلال العصر واغتسالها في فيض السماء الدامي. نسوة يتشحن السواد، رجال يعتمرون العُقل، جنود، صبايا واسعات العيون، حشود من الأطفال.. نهر من البشر يموج تحتي، عشرات المعارف الذين يثيرون المزيد من الشجن. حبيب الأجرب، رياض لفته، حسن شطاوي، ناظم كتان، مجيد حرز، فليح حسن شيخ كاظم، ناظم جاري، وحمود الخياط الذي يا ما سكرنا في دكانه وسط السوق المسقوف آخر الليل. الكل يعتقد أنني مفقود في الجبهة، الكل يتصورني تحت التراب. فكرت طويلاً يا أميرتي، وقلبت الأمر، فوجدت لا فرق بين ما يعتقدون وكينونتي الآنية.. لا فرق.. أنا بحكم الميت. أسكن قبري المعتم الذي يشبه من الداخل تجويف تابوت كان يقبر أشياء قديمة، أدراج خشبية منسية في جوفها ملابس زوج عمتي البالية، أزيار خل جدتي المهجورة منذ موتها، صندوق عرسها الخشبي المرصع بالشذر والأحجار الملونة. اختنقت بغبار السنين المندثرة وأنا أنقل هذه الأشياء بمساعدة ـ حسون ـ إلى الباحة بغية التخلص منها. حللت مكانها وانقبرت لا فرق.. الأحبة المارين في نثار الأرجوان والفيء المتوجهين نحو نافذتي والمدبرين، الأحبة المجهولين والمعروفين أكاد أشم رائحتهم.. ألمس قمصانهم.. أكاد.. أكاد... حلم مستحيل.

 صرتُ مثل روح يا حبيبتي.. روح غير مرئية غادرت الجسد الفاني، روح هائمة، تدور في العتمات والأمكنة، روح تتحاشى التجسد للأحياء كي لا تثير فزعهم.. تتأملهم من الزوايا والأركان المنسية. صرت روحاً يا روحي تصطلي بحلم الدفء واللحم والآخر والبيت والشارع. وبغتة اخترقني صوتك. اضطربت. توترت. تشنجت أصابعي الممسكة بإطار الشباك الخشبي. أمد بصري. أدوره.. من أين يأتي؟!.. من الشارع أم من أوهام ذاكرتي المحشودة بأحلام أخيلتها؟!. أتكونين خلف النافذة؟.. و.. و.. أسمع نبرتك الفريدة، واضحة قريبة هذه المرة.. وأنت تنادين وتمازحين بنتًا جميلة تقف ضاحكةً بمواجهة موضعي. أطفر إلى الجهة الأخرى، أرمي بصري من الزاوية المقابلة. لا أرى شيئاً. ثمة غشاوة انسدلت على عينيّ، مضافة إلى غشاوة الأتربة المتراكمة على مشبك السيم الصدئ. أصبح من العسير تحديد ملامح الوجوه في ضوء الغروب. أفرك عينيّ متخلصاً من الغشاوة البيضاء. أعاود الحملقة. أقتحمني صوتك هذه المرة قوياً.. قريباً، مباشرة خلف النافذة. أشب على أصابع قدميّ. أميل مجازفاً بالاقتراب من زجاج النافذة. باغتتني قسماتك دانية، لا يفصل بيننا سوى سُمك الزجاج. بخطوك المتأني ووجهك الباسم تدخلين مسافة نافذتي، يباغتني وجه ابننا المدور الجميل، يحدق نحوي ضاحكاً وكأنه يراني. أشبُّ، أتلظى بناري وأنت تستكملين احتلال فضاء النافذة. تستديرين بقامتك الرامحة نحو البنت الواقفة على عتبة بيت مقابل. تبادلينها الكلام.. استديري نحوي يا حلوتي.. أريد أن أراك من هذه المسافة. أريد التحقق من ملامحك التي ضببتها الأحلام والأخيلة. الرغائب والذاكرة. أردتك أن تلتفتي كما صغيرنا مرة واحدة.. ستغيبك الحافة الجارحة.. هاأنت تشرعين بالخروج من فضاء نافذتي، ودون وعي وجدتني أضرب عارضة النافذة بقبضةٍ مضمومةٍ مما جعلك تجفلين ملتفتةً صوب عتمة الشباك، ناظرة بعينين مدهوشتين فزعتين. أتشرّبُ ملامحك المضببة، بأغبرة المشبك، والزجاج المغبش بأنفاسي المتلاحقة. لحظة واحدة خلتها دهراً. لحظة أسكرتني، وجدتك فيها أكثر حلاوة وكأنني أراك أول مرة طالعة من مناحي أحلامي. أصحو على فراغ فضاء النافذة. أهرع راجعاً إلى زاويتي المعتادة. أتابعك.. تبتعدين.. ألاحقك.. ستمرين أمام باب البيت.. أركض مثل مجنون نحو المدخل. أزيح ستارة القماش. ألصق عيني بثقب المفتاح. يجيء حفيف العباءة أولاً.. و.. وتقتحمني رائحتكِ العذبة الظالمة المُعذبة. أمد يدي بجنون إلى الأكرة. سأفتح الباب.. سترين وجهي، فتدخلين فوراً.. سأسد الباب. قلتُ لنفسي ذلك في اللحظة البارقة تلك وطرف عباءتك المرفرف في الريح يخفق خشب الباب وفتحة المفتاح وروحي. أتخدر بضوعك الأليف. أستجمع وشل شجاعتي الغاربة كي أستطيع سحب درفة الباب. يملؤني خيال عناقك.. ضم جسد ابننا.. سأشبع بكاءً.. سأبلل رقبتك التلعاء.. سا.. سا.. سس.. سس.. يغرقني سيل حفيفك.. أزحزح كفي القابضة أكره الباب باغياً سحبها. تعصي متمنعةً والسواد يشغل سماء الثقب ويغيب. تنحل أصابعي وتموت فوق الأكرة. وجسدك المحتشد النابض يتلاشى في شحوب المساء.

فأسقط متكوماً على بلاط المدخل حاضناً الستارة القديمة. أنتحب نحيب مذبوح، وأحدق عبر غلالة الدمع الفائر المنسكب بالمساء الذي احتل الباحة المهجورة بلون ظلامه الشفيف.

 

 

أخيلة الرغبة

همدت الأصوات في الباحة. أصبح لوقع الأقدام الحافية حفيف خفيف، ولتردد أنفاسه المضطربة، فحيح يتدّور حلقات، في الصمت، في سكونه العميق المترسب أسفل آجر الجدران. سينطفئ مصباح الباحة بعد لحظات، لتسقط حلكة ماحقة تجعله لا يميز أصابعه، حلكة سرعان ما تحتشد بحفيف الأغطية، بالهمس الأنثوي الناعم. ستهمد الأصوات لحين، ثم يتعالى حراك كعراك يجري في بحر الفراش، مصحوب بتمنع غنج، وخوار فحولي مكتوم. سيتسلل ضوء القمر الخافت. سيكتم لهاثه المتصاعد مع شدة اللهاث المتأجج القادم من قعر الباحة. يحتدم، يتوتر وآهات أنثى متقطعة، آهات تمتزج فيها اللذة بالألم، آهات تخترق سكونه الحجري، فيتلظى بسعير الأحشاء النابضة. يصل التوتر أشده، يستيقظ حيوانه النائم، يشهر الحجر خنجره. سيمتطيه وينسيه حاله، يصير جذوة مضطربة تحبو على أغبرة الفراش، يتطّوى الحجر الحي رافعاً قامته رويداً.. رويداً بأناة وحذر شديدين، يقترب من الفجوات الأربعة. فجوات الفضة الحالكة. سيطل بعينيه المتحجرتين متفرساً في الباحة الغارقة بظلال القمر، يضّيق حدقتيه مركزاً على الكتلة المعتمة المتحركة، مستدلاً بالأصوات الخافتة المتقطعة المنطلقة من حراك الكتلة، يستلذ متتبعاً آهة، أنة مكتومة، تردد ضربات كف مبسوطة على فخذٍ مصقول، همس غزلٍ مكشوف. سيجهد ناظريه المفتوحين مستعيناً بالذاكرة، فيتجسد في احتدام الكتلة فخذي بنت العمة البيضاوين، الممتلئين في التفافهما حول ظهر الزوج العاري. سيحتقن، ينمحق. سيطبق فخذيه بقوة على نتوئه العنيد، الرامح، خارق الحيطان والظلال، والتائق إلى التماهي في الكتلة اللحمية العارية المشتبكة في عراكها الصاخب. سينتبه إلى وميض عينين خلف النافذة.. سيتجسد أمامه عريها القديم، الدامي، وهي ترتمي على جسد زوجها الراقد في تجويف خشبته بنفس موضع فراش الكتلة المحتدمة. سيصطلي بمزيج من المشاعر المتناقضة، شعورًا بالذنب مخلوطًا بشهوة عارمة، سيعض شفته السفلى كابتاً صرخة لوعة تكاد تنفلت، والجسدان العاريان يتدحرجان بعيداً عن البلاط نحو رقعة بلاط منارة بضوء القمر، فيما الزوج يهذي عن رغبته في إكمال المضاجعة في الضوء. سيحرز في ما تبقى من أيام العمر ذلك المشهد الساحر. المؤخرة اللدنة، البيضاء في ارتجاجها وهي تتدحرج على البلاط. الهمس المضطرب والآهات المتحولة إلى صرخات تصدر عن اشتباك السيقان والأذرع والأصابع العابثة في الخصر والنحر وأسفل الأفخاذ والمؤخرة والنهد والبطن. سيسقط تحت منافذ القمر الأربعة، مبتل الوسط، محطماً، خائراً، عاجزاً، يشعر بالخزي والعار. ستلبث أشلاؤه منثورة في الظلام ساكنةً يستولي عليها روح الحجر وطبعه. سيبقى ريثما يسقطون في النوم. سيلعن نفسه مراراً.. يزدريها. يتناول جرعة ماء وكسرة خبز وتمرة، ويقسم بأنه سيكف عن هذه الإطلالة الآثمة.

همدت الأصوات في الباحة. تلاشى آخر همسٍ في السكون. حاول أن يسيطر على وقع أنفاسه المتسارعة بسحب شهيق عميق بهدوء، ونفث الزفير بهدوء أشدَّ. انطفأ الضوء. عمَّ الظلام أول لحظة، ثم سرعان ما بهت بتدفق أربعة شلالات من الفضة. قدر من وهج ضوئها أنه تام الاستدارة، كما أن الزوج طلب من عمته إزاحة دريئات نوافذ القبة الزجاجية، معنى ذلك أن الليلة ستكون أشدَّ من عسيرة، وهو الذي أقسم بروح أبيه على التحجر هذه المرة في موضعه وتجاهل ما يجري في بئر الباحة. أتى الحفيف المخيف والهمس المتمنع الغنج. حشا أذنيه بإبهاميه، فتعالى ضجيج الأحشاء النابضة داوياً في تحجره الصامت. قاوم مخيلته الطافحة بمخزونها عما يجري تحت، في نهر الفضة الغاسل حواف الثقوب. قاوم الرغبة المحتدمة في الزحف والإطلالة على الجسدين اللذين سيتعريان بعد لحظات. تجّلدَ بالضغطِ على فجوتي السمع المرهف القادر على سماع مقدمات الغزل الناعم المتحول لاحقاً إلى غزلٍ بذيء يسمي الأعضاء الحميمة بأسمائها في طقسٍ بدائي يجعله يقشعر، ثم يشتعل صاعداً هابطاً، متأججاً منطفئاً، فيتأرجح على حافة الجنون. قاوم غواية مياه القمر اللامعة المتدفقة من فتحات الإرسي الأربعة مضيئةً ترمس الشاي، أكياس البراز، صحون الطعام، وآنية البول عريضة الفوهة. انفصل عن الجدار المقابل للفتحات. استند على ركبتيه، واستدار تاركاً الضوء خلف ظهره. أنشأ يحملق بالعتمة ساداً أذنيه سداً محكماً، هوى في صخب جسده. لا يدري كم من الوقت ظل ضائعا في ضجيج أحشائه. خدّره ذلك الكون السري الهادر تحت الجلد والقائم قيامة الإنسان، والمنسي، وفكر لِمَ لمْ ينتبه سابقاً لكون أحشائه في انشغالها الدؤوب على مدار الساعة. لا يدري كم أمضى في رحلته الجديدة، حينما شعر بالجدارين يتباعدان، وجسده ينزلق ببطء على أرضية من بلور. ينزلق ملاحقاً همساً بالكاد يُسْمَع يناديه باسمه، همس أنثوي يدعوه للقيام. أستخرج أصابعه من خرمي أذنيه. طلع من دوي الأحشاء الضاجة، وأصغى متتبعاً ذيول الصوت المنزلقة على الانحدار الأملس الذي أنفتح أمامه بالجدار.

ـ تعال.. تعال.. تعاااااال!.

همس يجر الألف جراً، بدا أكثر وضوحاً هذه المرة. انتفض بكل جسده راغباً بالخروج من هذه الاستيهامات واختلاط الأخيلة والأمكنة والأصوات. وجد نفسه يظاهر ثقوب القمر في حلكة الإرسي الباهتة، لكن صوت الأنثى الهامس يدعوه للنهوض.. راح يتعالى.. ويتعالى صادراً من مكان قريب جداً، وكأنه خلف الباب.

ـ تعال.. تعال.. تعال!.

اجتذبني الصوت الآسر. تلفتُ حوالّي. مازلت في المكان نفسه. في ليل خميس، وهذه عدتي مصفوفة في الفسحة الضيقة المحصورة بين الفراش والجدار. أصبح النداء متصلاً يأتي من جهة الباب. لكن من تكون؟. وإلى أين تريد بيّ؟. وكيف لي أن أتحرك؟.

ـ قم.. قم!.

لهجة آمرة فيها سطوة، لهجة سعّرتْ رغبتي وفضولي. لكن أين تقف هذه المنادية الغامضة، فخلف باب الصفيح فسحة ضيقة وسلالم أضيق تنزل نحو الباحة، وأربع أخرى تصعد نحو السطح. أتكون صبية من صبايا الجيران اللواتي يعرفنني جيداً، رصدتْ وجودي دون أن أدري. صبية أشعلها الليل بنزواته الحمقاء الطاغية، ودفع بها إلى عبور أسوار السطوح الناصية المتلاصقة، للوصول إليّ. أطربني الخاطر بما يعد به من مباهج لذاتٍ وأسرار. لم يزل النداء الهامس يتردد. حزمت أمري منفصلاً عن الجدار. بركت على ركبتي، حبوتُ نصف قائم على قطن الفراش المغبر. وجدت الباب بعيداً. أخذني العجب وامسكني الريب. كيف نأى، وصفيحه الصدئ يلامس أحياناً قدميّ عند النوم. اتكأت على راحة كفي ونهضت. ازداد ريبي والسقف الخفيض وجدته عالياً، حينما لم أضطر للانحناء كي لا يصدم قمة رأسي، فرفعت ذراعي دون أن أبلغ آجره المتآكل. أسرعت نحو مصدر النداء الغاوي. لا أدري كم قضيت من الوقت حتى بلغت الباب. وجدته على حاله. الهمس يتدفق واضحاً من ثقوب الصفيح. سحبت المقبض الخشبي الصغير. لم يأز الباب، بل انفتح بيسر عكس كل مرة. وطأت الفسحة الضيقة التي سرعان ما اتسعت بينما بقيت السلالم الصاعدة والنازلة على ضيقها. النداء الهامس يأتي من فجوة السلالم النازلة إلى الباحة، معنى ذلك أن صاحبة النداء ليست من صبايا الجيران، ففي الباحة يرقد الضيوف وعمتي. تلكأت قبل أن أضع قدمي على الدرجة الأولى. فمن موقعي أستطيع رؤية طرف من الباحة المضاءة بالفضة المنسكبة من السماء. سكنتُ بين الدرجة الأولى والثانية متوجساً مما قد يحدث لو أستيقظ من في الباحة. الصمت الصلد محشود بنغمة الأنثى المختبئة في المسافة بين السلالم والجدران وحامل المبردة.

ـ لا تخفْ.. لا تخفْ.. أنزلْ!.

هبطت على السلالم المنخورة. أنقل خطوي الحذر ببطء شديد. وقبل أن أصل نهاية السلالم وجسد المبردة الساد مدخلها، وجدتني أنحرف، بأثر الصوت، في ممرٍ محفورٍ بالجدار الأيمن لم يكن موجوداً أصلاً.

ـ تعال يا بعد روحي.. تعال!.

نبرة أمومية دافئة، تبث حنيناً شجناً، لها وقع صوت أمي تارة، ووقع صوت أنثاي البرية بالغة الفتنة والغواية في أخرى. مزيج فريد يتلون في الصوت القادم من عمق الممر الضحل الذي أفرزني من شقٍ في نهايته، فوجدت نفسي في متاهة صخرية معقدة التضاريس. أقفُ عند حافة خيوطٍ صخرية كثيفة تنحدر من مرتفعٍ خطوطه شلالاتٌ من الضفائر الصخرية تتموج في ضوء خافت ينبعث من أمكنة خفية.

ـ  تعال.. تعال!.

مفردة تهبط عليّ من التل. تسلقت بيسرٍ رغم نعومة الصخر، فأطللت من جبهة مستوية تمتد مسافة على تضاريس شاسعة. تذكرت أطلاله مثل هذه من فوق قمة جبل ـ قرة داغ ـ. كنت مرهقاً، أتسلق جبلاً أول مرة وجواري كان يقف مذهولاً من بساط ـ شهرزور ـ الأخضر، ـ كريم مهدي عبود ـ الذي التحق معي بالثوار. عببت هواء القمة النقي بعمق. وشعرت بالحرية بعيداً عن الحرب ورجال الأمن، وكنت أظن بأنني بلغت مرامي من الدنيا. وقفتُ مذهولا أرمق آماد المتاهة الصخرية، ثم انحدرت لأتيه في دروبها والصوت الغاوي تواري في صمت الصخر. هبطتُ إلى مشاحيف صخرية شاسعة لها شكل العيون. تشبثت بأهداب. انزلقت على سطح خدود ناعمةٍ. تقلبتُ على جمر شفاه مكتنزة. هبطت من سفوح إلى امتداد ألسنة طرية زلقة. وقعت من أحناك صخور مختلفة الأشكال إلى أعناق تلعاء. أحسست بالتضاريس تنبض وأنا أتشبث بحلمة تلٍ كي لا أنزلق إلى وادٍ عميق محصور بين تلين. ضعت في منخفضات كالبطون، في فناجين سرر، وفي خواصر ضامرة أقع من حافتها إلى هاوية شق يفصل كفلي صخرتين. أهبط على صخور مستديرة كأفخاذ، وأعانق نتوءات كأقدام. أسقط من أصابعها إلى ضفائر شلال صخر فاحم. أتسلق من جديد إلى إطلالة الجبهة المستوية، لأجوبُ أرجاء المتاهة، علنّي أسمع صوتها أو أعثر على الممر الذي أفضي بي إلى لعبة الشعر والوجه والعنق والصدر والبطن والفخذين والقدمين والسقوط من أصابعها إلى نقطة البدء. وجدتني أصرخ بعدما أهلكني الدوران:

ـ أين المخرج يا إلهي؟!.

لم يخرج صراخي. وجدتني معقود اللسان. أأكون في باطن كابوس؟!.. تلمست جسدي قطعة.. قطعة. أيقنت من وجودي ووقفتي فوق سطح الجبهة المستوية الشاسعة. أطلتُ الوقوف شبه عاجز، فما الفائدة من هذا الجوبان المفضي إلى نقطة البدء في كل مرة. أحسستني سأتحجر خلف حزمة دغلٍ صخرية تحدد مسافة الجبهة. وتمنيت التحجر ونسيان كل قصتي بتفاصيلها.

ـ تعال.. يا بعد روحي.. تعال!.

أيقظني الصوت من هاجس التحجر. انحدرت خلفه هابطاً من جديد في وهاد وسفوح وشقوق وقمم التضاريس. وفيما كنتُ أنتشل جسدي من تدوير فنجان السُرَّة الصخرية الواسعة الساحرة، سمعت الصوت الحميم المثير يأتي من فوهة نفقٍ معتم. ولجته. غمرني الظلام. سقفه يكاد يمس رأسي. أخوض بأحشاء الحلكة. أمدّ ذراعي أمامي فتضيع في مجاهل الفراغ. لم أدخل هذا النفق مرة في ضياعي بشساعة المتاهة الصخرية. ظللت أقلبُ أرواح الظلام الهائمة إلى أن اصطدمت أصابعي بجسدٍ صلبٍ يسد النفق. تحسست سطح الحاجز، صفوف نتوءات حجرية لها ملمس المعدن، تتقاطع طولاً وعرضاً. وفي موضع سُرَّةْ الحاجر تَدَوَرَ في راحة كفي مقبض. حاولت تحريكه، فتدور نحو اليمين. شعرت بالحاجز يتزحزح. دفعته، ثمة أثر ضياء باهت يلوح في البعيد. عبرت العتبة، ألاحق بعيني المتحجرتين ارتعاش الضوء الخافت. جددتُ في السير حتى بلغت سواحله. ورحت أخوض في وحل نورٍ رث لا يضيء بل يزيد من بهمة النفق الذي ابتدأت جدرانه بالتباعد، وسقفه بالارتفاع. وبعد مسافة انبثقت من جانبي أضواء بدت أول الأمر مثل بقعٍ أخف دكنةً. أضواء قمرية، فجرية، نارية، بنفسجية تتسلل من ثقوبٍ بحجم نصف آجرة تمتد على مسافات منتظمة على طوال الجدارين،مئات المنافذ على اليمين، مئات المنافذ على اليسار. تعبت من العَدِّ.

ـ أدخلت متاهة أخرى يا إلهي؟.

مازال الهمس الأنثوي يفح وكأنها تسير لصقي واضعة فمها على فتحة أذني. الهمس.. الهمس.. المهلك أخذ بالتذاوي مع تصاعد أصوات مختلطة طفت من قعر الفتحات الواطئة أسفل الجدارين. أصوات متداخلة مزيج من غنج الأنثى وخشونة الفحل في حوارٍ غامض يسبق فعل الخوض في الأحشاء. حوار تحول إلى طقطقة عظام، صرخات خافتة، ارتطام جسدين، ضربات كف مفتوح على طراوة لحم لدن، ثم تعالى الخوار والصراخ.. أشعلت كياني ملايين الآهات. أغرقتني بفيضها المنهمر من ثقوب الآجر الملونة. لم ينفع ردم خرميّ أذنيّ بأصابعي. طفقت بالصراخ متوتراً. صرت مجرد قضيب محتقن. صرخت.. صرخت مقاوماً رغبة ماحقة في الانحناء نحو ثقبٍ لرؤية ما يجري. قاوَمتُ بضراوة، وأنين اللذة تدفق وكأنه أبدي. قاومتُ حتى سقطت مجهداً جوار ثقبٍ. بركت في بحر الصراخ المضني. بركت مثل متصوفٍ إزاء ربه. أطللتُ على قعر سرداب يضج في الآهات والأنين. رأيت الكتلة العارية المكورة المتقلبة المطلية بنور ثلاثة فوانيس معلقة في الزوايا. كتلة تطلق أصوات بدائية مختلفة النغمات. تتوحد في المجهول. تلتف. تنبسط. تنتصب. والأذرع في زحمة الصراخ والعراك انشطرت إلى أضعاف عسيرة العد. تصعد إلى ناصية سرير قصير القوائم. تسقط من الجهة الأخرى. رأيت بوضوح وجه بنت عمتي الصاعقة الجمال في تجليه لحظات اللذة. حسدتُ زوجها الأملس الوالغ في أحشائها. يذهبان في تقلبهما إلى الأركان البعيدة، إلى الظلال المبهمة. يظهران من جديد في المساحات المضاءة. يتكتلان بشدة. كتلة صارخة تنحدر لتغيب في زاوية السرداب عن ناظري. تصيرني مجنوناً. أدفع رأسي. أحشره في ضيق الثقب. أفشل في رؤية الكتلة الصارخة النازفة في ركن مستحيل بلوغه من ناحيتي. أنتصبُ مهرولاً في نفق اللذة الهادر. أبرك جوار ثقبٍ مقابل. أطل من جديد على الكتلة الممتزجة في عناق ليس له مرسى، في لحمة لا فكاك منها. أتبدد في مهرجان الجسد. أتمدد متوتراً، شاهقاً في سماء فراغي، صارخاً مثل منارة جامع أبان الأذان. تتحجر عيني على الكتلة الآسرة في تضاريسها المسفوحة العارية. أهناك معنى لبلوغ ذروة ما في هذا الجنون الهادر في سراديب الضوء التي أتنقل بينها كلما اختفت الكتلة في الزاوية العصية؟. أهناك معني والذروة قائمة في صراخها الدائم بلا زمن؟. عندما حانت مني التفاتة نحو جدار السرداب المقابل ارتعدت. كانت عينان خضراوان تطل على المشهد، تنقل نظراتها العاصفة بيني وبين العري الصارخ المسفوح. سقطت في التباس الأمكنة والمعاني متسـائلاً:

ـ أين أنا؟!. وما متاهة اللذة هذه؟!.

حشرت أصابعي بأذني، وانطلقت بأقصى ما أستطيع، ركضت.. ركضتُ.. حتى النفس الأخير في امتداد العتمة المضاءة من أسفل بأضواء المنافذ، هارباً من سعير الجسد المجنون، إلى أن وجدت نفسي في فسحة دافئة، رطبة وكأن جدرانها من اللحم الساخن الحي. فسحة أطللت منها على فضاء مساحة حميمة، حانية تنتهي ببناء مكورٍ يبدو خفيضاً من الدكة التي أقف عليها. حدقت بالجدران فطالعتني عشرات العيون المحدقة صوبي. عيون واسعة شبقة تحاصرني في الصمت ودفء المكان، وتدفعني دفعاً نحو شقٍ ضيقٍ بنتوء المبنى المتكور وكأنه امرأة تحضن وليدها. أمتصني الشق الرطب، وألقاني في باطن عنق صخري يبدأ ضيقاً، ثم يشرع مع كل خطوة بالاتساع. لملمس جدرانه طراوة اللحم المبتل. إنسرحت في التجويف مسترخياً، أتأرجح على حافة السكرة وعبق روائح أمومية، شهوانية يهب من العمق السائل الحار. روائح هي خليط من رائحة حضن أمي وجسد حبيبتي العاري الملتصق بعريَّ في ليل السرير. رسوتُ جوار عامود من أعمدة، تحمل سقف قاعة تشكل جوف الشكل المكور الذي رأيته من على الدكة قبل الدخول. جوف حميم، نابض، مضاء بأنوارٍ خافتةٍ تتسلل من مشاكٍ مخبوءة بالزوايا والأركان وزخارف الحيطان والسقف. نور يسيل وكأن القاعة غاطسه في قاع بحرٍ. نور هو خليط من زرقة البحر ونصاعة النزف. حدقت في السلالم القصيرة المؤدية إلى دكه واسعة تتوسط التجويف. حدقت في الصمت، في النصب الحجري المنحوت بامتداد ناصيةٍ تنبثق من مركز الدكة، قضيب حجري مدور يرتفع عدة أمتار، وفي أسفله تتلوى حلقات مختلفة السمك تضغط على جدار القائم المنتصب، فيبدو للرائي أكثر توتراً. سحرني النصب. أطلت التحديق فتراءى لي نصباً من لحمٍ حي لزجٍ حار جعل حيواني الغافي يستيقظ مستعيداً لحظة الإيلاج في ذروة الاحتدام، وذلك الضغط الفريد لعضلة الفرج الخبيرة بلحظة المحق عند الوصول إلى الناصية الخاطفة اللافظة الفريدة. أمسكت بوسطي الموجه فوهته نحو النصب الذي شرع بالتحرك والدوران على إيقاع صراخ وآهات جعلتني أنتبه إلى دكة مستديرة أسفل النصب. وجدتها محشودة بالبشر العراة. يتماوجون في سوائل الأضواء النارية المنصبة من مشاعل يتراقص وهجها على طلاوة النهود والأفخاذ والمؤخرات. حشدٌ متكتلٌ يفترق زوجاً.. زوجاً على البلاط الناعم السائل. احتقنت وتراً مشدوداً محبوساً جوار فخذ العامود الطري. تحولت مجرد قضيب أتمايل على إيقاع الأجساد في اتساقها مع هزهزة النصب المترجرج بالصراخ المتلون الصادر عن الكتل العارية المتألمة النازفة في عراك لبلوغ الناصية المحيرة. كنت أهتز ولم يوقفني سوى دهشة أخذتني من وتري إلى الوجوه المنغمرة باللذة والتي استطعت تشخيصها عند تدحرجها في البقع المضيئة البعيدة عن ظلال النصب، وجه أمي وأبي، أعمامي وزوجاتهم، أخواتي، النسوة اللواتي حلمت بالنوم معهنّ. مهرجان من نسوة أحلامي الحميمات في طفولتي ومراهقتي. توترت من جديد، توهجت. أحسست بجسدي يبثق ناراً. انفصلت عن فخذ العامود الساخن وتقدمت نحو الدكة المستديرة الصارخة المهتزة أبغي الذوبان في الكل. تقدمت عارياً وكأنني أغوص في قاعٍ لزجٍ. وما أن وطئت حافتها حتى أحسست بدفقٍ من سوائل لزجة يجرفني بعيداً ويلقيني في العماء.

 

 

رؤيا المدينة

أيقظني صوت ناعمٌ يدعوني للنهوض، ساكناً في باطن العماء، مطبق الأجفان وكأنني لم أسمع شيئاً. حاولت التذكر. ثمة سديم يتلاطم في رأسي. مددت ساقيّ، اصطدمتا بجدار رطب. أبعدتُ ذراعي إلى الجانبين، لاصقتا جدار هو الآخر لزج وجدتني أتكئ عليه. استرخيت وجعلت أتنفس هواء حضني بهدوء. أين أنا الآن؟. في أي بقعة من الوجود؟ من أين أتيت وإلى أين أريد؟!. أسئلة تدور، وتضيع في عتمة هوجاء تعصف بكياني.. كأنني تخلقّتُ تواً من رحم الرخام.

ـ قم.. يا روحي.. قم!.

ضمختني النبرة الحانية بالطيب، وأذهبتْ فزعي وذهولي قليلا. الصوت ناعم، قريب، دافئ، مصحوب بأنفاس أليفة.

ـ قم يا مسكين!.

أنها تردد نفس عبارة أمي حينما تجدني في موقف حرج.

ـ من تكون هذه الأنثى؟!.

وبغتة ازدحمت مخيلتي بوجوه نسوة، خارجات من أبخرة السديم، غائبات في نواحيه البعيدة. حشد مسرع أربكني. وجوه تنضح بالعافية. وجوه ساحرة أخذت ردحاً من زمني. وجه أمي، عمتي، أخواتي، خالتي، زوجات أعمامي، بنات الجيران، زميلاتي في الجامعة، رفيقات مقاتلات توطدت علاقتي معهنَّ في الجبل. وجوه نساء فاتنات الجمال رأيتهن لمرة واحدة في أسواق المدن، الأضرحة، الأزقة الضيقة، خلف النوافذ، الأبواب. وجوه تخطف وتغيب. وجوه دون أمكنتها، صافية، مجردة، تشي بقصصها معي، أغرقتني بأحاجي مطلسمة لا أول لها ولا آخر، وكأنها حدثت لي في أزمنة غابرة. لم أتزحزح. وفسحة التذكر زادت في غموض وضعي. لبستني روح الرخام اللين في تكوري على البقعة المجهولة بين حوائط ناعمة. أنتظر في برهة صمتٍ حلت منذُ هنيهة.. أنتظر ما سأكون عليه في اللحظات التالية، إلى أن شعرت بوهج الأنفاس العطرة يلفح جسدي حياً نابضاً:

ـ قلتُ.. قم يا روحي.. قم.. ما الذي فعل بك كل هذا؟!. 

ـ …!.

ضممتُ وجهي بين ذراعي المشتبكتين. أحكمت الطوق شاداً على محيط رأسي، غارقاً في اللهاث:

ـ من تكون يا إلهي؟! من؟!.

أكملت قائلة:

ـ من الذي طمسك في هذه الأجواف السحيقة؟!.. هيا أعطني يدك.. هيا!.

أصابع رخصة تنبض حناناً ربتت على رمانة كتفي. خف توتري. وضعتُ كفيَّ مبسوطتين على رأسي المطأطأ. شبكتْ أصابعي. لفحتني الأنفاس ورائحة الجسد الحميم المنحني فوقي.. أنها رائحة عمتي الجميلة التي طالما عببتُ منها لحظات العناق في طفولتي البعيدة، وحين عودتي من سفرٍ طويل.. رائحة ظل عطرها الفريد يؤنس وحشتي في الأوقات الصعبة في الجبهة وحرب الجبل، في الزنزانة ووقت الخطر. تزحزحت على حفيف ثوبها المحتك بجسدي. رفعت رأسي ببطء شديد وكأنني أريد البقاء غارقاً في العطر المدوخ، هسيس الثوب، ملمس الأصابع الناعمة الصغيرة، ولهاثها المتلاحق الخفيف. فتحت عيني. حدقت في الوجه المنحني فوقي. لم أتبين شيئاً، فالقسمات تظاهر نورًا أزرق باهتًا ينفذ من ثقوب بدت بعيدة. قلت لنفسي: أنها عمتي إذن.. وخلفها ثقوب الإرسي والباحة. أأكون كما في الخميس الفائت، حينما أنهكني السهر والتوتر طوال الليل، فسقطت في الصبيحة التالية في النوم حتى المساء، مما جعلها تصعد لتوقظني. فرحت للخاطر موقناً أن ما جرى لي في متاهة الصخر، ومتاهة السراديب لم يكن سوى كابوسٍ من كوابيس رعبي. أنهضتني. انتصبتُ بمشقة. كان جسدي يوجعني من مواضع عدة كأن أحدهم أوسعني ضرباً مبرحاً:

ـ أتشعر بألم؟!.

هززت رأسي، أردفتْ:

ـ لطول مكوثك دون حراك.

سحبتني برفق من ساعدي. يممتْ صوب الباب، أو هكذا ظننت للوهلة الأولى. لكن بدلاً من باب الصفيح والسقف الخفيض وجدتها تخوض بي في أحشاء ممر أرضيته وسقفه وجداريه من رخام رطب، متجهة نحو بقعة الضوء الشحيح اللائحة في الأعالي. ارتقينا سلالم من المعدن، حلزونية. يرن على درجاتها الضيقة وقع أقدامنا رنيناً يضيع صداه في صمت التجاويف السفلية. أفضى بنا السلم الطويل إلى فسحة حجرية انتهت بخمس درجات مضاءة بنور باهت يتسرب من شقوق في باب عظيمة. أما زلت في أمكنة الكابوس؟!. والتفت نحو اللصيقة الماسكة بكفي بين أصابعها. كنا على حافة الفسحة الزرقاء. حملقت من الجانب في العين الواسعة والأنف، والحاجب والجبهة، الفم والوجنة الناحلة. حملقتُ بذهول. لم تكن عمتي. إنها امرأة أخرى لكنها أليفة أيضاً. تحسستُ أصابعها الصغيرة بأصابعي. ليس أخيلة إذن بل وجودها حي ينبض. لحمها بين أصابعي. ليس ثمة كابوس.. ليس!. والتبست برأسي الأفكار والأحداث والمشاهد والأزمان والمعاني. الوجه أليف، حميم، منقذ في وحشة هذه الأمكنة الغريبة. رفعت إحدى قدميها لتصعد الدرجة الأولى. عاندت بجسدي مثبتاً قدمي على حجر الفسحة. أضطرب خطوها. تلكأت قبل أن تتوقف مستديرة نحوي. أصبحت بمواجهتي تماماً، مضاءةً بالزرقة الباهتة. رمقني بعينيين حنونتين. أبحرتُ في عسل الحدقتين الصافي. أبحرت في الغور اللذيذ. أبحرت، فاهتززتُ من الأعماق بغتةً.. إنها جارتي ـ نادية ـ زوجة مصلح إطارات السيارات الأعور السكير الذي وجدوه في فجرٍ شتائي بارد ميتاً جوار صندوق قمامة مدخل الشارع.

ـ أتكون هي من ناداتني في تحجري الخميسي بالإرسي؟

ـ كيف عثرت على مخبأ؟

ـ ماذا تريد مني؟

ـ وإلى أين تبغي بي في هذه المتاهات؟!.

تفجرت الأسئلة فيما كنتُ مسفراً في التضاريس القديمة التي عاشرتني في طفولتي وصباي. كنتُ أزجي وقتي باللعب في حوش دارهم الواسع. أعطش فتسقيني، أجوع فتطعمني رغيفاً ساخناً تستخرجه من التنور. أقضي سحابة النهار على تراب دارها. أتسلق السدرة الشاهقة، أختل بين شجيرات الحديقة الصغيرة وسط الحوش. أبحث في حلكة حجرة المخزن المعزولة بطرف الفناء في الأواني القديمة والخرق البالية. أمكث وقتاً طويلاً أعب من روائح الملابس المتروكة والحيطان المنسية والأخشاب والأواني النحاسية الصدئة. أعبُّ من وهج أنفاسٍ تنبثق من ركام المتروكات. أضيع ساعات تبدو عندما أتذكرها وكأنها أزمنة أخرى، مطلقة، حاضرة في كل حين، وقتها في الطفولة، وفي التذكر لاحقاً، وفي تأملاتي الشاردة في صباحات الاختفاء والجبل والجبهة، وفي هذه اللحظة وأنا أقف جوارها جنب السلالم المؤدية إلى الباب العظيمة المتسرب من شقوقها الرشيقة نور فجر بعيد. ومن غمرة ضياعي اليومي بين الأشياء القديمة أيقظني فخذاها العاريتان اللتان كانتا أليفتين أموميتين، فطالما وقعتا تحت ناظري أوقات لهوي في حوش دارهم الفسيح من نافذة غرفة المخزن الصغيرة، لكن تلك المرة مختلفة.. أربكتني، وجعلتني التجئ في الأيام التالية إلى تلك الغرفة المهجورة بقصدٍ مسبق، منتظراً بلهفة ـ كنتُ لا أعرف دوافعها ـ لحظة انشغالها في غسل الثياب في الطست الخزفي المدور جوار حوض حنفية الدار. أكمن خلف نافذة المخزن المتطرف منتظراً لحظة هبوطها الممتعة على تخت خشبي ناصٍ نجره لها أبي النجار الذي كان يتسلل إليها، كلما احتدمت مشاكله مع أمي الصارمة، في تمنعها عن مشاركته سرير النوم عقب عودتها من مكة. أكمن مهبولاً  بلدانة بياض الفخذين المنفرجتين. أتتبع قطرات الماء المتناثرة من الطست، والسائلة من أعلاه إلى حافة اللباس العريض المتهدل، لتغيب في منبت السر وجذوة النار المطلسمة في الغابة السوداء الرابضة كدرعٍ فوق النقطة الحائرة. أتتبع النقطة الناصعة إلى حين غيابها. أتتبع القطرات. من غرفة المخزن، من العتمة، وجدتني أسقط في أمنية مستحيلة.. أمنية لمس الفخذين المتحركتين أثناء انشغالها في شؤون البيت. كنت في مكمني الجديد القديم أخالس النظر إلى حالتها البشرية في تنوعها الفريد.. في استلقائها وسط الحوش في القيلولة، في انحنائها وهي تكنس الباحة، فينحسر ثوبها الأبيض العريض من الخلف فاضحاً متانة فخذيها اللدنتين الناعمتين. كان يستعر في أعماقي شيءٌ جديد.. أحدق.. أحدقُ في اللحم، في شأنه الجديد، مثبتاً ناظري في البقعة السرية الكامنة بين الفخذين، والمغطاة أبداً بنسيج القماش العريض أو الضيق. كنت في تلك المحنة وأنا خلف النافذة أتسأل:

ـ لم يخفونه تحت الأردية؟!.

 متصلب الوسط أطل على مساحة الشهوة المتجسدة في اللحم الشهي النابض، وفي مرة أمسكت به متوتراً، شددت عليه كي يستكين، لكنه كان عنيداً. فوجدتني أداعبه إلى أن أحسست بكل كياني يتوتر قبل أن ينقذف سائل ساخن لزج بلَّ لباسي ودشداشتي. تسللت خفية إلى الشارع شاعراً بالإثم. ومن يومها لم أكف عن الاختباء في حجرة المخزن، للتلصص والابتلال الذي عاد لاحقاً غير مصحوب بتأنيب الضمير.

تأملتُ في تضاريسها الفتية، وقامتها المنتصبة. كانت تقف على الدرجة الأولى، وتحاول سحبي برفق،ووجهها يشع نضارةً، مدهش الطراوة والطلاوة. أحدق نحوها بذهول حارناً بمكاني، فقد تركتها عند هروبي من جبهة الحرب قبل سنتين تدلف عتبة الشيخوخة ببشرتها المتغضنة وجسدها المترهل. لجسدها القريب عبق جسد صبية تفتحت لتوها، وللبشرة ملمس حرير.

ـ أصعد.. أصعد!.

أيقظت رعبي وجعلتني أشخص إلى درفتي الباب العظيمتين اللتين انفتحتا ما أن وطأتُ الدرجة الأولى وصرت جوارها. خلف الباب بدت السماء شاسعة بلونها الأزرق المعتم. ارتعدتُ، فانتفضت أصابعي الموهنة بين أصابعها:

ـ لا تخفْ.. لا تخفْ.

رحتُ أختض، ونحن نعبر العتبة العالية المطلة على المدينة الكبيرة، بعماراتها العالية وأبراج مآذنها وساحاتها الخالية، رغبت في الاختباء تحت عباءة نادية المفتوحة، سألتها بصوت خائر:

ـ إلى أين تريدين بي؟!.

ـ …

تبسمتْ.. سحبتني إليها برفق، ولفت ساعدها الأيسر حول كتفي. لاصقني جنبها الساخن مخففاً من جنون رعشتي. كنا نقف في رواق عالي السقف ينتهي بسلالم تهبط إلى شوارع المدينة. حثتني على المسير بدفعة خفيفة من ساعدها المحيط بيّ، فخطوت مع خطوها. ومع كل خطوة نقطعها باتجاه متاهة المدينة الفارغة تتصاعد رعشاتي. صرت أهتز بجنون ونحن نقترب من مهبط الرواق. أوقفتني. انفصلتْ عن جسدي المرتعد قائلةً:

ـ اطمئن ما دمت بصحبتي!.

شملتُ أرجاء المدينة المترامية الأطراف بنظرة:

ـ نادية.. ما هذه المدينة؟!.

ـ أولم تعرفها؟!.

هززت رأسي، فأردفت:

ـ لقد أتلفتْ الأماكن المظلمة ذاكرتك!.

ـ..

ـ  تجلدْ أذن.. تجلدْ وإلا..!.

كنت غير قادر على تحديد الأوقات من مساء وصباح، فجر وغروب. ففي الإرسي اختلطت الأوقات وتداخلت وصارت تشبه بعضها. كنا نهبط على سلالم طويلة صوب ساحة دائرية كبيرة، نهبط في الصمت عندما سمعت صوت انطباق درفة الباب العظيمة، التفت نحوها، شاهقة الارتفاع تخيم على الساحة والأبنية والمدينة.

 ـ أأكون في باطن الكابوس؟!. أتكون المرأة الحاضنة جنبي محض أخيلة؟. أتكون هذه الأمكنة الضائعة في الصمت والرخام نتاج مخيلتي المرعوبة؟!. وتمنيت من أعماقي الاستيقاظ وعناق آجر جدران الإرسي المتآكل. وأشياء الباحة ووجه عمتي، ولذة الإطلالة من النافذة على الشارع المكتظ أوقات خلو البيت.

أردت سحب كفي من بين أصابعها.. أردت العودة إلى الإرسي الحميم.. أردت بعدما توثقت للمرة التي لا تعد من حضور الجسد اللصيق. أردت وتذكرت مراحل هذه الرحلة الطويلة.. السراديب في الدهليز المعتم الطويل.. شبابيك اللذة الواطئة.. الصراخ الذي كاد أن يجنني. متاهة الصخر وعودتي إلى نقطة البدء في كل مرة. والرحم الرحيم. والسيل اللزج الذي قذفني إلى عتمة الدنيا، وذلك النوم الشبيه بالموت. وصوت نادية الذي أيقظني وأخرجني من العتمة إلى مدينة الصمت هذه. التفت إلى الخلف ما أن توسطنا الساحة المكسوة بالزجاج السميك حتى أصابني ذهول جديد. اختفت السلالم التي هبطنا عليها والبوابة العظيمة المرتفعة والرواق القصير وحلّ محلها امتداد طويل.. طويل لرصيف زجاجي لامع يعكس ظلال لون أرجواني ابتدأ يسري على الجدران النظيفة والأرصفة والساحات وعيني نادية العسليتين. تفاقم هلعي. أمعنت في الالتصاق بجنبها الساخن ناظراً بفزع إلى الأبنية الشاهقة ونوافذها المعتمة مثل عيون فاحمه تتابع خطونا الران في صمت الزجاج. أُدَورُ حدقتي دون أن أحرك رأسي باحثاً عن أثرٍ، ضجة، قطة، بشر، حشرة، دخان، للصمت والخواء صقالة رخام جدران الأبنية العاكسة شبح جسدينا في سيرنا الوئيد. سألتها:

ـ أَ خاوية هذه المدينة؟!.                    

همست:

ـ أما زلت لا تتذكرها؟

ـ..!

ـ ستستيقظ بعد حين، فما زلنا في أول الفجر!

وبغتةً صاح ديك. أعقبه أصوات المؤذنين، ونداءات تدعو للنهوض والصلاة. أصوات مبهمة انطلقت من الكتل والأبواب والنوافذ وعمق الأزقة الضيقة، ضجة هدرت في الصمت دون أن يظهر مسببها. أنصت للضجيج المختلف الموحش، والمتخافت رويداً.. رويدا إلى أن اندمل بالسكون. دارت بّي في مدينة الصمت المريع، في متاهات أزقة ضيقة تفصل بين جدران أبنية غامضة دون نوافذ وأبواب، أزقة تؤدي إلى بعضها البعض، خالية، يمتص بلاطها النظيف اللامع وقع أقدامنا وكأنه من إسفنج. أزقة ترتفع وتنحدر، تنحني وتستقيم بجدرانها المصقولة، وكتلة جسدينا الملتصقين الجائبة في عمق حجرها الشفاف. أنهكني السكون. أثقل رأسي، فوضعته على كتفها. لا أدري هل أخذتني سنة نوم أم لا؟. لكنني رأيتني جوارها على سطح دائرة مرتفعة وسط ميدان المدينة المركزي. ومنها نطل على متاهة الأزقة المحيطة والتي تبدو من هذا الارتفاع وكأنها تمتد حتى الآفاق. وخلفنا التف برجٍ هائل تنغرز نهايته المستدقة في زرقة السماء الصافية، وتحته يتلوى نهر المدينة الدافق كحية تسعى. لم تزل قابضة على أصابعي بين أصابعها، سادرة في وقفتها المنتصبة.. المنتظرة، تحدق نحو مربعات ودوائر ومثلثات الساحات الموزعة بانتظام في انحناء المتاهة. لم تلتفت نحوي رغم ضغطي المتكرر على أصابعها الرخصة التي تكاد تذوب بين أصابعي. فرميت بصري إلى حيث كانت تنظر.. اهتز جسدي بأجمعه عندما رأيتهم يتدفقون من عتمة الأبواب الخفيضة، بأرديتهم العسكرية الزيتونية وبأساطيلهم السوداء. ويصطفون طوابير ثلاثية شديدة التنظيم. امتلأت الساحات الفسيحة بحشودهم المدججة بالسلاح. على رأس كل حشد يقف رجل عملاق يواجه الصفوف الثلاثة. ويعطي إشارات المسير والوقوف. وعندما أشار إلى الجانبين تفرقت الصفوف منفتحة نحو الجدران، لتستخرج من حلكة فتحات مقوسة رجال شبه عراة، شاحبي القسمات، مقيدين بالحديد، مسلوخي الجلود. راحوا يدفعونهم بقسوة نحو عربات عسكرية تسحب أقفاص حديد اقتربت دون صوت من أطراف الساحات. أحالني المشهد إلى كتلة مرتعشة ونادية تسحبني نحو سلالم حجرية تنزل من المنصة الدائرة نحو الحشود المشغولة بالأشباح البشرية المقيدة. تلكأت في خطوي، حاولت البقاء على سطح المنصة:

ـ إنهم عصاة مارقون، هربوا من الجبهات وقاتلوا الحكومة في الأهوار والجبل!.

أمعنت متصلباً عند حافة المنصة، متيقناً أنها سوف تسلمني. مسحت بكفها الأخرى وجهي المعروق، وحثتني على المسير قائلة:

ـ قلت لك لا تخف، ما دمت بصحبتي!.

استسلمت إلى قيادها وهي تخوض وسط تلك الحشود. لم  ينتبه إلينا أحدٌ. تفحصت الوجوه المشوهة، شديدة الشحوب، مغمضة العيون، مستسلمة، أدمنت وضعها البشري، يائسة من خلاص.

ـ ما الحكمة من المجيء بيّ إلى مدينة الرعب هذه؟. وإلى أين ستذهب بي؟.

كنت أخشى الكلام في الزحمة تلك. رأيت أحد العراة يرفع رأسه نحوي في حركة جعلت من الحارس يضربه بأخمص بندقيته على أم رأسه. عاود الكرة.. رغم توتر قسماته المنقبضة ألماً.. يا إلهي.. إنه ـ هاتف حسين ـ التلميذ الوديع في ثانوية زراعة الديوانية. لا يغادر صمته ووداعة ملامحه إلا حينما تصطدم عيناه بالآخر راسماً بسمة حميمة. سيساق جندياً وأذهب إلى الجامعة لإكمال الدراسة. سنلتقي مرتين الأولى في عملنا المشترك في دائرة الزراعة في ناحية ـ الـ بدير ـ النائية. والثانية عندما التحق بمفرزتنا الجائبة في كرميان. سيحاصرنا الجيش في فساحة تلك المنطقة العارية من الأشجار. سنلوذ في كهوف الوديان الجرداء نهاراً، ونتسلل إلى حواف القرى ليلاً للحصول على رغيف خبز، غرفة ماء. سينتابنا الجزع.. سينهار العديد من المقاتلين منخرطين في البكاء. سيتبرع واحد من أنشط مجموعتنا، فيتسلل إلى ـ كفري ـ ويرتب عملية تسللنا عبر المدن الواحد بعد الآخر كي نتسرب من هنالك نحو مواقع الثوار على الحدود الإيرانية. وكان تعداده ثانياً في المجموعة التي جلها من الأكراد. عانقنا واحداً.. واحداً. وهمس بأذني شاداً من عزمي، فهو يعرفني بعمق.. يعرف ريبتي الدائمة، وقلقي القديم، وعدم قناعتي بطبيعة الصراع وبأطرافه. وفي الاجتماع الذي تقرر فيه ترتب عملية التسلل اعترضت على ترتيبي ثالثاً. وطلبت أن أكون ما قبل. كنت أثناء الكلام أخطف نظرة إليه. كان يرمقني باسماً، ويهز برأسه. وعندما انفردنا في زاوية كهف الصباح قال:

ـ يا ملعون.. يا رهيب متى تثق بالناس؟.

ـ.. أنت قروي وساذج يا هاتف. لماذا قبلت أن تكون ثانياً؟. كلهم أكراد يوم مع الثوار بالجبل ويوم مع السلطة.

ـ دعنا من شكوكك. ما شفتهم كيف يقاتلون في المعارك؟

ـ هذا شيء آخر!.

ـ بعدين اللي راح يأخذنه من عائلة عريقة بالنضال، مؤدب ومثقف!.

كان حوارنا هامساً في حلكة الصخور المطبقة علينا. أوحشني غيابه، ورابتنا السهولة التامة والسرعة التي يعود فيها الدليل مما جعل قائد المفرزة وهو ابن المنطقة يدعى ـ أبو فيان ـ يقدم ترتيبه الذي كان من المفترض أن يكون الأخير، فانسلا من الكهف مع حلول الظلام. ومرَّ الليل والنهار التالي دون أن يعود الدليل. غيرّنا فوراً أمكنة الاختفاء. وبقينا شهراً ضائعين في حر النهار وبرد الليل، أصبحنا لا نجرؤ على الاقتراب من القرى التي لدينا فيها أصدقاء كانوا يوفرون لنا الخبز والماء. أكلنا الأعشاب وشربنا من ماء المستنقعات.. إلى أن تسلل إلينا من أخبرنا عن تفاصيل ما جرى. فتبين أن الرفيق النشط كان عميلاً وقام بتسليم ستة رفاق في كمائن معدة سلفاً. وفي المرة الأخيرة أحس قائد المفرزة بعد أن أصبح وسط الكمين وهما في سيارة أجرة. فقام بإطلاق النار من مسدسه على رأس العميل الجالس في صدر السيارة، وعلى السائق الذي توقف حينما أحاط الجنود به. وقاوم لكنه أصيب واعتقل أيضاً. وقتها أمضّني الألم وأنا أتخيلهم يطبقون عليه. بكيت كثيرا. وبقى شكله يراودني حياً نابضاً واثقاً بالآخر دون أسئلة. هاهو أمامي شبح إنسان واثق من قدره، مسلوخ الظهر.

سألتها ـ إلى أين يذهبون بهم؟

ـ إلى مصيرهم!!!.

 لم أفهم من جوابها المبهم شيئاً. تلويت ألماً لصق جسدها الفتي. تزحزحت، فحدقتني مؤنبةً. أخمدت جسدي الراجف بكفها الأخرى، وصعدت بي إلى ناصية أطللت منها على آلاف الوجوه بأجسادها العارية الناحلة تظهر من عتمة الفتحات، وتقاد بين صفوف العسكر المصفوفة بصمت. وجوه أعرفها ولا أعرفها. سيل هائل لا ينقطع جعلني أبرك قرب قدميها، مهدود الحيل، عاجزاً. كانت الساحبات التي تجر أقفاص الحديد تحمل حمولتها وتذهب بعيداً لتغيب في نقطة محددة في عمق المتاهة. انحنت على تكومي وساعدتني على النهوض. لفحني عطر صدرها العاري عندما لاصق أنفي وادي نهديها الصلبين، وجعلني أنفصل عن الأزمان كلها، بما كانت، وبما أنا فيه، وما ستكون. بقيت مغمض العينين، دافناً وجهي بين النهدين، أنحدر إلى مسافات الخدر. كانت ذراعها تحيط بعنقي، وأناملها الناعمة تفرد خصلاتي المعروقة. أمعنت في الالتصاق بجسدها المشدود، لفخذها وهج فوهة تنور، ولبطنها ملمس جلد أفعى. بدأت أستعر. ورغبة الولوج في أحشائها الساخنة أمحت الأمكنة والوجوه. أمحتني، فانتشلت رأسي بعناء وتلفت باحثاً عن مكان أستطيع فيه مضاجعتها. سحبتها باتجاه باب سورٍ مفتوح خلف الناصية التي كنا نقفُ عليها. رمتني بعينين عارفتين مترعتين بالشهوة، وتمنعت بغنج أصلى جسدي بمزيدٍ من الحمم المتفجرة. وفيما كنا نتجاذب وسط الناصية المرتفعة اجتذبتني عربة مارقة. حدقت صوبها، فتزلزل جسدي وسقطت ذراعيّ الماسكتين جسد – نادية - المائج في دلاله عندما رأيت جسد زوجتي عارياً محشوراً في قفص العربة. كانت تمد ذراعيها الناحلتين الداميتين من بين القضبان وفي عينيها الواسعتين الذابلتين نداء استغاثة. تجاذبت مع نادية هذه المرة كي أنفلت وأركض باتجاه العربة المبتعدة بتفاصيل جسدٍ أذاقني الشهد صافياً. هاهو تحت ناظري ببشرته البرونزية المشربة بلون النار والتي لم تشحب رغم العذاب.

ـ أتكون قد وقعت بأيديهم؟. إنها تشبه ـ هاتف حسين ـ في وثوقها بالآخرين إلى حدود السذاجة التي طالما تشاجرنا بسببها أوقات جلبها المنشورات السرية إلى شقتنا في ـ حي الإسكان ـ دون الحرص على إتلافها بعد القراءة.

هاهي تنزف تحت ناظري من أنحاء جسدها. حاولت تخليص ذراعيَّ من براثن ـ نادية ـ دون جدوى، فقد هدّني المشهد والعربة تجري بعيداً نحو نقطة معتمة تُغيبْ مسار العربات في غور المتاهة. أهلكني الغياب وأطفأ شهوتي، فاستسلمتُ تماماً هذه المرة إلى قياد ـ نادية ـ مطبق الأجفان.. فرأيتني وحيداً في مدينة منتهكة، بجوامعها المخربة، ومآذنها المحطمة، وقباب الأضرحة المثقبة، وأبوابها المكسرة، وحنفياتها المعطلة. بيوتها مهجورة، متداعية الجدران، مخسوفة الأسقف. كنت وحيداً وسط كل هذا الخراب.. وحيداً انفجرتُ بنواح مذبوح لحظة وقوع بصري على بقايا بيت أهلي المهدوم.. أنوح.. وأنوح دائراً بين الخرائب، لاطماً على جبهتي مثل امرأة فقدت عزيزاً.

ـ  هل أنا في باطن أخيلة أم في باطن كابوس؟

ـ من خلفني وحيداً وسط هذا الخراب؟.

ـ مــــــــــــن؟!.

استيقظتُ. وجدتُ نفسي مستلقياً. رأسي يتوسد فخذ نادية الجالسة على عتبة باب السور الذي وددت مضاجعتها خلفه. قالت وهي تمسح جبهتي:

ـ هيا.. تأخرنا كثيراً!

لم أفهم ما تشير إليه.

ـ …

ـ انهض.. انهض.. البرج بانتظارنا!.

خلف رأسها المنحني على استلقائي، برج شاهق تضيع نهايته في زرقة السماء. كان خلف السور وفوقنا تماماً. تمسكت بكفها عند النهوض. رفعت رأسي متتبعاً استدارة البرج الاسطواني. عبرنا عتبة السور، وفي المسافة الفاصلة بين السور وباب البرج رحت أتأمل تتابع الكتلة والفراغ في تدوير الجدار المزخرف بتشابكات ـ الأرابيسك ـ بخطوط آيات كريمات. وحدات متتالية، غير متناهية من الزخارف والحروف والفراغ دون أن تعثر العين على بؤرة محددة. خلف باب خفيض التفت سلالم حجرية عريضة في حركة حلزونية حول جسد البرج. وبين كل عشر درجات، نافذة مدورة صغيرة تنير عتمة السلالم بنورٍ يكفي للرؤية. الضوء المتسرب يتبدد ثقله في تدرجات محسوبة بدقة تمنح الرسوم الجدارية ظلالاً تعّتم مشاهداً وتبّرز أخرى. في صعودنا الذي بدا لي وكأن لا نهاية له، كنت أستريح في الفسح الممتدة عند انكسارات الحلزنة، متأملاً تلك الرسوم المحفورة بحجر الحائط.. معارك ضارية بأسلحة بدائية، طقوس تقديم القرابين إلى الآلهة، معابد قديمة، مشاهد صيد وحوش برية، حشود حجرية تمد أذرعها نحو سماء الحلزنة، حشود أخرى تبذر القمح، تستخرج أزيار نبيذ. وكل بشر الجدار يرتقون معنا في حركة لولبية تذهب إلى الأعالي.

ـ هل هذا البرج من أزمنة سومر وحولّه المسلمون إلى مئذنة؟!.      

كان بودي لو أطل من النوافذ، لكنها مرتبة بطريقة يصعب معها الرؤية من خلالها لارتفاعها، ولسمك حجر الجدار، مما يجعلني أشد من عزمي لبلوغ القمة. منذ أن دخلنا حلزنة السلالم أصبح حضور ـ نادية ـ خفيفاً أكاد لا أشعر به رغم احتكاكها بيّ أثناء الصعود. دفعتنا الحشود الحجرية إلى حافة السماء، وفي نهاية السلم سدَّ طريقنا باب. تقدمتني خطوة ودَفَعَتهُ، فوجدنا أنفسنا في غرفة صغيرة وفي طرفها المقابل سلالم ضيقة تستدير صاعدة. شممت رائحة قديمة، حميمة، مثيرة. تفرست في هندسة المكان فأحسستُ كأنني مررت به. وبغتة رأيتني معها في هذه الغرفة، كنا في شهر العسل. أنهكنا الصعود على حلزون ملوية سامراء. كان المسجد والملوية خاليين من البشر في غروب ذلك اليوم الفريد. في الخلوة هذه حضنتها بعنف. وذهبت أبعد من القبلة. كنت أجردها من لباسها الداخلي وهي تترجاني أن أكف. كيف أكف وأنا أستثار في الخلوات، وفي بهاء الأضرحة المقدسة. كانت من أمتع مضاجعات العمر.. مضاجعة في السماء. رأيتها منتشيةً لنشوتي عندما فتحت عيني. أخذت بيدي نحو السلم الضيق، ومنه صرنا في سطح القمة المسيجة بسياج حجري يرتفع مقدار متر. أول ما فعلته أمسكت بحافة السور الواطئ ورميت بصري إلى ما تحت البرج. بدت العمارات، الساحات، الأزقة، الحدائق، الأقفاص، طوابير العراة، العساكر، المساحات المغلقة، متناهية الصغر، عديمة الحركة. التفت نحو نادية الواقفة في طرف التدوير الآخر. واستغربت كوني لم ألحظ أنها كانت ترتدي عباءة سوداء. رميت بصري في البعيد فرأيت دنيا الله الواسعة، سماء شديدة الزرقة تعج بالطيور، سهولاً مترامية فسيحة وحوض نهرين يجريان من الجبال البعيدة، من الشمال والغرب. يقتربان رويداً.. رويداً إلى أن يتوحدا في نقطة بأقصى الجنوب. صحارى تمتد حتى الأفق. مساحات خضراء تحف بالنهرين وما بينهما. وهنالك في أقصى الشمال تتموج قمم الجبال البعيد. رأيتها دانية في قلبي. وفي سفح وعر صعب المرقى رأيت ذلك التجويف الذي يشبه الرحم حيث قضيتُ ليلتي الأخيرة فيه قبل أن أتسلل إلى مدينتي. كنا مفرزة صغيرة من ثلاثة رجال. كنت مجرداً من السلاح. تقاسمنا السهرة مع الرهبان. كانوا يجلسون على مصاطب خشبية في رواق الدير القديم. يثرثرون بلغة لا أفهمها. استفسرت من الراهب الذي يصطحبنا عن حياة الدير. اخبرني باقتضاب شديد أنهم يعتمدون على مزارعهم وعلى تبرعات أتباع الكنيسة النسطورية. وتتوزع حياة الرهبان بين الأعمال الزراعية والواجبات الطقسية. عند وصولنا عصراً أبصرت في المكتبة الفسيحة المظلمة، بعضهم منشغلاً وهو يتربع على الأرض بخط حروف سريانية على صفحات بيضاء. كان ينسخ مخطوطة قديمة من كنوز الدير التي أخبرني الدليل بفقدان ألوف منها خلال فترات الاضطهاد والغزوات. سمعنا قرع جرس صغير يعلن موعد النوم. فأطفأوا الفوانيس والشموع. استيقظت مندهشاً على صراخ شاذ يرافقه ضجيج أجراس وصنوج. فرأيتُ الرهبان ينبطحون على الأرض جوار المذبح منهمكين بالصراخ، همس لي رفيق أبوه أحد الرهبان:

ـ إنهم يقدسون الخبز والنبيذ!.

بعد قداس الصباح غادرنا الدير. كنت أشعر بغصة ونحن ننحدر على المدرج الصخري النازل إلى عمق الوادي السحيق متمنياً لو أضيع في سكون هذا الدير المعزول عن العالم وأصرخ وأنا أتبرغثُ على الأرض ذلك الصراخ البهيج. حركت ذراعي مثل جناحين مقلداً الطيور. أغمضت عيني وجدفت في الهواء رائياً كتلة الدير المنحوتة في الصخر:

ـ أتود الطيران؟!.

انتبهت إلى نادية الواقفة جواري التي أخرجت من تحت عباءتها جناحين حيين يرفان بين يديها. اقتربت لتزرعهما في ذراعي قائلة:

ـ هيا.. هيا.. يا ولدي حلق بعيداً!.

جدْفت بهما فأحسستُ بجسدي خفيفاً ينفصل عن آجر سطح البرج مليماً.. مليماً. نظرت بامتنان إلى الوجه المؤطر بالعباءة.. فاضطربتُ رائياً وجه أمي الجميل العذب يودعني وأنا أغور.. وأغور في الزرقة. وما إن تلاشت في عمقها البعيد حتى شعرت بألم حارقٍ وكأن شيئاً اخترقني تحت الجنح الأيسر، فهويت.. هويت من الأعالي إلى عتمة فجوة حالكةٍ انزلقت في فراغها الفسيح.. المبهم.

سقطت على قعر أملس صقيل!.

 

 

رؤيا الحجر

لبث ساكناً في حلكة ملساء شديدة، فالرؤية شبه مستحيلة في هذا العماء المباغت. تحسس جسده بأصابعه صاعداً نحو الإبط الأيسر، موضع الإصابة التي أطاحت به من الأعالي، فانغمست أطرافها بدفقٍ ساخنٍ أخذ يسح مبللاً قميصه الخفيف. فَرَشَ راحته ساداً فم الجرح الصغير العميق. كانت في منبت الجنح الأيسر. تحسس ساعديه. لم يكن ثمة أثرٍ للجناحين.

ـ أَ كنت في كابوسٍ آخر؟!.. لا.. لا..

إنهُ يتذكر بوضوح تفاصيل رحلته بصحبة جارته ـ نادية ـ في مدينة الرعب من لحظة إيقاظه حتى الصعود إلى البرج.. فالطيران، ثم ألم الضربة الماحقة والسقوط من ذلك العلو الشاهق.

ـ أي يد سحرية تلقفتني وحطتني بعناية على سطح هذا الحجر الأملس الصلد، فأنقذتني من اصطدام كان لو حدث سيحولني إلى أشلاء.

همد في الصمت، يحملق في ضفائر الفحم المتراقصة، مطمئناً لخاطر اليد الخارقة الرحيمة المتواجدة في الجوار. اصطبر إلى أن انحلت الضفائر وبهتت، فرأى أول ما رأى الجناحين مكسَّرين ومبعثرين على مسافة متر من وقفته المنتصبة:

ـ أكنتُ واقفاً كل هذا الوقت!.

وجد نفسه داخل تجويف عميق له شكل مشكاة بحجم الإنسان محفورة في جدارٍ من رخام، وأمامه على فسحة صغيرة أنتشر ريش يابس، والفسحة تنتهي بسلمٍ رخامي ضيق تضيع درجاته الهابطة في أمواج الظلام. حاول أن يحرك ذراعه مرة أخرى ليضغط على موضع النزف، لكنه وجد ذراعه المسبلة متصلبة ودفق الجرح تحجر. حاول أن يتزحزح دون جدوى. مفاصله، ليست المفاصل وحسب بل كل الأجزاء الظاهرة من جسده أحس بها تكتسي بصلادة الرخام. وحدها العروق الدفينة حارة يسري في جوفها السائل العجيب. أراد التأكد من تحجر بشرته والعظام القريبة إليها. دور حدقتيه محملقاً بجدار التجويف. أبحر في يم الحجر ومراياه، في فضته المخلوطة بالرماد السابح في فضاء فسيح مفتوح في آماد جدار التجويف. وفي ظلالها الواهنة الشفافة رأى في مواجهته بعمق الرخام كائناً من الحجر يقف ساكناً له نفس قامته ويحدق نحوه بعينين مرعوبتين. أراد أن يقول شيئاً.. حاول تحريك شفتيه.. تخيل أنه قال شيئاً لكنه لم يسمع سوى ارتداد الكلام في العروق الدفينة النابضة.. هسيس حجر في الصمت. أعاد الكرة، فارتد الكلام غائراً في محيطات بواطن الرخام الساكنة.. في أبديتها.

ـ يا إلهي.. يا إلهي من الذي صبني حياً وأدملني في صلادة الرخام!

  يا إلهي.. يا إلهي.. يا إلهي.. أنا فزع من هذا السكون المدوي والصمت المقيم وحلكة الفضة.. إلهي.. إلهي.. خذ بيدي أنا عبدك المسكين.. أنا من أنس وحدتك في الكون.. أنا من اختبرت بكينونته قدرتك..إلهي.. إلهي..! خذ بيدي في محنة الحجر هذه.. خذ.. خذ.. أنا عبدك الأبدي..خذ!.

الصمتُ سادرٌ في بحور الرخام الأبيض، على سطحه الأملس الناعم. الصمت سادرٌ في جبهة الشاخص الناصعة في مرآة الرخام قبالته. سادرٌ في العنق، في كتلة الجسد القائم في رماد الرخام اللامع. كتلةٌ لها مقاس وأبعاد جسده. وعندما عاود تحريك حدقتيه شاهد بوضوح حركة الحدقتين المعكوستين في رحم الرخام بنفس اللحظة:

ـ أأكون هذا المنعكس في جدار المشكاة؟. أأكون هذه الكتلة الرخامية بقامتها الفارعة الساكنة عدا خرزتي العينين الجاحظتين من التجويفين الضحلين للمحجرين الواسعين الموشكين على التحجر في بهمة الرخام وسكونه؟!.

ـ أأكون أنا المصبوب رخاماً؟!. أأكون قد متُّ عند سقوطي من السماء وخرجت روحي لتلج كتلة الحجر وتكون بهذا الشكل المندرس في الأعماق المجهولة؟!.

ـ أيستحيل الإنسان بعد الفناء إلى كائنٍ من حجر مدفون في أحشاء البواطن العميقة؟!.

ـ أ أخلد في هذا الانصباب الأبدي في تجويف المشكاة أحدق في انعكاسي بظلال الرماد والفضة الناصعة؟!.

ـ يا إلهي.. أي رعبٍ هذا.. أي سرٍ مهولٍ جعلتني أطلع عليه.. أي عذاب.. أي عذاب.. أي!.

إلهي يدك.. إلهي الرحيمة يدك!

                            المباركة يدك..

                            الجليلة يدك..

                            القادرة يدك..

إلهي مدها وخلصني..

مدها.. وانتشلني من غور الرخام.. من سكون متاهاته.. من صمت التحديقة الأبدية هذه.

إلهي.. ذرني في الريح.. في السماوات.. في الماء.. في النار.. في الفراغ.. في الخاطر.. في اللا معنى.. في المعنى.. في أتفه ما كان وما سيكون..

إلهي.. ذرني.. ولا تحجرني..

                             ذرني.. ولا تحجرني..

إلهي.. إلهي.. يا إلهي!.

الصمت سادرٌ في أحشاء الصخر. الصمت سادرٌ في الكلام. الصمت داوٍ في السكون، في الرأس، في التحديقة الضائعة في مرايا الحجر الناعم.

استدارت الحدقتان الموشكتان على التحجر محملقةً باتجاه سلالم الرخام الضيقة،  في انحدارها الخفيف الغائب في بحر الظلام. ودَّ لو باستطاعته الخروج من أحشاء الرخام والنزول على السلم الداكن في رماد ضوء ابتدأ يلوح في الأحشاء العميقة بحجم ثقب إبرة راح ينخرم متسعاً قليلاً.. قليلا. أصبح خيطاً يدفقُ شلالاتٍ من نور فجري خافت فضحت شساعة قاعة عالية. جدرانها الرخامية مليئة بتجاويف لها شكل المرء في وضع الانحناء. تؤدي إليها سلالم تصعد من فضوة مدورة تحيط بحجرة قائمة في مركز القاعة. عدد لا يعد من السلالم الموصلة إلى تجاويف الحيطان. الحجرة الوسطى مدورة مقببة، محززة السقف بحروف لغة لم يستطع معرفتها. لها أبواب يفصل بينهم عارض ضيق من الرخام، أبواب تدور مع استدارة جدرانها وتقابل درجات السلالم الصاعدة، وفي أعلاها نوافذ صغيرة بحجم نصف آجرة مسدودة بزجاج مشجر بزخارف مبهمة يتسرب منها ظلال ضوء باهت الزرقة يموت حول حافتها. كل باب حجري شفاف تعلوه نافذة، وكل باب يؤدي إلى سلالم طويلة تؤدي بدورها إلى تجاويف الجدران الشاهقة التي لم يستطع أن يطول سقف القاعة رغم أنه دور حدقتيه باتجاه الجدار المقابل،وتتبع قدر ما يسمح به وضعه انطلاقة الرخام نحو الأعالي.. تلك الانطلاقة الأبدية، الدائبة في سكونها المستمر. طوف في السكون متجهاً نحو الضوء الراشح من الطرف البعيد. أحدَّ البصر فرأى أبوابًا هائلة تنفتح على متاهة الأزقة والساحات والشوارع والبنايات. امتدادًا مترامي الأطراف، مشربًا بالأزرق المعتم، نفس متاهة المدينة التي جابها بصحبة ـ نادية ـ. في الصمت البارك خلف الدرفة العظيمة، في الفسحة العريضة التي استبانت من مشكاته العالية.. ظهرت ناقلة تسحب أقفاص حديد مكتظة ببشر ناحلين عراة مقيدين بالسلاسل. وقفت الناقلة تلو الناقلة في طابور منتظم طويل، وترجل من باطنها رجال ضخام، مشدودي القامات، ملامحهم ضائعة في الظلال لمظاهرتهم مصدر الضوء. فتحوا أبواب الأقفاص الخلفية. وقاموا بشّد العراة ظهراً لظهرٍ في حزم متجاورة ملأت عتبة الباب العظيمة، ثم اختفت الناقلات برجالها في عمق متاهة المدينة. حدق بالحزم البشرية الملتفة وكأنها وردة متفتحة، بهياكل الأجساد بارزة العظام، بالرؤوس المطأطئة وكأنها أطراف أوراق زهرة. أطال التحديق يراوده إحساس قوي بألفة هذه الكتل الحميمة. سكنت حدقتاه في محجريهما عند تذكره مشهد استخراج هذي الكتل العارية من الفجوات الخفيضة أسفل الجدران ورعبه لصق ـ نادية ـ.

ـ إذن أنهم يلقون بالضحايا أمام هذا الباب ويذهبون.. لكن لماذا؟ وماذا سيجري لهم بعد ذلك؟

احتدم السؤال. وعاد يدّور عينيه محملقاً في الباقات المصفوفة، في تبعثر أعضائها الناحلة، في درفة الباب المواربة المنطلقة عامودياً نحو سماء السقف البعيد،في السلالم الكثار، في التجاويف المشغولة والفارغة. تمدد السكون واستطال محشوداً بالترقب، بأجسادٍ تنتظر المجهول على عتبة مشرّبة بالأزرق المعتم. فكر في الانشغال في عدْ التجاويف والسلالم وأبواب الحجرة المقببة. عدَ وضيع العدْ. عاود العد وضيعه إلى أن وقع بصره المتنقل بين السلالم والأبواب والتجاويف على كتلٍ تنفصل من العتمة الكائنة بين سلمٍ وآخر. أول ما ظهر منها وجوهها الحجرية ذات الأبواز المستدقة، وعيونها الخرزية داكنة الخضرة، وآذانها الطويلة المنتصبة، ثم أجسادها البشرية بكتلها الصخرية دقيقة النحت. لم يختض هذه المرة، بل تتبع بهلع الأقدام الحجرية الخارجة من حلكة الحيطان في خطوها الثقيل، وهي تصطف منتظمة في طابورين طويلين يتجهان نحو الباب الموارب أنهضت الأيدي الحجرية الحزم البشرية حزمة.. حزمة وقادتها عابرة العتبة. من موضعه العالي لاحظ مدى الرعب الأخرس والصراخ المخنوق في الوجوه المصبوبة بالصمت، والمستسلمة لأذرع الحجر وهي تتقدم نحو الحجرة المقببة وسط القاعة، والتي احتدمت نوافذها وأبوابها بلون شمس المغيب. كان يحملق في الوجوه المفجورة بصراخها الأخرس على ضوء الجمر لحظة فك القيد، ودفعها في أتون الحجرة المضطرم من خلال الأبواب الواقعة في الجهة الأخرى. وجوه تنصهر بالرعب وضوء النار. تغيب بأجسادها الناحلة لتظهر من الأبواب المقابلة مفخورة، تدفعها أذرع من أرجوان نحو أذرع الكائنات الثعلبية التي تلقي بالجسد المتحجر على ناقلة حجرية ذات أربعة مقابض وتحملها صاعدة إلى تجويف من تجاويف جدران القاعة الرخامية. تابع أول ناقلة، فرآهم كيف أركنوه داخل المشكاة المعلقة عائدين بها فارغة متقاطعين مع عددٍ لا يحصى من الهابطين الصاعدين من وإلى حجرة الفخر المتأججة. لا يدري هل أغفى على إيقاع الخطو الصامت والحركة الرتيبة المستمرة، لكنه انتبه على الأجساد الحجرية المتحركة وهي تتجه نحو الأمكنة التي طلعت منها وتغيب.

ـ أهذا ما فعلوه بيّ أيضاً؟!.

ـ يا رب السماوات والحجر..

ـ يا رب الصمت والنار أنقذني.. أنقذني..أنقذني!.

استصرخ صمت الحجر، برودة أحشائه. استصرخ البنفسج المعتم الهابط على أبراج المدينة ومآذنها وقبابها وعماراتها الشاهقة. استصرخ والمساء يرش رذاذه بتؤدة. استصرخ الخرس المكين ثم همد في وقفته الساكنة في جوف المشكاة حالماً بإغفاءة كسولة في العلية المعتمة، بالإنصات الفارغ من المعنى لصوت تساقط فتات آجر السقف الرتيب، بإطلالة الصباح من الفجوات الأربعة، بالضجيج المستيقظ من أحشاء نهار المدينة، بالطيور المرفرفة وهي توكر على نوافذ قبة الباحة، بصمت عمته، بالتلصص من نافذة الزقاق، بوجوه الصبايا والشيوخ والأطفال المضببة بالغبار المتراكم بين ثقوب السيم الصدئ، بلذة رؤية وجه صديق قديم، رفيق طفولة، زميل دراسة. ومن هموده الحالم رأى خلف عتبة الباب الهائلة، في بنفسجها الباهت قفصًا صغيرًا تسحبه عربة توقفت وترجل منها الرجال الضخام. فتحوا باب القفص، واستخرجوا زوجته عارية مدماة مقيدة، لم تستطع السير، فحملتها الأذرع القوية وألقت بها على العتبة المرتفعة، إلى حين ظهور الكائنات المنفلتة من الجدران التي قادتها نحو الحجرة المضطرمة. جالت صرخته بفضاء الحجر خرساء، متحجرة والوجه النبي، المُعَذَّبْ، العَذبْ يتلظى بالفزع ووهج النار، الوجه الحبيب، وجه الأزهار، وجه الدنيا، وجه العمر، وجه الروح، وجه الأحلام، وجه الكون.. وجهها في اللحظة الماحقة قبل إيلاجه في أحشاء الحجرة من بابها غير المرئي من مكانه. الوجه النابض المتألق بلون الجمر  يغيب. الروح تغيب. ومن الباب المقابل لتجويفه ظهرت مفخورةً من رخام بقدها الأهيف، ساكنة بين أذرع الأرجوان الممدودة نحو الأذرع الحجرية المنتظرة التي وضعتها بأناة على الناقلة الحجرية. كان يحملق مأخوذاً بالتضاريس البهية المسفوحة على النقالة في تحديقتها الأبدية الرانة نحو سماء الحجر البعيدة. لم يرتقوا بها السلالم المؤدية إلى متاهة تجاويف الجدران بل انحرفوا بخطوهم الثقيل وقبضاتهم الملتفة حول المقابض صوب دهليز فاغر بين السلالم. وغابوا في جوفه. سادت الحلكة مع انطباق درفة الباب العظيمة، فأندرس في باطنها موشكاً على الجنون. وفيما هو يبرك في عجزه انبثق من جدار مشكاته أربع ثقوب بحجم نصف آجرة مضاءة بوشل نور فجري أغبش. أطل من إحداها. وجدها تستلقي على دكة مرتفعة تعلو قليلاً عن الجوانب الغاطة في الظلال، يغطي نصف جسدها طولياً إزار حجري. أبحر في  نصف تضاريسها الظاهرة.. فخذها، خاصرتها، نهدها، ذراعها، وقدمها الأيسر المنحوت، في ملامحها الملونة برذاذ الفجر وبقايا العتمة.

.. أي تكوين هائل انصب مطبعاً صلادة الصخر؟

.. هل تنبعث الروح ثانية في خرس الصلصال المفخور؟

.. هل سأعانق فتوة التكوين الحي الأملس، الناعم الطري، وأرتحل جائباً وهاده وسهوله وقممه الصلبة الراجفة الممعنة في الاحتكاك والتدوير، الابتعاد والاقتراب، التأوه والاضطرام، فالركون إلى ساحل الموجة الهادئة وحافات الإغفاءة اللصيقة؟

ـ هل ثمة خلاص من سكون الحجر؟

ـ هل.. يا رب الأعماق الدفينة، يا راعي شؤون الواقفين والراقدين، النائمين والساهرين المفخورين على دكك وحجر، وسلالم وناصيات، وتحت قباب، وفي تجاويف الأعماق؟

ـ هل ثمة أمل؟.. أم أن الوقفة والرقدة في التجويف وعلى الدكة أبديتان، أبدية الحجر؟

ارتعد في تحجره المبحر في السكون، من فكرة المكوث الأبدي داخل هذا التجويف الرخامي المصقول كمرآة، والإطلالة الكاوية من الثقوب على جسد الحبيبة نصف عارٍ، الغارق في سبات الحجر. ارتعد من ثبات الزمن والضوء، من المكان وهذا السكون السادر الفائر في أحشائه الساخنة بجوف الصلصال. ارتعد ناظراً نحو انعكاس هيئته في مرآة جدار الرخام، اهتز وعاود الحملقة متفحصاً جلال الجسد المسفوح على دكته في بقعة ضوء الفجر الهابطة، يحملق.. يحملق.. ويحملق في الساق الظاهرة المرتفعة قليلاً، في سواد ما بين الفخذين الساقط في الظل الكثيف، في النهد النافر الصلب وحلمته الأكثر دكنة على قبته اللامعة شديدة التكوير، والسارحة إلى ما تحت الإبط، في الوادي الفاصل بين القمة الأخرى المخبوءة تحت الإزار، في خطوط الأضلاع المتدرجة نحو مهاوي الخاصرة، والبطن وفنجان صرتها الملفوفة، في عظم الحوض البارز المتصل بانطلاقة تدوير الفخذ المتين المرتفع على مهلٍ حتى صابونة الركبة الصغيرة الضائعة بلدانة لحم الصخر الهابط بمنحدر الساق المدمك، في استكانة القدم الصغيرة وأصابعها الرقيقة المغروزة بسطح الدكة اللين ساعة التكوين.

ـ يا رب الشهوات.. يا من احتشدت بعروقي.. قل لرب الحجر أن يفك إساري!.

سطعَ ضوءٌ.. أترع الجسد المستلقي بلمعة اللحم الحي، وجعله يتحرك ملقياً عنه الغطاء، لينقلب على بطنه. ظهر تكور المؤخرة البارزة العالية في شقها الوسطي الظليل، وانحدارها الحاد نحو مرآة الظهر، والمتدرج نحو تدوير الفخذين المتلاصقين. كاد يطفر من أحشاء الكتلة المتصخرة خلف نوافذ السحر والمؤخرة تتزحزح مع حركة الرأس الضائع بكستناء الشعر الناعم الطويل المنثورة خصلاته على مساحة الدكة القريبة من الرأس. سطع ضوء وخبا مما كثف من الظلال المحيطة بالدكة. ومن غورها امتدت يدٌ بشرية بأصابعها البيضاء المليئة بالشعر الفاحم والمزينة بخواتم الذهب. امتدت زاحفةً نحو الجسد المستلقي. لامست بشرة الردف العاري. دلكته هابطة نحو أسفل الفخذين، صاعدة على قبته البيضاء نحو منخفض انطلاقة الظهر.. غادية رائحة، رائحة غادية. تعصر فردتي الردفين عصراً رقيقاً في مرة.. عنيفاً في أخرى، لتندس ما بينهما. أحس بالوقع الرتيب لتساقط آجر السقف المنخور مع إنقذاف سائل حار من نتوء وسطه المتصلب مبللاً لباسه الداخلي. همد أواره فراح يتأمل عراك الكتلتين العاريتين على فراش الباحة العريض الواضح في نور الفجر المتسرب من خلال زجاج القبة وجوانبها. يرمق بحياد التفاف الساق بالساق والذراع بالذراع، وتداخل الوسطين الصارخين في تقلبهما العنيف الذي عاد لا يخلف في نفسه أثرا، بل جعله يسرح منصتاً بغبطة إلى صياح الديكة، ودوي فرن خبز هدر في صمت الفجر، ودبيب أنفاس الفجر الأولى. نفض رأسه طارداً روائح وطعوم  أمكنة الرؤى المرعبة مبتهجاً بشأن الصباح الذي صدح بغناء العصافير وهديل الحمام وضجيج باعة الصمون والشوربة والحريرة والكاهي والقيمر والشاي في مدخل سوق المدينة المسقوف المجاور. بعد قليل سينهضون، وسيفتح زوج بنت العمة المذياع عالياً ليسمع أخبار الصباح.  ستزدهر ضجة النهار في الشارع. عندها سيكون بمقدوره النوم دون خشية، مطمئناً لصخب النهار المغطي على شخيره الذي يجعله كل ليلة جمعة مشبوحاً في أمكنة الكوابيس.

 

 

صـرخـة

أصبتُ بتشوش ذهني تام في انزوائي المستلب في بيت أصبح شبه مهجور. تتناهبني المخاوف والظنون نهاراً. ورعب الصمت والهواجس والكوابيس المهولة ليلاً. كيف أشرح لك الأمر.. كيف؟! وما يجري ليلة كل جمعة ليس ملموساً.. ليس حدثاً. ما أنا به من هولٍ ينبعث من أمكنة المخيلة والأحلام. من أمكنة نائية في نفسي. لابد من إخبارك عن مكاني. أنا مختبئ الآن في بيت عمتي الأرملة. تعرفين البيت جيداً. ألوذ في الإرسي المتروك. أقضي جلّ وقتي وحيداً بعدما أصبح تواجدها نادراً.. عادت تأتي بالطعام والشراب وتغادر دون أن تبادلني كلمة.. إنها مرعوبة يا حبي.. فالأمر ليس لعبة.. ففي حالة القبض عليّ في بيتها ستعدم معي. وبنتها تبات مع زوجها ليلة الجمعة عندها، لذا يتوجب عليّ قضاء تلك الليلة، محبوساً في الإرسي، مسلوباً من النوم والسعال و.. و.. وكل شيء. وفيها يحدث لي ما لست قادراً على الكتابة لك عنه.. لكنني سألخص لك ذلك.. هل سمعتِ حكايات رعب من جدتك.. أو في أساطير الأزمنة القديمة وخرافاتها أو في بعض حكايات ألف ليلة وليلة؟.. أعيش في باطنها..  تأخذني مناحيها فيمتزج رعب الحاضر برعب المخيلة القادم من طفولة الإنسان وباطن الكتب وأمكنة التاريخ المدفونة والأساطير.. أكون في تلك الأمكنة ذلك المرعوب الأبدي.. غير قادرٍ على الموت المنقذ.. ولا على العيش بأمان.. ماذا أقول لك أكثر؟ سأحكي لك كل ذلك إذا قدر لنا النجاة بالوصول إلى رفاقك في الجبل.. سأقص عليك تلك الرؤى التي خلطت عليّ الواقع بالمخيلة وأفقدتني توازني.. صرتُ أسمع وقع خطىً.. همساً شديد الخفوت.. هسيساً.. صدى نداءات مبهمة يلاحقني أثناء النهار في الغرف والباحة، على السلالم والسطح. أتلفت مذعوراً، فتتلامح أطياف تتبخر متبددة في الصمت والفراغ. وتعود ما إن أعاود الخطو. أطياف أليفة وأخرى غريبة. أطياف زملاء الخنادق القتلى، معارف وأصدقاء ضاعوا في  الأقبية، أعدموا في الساحات، أطياف أئمة شهداء، قتلى نبلاء يستيقظون من باطن الكتب، زملاء قتلوا بين الصخور العالية، على التلال وفي باطن الأودية العميقة. أطياف جنيات يهمسن همساً أنثوياً مثيراً، طيفك الطائف بين هذا الحشد الهائل من الهسيس والأصوات الخافتة والأخيلة الملاحقة.. حركتي في البيت الخالي. حشد يتلاشى كلما أردت التيقن من وجوده. أطياف.. يا حبيبتي.. أطياف جعلت الاختلاط الذهني يستحكم.. فتداخلت أمكنة الكوابيس بأمكنة الواقع، الحاضر بالماضي، أمكنة الكتب والحكايات، بأمكنة الذاكرة!.

أمي الصغيرة..

ما جعلني أكتب لك بصراحة هو استفحال الاختلاط ذاك. عدت أعيش الواقع وكأنني في أمكنة الكابوس والخيال. وأعيش أمكنة الخيال وكأنها الواقع. ليس العيش الذهني فحسب، بل بت أبيح لنفسي في السلوك ما يبحه الحلم والكابوس.. لاسيما بعد أن خاطرتُ متسللاً نحو بائع خمرٍ دكانه في طرف المدينة جوار محطة القطار، وعدت حاملاً عدة قناني من العرق المسيح.

أنا في ورطة.. ومأزق عسير.

تأتي الهلوسة مع حلول المساء واستيقاظ عتمة الزوايا حيث أكون منهكاً من شأن النهار، الذي أقضيه بالدوران بين الغرف، الإنصات لضجيج المدينة، التذكر، الإطلالة من خلف النافذة الغبراء، مطالعة الوجوه الرانية نحوي من صمت الورق المرتب في جدران الصالة والباحة وغرفة النوم، وجه زوجها المقتول، وجهها الأبيض الناضح جلالاً، الابن الضائع، وجهي القديم الذي تركته في الصبا، ووجه بنت عمتي الوحشية الجمال التي وصفتيها مرة بالقطة الوحشية قائلة:

ـ مثل هذا الجمال ما ينراد!.

أكتوي بصمتي وصمت ـ المسجل ـ الميت على المنضدة جوار الأريكة، رامقاً صفوف الكاسيتات المرتبة في درج خاص معلق بالجدار. حرمني غيابها من سماع أغنية، مقطوعة موسيقية.. احتدم أحياناً معاتباً بصوت عالٍ:

ـ لماذا.. لماذا يا عمة تركتِ الصمت يفترسني.. لماذا.. لماذا؟.

أتأمل فداحة الصمت، ومعنى الضجيج.. فماذا يحدث لو أصاب البشر الخرس وماتت الأصوات، وعادت الدنيا بلا كلام ولا ضحك ولا بكاء ولا أغنية ولا رعد ولا صراخ. أرتعد من ذلك الخاطر، فلولا الضجيج لأصاب البشرية مس، كهذا الذي يكاد يصيبني ولارتُكِبَتْ الفضائع. عند هذه النقطة أقفز من الأريكة صارخاً:

ـ طوبى للضجيج.. للغناء.. للبلابل.. للكلام..

   طوبى للخالق!.

أحبس صراخي متجمداً وسط الغرفة. أرهف السمع إلى وقع خطى، حفيف عباءات، لغطٍ يأتي من الشارع كاتماً أنفاسي، إلى أن أتأكد من مرور الأمر بسلام، فأتحرك لكبس زر المصباح قبل حلول الظلام ليوهم الناظر في الشارع بوجود أحد، وللطارق بنسيان أهل البيت المصباح مناراً.   

تأتي الهلوسة من غمرة الغسق المتدفق من درئيات نوافذ القبة الزجاجية، مع همود المدينة، من الصمت الذي يؤرجحني على حواف أمكنة المخيلة والكابوس والذكرى بكائناتها التي يكاد يكون حضورها فيزيقياً، ملموساً.. أو يصبح هكذا مع هبوط الظلام. كنت أظن أن الخمرة سوف تساعدني على التوازن، لكنها دفعتني إلى الاستلاب التام لذلك التشويش والاختلاط.

حبيبتي..

اسمعي بما يحدث لي في المساء

 اسمعي يا عمري.. يا زهرتي البعيدة.. اسمعي.. تهمد المدينة وتموت في الظلال.. احتدم داوياً بضجة أحشائي، مرعوباً من فكرة النوم وكوابيسه. أتسلق السلالم المتآكلة. أتلمس برودة الزجاجة في ظلام الإرسي. أنزل بها. أتذكر ما جري لي في ليلة البارحة. أتذكر قسمي في الفجر بعدم وضعها في فمي أبداً. أضعها على طاولة قصيرة القوائم في ركن الباحة البعيد. أهبط متوسداً سجادة صلاة عمتي المفروشة جوار عتبة غرفة نومها بمواجهة القبلة. أعاند الرغبة الهادرة في دمي.. أقاوم.. أقاوم والضجيج الغريب في صمتي تقوم قيامته. أحاول الاستنجاد بكتاب الله الملفوف بقماشة خضراء والموضوع على رف قريب من موضع السجادة.. يتهدج صوتي في التلاوة.. فأظن أنني نأيت بعيداً عن السائل المترقرق في الزاوية. أضطرم حال فراغي من لف الكتاب الكريم بردائه النظيف. أصعد إلى فراشي في الإرسي، يدوي في صمتي سكون أمكنة الرؤى المرعبة. أنزل إلى الباحة هارباً وأصب الكأس حتى حافته. أدلقه في جوفي في جرعة واحدة. تصعد الخمرة إلى الرأس المشوش أصلاً فتحتدم الرغائب.. كل الرغائب، رغبة بمعانقة البشر، معانقتك، ابننا، المدينة، النهر، الشجر، الأحباب، رفاق الجبل، الجنود في الجبهة، التراب، الحيطان، البيوت كل البيوت. أحتوي الكل في قلبي عقب الكأس الأولى، وفي الثانية والثالثة أنسل من عتمة الباحة إلى المدخل. أفتح الباب المقابل للصالة. أرتقي السلالم الحجرية المنخورة. أقف على السطح مسحوراً بأضواء المدينة. أعب من نسمات الليل البارد أنفاساً عميقة. تجتذبني السطوح المتلاصقة. ألتف حول سقف الباحة المقبب. ومن ثلمٍ في الجدار أنفذ إلى سطح الجيران. أنقل قدمي الحافيتين بحذرٍ شديد مقترباً من سياجٍ واطئ يطل على باحة الدار. ومثل سائرٍ في نومه أجوب السطوح، عابراً من سطح إلى سطح. أتلصص من الأسيجة الواطئة على الأجساد الغافية، المبعثرة خلف نوافذ الغرف المفتوحة على الأحواش والباحات أعانق امتداد الأجساد النائمة، أجساد صبايا مكشوفة الأفخاذ تضيء في ظلال مصابيح النوم الشاحبة، نسوة ناضجات، مهجورات في بحر الأفرشة يتقلبن بين الفينة والأخرى على ظهورهن، على بطونهن، على الجوانب، منفرجات الأفخاذ، مصفوفاتها، عاريات تماماً، بأردية النوم الشفافة، وبملابسهن الثقيلة. تمتصني كوى السلالم فأهبط في بئرها. أتلمس حافات الدرجات بأطراف أصابع قدميَّ. أدور في الأحواش الفسيحة والضيقة، في الباحات المسقوفة والمفتوحة. أطل من شبابيكها وأبوابها المشرعة على أجساد تتعانق غافية، وأخرى تدير ظهورها متنافرةً، وأخرى تتلاصق وتبتعد في عراك وحراك مخفي تحت الأغطية وسط أطفال يتصنعون النوم. أشبُّ على وقع آهات وصرخات لذة وألم تصدر من أجساد طافحة بالشهوة والعذاب، أجساد ملساء لها نصاعة البلور، بيضاء، سمراء، نحيلة، ممتلئة. أدور مشدوداً. وترى نافذ من فتحة البنطلون. أنشّد.. أنشّد إلى أن تنطلق قذفتي العمياء بوجه الحائط والليل، فأستيقظ مذعوراً، ينوح في أحشائي صراخ أخرس. أنسحب إلى المداخل والسلالم شاعراً بفظاعة هذا الدوران الشبحي المجنون وهتك حرمة بيوت الناس في عزِّ نومها. يتخافت هلعي في رحلة العودة. فأستسلم للخدر المبثوث من قناديل السماء الكثيفة ونسمات آخر الليل. أعود إلى باحة العمة أحتسي المزيد من الكؤوس. تنتابني دوامة قبيل الفجر. أعود للدوران مقتصراً في هذه المرة على السطوح فقط. أتلصص على الكائنات في دبيبها في الأحواش والباحات، شيخ يقعد على سجادة صلاته، امرأة تسكب ماء الوضوء على كوعها العاري، رجل يخرج من غرفة ليتلصص من خلال نافذة غرفة مقابلة، امرأة في الثلاثينيات تودع جندياً فتياً يحمل حقيبته بتثاقل، تسحبه من جوار الباب الخارجي تلتهم شفتيه. يتحول العناق إلى التحام حميم، سريع، عنيف. أحدق بالأصابع المجنونة وهي تفتح الأزرار وتخرط الأردية والألبسة الداخلية. في ضوء الممر العاهر أجلسته على سلالم السطح واعتلته كما تُعلى الفرس. أحملق في وجه الشاب المتضور باللذة، لم يزل يافعاً. أتأرجح مع تأرجحها فوق الجالس على بلاط السلم. استعر من جديد. لا أنسحب إلا مع خيوط الفجر المصحوبة بأوائل الضجيج. أتهالك منخور الأعماق على سجادة صلاة عمتي، ساقطاً كالميت في النوم.

هل أدركت فداحة ما أنا فيه؟. كل الذي سردته يكاد يتكرر يومياً. أما في الأيام التي أقاوم فيها شهوة الخمرة فأكون في ضيافة هواجس رعبي في الصحو ورؤى كوابيس الهلع في النوم التي لا أستطيع سردها لك.. وقد لا أبوح بها إليكِ حتى لو وصلنا بسلام إلى الثوار في الجبل مخافة أن تعتبريني إزاء تصلب وعناد أرائك المؤدلجة جباناً، وحينذاك سنخسر قصة حبنا الجميلة. أنا أعيش في عالم غريب مهلك.. أخبري رفاقك بذلك كي يدبروا لنا أمر الالتحاق.

 

 

في برزخ الجبل

ذل العاشق

هل ثمة عاشق أبأس وأذل مني؟.. هل؟.. ولا قيس بن الملوح.. صرت أكثر من بائس.. والأشد بؤسا أنها لا تحس بيّ.. ولا تشعر حتى بحماستي الزائفة التي تتساوق مع إيقاعات واتجاهات مقاصد كلامها بحضور تلك الذوات المصنوعة من ورق الأماني ومدن الكتب والحكايات، الواثقة بقدرتها على تغيير مصير العالم. صرت أكثر من عبدٍ. كنت أطل من ناصية وعيي على المشهد برمته،  لكنني أكتم ما يجول بنفسي ولا أستطيع البوح به لأكثر البشر لصقاً.. رفيقة ليليَّ المبحر في الأخيلة المفزعة والأحلام، في التباس المعاني والأحوال وغموض المآل.

هل تعذب بن الملوح مثل عذابي؟

هل احتضن ليلاه بعريها كل ليلة مثلي مرعوباً يبغي لحظة أمان من هول الدنيا واحتمال الغياب الأبدي في جبهة الحرب؟

هل مثلي أحتضن ليلاه النائية المحتقرة جسده الراجف الخائف المتشبث بتضاريسها رعباً من موت يضمره الغد الأعمى؟

هل كان مثلي تعتقده مجرد شخص أصابه الجبن فتنكر لمعتقداته؟!.

كنتُ في تلك الليالي أبحر في جسدٍ ميتٍ أبعثهُ من تاريخ قصتنا ومن مخيلتي المحتدمة. الجسد الحبيب المتلظي برغبته، والمنكمش لحظات الاحتدام والتي فيها أبدأ بالهذيان.. هذيان ذاتٍ مهدده بموت قريب تضمره صباحات قادمة مجهولة.. هذيان محب مدله بعنفوان الجسد.. ذلك الانكماش الذي جعلني في ليلةٍ وأنا أكاد أبلغ الذروة وحيدا،ً أنسحب من حمى التداخل الحميم دافعاً جسدها العاري بعيداً نحو طرف الفراش المحتل وسط الغرفة، لأنشج متكوراً في كثافة وحشتي وإحساسي بوحدتي الساطعة في ظلمة الفراش والغرفة والعناق العاري، لاعناً في داخلي نعومة الجسد الأنثوي وضعف قلبي وعجز كياني، لاعناً وَهَم المحبة الذي جعلني ألح على قادة الثوار كي يجعلوني أتسلل خفيةً مصوراً نفسي سوبرمان قادرًا على الإتيان بالأعاجيب.. وأنا لا أفكر إلا بجوارها المبهج خلاصاً من ورطة الكفاح المسلح. كنتُ متماهيا في حلمي بعناقها إذ لم يمر على زواجنا عام واحد ونصف، والتمتع بمرأى ولدي البكر الذي تركته وعمره ستة أشهر.  وجدتني في لحظة إزاحتها المشبعة بقرف من كل ما يحيطني حائراً في غور السؤال:

ـ من الحالم هي.. أم أنا؟!.

وأنا تحت وطأة ذاك الوضع والليل والعري والسؤال، وجدتها ساطعةً بعنادها المطلق غير العابئ بوزر المحبة والعائلة والتقاليد.. ووجدتني خائراً خاوياً منكسراً أبغي حنانها الهارب.. الذاهب مني والغامر خاطر هذه الكائنات المسلحة القادم عبر منشورات سرية وأخبار شفوية تصلها عند لقاءها سراً بما لا أعرف:

ـ من الحالم هي.. أم أنا؟!.

همس لنفسه بخفوت وسط ضجيج الأصوات المحتشدة في غرفة معتمة واطئة السقف طويلة ضيقة خصصتها القرية لراحة المقاتلين الجوالين، متأملاً ظلال فوانيسها الخافتة ووهج نيران موقدها باسطوانته المعدنية الثاقبة خشب السقف، امتدادها الطويل حيث تناثر المقاتلون بلحاهم الكثة وثيابهم الرثة وروائحهم الخانقة التي هي مزيج من روائح العرق والجوارب وأقدام عطنتها الفطريات. استعاد لحظة بلوغهم أول قرية محررة، ودهشتها حينما برك جوار أول صخرة، ثم سجد وقبلها:

ـ ماذا بك؟

كانت تردد باستغراب وهو ينهض ليعاود التسلق. ألحت عليه فقال:

ـ أنفذ قسماً قطعته لنفسي وأنا في الإرسي !.

كانوا يشخصون بعيونهم البارقة نحو جلستها المقرفصة جواره أمام المدفأة القائمة قبالة باب الغرفة الوحيد. عيون متأججة بنيران الرغبة والأحلام، متوسلة، مخدرة. عيون لم ترَ منذُ زمن امرأة من المدينة، ليست امرأة فحسب بل مصبوبة بقدٍ مكتنزٍ يضيق بالبدلة التي أعاروها لها عند وصولها أول قرية يسيطر عليها الثوار. جسد يضج بالأنوثة ووجه خمري باهر الجمال. عيون جائعة تجول في أنحائها، تفج الكنوز الخبيئة في تضاريسها المفضوحة تحت ضيق السروال القصير والقميص الخانق. تتفرس بصمتٍ حط مضطرباً منذُ أن دخلتْ الغرفة الرطبة المحشودة بأوجاع الرجال. صمت يضجُ بوجوه لَبدَها ليل حرب العصابات في شعاب الجبال الوعرة. وجوه تلوب. وجوه تبحر في الأخيلة، في إصغائها الخاشع لنبرة صوتها الناعمة المقطرة فيض أنوثة طافحة، طالما جعلته يستعر في حضورها وغيابها بمستحيل الأشواق. صوتها الموقظ ضيم نفوسٍ مشردةٍ بين الجبال. ترهف قسماتهم القاسية مذهولةً بما تقوله للمقاتل الجالس جوارها عن أوضاع الناس في المدن ومزاجها في ظل الحرب. كانت الحماسة تزيد من ألق جمالها الوحشي في شحوب ضوء الغروب المتسلل من فتحة الباب. كان يدرك في صمته المتوثب ما يعتمل بأرواحهم من فوران.. أحلام وأماني ورغبات. كان يتمعن فيها عميقاً، متأملاً لهفتها المجنونة المأخوذة بحلمها بمدينة ماركس الفاضلة، الذي كانت تعتقد أنها خطت نحو معانقته خطوةً بالتحاقها بثوار الجبل.

 كان يلتزم الصمت.. الصمت.. فكل شيء محسوب ومقاس ومحدد.. البشر والشجر والروح والحبيبة.. لا مجال للحماقة هنا.. لا مجال.. فقد خبر عنادها المجنون وتشبثها بحلم العدالة والمساواة والمجتمع السعيد الذي تعتقد أن هؤلاء المسلحين الملتحين التائهين بين الجبال سيشيدونه في الغد القريب. ردد بصمت:

ـ دعْ المياه تجري كما تشاء التضاريس!.

كانت متقدة الروح ترغب في احتواء الكل.. رغبةً ماحقةً، طالما ألجمته وهو يحاول التخفيف من حماسها بعد أن خبر هذا العالم الغامض ستة أشهر. خاض في قتامة الليالي والثلج والجوع والحرمان، في خواء أحلامهم المستحيلة، في حياة العزلة، حيث تستفحل الغريزة، فتشطر الذات البشرية الحائرة بين قيم الكتب الثورية الطهرانية والتقاليد والأعراف الريفية القاسية، وبين ضغط الأرواح المتمردة بكل ما تطلقه من حرية داخلية ترتد لتشظي الأرواح القلقة، المتأرجحة على حافة موتٍ يربض بكمين أثناء عبور شارعٍ عام، بمعركة، بسمٍ يدسه رفيق خان سراً. ألجمه حماسها الساطع، وجعله لا يبيح لها بما خبره من التفاصيل اليومية، حيث أطل منها على عذاب ولوعة الأرواح الدائرة بين الجبال البعيدة.. انكساراتها.. موتها الأقرب إلى الصوفية منه إلى قناعة الأيديولوجي.. صعوبة التجربة وأفقها المسدود. أدرك أنه سيفقدها لا محالة بعد أول حوار حاد عن حركتها واتصالاتها السرية أثناء غيابه في الجبهة. كان ينمحق تحت وطأة هاجس اعتقالها وأخيلته تذهب بعيداً بما يفعلونه بها في تلك الأقبية والدهاليز المخيفة، والشقة يجدها مليئةً بالمنشورات السرية. كان ينسحب من الجدل، فمن المؤكد أنها سَتَعتَقدهُ جباناً فيما لو أمعن في بسط بؤس ما شاهده وعاشه فعلاً هناك. كان يرعده هاجس فقدها وخراب قصة حبهما:

ـ دعْ المياه تجري كما تشاء التضاريس!.

قال لنفسه في لحظة سكر في تلك الشقة المعزولة، بعد أن تركته غاضبةً حينما لامها على وجود منشورات سرية في الشقة دون التفكير حتى في إخفائها. تركته لليل الإجازة القصيرة.. للخمرة.. لحضيري أبو عزيز.. وداخل حسن.. ولسورية حسين.. وعويله النائح. تركتهُ مقفلةً باب غرفة النوم عليها. تركته لليلٍ مشحونٍ بالرعب والاحتمالات.. فأدرك ليلتها شيئين جوهريين.. أنه لا يستطيع دونها تذوق الدنيا.. وأنه سوف يَضِيع وتَضيع منه في حوارات كهذه.. ثم إنه موت سواء أكان في المعتقل أو في الجبهة أم بين الثوار في الجبل، والأخيرة أخف وطأةً من الاحتمالات الأخرى:

ـ دعْ المياه تجري كما تشاء التضاريس!.

كان لا يبدي اهتماما بالشرر المنبثق من الأحداق المحملقة. أحس بها تشتعل بوهج العيون. طفقت تتململ في جلستها مقتربةً نحوه، وصوتها ذو النبرة الواثقة أوهنه الريب، فجعلت تتلكأ بالكلام. كان يرمقها بحياد حسب الاتفاق متجاهلاً الأسئلة بنظراتها المستنجدة. كان في عمقه المغلق شامتاَ بها..

 … اهبطي يا حلوتي.. اهبطي من نورانية حلمك.. اهبطي.. وبنفسك جسي فحوى الكلام والكتب.. بنفسك جسي.. تلمسي.. فطالما تجرعت منك ضيم ليالٍ موحشةٍ في الاختفاء وفي أجازاتي من الجبهة بعد أن عدت إلى وحدتي نادماً شأني شأن آلاف الجنود الهاربين.. تلمسي وجه جيفارا، المحدق نحوك بعيونه الكثار الشاخصة، من هذي الوجوه الملتحية المتعبة.. اهبطي يا حلوتي.. اهبطي..

كان يعمي بصيرته عن إحراجها البين وهي تشمل المسلحين المتكئين على الجدران، المنتصبين، الجالسين، الصامتين، الملتهمين هذي الغزالة السمراء التي هبطت قبل لحظات من القمة المقابلة بصحبة رفيقين، متلذذاً بنشوتين.. نشوة صدمتها برجال مدينتها الفاضلة.. ونشوة خلاصه من جحيم غرف الاختفاء وأخيلتها.. من عذاب ليل الجبهة الضاج بصراخ الجرحى وقت احتدام المعارك. انحرف قليلاً في جلسته ليحتل مكاناً يتيح له الإبحار في قسمات الوجوه الشاحبة، في جوعها وألمها، لهفتها وأشواقها، في بؤسها ومجدها، في أحلامها الميتة وأخيلتها الحية التي تكاد تتجسد في نحت الملامح، أو تتبدد كرماد فرط تكرارها. الأخيلة التي ستشحذ هذه الليلة بعبق أنثى برية مسكرة شاخصة في جلستها وسطهم.. جنية ستمنح أرواحهم الموحشة، الضائعة بين الصخور والقفار والقتال شيئاً من الرواء سرعان ما سيتبدد بذهابها مخلفةً المزيد من العطش والاضطراب.. ستكون مثل طيرة وكرت صدفةً وطارت خافقةً بجناحيها لتختفي في السماء. إنه يعرف أنها ستكون حديث المساءات التالية.. شاغل الأخيلة، نزيلة حمامات الجوامع، وزائرة الأحلام.

اقتربتْ من موقعه المحايد رويداً.. رويداً ناقلةً قدميها مليماَ.. مليماً أثناء الكلام. أصبحت دانيةً من وجهه الجامد.. الذي بدا لها أقرب إلى البلادة مما جعلها تحتدم وتحدق بغضب. كان أميناً لوصيتها التي همست بها في السيارة التي نقلتهم من الموصل إلى الشيخان:

ـ من الضروري أن لا نكشف أنفسنا.

ونزعت حلقة الزواج وسلمتها له قائلةً:

ـ نحن الآن رفيقان لا زوجان.. تذكر ذلك!.

إنه يتذكر في حياده وصيتها لابداً خلف وهج المدفأة، ملتذاً لذة فريدة لتلظيها بنيران شهوات عيون معذبة يائسة تجد في خاطرها مساحة بهجة.. العيون الثاقبة نوافذ تلوح منها لوعة الأرواح، نوافذ أدمنت الحلم، نوافذ خبرها في الستة أشهر التي قضاها وسطهم. العيون المخذولة أخذت تزداد بريقاً مع تكاثف العتمة ووشل الكلام. هبط صمت مباغت فتجسدت حولها العيون متوسلةً متشهيةً تحاصر كتلتها المكورة جوار المدفأة. أشرت له مدورةً إبهامها وسبابتها حول بنصر يدها اليسرى. تبسّم لصرامة قسماتها الجادة متصنعاً المزيد من البلاهة، وشرد بعيداً عن ملامحها التي تتجلى وحشية جمالها عند الغضب محدقاً في فتحة الباب المطلة على ذلك الغسق الشتوي الكامد.

… ها.. أنت يا جمرة روحي وسط أحلامك..

ها.. أنتِ في حضرة من يجسد حلمك بالعدالة.. وسط رجال حلمك المقدامين.. العابقين بعطر جيفارا وهوشي منه..

ها.. أنت يا جُمّار قلبي تعانقين في أول يوم رجال مدينتك الفاضلة الذين جعلوك في شقتنا المنسية تزدرين وجودي وكل ما أبديه من رأي..

ها.. أنتِ يا خلاصة روحي تتجسدين تحت ناظري مثل غريق في يم جمرٍ لا قرار له.. يم أحلامكِ.. يم الصمت.

لاصقته هامسة:

ـ أعطني الخاتم.

ـ ليش؟

نطقها ببلاهة متقنة، فحملقتْ بملامحه الساكنة المسترخية وكأنه خارج المشهد. أردفت بخفوت:

ـ مو هسه بعدين!.

بحث في جيوب السروال والقميص. تلمسه. حركه بين أصابعه تحت نسيج القماش. كان الكل يبرك في الصمت. أفلته وأمسكه مرات مستمتعاً بقسماتها المتنمرة، والملاحقة حركة أصابعه العابثة بباطن الجيوب. تناولته بحركة جهدت كي يراها الجميع. أمسكته بأطراف أناملها. أرجحته في بقعة الضوء الجمري المتسرب من بوابة المدفأة التي فتحها في تلك اللحظة أحدهم للقمها بمزيدٍ من الحطب. أرجحته محدقةً بجرأة في حشد الوجوه المتأرجحة مع حركة الخاتم المتردد في أرجوحة عناق السبابة والإبهام. ود في اللحظة تلك لو يعانقها.. يحملها.. يدور بها في أرجاء الغرفة الرطبة.. أرجاء الدنيا.. مثلما فعل حينما ذهبت جهوده سدىً مع أهلها كي يوافقوا على زواجهما.. حتى اضطرت لمصارحة أباها بقصة حبها، فحلت الموضوع من الجذر.. هاهي تطيل من فعل التأرجح الجريء في العيون المقتحمة. كان يرقب المشهد مقلباً ذراه الكثار. فها هي تتجلى من جديد، ماسحةً في مسكتها المثيرة، خاتم الذهب المتأرجح، كل رماد ليالي الاختفاء وتشنجات الحوارات العويصة عن مخاطر الحماسة المفرطة.. هاهي تلقط من أول لحظة ما يختفي خلف المبادئ والكلام. هاهو يقع على سر تعلقه المجنون بها. هاهو يجد في لحظتها الحاسمة جذر معناها..  وقرار روحها القوية التي تذهب إلى ما تبغيه دون مواربة. هاهو ينفض ما علق بروحه من أوحال ليالي العري والنأي.. ليالي الأوهام.. وجدها تتعلق به من جديد.. تشهر.. كونها منشغلة بواحد يلتف معناه بحلقة الخاتم الذهبي المتأرجح.

حشرته بصعوبة حول بنصرها الأيسر ظانةً أن ذلك سيطفئ جمر العيون. حشرته بشجاعة ملتفتةً نحو حياد نظرته باعتزاز. كاد أن ينفرط ضحكاً من ملامحها الواثقة شديدة السذاجة بصرامتها.. نفس جدية انفعالها عندما تجهر أمامه كونه طيباً إلى حدود السذاجة معلقةً إزاء عدم مبالاته المطلقة وإعراضه الدائم عن التفاصيل، مثلها مثل أمه. كان يهبط تلك اللحظة إلى قاع غبطةٍ مبهجةٍ، غامضةٍ، قادمةٍ من التباس كل التفاصيل والقصة.

أتمت حشر الخاتم، وانتصبت بصدرها العامر مكملةً حديثها مع مقاتلٍ، شاب أسمر كان يبوح لها بصوت مرتعش أشواقه إلى أمه والبيت، سيسمعان لاحقاً بأنه كان شاعراً قتلته طائرة مروحية في الأيام القليلة التالية لمغادرتهما المفرزة صوب قواعد الثوار البعيدة. كانت تعتقد أنها تعطيهم درساً.. ولا تدري أن بحركتها أوقدت جمراً لا ينطفئ. سوف تضطرم الأخيلة بالخاطر القادم من البنصر المطوق بالذهب، الباعث كل ما يتعلق بأخيلة سرير الزوجية.. في غرف الأهل والأقرباء، أخيلة الحرمان والتلصص من النوافذ وثقوب الأبواب. أخيلة لا تستطيع أبداً تصور حدها. أخيلة رحل فيها معهم في ظلال فوانيس جوامع القرى.. في لحظات الاسترخاء قبيل النوم. كانت الرغبة في بيت الله مثل طلقة تنبثق من ضيق بيت النار المظلم بضغطة زناد.. الرغبة المتجلية بوجه المقاتل الأسمر المكلف بإيصالهم من قاعدة ـ قرة داغ ـ إلى قاعدة ـ بيتوش ـ على الحدود الإيرانية.. الرغبة العمياء التي يجننها الحرمان المطلق وهاجس موتٍ قريب. انفصل عن مشهد حبيبته المنتشية بعدما أشهرت خاتمها اتقاء لهيب العيون. انفصل ذاهباً إلى ذلك المساء المغبر الغامض، في طريقهم الطويل نحو الحدود الإيرانية.. إلى مساء آخرِ قرية عراقية سيتسلقون حال مغادرتها سلسلة جبال سورين. كان مُوَزعاً بصحبة ذلك الشاب الأسمر الوسيم في أحد بيوت القرية لتناول وجبة العشاء.. وقتها كان سعيداً لخلاصه من جبهة الحرب، ولاكتشاف قوة إرادته الكامنة في تحمله مشقة المسير الطويل، تسلق القمم العالية، واجتياز المخاطر. في اختلاط المساء الشاحب المغبر بضوء الفانوس، المضيء طارمة البيت العالية، تقدمت صبية كردية ممتلئة، حاملةً صينية الطعام، رمقتهما خطفاً بكل وحشية جمالٍ منسيٍ بين الجبال الوعرة وفوضى حروب العصابات المستمرة. قسمات مذهولة بوجوه الشبان الفتية الذين يهبطون من القمم المجاورة أو يظهرون من عمق الأودية كل مساء، ويغادرون إلى المجهول. انحنت نافثةً عطراً برياً مسكراً، ووضعت الصينية وسطهم. استقامت لتستدير في غمرة ضوء الفانوس الشحيح، فانحشر عند قيامها ثوبها الفضفاض بين ردفيها. مشت عدة خطوات قبل أن تسحبه في حركةٍ زادتها الظلال والوضع البشري إثارةً. كان يتتبع بصمت خطواتها المبتعدة.. البطيئة متسائلا في سره:

ـ هل هذه الأنثى الكردية الصاعقة تدرك بالغريزة ما يجري في خواطر وأخيلة أولئك المسلحين الغرباء العابرين الذين تقدم لهم الطعام كل مساء.. أم أن حركتها هي جزء من تفاصيل يومها الطبيعي وهي تقوم بهذا الدور مساء كل يوم تقريبا؟!.

 هاجه المشهد.. وكان جسدها خاطفاً مثل طيفٍ ينبلج من مناحي الطارمة المظلمة ويغيب فيها.. حضور ملفوف بالأسرار نام بين الضلوع. التفت نحو رفيقه الأسمر الذي لطم جبهته بباطن كفه المفتوح، وظل طوال الليل، وهما يتسلقان دروب جبلية بدت وكأن لا بلوغ لقممها يصرخ متوجعاً من هول الثوب المنحشر بين الردفين. كان يلمس خفقه اللاهث في مجاهل السلسة الشاهقة التي جعلته يبول دماً بعد عبورها في الصبيحة التالية. كان مثله يكتم شهوته المتأججة، راسماً ملامحها، ملمس جسد زوجته الحار الأسمر اللدن العبق المسكر الساحر.. الماكر مكر الجسد الملفوف بالأسرار المنبثق من غور الغرف المظلمة، المقدم الخبز واللبن، والمختفي خلف باب خشبي قديم. الجسد الخاطف الظالم ذاك كان أحد الحوافز التي جعلته يفكر بترتيب عودة قريبة. كان يبصر لوعة الرفيق الشاب الأسمر من وهج الثوب المحشور.

في انفصاله الخاطف كان يتنفس حريق الجسد المجنون بمشهد المساء الذي تجلى هذه اللحظة وهو يقرفص جوارها وسط المقاتلين في غرفة عند قاعِ وادٍ منسيٍ.. مشهد سيشعل حماسه لاحقاً كي يعود لها سراً.. وثوب الكردية المحشور بين الردفين الصليبين ونحتهما المتحرك يهتز قبل أن تغيب خلف باب معتم.. لوحة ستعاشره حتى المشيب.. حتى الصمت.

سعار الشهوة الغامضة يطغي على العقل والروح.. على المعنى. سعار أجرد يشعله البصر. سعار زاده جنوناً لمعة الخاتم الملتف حول الإصبع الناحل، المضاء بوهج نار المدفأة. المعدن النادر الثمين نافذة أطلت بهم على ليل سريرها الزوجي، عاريةً تتطّوى وتتلوى وتتقلب في فضاء الفراش معه. أذهبت العيون، التي ازداد بريقها واستدام، نشوة حركتها في لبس الخاتم. من خلف زاويته الظليلة خلف المدفأة والجدار القريب، كان يتأمل ارتباك كيانها صامتاً، وهي تتحاشى نار العيون المقتحمة أرجائها المقرفصة الجامدة بعد أن أصبح الحراك عصياً عليها، فمع كل حركة كانت تشعر بالعيون تسقط حارقةً المفصل المتزحزح. اشتهاها هو الآخر بشدة تلك اللحظة، والكيان الذي حجرته العيون يرمقه باحتدام المحب المدله الغارق ببحر الغرام، والمتأمل في لحظات الاختناق كف المحب القادر. احتدمتْ مقربةً رأسها منه:

ـ أعطيني أذنك!.

همست، فهبط صوتها الخافت اللاهث في أحشائه، خمرةً تفقد العقل والقصة:

ـ أش بيهم؟!.

أمعن في استغبائه وكأنه بحضرة أمه الحنون التي كانت وماتت وهي تعتقد بأنه طيب حد السذاجة، كان يحس أن ذلك الشعور يسعدها، لحظة تصنعه البلادة وعدم الاهتمام بما يحيط به وسط العائلة الغارقة بمشاكلها العويصة فقال:

ـ من؟!.

ـ ما تشوف؟!

ـ..

ـ أريد أطلع

ـ باردة!.

ابتعدتْ عنه قليلاً. رمقته بعينين مشفقتين، راغبتين في شرح الموقف، وقالت:

ـ تعال معي!.

انتفضتْ في انتصابها المباغت وكأنها تطرد عن جسدها وحل العيون الدبقة، فارتجت الأجساد الرثة البائسة في أوضاعها المختلفة، ملاحقةً اهتزاز الورك الضائق بالسروال في خضم خطوها الصارم نحو الباب. تدفق حشد المقاتلين خلفها متزاحمين في الفسحة الضيقة على حافة الوادي أمام باب الغرفة الوحيد.

تسلل من زاويته الدافئة خلفها متعمداً التأخير.. متأملاً.. مبحراً في الغسق.. في وجوه المقاتلين المترعة رغبةً في مد الحديث معها، في احتشادهم حولها مثل فراشات عمياء تطير حول النار. في وقفته خلف الحلقة المحيطة بها حيث كان يبدو نسياً منسيا.. اصطادته عيناها المستنجدتان من الأفواه المحيطة، الساردة غريب الحكايات عن بطولاتها الخارقة. في وقفته المهملة كان يطل على القصة، ممعناً في حياده، مما جعلها تحتدم غضباً، عندما أعرض عن البوح، وقت التوزيع في بيوت القرية لتناول وجبة العشاء، والحصول على أفرشه نوم، كونها زوجته. في وقفته المنسية أدرك، وعيون الحبيبة تبحث عن مرساها به. أدرك معناها القديم عندما تقدم نحوه عقب وجبة العشاء، مسئول المفرزة معتذراً فقد استأثر بها لنفسه في التوزيع، مما اضطرها لإخباره كونها زوجته.

لا هي.. ولا هو تصور وقتها طبيعة المخاض الذي سيواجهونه. لم يقدرا عمق الجروح التي سوف تنفتح بنفسيهما. لم يقدر رغم تجربته السابقة، مبلغ التشوه الروحي الذي ستضفيه التجربة الحية.. فقد كان مضمخاً، بعبق الخلاص المسكر، من الليالي الموحشة المحشودة بالكوابيس، وأخيلة الأقبية وأماكن الاختباء، التي كان يجتر فيها حلم التجوال بصحبة هؤلاء الملتحين الضائعين في ظلال الأحلام والمعاني، الرازحين تحت عسف الشهوات والقمل والبرغوث، الغاطين بروائح البرغل والبصل والجوارب العفنة، الحالمين بتغيير الكون والإنسان. في أول فرصة سانحة منحته في جوف مغارة، وعلى التراب نفسها كاملةً، مثلما كانت تفعل في لقاءاتهما السرية في أول أيام المحبة.

 

 

التسلل إلى الفردوس ليلاً

أبحر في يم بشرتها السمراء، في زغب الوجنتين الطفل، في استدارات جسدها الأليفة المخبوءة تحت السروال الفضفاض، والقميص العريض، والتي كاد أن يصبح لمسها أمنيةً لشدة دنوها واستحالتها. فمنذُ ليلة التحاقهما حيث قضياها متعانقين، في جوف مغارة ضيقة واطئة السقف، انسلا إليها زحفاً بصحبة الدليل، لم يجمعهما فراش واحد. ظلا ينتهزان الخلوات أثناء تجميع الحطب من غابة السفح، أو في حلكة ليل الجبل الدامسة حيث تتسلل وقت نوبة حراسته، فيمارسا الحب على عجل بلهفةٍ مجنونة، في المغاور والكهوف وحمام ومطبخ الفصيل، مرتبكين، يكتمان لهاثهما الضاج في غور الجسد والروح خوفاً من الفضيحة. شرد ببصره عبر جلستها المتوثبة قبالته نحو غابات السفح القاتمة في هذه الظهيرة الربيعية المشمسة، منصتاً إلى هدير نهر "الزاب" المنحدر في الوادي العميق، ورامقاً حافة القمم الشاهقة ورقعة السماء المنظورة من قعر الوادي. كان يقلب في صمته وشروده تفاهة كل القصة، كل هذا الوجود الملتبس، الغريب، غير قادرٍ على الإجابة على سؤال بسيط: لِمَ لا يسمح قادة الموقع ببناء غرف للمقاتلين المتزوجين رغم وفرة الأمكنة وفساحة الأودية المتداخلة والعصية والبعيدة جداً عن كل الطرق الجبلية السالكة؟.

ـ لِمَ تسكت؟!.

تجسمت ملامحها المتنمرة في عنفوان رغبتها المحتدمة والمكثفة في حروف السؤال. تجّلتْ باهرة الجمال، بالغة البوح، عارية، ترتجف بكل مسامها. وحده وسط حشد عيون المقاتلين المتجمعين عقب وجبة الظهيرة، والرامقين بفضول جلستهما المتطرفة خلف الفسحة الكائنة أمام المطبخ. وحده يغور في لحظة اختضاضها الصامت وهي تلقي احتدامها في كثافة سؤالها اللائم. وحده من يفهم شبق الأنثى عندما تتحرر وترغب في الآخر دون حاجز. وحده يفهم سر غضبها الشاد حروف سؤالها مثل قوس، والذي أذهله وجعله غير قادرٍ على أن يذكرها بشكواها من حَرَجِ ليالي حلول زوج إحدى الرفيقات، الذاهب مع خيوط الفجر، في مفرزة، قد لا يعود منها كما يحدث أحياناً، فيقضي ليلته السابقة للسفر وسطهن مع زوجته. لم يستطع تذكيرها ورغبة عناقه طوال ليلةٍ توقدت في دمها الساخن. كانت تأتيه وقت الفطور الصباحي، متورمة العينين، عكرة المزاج، فاقدة الشهية. تعرض عن الطعام رغم أن الوجبات محددة بثلاث، وتقابل إلحاحه كي تأكل بمزيد من التجهم والعناد، فيداعبها بعسل الكلام، مسفراً عن رغبته بها في وحشة ليل القاعة، يسر لها بأحلامه في عناقها، الولوج بأحشائها في الذروة الماحقة. يسرد لها بهمس ضاحكاً، مزيجاً من أحلام يقظته ونومه.. عندها تتجرأ فتبث شكواها من أرق ليلة مبيت المقاتل الذي ذهب غبشاً وسطهن، الحاضن زوجته في قعر الظلام وضيق المكان الذي يحتشد بآهات تصدر من كل الزوايا والأركان، من موقع فراش الزوجين، من حفيف الأغطية، وطبة تقلب الأجساد المتأرقة، المتلظية بعذاب عتمةٍ محشودةٍ بهسيس اللمس والأخيلة. كانت تقول:

ـ يحس الواحد وكأن ثمة من يقترب منه ويشرع بالاندساس معه في الفراش.. شعور فظيع.. أليس كذلك؟.. فكيف أستطيع النوم إذن؟!.

ـ لا!.

قالها بحزم رغم شروده المتأمل.. الحالم، ثمن الليلة غالٍ.. غالٍ. فطالما سمع أحداث تلك الليالي همساً. كانت تفاصيلها تسرد بيقين الخبر، رغم حدوثها في حلكة تلك الغرفة الضيقة الرطبة الواطئة السقف، المتوسطة غرف القادة، وكأن موقعها هذا يحميها من غارات المقاتلين الحالمين بضوع الأنثى ذلك الحلم شبه المستحيل. الزوجة تَسِرُ لزوجها لحظات الخلوة والوجد بما جرى في ليلة الزائر المتوسط أماكن رقادهنّ. تسرد ما يعّن لمخيلتها القادحة في ظلام الغرفة، بهسيس وحفيف الأغطية المجسمة فداحة الشهوات الكتيمة التي لا معنى لقمعها في واقع الحال. فالنسوة الثوريات متزوجات على سنة الله ورسوله، دافع عزلهن واهٍ. إذ حرمهنَّ مما أباحته أعراف مجتمعٍ يعتبرونه متخلفاً ويسعون إلى تشكيله من جديد، لكن مثالية الثورة المسلحة كانت أفدح، فتشيع أخبار تلك الليالي وكأن الزوج ضاجع زوجته في وضح النهار وليس في حلكة غرفة الأسرار.

ـ لماذا؟.. الكل يفعل ذلك إلا أنتَ!.

قال بحزم ـ إلا.. أنا!.

في غمرة فيض الشمس الهاطل من حافة القمة، أبحر من جديد في حرقتها وهي تضرب كفاً بكفٍ وتحدق نحوه تحديق لبوة تبغي عناق صغارها:

ـ ما هذا العناد؟.. ولِمَ؟!.

ـ ليس عناداً!.

ـ ماذا تسميه أذن!.

ـ ماذا أسميه.. ماذا؟.. ماذا؟.. هكذا.. عناداً كما تقولين!.

استكانت للحظة في صمتٍ مضطرب قبل أن تقول بنبرة منكسرة، وظلال حزن راحت تطوف في بحر عينيها السوداويين النجلاوين، المحملقتين بملامحه الدانية:

ـ مشتاقة.. مشتاقة!.

ـ..!.

عاود الإبحار بصمتٍ في تفاصيلها المذهولة، صاعداً من عري العنق المهتز إلى الحنك الملموم مثل قبضة طفل، والشفتين المكتنزتين اللتين أيبسهما الظمأ الطويل، إلى الوجنتين المضرجتين بنيران الرغبة الحبيسة، وجسر الأنف الشامخ الذي يضفي على قسماتها زهو الأميرات، ليهبط من سفحيه الصقيلين نحو ألق العينين المتلهفتين ببحريهما شديدي العتمة، الشاخصتين نحوه.. لا يعرف ماذا يقول؟.. ملجوماً بعنفوان الرغبة المتأججة في عناقها والالتفاف بجسدها الساخن طوال الليل، والذي أصبح عريه شديد الحضور في الخلوات والأحلام، في ليالي القاعة الخانقة المكتظة، في ليالي المفارز المضنية، والمبيت في بيوت الفلاحين والرعاة وجوامع القرى البعيدة. الجسد الساطع في لحظات استعار الشهوة، التي تزيدها توهجاً، العادة السرية المستعيدة مجدها القديم، وكأنه رجع إلى بواكير مراهقته الضاجة التي لم ترتوِ من شيء. احتدم في الصمت البارك على المسافة الفاصلة بين وجهيهما المتضورين بعذابٍ لا يسعه الكلام. كان يحترق في أعماقه وهو يبحر في أخيلة تنبعث من كمال القسمات الدانية، الوالجة أحشاءه. نهض من رماد رغباته رامقاً الغد:

ـ.. سيذهب إلى قتالٍ وقد لا يعود، كما حدث للعديد من المقاتلين الذين يغادرون في الصباح بوجوههم المرحة، ليكونوا في عالم الظلمات عند الظهيرة أو المساء..

اختض من الأعماق مثل كل مرةٍ ينتابه فيها هذا الهاجس، لا جبناً من الموت الذي صادفه مراراً، وعرفه عن كثب في جبهات الحرب الطاحنة مع إيران، لكن وقتها كان مطمئناً لوجودها بين أهلها. أما هنا في وحشة الجبل حيث ارتدت الكائنات البائسة.. المحرومة إلى حقب الغرائز الأولى، الدارسة في الضوء واليقظة، لكن الزاهرة في الأحلام والظلام. ليس جبناً بل خشيةً من وحشة وضعها البشري عقب رحيله، فهو لم يكن ملحدا مثلها، بل يعتقد أن الموت إلغاء جزئي للكينونة البشرية.. ولذا فهو معني بما يجري بعد إيابه إلى السكون المفكر.. اهتز في تمليه العميق لشجون البشرة السمراء الناعمة الغضة، المنتظرة قراره. اختض في جموده شاملاً بنظرة وجوه المقاتلين القاسية، شهقة الجبل خلف قامتها المنكسرة في جلستها المستكينة على صخرةٍ كمقعد. ارتعد متخيلاً حالها لحظة استقبال خبره، فكاد أن يهوي نحو انكسار جلستها.

ـ سنرتب فراشنا في زاوية الغرفة البعيدة!.

وأضافت مشرقة الملامح همساً:

ـ وسنطفئ الفانوس!.

*   *   *

ظل يتقلب على فراشه المنزوي، في الظلال الكثيفة للأعمدة الخشبية الساندة سقف القاعة. يستعر وهو يتأمل المقاتلين الملتفين في دوائر، يلعبون الورق والشطرنج، قسماتهم المغبرة في النور الشاحب الهابط من الفانوس المعلق بالجدار، لحاهم الكثة وروائحهم العطنة، البنادق المتدلية من أوتاد خشبية ثبتت بالحائط، كومة الأحذية جوار الباب، سحب دخان السجائر المتلونة في لطخات الضوء المتكسرة على الجدران والشبابيك وأحشاء السقف الخشبية الواطئة. ينصت لصدى ضحكاتهم المتشنجة، الحارزة خلف نغمتها ألم دفين، تقوله التقاطيع الحادة، وردود الأفعال في حركة الجسد ونبرة الكلام. أبحر في بحر الفراغ، كما يحدث له غالباً منذُ طفولته، حين يجد نفسه بغتةً غير قادرٍ على فهم لحظته:

ـ لم هو هنا؟.. لماذا يجري له ما يجري؟.. وعلامَ هذا القلق والتوتر؟.. وأين يبغي في الغد؟.. هل صحيح حقاً أنه سيقصد غداً مع رفاقه لنصب كمين يباغت جندياً ساهياً بطلقةٍ قاتلة؟.

كان يبحر هارباً من عاصفة الأسئلة العافطة على كل جدٍ وقانون ونظام.. يبحر في متعة تلك اللحظة الحالمة، الغاطة حتى قاع الفراغ. من تلك المناحي الدفينة كان ينتظر خلود هذه الحيوات المعذبة إلى نومها المكتظ بالأخيلة والكوابيس التي توقظه مفزوعاً على صراخ مذبوح، هذيان مبهم، آهات شهوة من يكاد يبلغ الذروة معانقاً الوسادة والبطانية المتكورة بين ساقيه. من لحظة الفراغ الخاوية، كان يتخيل تلك الغرفة الضيقة المزدحمة بست نساء، والفائحة بروائح الأنوثة والعطور السرية المسكرة، سيحل الليلة فيها متسللاً، وجلاً، مرتبكاً بعد أن أحالتها الحكايا المنقولة همساً بين المقاتلين إلى جنةٍ ما بعدها جنة. كان يهمس لزوجته ما يسمعه. وكانت تستخف بأخيلة الثوريين، لكنه هو الآخر لا يختلف عنهم في قرارة مخيلته، الملتهبة بأمكنة النساء منذ الطفولة، كان يتخيل عبق السحر المنبعث من النافذة والباب في أعماق الليالي، ذلك العبق الذي يقال أنه حطَّ بسمعة مقاتل أربعيني، فضحه متلصص أخر عندما وجده ملتصقاً بالحائط جوار نافذتهن المظلمة يَنحب بصمتٍ ماسكاً عضوه القائم، أو ما يحكى عن الأنين والآهات الصادرة من جوفها أثناء الأسحار، وفي الأغباش الثلجية والتي يحلف من ينقل عمن كانت نوبة حراسته في تلك الساعة أغلظ الأيمان بأنه سمعها، وما تثيره الحكاية من أخيلةٍ عن عمليات سحاق تجري في تواطؤ يفرضه الظلام والحرمان. أو ما يقال عن مقاتل كان خجولاً رغم شجاعته في المعارك، اقتحم الغرفة في نوبة هياج مجنون أصابته أثناء نوبة حراسته، فَسُجِنَ. أو ما يقال عن اختفاء ملابسهن الداخلية ومشدات صدورهن المنشورة على حبلٍ يستدير حول مدفأة الغرفة الصفيحية في ظروفٍ غامضةٍ وقت انشغالهن بإعداد الطعام أو جلب الحطب من الغابة، والعثور على تلك الألبسة الداخلية والستيانات ممزقةً في المغاور والكهوف والمقبرة وغابة السفح وضفة النهر الهادر في عمق الوادي. حكايات وحكايات لا يدري أحد هل حدثت فعلاً أم اختلقتها أخيلة رجال عزاب ومتزوجين تركوا زوجاتهم في المدن البعيدة منذ سنين، يشيخون بين صخور الجبال الوعرة. كان غاطساً في الفراغ يتابع بعينين شاردتين حلقات اللعب الدائرية تنفض بكتل بشرها المتشبحة المنسحبة، إلى أماكن رقادها الموزعة بين أفرشة المقاتلين، الذين آبو باكراً إلى فسحة النوم والأحلام والبواطن الغامضة، يرمق كتلة أصابع امتدت نحو بكرة التحكم بذبالة الفانوس، فأحالت الإنارة إلى خليطٍ من حلكةٍ وعتمه مرتعشة بوشلِ النور الخابي المذعور في قعر الزجاجة المعلقة. هَوّمَ في سكونه الحالم تحت البطانية الرطبة منصتاً إلى حفيف الأغطية، وتقلب الأجساد الخالدة إلى رقادها، إلى اختلاط إيقاع الأنفاس النافثة غيض يومها، بآهاتٍ وأنات وزفراتٍ يفضحها الصمت والسكون الهابط على الأجساد المتعبة من شأن نهار الجبل الشاق، مختلطاً بإيقاع أشباح القاعة المشرعة على موات لحظتها، والكتل التي آبت إلى سكونها تحتدم عند بوابة النوم متقلبةً، متكومةً متناثرة، يطفو ألمها في شحوب الظلال لحدود جعلته يرى تلك الأجساد المعاندة القوية هزيلةً تعوم في صمت فراغه مثل أشباح تطل من حافة القصة. انتفض منتشلاً نفسه من غبار الفراغ. اعتدل في جلسته ساحباً جسده من غور الفراش ليتكئ على أسفل الجدار المغلف بالنايلون. فرك عينيه بسبابته المتكورة. عاود الحملقة بالأجساد. كانت تهبط متدثرة بأغطيتها البالية، ساقطة في غفوةٍ مثل قدر، غفوة فريدة لا تختلف عن غفوة جنود خنادق الحرب مع إيران حيث الجسد يستنفد كل طاقته أثناء النهار. أطربه بوادر شخير الذوات المتدلية في بواطن عوالمها المجهولة. أطربه النغم الناشز في اضطراب الهواء المسحوب نحو الأحشاء المجهدة، الصارخة من ذلك المروق الشفيف. أزاح بهدوء بطانيته، ولبث في تكوره وجلاً ينظر نحو فتحة الباب المسدودة ببطانية مزدوجة بدلاً من الخشب والكائن في طرف القاعة البعيدة. انسل من زاويته الحالكة سائراً على رؤوس الأصابع، بخطوٍ مرتبكٍ وكأنه مقبل على سطوٍ. يطأ حافات الأفرشة المتلاصقة أثناء عبوره الأجساد المبعثرة والمندملة في رخاوة قيعان الظلال الكثيفة. انزلقت قدماه في جوف الحذاء، وامتدت يده نحو حافة البطانية المسدلة، وقبل أن يدلف في جوف ما بين البطانيتين التفت نحوهم متخيلاً لحظة اكتشافهم مكانه الفارغ في بحر الليل وهم يناوبون في الحراسة. سيشحذ غيابه أخيلتهم المحمومة، فتشبّ بهم إلى ذروة لذائذ تتغذى من تفاصيل الصباح، مستعيدين نغمة صوت الرفيقة المقصودة، إيقاع ضحكتها، وجمر عينيها المحتدمتين بالشبق وهي تحتضن في الظلام الساطع وسط خمس إناث المتغيب عن فراشه. سيعانقون المطلق في شبوبهم ليهبطوا هبوطاً مريعاً إلى قفر الخواء. سيلعنون حظهم العاثر ويحررون الحسرات، ويعتنقون رماد أخيلتهم الأليمة وهم يندسون تحت الأغطية العطنة. سيحدقون فيه في الصبيحة بعيون حاسدة تحاول سبر مباهج الليلة الفائتة في غرفة الأحلام. غمره الليل الحالك خلف الباب. تلمس الممر المتعرج بين الصخور بالغريزة قاصداً المرافق الصحية، معتبراً أن ذلك ضروري جداً، فكيف به لو اضطرته الحاجة في عمق الليل وسطهنَّ. انتفض على كفٍ ناعمة أطبقت على معصمه:

ـ وين صرت!.

قالتها بنبرة مرتعشة اتسقت مع رجفة أصابعها الطويلة العاصرة معصمه بتوتر وقوة عصراً متناوباً أشعل دمه:

ـ انتظرت غفوتهم!.

ـ لماذا؟.. أنسرق؟!.

ـ أدري.. ولكن!.. سأعود بعد دقائق.

ـ سأنتظرك عند العتبة.. لا تتأخر.

*   *   *

خاض في الحلكة متخذاً درباً يستدير بعيداً وسط صخور الوادي، متحاشياً المرور في الفسحة التي يناوب فيها الحارس. دَبَّ في الصمت الأجوف تتنازعه الظنون والمخاوف من الغد المجهول، ميمماً شطر الضوء الخافت الراشح من كوة نافذة غرفتهن الداخلية، محتدماً بشهوةٍ فريدة يزيدها عرامة وعرياً وتجرداً الخواء المرعب لضفة الوجود الأخرى.. الضفة الحالكة، صمت التراب وأخيلة العالم السري المخبوء تحته في الأعماق، العالم المهول من أخيلة البشرية، والمقفل سره أبداً. العالم الذي لا إياب منه. العالم الذي قد يكون في النهار التالي فاتحاً أبوابه لجسده الخارج في غبشة الصباح إلى مهمة قتالية. اقترب من حافة غرف الطين الممسوحة بظلام السفح المتشبح وكأنه يعتنق السماء. استدار يساراً ليدخل الفناء الصغير المحصور بين الغرف الثلاث المتقابلة، خافق القلب، تائقاً للتحقق ولو في الظلام من كيان الحبيبة بالأصابع والأنفاس، بالأطراف والبشرة، بالصدر والقلب. التحقق من كتلتها النابضة. الولوج في أحشائها الساخنة، التلاشي فيها. وجدها عند العتبة متجليةً، تبث من قوامها الممشوق لهباً يسخن مسام جسده. وحده يدرك عمق هذه اللحظة المتألقة، المتكررة في أوقات فراقهما القسري. وحده يعرف كيف تتألق برغبتها وتمنح كل كيانها، في فترة اضطراره إلى الاختفاء في مدن أخرى هرباً من جبهات الحرب. كانت تأتيه في بيوتٍ سريةٍ كتلة نار متأججة تبغي الغور فيه، المكوث في أحشائه. تأتيه مثل شمسٍ مباركة وتحل فيه فيضاً من مباهج لا تنسى. وجدها مضيئةً في الحلكة:

ـ تأخرت!.

همست بلهاث وقبضت كفها الناحلة الساخنة معصمه والجةً باب الغرفة الخفيض. عصفت به رائحة نفاذة أليفة ما أن جاوز العتبة. رائحة انبثقت من سحيق أيامٍ غابرة، من سني طفولته البعيدة، رائحة جعلته يستكين لأعشار الثانية مأخوذاً، وهو يحل شريط حذائه الرياضي في فسحة الأحذية جوار المدخل. رائحة دلقت في كيانه ضوع غرفة بيت أهله القديم الوحيدة. تلك الرائحة نفسها المنبعثة بعبقها الطاغي من أسرة وستائر وهواء وظلال وزوايا وأنفاس وأوقات ومواسم تلك الغرفة الواسعة، الوحيدة، المشادة بالطابوق، والتي جمعته أخاً وحيداً لسبع أخوات جميلات يكبرنه. رائحة مسكرة كان ينغمر بمسْكها، وهو يندس معهن في الفراش المشترك، المحتل فسحة الغرفة، جوار سرير أمه وأبيه الخشبي بأعمدته النحاسية الأربعة المغطاة بالستارة الشفيفة التي تنسدل من حوافها حاجبة ليل الأبوين. رائحة ستنعجن بدمه، وهو يلتصق بلدانة أجساد أخواته المراهقات، اللواتي كنّ في غمرة النوم يتحسسن جسده بأصابعهن الناعمة الغافية. هل حقاً كان يحصل ذلك أم أن الأمر هو مزيج من ذاكرة الطفولة الرجراجة، وأخيلة مرحلة البلوغ في بيئة صارمة؟!. لم يجد جواباً في حيرته المقيمة والتي رافقته حتى سن النضوج. ظل يستطيب تلك الروائح، ويختلس لحظات الخلوة دافناً وجهه في تلافيف ثيابهن المبعثرة في خزانة الملابس المشتركة، يعب من أريجهنّ السري المخدر المنبث من كتبهن المدرسية، من أشيائهن الصغيرة. أفحمه الضوع القديم الهاب من أحشاء الغرفة، مزيج من أنفاس الجوري، الحناء، ضوع الأنثى لحظة اضطرام رغبتها الحبيسة، ضوع خافت مثل ظلال تشي به أحمر الشفاه، صبغ الأظافر، دكنة إصبع المكحلة، كريمات البشرة، ضوع الملابس النسائية الداخلية الحميمة، العارفة المبتلة بنبض الجسد السري، لحظة البوح الصامت في الأمكنة والأعراف الصارمة. عبق رحيق سري لا يصدر إلا من أنفاس الأنثى لحظة تألق الشهوة المكبوتة بزواجر التقاليد القاسية.

ـ أش بيك.. تستحي؟!.

نزع حذاءه واستقام مستيقظاً من سحر الضوع الفريد، ليواجه عشر عيون شاخصة نحوه، من ظلال الضوء الشحيح المتسرب من الفانوس المعلق وسط جدار الغرفة الأيسر. عيون مترعة بالفضول والشبق، عيون تتملى عميقاً. عيون حيوات تدرك أنها ستفقد قيمتها العملية بعد قليل، عندما ينطفئ الفانوس ويستحكم ضوء الأخيلة. من نظرة واحدة أدرك، أن الفراش الأعرض المرتب لصق الجدار في الزاوية البعيدة عن المدخل، والمحاط من الجانبين بفراشين هو فراش ليلتهما. يتحتم عليه الدوس على الأفرشة المصفوفة بين المدفأة المتجمرة جوار الباب وحافة فراشهما الذي أحسه بعيداً وثيراً. غاصت قدماه الحافيتان في طراوة الأفرشة مخترقاً كسر المرايا الصغيرة المثبتة بالجدران، خائضاً في بحر الأنفاس الأنثوية المصبوبة، اللاهثة، الملاحقة خطوه الوجل، المرتاب، مضمخاً بكثافة الأريج المتضوع من الأردية والأفرشة، الحقائب والوسائد، الأغطية وأشيائهن الصغيرة المزدحمة، في تجاويف النوافذ والروازين العمياء، وجوار الوسائد الملاصقة لنايلون الجدار المطّبع بالورد. هبط بجسده المتوتر على الإسفنج الناعم. هبط بنبضه على سفينة الليلة التي قد تكون الأخيرة. اتكأ على الوسادة الطويلة متحاشياً التحديق بهنَّ، حاساً بدمه الفائر يتدفق بغزارة إلى وجنتيه. حنطه إرباك شبيه بلحظة إدراكه لمأزق الاحتكاك الليلي بأجساد أخواته الحميمة وهو يتأرجح على حافة البلوغ، فيستيقظ في الصبيحة غير قادرٍ على مغادرة الفراش رغم إلحاح أمه، كي يفطر ويذهب إلى المدرسة، يتشبث بالغطاء حتى يرتخي وسطه المتوتر. تلك المحنة المحرجة كان لا يتخلص منها إلا في الصيف حيث ينتشرون في حوش الدار الفسيح، تحت قناديل الله الفضية المنثورة في ليل سمائه. حصر ناظريه بها. كانت تعدل البطانية العريضة بنشرها، ثم ترتيبها بطيها بطريقة يسهل سحبها والتدثر تحتها دون عناء. هبطتْ بجسدها المنحوت جواره باسمةً جذلةً في ضوء الفانوس الناري. تحدق دون حرج به وبهنّ مما جعله يتجرأ ويشملهن بتحديقه سريعة، فأصابته العيون المحملقة وكأنها نوافذ تطل على دخيلته. عيون ترمقه وفي أطرافها ظلال تموج بأخيلة ما بعد إطفاء النور. أخيلة جوف الليل القادم بالهسيس والآهات المكتومة والآذان المرهفة. ليل صعب مثل معركة ضارية ستدور في بواطن حلكة مفضوحة. استطال الصمت محكماً وثاق الوجوه والألسن. أصابهنَّ ارتباكه بالعدوى، فطفقن يعددن أفرشتهن ويتحدثن بهمسٍ متجنبات النظر إلى تحديقه القلق.

هل كانت نظراته تنتهك حدودهنَّ أناء خطف العيون؟.. أم أن الأمر معكوس، فهو من سينتهك طقسه السري هذه الليلة، وجسده بكل ما فيه من دلالات الحضور وسطهن يشي ويفضح جسامة هذا الانتهاك المرغوب من كل الأطراف!.

هل وشت نظراته، بما كان يفكر فيه. تلك المناحي من التفكير التي جعلته يجرد الأفعال من ظلالها الإنسانية ليصل إلى سؤال مبهم عن معنى وجوده مع زوجته في حميمية الفراش يشاركه لحظات وجده وتماهيه في أتون الآخر، خمس نساء سوف يأرقن وتتبلل ألبستهن الداخلية مع إيقاع الآهات وهسيس الأغطية المنزلقة، وهمس احتكاك الجسدين الموغلين بأحشاء بعضهما. الجسدان المشتاقان اللذان حتى لو لم يأتيا بأي حركة، فمجرد خلودهما إلى الفراش المشترك سوف يستثير كوامن الغريزة الغائرة في الأرواح المحرومة. بغتةً تجرد من ظروف الجبل الغريبة التي حطت به في باطن لحظته وسطهنَّ. لحظة طالما جعله شارداً في طفولته، عندما يتجرد متسائلاً عن معنى وجوده في الأمكنة المحددة، التي يجد نفسه مداناً، مهاناً في البيت والمدرسة والشارع، وفي نضجه وهو ملقى في زنزانة ضيقة في مديرية الأمن العامة ببغداد، معصوب العينين، مقيد المعصمين والساقين..

ـ لِمَ يجرِ له ما يجرِ وهو الطيب القلب الذي لم يفكر لحظة في إيذاء الآخرين؟!.

هل سبرنَّ غور لحظته فارتبكن من تجرده الذي أربكه وهو يرى نفسه وسطهن مثل لحظة ارتياده المبغى أول مرة، حينما كان طالباً في سنته الجامعية الأولى ببغداد.. تسلل إلى بيتٍ خلف ساحة الميدان، واصطف في أحد الطوابير الطويلة، بانتظار دوره للدخول إلى غرف العاهرات، اللواتي يحدق بهن وهنَّ خارجات من أبواب الغرف،عقب فراغهنَّ من الزبائن، يهرولنَّ نحو المغاسل عاريات من الأسفل بأفخاذهن المتينة، قاطعات صحن الدار المسقف بالزجاج، لتعود واحدةً وتسحبه من ذراعه المستسلمة إلى الحجرة شبه المعتمة. سيدس عضوه المتصلب في جوفها المباح. سيبلغ الذروة وحيداً وسريعاً. ستقول له جملة لم يدرك معناها:

ـ إذا تريد أعطيك من وره بربع دينار.

وقتها كان مشمئزاً من نفسه والوجود والمرأة ومغامرته الأولى في الولوج الكامل في الأنثى.

هل هذا السؤال الأجرد مثل أفق رملي فضحه ارتباك جسده.. سؤال عارٍ يلح من تجاربه الجسدية الفادحة، سؤال هو ما جعل عيون الرفيقات ترمقه بشغف لحظة دخوله، تَشْرِد متحاشيةً تحديقته المنشغلة بسؤاله المرتد إلى حقبة الغرائز:

ـ أهو هنا هذي الليلة ليمارس ما تمارسه الدودة والعصفور والزواحف بكل تلقائية وجودها في المحيط؟!.

تلبد في احتدام حواسه المضطربة، شاعراً بالانسحاق. تمنى لو يكون الآن راقداً في فراشه العطن وسط المقاتلين في القاعة، شأنه كل ليلة دون هذا الإحراج، واحتدام المشاعر المركبة التي أخذته إلى مواجع مؤلمة في محطات عمره المضطرب الضاج. كانت متماسكةً، تحتوي بنظراتها العارفة بالغريزة، كل مسببات ارتباك الأطراف:

ـ لنطفئ الفانوس.

جهرتْ لاغيةً ارتباك الحال. رحبنَّ بأصواتهنَّ الوجلة المتداخلة وكأنهنَّ ينتظرنَّ لحظة الإظلام بنفاد صبر. كان مستسلماً وهي تندس جواره تحت الغطاء، والرفيقة الراقدة تحت موقع الفانوس المعلق، تنهض من جلستها، ترفع جسد الفانوس من وتده ضاغطةً بإبهامها على النتوء الرافع لزجاجته، وقبل أن تنفخ بزفيرها، التفتت نحوهما حارزةً قبيل حلول الظلام أبعاد كتلة الزوجيين المتمددين جوار أجساد النسوة المجاورة، المغطاة حتى الأعناق في الظلال المتحركة على إيقاع اهتزاز الفانوس بين يديها:

ـ ألا يحتاج أحد إلى شيء؟!.

ـ لا.. لا.. لا...

نبرتْ الأصوات الأنثوية المخضلة من أنحاء الأفرشة. انتشله الحوار والمشهد من جحيم التداعي المر، فطفق يحدق من موضع زاويته المتطرفة، مركزاً على شفتي الرفيقة المكتنزتين المشققتين عطشاً في انكماشهما قبل نفث الزفير العادم لرعشة الضوء. تابع دفقه المسموع، الذي جعل النور الشاحب يشب وينطفئ، لتحل حلكة كاسحة، سميكة أطبقت ماحقةً الكتل والذوات، مشعلةً الأخيلة والهواجس والذكريات. سكن في جموده المستطلع غور الظلمة الهابطة بالصمت المتوتر. تخايلت له عيونهنَّ المتحجرة، المصوبة نحو موقعهما تبرق كعيون القطط. فزَّ محتدماً وفخذها المتين الملفوف لفاً، المتأجج، المحموم يلاصق فخذه في حراك ناعم مثل تساقط ثلج خفيف في ليلٍ جبلي دامس. أضطرم منصتاً إلى أنفاس النسوة الصاخبة، حفيف الأغطية، نفث الحسرات المنبثقة من فوح الأرواح الصابرة في خواء وحدتها على وحشة الفراش الرطب. حسرات تتصاعد خافتةً لتجوس في أحشاء الظلام، في عمق الليالي. حسرات تبوح بلوعة الزوجات المحرومات من حميمية جسد رفيق العمر المتخشب في القاعة المجاورة. أنصت مكبلاً بأخيلته التي تحفر وجوههن الساهرة. أنصت متحاشياً لبرهة من الزمن المغفل اتقاد الجسد الفائر لصقه. أنصت مبحراً في تضاريس وجوههن الساهرة في جوف الحلكة الدامسة، متخيلاً آذانهن المرهفة، المتوثبة لالتقاط أي حفيف أو هسهسة أو ذيل آهة مكتومة تصدر من فراشهما.

خمس إناث يحلمنَ الليلة بأجساد أزواجهن المتضورين شبقاً، المقلبين ليلهم الطويل في القاعة الكبيرة والغرف، على مسافة أمتار معدودة.

خمسة أرواح معذبة يحاصرها الليل برغائبه وحماقاته.

خمسة أرواح تتلظى بباطن الحلكة من سعار الشهوة المستثارة عما يصدر من فراش الزوجيين المتعانقين تحت ستار الظلام.

خمس جمرات متقدات تحت رماد الأغطية في قعر الظلام.

بصمتٍ.. سرت الأصابع تحت الأردية. تشابكت.. و.. افترقت. صعدت.. و.. نزلت. مسحت.. و.. انحشرت. تحركتْ ببطء. تريثت في الاستدارات المبهجة اللدنة، وانزلقت على السطوح الملساء، لتتجمد عند صدور آهة من الأجساد المجاورة. استطال اللمس فابتلت الأعضاء أكثر من مرةٍ قبل أن ينغمر الجسدان المتفتحان، الملتهبان، في احتدامٍ كعراك، بعد أن تحررا من ألبستهما تماماً. أطلق ما يشبه الزئير وهو يلج أحشاءها الملتهبة، وكيانها المكتظ بآهات تخرق مسامه وتنفلت حوافها في الصمت الصاخب. في غمرة الاندماج ذاك. في ذروة البهجة الفريدة، أحس بثمة أصابع تجوس ملامسةً أنحاء ظهره العاري. أصابع تنتفض، تنبض شجناً له طعم مختلف عن أصابع الحبيبة الوالج فيها، والمشغولة في التمسك بعنقه المطل على جسدها المفروش المفتوح في السواد المضيء وكأنه وردة جوري مرتوية في بستان. في غمرة الأشواق المباحة في الظلام.. في الاندماج والتداخل العذب، مدَّ ذراعه بحركة التفاف محيطاً بموقع الأصابع المندسة من الجوانب، وبكفٍ منبسطة هوت قابضةً على سخونةٍ خلفتها الأصابع المنسحبة.. لأريج السخونة التي احتوتها قبضته طعماً مختلفاً، جعله يمعن في محاولاته طوال الليل دون أن يفلح في القبض عليها. الأصابع السحرية المخلفة عسلها في المسام، في خواء القبضة الخائبة، بين الأصابع القابضة على حفنة من هواء الغرفة الحاشدة بالأنفاس، في صمت أبلغ من ضجيج، وظلام أسطع من نور. أصابع أفقدته شيئاً من بهجة الجسد المائج، الطيع بين ذراعيه. الأصابع العجيبة التي تتسلل عند احتدام اللهاث المكتوم، وعلى إيقاع الاهتزاز العنيف المصحوب بذيول الآهات وحواف الزئير المخنوق، المختلط بالأنات الخافتات، والآهات المترافقة مع ضحكاتٍ مختنقةٍ تحت الأغطية.

في الصبيحة التالية كنَّ يحدقنَّ فيه بعيون مرتوية. عيون أشعرته، كأنه مارس الحب تحت الأنظار وفي وضح النهار. عيون جعلته يستعيد شارداً، وهو يلوك وجبة الفطور، خاطر الأصابع الغريبة التي انتهكت جسده في الظلام. عيون أثارت سؤالاً مبهماً:

ـ هل كانت الأصابع في ذروة الحلكة والحراك حقيقيةً أم أنها قادمة من أرث خياله الجامح؟

في غبشة الصباح كان يعبر مع مفرزة قتالية صوب الضفة الأخرى.

 

 

أحقاد المحبة

وَجدهُ مطروحاً جوار ساقية صغيرة تجري من نبع القمة العالية. اهتز خطوه المقترب من موقع سقوطه شاعراً بفجوة فراغٍ تنفتح تحت قدميه. اختل متأرجحاً، فأسرع ممسكاً بساق شجرة بلوط. لبث حاضناً جسدها حتى استعادت الأشياء ثباتها. عاود الخطو. وقف على مبعدة خطوات مرتعداً، وهو يبحلق في همود الكتلة البشرية اللينة باستلقائها المبعثر.. في الساقين مفرودتين إلى أقصاهما. أطراف أصابع الكف اليمنى تطفو على سطح الماء الضحل الجاري في الساقية. المنديل مدعوك ومتكور حول العنق الموحل المخدوش بآثار أظافر. تخيلهُ حياً في دكنة الليلة الفائتة، وهو يشد منديله المبلول حول وجهه ظاناً أنه سينقذه من غازات الكيمياء الهابطة من ليل القذائف. تخيل رعبه حينما أدرك لا جدوى المنديل، فانطلق يصرخ في الظلام ساعياً خلف الهواء، مزيحاً بأصابعه المتوترة النقاب المبلل إلى أسفل.. أظافره تنشبُّ في عنقه.. تدميه. تخيله كيف يدور في هذه البقعة حول نفسه المشلولة برعبها.. كيف وهنت قواه رويداً.. رويداً، ليسقط من حافة الفراغ بالغاً مساحة الخدر والأحلام.. سيذوق هو الآخر تجليات هذه اللحظات عند أصابته لاحقاً بقصفٍ كيماوي. اشمأز من الغبطة التي ألمت به قبل لحظات، وحاول استدرار مشاعر شفقة تشارك فجاعة هذه الميتةِ. أمعن في تفحص الجثة.. فوضى الشعر الممرغ بالتراب.. السروال المسحوب والمحشور حجليه عند الركبتين.. الساعة المهشمة وأحشاء الزمن مبعثرةً حوله:

ـ يا للمصير البائس!.

أين رغائبك.. أحلامك.. مخاوفك.. نزواتك؟. ولِمَ طعنتني تلك الطعنة الغادرة؟! بعد أن كنتَ من أشد المقاتلين قرباً إليّ.. تسرّ إليّ مخاوفك.. ورعبك من موت تراه قادماً لا محالة.. كنت تتمسك بكفي ساعات الشدة والقصف، فأهدئ من روعك. لَمِ خربت كل ذلك.. آه ما أفظع ما يختبئ خلف قصص الحب من مشاعر حقدٍ تصل إلى حدود التشفي بمقتل رفيق سلاح!.

وأنت يا نفسي.. أي دركٍ سافلٍ هبطتي!.

من يقف خلف كل هذه المأساة والتشوه؟.. أهو الحب.. الغيرة.. القتل.. المخاوف والعزلة.. النفاق.. الدولة.. الأحزاب.. هاجس الموت.. الحرمان والدسائس.. فقدان الدفء.. التوله بمستحيل الأحلام وعواقب تهدمها في النفوس.. أم كلها مجتمعة يا رب القسوة؟.. لا أدري.. لا أدري.. التبست عليَّ نفسي وسط هذا الركام المخيف.. المخيف.. المخيف.

اجتاحته رغبة شديدة بالصراخ والصراخ.. الصراخ بوجه الحجر والشجر والريح والصمت وخرير المجرى الخافت.

*   *   *

يئس من أمنيته بنجاح مفرزة في شق الطرق المقطوعة بالثلج، لكن رفاق الموقع أكدوا له أنها وصلت فعلاًً، وأن الجسد الهامد تحت قدميه الآن، هو الوحيد الذي غامر بصحبة قافلة مهربي بضائع قادمة من الحدود الإيرانية. حمل بندقيته وغادر صوب الموقع الذي وصلته المفرزة. طوال ساعة الطريق ظل يحلم بشم روحها المتضوعة من حروف كلماتها، لائماً نفسه على لحظة تركها.. فالمشهد ما برح يسطع من جديد بقية العمر.. انتزع جسده من بين ذراعيها انتزاعاً في ذلك الفجر الخريفي الماطر، وسحب بوهن رسن بغلته المحملة بالأسلحة خائضاً في وحل الوهدة المؤدية إلى مرتقى السفح. ظل يتلفت بين الفينة والأخرى في ارتقائه إلى وقفتها وسط جمهرة المقاتلين، امرأةً وحيدة تلوح بذراعيها إلى أن تلاشت قليلا.. قليلا غاطسةً في أبخرة السحب الكثيفة التي بدت من أعلى السفح كتراب متحرك دفن القاعدة بزرائبها وأشجارها وغرفها وأسرارها.

شعر لحظتها، كأنه ودعها إلى الأبد.

هل كانت تلك اللحظات فاصلةً في طبيعة العلاقة؟!.

هل غرقها وسط الرجال بالغيوم الترابية الواطئة هو ما أرمد قلبه، وألقاه في باحات قلق سوف يعاشره بقية العمر؟

غرق في سدوره الواجم الحزين والمفرزة تهبط من فوق الغيوم برجالها وبغالها وتعبها وحكاياتها ومخاوفها إلى سهب فسيح مقفر إلا من أطلال قرى مهجورة. كان يتلفت موجوع القلب إلى كتلة السلسلة العظيمة التي شهقت خلفهم. ظل وحيداً في غرفة الطين الرطبة طوال الشتاء الممتد إلى أواسط الربيع، تتناهبه المخاوف والهواجس والأحزان، وتميد به الأشواق. يعذبه مرأى الفراش وأشيائها الموزعة على ناصية النافذة، في الحقائب، حول الفراش. كل قطعة من أشيائها الحميمة تثير في نفسه أشواقًا وشهوات. مشطها الخشبي يأخذه إلى ليل شعرها الناعم الكثيف الهابط حتى أسفل الردفين، فتعبقه رائحته الحريفة.. مزيج من رائحة جسدها والحناء التي كان يجلبها من مناطق الحدود العاجة بالمهربين والهاربين من الحرب والخارجين عن القانون ورجال المخابرات المتنكرين. أصابع أحمر الشفاه ومساحيق التجميل والقلادات النحاسية الرخيصة التي لا تستخدمها إلا بحضرته في طقوس ما قبل النوم. الخيوط القطنية مقطعة ومنثورة في الزوايا.. تستثير لذة فريدة كان يشعر بها، وهو يتأملها منهمكةً بإزالة زغب وجنتيها وفخذيها الممتلئين الصلبين في طراوة سمرتهما المحمصة بشمس الجنوب. وكان حمام الفصيل يلقيه على حافة الجنون، فهو المكان الوحيد الذي يتيح لهما فيه رؤية عريهما، في عتمته المضاءة برعشة ضوء فانوس باهت، كان يطيب له التملي، ودلك جسدها برغوة الصابون، من أعلى الكتفين حتى أصابع القدمين بمتعةٍ ما بعدها متعه، وأطراف أنامله الغادية الرائحة تذوب مندمجةً بلدانة وملاسة اللحم الزلق البض المستعر بانحناءاته وتكوراته، نتوءاته واستداراته، قممه ومهاويه، اعتداله وانكساره، مداخله ومخارجه. الأصابع السكرى تعجن النهدين الصلبين كثمرتي كمثرى غير ناضجتين، تغور في سطح البطن الضامرة، تهوى بباطن السرة الصغيرة، تلتف حول محيطها منسرحة نحو منخفض الخصر المؤدية إلى مرآة الظهر المنتصب في استقامته المصوبة نحو السماء، ترتقي زاحفة ببطء على ربوة الكفلين العظيمين، لتهبط ممسحة منبت الفخذين المستديرين، هاويةً مثل مشي العليل، حتى نحول أصابع القدمين الصغيرتين كقدمي طفلة بنت العاشرة. ينتحي بعدها على الدكة، محملقاً بإنشداه وإنشداد مكررين، بالقامة الفارعة التي يمنحها تداخل الظلال، بشحوب الضوء المنكسر وضباب الأبخرة الكثيفة سحراً مضافاً، أثناء حركاتها، في غمرة شؤون التحمم بين اعتدال وانثناء، قرفصة وانحناء، إقبال وإدبار. في كون الحمام والبخار، الماء والعري واندهاشه كان يردد سراً أدعيةً خفيةً متضرعاً إلى مريده كي يحفظ هذا الكيان الإلهي المتجلي في كمال جسد المحبوب. كان يخشى أشد الخشية من ضياعه، ويثني في دخيلته على لباس الجبل المحتشم بسرواله العريض المخفف من فتنة جسدها وسحره المربك. يلقيه فضاء الحمام الخاوي إلا من خيالها إلى حافة الجنون. فيطيل المكوث ملتصقاً بتلك اللحظات الساطعات الذاهبات الحاضرات شاعراً برغبة جارفة هادرة، مجنونة.. ليست رغبة جنسية، إذ كف عن العادة السرية، التي أدمنها في استذكارات الأبخرة وشحوب ضوء التحمم المشترك.. أصبحت لا ترويه، بل تسّعر وحشته، تزيدها لهباً، فيتأرجح على حافة أشواقه المستحيلة المهيجة مخاوفه الكامنة.. ليست رغبةً.. شهوةً مجردة بل هي مزيج من الشبق والحنين، العذرية والعهر المخلوط بهواجس البعاد واحتمالات الفقد موتاً.. هجراً. في مكوثه الطويل جوار قدر الماء الفائر، ينحدر به الجنون على مزالق تهبط به إلى مغاور لا نهائية، يستحيل فيها عليه استبقاء خيالها الملموس، تنفلت من حافة الذروة من بين يديه، متحولةً إلى دخان، يتبدد في كثافة أبخرة الحمام.. فيتحطم في جلسته، بائد القوى، لاعناً اللحظة التي وهن فيها تحت ضغط المسئولين فوافق على العودة دونها إلى القاعدة.

في منتصف المسافة، لمحه في باطن وادٍ ضيق، فأندفع هابطاً نحوه. أحتضنه بشغف كما اعتاد المقاتلون، فأحس بجسده متخشباً. تطلع إلى ملامحه.. كان متلبداً يتحاشى عينيه محدقاً بخيط الدرب الجبلي، بأشجار السفح، بالسماء، مما أذهب بهجته، فودَّ تلك اللحظة أن يسمع شيئاً عن حالها فقط، فسأله بصوت مرتجف:

ـ كيف حالها؟!.

ازدرد ريقه وتلعثم في القول:

ـ زينه.. ما.. بيها شيء.. لا.. لا.. ما بيها شيء.

تناهبته الظنون، إذ كانت تنوي العبور سراً إلى إيران لعلاج كليتيها الملتهبتين، وكان العديد من المقاتلين يقبض عليهم حرس الثورة الإيرانية، فتأجج سائلاً:

ـ ألمْ تبعث معك شيئًا؟.

أِنخطف لونه وتأتأ في كلماته مزدردا بينها ريقه الناشف:

ـ إطـ.. مئن.. عاددددت من العلالالاج.. لكن كا.. كا.. نت في موووووقع بعيد س.. سسا.. عة مغادرررتي.

وقتها لم يقتنع بالمبررات.. ولم يستطع تفسير ارتباكه وتلعثمه وبرودة عناقه، بالعكس اضطرمت مخاوفه وهواجسه، فظل محزوناً، شديد القلق، مرمداً بالأسئلة:

ـ هل أصابها مكروه؟

ـ هل استطابت عطر غيره كما حدث للعديد من المقاتلات المتمردات على أعراف المحيط المغلق الصارم، اللواتي وجدنَّ في الجبل مناخاً حراً محشوداً بالرجال الناضجين المثقفين الشجعان، فافترقن عن أزواجهنَّ الذين بدورهم ساعدوهنَّ في التعلق بغيرهم، إذ حولتهم الغيرة مجرد حمقى، شكاكين، متوترين طوال الوقت مقابل حنان الآخرين، الناسجين شباكهم بأناة وروية؟!.

لكنه كان واعياً لجسامة الأمر، فاتخذ جانب الحياد منذ التحاقهما بأول مفرزة قبل أعوام، والمقاتلون التهموها التهاماً في جلستها جواره جنب المدفأة، مما جعلها تستعيد منه خاتم الزواج، وتلبسه أمام أنظارهم عارضةً عن فكرة الصيانة الحزبية والأسرار.. جعلها لاحقاً تكتشف بنفسها الأشياء والعلاقات ودفائن البشر. خبر عنادها وتركيبتها الداخلية جيداً، مستخلصاً أنها معدة بطبيعتها ومزاجها لمنح المحيطين اهتماماً ما بدوافع مربكة، تبدو حمقاء تارةً، عميقةً يكتنفها الغموض تارةً أخرى، بحماسها المفرط غير المتناسب مع بساطة وعمر العلاقة، كانت مثلاً عندما يرقد جريح في غرفة الطبابة المجاورة لغرفتهما، تنشغل به وكأنه هو الذي جُرِحَ، تعد طعامه، تغسل ملابسه، تساعد الطبيب في تبديل ضماده. كان يضطر إلى صحبتها في زيارته كل مساء، فينزوي صامتاً في ظلال الفانوس صامتا ينصت لشكاوى الجريح المتوحد في الظلال والماضي، وملامحها العطوفة بنظراتها الحنونة، ناسياً حضوره المترسب في قاع الظلال. كان المسكين يبحر في بوحه  بأسراره وأحزانه وقصص حبه لبنات الجيران وزميلاته في الجامعة.

كان يطل من زاويته المهملة على وجه السارد المحملق بعينين حالمتين منداتين، بتقاطيعها التي يضفي الانفعال وضوء الفانوس المضبب مزيداً من السحر والفتنة الغامضة. كانت ملامحها النشوى من الحكايات والقصص تسقطه في باحات يأسٍ وخواء، فيصطبر مغموماً، يكظم غيظه مردداً في سره:

ـ دع المياه تجري حيث تشاء التضاريس!.

كان يحرز في زوايا نفسه الحالكة هواجسًا وشكوكاً، تطفح أحياناً في حوارات تحتدم إلى مشادات أربكتهما، وجعلتهما ينكمشان لليالٍ وأيام.. و.. و.. تتطور الحكاية بعد تماثل الجريح للشفاء، فقد وقعت بقلبه وتمكنت منه، فيقضي نهاره حائماً حولها، يلاحقها بعينين ولهتين، ترصدان إيقاع حركاتها، من ثنيةٍ ولفتةٍ، ضحكةٍ وغمزةٍ، انحناءة ولفتة، قيام وقعود، خطو وتمايل أثناء أدائها متطلبات يوم الجبل. وفي المساء يحلّ ضيفاً مربكاً ومرتبكاً، يغالب رعشته في غرفتهما الضيقة التي لا تتسع إلا لحجم فراش النوم والمدفأة. كان كعادته يتخذ موقعاً منزوياً، يرقب بصمت ملامح الزائر المريَّشة، السارحة، بعينيه السكرى دهشةً من حديثها، المنساب أول يومين بعفوية، خائضةً في صغائر وتفاصيل، لا تباح إلا لحبيب أو صديق قريب، مما يزيد من وَلَه المخطوف ولهاً، فيبكر في المساء التالي مباشرةً عقب وجبة العشاء، ومع غسق الغروب إلى الغرفة ليتكحل بوجه المحبوب. ظل يرصد بصمت ضيقها من تكرار الزيارات وطولها، إذ لا يؤوب إلى غرفة الطبابة إلا في ساعة متأخرة، مكتفياً بالحملقة المنتشية من تبرم قسماتها، اقتصادها في الكلام، جلستها المحتشمة، ثم في طور جديد.. تبدأ بإظهار انزعاجها فيزيد التنمر من جمال ملامحها الوحشية، لكن هيهات.. فالولهان غريق ببحر الغرام، تضطر آخر الأمر إلى معاملته ببرود وجفاء، يتطور إلى شبه قطيعة تقذف بالمسكين إلى هوة يأسٍ قاتمٍ، فينطوي متوجعاً لائباً. كان يتصنع عدم ملاحظته في الليالي التالية، وهو يحوم حول غرفتهما، من المؤكد أنه يستعيد طعم تلك الليالي القريبة البعيدة.. وفي النهار يكتفي بالنظر من بعيد بعينين منكسرتين، غير قادرٍ على تفسير ذلك الصدود المباغت.. ذلك الهجران.. إلى أن يلتحق بمفرزته القتالية. ولا تتعظ.. تتكرر الحكاية مع آخرين، ويسقط في شباكها العشرات غارقين بنزيف المحبة، حتى إن الأمر أربكه:

ـ أتكون في أعماقها امرأة لعوباً تهوى إشعال القلوب وتركها.. أم أنها شديدة الثقة بالنفس ومفعمة بحب البشر؟!.

 لم يجد جواباً، فحدودها سهلةً منيعة.

أتكون طبيعتها هذه غلبت حذرها بغيابه، فجعلتها تستطيب، في لحظة حمقاء، عنفوان مقاتلٍ يافعٍ في الليالي الموحشة، بذلك المكان النائي؟!.

أشعله الهاجس، وهو يصعد المسلك الضيق، متقدماً نحو القتيل المطروح الآن تحت قدميه، في طريق عودتهما إلى القاعدة. أشعلته الوساوس من الصمت وارتباكه، غموض أجوبته وتلعثمه.. سيظل ذلك سراً لم يفض فحواه إلا وصولها المباغت بعد عشرين يوماً. هبطت عند المساء مزيحةً البطانية المنسدلة كالستارة. أخرسه الذهول. ارتمتْ نحوه بجسدها الحار الرطب. اقتحمه سعير لهاثها، النافث ضوعها السري. أحتشد الصمت بالآهات والأنين والهمهمات وضجة تقطع أزرار القمصان وحفيف الأردية المنزاحة عن الجلد.. افترستهُ على الفراش افترساً لم يعهده فيها. أذاقته مباهج تجلي الجسد في أتون شهوة سعّرها الفراق الطويل بلياليه المضنية. تلك الليلة أفردته كائناً بائساً منتهكاً ما أن ذهبت حشرجات الصمت وهسهسة احتكاك الجسدين المتوقدين. أفرده الكلام في عمق ظلال الفانوس، المعلق على نتوء، فوق موقع السرير الصخري، الذي أعده في غيابها.. أفرده إلى مناحي العجز والريبة والظنون.. تلك المساحات، من يدخلها لن يعرف أبداً هدوء البال.. أفرده سؤالها، فاتحة الكلام:

ـ هل يكمن ذئب في أعماق كل رجل؟!.

ـ..!

ـ هل كنتَ تسلك مثل سلوكهم يا حبيبي لو وضعت في ظروف مشابهة؟!.

ـ..!

ـ اسمع يا حبيبي.. عشت أياماً مرعبة، فما إن اختفيت مع المفرزة بين وهدات السفح والأبخرة والغيوم حتى اعتراني إحساس فظيع.. وَجَل وارتباك.. حاصرتني العيون الجائعة.. المتوسلة.. الحالمة.. المتوقدة. دأبت على ملاحقتي أينما اتجهت. كنت أحس بجمرها يحرقني وقت خفارتي.. ويا لذلك الشعور الفظيع الذي تشعر به المرأة وهي تعيش وسط رجال مسعورين يجردونها من ملابسها بعيونهم النهمة.. ولك أن تتصور مبلغ حرجي وارتباكي وأنا أتخيل نفسي عارية أدور وسطهم في المطبخ، في الفناء الفسيح، وقاعة النوم التي أشاركهم المنام فيها. فضلتُ المبيت وسطهم على النوم وحدي في غرفة منعزلة، كنت أرتعد من مجرد فكرة مبيتي في غرفة أقترحها عليّ إداري الفصيل. انتقيت زاويةً تقابل الباب المسدود ببطانيتين، عازلةً فراشي بمنضدةٍ خشبيةٍ قصيرة القوائم. كنتُ أقضي جلَّ نهاري في القراءة خالدةً إلى فراشي متحاشيةً قدر الإمكان الاحتكاك بهم. أسقطُ في غفوات قصيرات أعوض بهنَّ سهد الليالي.. إسمع يا حبيبي.. لا أستطيع البوح لك بتفاصيل ما كنتُ أسمعه وأنا لائذةً  تحت البطانية، أتضور في حلكتها مخفيةً عذابي. أشدها حولي مثل خيمة كي تخفي تفاصيل جسدي:

ـ هل في أعماق كل رجلٍ ذئب؟!.

ـ..!.

اصمتْ.. ذلك أفضل يا عزيزي.. اصمتْ.. واسمعني حتى النهاية.. كنتُ أقشعر وأنكمشُ صائرةً مجرد قطعة من الخشب الأصم، وهم يتحاورون متفقين على حتمية انهياري لاحقاً مادمتُ قد ذقته وتعودت عليه. كنتُ أعثر على قصاصات ورق ملقيةً على فراشي.. رسائل غرام يهمل كاتبها اسمه، فيها مواويل غزلٍ.. أشعار قديمة.. لواعج قلوب  يائسة، تتطور لاحقاً إلى بوحٍ مقرف يدعوني إلى مضاجعة عابرة ولو لمرةٍ واحدة. أتعبتني التفاصيل.. كنتُ أكتم أمر هذه الرسائل.. أمزقها وألقيها في المزبلة، راجيةً من السماء.. من الغابات.. من الثلج أن يكفوا عن محاصرتي بتلك الوحشية والصمت.. وكنتُ أتصنع المزيد والمزيد من البلاهة. كنت أعود من المطبخ أو الغابة أو الحمام فأجد أحدهم منبطحاً على فراشي.. دافناً وجهه في وسادتي، فأضطر إلى التريث بعيداً لحين استيقاظه وابتعاده.. هو المؤقت لحظة رقاده بفراشي قبيل عودتي. كان ينهض من غفوته الكاذبة معتذراً..

في عتمة ظلال الفانوس الباهت، في خضم إنصاته الدامي.. تعطلت قسماته وشاخت ثم راحت تهبط ببطء ينهك الحواس لتترسب في لجة صمتٍ محتدمٍ.. كصمت ليل الجبل الداوي. من مخاضته العميقة في كثافة الظلال ارتحل في تضاريسها الناحلة محاولاً استكناه فحوى الشتاء المنطوي، الحاضر في حرارة الكلام ونبرته التي تبدو واثقة في بعض مفاصل السرد، واهية مهتزة في أخرى. في صمته الباحث في تفاصيل الملامح الناحلة المعذبة عن شيء ما، لم يستطع تحديد كنهه، يتجسد في ذلك التعبير الغامض الخاطف كاسياً للحظة ملامحها بزرقة تغور في شحوب البشرة مما يجعل صوتها يتكسر مخذولاً:

ـ هل كان ذلك الانفعال رد فعلٍ على انكماش كيانه المجروح أم أنه مضاعفات شعورها بالذنب لمباهج نهلت منها سراً في ذلك الشتاء الثلجي البعيد؟!.

أتعبه لهاث عينيه الراسيتين في حزنهما. أطبق أجفانه المشدودة ضاغطاً صدغيه بإبهاميه الراجفين، وكأنه يبغي استخراج وطرد وساوسه ومخاوفه وشكوكه المشعلة غيرته وغضبه.. هو الذي علمته التجارب أن أصدق الناس وأنصعهم سلوكاً، يضمر في مجاهل نفسه الدفينة أهواءها ونزواتها وارتباكاتها عندما تتجرد الرغبة الغريزية الممنوعة عاريةً في عماء لحظتها الساعية إلى الإشباع، فيلبس الإنسان حال صحوته ألف ثوبٍ وثوب كي يحافظ على توازنه وبراءته الشكلية. تسمم وجعل يفور محتدماً بمزيجٍ غريب من الأحاسيس، رغبةٌ جنسيةٌ عارمةٌ في مضاجعتها ممزوجة بشعور إهانة وغضب مع توقٍ لتدمير الآخرين. أحس بكيانه يتداعى كبناء منخور. انفرط في جلسته متناثراً على الفراش أثناء إيغالها في التفاصيل. أنطرح على السرير دافناً وجهاً شوهته الغيرة براحتيه المرتعشتين. ترسّبَ في صمتٍ يتموج فيه صدى أنفاسه المختنقة وكأنه يجود بآخرها، صمت مزدحم بسيل حسراتها المبهمة. انتفض من القعر المضطرب، ضاجاً بحقدٍ دموي جعله يستقيم منحدراً في مسيل رغبة جارفة بتحطيم وسحق رؤوس أولئك الرفاق، ووجهها الغامض الجديد. استند على راحتيه في انتصابه المباغت، وخطا يدور خائراً مذبوحاً في فسحة الحجرة الضيقة، يغطي جلستها المستلبة بتضخم ظلال قامته الفارعة تارةً، ويكشف خذلانها للضوء المرتجف الشاحب تارةً أخرى. كفَّ مستديراً نحوها. أنعم في التحديق إلى ملامحها المنحوتة في باطن عتمة الضوء الداخن. كانت تعبُ نفساً من سيجارتها، فيرتسم على قسماتها المضطربة ذلك التعبير المثير الذي طالما أزعجه وأغاضه بصمتٍ وهما وسط الرفاق في ساحة الفصيل عقب وجبة طعام وقدح شاي ثقيل. وبغتةً تضايق من كينونته، من وجودها، من القصة كلها، من غور هذا العذاب غير المبارك.. من.. من.. لكن:

ـ كيف السبيل إلى إفناء الذات والآخر؟!

ـ كيف وأنت تجد نفسك في لحظة خواء؟

ـ كيف وكأنك مجرد انعكاس في مرآة؟

انتزع ظهره من الجدار. استدار نحوه مكوراً قبضته الفتية، وانهال لكماً على حجره الصلد المغطى بطبقة نايلون مبقع بالجوري والياسمين، فتمزقت من هول القبضة المجنونة في صراعها مع الحجر الأصم، مع صمت أرواح الجبل الضائعة في يم الموت والقتل والظلام والتيه في التفاصيل والكلام والحيرة. كانت ترنو إليه، من أشلائها المبعثرة في شظايا ضوء الفانوس المهتز، من خواء لحظتها جوار السرير، وهو يتلاشى في شرره القادح.. المتخافت رويداً.. رويداً.. تابعته مترنحاً ينسل خلل البطانية المزدوجة. انغمر في حلكة الليل الموجع البهيم. أمسك بعمود طارمة الغرفة المتين. لفحهُ نسيم الليل الربيعي البارد. أخذ يعب كمصاب بربو أنفاساً عميقة، متطلعاً نحو رقعة السماء الصافية من قعر الوادي العميق. ارتشف في وقفته المستنجدة بصلابة خشب المسند من الهبوب البارد. ابتل برذاذ فضة شفيف يتساقط من لحظته، من نثار نجومٍ ضائعة بغور السماء. ارتحل في كينونته المعذبة بصحبة نجمة نارية الضوء.. كبيرة. حملته وحطت به في حوش دار طفولته الفسيح، في ليالي صيف مدينته الصحراوية المنعشة البرودة. وقتها كان يبث لضوئها الراقص البعيد أسراره وأمانيه الصغيرة من قلبٍ أبيضَ خالٍ من الهموم والأحزان الثقيلة.. قلبٍ لم تثقله هموم الحب والحرب بعد. وقتها كان واثقاً تمام الثقة من حنو نجمة الرب المتألقة بلونها الناري المختلف.

في وقفته المنداة برذاذ الفضة، تحت سقف طارمة غرفةٍ ناضل طويلاً كي يسمح القادة ببنائها. في وقفته المخذولة، انبثق من أعماقه حنين قديم، منسي في خضم الصعاب والشكوك. ازدحم وفاض عائداً به إلى صفائه الأول، فاغتسل بأشجان أشواقها المبرحة في سالف تفاصيل ما قبل الالتحاق بالجبل. استدار. خطا نحو الباب صافيا. أزاح البطانية المزدوجة. احتوته من جديد، ظلال الغرفة المختنقة بدخان سجائرها. وجدها غارقة في الأدخنة والصمت، منتظرة، شديدة الاضطراب، تتأرجح على حافة اليأس. تهالك جوارها على السرير الحجري مظاهراً الجدار. راح يتملى بروية وشجن ذبول رموشها الطويلة، نحول أصابعها، فوضى شعرها الكثيف المبعثر، هيكلها الذي هزل في الغياب، وطلعتْ من كتلتها الحائرة، الضائعة في الظل والألم بنتٌ متماسكة الجسد، كما كانت قبل عشر سنوات، حينما كانا يختلسان اللقاءات والقبل في الأعياد والبساتين والغرف.. هاهي تحت ناظريه ملقاة مباحة، كتلةً معذبةً مكومةً في غور آلمها، لا حول لها ولا قوة. اعترته رغبتان شديدتان، رغبة بالذوبان في حضنها والنحيب طوال الليل، وشهوة عارمة في تجريدها من ملابسها ومضاجعتها بشراسةٍ حتى مطلع الفجر. مسّحَ بأطراف أنامله المرتعشة جبهتها الساخنة المتعروقة، وجنتيها الممصوصتين، أنفها الدقيق، شفتيها الجافتين المزرقتين. تخضلتْ عيناها وأصابعه تجوس في أنحاء قسماتها المشرفة على حافة الخدر. همس بشجن:

ـ لماذا لم تكتبي لي؟.

ـ مع مَنْ؟.

ـ معه!.                     

انتفضت منتصبةً في جلستها، وقالت بكلمات مرتجفةً تغلي غيظاً، وتحَدّر حقداً عاجزاً، أملسَ كحقد مذلول لا حول له ولا قوة:

ـ هو من توج قلق واضطراب تلك الأيام بالرعب!.

أنقذف غريزياً جوار الجثة، وسيل من القذائف تساقط بغتةً. أدار عينيه المرعوبتين باحثاً عن موضع الملجأ.. لكن مسافة العشرين متراً نأت صارت حلماً في كثافة القصف المتواصل، فزحف نحوه واندفن بالجسد البارد غامداً وجهه في العنق المخدوش العاري. بدا الجسدان في عناقهما الحميم، كجسدي عاشقين سيتفارقان بعد لحظةٍ فراقاً أبديا. لبث ساكنا،ً في تشبثه العنيف بالجسد الذي لم يزل ليناً، ينصتُ للسكون المريب، الضاج من جديد بهدير النهر وخرير الساقية وحفيف أوراق البلوط المتساقطة. تمدد الصمت واستطال، فاستيقظ من عناقه المذعور على تضخم القسمات اللصيقة المحتقنة. أرتعد من تغير ألوانها، التي تراءت له من ذلك التحديق المجسم وكأنها حية غاضبة من شماتته. سحب جسده مبعداً الوجه عنه قليلاً، وتفحصه.. لم يفعل الورم سوى تجسيم انفعالات فزعٍ مطلق وشم قسماته الداكنة في جمود لحظته الأخيرة. تمرغ بالتراب بأوراق البلوط بالصمت بالحيرة، بمحنة الوجود البشري الفردي.. بلا معناه.. ولا جدواه برغائبه وأحقاده، بأهوائه ونزواته، بجديته وهزله، بتعففه وشهواته، فلولا إصرار مسئول هذا الموقع البارحة، على مغادرته وزوجته الموقع لخطورة الوضع لما اختلف مصيريهما عن هذا المصير. ارتج في السكون متخيلاً جسدها الساحر بارداً، ممرغاً بالتراب، وقسماتها الجميلة محتقنة، مزرقةً شوهاءَ. انقلب في تمدده على ظهره. حملق في غيومٍ متفرقةٍ تعبر السماء. أخذه السكون إلى مناحيه القصية، فألفى نفسه مرةً أخرى في باطن ليلة عودتها، ينصت في خفوت ضوء الفانوس، المطل على جلستهما، من رفٍ دقهُ قبل أيام، كي يجعل الإضاءة توهم بالأخيلة والأحلام:

ـ كنتُ أتشمس، وأمشط شعري الذي كففتُ عن نثره بحضورهم، مستغلةً ذهابهم للتحطيب في الغابة. شفته رجع وحده.. شعرت بالخوف. لففت شعري، وتطلعت إلى خطواته المتعثرة. تباطأ وسط الممر الثلجي. استدار نصف دورة. همَّ بالعودة، لكنه عدل من اتجاهه نحوي. أرابني الأمر، فنهضتُ. تراجعت خطوتين إلى الخلف. كان وجهه فظيعاً، شديد الشحوب، يرمقني بتوسل. شفتاه تختلجان في وقفته أمامي وهو ينازع لقول شيء. كان الجو مربكاً. فضلتُ الركون إلى الصمت والانتظار. أصدر من جوف حلقه لغطاً مبهماً، قبل أن يتمكن من القول بصوتٍ متهدج، مستنجد، مستجدٍ:

ـ أرجوك.. أرجوك.. ساعديني.. ساعديني!.

ظننتُ أول وهلة، أنه محتاج نقود ليشتري سجائر ومرتبك بسبب الخجل.. قلتُ:

ـ بماذا أساعدك؟

ـ..!

ـ أتحتاج إلى نقود؟.

ـ أرجوكِ.. أرجوكِ.. أرجوكِ!.

ـ أنتظر سأجلب لك.

شرعت بالتحرك نحو باب القاعة. اعترضني ممسكاً بقبضتيه المرتجفتين ساعديَّ. حملقتُ في وجهه مستغربةً جرأته.. ويا لهول قسماته المختضة، المتكسرة، المحتقنة بالذل والألم والشهوة، وهو يهذي بمفردةٍ واحدةٍ تتكرر في ضجيج لهاثه:

ـ أرجـــ……..وك … أرجوووووووووووك!.

أفلتُ ساعديّ بعنف من بين قبضتيه الواهنتين. تراجعتُ وأنا أختض. ارتمى نحو قدمي. باسَ حذائي، ومسحه بقسماته هاذياً:

ـ أرجوك.. أرجوكِ.. لم أنم مع امرأة طوال عمري.. أرجوك.. مرة واحدة.. واحدة فقط.. وستبقى سراً إلى الأبد!.

تشبثَ بمنتصف ساقيّ، فسقطت إلى الخلف وكأنني هويتُ في فراغ.

ـ خليني أذوق المرأة قبل أن أموت.. أرجوكِ.. أرجوكِ.. عبدكِ أنا.. حذاءكِ أنا.. ارحمي حالي.. سأبلغ الأربعين.. أرجوكِ.. أرجوكِ..!.

في اللحظة التي أفلتني محاولاً النهوض، رفستهُ بكل ما بيّ من قوةٍ، فانكفأ إلى الخلف منتحباً بضجيج، صرختُ:

ـ سأقتلك يا خنزير!.

وهرعتُ راكضةً إلى القاعة. تناولتُ بندقيتي، لقمتها رصاصةً، واندفعتُ نحو الباب، لم أجده، اختفى.. تلاشى تماماً، ولم يظهر وقت الغداء، ولا في المساء.. إلى أن علمتُ من الآخرين نبأ وصوله إلى هنا.

وقتها أتضح له سر ارتباك القتيل واضطرابه عندما سأله عنها.

في طشيش الضوء المهزول، المتلاشي في ظلال أشياء الغرفة الرطبة، دفنتْ وجهها في حضنه، مهتزةً بنشيج أخرس مرير. سبح مع اهتزاز كتفيها في سماوات بعيدة.. راحلاً إلى طفولة حبهما العنيف في سنواته الأولى.

ابتعد عن الجثة مشمئزاً. استند على راحتيه، ونهض نافضاً ما علقَ بسرواله وقميصه من غبار وتراب وكسر أوراق بلوط يابسة. أطل من جديد على الممدد، فامتلأ بالغبطة مرة أخرى، وتخيل انعكاس الخبر عليها.. فالأقدار حققت أمنية من أمانيها الدفينة.

لفوه ببطانية قديمة. حملوه بحثاً عن حفرة جاهزة مسافةً قصيرة. أنزلوه دون كلام، وسحبوه على المسلك الهابط، كان يسحبه من ناحية قدميه التي يصفهما بقبضتيه المتمسكتين بالبطانية، توجعه انتفاضات الوجه المحتقن، والمتجسم أثناء سحله في مجرى يابس مغطى بالصخور المجروفة في موسم الأمطار وذوبان الثلوج. مع كل خطوة في المنحدر، يهتز الوجه في عبوسه الغاضب، وكأنه سوف ينفجر بهم كي يدعوه وشأنه خالداً في رقدته الأبدية. حشروه في شقٍ حفرته سيول الربيع في المجرى الكبير الجاف. حشروه في رحم التراب بين جذور شجرة جوز هرمة، تشهق بنحول فوق اللحد. في ظلال الجذور والتراب استكان الجسد، ليستقيم حياً في أعماقه بوجهه المنتفض لحظة تلقيه الصخرة الأولى. مع كل صخرة يلقونها على كتلته الهامدة، كان يراه حياً في اختضاض ملامحه المتورمة برد فعلها عقب سقوط الحجر الأصم. تخيّلهُ غافياً رُشَ بحفنة ماء بارد. اختلطت في نفسه مزيج المشاعر في تخبطٍ مبهم.. عطف.. شفقة.. رعب.. غبطة.. شماتة تختلط فوراً باحتقار الذات. أهلكه الاحتدام الغامض، فجعل يبطئ في رمي الحجر على الملقوم في لِحدِ السيل، منفصلاً عما يفعل ويجري. انفرد منزلقاً في عمق الخواء، شارد الذهن في بهمة أوديةٍ باردة.. مهجورةٍ، خاوية وطئها أول مرة في جوبانه بأحشاء الجبال. انزلق في اللامعنى، فاستبهمت عليه الأحاسيس ملتبسةً، فارغةً من جوهرها.. الحب.. الحقد.. الغيرة.. الطيب.. الخبث.. الأنانية والبذل.. الخيانة والوفاء.. التضحية والجبن.. الشوق.. الغربة.. الألم.. النشوة والحيرة بغبطة الشماتة العمياء. لما عاد من خواء لحظته، أنشده من حيوية رفيقه، المنهمك برمي الحجارة، منتقياً كبيرها دون مراعاة لأحزان الجسد البارد، الذي كان حميماً ليلة البارحة. كان يضع صخرته الثقيلة ساهياً، صاحوا به:

ـ بربك أسرع.. لنغطيه كي لا تأكله الحيوانات، ولا تجرفه السيول. أسرع حتى لا نرقد جواره.

أسقطوا حجراً كبيراً على الوجه، فتغطتْ الجثة. حشوا الفجوات والفراغات الكائنة بين كدس الصخر إلى أن توارت ملتئمةً بجدار المجرى. قبل أن ينعطف في المنحدر باتجاه ـ الزاب ـ التفت إليه آخر مرةٍ، بدا كصخرة بيضوية بيضاء بحجم الإنسان تركن بين جذور شجرة الجوز العملاقة، المنتصبة على حافة أخدود المسيل الجاف.

*     *     *

لم يكف عن تخيل هيئتها، لحظة سماعها بمقتله.. سيزفه لها. كان رفاقه يتحدثون عن رفيق عثروا عليه منتحراً على ضفة – الزاب -، والثاني وجدوا حقيبته القماشية والجمداني، عالقين بأسلاك عربة معلقةٍ يعبرون بواسطتها النهر، والثالث وجدوه مقلوباً.. قائماً في دغل السفح على رأسه المحشور بين سيقان أشجارٍ مشتبكة. لم يكف وهو يتسلق نحو الموقع الذي تركها فيه منذُ بكرة الصباح. كان يحاول التماسك، كي لا تظهر على قسماته غبطةً مماثلةً لغبطته لحظة إشرافه على جسد القتيل:

ـ يجب أن لا أظهر مشاعر ارتياحي أبداً.. أبداً.. إنه أمرٌ فظيع.. فظيع.. وإذا أظهرتْ ابتهاجاً بالخبر.. سأكيل لها اللوم.. لكنني سأكون موارباً، كاذباً، حقيراً.. آواه يا ربَ الحرب.. آواه !.

لم يجد تفسيراً معقولاً، لانهيارها عندما همس لها خبر مقتله، وتداعيها على العشب منخرطةً بنحيبٍ صاخبٍ مفجوع، جعله يتجلد بوقفته المنهكة، غير شاعرٍ بشيء، فلا هو بالحزين.. ولا بالمتشفي.. لا بالمدهوش.. ولا بالفرح.. لا بالغاضب.. ولا بالمستغرب.. بل كان أقرب إلى الصخرة الصماء التي رماها على جسد القتيل المحشور بسلام التراب.

لم يجرؤ مطلقاً تلك اللحظة، ولا في الأيام المتبقية على الاستفهام عن علة ذلك النحيب، بل طوى السؤال في أعماقه جرحاً أبدياً.

 

 

جحيم في غروب رائق

كل شيء كان هادئا في ذلك الوادي العميق الواقع على مجرى نهر ـ الزاب الأعلى ـ، فالوقت جاوز وقت قصف الطائرات الذي عاد روتينيا، إذ لا يكاد يمر أسبوع دون قصف، وكان لدينا كل ما يحمينا منه، مدافع مقاومة الطائرات تربض على القمم المحيطة بالوادي، ملاجئ، كهوف، يضاف لصعوبة تضاريس المكان، فالحوض عميق وضيق يحاذي الحدود التركية. الغروب كان رائقا، وكنا نلعب كرة القدم في الساحة الصغيرة التي رتبناها على فسحة حقل زراعي أمام غرف وقاعات القاعدة المحاذية لحواف سفوح وسط الحوض. كنت ألعب عندما نادتني حبيبتي كي أذهب إلى الحمام. قالت أنها سخنت قدر الماء وجهزت كل شيء وذكرتني بقرب وجبة العشاء. تركت الساحة مقتربا منها، حامدا في سري خالق الكون على وجود هذه المرأة الحانية الساخنة جواري في وسط موحش، صعب، يعج بالمخاطر. صرت جوارها، وغرت في عينيها الواسعتين الضاحكتين قبل أن تستدير أمامي وتخطو نحو الحمام. كنت أتأمل قامتها الرامحة النشطة شاعرا بغبطة سرية تجعلني أسير خلفها شبه سكران.

دفعت الباب الخشبي الواطئ وولجت، اضطررت إلى الانحناء قليلا فاحتوتنا العتمة الدافئة الرطبة ببخار الماء. حضنتها وقطفت من شفتيها قبلة، تمنعت بغنج، ودفعتني قائلة:

ـ مجنون والله مجنون!.

تعرّيتُ فيما كانت تعبر العتبة قائلة:

ـ سأجلب لك ملابس نظيفة!.

أطبقت الباب، فسقطت في عتمة مباغتة، راحتْ تخف قليلا.. قليلاً بالضوء الخافت المتسرب من نافذة مستديرة صغيرة مسدودة بالنايلون لا تضيء سوى مسافة كف عن حافتها. كنا نعرف هذه الغرفة جيدا دون الحاجة للضوء، إذ نستخدمها منذ أكثر من سنتين ونعرف بأصابعنا مكان القدر، والطاسة، والتختة الخشبية الصغيرة، والصابون. عددت ست خطوات من الباب وهبطت متلمسا التختة، وقعدتُ عليها. غرفتُ الماءَ من القدرِ ودلقتهُ على جسدي الناضح.. وقتها كنت في أعماقي سعيدا أشد السعادة، لا أفكر في الغد.. بل أعيش اللحظة.. أدلق الماء وأتخيل صحن العشاء وخلوة المساء مع حبيبتي في غرفتنا المنزوية أسفل سفح تلة خلف طبابة الموقع. أفرك جلدي بالصابون راحلا عن ضجيج الرفاق في الساحة إلى مساحة متعة شعورٍ بالحرية وجواري حبيبة تحنو عليَّ دون خوف من هاجس خطف من شارع أو بيت أو مقهى وضياع إلى الأبد في أقبية وزنازين كما حدث مع أعز أحبابي.. كنت غارقا في تلك المتعة الخالصة، وبغتةّ أجفلني ضجيج طائرات تنقض قريبة وكأنها تمس سطح الحمام الواطئ، ضجيج مثل جدار اخترق جسدي، جعلني أقفز مذعورا من التخت الخشبي حتى ضَرَبَ رأسي السقف، لأندفع غريزيا ما أن لمست قدمي الأرض فاتحا الباب وراكضا بجسدي العاري المصّوبن بالرغوة صوب أقرب ملجأ شقي لأقفز إلى جوفه. وجدته ممتلئا إذ هبطت على لحم حار ينبض. لم يخفِ الشق سوى نصفي الأسفل. جلست فوق الأجساد مفزوعا مجبرا على التحديق نحو الوادي المواجه للملجأ والفاصل بين غرف الضيافة وقاعات القاطع، أتتبع بعيني خيطًا رفيعًا  من الدخان يتصاعد من القاع عالياً حتى جاوز قمة الجبل لينتشر هالة سوداء بلون الفحم راحت تهبط رويدا.. رويدا. حدث ذلك في لحظة خاطفة هي لحظة رؤيتي وأنا حائر بجسدي العاري الظاهر نصفه من الملجأ. كنت أحملق بخيوط أخرى من الدخان الرشيق بدأت تنتشر خلفي وإلى يميني وإلى شمالي، وضجيج الطائرات صاخبا دانيا وكأن جسد الطائرة سيلتصق بجسد الوادي حيث نختبئ، لكن لما يخف ونبقى أحياء نعرف أن الصاروخ سقط في مكان بعيد.. لاحقا عرفنا أن الطائرات نشرت قذائفها بشكل دائري غطى صحن الوادي بالكامل. حدث القصف للحظات خاطفات!. فما أن غاب ضجيج الطائرات حتى هرع الجميع من الملاجئ والغرف والكهوف لرؤية ما حدث. عدت فورا إلى الحمام. غسلت جسدي من الصابون. نشفته، وارتديت ملابسي. خرجت شبه مجنون.. أبحث عن حبيبتي  لم أفكر في شيءٍ سواها. كنت أتأرجح من حافة العقل باحثا بعيني الملهوفتين عنها وسط الهرج والمرج الذي أعقب القصف بلحظات، فبين مغادرتها الحمام وانقضاض آلهة الحديد الشريرة من سماء الله ليس غير دقيقة.. مثل مخبول أقف في الفسحة أمام مطبخ وقاعة فصيل الإدارة أدور عيني في الأركان، في الوادي، في الساحة خلفي، في القاعة، المطبخ، فوهات الملاجئ، ولما لم يقع ناظري عليها تشنج جسدي واختض كمصابٍ بالصرع، وفيما كنت موشكا على السقوط سمعتها تنادي بصوتها الفريد:

ـ.. حبيبي.. خو ما بيك شي!.

التفتُ نحوها، كانت تركض مقبلة من تحت شجرة الجوز الشاهقة على حافة الساحة. هرعت إليها مستعيدا حيويتي. ارتمينا بأحضان بعضٍ ورحنا نتلمس جسدينا بأصابعنا قطعة.. قطعة بلهفة وجنون ولما تأكدنا من سلامتنا.. ابتعدنا منفصلين منتبهين لما حدث. أول ما وقع بصري عليه وأنا أنفصل عن جسدها مشهد رفيقين يحملان جريحا. اللهاث حار متواصل يقترب منا. لهاث.. لهاث الجريح المحروق، ولهاث من يحمله. كانا يركضان قادمين من الجهة التي سقطت بها القذيفة وسط مجرى الوادي والتي رأيت عمودها الدخاني وأنا أهبط على اللحم الطري في الملجأ. تسمرت مذهولا في مكاني أتتبع لهاث الراكضين وقدم ـ الجريح ـ اليسرى متدلية وكأنها مفصولة عن الساق، ووجهه الذي أسّوَدَ تماما وذراعيه الملتفين حول عنقيهما. مروا خطفا من أمامي ليستديروا صوب بناية الطبابة القريبة من حافة السفح. حملقتُ بذهول في وجه الجريح، في قسماته التي بدت ضائعة، فأيقنتُ بموته. عضضت شفتي لوعة. عيناه بدتا فارغتين وكأنه لا يرى شيئا، كانتا تحملقان في البعيد، في عالم غير عالمنا، وفعلا ظهر أنه أصيب بالعمى على الفور لقربة الشديد من عمود القصف الذي أشرت إليه. لحظة خاطفة أخذتني إلى قصة هذا الإنسان المحمول مدلى القدم أعمى. نشجت بغتة في وقفتي القصيرة وأنا أستعيد لحظات التحاقي الأولى إلى الجبل بصحبة حبيبة عمري. فهو من أوصلنا من قاعدة للأنصار في ـ كلي مراني ـ بسلسة كارا إلى قاعدة في ـ كلي حصبة ـ بسلسلة متين. كان مرحا عنيف العاطفة، شجاعا خفف قلقي لما دخلنا قرية تقع على الشارع العام تحت هضبة فيها مواقع للجيش.. هدأ روعي وهمس:

ـ رفيق لا تخف! أنا معك!.

كان صوته يجلب لنفسي السكينة أنا القادم من هول الجنوب العراقي وشدة السلطة وكلابها. لَم أره منذ ذلك اليوم إلى أن جاءنا بعد سنة ونصف بالكاد يستطيع الوقوف، منهكا، يسعل بين لحظة وأخرى، عسيرا عليه النفس، لم يجب لما سألته:

ـ ماذا بك؟!.

عرفت بعد رحيله في طريقه إلى إيران للعلاج أن رفيقا كان عميلا للسلطة قدم له طعاما مسموما لما حلَّ ببيته.

كان رجال مخابرات الدكتاتور تبث السموم لقرى ومواقع الأنصار والمقاومين عن طريق عملائها طوال الوقت، بتسريب مواد غذائية مسمومة، مثل حليب النيدو، وصفائح السمن النباتي وغيرها، أو تبعث بعملاء أو رفاق يقعون في قبضتهم كي يسمموا حبوب الماء والمواد الغذائية المخزونة، وقد قضى الكثير من الثوار بهذه الطريقة.

كان المسكين عائدا من رحلة علاج قضاها في مستشفيات إيران للقاء عائلته بعد أكثر من سنة. وعائلته سكنت  في قرية جوار قاعدة  ـ كلي مراني ـ أقيمت حديثا  لعوائل الرفاق اليزيدين الأنصار التي هجرتها السلطة من قراها في دشت الموصل، لكن ذاك اللقاء صار مستحيلا..

لا أستطيع نسيان مشهد الجريح التالي، سوف يتجلى أمامي يذكرني بشعور رجّفني حينما وقع بصري على لوحة لمريم وهي تحضن المسيح في لحظة وجدٍ في كنيسة قرب ساحة الطيران أيام كنت أدرس في جامعة بغداد. أمام غرفة الطبابة جلس رفيقه ـ متربعا على الأرض واضعا رأسه الضائع الشاحب في حضنه ومنحنيا عليه يهمس بشيء ما كأم تحنو على وليدها.. بينما قسمات الجريح بدأت تسّودْ شيئا فشيئا وكأنها حرقت بفرن.

كل شيء كان مرتبكا. الجميع يركض في شتى الاتجاهات. سمعتُ ضجيجاً يأتي من عمق الوادي الجانبي حيث فصيل ـ المكتب السياسي ـ. كان أحدهم ينادي من هناك طالبا المساعدة. هببتُ نحو المنادي فوجدتُ رفيقا آخر شديد النحول يتلوى على الأرض ماسكاً بساقه اليمنى المدماة. مزقنا السروال على عجل بحربه فظهرت بطة القدم ممزقة بشظية. حملناه على عجل نحو الطبابة. وضعناه على مسافة قريبة من الجريح المحروق ـ كانت  حبيبتي ورفيقة من حزب - تودة الإيراني ـ َتقومان بقص الشعر المحروق. بينما هرع رفيق له معرفة بسيطة بالتطبيب وطبيبة الموقع بدت شديدة الارتباك فهي من ناحية لم تواجه مثل هذه الإصابة من قبل، ومن ناحية أخرى ليس لديها اللوازم الطبية. كنا نمسك بالساق الممزقة بينما شرع الرفيق بخياطتها بعد أن أخذ الإذن من الطبيبة. كنت أتابع الإبرة المعقوفة النهاية وهي تُغرز في الساق السمراء بدون تخدير، فأشخص نحو وجه الرفيق الأسمر الناحل الذي يتصلب محاولا إخفاء ألمه بشجاعة رادا على نظراتي المتعاطفة وعيناي توشكان على البكاء وهو يردد:

ـ ولا يهمك يا رفيق.. ولا يهمك!.

لما أكمل خياطة الجرح الممتد من تحت الركبة إلى ما فوق الكاحل، لف الساق بلفافة طويلة ظلت تنز دما رغم متانتها. كنت في داخلي غير مقتنع بالطريقة التي عالجا بها الجرح، فقبل التحاقي كنت في جبهة معارك ـ مجنون ـ شمال شرق البصرة ورأيت عشرات الحالات المشابهة لجنود أصيبوا بشظايا. وكنت قريبا عند الإسعاف الأولى. كان الطبيب المسعف ينظف الجرح ويعقمه ويملأه شاشاً نظيفا معقما كي يوقف النزف قبل أن يخيط الجرح لكن لم يكن بوسعي التدخل في ذلك المناخ المتوتر أصلا. أسفت في داخلي لرفيقي الشجاع الذي لم يبدِ أي علامة ألم أو شكوى وكأنه قُدَّ من حجرٍ لا من لحمٍ ودمٍ.

سمعنا رفيقا كان ضيفا من قاطع أربيل، يبدو إنه عاش أولى تجارب قصف طائرات الدكتاتور بالأسلحة الكيمائية لموقع وادي ـ بليسان ـ يصرخ:

ـ هذا قصف كيماوي يارفاق، كيماوي!.

لم ينصت إليه إلا القلة، كان يشرح مؤكدا:

ـ ألا تشمون رائحة التفاح المتعفن والثوم!.

راح يصرخ بهستريا ومثل مجنون بدأ يهرول خلف الرفاق الراكضين يميناً وشمالاً  مرددا نفس الجملتين دون جدوى. أنا من الذين لم يأخذوا كلامه مأخذا جديا، بينما حبيبتي قالت لي:

ـ  اكو ريحة مو طبيعية!.

سخرت من كلامها وهرعت لجلب جريح آخر، فقامت بِبَلِّ منديل ووضعته حول فمها وأنفها.

مازال ذلك الرفيق الذي لا أتذكره و لا أعرفه يصرخ وسط دخان الغبار والغروب ورعب الموقف، ما زال يصرخ وأنا أضع القدم المصابة على البطانية المنقوعة بدمه مفكرا في مساعدة جريح محتمل آخر.. في تلك اللحظة بالضبط سمعت جلبة أقدام  تهبط على الممر النازل من ربوة فصيل الإسناد التفت فطالعني وجه شديد الوسامة، ناعم التقاطيع، أبيض يميل إلى الاحمرار قليلا، متوسط القامة، نشيط الحركة وحوله أربعة أو خمسة أشخاص يحملون حقائب سوداء ويسعون في دائرة هو مركزها. ألقى التحية دون أن يحدق صوبنا. كان يشخص نحو الجريح وسأله بعربية ناصعة عما أصابه، فأخبره مؤشراً نحو ساقه التي لم ينقطع نزفها رغم لفة الشاش المتين. تبادل مع طبيبة الموقع كلاما مختصرا بالكردية قدرت أنه سألها عما فعلته.

ـ هل ثمة بشر هم أصلا ملائكة هبطوا من السماء ليخففوا من وجع الدنيا قليلا؟!.

تبين أنه طبيب من الاتحاد الوطني الكردستاني كان في زيارة لقواعدهم في منطقة ـ بهدينان ـ. التفت نحو المصاب وقال شيئا لمساعديه، فتحلقوا حوله. أزالوا لفة الشاش، وغرزوا أبراً حول الجرح وأعلى الساق. رأيت بعدها الوجه الأسمر المعذب يسترخي طوال وقت تنظيف الجرح وترتيبه دون الحاجة للتجلد وكتم الألم.

قلت مع نفسي:

ـ رفيقي الخالق لم ينسك.. هبط ملاكك الحارس!.

المساء بدأ يرش عتمته قليلا.. قليلا. كنا لم نزل في اللجة مضطربين بين اليقين وعدمه كون القصف كمياويا أم عاديا كما هو في الأيام السابقة. كنت أتمتع بقوة جسدٍ رياضيٍ متينٍ يضاف لرغبة متأصلة في مساعدة الآخرين لحظات المحنة، لذا تطوعتُ لإطفاء الحرائق التي شبت في المقبرة الكائنة على ربوة فوق فصيل الضيافة مع رفيقين. صعدنا مخلفين تحتنا الموقع الذي بدا من على تل المقبرة مغطىً بالدخان ورشيش المساء الخافت. بدأنا بإطفاء الحرائق التي لم تكن حرائق بالمعنى المألوف، إذ كان ينبعث من مكان اللهب الشبه خافت دخان كثيف يثقل أنفاسنا. كنا شديدي الاندفاع نتنادى في حمل التراب بواسطة معاول يدوية لإلقائه على تلك المواقع الملتهبة. بقينا أكثر من ساعة. شاهدت صاروخاً لم ينفجر استقر في حفرة قبر. مددت كفي عميقا في الهوة وتلمسته بفضول لم أفهم سببه:

ـ هل كنت مجنونا؟!.

ـ هذا ما بِتُ لا أشك به أبدا!.

قبيل الانحدار صوب القاعدة. كنت أفكر بتلقائية حياة الثوار اليومية ولم أدرك أن ذلك المساء سيشكل مفصلا حاسما في حياتي كلها وحياة الثوار أيضا. لذا حملت على كتفي ساق شجرة بلوط قطعها القصف، فغدا 6 ـ 6 ـ 1987 دوري في طبخ وجبات الفصيل. كانت ثقيلة. وضعتها جوار غرفتنا المنزوية عند السفح، وبحثت عن حبيبتي فوجدتها تساعد الطبيبة في معالجة رفاق جرحوا جروحا خفيفة. عدنا إلى غرفتنا الضيقة والظلمة هبطت بكثافة على صحن الوادي وأشياء الثوار الرثة.

كنت متعبا فاستلقيت على فراشنا الذي يشغل أكثر من نصف مساحة الغرفة. تركتني قائلة:

ـ سأذهب لمساعدة الجرحى!.

بقيت وحيدا. إلى تلك اللحظة لم أشعر سوى بضيق في التنفس وما يشبه الاحتقان في وجهي، وهذا يحدث لي غالبا قبيل النوم لكثرة التدخين والإنهاك من متطلبات يوم الثوار في الجبل. تناولت كتاب وحاولت القراءة. بعد عدة سطور شعرت بحرقة شديدة في عيني، فرحت أفركهما فيزداد سعير الحرق، قلت معي نفسي:

ـ لأنام قليلا!.

وضعت الكتاب على المنضدة الخشبية الصغيرة الواطئة بارتفاع متر، وأغمضت عيني. سكنت الحرقة قليلا، لكنها بعد دقائق هجمت عليَّ بشدة. فعدتُ لا أستطيع مباعدة أجفاني إلا بصعوبة. أنهضت جسدي وتربعت على الفراش. تناولت مرآة صغيرة، وفتحتُ عيني بعناء وجدتهما  كقطعتين ساخنتين من الدم. تفحصت وجهي. كان محتقنا، منتفخا. أغمضتهما مرخيا رأسي إلى الجدار المغطى بالنايلون. شعرت بهما تتصلبان لحظة بعد لحظة لتتحولا إلى قطعتي حجر. غَمْدتُ رأسي بالوسادة وبقيت هكذا مدة، لكن الألم بدأ يزداد وينتشر في أرجاء جسدي قطعة.. قطعة. لم يعد بمقدوري الاستمرار مستلقياً على بطني. ارتكزت على كوعيَّ وجلست طاويا ركبتي تحت ثقل جسدي.. تَلَويّتُ. نهضت واقفا. حاولت أن أخطو نحو باب الغرفة، لكن شدة الألم عطلت قدميَّ. هويت ثانية إلى الفراش. لا أدري كم بقيت هكذا.. أصارع بصمت الحريق الذي شب في كل قطعة من جسدي.. بدأت بالأنين الخافت.. أقوم أخطو خطوتين.. أقعد.. أستلقي. أقوم من جديد.. أحاول فتح عيني فتهب عليَّ أبواب جهنم. كنت أقول مع نفسي:

ـ متى تعودين يا روحي؟!.. متى؟!.

صارت حبيبتي مثل حلم في بحر الألم الذي ضعتُ فيه. تصورت وقتها أن مجيئها وحده سيسكن آلامي، وبينما كنت أدور في تلك اللجة دفعت الباب، وصرخت:

ـ أش بيك حبيبي؟!.

وراحت تتلمس جسدي. كنت أصرخ من ملمس أصابعها. راحت تتوسل وتناديني باسمي الحقيقي:

ـ أفتح عينك حبيبي!.. أرجوك أفتح عينك!.

كنت أردد من بين أنيني:

ـ ما أقدر.. ما أقدر نار بعيوني!.

ـ حاول حبيبي.. حاول.. أرجوك.. أرجوك!.

كانت توشك على البكاء، وكنت أتلوى من أجلها متحملاً جسدي. حملت نفسي بكل ما تبقى بيّ وباعدت أجفاني كمن يرفع صخرة هائلة الحجم. على ضوء الفانوس الشحيح، في اللحظة الخاطفة تلك رأيت مدى الرعب الذي طعنَ قسماتها الجميلة التي حرزتها في عينيّ لما أغمضتهما ثانية. سمعتها تقول:

ـ اهدأ دقيقة وراجعه!.

سمعتها تفتح الباب. وتغلقه خلفها.. فسقطتُ في بحر ألمي الذي استعرَ من جديد ما أن اختفت،.. لا أدري كم من الوقت طوّلَ غيابها؟!.. لا أدري فالزمن صار غير هذا الزمن.. الثانية فيه تساوي دهرا، بقيت وحدي أجود بنفسي وسط النار ولا من منقذ أو أمل.. بقيت مثل ضال تُرك في جهنم إلى أن فُتِحَ الباب. كانت بصحبة الطبيبة التي أزاحت قميص سروالي وتفحصتني بصمت لتقول:

ـ خذيه إلى فصيل الإسناد!.

وخرجتْ.

قالت حبيبتي:

ـ أصبر حبيبي.. أصبر.. سأجمع وثائقنا ونصعد!.

ألبستني الحذاء، وقادتني من يدي. كنت مغمض العينين. عند العتبة قالت:

ـ أرفع قدمك حبيبي!.

رفعتها. وضعتُ قدميَّ خلف العتبة، فهجمت رائحة الحرائق والدخان الخانق. ازداد ضيق تنفسي، فجعلت أشهق بعمق باحثاً عن الهواء دون جدوى. سرنا على ممر ضيق أعرفه جيدا يصعد بمحاذاة صف من الأشجار يفضي إلى ربوة حيث غرفة السجن، وقاعة فصيل الإسناد، وغرفة رفيق وزوجته ـ. المسافة لا تتعدى الخمسين مترا، لكنها كانت طويلة جدا، كنت أتضور فيها بألمي واختناقي. أنقل خطوي بجهد متوجعاً ويداها الحانيتان تمسكان بيدي وتسحباني بأناة وببطء شديد. كنت أحس أنني سائرٌ نحو المجهول.. فلا مشفى ولا طبيب، وليل دامس طويل وأنا أتلظى في بحر جهنم. أحسست الأرض تستوي تحت قدمي، معنى ذلك أننا بلغنا الفسحة الواسعة التي هي عبارة عن حقل محاط بالأشجار من ثلاث جهات تحول إلى ساحة للعب كرة الطائرة. لم أسمع شيئا كان الصمت مقيما لا يعكره سوى وقع أقدامنا وحفيف أرديتنا ولهاث حبيبتي. قطعنا عدة أقدام، ثم أوقفتني قائلة:

ـ أجلس هنا!.

بعناء باعدت أجفاني. فطالعني المشهد. حول لهب نار مضطرمة تحلق الثوار في دائرة كبيرة. أول وجه وقع بصري المضطرب عليه كان وجه ـ توما توماس ـ وهو من أهم شخصيات اليسار العراقي قاوم السلطات المتعاقبة منذ 1963 باللجوء إلى الجبل وحمل السلاح، بقسماته الشائخة الحمراء، وشعره الأشيب الطويل المنسدل حتى منتصف الكتف. كان ساكنا يجلس لافا ساعديه حول ركبتيه ويحملق في الشعلة بصمت، وإلى جانبيه أصطف جلوساً الثوار وكأنهم في طقس بدائي. كنت أغمض عيني وأفتحها بين ثانية وأخرى والحرقة تزداد شدة. تركت يديّ وقالت:

ـ سيموت يا الله.. سيموت!.

رغم ألمي سألتها:

ـ من.. من؟!.

فقالت:

ـ أبو ماهر!.

وأبو ماهر هو ـ ثابت حبيب العاني ـ من شخصيات اليسار المعروفة وكان صاحب امتياز صحيفة طريق الشعب العلنية خلال فترة السبعينيات، فتذكرت أنه كان يقيم في غرفة جوار قاعة الضيافة. أي في مكان يبعد عن تلك القذيفة التي أعمت الرفيق وأحرقته عشرين متراً. وهو شيخ كبير اختلف مع قيادة حزبه ورفض مغادرة كردستان إلى الخارج. فعزل عن العمل وبقي في مقرنا. كان مريضا في القلب. فتحت عيني ناسيا جحيم الحرقة وحدقت نحوها وهي تخطو مقتربة من ـ أبو ماهر ـ الذي كان مستلقيا على بعد ثلاثة أمتار. على ضوء النيران لمحتُ ملامحه المحتقنة وهو يحاول التنفس دون جدوى فبدأ بالشخير وكأنهُ يعالج سكراته دافعا بذراعيه إلى الجانبين رافساً برجليه المتصلبتين. آخر ما أتذكره من ذلك المشهد هو أنها هرعت مع رفيق آخر لتجلس جوار رأسه وترفع جذعه الأعلى وتسنده واضعةً رأسه المتشنج إلى كتفها فبدأ بالتقيؤ والسعال بينما هرع رفيق آخر لمناداة الطبيبة. شعرت بالموت دانيا منه ومني ومن هذا الجمع من الثوار الحالمين الذي عاشرتهم سنين طوالاً. خنقتني العبرة وذرفت الدموع ناسيا جحيم جسدي تلك اللحظات. كنت أبكي بصمت والسعال بات يأتي من أطراف ووسط الدائرة يصحبه أصوات هواع.. وكأنهم يحاولون التقيؤ دون جدوى.. نار ووجوه ساكنة في ألمها تحدق بصمت وأخرى تسعل وأخرى تتقيأ واللحظات تمتد وكأنها الأبدية. صرختُ مع نفسي:

ـ كيف الخلاص من كل هذا؟!.

عندها بدأ الجحيم من جديد يستعر في كل قطعة من جسدي حد لا أتذكر من مشهد دائرة النار شيئا. إذ وجدت نفسي أحبو متمرغا مثل طفل على حصير غرفة مكتظة بالرفاق الصارخين الناحبين فانتحبتُ أنا أيضا بصوت مسموع ورحت أصرخ مستنجدا مثل الجميع:

ـ أخ سأموت!.

ـ إني أحترق!.

ـ يا يمة!... يا بويه!.

ـ  بويه تعالي بويه!

ـ ولكم أريد شويه هوه!

ـ عيوني يمه عميت

الهذيان مصحوب بصراخ ألم، وسعال وقيئ. كنت أفتح عيني بين الحين والحين فيقع ناظري على أجساد مطروحة جالسة نصف واقفة مضببة تحت ضوء فانوس عليل معلق على الحائط جوار الباب. لم أستطيع التعرف على أقرب رفيق يتلوى جواري.. وكأنني دخلت طورا جديدا من الألم والعذاب، إذ أن الشعور بدنو الآجل صار شديد الوضوح، كنت أجود بنفسي متمنيا لو أن أحدهم يجهز عليّ ويخلصني من ذلك الجحيم، شعور راودني قبل هذا الموقف لما كنت معتقلا في الشهر السادس من عام 1980 في الأمن العامة ببغداد، إذ خطفوني وصديقين أحدهم كان متخفيا عن أنظار السلطة يدعى " ميثم جواد " من أهالي كربلاء، خريج إدارة واقتصاد جامعة المستنصرية أعدم لاحقاً. لما يأخذونني إلى حفلة المساء، ويبدأ التعذيب يتصاعد من الفلقة إلى رجة السلك الكهربائي، كنت أتحمل ذلك وأصرخ، لكن لما كانوا يغطسون رأسي في حوض الماء ويطيلون المدة رويدا.. رويدا فأشعر بأن روحي تكاد تخرج من حلقي في جحيم الماء الذي يشبه جحيم الحرق في هذه الغرفة المكتظة بالصارخين وكأنهم ينتظرون أمام بوابة الجحيم، لكن دون أن ينالوا تأشيرة الدخول حيث القرار. كنت معصوب العينين في غرفة شاحبة الضوء ممسوكا بأيادٍ غليظة قاسية أصرخ طالبا الموت في متاهة أقبية الأمن العامة،، رحت أصرخ طالبا الموت أيضا فيضيع صوتي في ضجيج صراخ وهذيان الرفاق. في تلك اللحظة أحسستها تمسك بذراعي بقوة كي أكف عن التلوي والصراخ والبكاء، هامسة بصوتها العذب باسمي الحقيقي:

ـ  حبيبي.. كن قويا.. أرجوك!.

ـ  لا تضعف حبيبي!.

وقعت في حيرة.. فهاهي زوجتي تدعوني لأكون  قدر الألم وهو لا يطاق. عضضت على أسناني بكل ما بيّ؟!. فتصلبت قسماتي وأنا أحبس صراخي كاتما جحيم النار في نفسي، منصتا لصوتها العذب المتوسل كي لا أقول شيئا وأتحمل وأصبر. كانت كأنها تقول ليّ:

ـ الموت لابد منه، لكن ثمة فرق كبير بين أن يموت الإنسان وهو يصرخ بضعف وآخر يموت بصمت.

رغم الجحيم حمدت الدنيا التي منحتني نعمة جوارها، فهي ساعدتني كثيرا لما كنت مختفيا في المدن، إذ كانت تلتقي بيّ سرا وتشد من أزري، وعندما كاد يلقى القبض علينا في شباط 1985 رتبت عملية التحاقنا بالثوار في الجبل بكل هدوء وتركت كل شيء خلفها حتى ابننا الوحيد. 

كيف انقضت الليلة التي تشبه الأبدية؟!.. لا أدري

كانت تتركني بين الحين والحين.. تغيب وتعود بينما كنت احبس صراخي وألمي منصتا لهذيان وصراخ الكتل البشرية المحشودة المتلاصقة في الغرفة. كانت تتلمس جسدي المشتعل كاشفة عن ظهري وصدري وساقيَّ، وتقول كلاما تصبرني فيه وتشّد من عزمي. كان الألم يبلغ بيّ حده الأقصى بحيث أعود لا أحس بشيء فأسقط في شبه إغماءه لأصحو على صوتها الناعم العذب وأصابعها الحانية تجوب لامسة جروحي. ستخبرني في الصباح عما صار مع رفيقنا المحروق، إذ كانت تتركني وتنزل إلى الطبابة لتساعد الطبيبة وهي تحاول أن تفعل شيئا قالت:

ـ كان محترقا أعمى يتقيأ كل لحظة. فيما وضعت الطبيبة صحنًا كبيرًا وعميقًا في حضنه كي لا ينثر القيء على ملابسه. اختفت أهدابه. فرغت عيناه. تشنجت قسماته. كان يحاول أن ينهض بجسده دون جدوى فيرفع يديه المسودتين إلى أعلى وكأنه يحاول الإمساك بشيء. خنقتني الرائحة المنبعثة من كتلته، فبللت منديلي ووضعته على أنفي وفمي. مسحنا جروحه بالشاش المعقم، لم ينطق بحرف واحد، لم تصدر عنه سوى أنة واحدة طويلة قبيل لفظ أنفاسه الأخيرة ليستقر رأسه بلا حراك على كتفي!. عندها صرخنا أنا والطبيبة ورحنا في عويل طويل فهرع نحونا الرفاق القريبين ليحملوه ويضعوه على فراش منزوٍ في طرف الغرفة!.

استيقظت على صوتها يناديني:

ـ ها حبيبي سلام أش لونك؟!.

وجدتُ الصمتَ مقيما ومن بعيد يأتي صوت زقزقة عصافير. فتحتُ عينيَّ رغم النار التي شبت فيهما وأجلت الطرف. على ضوء الفجر رأيت الأجساد التي كانت تتضور طوال الليل صارخة هاذية تغفو أيضا أو تسقط في غيبوبة الألم كما حدث معي.. ذكرتني بأشلاء الجنود في جبهة الحرب العراقية الإيرانية التي تخلفها معركة ليلٍ ضاريةٍ. أغمضت عينيَّ منصتا لزقزقة العصافير. حاولت أن أسحب نفسا عميقا. لم أستطع فالهواء يشعل بلعومي فأسعل سعالاً جافاً طويلاً. همستْ بصوت منكسر النبرة لم يستطع إخفاء ألمها:

ـ حبيبي سنصعد إلى موقع ـ الدوشكا ـ.   

تخيلتُ الموقع القريب من القمة، والمجاور لنبع الماء والذي يبعد ساعة في صعود وعرٍ بالنسبة للسليم فكيف بحالي؟!.  حاولت مساعدتي في النهوض. تمكنتُ متمسكا بذراعيها، لكنني لم أستطع السير سوى خطوات قليلة إذ شعرت بحريق يشب في خصيتي وبين ساقي وتحت إبطيَّ مع كل حركة. همست:

ـ تحملَّ حياتي!.

رميت خطوي مستندا على كتفها. كان النهار صحوا والشمس متلألئة مما زاد من حرقة عيني كلما حاولت فتحهما. أتذكر الآن مدى العناء الذي تَجَشَمَتْهُ وهي تحاول بمساعدة رفيق إصعادي فوق البغل. جلستُ على السرج. أشتعل ما بين فخذي، فولجتُ في صلب الجحيم. لم يكن أمامي سوى الصمت وكتم الألم في حضرتها.

 كنت أتأرجح على حافة العالم السفلي والظلام حيث الصمت. قلت مع  نفسي والبغل أثناء صعوده العسير يجعلني أحس وكأنني موشك على السقوط مع كل خطوة يخطوها لاهثا من عناء الارتفاع وثقل جسدي:

ـ لو كُتِبَ لي الحياة ونجيتُ من هذه المحنة فسوف أجهر بحقيقة حواسي في التجربة دون أي رادع فكري أو أخلاقي أو اجتماعي أو قيمي

الرحلة من قاع الوادي وحتى نقطة النبع القريبة من القمة بدت وكأنها دهرا!.

كان أحدهم يسندني في جلوسي على السرج من اليمين وهي من اليسار وثالث يقود البغل. كانت تسأل بين الحين والحين عن حالي، فأطمئنها مضطرا كوني بخير. وفي لحظة من ذلك الزمن المطلق سمعتها تصيح:

ـ رفاق لقد عميت!.

عندها شب ألمي وعراك شب بين من كان يسندني إلى اليمين وكان عربيا والذي يسندني على اليسار وكان كرديا من السرية الخامسة. أصر الرفيق الكردي على البقاء لمساعدتها رغم غضب العربي الذي كان يريد إبعاده.. لا أدري كيف بعد ذلك بلغتُ موقع الدوشكا، لكنني أتذكر بوضوح وجه رفيق كان  طبيب أسنان رفض في كردستان ممارسة مهنته كونها تشبه ما يقوم به رجل الأمن لما يعذب المعتقل لا سيما وأن المخدر لم يكن متوفرا فأصبح مقاتلا عاديا ما ميزه أنه عاشق مدله بالمغنية ـ فيروز ـ حتى إنه أقام عدة محاضرات عنها شارحا أغانيها ومحلقا في عالمها الحالم. وجدته يستقبل المصاب الواصل صارخا بحرقة وهو يشير إلى مجرى النبع الضيق الهابط نحو الوادي:

ـ رفيق أنبطح.. أفتح عينيك وغط رأسك في الماء!

فعلت ذلك مرات لا تعد. كان ذلك يخفف قليلا من ألم عيني المحترقتين. صف من الأجساد المنبطحة على بطونها يرقد جوار مجرى النبع تغط الرؤوس في الماء البارد الجاري وكأن ذاك الماء هو الخلاص!.

ذوات مسكينة حالمة تتضور بألمها وتغط في ساقية ضحلة رأسها متأملة العودة إلى وضعها البشري قبيل القصف. كان الصمت حكما فيما عدا صوت ـ طبيب الأسنان ـ المتحمس في صراخه كي نقاوم ونفتح أعيننا في الماء الجاري.

ـ إفتح عينك.. غط رأسك.. غط رفيق غط وإفتح عينك!.

صراخ يأمر بقوة كانت تجلب للنفوس ذلك الوقت ثقة بأنها سوف تتعافى مباشرة بعد ذلك الغط وجاري الماء يمر ملامسا حدقات عيونها المحترقة المفتوحة عنوة.

كنت أظن بأنني سأبلغ مسافة التعافي بعد التبرك بالماء، لكن هيهات. كان الوقت قبيل منتصف النهار. أتذكر أن الشمس كانت ساطعة بحيث لما كنت أرفع رأسي من الساقية الضحلة الضاجة وعيناي لم تزل مفتوحتين يجتاحهما الضوء الحارق الذي لا يتيح لي سوى النظر للحظة لذلك المشهد المؤثر، أكثر من ثلاثين مقاتلا ينبطحون على بطونهم.. الرؤوس غاطة في الساقية الضحلة الجارية، يرفع أحدهم الرأس ويغطه على الفور لما يواجه الضوء الساطع مستنجدا بالماء.

لا ماء الله كان خلاصا

ولا شمسه.. ولا الهواء

كانت آلهة حديد ـ الدكتاتور ـ قد أدخلتنا في الجحيم!.

وكنا كذلك نتضور ولا من يخلصنا من أجسادنا لنستريح!.

لا أدري كيف مضت سحابة ذلك النهار. لكنني أتذكر أنني كلما أخرجت رأسي من الماء أراها متجسدة في اللحظة الأولى التي أُباعد فيها أجفاني وهي تصرخ:

ـ رفاق عميت.. عميت!.

وقبل أن أسأل نفسي أين تكون الآن؟.. يهجم عليّ الضوء والشمس فأغط بوجهي في الماء هربا من جحيم عيني!.

لا أدري.. ولا أتذكر متى انسحب الضوء من الدنيا، فما أن كففنا عن الماء حتى عمينا تماما. ثمة مسحٌ في الذاكرة لدي إذ أنني استيقظتُ في المساء لأجد نفسي في قاعة من الحجر والطين محشودة بصفين متقابلين من الثوار المصابين الصارخين، المتوجعين، الهاذين على ضوء فانوس عليل معلق على الحائط جوار الباب. لما فتحت عيني ووعيت بكينونة جسدي شبَّ الألم من جديد، فندمت قائلا مع نفسي:

ـ لِمَ لمْ تأخذني يا إلهي؟!.

كنت وفيا لوصيتها في الليلة السابقة فجعلت أكتم ألمي منصتا لهذيان الثوار وهم يهبطون في هوة اليأس والألم والعدم:

ـ يمه تعالي ابنك عمه!.

ـ يمه راح أموت وما أشوفك!.

ـ بويه وينك تعال بويه تعال!.

ـ يابوية عيوني!.

ـ يا ياب احترقت ولك ياب طفيني!.

ـ لعلى أبو اللي ورطني بالكفاح المسلح!.

ـ ولكم الهوه يا الله الهوه!.

أفتح عيني بعناء فيطل المشهد للحظات. الأجساد تتلوى على أفرشتها، تتقلب، تستقيم بنصفها العلوي، تلقى نفسها بيأس إلى الفراش هاذية. ليلة كانت أشد عليَّ من ليلة الأمس، كنت وحدي بدون حبيبتي ضائعا في عدم الصراخ وجحيم الكيمياء الذي نزل علينا من السماء في غروب رائق!.

قضيت ليلة يأتي النوم فيها بعد إعياء الألم، والصحو يلقي بك إلى ساحل الهذيان والتقلب وحرقة العينين وضوء الفانوس والصراخ المبهم

ليلة الدوشكا بدت لي كأنها ليلة من حكايات الرعب وليالي سوداء من كتاب عراقي. كتاب لم يدون بعد.

ـ كيف مضت تلك الليلة؟!..

ـ لا أدري!.

فبينما كنت أغط في ظلام وضوء باهت وصراخ وهذيان ينتاب لحظات يقظتي النادرة حيث تحولت فيه حبيبي إلى مجرد خاطر عابر مرَّ في العمر وغاب. وجدتني بغتةً أسقط في باحة صمت تطفو في عتمة مرئية. صمت صلد حي مرئي غيب كل شيء وكأنني وحدي في الخليقة. لا أدري كم مكثت ساكنا في الباحة العائمة دون ألم وأوجاع،

إلى أن بدأت أهبط.. وأهبط.. وأهبط.. ببطء شديد.. أهبط  في أحشاء ظلماتٍ كثيفة..منحدرا.. أدورُ في صمتٍ مريع، مفتوح العينين، تام الصحو، سليم الحواس.. أتسمّع لدوي السكون القادم من لزوجة السواد العظيم.

لا أدري أ أنا أطفو أم أسير، أستلقي أم أطير!. في انمحاقي الأريب هذا أحس بثمة قوة غامضة، كلية القدرة كامنة في روح الظلام تأخذني إلى مقاصدها في مَجَاهِل هذه الحلكة السديمية الغامرة جسدي الصاحي والسائب في تحليقه وتقلبه، هبوطه وارتفاعه، نكوصه واندفاعه نحو جهات تغور في آباد حلكة سائلة أبدية الانهمار. التبست عليّ نفسي واستبهمتْ.

ـ ما معنى وجودي الممحوق؟

ـ أين كنتُ.. وإلى أين أريد؟!.

 من أنا؟.. أي كائن؟.. وما هذه القدرة على التقلب والطيران، العوم والغوص في فضاء لزجٍ سميك. من أي الأمكنة قَدَمْتْ.. أحاول استذكار أي شيء.. لكن.. هيهات ثمة من شطبَ ذاكرتي وطمسها معي في بطون الظلمات، فضاعت أمكنتها، وأُدغمتْ في سديم مضفور من أنصاف وجوه، وأشلاء أشجار وعصافير وطيور وهوام وكسر أزمنة، وحشود من شظايا أبواب وشبابيك وحيطان الدائرة معي في ضباب السديم الرطب السابح أمام عيني المفتوحتين أينما يممت وجهي في تيه الظلمات هذا.

لا أدري كم من وقت مرَّ عليّ وأنا هائمٌ في محيطات الصمت والظلام صفر مطلق مندغم في السواد الذي أيقظني فورانه المباغت وصبّني من أحشائه لأنزلق من فتله الدوار هابطاً بقدميّ الحافيتين على سطحٍ هش من ظلام أبهت قليلاً. بركتُ على التراب ورحتُ أقلب بأصابعي ذراته الناعمة.. أأكون قد خلصتُ من لزوجة سائل العتمة الكثيف؟

أدخلت فضاء تكون فيه للكتل أوزان؟

حضنتُ التراب. تنشقتُ عبقه الآسر.

ـ أي أشواق تضمرها نفسي لك.. أي وَلَه مستعر بالأحشاء.. وَلَه بدائي.. راسخ.. وَلَه لا يخفت أواره إلا في ملمس ذراتك الناعمة اللصيقة، بعد عناء التقلب بذلك البطء الذي بدا لي سرمدياً.

عفرتُ عريي بالتراب، ثم تربعتُ في جلستي غارزاً ناظري في حدٍ فاصل بين سوادٍ سميك مثل الفحم، وسواد أبهت مثل ليل غائم. أتكون تلك الكتلة السميكة هي التي أفرزتني إلى هذه البقعة؟.. كل شيء مبهم!. لكن ما هذا المكان؟ وأين أنا؟. أضيع في الأسئلة وكسر الأزمنة والوجوه، الروائح وضجيج الأمكنة الأخرس يعصف برأسي، أشلاء لا تني من الحراك الدوار. أردت الصراخ:

ـ من أنا؟.. من أنا؟.. من أنا؟..

و.. و.. مات لديَّ كل فضول ورغبة، عدا رغبة جارفة في غفوةٍ أبدية تنسيني كل هذا الخواء والخلاء وألوان الظلام. ضممتُ رأسي بين ذراعي، وأطبقتُ أجفاني مبحراً في الصمت الصلد القائم في اللامعنى والتراب، فالأمر سيان إذا غفوت أو بقيت مستيقظاً.. أطبقت أجفاني أو باعدتها.. ظلامٌ في ظلام، خواء في خواء، لا ضوء ولا رغبات، لا عطش ولا جوع، لا إحساس بالتعب أو الراحة، بالألم أو اللذة، لا شيء خلفي ولا أمامي، لا أشعر بشيء سوى بالسواد الطاوي كينونتي، وبصلابة التراب الناعم تحت جلستي المتربعة ورأسي مضموم بتجويف ذراعي المتعانقين. صمتٌ جبارٌ مقيم. ظلام أخرس مطلق، وكتلتي المتكورة على تراب قديم.

ـ هل أمكث الدهر كله هنا.. هل تخّلقتُ هنا منذُ الأزل.. أم أن ثمة من أطفأ ذاكرتي ورماني في فضاء الخرس والظلمات؟!.

وبينما كنتُ سادراً في تكوري، اخترقني دوي انبثق من جوف السواد. أيقظني من غفوة المطلق، للدوي وقعٌ أليف، محفور في ثنايا الروح. وقعٌ طالما أنصتُ له في صمت ظلامٍ ليس كهذا الظلام. ظلامٌ يستطاع فيه تحديد الأشياء والذكريات، لكن أين كان ذلك يا إلهي.. يا رب المَجاهل العظيمة؟.. أين.. أين.. أين؟!. أتأرجح على حافة الوضوح.. وشبح عالم أعرفه تتخايل حدوده وتغوص في السواد.. أتأرجحُ.. أ.. تـ.. أ.. ر.. جـ.. حُ. استولت علي رغبة في النهوض وتتبعْ مصدر الدوي البعيد لعلّي أفلحُ بإمساك بارقة تشي بمعني وجودي في هذا القرار الداكن. استندتُ براحتي. أنهضت جسدي. وما أن انتصبت بكامل قامتي حتى خفقني حفيف كحفيف أجنحة، وأحسستُ برذاذ خفيف يرش جسدي العاري. أعقبه ضوع عشب بري ومطرٌ راح ينصب صبا، أسمع ما يشبه الخفق وكأن طيور الظلام تدلق من أعناق أباريق خليط من ماء باردٍ وأعشاب، ثم انقطع الصبيب لتهب ريح دافئة أيبست البلل. لبثت في وقفتي الحائرة عارياً ناشفاً إلى أن أُلقيَّ عليّ رداءٌ أبيض ستر عريي. استحكم الثوب على كتفيّ وحول خناقي فصار باستطاعتي الرؤية بالرغم من الظلام. وجدتُ نفسي على دكةٍ، تطل على مدينة شاسعة تبركُ في ظلالٍ داكنة كليل الدنيا، أشجار باسقة سود، ساحات مدورة مرتفعة ومنخفضة، أزقة متداخلة مقفرة، مغلقة مفتوحة سوداء تتلوى في متاهة تتصل بمتاهة أخرى، وليس غير مسلك واحد يؤدي إلى بواطنها المرئية من دكتي الترابية العالية. من أقصى امتداد المتاهة الملتحمة بأفق السواد العظيم يجيء الدوي الأليف.. لو.. لو.. لو أتذكر يا رب الأمكنة الغامضة.. لو.. أين سمعت هذا الدوي الذي انتشلني من رثاثة الظلام والصمت، من دكة العدم، من نعومة التراب الساخن إلى الماء وثوب الرؤية. انحدرت حتى آخر درجة، فوجدتُ عليها خفين من نسيج أبيض متين على مقاسي، وطئت بهما نعومة البلاط الزلق المرصوف بين جدارين رخاميين عاليين يضيقان وينفرجان، أصمين لا باب فيهما ولا شباك. رخام لامع مصقول مثل مرايا أحاط بيّ من ثلاث جهات، وسماء منخفضة مثل سقفٍ معتم يربط ما بين شهقة الجدارين. يلاحقني أو يخيل إليّ ما يشبه حفيف خفيف لا أدري أهو خفق أجنحة أو احتكاك خفيّ بانحدار البلاط، أم هسهسة كائنات الظلام؟!. لم أعِر اهتماماً بالزقاق الأصم، بأخيلة الحفيف. كنتُ مشدوداً للدوي الهادر. أحومُ حول مجراه الغائر بروحي.. أحوم.. وأحوم.. وأهفو إلى أن وقعت فيه.. أنه دوي فرن الخبز الكائن في مدخل شارعنا.. فرأيتني مستلقياً قبيل انبلاج الفجر على فراشي بحوش دارنا، أتأمل مصابيح السماء. أمي تركع على سجادة صلاتها غارقةً بأطياف السحر والظلال، بلغط الأدعية المهموس. إخوتي العشرة مبعثرين حولي يغطون في السبات.. سوف توقظني أمي حال فراغها من الصلاة.. فأتصنع الغفوة.. ستلح فأضطر إلى القيام لاعناً كوني أكبر الأولاد، سيطالعني صاحب الفرن ـ الحاج جاسم ـ بلحيته الشيباء الكريمة وملامحه الوديعة، شكل قديس يعد الأرغفة قبل أن يناولها إلى يدٍ من أيادي الجمهرة الممدودة من النوافذ ومن الباب المفتوح. تخدرني رائحة الخبز وصفاء وجه ـ الحاج ـ وخاطر الدفء المنبعث من باطن الفرن، أهم بالنهوض.. أهِمُ.. وجدتني أخطو في الممر الأصم والدوي قوياً.. قريباً بعيدًا..

ـ أين أنا؟.. أفي حلمٍ أم في كابوس؟!.

فركتُ عينيَّ بسبابتي المثنيتين، وعاودتُ التحديق في رهافة الجدار، في امتداد الزقاق الملتوي والضائع ببحر الرخام، في البلاط السائح مثل الماء، في سقف السماء المعدني. تحسستُ ردائي الشفاف، تقاطيع وجهي، صدري، بطني، لستُ في حلمٍ أو كابوس إذن!.. ما هذا الصمت المبرح.. والدوي المبرح.. وما هذه الجدران العالية، الغائرة بسقف السماء المنكفئ، الأصم، الداكن؟!.

أغمضت عيني شاردًا عن مجرى الرخام السائح.. مركزاً على لحظة نهوضي من الفراش.. نعم.. نعم.. إنه دوي فرن الخبز.. غادرت الدار قبل لحظات.. لا.. لا ليس قبل لحظات، منذ زمن.. زمن بعيد.. لا.. لا لم أعد أتذكر متى بالضبط، ولكن رأيتني أنسلُ من دفء الفراش في سكرة السحر، وأُلقي نظرةً على إخوتي الغافين وأمي التي كانت تطوي سجادة صلاتها قبل أن أخطو نحو الممر المظلم متتبعاً الدوي الهادر في الظلام الشاحب، في مناحي السماء الصافية، في خدر بقايا النعاس العالق في جسدي، في خطوي المتثاقل. أخطو نحو ضجيج الفرن الذي رافقني منذُ أن وعيت غبشة الله.. نعم غادرت الدار متأبطاً القماشة القديمة التي سألفُ بها الأرغفة العشرين. المسافة بين بابنا والمخبز لا تزيد على ثلاثين متراً لا أحتاج فيها عبور الجادة الترابية العريضة، فبناية الفرن تقع في جهة دار أهلي. إذن كيف ضعتُ في المسافة القصيرة تلك؟!. وكيف اتسعت الأمتار المعدودة لكل هذه الأبنية الغريبة بجدرانها الشاهقة الصماء، السادرة في صمتٍ مصبوب بالرخام. صمتٌ مرئي في الامتداد المتعرج دون أبواب أو شبابيك. لا ضوء، لا نأمة، لا بشر، لا كلمة، لا نجمة في السماء الصدئة الخفيضة. وحده دوي الفرن يهدر.. علامة مفردة. أيكون هذا الدوي منبعثاً من رأسي؟.. أيكون وهماً من أوهام الصمتْ؟.. أأكون في باطن كوابيس الطفولة التي لازمتني منذُ رؤية جثة زوج عمتي وسط باحة الدار.. أم أنني أضعتُ فعلاً طريقي إلى فرن الحاج جاسم؟!.. تلمستُ جسدي.. إذن ليس الأمر كابوساً، وهذا الامتداد المقفر سيضيعني.. سأعود أدراجي من حيث أتيت عساني أعثر على باب بيتنا وأسلك الثلاثين متراً الفاصلة عن ضجيج النسوة والأطفال والرجال ودوي الفرن. تلكأتُ في خطوي ناوياً الاستدارة. شعرت بأنني لستُ وحيداً، فمن خلفي تناهى ما يشبه حفيف أقدام بات واضحاً عند وقوفي المباغت. التفتُ.. تجمدتُ هولاً. ثلاثة كائنات عملاقة تسد سبيل عودتي، برؤوسها الكبيرة، وأذرعها العديدة، الطويلة، الخارجة من الأكتاف والصدر والبطن والعنق، تتدلى متأرجحة أمام كتلة الجسد العالية بعلو جدار الرخام. كانوا يقفون على مسافة عني. كلما خطوت خطوة تقدموا. كانوا يرمون أرجلهم الطويلة المتينة العارية العصية على العد ببطء محافظين على قدر المسافة بيننا. توقفت مرة أخرى واستدرت هذه المرة بكامل جسدي. رفعت ناظري إلى حيث الوجوه العالية المنكفئة وكأنها تهبط من السماء. لكل وجه  ثلاث عيون. اثنتان جانبيتان كعيني الحصان، والثالثة الأوسع تحتل نصف الجبهة المفلطحة. رأيت بأعماق العيون التسع أتون نيران صافية متأججة. حملقتُ بالأذرع المتأرجحة، المتسلقة جداري الرخام، الممدودة نحوي، الرامحة صوب رماد السماء، بمتانة السيقان المتراصة الجامدة واثقاً من هلاكي. صبنا السكون صباً حتى ظننتُ أن هذه الكائنات منحوتات خرافية اخترعتها مخيلة الإنسان القديم. حدقتُ إلى خزف بشرة الكائنات الساكنة، طلاوة الرخام، صدئ السماء الدانية. يفور في صمتنا دوي الفرن قادماً من خلفي. أتكون مخيلتي هي من أبدعت هذه الكائنات الغريبة؟.. أتكون مجرد تجليات رعبي؟.. سأعود أدراجي.. سأعود. ونفضت رأسي عازماً الرجوع للعثور على الاتجاه الصحيح المؤدي إلى الفرن. بارحتُ سكوني رامياً خطوي نحوها. لم تتزحزح. نفضتُ رأسي مرة أخرى لطردها من مخيلتي لكنني رأيتها تمد أذرعها نحوي وتعيدني برفق إلى مكاني ووجهي باتجاه مصدر الصوت. أيقنت أن الأمر ليس خيالاً ولا كابوساً، وهذه ليست منحوتات حجرية خلفتها حضارة دارسة.. سقطت في اليأس واستسلمت لقدري ميمماً صوب الدوي الهادر في المسار نفسه الذي لا محيد عنه يلاحقني حفيف الأذرع والأقدام الساعية خلفي..

ـ إلى أين تدفعني.. إلى أين؟.. أتبغي طمري في عمق هذه المتاهة الرخامية؟

أرعدني خاطر الطمر. شبت روحي من الجذر، فركضتُ بجنون.. تصطحبني أشباحي المعكوسة بمرايا الرخام. أتلفت كلما قطعتُ مسافة، فأجدني لم أبتعد قيد خطوة منها. المسافة الفاصلة نفسها. ركضتُ دهراً.. مشيتُ دهراً.. تعبت دهراً والدوي نفسه قريب بعيد، الصمت نفسه مكين دفين، الرخام نفسه سائح صلد لين ناعم، والسماء نفسها خفيضة كالحة برصاصها المشوب بظلال العتمات.

*      *     *

بينا كنتُ سادراً في أبدية المسار أبصرتُ ضوءاً  هزيلاً ينوس في مدى الرخام. وجدتني أنجذب نحوه مثل كتلة عمياء. امتصني. اختنقت من ضيق الخرم قبل أن أتكوم في عتمة سحر ساكناً جوار ما تخيلته عتبة باب خشبي قديم، وخلفي سديم من الأغبرة الرصاصية السابحة في كثافة السواد. تلمست بأناملي الجسد الغاط بالظلام، نعومة البشرة الملساء التي أراها بأصابعي تحت الغطاء. أعتنق جسدها الذي ينبثق كل لحظة من جوف السواد. تظّهرهُ أصابعي الجائبة في تضاريسه العارية الساخنة، النابضة، المرتعشة، الطيعة بين ذراعيّ. أجوبُ.. وأجوبُ في صمت محشود بأخيلة العيون. أدلكُ الاستدارات الممتلئة للكفل والفخذين. نغوص في مطاوي العتمة تحت بطانية عسكرية قديمة.. أين كان ذلك يا إلهي؟.. أين؟ كنت أسمع همساً مكتوماً، ذيول آهات حبيسة وكأنني أعانق الجسد المتجدد في ثوب السواد العظيم محاطاً بلهاث نسوة. كنا عاريين.. عاريين في غرفة من طين، نكتم لهاث أنفاسنا السائحة بالرغبة الطافحة. وفي غمرة الإيلاج والغور في أحشاء بعضنا.. في غمرة التجلي والانمحاق أهجس بأصابع النسوة المجاورة لموقع فراشنا تندس ملامسة ظهري الناضح.. أين كان ذلك يا إلهي؟.. أفي الحلم أم في أسفار مخيلتي المشبوبة؟. والأنثى المتوقدة في أحشائي واللهاث والظلام من تكون؟!. أمرغ جسدي بجهنم اللحم في عمق العماء.. يا إلهي.. ماذا أصاب ذاكرتي.. ماذا؟. أنا واثق أنني الآن في جوف حلكة غرفة رطبة، وهذه الأنثى الباهرة تلفني وألفها تحت الغطاء وسط نسوة مؤرقات بالشهوة.. أسمع فحيح أنفاسهن المضطرم.. لكن أين.. أين.. أين.. وعجنت النهد المتكور، الصلب الناعم، المشتعل في باطن راحتي الحادبة.. قضمت حلمته وأنا أبلغ ذروتي، فوجدت نفسي أعانق خشب باب قديم نصف موارب. أحسست بسائل دافئ يتدفق مبللاً وسط ردائي الأبيض. ضايقتني اللزوجة الدبقة. خطوت إلى الخلف خطوتين مباعداً ما بين فخذي، ساحباً ردائي الملتصق بعضوي الذي لم يزل على توتره. مددتُ ذراعي نحو الباب ودفعته إلى أخره، فأزّ أو خيلّ إليّ أنه أزّ أزيزاً أرعدني فجمدتُ.. ولكن ليس ثمة صوت أو صدى.. ما هذه الدار؟ شعرت بالمكان يأخذ روحي.. أليفاً.. حميماً.. معجوناً بدمي. كنت في المسافة الضيقة بين الباب المفتوح وستارة من قماش مسدلة. أزحتها وخطوت في عتمة ممر يعبق بمزيج من روائح قديمة أحيَتْ أمكنة مبهمة في ذاكرتي، رائحة جوري، زهر الرمان، قداح، تمر، ماء ورد، زعفران، مسك وعنبر. روائح أشعرتني بالنشوة ورأيت فيها بساتين وسواقي، أفياء وحقولاً، أسواقاً ومقاهي. خضتُ في عتمة الممر الموحلة باتجاه نثار ضوء يتصاعد من باحة الدار غير المرئية من موقعي العالي. استطعت تشخيص فتحة سلالم صاعدة إلى يميني، وباب غرفة خشبي تعلو إطاره العلوي نافذة زجاجية تتصل بالسقف العالي. عبقني ضوع الآجر. دنوت من الجدار. تحسسته، وعببت أنفاساً متلاحقة.. خدرتني وجعلتني أطبق أجفاني لهنيهة. ليسطع ضوء خاطف في رأسي..

ـ أليس هذا بيت عمتي الأرملة؟!..

 نعم.. المدخل وفتحة السلالم والغرفة وشباكها العلوي، معنى ذلك أنني سأكون بعد عدة خطوات في صحن الدار. تهالكت باركاً. قبلتُّ أرض الممر. تيممتُ بغباره، ونهضت مقرور القلب لخلاصي من أمواج الرخام وممره الوحيد وأشباح الكائنات الخرافية.. يبدو أنني غفوتُ على العتبة، كما كنتُ أفعل في طفولتي العنيفة حينما ألجأ إلى حضن عمتي هارباً، فلا أجدها في البيت فأنام على العتبة إلى حين رجوعها. لم تستمر بهجتي بالخلاص من كابوس الظلمة والرخام طويلاً. فالممر وجدته طويلاً.. طويلاً على غير عهدي بقصره، أفضى بيّ إلى رواق مسيَّج يحيط بمربع صحنٍ أوقعني في الذهول، فهو واسع ينخفض أكثر من خمسة أمتار. محشودٌ بأعداد لا تحصى من الغرف المتجاورة المتقابلة بنسق دقيق، يتقدمها أواوين ضيقة يُرتَقى إليها بسلالم معدودة. الغرف مفتوحة الأبواب يتسلل من جوفها ضوء شموع مرتعش لا يضيء، بل يزيد من عتمة الإيوان. تمسكت بحافة سياج الرواق المرتفع إلى نصف قامتي. انثنيتُ، ملتُ، تنقلت من مكان إلى آخر محاولاً رؤية ما في الغرف، فلم أقع إلا على ظلال أشكالٍ مبهمة ترتمي وتنحسر جوار العتبات. هويتُ على ركبتي معانقاً مشبك السياج، يصفر برأسي أزيز صمتٍ مدوخ ابتدأ يتصاعد من قاع الصحن. كنتُ يائساً أفكر في بهمة المكان وغرابته، ما تحتويه غرفه من أسرار. التفت إلى عمق المدخل فضاعت عيني في حلكته. للمكان الرائحة نفسها. لآجر الجدران.. الملمس نفسه، لكن ليس لصحن عمتي غير غرفتين متجاورتين وإلى جانبهما حمام ومطبخ واطئ السقف، وفوقهما الإرسي القديم وسلمه المنزوي والدرجات المعدودة، أما المدخل فقصير لا يتعدى أمتاراً ستة. فكرت في الهروب من كل هذا، لكن إلى أين؟! قلتُ لنفسي أرجع من حيث أتيت، لكن من أين أتيت أنا أصلاً.. من أين؟ وتذكرتُ هبوطي المريع من فضاء بلا جاذبية إلى مدينة الرخام ودويها البعيد الذي أوهمني بالطفولة، وممرها المتعرج بجدرانه الرخامية الصماء، وحفيف خطى لاحقتني بأطياف أشباح كائناتها المرعبة التي دفعتني إلى عتبة هذا البناء الغامض.. أي جنون بفكرة العودة هذهِ!. ليس أمامي سوى النزول ومدخل الممر وجدته مندملاً بحائط الرواق. ليس أمامي غيره فبدون الهبوط إلى الصحن لن أعرف.. أين أنا؟.. ماذا يدور حولي؟.. وما يحتويه جوف الغرف من أسرار؟. قادني الرواق والتف بيّ نحو نقطة أحسست وكأنني سوف أسقط في فجوة مظلمة لرخاوة السواد. هوتْ قدمي اليمنى مما جعلني أتشبث بمربعات سياج الرواق الحديدية. تحسست السطح الصلب الذي استقرت عليه قدمي، فأدركتُ أنني أهبط على سلالم حجرية تنتهي إلى قعر الصحن. وجدته أوسع مما اعتقدت. تقدمت نحو مركزه منجذباً لعبق ماء. بلغت سوراً خفيضاً يتدور حول بئرٍ. باغتتني رائحة ماء تفوح من جوفه. رائحة تجري بدمي أعرفها. شعرتُ بدوار. ترنحتُ حاولتُ التمسك بسور البئر. أفلتت أصابعي، فتشبثتُ بحبل الدلاء واضعاً صدغي لصق بكرته. بالكاد استعدتُ توازني، فرميتُ بصري في جوف غرفة مقابلة. أقشعر جسدي من عينين بارقتين تشخصان من جدار الغرفة المقابل للبئر، عينين باسمتين ترمقاني من خلف أضواء شمعدان موضوع وسط صينية وحوله طاسة حناء مغروز في طينها أعواد بخور. الصينية موضوعة بدورها على دكة أسفل إطار الصورة المعلقة، عينين واسعتين سوداوين هدباوين تصبان فيضاً من الود، أبحرتُ في غورهما، في زغب الوجنتين، في ظلال البسمة المأسورة بعمق الورق. أمعنتُ في تشبثي بحبل الدلاء، بسياج البئر مردداً في أعماقي.. يا إلهي.. إنه حبيبي ـ علي عبد الباقي البناء ـ ابن عمتي الكبيرة الذي اختفى في ظروف غامضة.. قيل إنه صفي جسدياً في أقبية الأمن العامة ببغداد، وقيل إنهم أفرغوا دمه لمعالجة جنود الجبهات الجرحى. وقيل إنهم أبلغوا أباه بقتله ودفنه فأغمى عليه في دائرة أمن الديوانية، وعندما أفاق ترجاهم كتمان الأمر على عمتي التي قتل لها ولدان في الجبهة. قيل وقيل.. وقيل.. لكن ـ علي ـ الضائع يشخص من صورته الفوتوغرافية وسط الشموع. تصفحت أرجاء الغرفة. جدرانها القديمة المتينة. إطار الصورة المحاط بإكليل ورد. سجادات كاشانية تغطي مساحتها الصغيرة. وجوه أئمة تحدق بعيونها الواسعة العارفة في أشياء الغرفة والصحن. وجوه ساكنة جليلة تبعث في النفس السكينة والسلام. وفي الزاوية المجاورة للدكة رأيت كتلةً سوداء لها شكل امرأة في وضع السجود، ساكنة في تكورها.. جامدة وكأنها أيقونة قديمة.. من تكون؟.. من؟.. أهي عمتي.. أم أنها قطعة من رخام أسود؟. هممتُ بالخطو صوب إيوان الغرفة. عزمتُ على كشف ستر الجسد الساجد تحت العباءة السوداء. انفصلتُ عن سياج البئر، وفي الخطوة الأولى فقدت ساقيّ ووجدتني أعتنق حجر الصحن المرصوف وكأنني دون ساقين. حاولتُ لمَّ بعثرتي والقيام، كان الأمر عسيرا. تقلبت. تعفرتُ بغبار البلاط القديم. تقلبتُ وقلبتُ أمري، فبتُ واثقاً من أنني لستُ طفلاً غادر البيت في سحر من أسحار ـ حي العصري ـ لشراء الخبز بالنسيئة من فرن المحلة كما أوهمني الدوي الهادر في غفوتي جوار عتبة دار عمتي، بل أنا في زمن آخر. زمنٌ لا ساعة فيه، أغبش.. أظلم، فمتى قُتِلَ ـ علي ـ يا إلهي.. متى؟. لم يكن أمامي غير الزحف وسيلةً. زحفت بعناء وسط الصحن والمسافة الفاصلة بين خط زحفي والغرف المفتوحة ثابتة مهما غيرت اتجاهه في معادلة محيرة. مررتُ بجوف الغرف المتجاورة المتقابلة العصية على العد. في كل جدارٍ يواجه فسحة الصحن يطالعني وجه أليف يوقظُ في نفسي حفنة من الذكريات والشخوص والأحداث، وجوار كل دكة شمع وبخور ثمة كيان يجثم في وضع السجود. ليس بمقدوري سوى الحبو والتقلب وسط الصحن. أصبح من المستحيل عليّ الوصول إلى سلالم إيوان الغرف السابحة في دخان البخور، والمنارة بألق الوجوه المرتوية. أتكون أمي هي الساجدة في زاوية الغرفة التي طالعني من جدارها المواجه لحبوي وجه أخي الصغير ـ كفاح؟!.. أتكون النسوة الساجدات سجود الحجر الأسود أمهات الساكنين ورق التصوير المصقول خلف زجاج الإطار.. أتكون.. أم أن ذلك وهم آخر من أوهام مخيلتي؟.. ما معنى كل هذا؟.. ما معناه؟.. أأكون في زمن مطلق لا ساعة فيه؟.. أأكون في كابوسٍ جديد؟.. لا.. لا.. ها أنذا أستخدم كل كتلتي كي أتحرك. أتعفر بأغبرة البلاط ولجسدي أبعاده الفيزيقية الملموسة.. ما الأمر إذن..؟!.

*       *      *

على البلاط، في دكنة الظلال الغبراء.. أتطوى.. أتلوى وأطرافي محتدمة في صراعٍ مع منابتها. كل طرف يبغي ناحية، كل طرفٍ يعاند شبيهه فيخمد عاجزاً ليعاود الكرة. أنقلب حابياً على بطني، زاحفاً على جنبي. أرمق السلالم، الإيوانات، جوف الغرف، الوجوه الساهرة تحت ضوء الشمع، بقسماتها الحية الرانية من ورق التصوير القديم، كتلة المرأة الساجدة السوداء. وفي غمرة السديم الذي أنا فيه رأيته، فأخذني من الصمت إلى  الضجيج.. الوجه.. الوجه شديد الألفة بعينيه الضاحكتين البارقتين المحدقتين نحوي من خلف دكة الشموع.. وتهشمت ملامحه في النزف والصراخ.. إنه الجندي ـ عبد فرج ـ الذي لملمت أشلاء جسده الممزقة المقطعة، الملوثة بتراب برية سهوب شرق البصرة والدماء، ووضعتها جوار بقاياه الملفوفة في بطانية نقعت بصبيب دمه المتدفق رغم اندماله بجدار الأبدية. جمعّتها باضطراب واضعاً كل قطعة بمكانها وكأنني أريد وصلها من جديد، الكف الصغيرة، الساعدين، وقدم واحدة فقط. ظللت أدور في أنحاء موقع ـ البطرية ـ بحثاً عن القدم الضائعة دون جدوى، ترن ضحكته في رأسي، فبالأمس عدنا من الإجازة إلى الجبهة بسيارة تموين الكتيبة القادمة من البصرة. كان يحدثني مرحاً عن قدر الإنسان ضارباً مثلاً في نفسه:

ـ  الأعمار بيد الله يا أخي صار لي بالجبهة من أول ما بدت الحرب.. يعني قبل خمس سنين.. تدري كم جندي مات بصفي. صرت أضحك من واحد يخاف من الموت.. فلا تهتم.. ذبها على الساطور.

لم نعثر على القدم الأخرى إلا في اليوم التالي، فدفناها خلف الساتر الترابي وسط نحيب الجنود.

.. إذن كنتُ جندياً.. جندياً في سهوب البصرة.. لكن متى؟.. تلك هي المشكلة.. متى.. وأين صارت زوجتي الحبيبة.. أهي في شقتنا القريبة من دور ـ الإسكان ـ بطرف الديوانية التي كنا نقضي فيها أجمل سبعة أيام مدة الإجازة الشهرية.. أم في مكان آخر؟.. هل أنا في كابوس جديد من كوابيس ليل الجبهة أم ماذا؟.. ما هذي الغرف الملتفة، المشكلة مربعاً شاسعاً يشبه قاع حفرة عظيمة؟.. ما هذي الصور الجامعة لكل معارف العمر؟.. من علقها على جدران هذه الغرف الضيقة التي لا تتجاوز مساحتها 2×3م؟.. ولم أنا محلول المفاصل، بائد الأطراف أتقلب حابياً، زاحفاً على بطني، ظهري، جنبيّ تحت أنظار الشاخصين نحوي من أجواف الغرف.. متى أستيقظ من هذا الكابوس؟

أعياني الزحف، فاسترخيتُ ممدداً على ظهري، أحملقُ في قبة السقف الزجاجية المفتوحة على سماء خاوية معتمة. أحملقُ في التباس أزمنتي وأحوالي، غموض وجودي في هذا الصحن القديم، أحملق في صفحة السماء العميقة الصلدة التي امتلأت بأطياف وجوه شاحبة راحت تظهر وتغيب خلف زجاج القبة. هبط من بينها طيف ولدي ـ كفاح ـ ابن السنتين.. رأيته يقف في طرف الباحة يحدق باستغراب نحوي.. أناديه بصوت مخذول:

ـ بابا.. بابا.. تعال بابا.. تعال حبيبي.

يجمد جوار قامة أمه، يتشبث بساقها كلما هممتُ بالدنو منه، فأتوقف لأعود إلى مناداته:

ـ أنا أبوك يا ولدي.. أنا أبوك.

فيقطب حاجبيه، ثم يغمد وجهه بثوب أمه الأسود الفضفاض، أين كانت تلك الباحة الشبيه بهذه وبباحة بيت عمتي.. أين.. كنتُ في بغداد وكانت تأتيني كل خميس به. كنت مختفياً لدى بيت صديقي ـ عبد الحسين داخل ـ في بيته بحي الصحة بمدينة الحرية، شغلت غرفة عليّة واسعة عند مقارنتها بإرسي عمتي، كنتُ أقضي غالبية النهار في الغرفة تلك، و ـ حسين ـ يبكر إلى معسكر الرشيد حيث سيق جنديَّ احتياط بعد حلولي في بيته بيومين. كانت تنحني نحوه، تقبله وتهمس بأذنه برقة عن كوني أباه. فيخطو خطوة وجلة نحو قرفصتي وسط الباحة. كنتُ أسمع خلفي زوجة صديقي وأخته يحبسن نشيجهن بصعوبة. يقترب وما أن أحضنه عاباً من عطره الفريد حتى تنفجر النساء الثلاث بالنحيب.. لقد أنساه غيابي قرابة السنة والنصف قضيتها في......، أين.. أين قضيت تلك الفترة.. أين.. لو أتذكر لسلسلتُ الأحداث وعرفت كيف وصلت إلى هنا؟!.. لو.. ليس بمقدوري التذكر إطلاقا، لكن أتذكر بوضوح أنني اختفيت في دار عمتي الأرملة الجميلة.. إذن أنا الآن في صحن دارها ساقط في جب كابوس آخر يضاف إلى كوابيس الكائنات الحجرية بوجوهها الثعلبية التي أخذت زوجتي العارية وحجرتها في فرن تلك القاعة الرخامية، ورحلتي بصحبة نادية جارتنا الشهوانية التي ساعدتني على الارتقاء إلى قمة برج المدينة، ثم منحتني جناحين متحولة إلى أمي لحظة الطيران، كوابيس تحتلني ليلة الجمعة وأنا أتحنط في عتمة الإرسي دون حركة أو صوت، أتبول في آنية من الخزف، وأتغوط في أكياس نايلون أضعها قرب قدمي بعيداً عن رأسي والخبز وترمس الشاي حابساً شخيري وسعالي، لأهبط بعد منتصف الليل من فتحة بحجم الكف إلى الباحة المقمرة محتدماُ بالشهوة. أتقلب على بياض جسد بنت العمة العاري الملتف بجسد زوجها الأملس في لحمة تتقلب مطلقة صرخات وآهات وأنات تدفعني في نفق الرغبة الحبيسة بغرفها السفلية المتناسلة بالكتلة الملتفة المتموجة الصاخبة في أتون الأفرشة. تدفعني لعذاب الغريزة وسعيرها حتى حدود الرماد مع بكرة الضوء حيث أسقط خجلاً ناضحاً مبلل الوسط.. أين موقع الإرسي؟. أطبقتُ أجفاني متخيلاً فراشي الممدود من بابه الصفيحي حتى الجدار المقابل. تمنيتُ لو أنني فيه حقاً.. لو أستيقظ من هذا الكابوس، فأكون في دفئه، في غبرته، في جبه المعتم حتى في عزِّ النهار.. أنصتُ بشرود إلى وقع الجص المتساقط من السقف المنخور. حلمتُ في إغماضتي بذلك السلام الذي كان يغمر كياني أوقات الضحى وأنا سادر مع أصداء ضجيج المدينة. أنصت وأحلم. أحدق في الباحة الخالية وأحلم. أطل من نافذة الدار على المارة وأحلم. أتتبع الفيء المنحسر وأحلم. أتمدد في الظلال المنبسطة وأحلم.

وأخيراً أفلحتُ بالجلوس متربعاً. أجلتُ بصري باحثاً عن موقع المبردة التي أنسل من تحت حاملها إلى السلم القصير المؤدي إلى الإرسي، فلمحتُ في الظلال الكثيفة جوار باب قريب سلماً حجرياً يتحلزن في صعوده إلى تجويف مستطيل محفور في الجدار يرتفع مقدار ستة أمتار عن انحناءة الإيوان. تجويف له شكل مشكاة من مشاكي البيوت القديمة. أدمتُ النظر في جوفها الحالك. ثمة شيء ما شدني إلى أنفاس الحلكة الحية النابضة في غورها. شيءٌ سرعان ما استبان والسواد غشت حوافه بظلال زرقةٍ خفيفة كشفتْ كتلة شيخٍ ملتحٍ ينود في جلسته برتابة، ويسقط حبات مسبحته السوداء الطويلة المكومة في حضنه خرزة.. خرزة ببطء رامياً بصره بين الفينة والأخرى نحو السماء الخاوية. تفرست في القسمات الناصعة، الناعمة، النائدة، النائرة أثناء دخولها حيز الزرقة الباهتة، المتلاشية عند تراجعها إلى كثافة الظلال العميقة، في الشفاه المتمتمة بصمت أجوف دوار، باستدارة الوجه الساكن، بالصدر الناحل الأملسَ العاري. جعلتُ أنود مع نوده الرتيب. أنود.. و أنود نود  سكرانَ بالملامح القريبة البعيدة، الأليفة الغريبة إلى أن هزتني رعدة انبثقت من جذور عظامي، وراحت تجوب في أرجائها صاعدة نازلةً.. يا إلهي.. يا إلهي.. إنه زوج عمتي القتيل.. هو بلحمه ودمه! كيف يحصل هذا.. كيف؟!. كيف وأنا أطللتُ في طفولتي البعيدة على طوله المسفوح وسط هذي الباحة. كنتُ وأخي الصغير نتخفى خلف نوافذ القبة الزجاجية العالية مذعورين من وحشة البكاء ولطم النسوة، غير مدركين معنى الموت والفقدان. أدرت رأسي ناظراً إلى موقعي القديم فرأيت وجهي يلاصق وجه أخي الغائب خلف زجاج نافذة القبة، رأيت ذعر العيون الطفلة المحملقة في موقع جلستي المحتلة موضع التابوت المتوسط سورة النساء النادبات وعمتي وسطهن مفروكةً بلوعتها تمزق الرداء وتقص جديلتها الشقراء، أحسستُ بنعومة الضفيرة الممدودة على جسدي المسفوح. وعمتي تخمش بأظافرها الخدود، تشق الزيق، وتدميَّ النهدين الأبيضين المرتجين الحزينين. أتربعُ في البقعة ذاتها عاجزاً في خواء الصحن الخفيض. أتربعُ في مساحة تابوت النائد الآن في تجويف الجدار العالي محاطاً بأواوين وغرفٍ لا تحصى، وعيون بشرٍ تشخص من صمت الجدران، من غور ورق التصوير، ونحت أجسادٍ أنثوية ساجدة في زوايا الغرف الضيقة، جامدة تحت العباءات السود. انتبهت إلى ما فوق الأواوين. في منتصف المسافة بين تدوير القبة وقوس الإيوان العلوي تجويف يرشح من مدخله ضوء أزرق ضعيف، وينود ظاهراً مختفياً بين ظلال التجويف الداكن وضباب الأزرق الباهت جسدٌ عاري. تجاويف بعدد الغرف المتناسلة في متاهة المتوالية العددية المفتوحة على المطلق. تجاويف تفضي إليها سلالم حجرية تتدرج في ظلال المسافات الفاصلة بين أقواس الأواوين.

تصفحت من موقعي قدر ما تسمح به مدى الرؤية والأضواء. تصفحتُ الوجوه النائدة في حركتها اللولبية بين عمق المشكاة الظليل والأزرق العليل برهبة وجهاً.. وجهاً. وجوه أصدقاء قتلوا في جبهات الحرب، في الأقبية، في الساحات، في غرف البيوت، في الشوارع، في المساجد، في صحون الأضرحة المقدسة، في ليل الجبل الدامس، في أسرة النوم والبارات، وجوه أعرفها ولا أعرفها، وجوه أليفة، وجوه تلاشت وكأنها حلم أو لم تكن، وجوه صادفتني في المدن والمحطات، المقاهي والمدارس، المساجد والبارات، في الكتب القديمة والروايات، وجوه انطبعت في أعماقي، وجوه ضممتها إلى صدري، قبلتها، خاصمتها، صالحتها، سهرت معها، نمت جوارها في الملاجئ.. في قاعات الجيش وقواعد ثوار الجبل.. في الفنادق الرخيصة والشقق وأقسام الطلبة، وجوه تخطف في الخاطر وتخدش الروح فرط جمالها ورقتها، وجوه رافقتني في أسفاري، وجوه تظهر وتغيب في نودها الرتيب المتأرجح بين دكنة التجويف وشحوب زرقة الحافة. من غمرة ذهولي انتشلتني غرفة منفردة تعلو قليلاً بعتبة إيوانها عن غرف الجوار، في الجدار فوق انحناءة إيوانها رأيت تجويفاً معتماً هامداً لا أحدَ ينود فيه. أرعدني جوفه الفارغ:

ـ أيكون في انتظاري؟!.

نفضت رأسي من الخاطر الماحق، وحاولت الرجوع إلى خدر الذهول المنبث من إيقاع النود الصامت للأجساد العارية المعلقة لكن قوة غامضةً أنهضتني وأخذتْ تدفعني نحو السلالم الحجرية الرابضة في الظل الكثيف:

ـ ما هذا يا إلهي؟!.. أأكون قد مِتُ؟!. لا.. لا.. ها أنذا أخطو ناقلاً ساقيّ.. لم أمتْ.. لم أمتْ بعد، لكن ما هذي التجاويف الحافرة جسد الحيطان ببشرها العراة النائدين، المسبحين في إيقاع رتيب دقيق لا يمس صفو الصمت الراسخ. أيكون هذا مدخل العالم الآخر؟.. أأكون في الفسحة الكامنة خلف أبواب الظلمات الأولى؟.. أهذا البرزخُ ما بين.. تجويف الانتظار!.. لا.. لا يا ربي.. لا.. متى متُ وكيف؟.. متى؟.. وأين؟..  لو أتذكر يا إلهي ما حدث لي، لو أتذكر المكان الذي منهُ أولجتني ظلمتك، لو أتذكر لحظة مغادرة الأعالي.. لو أتذكر أين تركتْ محبوبتي.. لو.. لو.. يا للوعتي الحارقة. أردتُ النكوص على أعقابي لتسلق السلم المؤدي إلى الممر، فباب عمتي، فأزقة ـ الجديدة ـ الضيقة، فشوارع الديوانية العريضة، سوقها المسقوف، نهرها، بشرها، ترابها، حوانيتها، طيورها، أشجارها، حقولها، حدائقها، صحرائها، بساتينها، بردها، حرها، مقاهيها، غبارها، طينها. أردتُ معانقة كل شبرٍ فيها، كل نفسٍ فيها، كل شجرة، كل باب.. أردتُ.. أردتُ ولكن كنتُ كمقيدٍ بسلاسل مضفورة، وأيادٍ غير مرئية تدفعني برفق نحو مصاطب السلالم الحجرية المستديرة خلف الجدران، المؤدية حتماً إلى الكوّة الخالية. جوار السلالم إلى اليسار في الغرفة الفارغة رأيت وجهي يطل من إطار صورة فوتوغرافية قديمة، معلقة في الجدار، خلف دكة الشموع، صورة تذكرت أنني التقطتها في شارع الرشيد ببغداد في خريف 1973، سنة قبولي في الجامعة، كم من السنين مرت بعد ذلك العام؟.. كم؟.. لو أستطيع تنظيم سلسلة الأحداث المبعثرة.. لو أستطيع لَمَّ شظاياها. الشاب اليافع بملامحه الناعمة وشعره الغزير المنسدل حتى الكتفين وعينيه العسليتين.. الشاب الناعم الغض الذي كان أنا في لحظة ما يحدق نحوي باسماً. تجمدتُ مستغرباً من البهجة التي في عينيّ القديمتين.. من إقبالي على الحياة بذلك النهم الذي توحي به الصورة. شملت الغرفة بنظراتي.. لا يوجد شيء في الزاوية عدا سجادة صلاة وقرص التربة المقدسة. التفت إلى يمين السلم، إلى جوف غرفة دانية تجاور غرفة رسمي، فاخترقتني عينيان واسعتان سوداوان تصبان وداً. أرخيت ظهري إلى باطن الراحة الرقيقة. طاوعتني فاستكنت. الوجه الطفولي ليس غريباً.. ليس.. ليس. بل أقرب من قريب. تأرجحت من جديد في سديم الأمكنة والوجوه وكسر الذكريات واليد المجهولة دفعتني خطوة أخرى. فحملقتُ بكل كياني نحو الوجه الناعم الذي تبسّم رامشاً بعينيه.. يا إلهي.. يا إلهي.. إنه ولدي ـ كفاح ـ.. يا بوية.. يا بوية.. متى كبرت يا بوية.. وما الذي أتى بك إلى هنا؟.. وعبقتني رائحة جسده التي كنتُ أعب منها عميقاً طوال السنة الأولى من عمره وكأنني كنت أعرف أنني مفارقه لا محالة. كنتُ أحاول المكوث في موقعي معانداً الكف اللصيقة بظهري داوياً بالأسئلة. أهو الآخر ينود في تجويفه الأبدي؟.. أهو الآخر؟.. حاولتُ رفع رأسي نحو الكوّة العالية، لكن ثمة قوة ضاغطة من الأعلى تشل حركة عنقي. لا.. لا.. مستحيل.. وانفجرتُ بنواح أخرس.

ـ يا رب الظلمات

يا رب الأمكنة المطمورة في أعماق الظلمات!.

يا رب الصمت والمشاكي!.

لو أستطيع الاستدارة.. لو أستطيع الانحراف نحو هذي الحجرة لكشفت غطاء الكتلة الساجدة في الزاوية المرئية من موقعي، ولأدركتُ أسرار القصة، وجودي، ما يجري، الزمن، وما هذا المكان الغريب الأليف.

ـ يا كومة ملفوفة بطلاوة عباءة ساكنة وكأنها صبت من رخام.. أتكونين زوجتي الفاتنة.. أمي الدافئة..

يا أيتها الملتمة في أروقة سجادتها.. فارقي تربتكِ ولو للحظة.. ارفعي وجهك علّيَ أراك.. علّيَ أمسك بخيطٍ يدلني..!.

ودفعتني الراحة العظيمة.. خطوة أخرى.. خطوة مؤلمةً غيبتْ ألق عيني ولدي الضاحكتين، حافة الإطار، حافة الشمعدان، المسافة الفاصلة بين الصورة والكتلة المصبوبة في سجدتها، ثم حافة العباءة المسفوحة جوار السجادة الكاشانية التي خيل إليّ أو تصورتها أو رأيتها فعلاً تنسحبُ وكأن الساجدة تهم بالقعود. ابتلع قوس الإيوان باب الغرفة وأحالني إلى أشباح الضوء المرمية على جداره المقابل. وجدتُ نفسي جوار السلم الحجري المؤدي إلى التجويف الفارغ:

قبل أن أضع قدمي المتأرجحة على أول درجة، رفعتُ رأسي فإذا بالسلالم تستدير متحلزنة خلف الحجرة، لتغور في جوف جدارٍ مقعرٍ من المستحيل رؤيته من بئر الصحن.

ـ إلى أين سيأخذني هذا التجويف الشبيه بالبوق؟. ألا زلت في باطن كابوس من كوابيس أرسي عمتي؟.

مرة أخرى تحسستُ صدري، عنقي، جبهتي، فابتَلتْ أصابعي بنضحي

ـ.. لا.. لا.. هاأنذا يقظٌ، أرتقي السلالم المتدرجة تدرجاً طفيفاً يضيع بثقب البوق الضيق البعيد. أأكون قد متُ في عتمة مستطيل الإرسي المغبر ذاك، وعبرت نهر الظلمات نحو الضفة الأخرى للوجود. أيكون الباب الذي ولجته ليست باب عمتي بل بوابة الآخرة، والصحن مفتاح معانيه ودلالاته، وإلا كيف اجتمع حشد أصدقائي ومعارفي القتلى والغائبين في تجاويف الجدران عراة ومتفرقين كلٍ في غرفته، ساكنين أواسط الجدران، طالعين من روح الورق الصقيل، باسمين بوجه القادم. أيكون هذا الصحن صالة استقبال الهابطين من ضجيج الأعالي؟. أيكون لكل كائن بشري مدخله الخاص المزين بصور معارفه وأجسادهم الحية الناهضة من رمادها والجالسة في تجويف انتظارها لملاقاته في أول خطوه بعالم الظلمات؟.. لكن أين قضيت نحبي؟.. وكيف؟.. تحت أغبرة الإرسي أم في مكان آخر. أطبقت أجفاني للمرة التي لا تعد، وخضتُ في سديم وأشلاء ذاكرتي المنثورة.. لا.. لا.. لم يكن الأرسي هو الأخير من الأمكنة.. لا.. لا.. غادرته بعد أن ساء وضعي البشري. انسللتُ في غبشة ليلٍ إلى دار أهلي القديم في ـ الحي العصري ـ قضيت فيه ليالٍ صعبة ضاجة بأخيلة الموت الحائمة في سكون الأسحار، في مجرى النهار، والقادمة من وقع أقدام، صوت محرك سيارة يتخافت، قرع جرس الباب، أخيلة شلت حواسي، فرغم نومي الليلي لصق جسدها الساخن وإلى جانبي يغفو ابني الذي تعودّ عليَّ وصار يناديني بابا، صارت نعومتها الفاتنة مصدر عذاب جديد، وبدلاً من الاسترخاء البهيج عقب ذروة المضاجعة، صرت أزيحها عني بعنف متكوراً بطرف الفراش، مخبئاً وجهي بين ذراعيّ الملتفتين حول ساقي المضمومتين إلى صدري العاري، مسحوقاً.. مذعوراً، هارباً من نظراتها المستغربة من وضعي الجديد.

ـ فأين إذن قضيتُ نحبي؟!.

لا يحضرني سوى ذلك الإحساس المربك الذي ماد بأيامي إذ أصبحتُ مذعوراً من فكرة موتي الداني أنا الذي كنت قبل تجربة اختفائي لا أهابه، بل كنتُ أهزأ ممن يخاف من لحظة لابد من حلولها عاجلا أم آجلا. أصبحتُ مرتاباً من كل ما يحيطني، من الوجوه.. من السماء.. من الأصوات.. من الآخرين.. من الدنيا.. من الشجر، وحتى من أطفال الجيران.. فلو وقعت أعينهم عليّ،  سينكشف للسلطات مكاني. وكنتُ أعاني لاستنهاض ما بداخلي من مقاومة وشجاعة كي أتوازن مع المحيط. أتذكر ذلك جيداً الآن لكن متى كان ذلك بالضبط.. وأين تقع هذهِ الأحداث في السلسلة المقطعّة.. هذا ما لا أستطيع ترتيبه.. ولكن لماذا أصبحت ذلك الوقت هشاً إلى تلك الحدود.. لا.. بل جباناً. صرتُ أرتعد، وخاطر الموت يبددني هباءً في متاهة الهواجس والظنون.. لماذا تردى حالي إلى ذلك الدرك؟. لم أخف على نفسي يوماً بل خضت في دروب المهالك دون خشية.. فلماذا إذن.. لماذا؟!.. يا كون الظنون.. متى عبأت رأسي بالمخاوف.. متى؟.. أتذكر هذه اللحظة أنني كنتُ أخشى عليها، مستميتاً لحمايتها من الآخرين.. لكن أين كان ذلك؟.. لا يحضرني سوى هاجس فقدانها، أو خاطر تركها وحيدة في باطن مكان موحش سقيم، أين كان ذلك المكان الذي هزّ استقراري، وأَذْهَبَ لا مبالاتي المعروفة، التي كانت تثير استغراب ودهشة الجنود في الخنادق، كنتُ أغفو ملء جفوني رغم القذائف المتساقطة طوال الليل حول الملجأ، بينما يسهر أفراد الحضيرة متوترين. أسمعهم وأنا في عزّ نعاسي قبل السقوط في الغفوة:

ـ شوف.. شوف راح ينام.. شوف ما تكلي هذا شنو من بشر!.

كان ذلك الكلام لا يثيرني، بل يجعلني أنفصل عن كل ما حولي متلاشياً في الغفوة، وعندما يسألونني في الصباح عن سر قدرتي على النوم أجيبهم ضاحكاً:

ـ الموت واحد، أحسن يجيني وأني نايم.

أقول ذلك عن قناعة عميقة، وعن يأس تام لا يدركه زملائي الجنود في الخندق. أقول ذلك رغم أنني أفارقها كل شهرٍ مرةً وكأنني أودعها الوداع الأخير، لكن أعود في الإجازة التالية، لأجرفها في شوقي، وأنحدر في أشواقها غائرين في الامتزاج والحلول طوال الأيام الستة التي تسبق السابع الأخير. في ذلك الوقت كنتُ مطمئناُ رغم احتمال مقتلي في كل لحظة، كنتُ أتخيلها بعد موتي وهي وسط أهلها وأحبابها. لكن أين.. أين حللنا يا رب الأمكنة بحيث أصبح لخاطر فقداني أو فقدها لوعة تشعل الجوانح، ولم أنا في خوف ماحق من غيابي ووحدتها؟.. أين.. أين.. يا رب الظلمات.. يا رب الظلمات أين.. أين.. أين.. أيــــــن؟.

لا.. لا.. لا.. لا.. لا.. لا.. لا.. لا.. لا.. لا.. أ وقع ما كنتُ أخشاه؟!. أوقع مصابي الأعظم؟!.. أأكون قد قتلتُ في الجبل وتركتها وحيدة بين رجال العصابات؟ أوقع المحذور؟. ما كان يشغلني في الخلوات والليالي.. في أحلام اليقظة والنوم، في الكوابيس، في لحظات المرح والرقص، في الفراش والذروة، في الأرق وشرود نوبات الحراسة، عند خروجي في مفرزة تجوب مجاهل الأودية المنسية.

أتلظى بلوعتي على السلالم الحجرية. أصعد متضوراً بنيران غيرتي..

ـ يا رب الظلمات.. ماذا حل بها.. ماذا.. ماذا؟!. يا ليتني في كابوسٍ وأستيقظ، فأراها، أضمها، أشمها، أحميها.

انتهت السلالم بدكه مدورة في باطن البوق. أدت بدورها إلى ثلاث درجات تهبط نحو مسلكٍ ضيقٍ محصور بين جداري البوق المقوسين، المستدقين قليلاً.. قليلا حتى شرخ فم البوق الطولي المرئي من موضعي على الدكة وكأنه مستطيل يتراقص في أغوار حلكته نثار أضواء باهتة مثل نجوم بعيدة. تريثتُ قليلا، والتفتُ راغباً في إطلالة أخيرة على جوف الصحن، فواجهني جدارٌ خانقٌ من الظلام الأخرس. أدرت وجهي ومددتُ بصري متتبعاُ ذرات الضوء المتناهية الصغر. اتخذت السبيل الوحيد. أرمي خطوي على بلاطٍ له قوام الهواء، خائضاً في الصمت الأصم الكاتم كل نأمة، يلاحقني الظلام الزاحف بصخره الأجوف إلى أن دخلت شق البوق العميق، لأحاصر بجدران السواد من الجوانب والخلف، من الأعلى والأسفل. ليس أمامي سوى السبيل الذي أسير على صراطه. ارتبك خطوي وأنا أدوس متأرجحاُ على مسلكٍ أبهت لوناً يسع القدم بالكاد. تأرجحتُ وكأنني أسير على خيط معلقٍ في الفضاء قبل أن أتوازن مصبوباً بالصمت الفاحم، وأتقدم ملاحقاً مزق الأضواء التي راحت تتقارب وتتجانس في التحام شكل نافذة سفلية تبث نوراً جمرياُ أرمد لا يضيء سوى حافاتها الضائعة بامتداد السواد العظيم. تقدمتُ نحو موقع النافذة الصغيرة نادباً الصحن والبئر والبشر التي انمحقت في غياهب السواد.

ـ أتكون تلك النافذة المدخل الخلفي للتجويف الفارغ فوق الغرفة التي عُلِقَتْ بجدارها صورتي؟!.

وتمنيت من أعماقي أن أكون سائراً خلف الجدران العالية للصحن، باتجاه المشكاة المطلة على عمق الصحن.. سأجلس مثل النائدين في التجويف الأغبش، أسّبح بمسبحتي وأنود منتظراً عسى ولعل، ينكشف لي سر المكان، فأمسك خيطاً يوصلني لحبيبتي التي لا أتذكر كيف وأين ومتى أضعتها؟!. كل ما جمعّته حافظتي وجودنا معاً بين رجال العصابات في وادٍ عميق يسمونه ـ زيوة ـ يظاهر قلعة العمادية ويجري في قاعه نهر – الزاب - الأعلى المحاذي للحدود التركية.

ابتدأ المسلك الوحيد يرتفع ارتفاعاً طفيفاً مع اقترابي من النافذة، ثم التف يساراً، ليمر من فوقها. انفرشت الفتحة بجمرها الذاوي تحتي. يبدو أنها ليست نافذة بل منور غرفة. خطوت خطوتين وتوقفتُ في نقطة تشرف على باطنها. تصفحتها طويلاً.. طويلاً فهزتْ بدني رعدة هزاً عنيفاً  وشعرت بروحي تهبط إلى الأسفل السحيق.. إنها أشياء غرفتنا.. ذلك الباب بابي.. نجرتها من سيقان شجرة حور وثبّتها بيديّ، مدفأة الصفيح بأنبوب دخانها الطالع من خلال السقف، النايلون المطبع بأزهار عباد الشمس والمغطي الجدران الداخلية، أوتاد الزوايا، كتبي المركونة على رفٍ فوق فراشنا المرتب، مرآتها الصغيرة وهي مرآة جانبية لسيارة فاخرة انتزعتها عند دخولنا إحدى المدن ليلاً.. أتذكر فرحها بهديتي.. وكيف علقتها في مكان مريح تستطيع فيه رؤية قسماتها الجميلة أينما حلّت في الغرفة التي لا تسع إلا مقدار الفراش المشترك والأشياء الصغيرة الحميمة من ملبس وأحذية وحقائب من القماش تحوي الضروري جداً من الأشياء. كان يطيب لي تأملها وهي منشغلة بطلاء شفتيها اللذيذتين بأحمر الشفاه، ولسانها المبلل بالرضاب، يرطّب الطلاء الفاقع على ضوء الفانوس الباهت.

ـ هاهي غرفتنا منزوية عن قاعات المقاتلين، ترتفع أسفل السفح مقدار أمتار معدودة.. هاهي طامسة في كثافة ليل الجبل الأخرس!.

ـ أأكون جوار غرفتنا في وادي ـ زيوة ـ العميق، أخوض في محنة كابوس آخر أثناء غفوتي في نوبة حراسة؟!.   

راودني الخاطر لهنيهة.. وتوارى.. لا.. لا.. ثمة شيء مختلف هذي المرة، فأنا أشعر بأنني موجود ولستُ موجوداً بذات اللحظة.. هاأنا أرى امرأة تدخل من الباب المفتوح على الظلام  بسروالها الزيتوني الفضفاض.. من تكون؟!.. لها قامة زوجتي الرامحة. انحنيت. انحرفتُ يميناً وشمالاً دون طائل، فموقعي المطل من علٍ يحجب رؤية ملامحها.. قد لا تكون هي..  هتفتُ مع نفسي بذلك والرعدة شرعت تخف بين أضلعي. هدأت ورحت أتتبع ما تفعله هذي المرأة في غرفتنا. نزعتْ قميصها ورمته إلى الفراش، ثم خرطت سروالها وانحنت متكورة لتسحبه من القدمين وترميه جوار القميص. انكشف لي جسدها، انحدار الظهر، انكسار الخصر، ربوة الردفين المدملجين. تناولت من رف خشبي صغير إصبع أحمر شفاه. قربت رأسها حتى كادت تلاصق المرآة. انهمكتْ بطلي شفتيها.. لا أستطيع تبيان ملامحها المنعكسة في الضوء الأرمد. استدارتْ وخلعت الفانيلة الداخلية والستيان، فباغتني عري النهدين الصلبين المطليين بالجمر والرماد.. ظننتُ للحظة أنني أتلصص من نافذة كشأني في عمق ليالي الإرسي عندما تردى حالي وصرت عقب عدة كؤوس من العرق المسيح أسيح عبر السطوح إلى باحات وأحواش وأروقة الجيران. لكن في اللحظة العمياء التالية رفعت رأسها نحو المنور محدقة وكأنها تراني، فاستبانت ملامحها واضحة:

ـ إنها هي.. بعينيها الواسعتين، أنفها الصقيل، أهدابها الطويلة، وجنتيها السمراوين، شعرها الفاحم الطويل.. وأطلقت صرخة مدوية رددها  الصمت إلى أعماقي. في تلك اللحظة انفتح بابي المسدود، ودخل مقاتل يافعٌ وضع بندقيته في الزاوية جوار الباب واستدار نحوها. أخذها بين ذراعيه من الخلف، فافترت بين ذراعية لتواجهه، وتعانقه عناقاً حميماً جعلني أنتفض رامياً بجسدي الذي تجنن إلى الأسفل صارخاً صراخ مذبوح، هابطاً نحو النافذة التي راحت تنأى.. وتنأى إلى أن انطفأتْ في يم الظلام، وضيعتني ذرةً تدور في السديم العظيم.

*   *   *

 

ساحة الحشر  

استيقظت طالعا من حلكة دوارة، فوجدت نفسي راقدا تحت كلة سوداء مخرمة وبجواري رفيق لم أتعرف عليه للوهلة الأولى، فقد كنتُ خارجاً من عالم آخر غريب أخذني إلى الجذر من طفولتي وأمكنة عمري فرأيت أحبة قتلوا في المعتقلات والحروب أو ضاعوا إلى الأبد في الدنيا. أخذت نفسا عميقا فجرحَّ الهواء أحشائي. فتحت عيني بعناء. الكلة السوداء المخرمة نصبت أمام تلك القاعة. وجدت نفسي شبه عارٍ وإلى جواري يرقد على فراش الرفيق ـ أبو رزكار ـ شبه عارٍ أيضا. أسعدني جواره تلك اللحظة وكأنني ملكت الدنيا، فهو رفيق حميم يشبهني كان أول من وشجَّ علاقة خاصة بيّ في أول لقاء لما عرف اهتمامي بالأدب فدأب على جمع الصفحات الثقافية لجريدة الثورة والجمهورية وصحف النظام الأخرى كل يوم إذ كان يعمل في التنظيم المدني ويجلبها لي حينما يزور المقر الذي كنت فيه، لكن ما أتعسني هو عدم سماعه لما أقوله وكأنه غائب في عالم بعيد عن مدى رؤيتي.. حاولت الحوار معه. كان غير قادر على الكلام.. كررت محاولتي.. دون أن أتمكن من جعله يقول شيئًا.. أي شيء، كنت أهتف مع نفسي:

ـ يا إلهي..لو يقول كلمة واحدة.. لو أسمع صوته!. كان يبدو مثل مخدر بعينين نصف مغلقتين يبرك في صمتٍ عالم آخر مختلف، وكأنه يشرع في الشهادة وقول المستحيل. صرخت به رغم الجحيم المستعر في جسدي:

ـ رفيق.. يا رفيق.. قل لي كلمة واحدة!.

كان كلامي دون جدوى.. أحسسته يجود موشكا على الهبوط أو الصعود إلى عالم الرؤيا والخلاص.

حلمت بكلمة واحدة منه.. كلمة واحدة كانت تفضي بنفسي وقتها إلى مسافة حميمة جمعتنا في لهفة اللقاء المتباعد، وجديته بجمع ما يقع بين يديه من قول السلطة الثقافي وقتها في صحفهم اليومية.. حلمت رغم وضعي القريب إلى وضعه، إذ كنت أيضا على وشك الولوج إلى العالم الآخر من خلال قماش الستارة الأسود المخرم المحيط بنا.

لم أستطع حصر الأيام التي قضيتها جواره تحت الكلة السوداء. كان يلزم الصمت عاريا، وجسده مليء بالفقاعات، وكان كلما فتحت عيني أجده يسعى في شهيق عميق بحثا عن الهواء.

فيما كنت أغور في نوم يشبه الإغماء سمعت صوتها القوي الناعم يشدد على مخارج الحروف بحزم:

ـ أريد أخذه يَمْي!.

فاستيقظت من كوابيس الألم. كانت تتحاور مع أحدهم، عرفته على الفور لما سمعت صوته كان ضابطا بجيش الثوار:

ـ رفيقة.. حالته صعبة دعي الرفاق يعتنون به!.

كنت أنصت للحوار المتصاعد إلى أن انفجرت صارخة:

ـ لا راح أخذه هسه.. وما لي علاقة بأي قرار!.

قالتها بحزم.. وحدي من يعرف عنادها الجميل وتصميمها الذي لا يقف في وجهه شيء، لا عائلتها التي رفضت زواجها بيّ، ولا القيم وهي تلتقي بيّ كل يوم في بيتنا في ـ الحي العصري ـ أو بيوت الأصدقاء، ولا إصرارها على العمل في التنظيم السري رغم اعتراضي قبيل صعودنا إلى الجبل.

سمعته يردد:

ـ رفيقة ما يجوز.. رفيقة!.

باعدت أجفاني مغالباً ألمها فرأيتها تنحني وترفع حافة الستارة المنسدلة، وتهمس:

ـ ها حبيبي.. أش لونك؟!.

ساعدتني على النهوض. أغمضت عيني مستسلماً ليديها الحانيتين. قادتني لتصعد بيّ المسلك المجاور لساقية النبع الذي بدا ضجيجه يتعالى، فأدركت أننا نقترب منه. أنساني للحظات ملمس أصابعها الناعمة جحيمي.

ـ إلى أين تريد بيَّ؟!.

هذا ما لم أفكر فيه وقتها، فأن أكون قربها حتى ولو في الجحيم فذاك حلم الليالي التي افتقدتها منذ اللحظة التي سمعتها تصرخ:

ـ رفاق.. عميت!.

كنت أسير شاعرا بوهج الشمس المشرقة ذاك اليوم، فأزيد من ضغط أجفاني إلى بعضهما علَّ ذلك يخفف من سعير النار فيهما، مخترقا أجساد تخيلتها منبطحة، جالسة، مكورة على جانبي المجرى وهي تسعل ذلك السعال المخنوق وتطلق صراخ الألم والشكوى:

ـ ولكم اختنقت!.

ـ ولكم أحترق جسمي

ـ ولكم عيوني راح تطلع من وجهي!.

من المؤكد أن رفاقي المساكين ليس لديهم من يعني بهم كما هو حالي، وحبيبتي تأخذ بيدي إلى جوارها. حسدت نفسي رغم بؤس حالي. وصلنا إلى موقع فيه ضجة الماء شديدة، فقدرت أنه جوار فتحة النبع تماماً. طلبتْ مني الاستدارة نحو اليمين ورفع قدمي كي أصعد. فعلتُ ما طلبت مني. لما أصبحت فوق المكان المرتفع بمقدار نصف مترٍ عن الممر باعدت أجفاني فوجدتني داخل ـ كبرة ـ ( مكان مسقف بأغصان البلوط يرتكز على ثلاثة أو أربعة أعمدة من سيقان الأشجار المتينة يستخدم في الصيف قرب القمم لتفادي الحر ). المكان مفروش. طلبت مني الاستلقاء. فجلستُ بمساعدتها وانطرحت على ظهري.. حتى تلك اللحظة لم أكن أعرف ما أصاب جسدي. لم يكن يؤلمني مكان محدد عدا اللهيب الدائم في عينيَّ، إذ كان الألم متساويا في كل قطعة فيه وكأنه صبَّ فيه.

سقطتُ في نومٍ ليس مثل نوم البشر. دخلت مرة أخرى في عالمٍ آخر.. عالم غريب كان دوي النبع المجاور لرقدتي مفتاح ذلك العالم..

سقطت في نومٍ جعلني لاحقا أعتقد بأن ثمة عالماً ينتظرنا بعد هذا العالم الذي نعيش فيه. باتت قناعتي راسخة بذلك، لكن ما انتشلني منه هو صوت إطلاق نار قريب، فبينما كنت ألهث في ذاك الظلام المرئي سمعت زخات من الرصاص فوجدتني على الفراش تحت مظلة ـ الكبرة ـ. وصوت زوجة طبيب أسنان الموقع الموشكة على الوضع تصرخ:

ـ مات.. مات!.

رحت اسأل:

ـ من.. من.. من؟!.

فأجابتني – ناهدة - بصوت مكسور:

ـ أبو رزكار استشهد!.

صحوت تماما وكأن جسدي ليس به شيء. نهضت بنصف جسدي الأعلى صارخا:

ـ لا.. لا.. لا..

ونشجت بصوت مسموع بحرقة. أحاطتني بذراعيها وضمت رأسي إلى صدرها مرددة:

ـ حبيبي بك ما يكيفك.. أرجوك أهدأ!.

شبعت نحيبا على صدرها، وصاحبي لن أراه إلى الأبد.. ظللتُ محتميا بصدرها الساخن النابض إلى أن خف نحيبي فسقطت من جديد في رحبة ذلك العالم الزاخر بكل رموز عمري. لم أكن نائما كما كانت تعتقد.. لم أكن أبدا.. كنت في محنة مختلفة أناضل في الصمت والرؤيا.

المرة الثانية التي فتحت فيها عيني خارجا من بهمة ذاك العالم الضاج بصمت وجدت وجهاً يطل عليَّ محدقا فيَّ بصمت. وجه أليف لكنني لم أستطيع تذكره في اللحظة الأولى حتى إنني ظننت أنه وجه من وجوه ذاك العالم الذي كنت فيه فسألته:

ـ من أنت؟!.

فارتسمت على ملامحه الخلاسية ظل بسمه وهمس:

ـ أنا إبراهيم ـ أبو خوله ـ!.

كان صوته خافتا يقترب من الهمس كمن يخشى أن يسمعه أحدٌ. سحبت جسدي قليلا رافعا رأسي وفاتحا عينيّ فهبطت ملامحه الودودة في نفسي، سألته:

ـ ما الذي أتى بك؟!.

كنت أعرف أنه في موقعٍ يبعد ثلاثة أيام مشيا على الأقدام.

ـ سمعت بما أصابك!.

 قالها ومسح بيده السمراء على رأسي. أغمضت عيني مبتهجاً رغم وضعي المتأرجح بين الصعود إلى السماء والبقاء، فإبراهيم حبيب حميم مضى على معرفتي به في ذلك الوقت أكثر من عشر سنوات، كان صديق أخي الشهيد كفاح، يدرس معه في نفس المرحلة بالجامعة التكنولوجية ببغداد. تعرفت عليه في زيارة للجامعة. من أهالي البصرة.

ـ كيف مضى الوقت بعد ذلك؟!.

هذا ما لا أعرفه؟!.. إذ وجدتني بغتةً أهوي من جديد، مشطوب الذاكرة في هوة فراغ أملس معتم تحول قليلا.. قليلا إلى لزوجة سميكة رحت أغط فيها وأطفو، أرتفع، أتقلب مشطوب الذاكرة لا أحمل في قلبي إلا أثر طعنةٍ داميةٍ، وبقايا من أنصاف وجوه، أشلاء أمكنة، جثث أشجار، أبواباً محطمة، شبايبك مردومة بتراب الليل وكسر أزمنة، ثم ابتدأتُ بالهبوط.. ببطء شديد وبقامة منتصبة أهبط.. وأهبط.. وأهبط.. حتى ظننتُ أنني سأبقى إلى الأبد في رحلة الهبوط التي انتهت بسكوني، فوجدتني لصق جدارٍ رخامي أملس يضج برأسي دوي قادم من عمق زقاق جدرانه عمياء، بلا نوافذ ولا أبواب. أنهضت جسدي وأنصتُ. أردت العناد والتوجه عكس مصدر الصوت لكنني عندما تلفتُ لفحني ما يشبه الأنفاس مصحوباً بلغطٍ وهسهسة وهمسٍ ينقطع ويتعالى بين اللحظة واللحظة.

ـ أين أنا؟!.

شددتُ على أطراف ردائي الأبيض وشممتُ من نسيجه ضوع الكافور. كنت مشغولاً تلك اللحظة بالصمت والرخام وأصداء الهدير، وبلوعة تشطر روحي لا أعرف سببها. أدارتْ جسدي قوة مجهولة نحو وجهته. فخطوت محاذياً حائط الرخام العالي، مطعون النفس، أحدق بأحراش الظلام عليّ أعثر على ما يدلني على بقايا نفسي المبددة في هذا التيه العظيم.

ـ علامَ أنا ملتاع؟.. علامَ أحس بقلبي ينزف؟.

أدوّر حدقتي الدامعتين.

ـ  علامَ يا ترى؟. ما الذي ضيعته في اصطخاب الظلام والدوي فجعلني ملتاعاً مكسورا؟.

الهدير أضحى طاغياً عاصفاً ضيعَّ حفيف الرداء والهسيس.

الزقاق راح يضيق قليلا.. قليلا ليتحول امتداده إلى شقٍ مقوس من الأعلى بالكاد يسمح بمرور جسد بشري. اجتذبني الشق بضجيجه الصاخب وامتصني بيسر. ليلقي بيّ على دكة عالية جاثياً على ركبتي، وأمامي ترامت ساحة بيضوية هائلة، محشودة بأشجار سيقانها عالية وفروعها سوداء تمتد صفوفاً متجاورة، وبينها تكتلت الجموع البشرية عاريةً في صفوف خيطية تتماوج في إيقاع ألمٍ حتى بيبان عظيمة لا عد لها تستدير مقوسة في نهاية البيضة الرخامية وتضيع حافاتها العليا بسماء رصاصية صدئه دانية، يصدر من خلفها دوي مخيف. دوي هادر يجعل البيضة تهتز بكتلتها العظيمة اهتزازاً إيقاعياً مهيباً يتردد صداه بتموج صفوف الكتل البشرية العارية. خذلتني ساقاي فهويت منطرحاً على بلاط الدكة. لم يطل أمد تكومي إذ سمعتُ بعد لحظات خفقًا يرشقني بدفقات هواء حار. رفعتُ رأسي المدفون بين ذراعي المعانقتين بلاط الدكة، فرأيتُ كائنين مجنحين يطيران صوبي قادمين من فضاء الساحة البعيد. تحجرت حدقتي رعباً وهما تقعان على الجناحين العظيمين، الرأس الصغير المنتصب على العنق الطويل. القسمات أضحت واضحة، مُجًّسَمة. أنف طويل بارز. بوز مستدق. أزواج العيون الخرزية داكنة الخضرة. آذان رفيعة منتصبة. والجسد المغزلي الضخم. الشكل يبدو مثل رخام حي يطير في تجويف البيضة الهائلة. صارا فوقي تماماً، حوما حولي بارتفاعٍ منخفضٍ مولدين تياراً ساخناً أذهب نضحي. ثم هبطا على جانبي. ارتعدتُ لضآلتي بينهما، وتطلعتُ في الوجهين الحجريين المتجهمين الصارمين. أعمتني زرقة العيون البارقة، فأغمضت عيني شاعراً بأيدٍ تحيط بساعدي الميتين. فاجأتني ليونة وطلاوة الأيدي وهي ترفعني حتى وقفت مستسلماً، غير قادر على فتح عيني هولاً. والأيدي تخلع عني ردائي الأبيض وخفيّ، ثم تحملني. شعرت بجسدي خفيفاً يعوم في الهواء. باعدت أجفاني فرأيت الدكة بعيدة تحتنا. كانا يهبطان بيّ نحو الحشود العارية حتى وضعاني في آخر صفٍ وسط تلك الصفوف. خفقا بأجنحتهما، وغابا في عمق فضاء البيضة. رميتُ بصري إلى امتداد الكتل المرصوفة بصفوفها، المنحدرة انحداراً طفيفاً حتى فسحة تبدو صغيرة تفصل بين مقدمتها وبيبان الدوي العظيم. اجتذبتني مؤخرة الكتلة فاندفعت لألتصق بالجسد المعروق الراجف. صرت جدار الكتلة الخلفي لفترة وجيزة فسرعان ما اندرستُ بجسدٍ عارٍ حضنني من الخلف، وأدغمني في طلاوة اللحم الساخن. استشعرتُ بألفة غريبة وأنا أندمج في رتابة اهتزاز الرجفة المتموجة على إيقاع الدوي. عبقتني أبخرة الأجساد وألقت بيّ في خدرٍ أرجحني فهومتُ بوقفتي المسنودة سكران على ضفاف الغفوة سادراً عن صخب الهدير.. فرأيتني ألوذ خلف نافذة غرفة معتمة تطل على باحة بيت الجيران المكشوفة، المليئة بالنسوة المتلفعات بعباءات سود، كنّ يحبسنّ النشيج اللائح في القسمات المتغضنة الواجمة الحزينة، ووسطهن جلست أمي المتماسكة صارمة الملامح جوار رأس جارتنا الطاعنة في السن تسقيها قطرة.. قطرة من قطعة قماش تغطسها في طاسة نحاسية صغيرة موضوعة جوار الوسادة. كنتُ أختلس النظر مرتعداً من خلف الزجاج المغبر متتبعاً أصابع أمي وهي تعصر القماشة عصراً محسوباً بحيث تسقط قطرة واحدة فقط من ذلك السائل الغامض الذي أرهبني وظل يرهبني بقية العمر كلما تذكرت المشهد ذاك، والقطرة الساقطة في جوف الفم الفاغر المختلج. أحملق بعيون عشرات النسوة الدامعة الملاحقة أصابع أمي الخبيرة. لم أدرك ما تقوم به أمي، وسر سلطتها الطاغية على الحضور الحاشد، فما إن دخلت الباحة الضاجة بالبكاء والعويل حتى عمَّ الهدوء بانتظار كلمتها التي ألجمت الأفواه:

ـ أسكتن.. أسكتن.. ما يصح.. ما يصح.. تسمع.. ما يصح الواحد يودع أحبابه آخر مرة هيج!.

احتبس الصراخ وحلَّ صمتٌ مضطربٌ أثقلَ من حر الظهيرة الخانقة، وجعل لانهماك أمي، المتربعة في جلستها، جوار الرأس المنتفض في مركز الحلقة، وقعاً مرعباً ظل يرافقني طوال العمر، رغم أنها حاولت أن تخفف من وطأته، حينما انتبهت لصراخي خلف النافذة رغم صخب صراخ النسوة حال إعلانها صعود الروح إلى بارئها. لم أعرف كيف ميّزَتْ صرختي وسط ذلك السيل الجارف من العويل والهذيان واللطم. سحبتني من تكومي تحت النافذة، وعادت بيّ إلى البيت قائلةً:

ـ ليش لحگتني.. قلت لك ألف مره جوز من هذي العادة.

لم أكف عن العويل ومحاولة التملص من أصابعها المخيفة التي أتخيلها كلما دنت مني تعدل رأس العجوز المحتضرة عند انزلاقه عن الوسادة الواطئة وتستمر في إسقاط قطرة من ذلك السائل الذي حيرني، ولم أعرف أنه مجرد ماء إلا في الأيام التالية، عندما اضطرت وهي تراني أرتعد بحضورها ولا أدعها تلمسني بالمحافظة على مسافة تفصلني عنها في غرفة البيت أو الحوش أو السطح أو الشارع، إلى الخلوة بيّ بعد أن وقعت بذكائها الحاد على السبب، فحدثتني عن الحياة والموت والعالم الآخر، عن دار الفناء ودار البقاء، الخير والشر، الثواب والعقاب، الفضيلة والرذيلة، عن ملائكة ساهرة لا تنالها سنة أو غفلة تسجل السيئات والحسنات، رحلتُ وقتها مع وجوه وأجنحة الملائكة، وتراءى لي عزرائيل الذي قبض روح العجوز تحت ناظري. تجسّد في مخيلتي القبر المعتم مضاءً بشامات الجسد، البرزخ المظلم الفاصل بين الدارين، منكر ونكير، يوم الحشر حيث لا يعرف الأخ أخاه، والأب ابنه، والابن أمه، يوم تلطش العيون فتسير الجموع عيونها في السماء، عارية إلى ميزان أفعالها. تخيلتُ الله طيراً هائلاً يسبح في زرقة الأبد، يطل منها على ساحة الحشر الفسيحة، الملائكة تفرز البشر كلٍ حسب موازينه، والمحشورون يغوصون في الصمت سائرين نحو الميزان وبابيّ الجنة والنار المتقابلين. ومن خضم ذلك العالم الذي اقتحمني ملتُ برأسي لأسأل أمي:

ـ يعني ما أگدر أشوفك يوم القيامة؟!.

ـ لا يا ولدي.. كل واحد سيكون وحده. كل واحد مسئول عن أفعاله.

فأجفلتُ من وحشة ذلك اليوم، وجعلتُ أبكي مردداً:

ـ ما أريد أموت يُمه.. ما أريد أموت!.

ضمتني إلى صدرها الدافئ، فاستنشقتُ رائحتها العذبة ورائحة ثوبها المضمخ بأريج ماء الورد والحناء. هدأ روعي قليلاً:

ـ كن صالحاً يا ولدي.. ولا تخفْ!.

أيقظتني نبرتها الحنون، فرأيتني مغروساً بجدار الكتلة المنحدرة على بلاط البيضة الرخامية الضاجة بالدوي. أردتُ أن ألتفتَ لأرى ما يجري خلفي، لكن هيهات فرقبتي متحجرة المفصل. لم يعد باستطاعتي سوى التحديق بقفا الجسد الذي التصق به من الأمام وامتداد طوابير العراة وقامات الأشجار العارية. قلتُ لنفسي:

ـ هذا ما حكته لي أمي بالضبط في طفولتي البعيدة.. هاأنذا وحيدًا رغم إدغامي بأجساد بشرية حية.. هاأنذا لا أرى وجه أحدٍ.. هاأنذا أساق في صف المولولين النادبين بصمتٍ، بعدما قطعت مسافة البرزخ الفاصل بين الدارين

ـ أكنتِ درويشه يا أمي ترين الغيب؟.. أأكون في طريقي إلى فسحة الميزان؟!.

غدا الأمر مؤكداً.. وإلا ما تفسير وجودي عارياً ملطوشاً في الطابور الأعمى.. وما معنى قدرتي السالفة على العوم والتقلب والغوص في أحشاء الظلمات، وما دلالة الأمكنة المدفونة بتراب الظلام بغرابة سلالمها وغرفها وشمعداناتها وبئرها وأواوينها، ومنحوتاتها الحية السوداء الساجدة في زوايا الغرف، وألق رسم وجوه المعلقين بجدرانها، وقيامة المعارف والأصدقاء الغياب والقتلى والموتى المشرقين من عتمة المشاكي العالية، النائدين، المسبحين، الغارقين بظلال الزرقة الشاحبة، وما معنى خرسي وعدم قدرتي على الوصول إلى المشكاة الفارغة.. والسلالم التي أخذتني من الصحن العميق إلى أحشاء البوق الحجري الشاهق، وصراطه المتحول إلى نقطة في عمق السواد، والنافذة السفلية الطالعة من الأسفل السحيق، الكاشفة عن أشياء غرفتنا في الجبل.. إنه البرزخ إذن.. صراط نهايته المطلة على الدار الفانية حيث ألقيت نظرة أخيرة على الأحباب.. وأي نظرة.. لِمَ يا رب جعلتني أطل على عناق معشوقتي ورفيقة عمري لرجل آخر.. هل لتمعن بتحطيم بقاياي قبل أن تزج بها في أتون جحيمك؟!.

ـ هل أنتَ قاسٍ إلى هذا الحد؟!.

ـ هل يلذّ لكَ عذاب الأرواح التي خلقتها؟!.

أنتَ الذات المطلقة.. القادرة.. وأنا ذرتك الحقيرة. لا.. لا أستحق منك هذا العذاب.. لا أستحقه.

أبَعْدَ عذابي بالدنيا.. تحشرني في صف المذنبين؟!. أبعد سعير البسيطة تسوقني صوب فرنك السماوي.. نحو سعيرك الأبدي؟!. أي عدالة هذي!. وأنت العارف برحلة عمري الخاطفة.. عذابٌ في عذابٍ.. ذلٌ في ذلٍ.. حرمانٌ في حرمان. عذابٌ جعلني مضطرباً. وحرمان أَكَثَرَ من ذنوبي.. كل ذنوب الحرمان جذرها فيك.. فيك أنتَ.. أنت من زرع بيّ جذوة شهوة متأججة، عنيفة، انضغطتُ تحت وطأتها وسطوتها في بيئة قاسية وتقاليد صارمة.. قامعة، لا مجال فيها للتنفيس عن نوازع الغريزة إلا بالسر.. التلصص والسطو. الهيام في الظهاري الحارقة وأنصاف الليالي على جسدٍ ينكشفُ في منامه لا فرق بين الأقارب والأغراب وليل الجنوب الساخن يأخذني عبر السطوح. أجوب ليل باحات البيوت لأتلصص من نوافذها على فخذٍ عارٍ، نهد، مضاجعة، تكويرة ردفٍ سقط عنها الغطاء، لكنني يا ربي عانيتُ بسبب ليل شهوتك مشاعر خزي وعارٍ أذاقتني مرَّ الذل. عدا ذلك لم أرتكب إثماً.. فلماذا.. لماذا؟!. كأنك برؤيا نافذة الجبل المدفونة في سديم ظلمتك العظيمة أردت القول:

ـ خذ جزاء هتكك أسرار الغرف والأثواب ونوافذ البيوت والحمامات، أسرة الأزواج وأفرشة الباحات.

أتلوعّني عقاباً على شدة جذوتك التي زرعتها في دمي، الجذوة سر الوجود ودافعه.. لماذا يا ربي.. لماذا؟!.. أنا الضعيف المُحب غير القادر على الكره. أنا الذي لم أحقد حتى على الأعداء.. ألم ترني كيف كنتُ أصوب بندقيتي في كمائن الجبل إلى السماء.. إلى الصخور متحاشياً خلقك الحي؟.. ألم ترني كيف عانيتُ من عزوفي عن الضرب ذاك.. ألم تر؟. تهامسوا رفاقي حولي ساخرين، وصاروا يرمقونني باحتقار. فلماذا.. لماذا.. لماذا؟!.

أتعبني ضجيج رأسي ودوي البيضة وامتداد الطوابير والأشجار المتفحمة. أتعبني المجهول الكامن خلف الأبواب. تعبتُ فنعستُ متأرجحاً

ـ أي رحلة ذليلة قطعتها في مسافة عمري اللاهث؟!. وبعد عناء ومشقة العيش الخاطف أجدني محشوراً في صف المذنبين المارقين.. أهذي عدالة يا رب الخلق؟. بعد جحيم الفانية تسوقني إلى جحيم الباقية!.. إلهي.. إلهي.. قضاؤك لا مرد له، لكن أين حكمتك؟!.. أتوسل إليك.. أرجو عطفك ورحمتك كي تضيء لي اللحظة السابقة لهبوطي المريع.. ساعدني يا إلهي.. ساعدني فهاأنذا أقترب من الفسحة الفاصلة بين الطابور والأبواب، وقطار اللحم الآدمي المصطف في نسقه الدقيق يتآكل، والبوابات المتجاورة التي لا عد لها ولا حد، أشعرتني ليس بضآلتي فحسب بل بضآلة الطوابير البشرية التي بدت كصفوف من النمل جوار جبل شاهق لا تطال قمته مدى الرؤية. أصبح بمقدوري تشخيص مفردات الباب المرصعة بأزرار كقباب الأضرحة المقدسة تنطلق من أسفلها حتى إطارها العلوي المتماهي برماد السماء البيضوية، وتتفرع في أنساق مختلفة لتشكل كتل وجوه مبهمة تقدح على جانبي أنوفها الطويلة البارزة عيون من نار مضطرمة، ومن كتل الرؤوس المفلطحة قرون ملتوية تصوب بروزها الناصل نحو الطوابير المنتظرة. لمحت طيور الرخام الضخمة ترفُّ في سماء البيضةِ غاديةً رائحةً كأنها تشرف من علٍ على تفاصيل ما يجري في الساحة. من موقعي المرتفع قليلاً تجّسد مشهد الفسحة الفاصلة، فرأيتُ الأول في الطابور ينفصل عن الكتلة العارية، ويخطو نحو سلمٍ يؤدي إلى ناصية يتوسطها ميزان ذهب بكفتيه المتدليتين وإلى جواره يقف عملاقان عصيان على الوصف متجهمان يحدقان بالجسد الذي أتمَّ ارتقاءَه السلالم. الجسد الراجف، المولول، المبلول بنضحه، فيحملانه إلى كفة الميزان التي تهبط حتى سطح الناصية في نقطة تؤدي إلى سلالم أخرى تنتهي بموازاة ربع قامة الميزان بدرفة صغيرة تنفتح بغتة في لحظة وقوف الجسد العاري المرتعد. درفة ضيقة تسمح بالكاد بولوج جسد الإنسان متكوراً بوضع الجنين، فأسمع أو يخيل إليّ صرخة ماحقة تطغي لأعشار اللحظة على الهدير العظيم مرعدة الأجساد المتلاحمة برجفة تخرق جوف الأحشاء وجذور العظام. رجفة حيرتني رتابة قدومها وعنفها عندما كنت ملطوشاً في نهاية ووسط الطابور.

ـ أهذي كوة الجحيم؟.

ـ أهذا صف الضالين، المغضوب عليهم؟.. فلا أحد رجحتْ كفته!.

احتدمت من جديد ملتاعاً.  أحتد مـ تْ... لو.. لو.. أتذكر كيف وأين ومتى أقفلتُ رحلتي؟!. أفي الجبل أم في مكان آخر؟. هل جرت أحداث أخرى شُطِبَتْ من حافظتي؟.. أأكون قد غادرته إلى أماكن لم أعد أتذكرها؟.. لا.. لا.. لا رائحة لأمكنة أخرى غير رائحة الجبل وذلك المزيج من رائحة الأعشاب البرية وروث البغال وزهر النرجس والرمان وزناخة الكراتين والبارود. من المؤكد أنني انزلقتُ إلى يمِّ السواد من هوة ما في جبلٍ من سلسلةِ متين المظاهرة لقلعة العمادية، وإلا ما رؤيا مشهد مَنْوَر الغرفة المضيء أسفل السلم الحجري الصاعد نحو مطلق العماء، والتي أطللتُ منه على أشياء غرفتنا الصغيرة التي بنيتها دون مساعدة أحدٍ أسفل السفح، منفردة في علية تجعلني مطمئناً لخلوة الليل والعناق بعد عناء فترة النوم المنفصل أنا في قاعة المقاتلين، وهي في غرفة الرفيقات. تلك كانت غرفتنا، والمرأة كانت حبيبتي الحاضنة جسدًا غير جسدي.. لابد أن مصيرها كان ذاك بعد فنائي.. وتلك كانت إطلالتي الأخيرة على بحر الدنيا؟!. تذكرت كيف تساقط الثلج بجنون ساداً المسالك طوال ستة أشهر، فحصرها امرأة وحيدة وحيدة وسط فصيل من رجال العصابات.. أرى الآن لحظة عودتها وما جرى في تلك الليلة من مشاعر متناقضة عنيفة شدة شوق لم يبرده الفراش ثم شدة غضب ورغبة بتمزيق العالم وهي تخبرني بصوتها الخافت المبرح عن محاولاتهم الإيقاع بها. عن.. عن.. تفاصيل جعلت رأسي يصطخب بالشكوك. فشبت روحي إلى الأعالي وذوت. شبت وهوتْ، ثم انطفأت لتلتهب من جديد. شعرت بشيء ما يتسوس في نفسي. شيء جعلني أمعن بحملقتي الساهية في تضاريسها شديدة النحول، المستسلمة، والفاقدة صفاءها القديم. شيء معذب لم أستطع إدراك ماهيته. شيء جعلني أدور في فسحة الغرفة مثل ثور هائج على وشك الذبح. أخطو في الصمت المتفجر في إيقاع مجنون إلى أن جمدت إزاء الجدار. أبحرتُ في فراغه للحظة قبل أن أتأمل جلستها في ظل ضوء الفانوس الكثيف، ثم أنهال لكماً على الجدار حتى أدميتُ قبضتي. وخرجت إلى الوادي المظلم وصمت الجبل لأعود بعدها وأجلس جوارها على السرير الحجري وأمد أصابعي البائدة المجروحة إلى وجنتيها وكأنني أمس هيكلها وبشرتها القديمة. كانت ساخنةً. اختلجت تحت راحتي وارتمت إلى حضني ناشجة..

ـ هل غادرتها في تلك الليلة.. في الصبيحة التالية.. لا.. لا هذا الذي جمعته بعناء لم يكن أطرى مشهد.. ثمة أحداث تتخايل وتتبعثر في سديم ذاكرتي.. كيف لي التذكر يا ربَّ.. كيف لي؟!.

انطويتُ في يأسي مباعداً أجفاني، فإذا بالصف العاري قد تآكل فأزددتُ دنوًا من الأبواب العظيمة، تطلعتُ إلى الفسحة والسلالم الناعمة المتأرجحة وسطها والصاعدة إلى دكة معلقة في الهواء، عليها ميزان من الذهب، وإلى جانب كفتيه يقف عملاقان ممسوحا الملامح. رأيتُ أحد العراة ممن خفت كفته يسلك سلمًا آخر محفورًا في الباب ينتهي في تجويف محاط بإطار من الفولاذ. تكور الصاعد. صار مثل جنين وشفطه التجويف.

ـ أي كوة لا تشبع من أجساد البشر هذه؟!. وأي معنى يتوارى خلف هذه الأبواب العظيمة؟!. ماذا في أحشائها الهادرة؟!. أنارٌ مثل نار الدنيا أم نارٌ أخرى أم صمت ظلامٍ داوٍ أبدي؟!.

أرعدني غموض المآل، فرحتُ أختض هلعاً من فكرة الإقامة الأبدية خلف هذه البيبان. اتحدت رعدتي برعدة الطابور الملتحم.. برعدة الطوابير المتكتلة خطوطاً لا عد لها والمتراجعة عميقاً حتى النقطة التي جردوني فيها من ثوبي وخفيّ. اكتظظتُ بنواح لوعة، ومنور غرفتي في الجبل المطمور في غياهب الحلكة يرتسم في مخيلتي فأرى عناقها لمقاتلٍ آخر جوار الباب التي نجرتها بيدي. أنوح حرقةً على ذاكرتي المعطلة عند لحظة مغادرتي الماء والتراب، الحبيبة والهواء. أنوح.. وأنوح حتى أفرزتني الكتلة إلى الفسحة. خطوت نحو السلم المتدلي. تسلقته. ارتفعت كفتي، فانقذفت نحو ناصية السلم المحفور في الباب العظيم. تكورت جنيناً في أعلاه، لتمتصني الكوة الفاغرة الهادرة. لفحتني سخونة خفيفة. ملأتني بالسكينة. أذهبت رعدتي وخففت من هولي، كنت أنحدر في دكنة أشد كثافة في هبوط وئيد جعلني أسترخي وكأنني أنزلق على منحدر رملي. أحسستُ بأنامل ناعمة تمسح جسدي العاري بحنان. تنزلق من رقبتي إلى صدري وظهري وبطني ووسطي وفخذيّ. تدلك دلكاً خفيفاً ممتعاً. هل أنا في حمام طفولتي وسط الطست النحاسي في غرفة الطين المنزوية بطرف حوش أهلي الفسيح، و.. هذي أصابع أمي.. أو أنا تحت الغطاء في غرفة الرفيقات الغاطة في الحلكة بعد نفخ الفانوس، و.. هذي أصابع حبيبتي الخبيرة بمنابع البهجة في عريي.. أم أنا في مكان آخر؟!. ثمة من يسكب عليّ ماءً ويتمتم بما يشبه البسملة.. هل أنا في حمام الدنيا الأخير، على دكة الإسفلت الناصية و.. هذي أصابع الشيخ الملتحي الذي طالما ساعدته في غرفة التغسيل في مقبرة النجف في نقل جثث أصدقائي القتلى في جبهات الحرب من التابوت إلى دكة الغسل وقتها كنت أتخيل جسدي عارياً ممدداً على البلاط المبتل جوار حوض الماء الضحل الذي يغرف منه الشيخ بطاسة نحاسية مردداً بخفوت آيات تتعلق بطقوس الغسل.. لا.. لا.. لم أمتْ بعد، هاأنذا أستمتع بالأصابع الحانية المنزلقة على جسدي القائم في عتمة رطبة مضمخة برائحة طين مبلول. أصابع من هذهِ؟. أردتُ مناداة أمي.. حبيبتي.. لكن الأصابع انسحبت إلى جوف الحلكة، وتركتني أهوي على المنزلق الناعم الهابط إلى أحشاء العتمات. تذكرت أنني عبرتُ الباب العظيم، لكن أين ذهب الصف الطويل الذي أمتصه تجويف الباب قبلي. هل لكل داخلٍ مساره الخاص؟.. لكن إلى أين؟.. وما هي نهاية المطاف؟ أيتوجب عليّ قطع مسافات أخرى قبل الوصول إلى قاعٍ ما؟.. هذا إذا كان هنالك ثمة قاع أصلاً. الحلكة هنا أشدَّ أو هكذا كنتُ أحس، لكنني استعدت القدرة على الرؤية. هل أستطيع الرؤية حقاً أم أنني في هذا العماء العظيم أرى بعيون مخيلتي؟!.. لا أدري، لكنني أكاد أشخّص مجرى المنزلق الهابط والحاوي جسدي العاري الناحل في انزلاقه البطيء والمناقض تماماً لذلك الركض اللاهث على ممر الرخام الأصم الطويل، مما أتاح لي الاستكانة والقدرة على محاولة تجميع كسر الذكريات المتناثرة، فعساني  أقع على لحظة مغادرتي الضوء والحبيبة كي تقر روحي في قيعان الظلمات أو الجحيم أو في ما لا أعرف من نواحي هذه المَجاهِل. وبغتةً تصاعد دوي من الأسفل.. دوي رتيب له نفس وقع الدوي الذي انبثق من جوفي.. من جوف السماء ودفعني نحو مطلق العتمة.. دوي هدر في غروب صيفي ساكن.. دوي اخترقني وأنا في جوف حمام فصيل الإدارة.. خيط نار جعلني أرتج هلعاً.. ألم يكن ذلك الدوي انقضاض طائرات حربية؟!.. نعم.. نعم.. إنه كذلكَ.

كنتُ أفرك جسدي بالصابون في عتمة الحمام، بعد فراغي من لعب كرة القدم وسط ساحة الفصيل حينما هبط الدوي المجنون أعقبه هدير رعد رجّ الغرفة. ارتديتٌ سروالي وهرعت راكضاً إلى الخارج غريزياً. ألقيتُ نفسي في أقرب ملجأ. كان مكبوساً بالأجساد المتكتلة. ظل نصفي العاري ظاهراً في العراء، مما أتاح لعينيّ رؤية ذروة الانفجارات وهي تصعد من قعر الوادي حتى عنان السماء. خطوط سوداء عمودية تصعد رفيعة لتنفتح على هيئة ورود من الدخان الأسود تنتشر هابطة من سماء قمم الوادي الضيق. عشرات منها غطت أطراف الوادي وعمقه وأسفل السفوح. غابة أشجارها نسخة من أشجار البيضة الرخامية السوداء التي أدت بي إلى هذا الانزلاق البطيء. ظل دوي الانفجارات يتوالى. ومن نصفي العاري المغطى بالصابون وسط الحرائق التي شبتْ في غابة السفح وبعض غرف القاعدة لمحتُ آخر إله من آلهة الحديد المزمجر يتوارى خلف قمة الجبل المقابل. أظلمتْ سماء الغروب الكابي، ودخنّ الوادي برائحة البارود والفواكه المتعفنة. وفي الهرج والمرج الذي أعقب ذلك اشتد الحوار بين من يقول بأنه قصف بالغازات السامة وبين من ينفي ذلك.

ـ هل غادرت الدنيا في ذلك المساء المدخن الخانق؟..

لا.. لا.. هاأنذا أتذكر إنني في الليل ومن وسط الآلام المبرحة سألتها عن التاريخ، فقالت بأننا في  5 ـ 6 ـ 1987، يوم يسميه العرب نكسة 1967 

فعلّقت بأنه توقيت موفق، معنى ذلك أنني مررتُ بأحداث أُخر. أمعنت في استرخائي في المهبط الرملي الناعم هاجساً بدنوي من مسافة اللحظة التي أولجتني في أحشاء العماء المطلق. اللحظة قريبة.. أتلمس حوافها.. ألتف حولها. لم أصب أنا.. لم أصب بل هرعتُ إلى الحمام لأكمل ارتداء ملابسي. شاركتُ في حمل الجرحى إلى غرفة الطبابة، ومواراة القتلى في حفرٍ ضحلة، ثم صعدت مع مقاتلين إلى المقبرة في فسحة مشجرة وسط السفح لإطفاء الحرائق.

ـ ماذا أصابني بعدها؟

هاهي الذاكرة تتضبب من جديد. والمشاهد تضطرب، تبرق وتنطفئ متناثرة مثل كابوس متقطع، فأراني مستنداً إلى كتفها الناحل كاتماً الألم المستعر في أنحاء جسدي المشوي كمن غطس في سائل بركاني وأخرج إلى البر. تلف ساعدها تحت إبطي في ليلٍ داخنٍ دامس خانق، وتقودني على دربٍ ضيق يصعد بين أشباح أشجار بلوط شاهقة محترقة لها قامة وشكل أشجار الساحة البيضوية ولونها. مررنا بسقوف غرف تكاد تلاصق حافة الدرب الذي أفضى بنا إلى هضبة صغيرة محاطة بأشجار تنفث من سيقانها المحترقة بقايا دخان مخلوطٍ بالماء، ووسط الهضبة، في المساحة المستوية تحلق المقاتلون حول موقد نار أشعلوه من سيقان أشجار يابسة كبيرة. رغم آلامي المبرحة وحرقة عينيّ المتصلبتين تأملتُ قسماتها على ضوء النار، كانت ساحرة، صارمة. شملت المحدقين الصامتين الحائرين. وجوه سادرة مضاءة برعشة النار وكأنها تمارس طقساً بدائياً شاخصة نحو وجه شيخ منير، تنزل خصلاته الشيباء من تحت ـ الجمداني ـ حتى أسفل الكتفين. الكل ينتظرون مشورته وكأنه ساحر القبيلة. أمعنت النظر في وجهه رغم حرقة عيني وكان ـ توما توماس ـ بوجهه الهادئ الرصين المتماسك في كل محنة من محن الجبل. العيون منتظرة في الصمت المقطّع بطقطقةِ حطب النارِ والسعال والأنفاس المخنوقة. في اختلاط ألوان غبشة المساء، بتلٍ من الجمر، باللهب، بالدخان، بالخضرة المحترقة، بالوجوه التي عدت لا أستطيع رؤيتها لتفاقم حرقة عيني. في فواصل الصمت ما بين الطقطقة والسعال وآهات الألم كنت أسمع وجيب قلبها النابض لصق إبطي عنيفاً، وجلاً من الليل وما يضمره.

ـ كيف مرّ ذلك الليل؟.. وهل مرّ حقاً؟.

تخيلته أبدياً وأنا أتقلب في أتون مستعر، في سيل أنين وصراخ يطفو في ما أتخيله نور فانوس غرفة واسعة. كانت جواري، لصقي، تصّبرني، تعانقني، تقبلني، تسقيني. تحاول تخفيف سعير ألم جسدي المشوي بوضع كمادات باردة على عيني المطبقتين، صدري، أنحاء جسدي الصارخ في الحمأة الكاوية التي بدت لا أول لها ولا آخر. كيف مرَّ الليل؟، والصبح أمسى حلماً مستحيلا. أيكون هو المعبر الذي دفعني إلى باطن هذا الليل الساكن الأبدي؟!، فأنا منذُ أن أصابني العمى في خضم بحر أنين المصابين المتضورين الناحبين حولي في غرفة مجاورة لغرفة السجن وقاعدة منام الفصيل، لم أر نوراً، بل سكنتُ حلكتي. إذن متى كان صعودي الثاني على بغلٍ؟، ذلك الصعود الشاق حيث كنت أسمعها بين الحين والحين تناديني باسمي وتسأل عن حالي. أكان مجرد هلوسة ألم، أم أن ليل الصراخ تعدى فعلاً وألقاني في صبيحتي الأولى بنهار العماء؟!.. نعم.. نعم.. استقبلتهُ بسمعي، ضجة عصافير، وتنادي، ودوي مجرى أو فرن بعيد. تنفست نسائم الفجر الدافقة من باب مفتوح. أحسست بجسدي خفيفاُ، نظيفاُ، طاهراً وكأنني اغتسلتُ تواً بماء النبع الأول. زحزحت جسدي المحشور بين أجساد إخوتي الغافين منصتاً لتغريد بلبل في حديقة الدار. تمنيتُ أن تدعني أمي وشأني، فلا توقظني ككل غبشة لشراء الخبز من فرن ( حاج جاسم ). خلدتُ مطبق الأجفان، منتشياً بهدجة صوت جدي الضارع في أدعية الصباح التي يرتلها بنغمٍ ساحر. تخيلته جالساً على سجادة صلاته المفروشة جوار عتبة غرفة الطين التي يشغلها وحيداً بعد موت جدتي، رافعاً ذراعيه نحو سماء الله العالية. هل تتركني الغالية في استرخائي النشوان. هل؟.. لكن هاهي تقتربُ. شممتُ رائحتها المعجونة بأحشائي. هاهي تنحني عليّ وتسكب أنفاسها الساخنة على قسماتي المترسبة في نشوتها. أناملها الناعمة تندس تحت قميصي لتفرق الأزرار، وهمسها المسكر النعسان يتغلغل في مهجتي:

ـ صباح الخير.

مثل طفلٍ ماكر تصنعت النوم العميق طمعاً في المزيد من ليونة النبرة الناعمة، الصاعدة من جب الأحشاء التي تخلقتُ منها وفيها.

ـ.. ها.. شلونك يا روحي.. دعني أساعدك حتى تشرب كوب حليب.

اقتحمني الأنين والصراخ ونداءات الاستغاثة، فمنهم من ينادي أمه، وآخر ينادي أباه، من يشتم، من يتفوه بنابي الكلام، ومن يصرخ صراخاً مبهماً. وبينما كنت أريد الوثوق من المكان والزمان مدركاً بأنني لست طفلاً في حوش دار أهلي، سمعتُ صوت رجلٍ مذعور ينادي لاهثاً:

ـ أحضروا الطبيب، الرفيق يحتضر!.

هزتني بحنو:

ـ كيف تشعر يا حبيبي؟

سألتها بصوت بدا كأنه ليس صوتي:

ـ أين أنا؟

سمعتها تشهق وتغص قائلةً بصوتٍ مذعور:

ـ ما الذي يؤلمك؟..

كنت حتى تلك اللحظة لا أشعر بأي ألم.

ـ لم تسكت يا بعد عمري؟.

وذكرتني بواقعة الليلة الفائتة وأصابعها تجوب بأنحاء جسدي العاري باحثة عن موضع الألم. كنتُ أحس بخفة طير محلقٍ في أغوار سماء ساكنة صافية.

ـ لماذا تسكتْ يا حبي؟. أخبرني عما يؤلمكَ!.

خرج صوتي أجشاً:

ـ لم أنتِ خائفة.. لا.. لا.. أ.. شـ.. ـعـ..ر.. بـ..شششش...

تحشرج الكلام وتعّسر، وثمة شيء يتضخم ويتخشب في قعر فمي يمنعني عن النطق. وبغتةً هجمت عليّ آلامي مبرحةً، فهببتُ جالساً. قفزت واقفاً أود مبارحة المكان. قادتني في الزحمة، أدوس ليونة اللحم الصارخ المتكدس في الغرفة. أدوس على أطراف الفجر. أتلوى بأحشاء فضته الناعمة، وتحت دوي النهر الهادر أسفل الوادي، منفصلاً عن صرخات الوجع الملاحقة خطونا، منفصلاً عن الأرض.. عن السماء.. عن الكينونة أحلق وحيداً في فضاء ألمي مستنجداً بذراعيها العاريتين الراجفتين. أتشبثُ بجسدها الدليل وأسير، أتشبث وأطير، وأسمعها تصبرني:

ـ اهدأ يا حبيبي.. أهدأ.. استرح قليلاً.

لا أستطيع السكون لحظة. فما إن أسكن حتى يصعّدني الألم إلى عنان سماوات جحيمٍ طافحة بذرى النيران.

ـ د.. عيــنــي.. أتحرك.. د..!

ورحت أهتز وألوب دائراً حول مركزي. وهي تمسك ذراعي بكفين مرتجفين، تحاول تخفيف أوجاعي المجنونة:

ـ تماسك.. تماسك يا حبيبي.. أتوا بالبغل

ـ..

كنت أنتفض من شدة الألم ناسياً المحيط والزمن.

ـ تمالك نفسك يا روحي. سنصعد إلى القمة.

وجدتها تلحُ كي أتماسك واحتمل الألم. هل كانت تخشى من شماتة الناجين من القصف، قلتُ لنفسي:

ـ في كل الأحوال سأقضي نحبي. سأجعلها تتذكرني قوياً وشجاعاً!.

صككتُ أسناني متظاهراً بقوة تحمل هشاشة يفضحها صمتي الفوار وتصلب ملامحي المتوترة. جهدت من أجل أن أبدو متماسكاً من أجلها. أي مشقة عانيتها في ذلك الصعود وأنا أميل وكأنني سأسقط مع كل خطوة يرميها البغل، لكن كان ثمة من يوازنني بيديه من الجانبين، وصوتها الملتاع يسألني بين الخطوة والخطوة عن حالي. في خضم الألم المطلق وفقدان النظر كنتُ أفكر في اندثاري الوشيك ومآلها بعدي، فكان ذلك الهاجس يذكي سعيري، فتفلت آهة ندم وحسرة أكتم طرفها بعناء متضوراً على ظهر البغل في صعوده البطيء على المسلك المرسوم في مخيلتي شبراً.. شبراً، بالغ الضيق يتلوى بين ساقية النبع وحافة وادٍ عميقٍ جاف.. كنت أسأل نفسي بيأس عن ماذا ينتظرنا في القمة؟.. ماذا؟. لا أدوية.. لا أطباء.. لا أدوات طبية.. ماذا غير غرفٍ ثلاث بائسة لفصيل مقاومة الطائرات وحوض النبع وصخور القمة القريبة.. ماذا؟. أعرضت عن رعب السؤال منشغلاً بعناء التوازن القلق على ظهر البغل العالي المتحرك، ظهر عالمي الحالك الجديد، متمنياً أمنية صغيرة جداً، بدت وقتها مستحيلة إلا وهي قطع المسافة إلى النبع والتي لا تزيد على ساعة زمنية، مدّها سعير الألم إلى ساعة مطلقة، أتأرجح فيها إلى الجانبين، فتسندني أكف قوية. تخيلتني سأبقى هكذا كل الدهر، وحلم الوصول ينأى.. وينأى.. الوصول إلى الأرض.. إلى النبع.. إلى القمة.. أبعد منها.. إلى السماء.. إلى راحة ما.. إلا من مخلصٍ من هذا الصعود الأبدي؟.. من البغل المتعثر المُنهك.. من أتون النار المشعل جسدي.. من هذا العماء والتشبث المجنون برسن البغل وكأنه عروة الدنيا.. من الضجيج.. من نفسي.. من.. ومن.. ومن. إلا من استكانة أخيرة إلى صدرها العذب، النابض جوار البغل.. القريب المستحيل.. لو ألتفُ بها مرة واحدة دون ألم.. لو في السماء.. في جوف الأرض.. لو..

 أخرجني صوتها المستنجد من دوامتي وهي تنادي:

ـ عميت يا رفاق.. ألا من يقودني؟!.

كنت عاجزاً، لم أجد ما أقوله.. فماذا أقول؟.. ماذا؟.. وماذا بوسعي؟!. كنتُ أصغي مترقباً ما سيحدث منشغلاً عن آلامي. وحوار محتدم شب بين الشخص الذي يسندني من اليسار وآخر يبدو أنه هرع ليحمل عنها حقيبتها ويأخذ بيدها. وهذا ما فهمته من الحوار اللاحق. قال الذي ما زال يسندني:

ـ رفيق احمل حقيبتها واصعد قبلنا لتبليغ الرفاق

أجاب الأخر معترضاً بعربية مكسرة:

ـ والرفيقة من يقودها وهي لا ترى الطريق؟!.

ـ دع الأمر لي!

ـ كيف تستطيع إسناد الرفيق الأعمى على البغل ومساعدتها؟!.

ـ هذا ليس شغلك!.

قالها بحزم وحرقة أثارت ريبتي وكنت أنتظر جواب الآخر على جمر.

ـ لا هذا شغلي أيضاً.

احتدم الآخر صارخاً:

ـ كفى لا تجادل. قلت لك أسرع في الصعود.

ـ لا.. لا.. لن أترك الرفيقة.

وتطور الحوار إلى شتائم. وهذا الذي يسندني الساعي لإبعاد الثاني سمعته يردد همساً:

ـ رب الكلب.. كردي.. رأسه ناشف.

ثم نفث حسرة طويلة أيقظتني تماماً من نوبات السعير التي أصبحت مطعمة بخدرٍ خفيف حال انشغالي بإصابتها. إذن كان يريد الخلوة بها وإلا لماذا ألح ومازال يلح كلما قطعنا مسافة طالباً من الرفيق الكردي الابتعاد.. لماذا؟. أكلتني الغيرة.. غيرة عاجز، أعمى، مسلوخ الجسد لا يستطيع الكلام. غيرةٌ أصلتني بسعير مضاف أكثر أواراً وأشدَّ وقعاً. نُهِشتُ وأنا أتخيل أصابعه المحيطة بخصري تجوب جسدها بحجة قيادها الصعب كونه وحيداً بيننا. حرزتُ بدمي حقداً ملتهباً، حقد عاجزٍ يوشك على الرحيل ولا يستطيع دفعاً لانتهاكٍ وشيك. أتضور بغيرتي. أتقلب. أتوتر كلما يحتدم الحوار المتكرر والمتحول في كل مرة إلى شجار. لم أهبط إلى لظى الجسد المسلوخ وعذابه المكين إلا بعد بلوغنا نحن الأربعة فسحة ـ الدوشكا ـ المزدحمة بالصارخين والعميان والناجين، وأنا أنزلق من ظهر البغل وددتُ صفع، لا بل سحق وجه الرفيق الذي تلقفني بين ذراعيه، وتقبيل الرفيق الكردي الذي أصرَّ حتى أَوصَلَها. أما ماذا حدث بعد الوصول؟.. لا أدري!.

*   *   *

أبركُ في طشت معدني. أبرك عارياُ. أبرك في عتمة رطبة، في صمت مكين، في حلكة تفوح بروائح كتب قديمة، ديرم، تبن، حناء، آس، كافور، زعفران. أبركُ وأنامل ناعمة تنزلق على جسدي بطيئة، بحذرٍ وعناية وكأنها تحاذيه.. تدغدغه. أتسمع نبضاً أليفاً وأنفاساً ساخنةً، وحفيف طاسة تغرف الماء في الصمت الفائح برائحة التراب المبتل، ودوي ضعيف يأتي من قريب. يُسكَبْ على عنقي الماء متقطعاً يميل إلى البرودة قليلاً وتنتشر منه رائحة أعشاب.. أين أنا.. أين؟!. أهذي أصابع أمي؟. نعم.. نعم.. إنها أصابعها. نحنُ إذن في غرفة الطين التي حولناها إلى حمام بعد موت جدي. وهذا الدوي الضعيف الرتيب صوت موقدنا النفطي القديم. أطبقتُ أجفاني بشدة شاعراً بحرقة تشعل عيني. هل دخلت فيهما رغوة الصابون؟. فتحت عيني للحظة وجيزة فواجهني الفانوس معلقاً بمسمار في الجدار، يرش ضوءاً نارياً أرمد يجعل كتل الأشياء تتلامح بغموض وتنطوي في الدكنة. تخيلتني سوف أهرع إلى اللعب في الشارع مع صبية المحلة حال فراغي من الاستحمام. أبهجني خاطر اللعب وأناملها السارية مسرى النسيم بثنايا جسدي، همست من خدري:

ـ يمه.. يمه.. خلصي بسرعة گبل الظلام حتى أطلع ألعب بالشارع.

ـ..

أجابني طشيش الماء المنهمر على عنقي والسائح على بروكي وسط طشت النحاس العميق العريض الذي طفح بالماء حتى الحافة مغطياً أصابع يدي الماسكة بمحيطها.

ـ يمه.. يمه!.

ناديتُ مرة أخرى.. وانتظرتْ.

ـ اهدأ.. اهدأ!.

غمرتني نبرة رجولية، لكنها حانية، هادئة.. من يكون هذا الرجل؟. الصوت المنسكب أليفاً.. شفافاً أسكن نبضي، لكنه ليس صوت أبي.. ولا أخي. من هو إذن؟.. ولم يقُم  بغسل جسدي؟. رغم حرقة عيني فتحتهما.. لم أميز في العتمة الموحلة برذاذ الفانوس الذاوي سوى كتلة وجهٍ أشد عتمة من ظلام الغرفة. استعرت الحرقة فأغمضتهما سائلاً:

ـ من أنتَ؟

ـ اهدأ.. اهدأ.. أنا إبراهيم!.

إبراهيم.. أيكون هذا جدي،.. أأكون حالماً.. أم أنني في زمن آخر؟.. جدي مات في طفولتي. فأصبح يتشكل من دخان حكايات أبي عنه التي كان يقصها عليّ في طريقنا لزيارة قبره في النجف.. عن عشقه للنساء، كان مختار الديوانية الصغيرة وقتها. وكانوا يودعون في بيته النساء سيئات السمعة المهددات بالقتل.. عن.. وعن..

ـ كيف قمت يا جدي؟!.

ـ ها.. أش بيك.. لا تخّرْفْ. أنا إبراهيم ـ أبو خولة ـ.

ـ أين نحنُ؟.

ـ في حمام الدوشكا.. اهدأ شدة وتزول.. اهدأ.

هذا صديقي الخلاسي الذي عرفني عليه أخي الغائب ـ كفاح ـ قائلاً:

ـ أقدم لك إبراهيم من بقايا ثوار ثورة زنج البصرة.

في لمحة أبصرت المشهد كله فصرخت به:

ـ إبراهيم.. أين هي.. أين؟.

ـ اهدأ موجودة ـ بالكبرة ـ فوگ بصف العين!.

ـ أش لون صارت؟

ـ تحسنت.. وفتحت عيونها.

قادني من جب الحمام إلى جب الدنيا. أمسك بيدي وصعدنا على ما يشبه السلالم الحجرية. أفضت بنا إلى فسحة ربوة ضاجة بصريخ الجرحى والمصابين. كنا نبتعد عن هدير ماء يسقط من علٍ ونحن نرتقي سلالم أخرى. كنت أتأرجح وكأنني أتسلق سلم الساحة البيضوية. وصلنا إلى حيث يجري الماء بخرير وانٍ. وسمعتها تنادي بخفوت وتمسك يدي بأصابعها المرتعشة. لفحتني أنفاسها اللاهثة ساخنةً. أحكمتْ طوقها على أنفاسي، فانحدرتُ على المنزلق الرملي ناسياً آلهة الحديد المزمجرة، المنقضة بسمومها، دوي فرن الخبز بمدخل شارعنا، خرير الماء المتدفق من أحشاء الصخور. انحدرتُ في الحلكة والصمت وأنفاسي المتخافتة. انحدرتُ باحثاً بجنون أصابعي في كثافة الظلام عن مناحيها الساحرة، فوقعتُ على كتلتها الناعمة التي انبثقتْ من رحم السواد العظيم. انغمرتْ أناملي بشعرها الهابط حتى الخصر. وابتدأتُ بنحت القسمات الناعمة بأطراف أصابعي، الجبهة الناصعة، والأهداب الطويلة الكثيفة، العنق الأتلع، قبة النهدين الصلبين الصغيرين، منخفض الخاصرة النحيلة المتأججة باللهب، فنجان الصرة الدقيق، ربوة الردفين المدملجين، واستدارة الفخذين المكتنزين من الخلف و الأمام، ومهبط الروح بينهما، تكور عظمة الركبتين الغائصتين بطلاوة اللحم اللدن المشدود، الأملس الزلق، بطة الساقين المليئتين، والقدمين الصغيرتين، والأصابع الطفلة. أجوب تضاريس الكون المنبثقة عند اللمس، والتي تضيع في الصعود والنزول، ثم حضنت طولها الذي تمدد جواري على المنحدر الرملي الأملس. كنا عاريين في انزلاقنا نحو المجهول. كنا نهبط وقوة غامضة تسحبنا نحو مقاصدها. قوة كلية القدرة، كامنة في روح الظلام. أنصت إلى أنفاسي المتخافتة المتذاوية، إلى أنفاسها اللاهثة. أنصت لنعومة جسدها الخائض معي في السكون الفوار، في أحشاء الظلمات. أغور بصحبتها في الصمت المريع. أغور مفتوح العينين، تام الصحو، سليم الحواس، نتسمع لدوي السكون الهادر القادم من لزوجة السواد العظيم. ننزلق على المنحدر الرملي الهاوي خلف أبواب الساحة البيضوية العظيمة.

ـ هل سنبلغ قاعاَ ما..؟!.

 

الدنمارك   1996 -  1999

 

صدر للمؤلف:

1ـ رؤيا اليقين ـ مجموعة قصصية 1994 دار الكنوز الأدبية ـ بيروت

2ـ رؤيا الغائب ـ رواية 1996 دار المدى ـ دمشق

 3ـ سرير الرمل ـ مجموعة قصصية 2000 دار حوران ـ دمشق

4- الحياة لحظة- رواية 2010 الدار المصرية اللبنانية – القاهرة -

5 -في باطن الجحيم- رواية 2011 العدد 48 مجلة الكلمة اليكترونية