ينطلق هذا البحث الذي ينشر محرر (الكلمة) في هذا العدد القسم الأول منه، من أن خيانة المثقفين، وتقاعس عدد كبير منهم عن الاضطلاع بدوره القيادي والضميري، لم يساهم في إطالة عمر الاستبداد والتخلف والتبعية في البلاد العربية فحسب ، بل ساهم أيضا في تعثر الثورات حينما انطلقت موجاتها العفوية الكاسحة في العام الماضي.

خيانة المثقفين .. وتعثر الثورة

صبري حافظ

يلعب المثقف دورا مهما في أي ثقافة وفي أي مجتمع، أو بالأحرى مجموعة من الأدوار المتناقضة والمتكاملة معا، والتي لا غنى لأي جماعة بشرية متقدمة عنها، سواء أوعي تفاصيل الدور الذي يلعبه وتبعاته أو لم يعِه. ذلك أنه بطبيعة وضعه في المجتمع الذي يعيش فيه ويمارس دوره به، ووظائفه المختلفة فيه، يقوم بدور يساهم في تعزيز هيمنة الخطاب السائد، وبالتالي المؤسسة التي تستفيد من سيادته، أو في زعزعته والتبشير بخطاب جديد قادر على أن يحدث التغيير، ويسحب البساط من تحته، ويحل محله في خلق هيمنته الجديدة.  وحتى نتعرف على طبيعة هذا الدور ومداه، علينا أولا أن نبحث في تعريف المثقف. لا التعريف التقليدي أو المعجمي الذي يصفه بالتميز بالمعرفة والموهبة والبصيرة عن بقية أبناء جلدته، ويقدمه وكأنه كائن مستقل معزول عن المحيط الذي يعيش فيه، يمارس ثقافته من برجه العاجي كما كان التصور القديم الشائع عنه، ولكن التعريف الجديد الذي طرحه أنطونيو جرامشي (1891 – 1937) على الدراسات الثقافية منذ ما يقرب من قرن من الزمان، والذي يموضعه ضمن شبكة علاقات القوى الاجتماعية والسياسية المعقدة والمتشابكة والتي تتخلل أي مجتمع، وتحدد دينامية حركته، وتمارس فعاليتها فيه، وتربط تعريفها له بطبيعة الأنشطة التي يقوم بها داخل هذه الشبكة المعقدة، والأدوار التي يمارسها في المجتمع.

والواقع أن الاهتمام المتنامي بدور الثقافة والدراسات الثقافية عامة، وبدور المثقف خاصة، هو ابن مجموعة المتغيرات الواسعة التي انتابت عالمنا المعاصر بدءا من تبدل أنماط الإنتاج، وأنماط المعرفة، وصيغ توزيع الثروة، وأشكال الهيمنة، وصولا إلى الثورة الواسعة في الاتصالات وما تبعها من عولمة تغيرت معها طبيعة علاقات الإنتاج، ونوعية تجليات الهيمنة من ناحية، وأشكال التمرد عليها وتقويض مشروعيتها من ناحية أخرى. وهو الوضع الذي طرح على صعيد البحث والتفكير أسئلة التبعية، سواء على المستوي الدولي، حيث تحول العالم إلى دول قليلة مهيمنة ودول كثيرة تابعة، أو على المستوى المحلي الذي وسع أيضا الاهتمام بمفهوم المثقف التابع، ودوره في تسويغ الهوان الوطني والتبعية، وفي تهميش المثقف الوطني الرافض لتلك التبعية، وزعزعة سلطة خطابه، وتعويق قدرته على طرح هذا الخطاب على الجماهير الواسعة والمضللة من ناحية أخرى. لذلك كله أصبح التفكير في دور المثقف ودراسته كالمشي في حقل مليء بالألغام. يحتاج من المغامر فيه إلى كثير من الدربة والحيطة والحذر.

المثقف في التصور المثالي والتقليدي:

كان جوليان بيندا Julien Benda (1867 – 1956) من أسبق الكتاب الغربيين للتنبيه لأهمية المثقف ودره البارز في مجتمعه في كتابه الشهير (خيانة المثقفين La Trahison des Clercs) الذي نبهنا إلى أهميته إدوار سعيد في كتابه (تمثيلات المثقف). وقد نشر هذا الكتاب في طبعته الأولى عام 1927، ثم في طبعة ثانية مزيدة عام 1946 عقب خروج فرنسا من محنة الاحتلال النازي لها، وخيانة المزيد من مثقفيها لها خلال تلك المحنة. وقد نبه هذا الكتاب الباكر إلى عدد من الأبعاد التي برهنت عليها معظم النظريات الحديثة في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية والتي تنطلق من أهمية اللغة، أداة المثقف الأساسية، ودورها لا في صياغة الوعي فحسب، وإنما في بلورة تصورنا لأنفسنا وللعالم من حولنا، وفي تخليق فهمنا لهويتنا سواء الفردية منها أو الوطنية. لأن الوعي بالوطنية نفسه لا يصاغ في اللغة فحسب، وإنما يلعب جنس أدبي مثل الرواية دورا هاما في تخليقه كمتخيل وطني جمعي كما برهنت دراسات بينديكت أندرسون المهمة في هذا المجال،(1) كما تلعب الصحافة هي الأخرى، وبالتالي المثقف العامل فيها، دورا لا يقل عنه أهمية في تغيير رؤية العالم، وتجذير إحساس الجماعة بهويتها. بصورة لايمكن معها الفصل بين ممارسات المثقف في المجتمع وبين وعي أبناء هذا المجتمع بهويتهم وأولوياتهم وتصورهم لأنفسهم ولدورهم ودور وطنهم في العالم المحيط بهم.

فالمثقف عند جوليان بيندا هو حامل مشعل الحقيقة الخالصة والمجسد لأفضل القيم الأخلاقية والضميرية، والمستعد للتضحية من أجلها، وهو الذي جعل الإنسانية جديرة بإنسانيتها عبر التاريخ من سقراط والمسيح حتى فولتير وسبينوزا وأرنست رينان، وصولا بعد زمن بيندا إلى سارتر وبرتراند راسل وبيير بورديو وإدوار سعيد وتشوميسكي وغيرهم. هم عنده حفدة الأنبياء ومشاعل الحق، وأصحاب الرسالات الفكرية والأخلاقية الكبرى. ولذلك فإنه لا يستخدم المصطلح المألوف Intellectuals للحديث عنهم، وإنما يستعمل مصطلحا له أصداؤه الدينية والروحية Clercs لأنهم رعاة الحق والخير والحقيقة، وأصداء مصطلحه الدينية تلك تعارض كل ما هو مادي ودنيوي، وترتفع بالمثقفين فوق العادي والمألوف. فالمثقف الحقيقي عنده له سلطة أخلاقية تفوق كل سلطة دنيوية أو مادية. فلابد للمثقف الذي يستحق هذا الاسم عنده إذن أن يترفع عن الدنايا، وأن يعرض عن المزايا المادية أو الشخصية، وأن يتجنب كل سلطان زائل. فالمثقف الحقيقي عنده هو ذلك الذي لا يسعى بثقافته وراء أي غرض مادي، وإنما يجد تحققه وسعادته في ممارسة الفن أو العلم أو الاستقصاءات الفلسفية، وباختصار في احتيار مزايا غير مادية، أو ما سيدعوه عالم الاجتماع الفرنسي الكبير بيير بورديو فيما بعد برأس المال الرمزي. ولذلك فإنه يقول بطريقة ما «إن مملكتي ليست في هذا العالم». ولا يعني هذا بأي حال من الأحوال أن المثقف عنده هو شخص معزول في برج عاجي يواصل اهتماماته المغرقة في الخصوصية، وإنما هو الشخص الذي تحركه كمثقف قناعاته بمبادئ الحقيقة والعدالة، ورغبته في إدانة الفساد والدفاع عن الضعفاء والمظلومين، وتحدي سلطات القهر والتخلف والفساد.

فكل النماذج التي استشهد بها، من سقراط وفولتير وسبينوزا وإرنست رينان، هي من هذا النوع السجالي المعارض الذي يسعى بتعبير إدوار سعيد إلى طرح الحقيقة في مواجهة القوة. حيث يستشهد بمعارضة فينلون لحروب لويس الرابع عشر، وبإدانة فولتير للاستبداد ومصادرة الحريات، ووقوف زولا ضد التعصب والظلم وتخلف الرأي العام، وتصدي رينان لعنف نابليون وحروبه، وإدانة نيتشه لبربرية ابناء وطنه الألمان تجاه الفرنسيين، وغيرها من الأمثلة حتى عصره، ويمكننا أن نضيف إليها الكثير على مد التسعين عاما التي انصرمت منذ كتابته لكتابه ذاك. هذا المثقف الحقيقي قد يتعرض للتهميش، والعزل والسجن، والتشويه وكل أشكال الصلب المادية والمعنوية، ولكنه لا يساوم على ما يعتقد أنه الحق. لأنه يعي مسؤوليته إزاء ضميره، وإزاء أمته، وإزاء التاريخ الإنساني الذي يرى بيندا أن المثقف الجدير بهذا الاسم، هو الذي يجعل هذا التاريخ إنسانيا ومضيئا، ويجعل الحياة نفسها جديرة بأن تعاش بالنسبة للجميع.

لكن للكلمة التي اختارها بعناية للإشارة للمثقفين الخونة على وجه التحديد دلالات أخرى، حيث أن معناها الحرفي ككتبة Clercs من نوع كاتب المحامي الذي يكتب ما يمليه الآخرون، لا ما يمليه عليه ضميره، هو المعنى الذي يقترن عنده بالخيانة. لأننا إذا ما نظرنا إلى المثقفين الذين شن حملته عليهم، ووسمهم بالخيانة في عنوان كتابه سنجد أنهم كانوا من النوع الانصياعي الشعبوي الذي ينشر التعصب والكذب وضيق الأفق، من أمثال شارل موراس Charles  Maurras (1868 – 1952) الذي كان أحد أعمدة تبرير خطاب السلطة الحاكمة، وهو من أرسى القواعد الأولى، عبر أفكاره عن الوطنية الأصولية أو الوطنية الكاثوليكية، لما عرف فيما بعد بالفاشية والنازية عبر تأسيسه لرابطة العمل الفرنسية Action Française التي دعت إلى التعصب الشوفيني المقيت، ووضعت اللبنات الأولى للجبهة الوطنية فيما بعد. وهو من الكتبة الذين كرسوا جهدهم لتبرير الوضع القائم والدفاع عن كل ما يصدر عنه من رؤى وقرارات. وسنجد أيضا أنه وجه نيرانه إلى أحد الكتبة المرموقين وقتها، والذي لا يقل عن موراس تعصبا وشوفينية، وهو موريس باريه Maurice Barrès (1862 – 1923) الذي كرس كل كتاباته الإبداعية منها والصحفية لبلورة فكرة اللاوعي السياسي، وكيف أنه هو الذي يقود الأمة لاتخاذ قراراتها، ولإذكاء روح التعصب وتعزيز هيمنة الوضع القائم، وإحكام قبضته على السلطة، وتهميش كل من يزعزع تلك السلطة ولو عن حق.

إذن يطرح بيندا في مواجهة المثقف السجالي الرسولي المعارض الذي يسعى بتعبير إدوار سعيد إلى طرح الحقيقة في مواجهة القوة. المثقف الذي يعي مسؤوليته إزاء ضميره، وإزاء أمته، وإزاء التاريخ الإنساني الذي يرى بيندا أن المثقف الجدير بهذا الاسم، هو الذي يجعل هذا التاريخ إنسانيا ومضيئا، ويجعل الحياة نفسها جديرة بأن تعاش بالنسبة للجميع، يطرح بيندا إزاء هذا المثقف الحقيقي مجموعة أخرى من «المثقفين» بين قوسين لأنهم المثقفين الخونة الذين تنازلوا عن سلطتهم الأخلاقية من أجل ما سماه «تنظيم العواطف أو الأهواء الجمعية». وهو تعبير من عشرينيات القرن الماضي يعادل بمصطلح بدايات القرن الحادي والعشرين تنظيم خطاب تدليسي زائف له أجندات مشبوهة ونشره باسم الحق والثقافة وهو منها براء. فقد كان تنظيم العواطف والأهواء في أيام بيندا يعني التعصب والمشاعر العنصرية العدوانية والمصالح الطبقية أو الفئوية الضيقة. أو بمعنى آخر أنه يبيع مملكة السماء، مملكة الحق والقيم السامية والحقيقة، من أجل مملكة الأرض ومتاعها المادي الزائل. وأكثر ما يغيظ بيندا من هؤلاء المثقفين هو أنهم وهم يشترون متاع الأرض الزائل، يموهون على جمهورهم بأنهم يفعلون هذا كله لا من أجل منفعتهم المادية، ونتيجة ضعفهم إزاء غوايات المال والجاه والسلطة، وإنما من أجل الحق والقيم السامية والدفاع عن الوطن.

يقول إدوار سعيد الذي نبهنا إلى أطروحة بيندا تلك في سلسة المحاضرات التي جمعها في كتابه المهم (تمثيلات المثقف)، والذي يعترف برغم نقده لها لإطلاقيتها المثالية، بأن تصوره للمثقف ولدوره لايزال مغويا ومقنعا معا، إن بيندا كان يكتب ذلك عام 1927 وقبل عصر وسائط الإعلام الجماهيرية الواسعة. «ولكنه استشعر باكرا كيف كان مهما بالنسبة للحكومات أن تستخدم كخدّام لها هذا النوع من المثقفين الذين يمكن استدعاءهم، لا للقيادة وإنما لدعم سياسات الحكومة، ولفبركة ونشر دعايات مغرضة ضد أعدائها وتشويههم، ولخلق خطاب زائف يشوه الوعي على نطاق واسع، وينشر تلك الرطانة المدمرة التي تحدث عن مضارها جورج أورويل في رائعته (1984)، ويموه على الحقيقة باسم الشرعية أو الاستقرار أو المصلحة العامة أو حتى الشرف الوطني»،(2) وغير ذلك من الأكاذيب التي يشكل نشره المنظم لها في أجهزة الإعلام اليوم ما كان يدعوه بيندا بـ«تنظيم العواطف أو الأهواء الجمعية». خاصة بعدما أدركت الحكومات الحديثة فاعلية الخطاب الإعلامي في السيطرة والتحكم، وأن دوره لا يقل أهمية عن دور أجهزة الأمن أو أجهزة القمع المختلفة في تصنيع آليات الهيمنة، وخلق خطاب يسعى لتكريس سلطتها وإقناع الشعب بأن الامتثال والإذعان لحاكم مستبد وعار من أي شرعية أو مصداقية، هو عين العقل، وأكثر ما يحتمه المنطق الذي برع هذا النوع من المثقفين الخونة في التدليس به وتسويقه. بحيث أصبحت الخيانة على أيديهم هي طريق السلامة، والمقاومة والوطنية والشرف هي طريق الندامة الذي لا يجلب على متنكبه إلا الخسران.

جرامشي والتصور الجدلي الاجتماعي للمثقف:

كان جرامشي، في الوقت الذي كتب فيه بيندا كتابه الشهير ذاك، وحتى قبله، مشغولا هو الآخر بدور المثقف، ولكن من وجهة نظر مغايرة، بل مناقضة كلية لتلك التي انطلق منها بيندا، ومع ذلك فإن ثمة نقاط التقاء بين النتائج التي توصل لها الاثنان. إذ انطلق جرامشي من تبديد خرافة أن المثقف فرد مستقل اجتماعيا عن خريطة القوى والطبقات الاجتماعية في الواقع الذي يمارس دوره فيه. فكل البشر ينطون عنده على احتمالات أن يكونوا مثقفين بالمعنى الواسع للمصطلح، أو أن يلعبوا هذا الدور بدرجات متفاوتة، لأن لهم عقلا يستطيعون استخدامه، وثقافة يمكنهم عرضها أو تطويرها. كما انطلق من الرغبة، كثائر في المحل الأول، في فهم آليات عملية الهيمنة التي تتيح لطبقة اجتماعية معينة السيطرة على الواقع، والتعرف على دور المثقف في تغيير الوضع القائم، وتمكين الطبقات المقهورة من بلورة هيمنتها البديلة، وطرح تصورها المغاير بالصورة التي يحقق بها السيادة الاجتماعية والهيمنة. لذلك انشغل بنقل طبيعة البحث في هذا الموضوع نقلة منهجية جذرية. حيث يسعى لتعريف المصطلح من خلال التعرف على وظيفته، ومدى تباينها عن غيرها من الوظائف التي تنهض بها بقية المهن أو الشرائح الاجتماعية. إذ يعتقد «أن أكثر الأخطاء المنهجية الجسيمة شيوعا هو السعي لتحديد معايير تميز المثقف من خلال طبيعة الأنشطة الثقافية التي يمارسها وخصوصيتها الداخلية المتفردة. بدلا من البحث عنها في مجموعة أنساق العلاقات التي تتموضع فيها هذه الأنشطة، وبالتالي جماعات المثقفين التي تجسدها على الخريطة الأوسع للعلاقات الاجتماعية المعقدة. فإذا كان العامل أو الفلاح لا يتم تصنيفه ببساطة من خلال طبيعة عمله اليدوي، أو الأداة التي يعمل بها، وإنما من خلال العمل الذي يقوم به في ظروف معينة وضمن علاقات اجتماعية محددة.»(3) فلابد أن يتم الأمر نفسه بالنسبة للمثقف.

«وينقسم المثقفون عنده من الناحية الوظيفية إلى صنفين: المثقف التقليدي المحترف في مجالات الأدب أو العلم أو غيرها، والذي نجد أن وضعه في المجتمع يتسم بهالة عابرة للطبقات، ولكنه يستمد وضعه في نهاية الأمر من علاقاته بطبقة راهنة أو سابقة، وإن كان يسعى دوما للتستر على ارتباطه بتشكلات طبقية ما. والمثقف "العضوي" وهو العنصر المفكر والمنظم لطبقة أساسية محددة. وما يميز المثقفين العضويين ليس مهنهم، والتي يمكن أن تكون أي وظيفة مهمة لتلك الطبقة، وإنما دورهم في توجيه أفكار الطبقة التي ينتمون إليها عضويا وصياغة تطلعاتها.»(4) فالمثقف العضوي هو من له علاقة وروابط أساسية وبنيوية بطبقة اجتماعية معينة، وبالتالي برؤية هذه الطبقة للعالم بالصورة التي تحقق عبرها سيطرتها. فحينما تصبح الطبقة واعية بكيانها وهويتها الطبقية، وحينما تتحول من كونها طبقة في حد ذاتها إلى أن تكون طبقة من أجل ذاتها، فإنها تخلق من أجل ذلك وفي سياق ذلك التحول والوعي بطبقيتها ومصالحها مثقفها العضوي، أي الذي يرتبط عضويا بهذه الطبقة وبفكرها ويساهم في بلورتها.

وأول مثال للمثقف العضوي الذي يعتمد على العمل العقلي يطرحه جرامشي في (دفاتر السجن) هو الرأسمالي أو صاحب المشروع capitalist entrepreneur الذي لا حياة له أو لمشروعه دون أن يخلق إلى جانبه مجموعة من المثقفين "العضويين" من المهندس الصناعي، إلى المتخصص في الاقتصاد السياسي، ومنظم ثقافة العمل الجديدة، وواضع النظام القضائي والقوانين التي تحمي استثماراته، وفي مقدمتهم جميعا صائع الفكر أو الأيديولوجية التي تقنع مجتمعه، لا بأهميته هو ومشروعاته وطبقته فحسب، وإنما بأحقيتها بالسلطة والسيادة. وقد يتباين شكل العلاقة العضوية بين هذا الرأسمالي وهؤلاء المثقفين، وتتفاوت درجات اتصالهم العضوي به، أو بالطبقة التي يمثلها. حيث يبدو بعضهم وكأن علاقته العضوية به شديدة الالتصاق والمباشرة، بصورة لم ينفصل فيها الحبل السري بينه والطبقة التي يمثلها، وبينهم. بينما تكون علاقة بعضهم الآخر به واهنة ظاهريا، بل تبدو أحيانا وكأنما لا وجود لها، وقد فصمت عرى الحبل السري بينهما منذ زمن بعيد. ولكن هذا الوهن الظاهري قد يكون أحد شروط فاعليتها كعلاقة عضوية ناجزة، حيث تتطلب عضويتها تخفيها وحجبها كي يبدو وكأن المنظر الأيديولوجي لا يقوم بتنظيراته مباشرة وبشكل فج لحساب الرأسمالي، بل لابد أحيانا أن يبدو وكأنه ليس مدفوع الأجر مباشرة منه، وإنما يعمل ذلك بوازع من ضميره، ومن أجل المصلحة العامة. وهو شرط من شروط الهيمنة الأساسية بأن تتبدى وكأنها أمر طبيعي ومنطقي، common sense يتم بالسليقة ومن أجل الصالح العام.

ولا يكتمل أي فهم لتصور جرامشي الجديد لدور المثقف العضوي هذا، ولا تتضح دلالاته المختلفة والأدوار التي يضطلع بها، دون الوعي  بأفكاره عن الهيمنة والتبعية. فالفرق بين الهيمنة والتبعية هو فرق في القدرة على إحالة المشاعر غير المتبلورة، والرؤى المتشظية وأمشاج التوجهات المضمرة لدى شريحة عريضة تعيش حياة محددة إلى رؤية متماسكة للعالم لها بنيتها العقلية المقنعة، وقدرتها على صياغة العالم من منظورها بطريقة تربط المعرفة بالفهم بالمشاعر. فحتى يقوم المثقف بدوره المنشود في الحفاظ على سيطرة طبقة مسيطرة فعلا، أو في مساعدة طبقة صاعدة على تحقيق سيطرتها، فإن جرامشي يقسم الوظائف الضامنة لسيطرة أي طبقة إلى قسمين: أولهما هو «الهيمنة الاجتماعية» والتي تنصب على احتياز الرضى بهيمنة الطبقة المسيطرة، والقبول بها طوعيا؛ وثانيهما «الإدارة السياسية» التي قد تلجأ إلى الإرغام والإكراه حينما يتعثر تحقيق الرضى والقبول طوعيا.(6) ويختلف مفهوم الهيمنة عن مفهوم السيطرة أو الإدارة السياسية بالقهر أو بالقانون، فكلاهما شكل من أشكال القوة والسيطرة، كما أن من يقوم بكل منهما هو المثقف العضوي في أدواره المختلفة، ولكنهما متباينان في الشكل والفاعلية والتأثير، وليس في الغاية أو الجوهر. فالهيمنة تحتل مكانة أعلى في تحقيق سيطرة أي قوة من الإدارة السياسية، وهذا هو ما يجعل دور المثقف الذي يساهم في صياغة آليات الهيمنة أهم بالنسبة لأي جماعة مسيطرة من جهازها السياسي أو الأمني.(7) لأن دور المثقف في نشر وإعادة انتاج تصورات محددة للعالم ضرورية لتحقيق سيطرة طبقة أو حكم معين، لا يقل أهمية عن الدور الأساسي الخلاق والمتميز له كمتعامل مع المستوى الراقي من الفكر الذي اتسم به دور المثقف تقليديا. لأن ما يهم جرامشي هو أنظمة القوة وتحولاتها كسلطة وهيمنة وإعادة انتاجها وتحويراتها، وكيف أن ما يعزز هذه الأنظمة ويربطها ببعضها هو تصور معين للواقع يتركز حول تعزيز هيمنة طبقة ما.

 

للدراسة بقية