عندما أعلنت جماعة الإخوان المسلمين ترشيحها للمهندس خيرت الشاطر لرئاسة الجمهورية المصرية ناقضة تعهدها السابق بعدم التقدم بمرشح للرئاسة مستدرة بذلك سخط الكثيرين من داخل الجماعة وخارجها، بادئين حملة تهاجم الجماعة وتهاجم مرشحها، قال مرشد الجماعة مهدداً هؤلاء المهاجمين بأن عليهم الكف عن مهاجمة الشاطر لكيلا "يدعو عليهم" فيصيبهم مكروه كما "دعى" على الرئيس المخلوع مبارك فثار عليه الشعب وخلعه.
هذا الكلام الذى يبدو نوعاً من الهزل لم يقله المرشد هازلاً وإنما كان جاداً جداً، ذلك أن هذا النمط الفكرى ليس جديداً أو غريباً على الإخوان، فمنهم من قال أن اغتيال الرئيس السادات كان عقاباً إلهياً له لاعتقاله عدداً كبيراً من القيادات الإخوانية قبلها بشهر واحد (الطريف أن بعض الأقباط قالوا أن نهايته كانت بسبب عزله للبابا واعتقاله لعدد من رجال الدين المسيحى)، كما أن الإخوان أيضاً هم من قالوا أن هزيمة الجيش المصرى فى حرب الأيام الستة عام 67 لم تكن إلا عقاباً إلهياً لعبد الناصر بسبب تعذيبه للإخوان فى السجون، حتى أن بعض قادة الإخوان سجدوا لله شكراً على تلك الهزيمة! بينما قال بعضهم أيضا أن انتصار العبور الباهر عام 73 كان سببه عودة مصر إلى الله مع عودة الإخوان إلى العمل فى الشارع المصري وتشجيع السادات لذلك وبداية ما أسموه بالصحوة الإسلامية.
وحيث أن هذه الجماعة تمسك الآن بتلابيب مجلسي الشعب والشورى فى مصر وتنافس على رئاسة الجمهورية وكانت تطمع فى أن تكتب الدستور المصري حتى صدور حكم قضائي أعلى ببطلان لجنتها التأسيسية، يصبح من المهم دراسة نمط التفكير الذى يحكم رؤية وذهنية هؤلاء المنوط بهم إدارة دفة الأمور فى مصر لسنوات قادمة، خاصة وأن تخبطهم السياسي وأخطاءهم الفادحة خلال الشهور الثلاثة الأولى في مجلس الشعب أثارت تساؤل الكثيرين عن نمط التفكير المسيطر على جماعات التشدد الديني هذه، وعوما أشير له في مقالي هذا بالعقلية السحرية.
النمط الفكرى الذى يفسر ما يحدث فى الواقع من أحداث جسام وصغار باعتبارها تدخلاً إلهياً مع هذا وضد ذاك من الأفراد أو الجماعات أو الشعوب مناصرة لطرف ضد الآخر (حتى مباريات كرة القدم لا تسلم من هذا النمط الفكرى فنجد الآن في مصر "فرق الساجدين" الذين يسجدون لله شكراً بعد إحراز كل هدف- ولا أدرى بماذا يفسرون إحراز خصومهم أهدافاً ضدهم هل يرونها غضباً من الله عليهم وهجرانه لهم؟!). هذا النط الفكرى الذي يقفز فوق الواقع ويرفض أو يعجز عن أن يرى حركة الأشياء والحوادث حسب قانون المسببات والنتائج (cause and effect) وحسب الأسلوب العلمي في التفكير الذي يحترم العلم والمنطق، هو ما يصدر عن العقلية السحرية، تلك العقلية التي بدأ بها الإنسان رحلته التطورية الطويلة على الأرض، عندما كانت مراكز عقله العاطفيEmotional أكبر وأقوى من مراكزه المنطقية Rational التي نمت وتطورت بعد ذلك حتى أصبحت قادرة على فحص وفهم نفسها وعلى فحص وفهم العالم من حولها، كاشفة أسراره ومستنطقة قوانينه التي خلقها عليه خالق الكون.
هذه العقلية السحرية هي ظاهرة إنسانية عامة بالطبع وليست خاصة بالإخوان المسلمين فقط في مصر، فهي موجودة في كل مجتمع وكل جماعة بشرية – ولكن الفرق هو فى نسبة انتشار هذه العقلية في المجتمع- ومدى تمكنها من النخبة القيادية التي تقود المجتمع ثقافياً وسياسياً واجتماعياً، ففي المجتمعات الغربية اليوم – التي تمثل التطور الحضاري الأعلى في لحظتنا التاريخية – لا تكاد تجد أثراً لهذه العقلية السحرية بين النخب القيادية لمجتمعات هذه الدول- مع وجود الاستثناء لكل قاعدة بالطبع. وكمثال حديث على هذا حادثة لاعب كرة القدم الأمريكي تيم تيبو الذي شوهد يركع على قدمه ويحني رأسه راسماً علامة الصليب بعد فوز فريقه "دينفر برانكوز" – مما أثار عاصفة من التعليقات بعضها مؤيد ولكن معظمها معارض لاقحام الدين فى الرياضة، ولكن أحداً لم يمنعه فهذه حرية شخصية، ولكن النخب الإعلامية والثقافية في المجتمع حرة أيضاً في انتقاد ما يفعله، فراحت البرامج الفكاهية تسخر منه سخرية شديدة مما سيجعل هذه ظاهرة فردية تمر وتنتهي ولا تتحول إلى هوس جماعي يقحم مراسم التدين في الساحة الاجتماعية العامة التي يحرص الأمريكيون أن تظل ساحة مواطنة مشتركة بعيدة عن المظاهر الدينية بقدر الممكن، مع عدم منع أحد من ممارسة شعائره الدينية في أماكن العبادة أو أماكن سكنه، وهنا الفرق الذي أتحدث عنه، فالنخب في المجتمعات الغربية تحرص على قيم المواطنة العامة التي لايمكن الحفاظ على طهارتها وحيادها إلا بإبقائها بعيدة عن الممارسات والاشتباكات الدينية.
ولكن في مصر خاصة والمجتمعات العربية بشكل عام، ما يزال الخلط على أشده بين الممارسات والشعائر والمظاهر الدينية وبين كافة جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية فتجدها في كل مكان وعلى كل لسان في الشوارع والمكاتب والحافلات والتجمعات والهيئات والنقابات والإعلام والمدارس والجامعات... تجد هذه كلها مستغرقة بشكل كامل في مظهريات الدين وأدبياته وأساليبه ولغته الصوتية والجسدية، وخلال هذا الاستغراق المخل ترتع العقلية السحرية وتطلق لنفسها العنان مقدمة تفسيراتها اللاعلمية اللامنطقية لما يحدث وما يقال – قافزة بجرأة وجهالة تحسد عليهما فوق الواقع وفوق العقل والمعقول، متواجدة دائماً فى فضاء مجازى يقع بين الأرض والسماء ولا يستند على أي منهما، تقيم هذه الذهنية بشكل إنفصامي بجزء منها فى الواقع وجزء آخر فى منطقة متخيلة مختلقة من غلالات الأوهام والأحلام والآلام والشبقيات الإنسانية المتوغلة في الغريزة المهيجة بالعاطفة الدينية والجسدية معاً.
ورغم أن العقلية السحرية تملك القدرة على التعايش مع آليات الواقع اليومى وتستطيع إجادة التعامل مع أدواته بما في ذلك أكثر المنتجات الصناعية والتجارية والتكنولوجية حداثة- إلا أنها تفشل في القدرة على الإحاطة بالمنطق العقلي والمنهج العلمي وراء هذه المنتجات والآليات، فهي قادرة على استعمالها وليست قادرة على إنتاجها أو أبتكار مثلها أو ما يتجاوزها، لذلك نجد مجتمعاتنا غير قادرة سوى على استهلاك ما تنتجه العقلية الواقعية العلمية. كما تعجز العقلية السحرية في مجال الرؤية المستقبلية وما يتطلبه ذلك من قدرة على استيعاب الواقع الحقيقى وفهم حركته وفلسفته ومنهجه حتى يمكن تجاوزه والتخطيط العلمي للمستقبل الممكن، فالعقلية السحرية تقف متجة للوراء واضعة الماضي والسلف نصب عينيها، مقيمة إقامة وجدانية شبه كاملة فى التاريخ – متلبسة تلبساً شبه شامل للتراث بكل أدبياته وأقواله ومنطقه البدائي ونظرته المبسطة للكون والحياة، ولذلك تفشل دائماً في رؤية المستقبل أو حتى ملاحقة الحاضر وفهم ومعالجة اساليبه وقضاياه، فعندما تمسك هذه العقلية بمقاليد الامور في مجتمع ينحدر بالضرورة ويتخلف حضارياً.
هذه العقلية السحرية هي ما يقدمه لنا التيار الديني الصاعد الآن لتولي مقاليد الأمور في مصر وعدد آخر من بلدان الثورات العربية، ففي هذه البلدان قام الشباب بالثورة ولكن خطف الإسلاميون الثمرة، ورغم أن التيار الإسلامي في تونس – أول البلدان الثائرة- يبدو أكثر وسطية واتساعاً فكرياً- بسبب ارتفاع مستوى التعليم بشكل عام فى تونس لسنوات عديدة قبل الثورة بسبب الرؤية المدنية للزعيم التونسي الراحل الحبيب بورقيبه وأصراره على تطوير العقلية السحرية إلى عقلية علمية عصرية مستنيرة، إلا أن بقية الدول العربية التي لا تتمتع بمستو مماثل من التعليم والمدنية مرشحة لأن تهوى أكثر فأكثر فى قبضة العقلية السحرية الصاعدة المتمكنة، وعليه فإن ما عانى منه المجتمع المصري لأكثر من ثلث قرن من سيطرة العقلية السحرية على الشارع والوجدان المصري وما حملته من تراجع للعلم والتعليم وصعود مستمر لمظهريات وأدبيات وبهلوانيات التزمت الديني المشجع للغلو فى التحريم والتكفير والسمع والطاعة والتقوى المظهرية الزائفة وشطط الشعوذة والأحجبة والسحر والجن والعفاريت والتدخلات الإعجازية المتخيلة فى كل كبيرة وصغيرة من حياة الناس، وطوفان الفتاوي المنحرفة عن جادة الصواب المجافية للسليقة الانسانية والتي تنهال على الناس من أفواه الدعاة والمدعين في جرأة واجتراء على الحق والعقل والذوق السليم- كل هذه مرشحة لأن تتمادى وتتوسع وتتوغل وتتغول على كل شئ آخر، فتقتل الفكر والعلم والابداع والفن والحرية والكرامة الإنسانية، وتصبغ المجتمع بلونها الأوحد الأسود الذى بالإضافة إلى كل هذه التشوهات يعيد وأد المرأة وتكفينها وهى حية ترزق.
رأينا هذه العقلية السحرية وهي تتحدث وتتصرف أمامنا في الساحة السياسية العامة وفي مجلس الشعب المصرى فرأينا فيها ومعها العجب العجاب- هذا يرفع الآذان في وسط الجلسة، وذاك يطالب بعدم تعليم اللغة الإنجليزية في المدارس، وهذا يرفض الوقوف حداداً على رحيل بابا الأقباط، وذاك تشغله قضية ماذا ترتدي السائحة على الشاطئ، ثم رأينا صفقات ورقصات سياسية وتراجعات ومراجعات فقهية تبرر نقض العهد والتنصل من الوعد، فرأينا الإخوان يخلفون كل عهد قطعوه ووعد قدموه، ويتخلون عن شباب الثورة وميدانها بل يهاجمون الثوار وينظمون المليونيات ضدهم مناصرة للمجلس العسكري قبل أن ينقلبوا عليه، واصلين فى النهاية إلى الافتضاح السياسي الأعظم حين قدموا مرشحين اثنين للرئاسة، مما دفع الآخرين إلى ترشيح اللواء عمر سليمان ذراع الرئيس المخلوع، فما دام قد نزع الجميع برقع الحياء والأدب السياسي، فليفعل كل ماشاء، وتدخلت عقلية النخبة المصرية المعتدلة في النهاية ممثلة في القضاء الاداري ولجنة الانتخابات كاسحة المتشددين من التيار الديني ومن الفلول، ومبطلة الاختيار الاخواني المعيب للجنة التأسيسية للدستور، ليعود بعض التعقل للساحة السياسية في مصر، ولكن بعد افتضاح الإرتباك الهائل والتقلب المعيب لهذا التيار الذي يرفع الرايات الدينية ويحشد لنا الآيات في خطابه السياسي المتلاعب.
أهمية مناقشة "العقلية السحرية" الآن تنبع من اعتقادى بأن الانحدار الحضارى الذي وصلت إليه مصر على يدي الرئيس المخلوع لم يكن فقط بسبب فساد نظامه وغيبوبته السياسية وضحالته القيادية – ولكن أيضاً بسبب أن الحياة المصرية قد وقعت منذ السبعينات فى براثن العقلية السحرية المتمثلة في التشدد الديني والتطرف الفكري والسلوكي لتيار الإسلام السياسي برمته من الإخوان للجماعات الاسلامية المختلفة المتفرخة عنهم وصولا إلى السلفيين. لا يستطيع مجتمع تمكنت العقلية السحرية الممثلة في هؤلاء من كافة مفاصله أن يحرز أى تقدم حضاري بل هو محكوم عليه بالتقهقر والانحدار إلى قاع الأمم بكافة المقاييس الدولية كما حدث لمصر على مدى ما يقرب من أربعين عاماً.
لقد تخلصت مصر من العقلية السحرية على مستوى قادتها ونخبها الفاعلة مرتين فقط فى تاريخها الحديث، مرة على يد محمد علي وأخرى على يد عبد الناصر، وفي الحالتين حققت مصر قفزة نوعية هائلة في فترة زمنية صغيرة، في الحالتين حققت الدولة وقائدها رؤية مدنية علمية عصرية قامت بإقصاء قادة العقلية السحرية من الساحة وإعادة تدشين الإسلام المصري الوسطي الذي يتعايش مع العصرية ومع الإنسان. ليس صدفة أن مصر عرفت في الستينيات - في فترة غياب الإخوان عن الساحة الفاعلة - أزهى عصورها الثقافية والعلمية والصناعية والفنية والابداعية والتقدم الاجتماعي والانفتاح العصري، وليس صدفة أن مصر بدأت مسيرة انحدارها الحضارى المتسارع بعد رحيل عبد الناصر مع صعود تيار الاسلام السياسي وتوغله في الجامعات والنقابات والهيئات والمصالح المصرية المختلفة حتى وصلنا إلى مجتمع يصلي ولا يعمل، يرتل ولا ينتج، يؤدي المناسك ولا يؤدي ما عليه من واجبات، ويؤذن فى مالطة التى خربت.
أن يقوم أصحاب العقلية السحرية بقيادة دولة هو الحكم على الأمة بالانحدار حتى الانقراض، محاولة التشبه والتمسح بتركيا محاولة فاشلة لأن الإسلام التركي لم يصل إلى ما هو عليه اليوم من وسطية ورؤية عصرية مدنية إلا بعد الثورة الشاملة على العقلية السحرية التى قام بها كمال اتاتورك الذي انتزع مجتمعه من براثن الدعاة والسرير المرضي لحكم ومفهوم وفكرة الخلافة والحكم بأمر الله، فوضع بلاده بصرامة وإصرار على طريق الدولة الحديثة والمجتمع العصرى والذهنية العلمية، وقد نشأت عدة أجيال على هذا الدرب الأتاتوركى الذي كان متطرفاً بلا شك حتى نجدها اليوم تعود إلى حالة من التوازن بين دور الدين فى المجتمع وبين دور الجوانب الإنسانية الأخرى لكي يتعايش معها لا أن يسيطر عليها أو يطردها، وإلى حد ما قام كل من محمد علي وعبد الناصر بدور مشابه بانقاذهما لمجتمعهما من تسلط الدعاة واقتحامهم لكافة مناحي الحياة ووضع الدين في سياقه الطبيعي الصحيح فاستطاعا تحقيق نهضة لا ينكرها إلا المتضررين منها من أصحاب العقلية السحرية.
التشدد الديني يعتمد على الاتباع والنقل، بينما تعتمد الحضارة وتؤسس على الابداع والنقد، ولذلك ينحسر أحدهما حين يصعد الأخر، الإسلام السياسي الذي روج شعار "الاسلام هو الحل" لا يملك حلاً لقضايا الحضارة العصرية ناهيك عن الحل للقضية الروحية التي يختزلها فى الوعظ والإرشاد والمعونة الاقتصادية. لن يتقدم مجتمع تكون الدروشة الدينية هي هويته الأساسية، لم تتقدم أوروبا سوى بنقلة نوعية من قيد الاتباع إلى حرية الإبداع فالابداع هو جوهر التفوق الغربي وجوهر كل تفوق حضاري، وهو مفتاح القوة والتقدم عبر التاريخ البشري.
على القيادات والنخب السياسية والثقافية فى مصر والعالم العربي اليوم مواجهة شعوبها بهذه الحقيقة، وعليها مطالبة جماهيرها باعتناق الإبداع كأسلوب وحيد للخلاص من التخلف والنهوض من المستنقع الحضاري الحالي. نعم الديموقراطية هي الحل – ولكن لا ديمقراطية مع خلط الدين بالسياسة كما تفعل العقلية السحرية، ولا ديمقراطية بلا حرية فكرية – والحرية الفكرية هي في النهاية من ستفضح خطل وخطر العقلية السحرية وتحصن الاجيال القادمة من فيروسها الوراثي المدمر.
كاتب من مصر يقيم في نيويورك