تسرد القاصة الأردنية حياة ارض لا تموت مادام هناك من يروي حكاياتها وتواريخها، ولا ينسى أنها مهبط الأحلام والوعود المورقة، ويرى الطريق المدمى عناوين مستقبل يشكله الشهداء ويبعثون يوم تحققه.

في بحر غزة

سامية العطعوط

كان ذلك قبل أن نولد بعشرات السنين، وربما بعد أن وُلدنا من حطب النار المقدسة. كنتُ أبلغ من العمر آنذاك المائة عامٍ بعد ألف أو يزيد..

كنتُ الجدّة الكبرى، وأطفالي من حولي يتحلّقون، وأباريق الماء الفخّارية موضوعة على حافة النافذة الغربية، والماء فيها يرتعشُ من نسمات البحر وتلسعُه البرودة.

كان ذلك في الخامس عشر من عام 1948.

وكنتُ آنذاك أعِدُهُم بأرض يأكلون منها تمراً وعسلاً.. زيتوناً أخضر قبل أن تقتلعه الجرّافات، وقمحاً ذهبياً بلون جدائلها، قبل أن يجتثّه الظلام.

كنتُ آنذاك، أمنحُهُم صفاءَ المياه وعمق البحار ولون المحبة وارتعاشة النجوم حين تفيض بالألق، ولكنهم، تفرقوا في البحار السبعة... أكبرهم حرث الأرض ومات، و(سابعهم سيأتي بعد صيف).

***

 

لكلّ مدينة بحرها وساحلها وسماؤها..

وهناك على امتداد الساحل لا أحد...

طيورُ نورسٍ تحطّ على جيفة هنا وبقايا طعام هناك..

بحارٌ تؤرّقنا وأنهارٌ تصيبُنا بالجفاف قبل موعده.

و رأسٌ وحيدٌ نابتٌ، في المدى... 

رأسٌ وحيد ملقىً على تلك الرمال المتأرجحة بين لون البحر ولون الدم، أو على تلّة رمليةٍ صغيرة ومرتفعة، أو على قارعةٍ من جنون .. هكذا هُيء إليّ...

كان رأسها وحيداً تحت اتّساع السماء وبرد كانون، يبحث عن جسده بين ركام الحياة والألعاب...!

كان اسمها الآخر يتراءى لي كأسماء لوجوهٍ كثيرة.. ربما كان اسمها لينا، دلال، سناء، هند، وربما كان اسمها يمامة..!!

 اليماماتُ بيضاء، لكنّ وجهها المفرود بعينين تحدّقان في الفراغ، والقائم بحدّ ذاته على رأس مقطوع فوق رمالٍ لا تخجل من حَمْلهِ مُدمىً، كان وجهها ذلك حنطي اللون، وكأنه ناضج للموت!!. حدث ذلك في بحر غزة يوماً، مع ضحى**. لكنها في الحقيقة، لم تكن تحدق في الفراغ، بل كانت تراني بوضوح..

 

وكنت قد فتحتُ مدونتي السردية الكبرى، لأسرد حياتي من قبل ومن بعد.. حياة الذين استشهدوا في عزّ الصيف والطحالب تنمو في قيعان البرك الراكدة.. وأولئك الذين استُشهدوا في عزَ البرد كأعداد تقترب من الصفر المئوي في لغة العالم، لكنهم في لغتي أبناء الجدّة الكبرى..

 

وكنت قد فتحتُ مدونتي السردية لأكتب تاريخ جدتي الأولى منذ أن بدأتْ كنعان تحتفل بنضجها، وكنت أعلم أننا جدّات نسرد الحياة ولا نموت عن آخرنا.. 

 

هكذا علّمني الطوفان يوماً، قبل أن ننبثق من عشبة في الأرض وننمو أبذاراً في كلّ مكان.. تحملنا الريح كيفما تشاء وأينما تشاء، ولكننا نعود، لنضع أباريق الفخّار على النافذةِ في مواجهة النسمات البحرية.. ونعود جميعنا كأجساد كاملة، لذلك الرأس المقطوع على شاطيء غزة..

 

** ضحى الداية- 3 سنوات – شهيدة الحرب على غزة 2008