1ـ الفرد في كماشة الجماعة: 1.1 ـ عملت رواية “برهان العسل”(1) على إبراز جانب مهم من “متخيل الإيروتيكا” المتمثل في المستوى “المعرفي” الذي دونته كتب الفقهاء، وكان بداية الطريق أمام الشخصية الروائية المحورية لاكتشاف الذات والتعرف على جسدها ورغباته وغرائزه، لذلك فرواية سلوى النعيمي “مقدمة” ضرورية لفهم “متخيل الإيروتيكا” كفرع أساس من فروع “المتخيل المختلف” الذي نبذته المجتمعات لأسباب متنوعة ومتعددة بتعدد واختلاف وتنوع الثقافات والمعتقدات والعادات والتقاليد. أما روايتا لينة كريدية: “خان زاده”(2) و”نساء يوسف”(3) فقد اشتغلت فيهما الكاتبة على مكون “الشخصية الروائية” وعمدت إلى استنطاق مكنونها الباطني وإلى استكشاف خفايا الجسد وحاجاته وصراع المرأة مع التقاليد والعادات والأحكام المسبقة خلف الأسوار العالية لبيوت العائلات المرفهة، تلك صورة عن معاناة المرأة “ربة البيت” التي تقع تحت رحمة الزوج والأبناء وكبار العائلة لأنها بدون سند يدعمها ماديا أو حتى معنويا. وقد رصد السارد (المؤنث) مجموعة من العلاقات الشاذة والمشبوهة والمحرمة من اغتصاب واعتداء على الأطفال وسحاق وزنى وغيرها، وكلها ممنوعات ومحرمات رفضها المتخيل الأدبي “السائد” وتجاهلها، انطلاقا من رؤية خاصة للأدب ووظيفته الاجتماعية.
2.1 ـ مسعودة بوبكر من تونس صاحبة عدد من المجاميع القصصية والروايات تقترح جانبا آخر من العلاقات المحرمة في “المتخيل المختلف”، والموضوعات الجديدة على الرواية العربية في عملها الجريء والحداثي الموسوم “طرشقانة”(4). تعرض فيه قضية غاية في الأهمية وتخص فئة اجتماعية منبوذة عاجزة عن الإعلان عن نفسها أمام السُّلَطِ التي تحيطها: سلطة المجتمع وسلطة الدين وسلطة الأعراف والتقاليد ثم لأن قضيتها ليست عادية ولا مألوفة، وهي: التحول الجنسي، أي رغبة الرجل في أن يصبح أنثى لأنه لا يجد ذاته في الجسد الذي يسكنه، فهو يستقبل العالم كامرأة، أما “مثليته” وهي مركز من مراكز “متخيل الإيروتيكا” المختلف الذي تحدثت عنه سلوى النعيمي معرفيا في “برهان العسل” وتحدثت عنه لينة كريدية خاصة في روايتها “نساء يوسف” حيث رصدت الوجه الآخر للمثلية بين النساء المتعارف عليه اصطلاحا بـ “السحاق”.
وقد رصدت أسبابه ومنها خاصة إهمال الزوج لزوجته وحبسها في البيت عالي الأسوار مع “الخادمات” و”الصديقات” اللائي يعانين المعاناة ذاتها: الإهمال والنبذ والوحدة والعزلة.
3.1ـ لم تعجب من رغبته في أن يصبح أنثى بل وعدته أن تكون معه يوم يقتنع بعرض حالته على أخصائي والقيام بالعملية الجراحية إن أثبت الأطباء إمكانية نجاحها وقابلية جسده لذلك. حدثها عن ميله الجنسي لعالم الذكور، وكيف لم يهتز في حياته لأنثى إطلاقا، فبقدر ما هو قريب من عالمها، ينفر من فكرة مضاجعة أنثى ولو على سبيل الفضول.” ص (57( يصدح “مراد الشواشي” المنحدر من عائلة كبيرة من “أعيان” تونس، ومن “سيمون” أم فرنسية مناضلة ضد استغلال الدول المتقدمة للدول الفقيرة في خمسينيات القرن الماضي ومن أحمد الشواشي المناضل الوطني الذي اغتيل بفرنسا من أجل قضية سياسية وطنية، وهنا المفارقة، يصرخ مراد في وجه أفراد عائلته بأربع لغات ولهجات: “نحب نولي مرا...
“JE VEUX DEVENIR FEMME”
“I WANT TO BE WOMAN”
“VORREI ESSERE DONNA” ص (13)
ويصرخ في وجه جدته “نانا قمر” وقد تربى في كنفها صغيرا بعد قتل والده وموت أمه: “يا “نانا” نحب نرتاح... مانيش في قشرتي قول لعمي يعطيني رزق بابا ... نحب نهج ... نحب نبدل قشرتي ... تو ما عادش تشوف ها الوجه...[ويضيف] “أنا نحب نولي مرا...يا “نانا” مرا...” ص{36-37}
وجاء في رسالة منه إلى صديقة من عائلة أمه واسمها “أنوشكا”:” (...) ثم إني يا عزيزتي أريد أن أصبح أنثى!
علني ألد الوحش الذي لم تلده أنثى من عائلة الشواشي...
أشحنه في رحمي بكل رغباتي وعنف وحامي..” ص {69}
تعيش الشخصية الروائية “مراد الشواشي” حالة قلق واضطراب وخلل في التكوين بين جسد رجل ورغبة امرأة أنثى ليس رغبة في الجنس بل رغبة في الإنجاب، هناك حالة تقترحها علينا رواية “طرشقانة” جديدة ومفاجئة في وقتها وفي الرواية العربية، حالة تحويل الجنس من رجل إلى امرأة.
4.1ـ ما الذي يجعل من هذه “الموضوعة” ركنا من أركان “المتخيل المختلف” عامة و”متخيل الإيروتيكا” خاصة؟
ما يجعلها كذلك أن دافع “التحول الجنسيLa transsexualit”“ يتمثل في “المثلية” وهي تعبير عن خلل بين الصورة الخارجية “جسد رجل” والميل الجنسي “إلى الرجل” ثم الرغبة في “الإنجاب” وهي رغبة “الأنثى”. وما يجعلها كذلك أيضا المواقف الرافضة والآراء المستهجنة:
* الأسرة العائلة: ترفض العائلة مساعدة مراد في تحقيق “حلمه” بالتحول الجنسي، لأنها تريد عقبا للفقيد أحمد الشواشي المناضل القتيل من أجل القضية الوطنية “تحرير تونس من الاستعمار الفرنسي”، وهو ما لا يتحقق يتحول “مراد” إلى “امرأة أنثى”.تقول “نانا قمر”: “يا وعدي ... اشكون يحمل اسمك يا أحمد يا شواشي... لعنة “الفنيق” اتبع فينا لوالد لولد ... خليوني ننوح نحسبو مات...” ص {144}
*الفقيه”: يرفض الفقيه التحول الجنسي لأنه يتعارض مع الدين وهو من عمل الشيطان، لأنه تغيير في خلق الله الذي يصور المخلوقات في الأرحام حسب مشيئته. يقول الشيخ:” أستغفر الله “ وما تشاؤون إلا أن يشاء الله... بل هو الإضلال من إبليس لو كنت تعلم قول تعالى:” قال فبما اغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، ولا تجد أكثرهم شاكرين” صدق الله العظيم” ص (138(
*الأصدقاء: يرفض “حمَّادي الغول” حلم صديقه “مراد” لأنه يراه حلما أرعن، يقول: “الأحوال تتغير... والناس تتغير إلا أنت يا مراد ... وهذا الحلم الأرعن يجثم على قحف دماغك ويشد أضلاعك...” ص(122(
إذا كانت هذه الأطراف الاجتماعية ترفض “حلم” مراد الشواشي فإن هناك أطرافا أخرى تناصره وتدعم حلمه وستساعد في جمع مقدار من المال الذي سيحتاجه في العملية الجراحية بفرنسا، وهما: نورة الكاتبة وزجة ابن عمه “كريم الشواشي” الكاتب والأستاذ المسرحي، وليلى زوجة ابن عمه “نور الدين الشواشي” التاجر ثم أنوشكا الموسيقية عازفة الكمال الشهيرة صديقة من عائلة أمه “سيمون”، وهي من شجعته وحددت له موعدا مع الطبيب المختص.
5.1 ـ تندرج رواية “طرشقانة” ضمن تصورنا حول مفهوم “المتخيل المختلف” في الخطاب الروائي العربي الحديث والمعاصر وتوضح وجها من وجوه “متخيل الإيروتيكا” المنبوذ والمرفوض والهامشي الذي تمثله في صورة عنيفة وجديدة على المتخيل العربي هي صورة “التحول الجنسي”.
تعد المثلية في العالم العربي من الموضوعات المحرمة والمرفوضة داخل المجتمع لأنها مقيد بالكثير من الأحكام والتصورات الفكرية، وتقترن في المعتقد والمتخيل الجمعي بكل أشكال الكارثة، لذلك فالكتابة عنها تعد تجاوزا للخطوط الحمراء التي رسمتها المجتمعات العربية الإسلامية.
لقد تناولت العديد من الروايات العربية موضوع “المثلية الجنسية” الذكورية (اللواط) والأنثوية (السحاق)، كما سبق أن بيناه في هذا العمل، لكن مسعودة بوبكر قد تكون “أول كاتبة عربية” تناولت موضوع “التحول الجنسي” بمثل هذا الوضوح والاشتغال والدراسة والتحليل دون أن تسقط روايتها في الإسفاف أو في الانحلال أو في الكتابة الفضائحية، لقد قامت بتحليل دقيق لنفسية شخصية “مراد” وقلقها، ووضعت مجموعة من الأسباب والدوافع المجتمعية التي تسببت في “شرخ هوية” شخصيتها، وعاشت الكاتبة مع “مراد” كل الأحوال والحالات التي تقلب فيها فكره وأمله، وعاشت معه قلقه واضطرابه ومعاناته مع الصبية في بيت الأسرة الكبير وفي الحواري الضيقة للمدينة العربية “العتيقة”، وصراعه مع أهله من أجل الحصول على ميراث أبيه، وقد كشفت الكاتبة عن علاقات شاذة بين مراد وابني عمه “كريم” و”غازي” ومع آخرين مثل صديق دراسته “حمادي الغول”.
مما يحافظ للرواية على مكانتها وأهميتها وقيمتها الأدبية اللغة التي كتبت بها، وهي لغة عربية فصيحة لكن ذات مستويات سردية متنوعة سنبينها في حينها، ولهجتها التونسية التي وظفت توظيفا جماليا وأسلوبيا أضفى على “قصة” الرواية نكهة وطابع “المحلية”، ثم إن رواية مسعودة بوبكر ليست رواية “موضوع” ورواية إيديولوجيا وموقف ورأي في قضية مستجدة أو قضية مطمورة ومنبوذة، بل هي رواية تجريبية حديثة اجتهدت على مستويات متنوعة في “الخطاب” وفي “القصة” مما يجعلها تتبوأ مكانة مميزة في مدونة “الرواية التجريبية العربية”، خاصة الرواية التي تكتبها المرأة العربية - اليوم - على مشارف الألفية الثالثة التي شهدت العديد من التغييرات والتقلب في الأفكار والتراجع في سلم القيم وسقوط قوميات كبرى وصعود (إحياء) طوائف وأقليات، كما شهدت ثورات عربية صاخبة موازية لأزمات مالية واقتصادية عالمية كادت أن تطوح بدول عظمى، وما تزال آثارها مستمرة.
2 ـ مقومات التحديث في “طرشقانة”:
1.2 ـ يقول السارد: “هبَّ مراد واقفا. تبعثرت الصفحات من ملفها البنفسجي: لماذا يا نورة؟ ... أتخططين هكذا لمستقبلي... أنا لست ندى... ولن أكون ندى في مثل عجزها عن الحب والتأقلم... ثم لم استحالة أن أكون أمًّا؟ وحلمي بالولادة... بالإنجاب بأن أكون لطفلي غير ما كانت معي سيمون وأحمد الشواشي... تبا لكم جميعا... تبا لك يا نورة. أي عدوان هذا... أكان لابد أن ينبش قلمك في دائرتي هذه المرة؟ أكان لزاما عليك أن تغرزيه كنصل في عمق الجرح؟ لماذا تجتاحين بفضولك غيب أيامي؟ لو أطلقت عليَّ الرصاص لكان أرحم... لو دفعتني من حالق إلى غور سحيق لكان أرحم... تبا لصحائفك هذه تستبق حلمي. إلى الجحيم كل هذه الأوراق.” ص (148-149(
في هذا المجتزأ “المونولوج” يصرخ فيه “مراد” معبرا عن صدمته مما قرأه من مخطوط رواية قادمة لنورة زوجة ابن عمه كريم الشواشي الكاتبة، لكن “وظيفته السردية” تفصح عن حقيقة “صيغة” السرد في رواية “طرشقانة”.
يتوهم القارئ على امتداد الصفحات السابقة على المجتزأ أعلاه بأن الرواية اعتمدت على “التداخل” بين زمنين لحكاية واحدة؛ زمن تونس الذي عانى فيه مراد الشواشي من المضايقة في البيت والمدرسة والشارع، وعانى فيه من سوء الفهم والتدخل في “حلمه” الذي يعده حقا من حقوقه الشخصية واختيارا من اختيارات الفرد التي لا تعني الجماعة ولا المجتمع في شيء ولا يلتفت إليها ولأنها لا تؤثر على مساره وقضاياه الكبرى الاقتصادية والسياسية، ثم زمن فرنسا حيث خضع مراد الشواشي لعملية جراحية ناجحة حققت حلمه بأن صار امرأة وأنثى جميلة وناجحة في حياتها العملية (الرسم)، قبل أن تواجه معاناة من نوع جديد: زمن مراد الشواشي في تونس وزمن ندى الشواشي في فرنسا.
يكشف “المونولوج” أن الصيغة السردية التي قامت عليها رواية “طرشقانة” اجتهاد تجريبي يقحم القارئ في عملية البحث والاكتشاف وإعادة البناء لأفكاره الناجمة عن “التوقع” الخاطئ للقراءة الأولى. ما هي حقيقة البناء “السردي” في الرواية؟ إنها رواية تقوم على “سرد متوازٍ” بين قصتين مختلفتين، “تستبق” إحداهما الأخرى وترسم لها مستقبلا لما يتحقق بعد، وتجمع بين محكيين “متناوبين” لكل منهما مساره الزمني المستقل، كالآتي:
*قصة “مراد”: محكيها مزدوج يراوح بين “الاسترجاع” و”المحايثة” أي أنه تقف في اللحظة الصفر (الحاضر: تزامن السرد والواقعة المروية، والسارد ممثل بتدخله)، وهي تسرد صراع مراد الشواشي مع أهله للحصول على نصيبه من تركة والده طمعا في تحقيق حلمه الذي يحقق له إنسانيته ويصالحه مع ذاته، يقول: “أتتصالحون جميعا مع أجسادكم وأدمغتكم وتستنكرون عليَّ ذلك؟ إنكم تمارسون الحب. تعشقون وتتناسلون... ترفّ عاطفة الحب في قلوبكم إما بردا وسلاما أو حيرة وشقاء... المهم أنكم تعيشونه سليما وليس مسخا! إنني أريد أن أعيش داخل جسدي مطمئنا وهو يعلن هويته الصحيحة!...” ص {86-87}
*قصة “ندى”: محكيها “استباقي” والسارد فيه ممثل كما في المجتزأ أدناه، يفترض حياة “ندى شواشي” جديدة بعد العملية الجراحية وخلال إقامتها ببيت جدها “ألان دي بوا” بعد أن التحق بزوجته “سوزي” وابنته “سيمون”، كما في التعريف الآتي:” أنا ندى حفيدة السيد آلا ندي بوا الذي التحق بسيمون وسوزي قبل أعياد المسيح بأسبوع من السنة الفارطة... سليل عائلة البارون دي بوا، المزارع النورمندي... أنا ندى شواشي أحمل في شراييني دماء سيمون دي بوا.” ص (74). تسرد القصة هموما ومعاناة مختلفة عن السابقة التي عاشها مراد شواشي، وهي التي ستعصف بحلم مراد وتجعل مصيره مجهولا بعد اختفائه بين الموت والتشرد والدروشة.
إذن، ترمي قصة “مراد” إلى تصحيح الهوية الجنسية بينما تسعى قصة “ندى” إلى توقُّعِ المشاكل التي تنجم عن السكن في جسد مختلف غير الذي ولد فيه الكائن. ولإثارة اهتمام القارئ، ما دام “نادرا ما نحكي لأجل متعة الحكي، ولكن لكي نؤثر، نغري، ونستقطب...”(5) ص (102)، قامت الكاتبة بتركيب السرد وتعقيده، مما منحه هويته “التجريبية والحديثة” في آن، كما بينا. لكن هل هناك ملامح أخرى يمكن اعتبارها داعمة للتجديد في رواية مسعودة بوبكر “طرشقانة”؟
2.2 ـ لا يقتصر التجديد ولا التجريب على مستوى “الخطاب”، أي على مستوى “الصيغة السردية” و”المحكي” ولكن يكون أيضا على مستوى “القصة” بناء ومحتوى، لهذا فموضوعة “التحول الجنسي” أو قضية “الجندر Gender”(6) كما تطرح في الكتابات النسوية حاليا أو “تصحيح الهوية” كما تقترح رواية “طرشقانة”.يشمل التجديد والتجريب اللغة السردية سواء من خلال تعدد الأصوات السردية الذي يبدد سلطة السارد الواحد والكلي المعرفة، وأيضا يكسر خطية السرد والمحكي الواحدي البعد، أو من خلال تنوع مستويات اللغة السردية التي يمكن حصر بعضها كما يلي:
*لغة فصيحة مشذبة (مهيمنة(
*لهجة محلية (وظيفية(
*لغة شاعرية متدفقة (متأملة وباطنية مونولوج(
*لغة حجاجية (حوارية وسجالية(
*لغة إخبارية (تعرف بالأعلام والوقائع التاريخية}
*لغة ذاتية حميمة (ترسلية لغة الرسالة}
*لغة فارغة (الصمت والحذف)، وهكذا...
تبرز ملامح التجديد في رواية “طرشقانة” تصارع القيم والأفكار وتجتذبهما بين المعتقد الديني والموروث من عادات وتقاليد وأعراف وأحلام رافضة لكليهما طامحة إلى تحقيق “الاختلاف” و”الاستقلال” و”التحرر” من القيود، وهي أفكار صادرة عن: الفقيه والمثقف والفنان والإنسان العادي، ولكل منهم مرجعياته الثقافية المختلفة.
3 ـ مكون الشخصية الروائية:
1.3 ـ مكون الشخصية الروائية من أهم المكونات لأنه محور العناصر الأخرى فهي التي تشارك السارد في رواية الوقائع والأحداث، وهي التي تعطي الأحداث شكلها الذي تظهر به، كما أنها حاملة موقف أو مواقف الكاتب الموضوعي ومختبر اشتغاله يشكلها كيفما شاء بالتركيز حينا على مظاهرها الخارجية أو بالتركيز على سلوكها وصفاتها الداخلية بغية التنبيه على ظاهرة معينة يشهدها المجتمع.
لقد تعرض مفهوم الشخصية الروائية للكثير من النقد، وتم حصر عدد الشخصيات الفاعلة في السرد منذ تجربة فلاديمير بروب، مرورا بنقاد الشعريات المختلفة البنيوية والسيميائية الذين تحدثوا عن “خطاطة الفاعلين” المتمثلة خصوصا في البطل والمساعد والمعيق... وهكذا.
في رواية “طرشقانة” اختارت الكاتبة التعامل مع فئة مثقفة أو تهتم بالثقافة والتعليم والفنون وإلى جانبها فئة من التجار وهم من أفراد العائلة لا صلة لهم بالثقافة، كالآتي:
*الشخصيات الروائية المثقفة: مراد الشواشي شخصية المحورية في الرواية، وشخصية مشاركة بتدخلها في السرد وتوجيه دفة الأحداث، وهو رسام ينسخ بعض أعمال الفنان العالمي فان غوغ، كما أنه يضع بعض المنحوتات، يقول السارد:” كان [غازي] في نفس سنه. درسا معا في الصفوف الثانوية ولم يفرقهما إلا الاختصاص. اختار غازي قسم الفلسفة في حين اختار مراد الفنون الجميلة” ص (17)، أنوشكا صديقة سيمون وعازفة كمان مشهورة عالميا، وهي أقرب إلى مراد ومستودع أسراره وهواجسه ومساندته الرئيسية في تحقيق حلم تحوله الجنسي من رجل إلى امرأة، يقول عنها السارد: “ تلك “أنوشكا دوكلار” عازفة الكمان أو “أنو” باختصار كما يدعوها مراد. تنحدر من أب فرنسي وأم روسية لها صلة قرابة بالراحلة سيمون. عرفت في الوسط الموسيقي العالمي بأدائها الجيد لأشهر روائع “شوبان” و”شوبرت” و”باخ”.تدرس أصول الموسيقى بباريس وتشارك في ثنائيات مع العازفين العالميين وأقيمت لها حفلات خاصة بجنوب أمريكا وبلدان الشرق” ص (52)، نورة كاتبة وصحافية لها دور كبير في تعقيد الصيغة السردية لرواية “طرشقانة” لأنها تقوم بدورين داخل العمل، الأول أنها شخصية فاعلة ومقربة من مراد الشواشي تشاركه مشاريعها الأدبية ويشاركها همومه الخاصة ومشاغله وقلقه الوجودي، وهي المرأة المتعاطفة معه والمساهمة في جمع بعض الأموال لتمكينه من السفر لإجراء العملية الجراحية، وهي أيضا التي ستدمر حلمه ومشروعه بتدخلها عبر كتابة روايته واستباق الأحداث وطرح أسئلة حقيقية وعميقة على شخصية مراد بعدما سيصبح أنثى، مثل التأقلم مع المسكن الجديد “الجسد الجديد والهوية الجديدة”، والتساؤل هل يمكن لمراد أن يكون امرأة كاملة قادرة على الإنجاب؟ ونورة زوجة كريم الشواشي ابن عم مراد و”صديقه” يزوره كلما أعيته الحيلة من الاقتراب منها لحاجاته الجسدية، أي أنه يشاركه علاقة شاذة غير دائمة. يقول السارد:” “سي كريم” الممثل الكبير كسر النظم المتعامل بها وتزوج من امرأة اختارها دون استشارة أهله.. امرأة كاتبة، تردد الصحف اسمها... لها خمسة مؤلفات والبقية تأتي. لا تفرغ حقيبتها متنقلة بين الندوات التي تعقد حول شؤون الفكر والأدب” ص (24)، كريم الشواشي ابن عم مراد الشواشي وهو ممثل وكاتب وأستاذ المسرح. يقول السارد:” “كريم الشواشي”.. ابن عم مراد رقم 3 أو كريم الممثل كما تدعوه الحاجة قمر، رجل مسرح.
“كريم الممثل”، هكذا بكل بساطة رغم شهاداته العليا في الفن المسرحي والدراما والإخراج. فقد قام بأدوار هامة على ركح المسرح وشارك ضمن عروض عديدة خارج الوطن وألف النصوص المسرحية وأخرجها للعديد من الفرق. تفرغ لتدريس أصول هذا الفن العريق لكنه ظل بالنسبة إلى “الحاجة قمر” “كريم الممثل”...” ص (23(
*الشخصيات الروائية الفاعلة: نانا قمر أقوى شخصية في عائلة آل الشواشي وأكثرهم حنانا على مراد الذي كانت ترى فيه امتدادا لابنها المغتال أحمد الشواشي (الجدة الحاضنة)، غازي الشواشي ابن عم مراد ورفيق دراسته وأكثر أفراد العائلة مشاكسة له (مدرس الفلسفة الفاشل)، نور الدين الشواشي ابن عم مراد وزوج ليلى (يشكو العجز الجنسي) ليلى زوجة نور الدين الشواشي وتتميز بتذمرها من عجز زوجها الذي يتركها دون إشباع فتقضي ليلتها مستعينة بأقراص النوم والصداع (آلام العجز والنبذ والإهمال الجسدي عدم الإشباع الجنسي)، أحمد الشواشي والد مراد وقد اختار النضال من أجل تحرير وطنه تونس من قبضة المستعمر الفرنسي إلا أنه اغتيل خارج أرض الوطن (حضور روح المقاومة والنضال وضحية الاغتيال)... وجورج حازم وحمادي الغول وعم حميدة الجربي ثم الشيخ الفيلالي.
2.3 ـ وقد حرصت الكاتبة مسعودة بوبكر على تتبع مراحل تطور شخصية مراد الشواشي داخليا ورصدت قلقها وحيرتها وتقلب فكرها، وأبرزت ملامحها العدوانية والهجومية كلما تعلق الأمر بموضوع “التحول الجنسي” الذي يعتبر مراد حلم حياته ومشروع وجوده. استطاعت الكاتبة أن تبرز عبر شخصياتها الروائية المتخيلة أكثر الموضوعات صعوبة، وأكثر الموضوعات حساسية، إضافة إلى ملامسة القضايا الاجتماعية والسياسية التي تجلب دائما حجاجا ومساجلات لا تنتهي.
وقد ساعدت الشخصية الروائية على تجلية جوانب مهمة من فضاء المدينة العتيقة ودورها في الحركة الوطنية والمقاومة ضد المستعمر، والاهتمام بفضاء المدينة أخذ حيزا كبيرا من اهتمام الكاتبة في روايتها “جمان وعنبر” كما أبرزت جوانب من اهتمامها بالموضوعات السياسية في روايتها “وداعا حمورابي” وفي روايتها “ألف ونون”.
وأهم القضايا الكبرى التي عالجتها رواية “طرشقانة” وساهمت في إبراز خفاياها وتعقيداتها الشخصية الروائية: سؤال الهوية الجماعية سؤال الهوية الفردية مشكلة الجنس آثار العلاقات العائلية سلطة العادات والتقاليد تخبط الفرد في همومه الذاتية وابتعاده عن هموم الجماعة علاقة الذات والآخر...
رواية “طرشقانة” للكاتبة التونسية مسعودة بوبكر رواية جديدة وتجريبية وجريئة في طرحها الموضوعات الأكثر إشكالا، وهي ركن أساس من أركان “المتخيل المختلف” المضاد لما هو سائد، وتتبرز وجها من أوجه “متخيل الإيروتيكا” الذي بات موضوعة تجذب الكاتبات والكتاب اليوم بعد التحولات الكبرى التي تكاد تعصف بكل المبادئ والقيم والتصورات والأفكار التي سادت سابقا، خاصة عند المد الإيديولوجي والإيمان يدور الإنسان وفاعليته، عكس ما نجده اليوم من سيادة البعد الواحد وبخس قيمة الإنسان أمام الإيمان الأعمى بالتقنية...
ناقد أدبي من المغرب
المراجع:
1 ـ النعيمي، سلوى: برهان العسل.رواية. منشورات رياض الريس. “ 2. 2008م
2 ـ كريدية، لينة: خان زاده. رواية. منشورات دار الآداب. ط1. 2010
3 ـ كريدية، لينة: نساء يوسف. رواية.
4 ـ بوبكر، مسعودة: طرشقانة. رواية. منشورات دار سحر. ط 2. 2006م
5 ـ مجموعة من المؤلفين: نظرية السرد من وجهة النظر إلى التبئير، ترجمة؛ ناجي مصطفى. منشورات الحوار الأكاديمي والجامعي. ط 1. 1989م