القاص المصري يكتب رغبة الابن في العثور على أبيه والتأكد من أنه مات غرقا، وتمزج تلك الرغبة الواقعي بالخيالي فيغوص الابن داخل الترعة مرتع خيالات طفولته ويبصر العوالم الكائنة فيها ويلاقي أباه ويتواصل الحوار بينهما.

الغريق

محمد عباس على داود

لمعرفة سابقة بيننا لم أتردد لحظة، خلعت جلبابى وما تحته، ألقيت بنفسى إلى الماء، لم أهتم بما أثاره فعلى هذا من ضيق الناظرين، لم أبال بتكرار تذمرهم مما أتيه من تصرفات يرونها شيطانية لاتليق بابن شيخ طيب مثل أبى محمد أبو إسماعيل، ذلك الذى اختفى قبل صلاة الفجر مباشرة، لم يعثر عليه أو يراه أحد الى الآن، مضى عن البيت بسنواته الضاربة فى القدم، حاملاً معه لغز اختفائه الذى حير معنا القرية جميعاً،وإن كان الاحتمال الأكبر  أنه أراد الوضوء من الترعة كعادته، انزلقت قدمه فهوى، ذلك هو التفسير المقبول،  وإلا فأين مضى؟

هو لم يبرح القرية، لم يبرح مكانيه الأثيرين البيت والمسجد وما بينهما منذ سنين ..  زاد من قوة هذا الافتراض وجود غرقى ابتلعتهم الترعة من قبل، ولأننى ابنه الأكبر لم أكذب خبراً خاصة أن بينى وبين الترعة علاقة منذ قديم، كثيراً ما غافلت أبى ونزلت اليها، أغوص تحت مائها، أداعب حورياتها وألاعب أطفالها وأحكى لأصحابى عن دروبها وأروقتها، يتهمنى البعض بالفشر، يقول آخرون أن لى شيطانا يوسوس لى بما يريد، وسوست لشيطانى  هذه المرة  أننى وحدى من يمكنه أن يستخلص جثة أبى  من الترعة ، أعيدها لتدفن فى البر، يطمئن قلب أمى، يستريح الخلق  فى القرية  فهو كبيرهم ، صحيح أنه كان مندفع اللسان يرمى الكلمات غير ملق لها بالاً، إلا أن هذا كان فى إطار القبول من الجميع، ربما لأنهم يرونه يجلونه  نظراً لسنه، وحجته القوية، وبديهته الحاضرة ، وأنفه الممدود هنا وهناك دون حساسية وبلا أى منغصات،  فامرأة عبد ربه مثلاً التى غضبت من زوجها ،وتركت له أولادها ومضت الى بيت أبيها  لتنكيد أمه عليها، وتحكمها فى كل أمور الدار،  ذهب اليها فى بيت أبيها ، سبها ولعن الذى لم يحسن تربيتها ،وأمرها أن تقوم فوراً وتعود الى دارها وأولادها..النعمة تزول بالبطر يابنتى..هكذا ختم محاضرته الطويلة أمام أبيها الذى التزم الصمت تماماً خشية من لسان أبى وصوته الجهورى، وكذلك حين تخاصم حسان شيخ المسجد مع مبروك الهنداوى بسبب إصرار كل منهما على الإستئثار بالآذان ، لم تفلح محاولات الصلح بينهما، عُرض الأمر فجراً على أبى،  ضحك ضحكته الجهورية قائلاً:-

-سيتم الصلح بإذن الله ظهراً

وقبل الظهر بقليل همس فى أذنى قائلاً:-

-اذهب إلى بيت مبروك، قل له إن حسان به أذى ، وأبى ذهب اليه ويريدك هناك فوراً

وتوجه الى بيت حسان شيخ المسجد،  قليلاً واقتحم مبروك الهنداوى دار حسان وهو يصرخ:-

-ماله يا حسان؟

 فلما رآه سالما ارتمى على الحصير لاهثاً وهو ينظر الى أبى بلوم، وأبى لا يكاد يملك نفسه من الضحك، وهو يسبه ويسب معه حسان بلطف قائلاً:-

-مادمتما على هذا الحب فلما العناد؟

ويقول مبرراً قولته إن حسان به أذى قائلاً:-

-طبعا به أذى، أليس الخصام أذى للطرفين

ولأنه بحوزته مفتاح المسجد المبنى على شط الترعة مباشرة فهو يبكر فى الذهاب خاصة فى الفجر،  شاعراً بأهمية ذلك العمل، وقد صار يقوم من الليل، يوقد الحطب أمام الدار، فوق الحطب يضع كنكة الشاى، مستمتعاً بالسكون والظلمة الشفافة فى ذلك الوقت ، فإذا ما انتهى قام إلى المسجد، فتح بابه وأضاء مصابيحه ، ونزل الى حافة الترعة ، يقف على حجر وضع عليه إناء من البلاستيك مربوط بحبل غليظ ، يدليه إلى أدنى ويعيد سحبه، ويبدأ الوضوء استعداداً لرفع الأذان، وقد حذره البعض خاصة فى سنه هذه من تلك العادة ، قائلين أن الزير بجوار باب المسجد به ماء  فليتوضأ منه،  غير أنه أصر على عادته قائلاً أنه يفعل هذا منذ سنين عدة، مبرراً تصميمه هذا بأن ماء الترعة ماء جار، أما الزير فهو للشرب فقط ولن يستخدمه لأغراض أخرى ولو كانت الوضوء..ألقيت نفسي في الماء إذن محتضنا الترعة بذراعى، شاعراً بحنين الى أيامى الأولى معها، انزلق جسدى غائصاً  فيها لأجد نفسى أنفذ من خلال شق صخرى قريب من القاع لم أره من قبل، يأخذ زاوية فى جسد الترعة لايكاد يبين، وجدت عيونا تترصدنى وأيدى تمتد لتقيد حركتى ، وآلاف الكلمات تنهال علّى ّ متسائلة عن هويتى..أدرت نظراتى فيهم ودقات قلبى تكاد تخترق أذنى، الوجوه أعرفها ، هكذا قدرت من الوهلة الأولى، إنها وجوه غابت على مدار السنين الفائتة، ابتلعتها الترعة فيمن ابتلعت من أبناء قريتنا، ناديت  أحدهم باسمه فوراً:-

-محمد بن خالتي سكينه، ألا تعرفني؟

حدق في وجهي محاولاً تذكر ملامحى ، قبل أن يتفوه بحرف سحبونى من أمامه الى ساحة فسيحة الأرجاء،  بيوتها طينية صغيرة كأعشاش الطيور،  ذات قباب دائرية صغيرة، تنتشر متجاورة ، تفصل بينها مساحات تبدو كممرات للتهوية اكثر منها طرقاً للسير،  وعلى رأس الساحة بيت منفرد بذاته، يمتاز بالضخامة بعض الشيء،  تمتد من حوله مصاطب مرتفعة عن الأرض قليلاً ، هناك رأيت وجهًا بادى الجلال بشعره الأبيض الذى يتوج هامته ، بنظراته الحانية المزينة بالوقار، سألنى من أكون ،وعمن أبحث، شرحت له الأمر ، نفى وجود أبى عندهم،حكى لى عن مدينتهم تلك مدينة الغرقى، بعدها اقترح علىّ أن أواصل البحث في مدينة مجاورة، هى للغرقى أيضا لكنهم انشقوا عنهم منذ زمن، لم يقل لماذا وأنا لم أسأله، أمر أحدهم بمصاحبتى لإرشادى الى مدخل المدينة الأخرى..مضينا معاً متقدمين حيث القاع مكتظ برواسب طينية يصعب النفاذ منها أو اختراقها للعبور أماماً أو الهبوط الى أدنى حيث توجد دروب لم أرها من قبل،  وصلنا الى نقطة لا تكاد ترى فيها منفذاً لعبور،  بل هى مواد متكاثفة ورائحة نفاذة ومخلوقات تبدو كاسماك صغيرة أو شىء يشبهها تسبح من حولى غير مبالية بى، أو ربما لاترانى اصلاً،  أشار مرافقى الى فتحة صغيرة عبرتها فوراً، وجدت أمامي ممراً ضيقاً ،أخذ  يتسع لأرى ساحة أخرى و بيوتاً هرمية متناثرة هنا وهناك باحجام مختلفة ، يتوسطها هرم أكبر نسبياً،  على بابه يجلس أبى هادىء الملامح ساكن العينين، هرولت اليه مسرعاً أناديه، لم يبد عليه أنه عرفنى، أخذت أهزه صارخاً   بفرح:--أنا محمود

بدت الحيرة على وجهه، أدار نظراته حوله،  كانت هناك وجوه ترقب الموقف، تقدم أحدهم منى هامساً:-

-هنا القلوب تعود بيضاء، العقول تغتسل من أدران الأرض ومن سموم دروبها وتصبح نقية 

اعترضت:- لكنه أبى وأنا جئت لأجله

-لكى يعرفك لابد أن تصبح مثله

-كيف؟

-ادخل الهرم الذى يجلس على بابه، هناك ستعرف

اندفعت إلى الداخل، التقمتنى دوامة سحبتنى فوراً الى حيث لا قرار،  رأيت نفسى انسلخ رغما عنى عن كينونتى، ذاتى تنقسم الى جزئين ، جزء شفاف لطيف يرتفع رويداً الى أعلى، وجزء آخر مادى ذو ثقل يهبط ويغوص فى الطين، خرج الجزء الشفاف الى حيث عرفه والدى و رحب به وتعانقا طويلاً،  سألنى عن القرية والمسجد ومن يفتحه فجر كل يوم مذ تركه، وعن أمى واخوتى والجيران، سألته عما جرى معه، حكى لى كيف انزلقت قدمه فانكب على وجهه فى الماء، حاول الاعتدال ألا أنه شعر بالماء والطين يملآن صدره و عينيه ويقيدان حركته،  فلم يملك ألا التسليم وأتى الى هنا.. صمت قليلاً ثم سألنى كيف جئت،  قصصت عليه ما كان، لعن أبو الشيطان الذى يوسوس لى بهذا الجنون ، قلت له أننى أريد إعادته إلى الأرض،  هز رأسه سلباً مؤكداً أننى لا أستطيع فعل هذا، قلت متحدياً سأعود بك، أدار وجهه عنى قائلاً:-

-أنت وشأنك،  لكن حذار من الدوامة حينما تدخل الهرم ثانية

-كيف؟

-سأعلمك كلمات إذا قلتها انحسرت عنك

مضيت إلى الهرم فوراً، هبطت إلى  جسدى حيث تلاحم الجزآن من جديد ، وجدت جثمان أبى،  بدا منتفخاً كبالون كبير زلق الملمس، لولا ملابسه مااستطعت أن أرفعه، عبرت الهرم الى الساحة حيث الوجوه المترقبة هنا وهناك،  انطلقت نحو الفتحة الضيقة التى دخلت منها، اتجهت إلى القرية الأخرى، هنئوني بفلاح مسعاي، تركتهم إلى حيث رأيت على البعد أثراً ضئيلاً  لمرور ضوء لا يكاد يبين،  أخذت طريقى نحوه صاعداً الى أن شققت الماء خارجاً  وأبى معى..كانت القرية وجوها تترقب على الشط، وأمي هناك وسط الجمع بسواد ملابسها ووجهها المنمق بالتغضنات، حولها إخوتي  كل منهم فى دنياه لايكاد ينتبه اليها وهى تلّون مرارة  اللحظات بكلماتها المغسولة بماء الدموع الى جوار المسجد،  قريبا من المكان الذى رأى آخر  تواجد لأبى، اتجهت إليها ، هبت واقفة فى صمت،  بدت على وجهها آيات الارتياح، ورغم شكواها السابقة من أفعالى الا أنها هذه المرة كانت ملامحها تشى بالرضا عما فعلت !!