نقترح على قراء الكلمة هذا الديوان الشعري ممثلا لتجربة شاعر أردني يتخطى بما يطرحه من رؤى بنية القصيدة حتى في مستويات الحداثة المتعارف عليها. هنا نحن أمام ديوان شعري يخلخل جزءا من استباقات معرفتنا النقدية بالشعر وببنية القصيدة الحديثة، ديوان ينفتح على قيم الكوني ويذهب باللغة الى أقصى اللانهائي.

محاولةٌ لفهم لغة البحر (ديوان العدد)

القسم الأول من المجموعة الشعرية الكاملة

إبراهيم أبو عواد

محاولةٌ لفهم لغة البحر

الآنَ ينتهي حُكْمُ الجواسيس في عواصم الرماد المثخنة بالقياصرة. تنكمش ممالكُ القُمامة، وجُمهورياتُ الدَّيناصور في عُلب السَّردين الفارغة. بريدُ الفُستق هو تحدي جنون الأكاسرة. أَستعد لأن أُسَرِّحَ باريسَ من حقيبة ماري أنطوانيت المصنوعةِ من جلود الأفارقة. أعقد اتفاقيةً مع جفوني لأدفنَ مملكةَ الزَّبد في السَّاحل الذي يكون فيه الراعي عدوَّ الغنم!. ترعى المغاراتُ الصقورَ وأعوادَ الثقاب المخصَّصةَ لشموع الضحك. تتسلق طفولةُ المساء أناشيدَ الرعاة لتبلغَ طُفولتي التي رَمَتْها السُّلطانةُ في غرفة الألعاب الخاصة بأبنائها!.

أزرع مذكراتِ التوقيف الصادرة عن بنات آوى على سياج حديقتي لأتعلم تعبَ الشموس الفضية في المحاكم العسكرية. لم يعد الرملُ يُفرِّق بين بنات آوى وبنات أفكاره. في مُخَيِّلتي تنمو أغصانُ النسيان، ويختلط ظمأُ شفاه الوداع بأوجاع السيول. في رَاحَتَيْكِ يا نافذتي أوراقٌ للخريف المولود في دمائنا. الطريقُ إلى المدينة التي استعارها الملوكُ من ظلي بالقوة يمرُّ عبر دمي. أماه لا تنتظريني خلف جَذْر الشموس الجريحة وأصفادِ نحيبي لأن السجونَ التي بَلعت الشَّجرَ الأخضر تجري ورائي. أيها السجانُ، لا تَبِعْ قَلْبَكَ للقُرْصان الذي يتجسَّس على الملح الأسود في دموع البنفسج. الغُزاة يأتون من الجهات المحروسة بالصدى الزَّعفراني. يحملون أسماءنا ويسرقون ألسنتنا.

أنا والموتُ شقيقان في الطريق، والأيتامُ حَوْلنا يلعبون بجثث أُمَّهاتهم. وهذا البحرُ يَفنى كخَوْخةٍ هَشَّة. أَجمعُ مُفْرداتِ ثَوْرة اليانسون على ممالك أحزاني. أَحْفِرُ دمي في خشب المراكب المكسَّرة كي تستخرجَ قَشَّةُ الطريق اللوْزَ من عِظام البحَّارة الغَرْقى. أُفَتِّشُ عن ذكريات النَّار في القيود الحديدية الصدئة، وحَبَّاتُ الرَّمل تسأل معدةَ الرَّصيف: «من أين يأخذ السَّجانُ الرَّمادي راتبَه؟!». أُجيب عن أسئلة المحقِّق في زاوية الغرفة. ومُسدَّساتُ العَدُوِّ التي تستحِمُّ على مكتبي بدماء الشهداء أعرفها كأزهار الطفولة التي نسفها المخبِرون والسلاطين الذين رَمَوا شعوبَهم في السكوت المحاصَر. كُلُّ شيءٍ في غرفتي سوف يُقاوِمهم: «الجدران والبلاط وصورة جَدِّي».

صَوْتي أعشابُ الكَمان يَحرس الصوتَ والصدى.أناشيدُ الفجر تفور في أهدابي. أُقاوم الرمالَ المتحركة التي تتناوب على حراثة الأنهار الرومانسية. أَنا النُّطْفةُ المتشكِّلة في ذاكرة الإعصار. أنا الراعي الذي قُتلت أغنامُه. أنا قطيعُ الغنم الذي رأى مقتلَ الراعي.

أَسأل رمالَ الشَّفق: كم جثةً لهنديٍّ أحمر رماها الرجالُ المدجَّجون بالأرصفة؟. كم بِنْتاً وَأَدَهَا أعضاءُ نادي الجاهلية؟!. كم أميراً سرق براءةَ البرتقال في جثث الأطفال؟!.

وطَبَّاخُ الأمير يَبحث في صُحون المطبخ عن أكفان أبنائه. كَيف أمشي ومقاصلُ الورد تعيش في جَوْربي؟!. كيف أفتخرُ بِأهدابي أمام البحر الأعمى؟!. كيف أفرش جِلدي _ أمام البغايا _ زجاجاً لموكب النبيلات؟!. عُمُرُ الثلوجِ ياقوتُ المساء على مداخن أكواخ المنافي. الطَّحينُ شِعْرُ العواصف. وكان طفلُ المرعى يُحْتَضَرُ على كتف جدته القتيلة. خِنجري جمهوريةُ البطيخ العاري في أجساد الرفض الدائم. هذه قصورُ الذئب التي شيَّدوها على جثثنا هي لونهم الزائل، والطوفان لا يستأذن من البشر. أين سَيَهرب القتلةُ الذين يقضون إجازة الصيف خلف رَبطات العُنُق؟!. قطاراتٌ تحمل الدِّيناميتَ تَسْبح في معدتي الصحراوية. هل سيفتحون الزنازين للسائحات العاريات؟!. اتركوا الوطنَ ضائعاً، ولنعشقْ صُوَرَ الخيل في كلام السَّحاب. تتسابقُ اللبؤاتُ في شراييني لفرض ضرائبَ على بكاء الأيتام.

قيل لي إن اللصوصَ صَرَّحوا بضرورة إنشاء نَقَابةٍ لقطاع الطريق لتكون أعمالُهم موافقةً لدستور جمهورية أسماك القِرْش الذي اسْتَوْردوه مع باقي البضائع!.

ملاحظةٌ كَتَبَتْهَا رئتي قبل اعتقالها: »من مظاهرِ الديمقراطية عند حكومات الأدغال الدموية: مظاهراتٌ للشواذ جنسياً في طرقات الحيض. فتاةٌ تضع على وجهها نِصْفَ طُنٍّ من المساحيق تقود سيارةَ مَرْسيدس. مسابقةٌ لطلبة الهندسة في الجامعات الذَّابلة لتصميم أَفضلِ مقصلة رومانسية!. ملابسُ البارونةِ تتوهج على جثامين الثائرين. تصاميمُ هندسية ممتازة لسجون عَصْرية!. الانتخاباتُ التي حَقَّق فيها القَيْصر 99% والبقية تأتي!، والعدالة على طريقتهم: إذا سرق الشريفُ تركوه، وإذا سرق الفقيرُ أقاموا عليه الْحَدَّ«.

مزاجُ الضفدعةِ المتقلِّب، وزَوْجها الذي لا يتفقد حُفرَ المجاري إلا عند قدوم المصوِّرين لتكون الذكرى محفورةً على جلد الماعز!. مَزارعُ تقوم بخَصْخَصة أجسادِ النوارس وملامحِ المراهقات، وتناقش عَوْلمةَ ذبحِ النِّساءِ في المساء. أَشُمُّ روائحَ المنفى من شُرفتي المطلَّة على الطوفان. والحقول الخضراء ينهبون لونَها ليقيموا حضارة البارود. لم تعد دولةُ المرتزقةِ إِلا إِسْطبلاً لخيل زوجةِ الإمبراطور.

يحاولُ النَّمرُ المستبدُّ حقنَ ظلالِ البحر بالعطش. إِنَّ الفطرَ السامَّ خَادِمُ الهذيان في معسكرات المجاعة. وكانت الفئران تنهش دِهانَ الدروب الصاعدة إلى المواجهة الحتمية بين الصوت والصدى. فمتى يقتلعُ الصَّدى الورقيُّ عُمُرَ الإسفلتِ من قَش الجنون؟!. هذه صكوكُ الغفرانِ أَخْشابُ طَيف الهلوسة. والأرضُ تَلْفِظُ جراحي لكيلا تتسمَّمَ. أُصيبت جيوشُ الهذيانِ بالتخمة المائية. رمى النَّخاسون إِخْلاصَ الجنود عبر الأبواب. وفتحوا في أمعائنا ممراً لسَيْل هادر. ذلك الجنونُ الرَّصاصيُّ يَسكب عُيونَ الإوزِّ في ضِحكة السِّنديان.

الديمقراطيةُ دُميةٌ يتسلى بها بَوَّابُ محكمةِ التفتيش في وقت فراغه قبل أن يُمارس هوايته في تلميع أوسمة الهوس. يا فَلاحي بلادي، احْرُسوا القمحَ بالذكريات. نحن الذين ننزع الأوسمةَ عن صدور الأوثان. والقراصنة يُلقون المِرْسَاةَ في مدخل الملهى الليلي. وَحْدي مع المسافِرين من اغتيال الخوخ في بستاني إلى مُدنٍ باعها حُكَّامها للصدى. لَسْتُ من سلالة قياصرة ولا أنتمي لقطيعِ الجلادين ولستُ الحقدَ. عَلَّمَني عَظْمِيَ المسحوقُ أن أَمحوَ كلماتِ الشعير من لافتات شوارع عمودي الفقري، وألا أَفتحَ جُرحي مرعى لإِبِلِ الخلفاء غير الشرعيين.

أيتها النساءُ اللواتي يَضَعْنَ لحومَهنَّ أثاثاً للمسرح المكسور. أيتها النساء اللواتي يَغْرِسْنَ أعضاءهنَّ في أغلفة المجلات السياسية. أيتها النساء اللواتي يَكْتُبْنَ ذُلَّهُنَّ على ثياب عارضات الأزياء في عواصم الرَّعشة. أيتها النساء اللواتي يَفْرُشْنَ أجسادَهنَّ على إعلانات زيادة الضرائب. أيتها النساء اللواتي يُعلِّقْنَ على عُرْيهنَّ لافتةَ الثقافة. أُنظُرْنَ إلى المرايا في غرف نومكنَّ مكياجاً ثقيلاً على قماش الدُّمى.

قفصي الصدري ليس فارغاً، قد سكن فيه أطفالُ العشب الذين تَلهث خلفهم آلاتُ القتل. أيها القياصرةُ الذين يُعطون بائعاتِ الهوى دكتوراة فخرية في البِغاء. أيها الذابلون الذين يبيعون الجنسية الوحشيةَ للبرقوق المحاصَر. كُنْتم محارِبين فاتحين في غرف نَوْمكم أو مَوْتكم. لا تَعْتَقِلوا التفاحَ وتحقِّقوا معه في قاعات الرقص المخصَّصة للضفادع الممتلئة بالبحيرات.

المنافي التي تنبع من المساء العسكري رصاصٌ في جَيْب الرَّعد. ولوس أنجلوس تُهَرِّبُ أبناءها في لحم الخنازير المعلَّب، وترسلهم لينكسروا كالديدان المخدوعة في فراش الزَّوْجية!. نقابةُ المومسات الديمقراطية. الأقسامُ المخصَّصة للحوامل سِفَاحاً في المدارس الثانوية للبنات. إنها جرادةٌ عمياءُ تأسرُ عنبَ الجزائر في النبيذ المفروش على طاولات الجنرالات قرب جبال الألب. أنا مُسْتَودعٌ مليء بتوهُّجات الفيضان. لُغتي سُطوع فراشات لا تستسلم للشَّبَكة. وحَواجِبي أَصُفُّهَا خنادقَ تبلع الجيوشَ التي ترفع خُشونةَ تواريخ الأوثان رايةً.

قال الزَّبدُ المدفون في معدة المطر: «أضمن أن يكون جسدي مع زوجتي، لكني لا أضمن أن يكون قلبي معها». يا حُرَّاسَ الغبار، اغسلوا وجوهكم حين تكسرون المرايا لكي تَرَوْا أقنعتكم خارج يانسون الأمطار. أعوادُ المشانق في الساحات العامة الممتدة في صدور الثائرين. أيها المنفيون في ساحل الجراح الساكنون في الحنين إلى بنادق الثوار في الميادين الأسيرة، خُذوا قلبي سَدَّاً أَمَامَ زحف الجراد المتحضِّر!.

أطمح أن أُسْقِط النظامَ الجمهوري في شراييني. أرضٌ جرداء كأعلام القراصنة. تاج مرصَّع بنزيف بلاد البروق. عَجوزٌ هَرِمةٌ في قصر رخامي من بقايا الحقد الإمبراطوري لتسميم كشمير. امرأةٌ تفتح كهوفَ مِكْياجها أمام عدسات المهرِّجين.

صديقي النِّسْيان، حَاوِلْ أن تتذكرني!. أنا فتىً من الشَّرق، أخذوا الصنوبر من ثياب جَدِّي. وأبي ما زِلْنا نبحث عنه. أَدخل زنزانتي الخاصة مسلَّحاً بالذِّكريات. أخذوا أوراقي والأقلام حتى العنكبوتَ في الزاوية، أخذوه!.

وكان ثلجٌ نائماً إلى جانبي على عُشب مناجل يُحْتَضَر ويَستجوبُ القُضبانَ : «هل الحزنُ ضمن المقامرة التي يقودها إمبراطورُ الغبارِ في البار؟!. هل الشعب ضمن أوراق اللعب على طاولة الإمبراطورة؟!» أنتعل أطيافَ الأنقاض. الصولجان يقتفي أثري على الرمال القاسية.

عَرَّابَ الدَّولة الصاعدَ إلى الأرشيف الرَّمادي، لماذا تأخذ شَعْري الفضي إلى قاعة الإعدام؟!. لا تكن بائعاً متجولاً في مقاهي بنكرياسي المنثور على صنوبر العُشَّاق. لا تكن حطَّاباً لأشجارنا الدموية في الخريف الشَّاعري مثل الموظفين الجدد في ممالك رياح الخماسين. لا تُطْلِق على نعوش إخوانك لقب " مستقبلك السياسي". اذهب إلى المقبرة لترى مستقبلكَ السياسي!.

هذا الحطبُ القرمزي يسير على السجاد الأحمر في معتقلات إبادة الهنود الحمر. فيا سائقي سيارات نقل الجنود، أَمْهِلوا قطتي العرجاء بعض الوقت للعبور إلى الرئة الثانية للزقاق. مزرعةُ خنازير برية في ثياب ممثلات هوليود. غرناطةُ زمردةٌ في أكف أصحاب الحانات. وها هي المذابحُ المهرولةُ في نِداء القرابين. أعضاء في جمعية مخترعي صكوك الغفران. قارة تقفز من غابة النفط إلى غابة النفط كقردة مبتدئين ضلوا طريقَهم، واحتاجوا إلى دليل سياحي!.

والضَّحايا يَتَزَلجون على المسدَّساتِ الخشبية. نساءُ الشِّتاء لتسلية العُميان في الصَّيف. حفلةُ الإبادةِ تَغرق في تبادل الهدايا، والمشرَّدون في الخارج يبحثون عن القش ليناموا عليه!. ينام الميناءُ على ذراعي اليمنى. وأوسمةُ القش يُلمِّعها خِنجرُ الذكريات. أُطهِّر عواصمَ رئتي من الديدان التي تسرق ظلالَ البابونج على رخامِ المجازر. يلاحقني الرعدُ في مراعي الكوليرا من كوخٍ إلى كوخ، ويُلقي الألغامَ في نُعاس الياسمين. أَسألُ جثمانَ أبي: «عندما تغفو على وسادتي الحيتانُ الزرقاء هل ستشهد رمالُ المحيط ضد الضحية؟»

قد يرمي الجلادُ أصابعي على أخشاب المرفأ. قد تُوزِّع السلطاتُ صُوَرَ الزنابق على الحمَام الزَّاجل ليبحث السُّلُّ عن خطوات الريح على الرخام الملوَّث باكتئاب الشُّطآن. تمشي السنابلُ حافيةً على رخام القبور الخالية، ولكنَّ ألوانَ الحزن تُقاتِل.

جُرحي إشارة مرور لتعبر الدلافين إلى عروقي النحاسية. والأغرابُ مشغولون بترتيب غرف نومهم كجرذان في مقتبل العمر تتعاطى مضادات الاكتئاب. يَلمع البارودُ على الإسفلت الرصاصي المنتشر على لحوم الفُرسان. أنهارٌ بلا أظافر على ساعة يدي، ورمالٌ تركض في زفيري تُدَرِّبُ البعوضَ على السباحة في جماجمنا. المدنُ الذبيحةُ مرآةٌ مخدوشة على قماش أكفان البجع.

قَبْلَ أن يَصُبُّوا نُعوشَ أهلي في البئر المجاورة للوداع، بَحَثوا عن عُكازة أبي تحت الركام الهابط في رئة ذئب الهزيمة. قبلَ أن يَنْصُبوا الفِخاخَ لعصافير الحي في حناجر المصلِّين. قبلَ أن يبيعوا سريري وأظافري ليشتروا مكياجاً لبنات كِسْرى وبعضَ فساتين السهرة الليلية المضاءة بأضواء السيارات المارة على أجسام الفراشات. قبلَ أن تلتقيَ صديقاتُ السُّلطانة على أجزاء كَفَن وردة. قبلَ أن يرموا المذابحَ على شاشات التلفاز. قبلَ أن يَبنوا شركةَ حفاري القبور على جلودنا. قبلَ أن يحبسوا دخانَ المصانع في شرايين الفتيات المغتصَبات في سراييفو، أَطْلَقوا سراحَ الحدائق الأسيرة في خيامنا المرقَّعة لِتَكُون مَرْكباتُ نقلِ الجنود أَقلَّ تلويثاً للبيئة!.

جيوشُ الصَّدى مستنقعاتٌ مسعورة على الطرق الصحراوية ملتصقة على جدران النوم. تتمرد العصافيرُ في قسمات وجه المرعى. أيها الصَّيادُ الذي يتقيأ القياصرةَ في دفتر جمع الطوابع، لا تَأْسِر الكروانَ بأغلال المطر الحمضي. لا تُرشِد العوانسَ إلى أشلائي في طرقات النسيان. لا تَعْرِضوا أظافري في المتاحف أمام الذباب المعدني. لا تُعطوا رئةَ جارتنا الأرملةِ هديةً لبنات الإقطاعيين المدمِنات على الكحول.

وحَفَروا الأحكامَ العُرْفية على أمعاء الشهداء. قِطَّةُ البكاء التي تُضْرِبُ عن تقبيل الفئران حَقَنُوها برمال المنفى. واللصوصُ الشُّرفاءُ يفتتحون في كبد حمامة معرضاً للمسامير الجديدة. والمراهقاتُ العاشقاتُ يُعَلِّقْنَ شبابَهنَّ على بوَّابات العمى. هيكلٌ من عِظام الشَّفق. قلادةٌ مُعلَّقة في رقبة صنمٍ اسمه المنفى. ثعلبٌ ذو فِراء وَسِخ. العواصم الخالية إلا من رِجال المافيا.

إِنَّ الدَّمعَ شاهدُ قَبْرٍ للبرتقال الغريب. والرصيفُ مهرِّجٌ طُحلبٌ يتزلج على جدران أوردةِ المساء، على حيطانِ بئرٍ مُسيَّجةٍ ببكاء البغايا تدعى رُوما.

حَاضِناً الكرز المهجور في دماء الشعوب اللاهثة. والأرستقراطياتُ يُحضِّرْنَ رسائلَ الدكتوراة عن ديمقراطية المجزرة، ودموعِ أُمِّي في خريف الرعود.

ربما يصبح اغتيالي خبراً رومانسياً في نشرة أخبار صادرة من مذياع على طاولة نظيفة في مطعم للوجبات السريعة. إما أن نَبصقَ قاتلينا في سلة المهملات تحت شبابيك غرف التعذيب المفتوحة على لعابنا من الأُذن اليمنى إلى اليسرى، أو أن نبصق قاتلينا في أرشيف البوليس السِّري قرب أزهار النار. أزفُّ إلى التراب أعضائي. هذه الشَّجراتُ المختبئة في سريري تنتظر الوهجَ.

وصالاتُ الرقص مفتوحةٌ أمام العشَّاق الذين صَمَّموا المذابحَ في قلوبنا. والقراصنةُ المهذَّبون يبحثون إمكانيةَ توسيع المعتقلات المارة أنهاراً من توابيتَ صنعها عُمَّالُ نظافةٍ محترفون في ورشة الخليفة. دمي يَسيل على خدود الأندلس. يَغرس رصيفُ الليل أنيابَه في كَفِّي. يذهب النخيلُ إلى المدرسة مُسرعاً. مطرٌ يُبَلِّل أعشابَ المذبحة، والمجرمُ صار رومانسياً في حكومة انقراض المرجان البحري. يضع الموجُ حِزامَ الأمان بعد أن يدهسَ القصورَ الرملية. تَقَدَّمْ أيها الشاطئُ القرمزي. أنا وأنتَ فراشتان تحومان على ضفاف الجرح الممتد من غروزني إلى سراييفو جُثثاً وبساتين شابة. تندلع المجازرُ في لون السنابل. وسَاعدي كوخٌ لأسراب الدجاج المهاجر من الندى المذبوح في زنزانتي الانفرادية. قد يحتاج الغزاةُ إلى الكثير من الصابون بعد حروب الإبادة المصنوعة لملء وقت الفراغ!. يقوم النَّرجسُ بعملية إنزال جوي في بطن رصاصة بِكْر. كُلُّ ممالكِ الإبادةِ أدغالُ هَوَسٍ. وجهي نهارٌ قادمٌ ساجدٌ لِلْمَلِكِ.

سِجْنٌ عجوزٌ يمتص طيرانَ العُقبان في الخريف. وكان ضفدعُ المذبحة يُخَزِّنُ أسناني في عُلب السجائر الأجنبية. نَعْشي صار مقهىً لراقصات النفط. يُداهمني القمحُ أُقبِّله لأنه سَيْفي.

بَيْنَ كربلاءَ وجروحِ الفارس دمعيَ الشَّفاف. أُشاهد خيولَ الخليفة تسقط كبيض النَّعام. ورأسُ الحسين لا تَسقط. عَبَر إلى غده الواضح سَيِّداً، في جَنَّةٍ بلا شمس ولا زَمْهرير. أنيناً كان قَصْرُكَ أيها الولدُ الأُمويُّ المتجول على إشارات المرور لبيع غثيان الصحراء. سراباً كان اختباؤك يا سارق الندى من نظرات طيور البحر بين الحيطان المدهونة بالقتل ومرآتكَ.

كرياتُ دمي نسورٌ في فُوَّهة القتال. طَلَّقْتُ خوفي من محكمة قُضاتها يتقاضون رماحَهم من حكومة على أُهبة الهذيان. أُحب الصهيلَ يجتاحني في ربيع التوابيت. وشوارعُ روما تركض في عظامنا الموزَّعة بالتساوي على رجال الأمن. ومُفاجئاً كندم الزوجات الخائنات في موسكو جاء اعترافُ الفرنجة: «بِعْنا نساءنا للذي دفع أكثر!»

جراحاتي زيتونةُ الأيتام، ورموشي مُنْتَجَعٌ سياحي في إجازة آخر الأسبوع. إبليس ومارغريت تاتشر يتناولان غداءَ عملٍ سريعاً مُعَطَّراً بنعوش الجيش الجمهوري الإيرلندي. وكان الصربُ يشربون الوهمَ في مقابر المسلمين في سراييفو عند شواهد قبور الشُّموس، ويُلقون الزُّجاجاتِ الفارغة في برلمان الصحراء التي كانت يوماً ما رَوْضةً للبنات الصغيرات الرافعات الهلال شِعاراً.

أحزانُ الأعشاب طائرةٌ ورقية. لن أَتركَ رَقَبتي مائدةَ غَداء لكسرى. الطيورُ المرتعشة مظلةُ المروج الغاضبة. والغزاةُ يأخذون الصور التذكارية عند الخراب المتدفق في أعصاب الجنرال فرانكو. والقواعدُ العسكرية في أمعائنا هي جواز سَفر للفطر السام كي ينمو على واجهات لحومنا. التهمُ الجاهزة تنتظرُ السِّنجابَ المندهشَ في بلدته التي هدمها مَلِكُ الجنونِ الرماديِّ ليقيم إمبراطوريةً أكثرَ انفتاحاً على الجراد. وعندما يُذبَح الموتُ أكون في الجنة أو النار.

بلدتي المفتوحةَ للأشباح المغلقةَ أمامي، قَبِّليني لأني ذاهب لكي أتزوج التُّرابَ. أصعد من قبري بأمر سَيِّدي. تعلمتُ كيف أُضَمِّدُ جراحي قبل أن تتعلمَ الإسبانيات قيادة السيارات في أندلسنا. أرى التوتَ البري ينشر صورَ لصوص البلاد، وأرى النَّحلَ يهاجم بركَ السباحة المستعدة للهروب إلى عواء الحجارة في صحراء سيبيريا. لا الخيمةُ أُمِّي ولا الثورةُ البلشفية ثورتي. دمعي الثأرُ زاحفاً. وأصوات بلدتي تجرف نباحَ حطب الموقدة. ويُجَمِّعُ مجرمو الحرب أرصدتهم من الجماجم في معدةِ برميل البارود.

أنا حارسُ حدود الأسماك في الشفق البعيد عن خَيْمتي. حُدود دَوْلتي من نزيفي الأخضر إلى صُداعي الأزرق. ورأسي أُرجوحةٌ لأطفال البرقوق يحملون تاريخَ عمودي الفقري في الصحاري الجليدية. الغَسَقُ ابن عَمِّي، لكني يتيمٌ.

في ذلك الصمت البنفسجي تُولَد مدينتي المعدنية في ضحكة الصنوبر. أَفتح قلبي للذكرياتِ الغريبة كي تدخلَ مياهُ البحر في نخاعي الشوكي. إن عيوني هي غُربتي، فلا تبكِ عليَّ يا أنا. سأحتفل بأشكالِ ذبحتي الصدرية لأن الرعدَ طَهَّرَ خيوطَ نزيفي من حضارةِ دم الحيض. وتحت إبطِ الذاكرة مشنقةُ الأعشاب السامة. قد بِعْنا فلسطين وصِرْنا رومانسيين.

لم أزرع في رئتي حقولَ الصَّوْت لأُقدِّم الزهورَ للعشاق في حانات بنسلفانيا. لم أُنظِّف بلاطَ زنزانتي ليمشيَ عليه فقهاءُ البلاط. لم أكتب القصائد لأتغزل بانكماش الراهبات في الحكايات. لم أُعَانِقْ لغتي لأخطَّ المراثي على أطلال الحزن المتدفق من شقوق الدولة البوليسية.

 حين يأخذ الأباطرةُ أشجارَنا إلى التجنيد الإجباري في الجيش الذي يُحارِب نفسَه، أجلس مع الأمواج ندرس بصماتِ البلابل على الحجارة البعيدة. أحترم أبجديةَ مَوْتي في أُمسياتِ صَوْتي.

 قِطَطَ الوادي، لا تبحثي عن وطن. أحزاني وَطَنُكِ. قد يرحل المرءُ عن الغرفة التي وُلد فيها، ويأخذ معه أشجارَ الحِبر، ويترك الحصيرَ باكياً على كتف البلاط، ثم يُقتَل في الغرفة التي وُلد فيها.

 وحيداً كأرملةٍ خَلَعُوا حِجَابَها وبَنَوْا على ضفائرها ممالكَ السُّكوت، كان اليانسونُ الذي يُغطِّي رُفاتي. أنا المطارَدُ في بلاد الزَّرْنيخ، في زجاج غرف التحقيق، في الشوارع الموحلة التي تفضي إلى مغامرات أمراء الحروب المدوَّنة على جنازة الديناصورات. كلما فحص النرجسُ حيطانَ المعتقَل تكسرت ظلالُ الخنجر الأثريِّ.

 ماحياً آثار مايكل أنجلو على أجسادالشَّحاذين في ممالك الانتحار شمال المتوسِّط. قُرى الجرذان البشرية التي حَوَّلوها إلى مدافن هي أضلاع النبيذ. يجرحون الفُلَّ الذي يُزَيِّن نافذةَ بَحَّار في عَكَّا. صديقاتي نُجومَ السماءِ البعيدةِ عن جلود العُقبان، قد اختلط هديرُ محرِّكات الطائرات بدم الينابيع الساخن.أكواخٌ لطيور البحر تَجمع سُعالَ الزَّبد على الشاطئ. نُخَزِّنُ في ريش دجاجةٍ أحزانَ شِبَاك الصيد الفارغة. البحرُ أقربُ مِنِّي إلى رموشي، ويغارُ عليَّ مِنِّي. جُلودُنا تحرسُ أعداءنا، والضبابُ يمضي إلى ثكنته العسكرية في هاوية القصور الرملية.

 في إحدى الليالي نامت الليالي فِيَّ. وعندما يتفجر حُبُّ الصيد في عيون النوارس، ويلتقط أطفالُنا الصورَ الفوتوغرافية لحركة البرق على الرمال الكُحْلية، أشعرُ أن جِلْدي كوخٌ للشطآن تقضي فيه شهرَ العسل. وحين تموت النوارسُ تكون أجنحتها هي أكفانها.

 لم أُشارِكْ في حفلة زِفاف حَبَّة رملٍ إلى الصدى. جَرَفَ السَّيْلُ ذكرياتِ النَّسر فوق رؤوس العبيد المتدحرجة على زنود السَّيَّافين. بِطْريقٌ يجمع أشلاءَ أُسْرته في كَفَّيه الصغيرتين، ويذهب ليدفنها في قيعان المحيطات المتَّسعة. وذبابةٌ تَنْقل على جناحها ثوراً مكتئباً إلى عيادة الطبيب البيطري.

 أعطاني مفتاحَ كهفه عُصْفورٌ، ورحل إلى قمة العزلة قرب الهاتف النَّقال للنبع. إِنَّ الليمونةَ التي تَكْبر في شريان الأرض تكتب يومياتها على ذبول القراصنة. وأُمراءُ الأنقاض يُنَظِّفون السُّفنَ في أحشاء شعوبهم التي قذفوها في الدروب.

 سألني الليلُ عن اسمي فلم أُجبه، ومضيتُ ألتقط عَبَراتِ التلال، وأضعها في صندوق خشبي بسيط. أنا رَاعي غَنم في منافي الرعد. وقد لا أَجِدُ من يدفنني إذا مِتُّ في صَرخةِ البرقوق.

 شَوْكُ الضياع يثقب تجاعيدَ الصَّليل. إن ممالكَ الغروب عائدةٌ مع قاربي من جَنْي الرؤوس المقطوعة. أمواجُ الشَّفق ليست نَبتةً يُمزِّقها الكهنةُ. أَمْسَكَتْني يمامةٌ ثم أَطْلَقَتْني في حُلم خناجر الفيضان.

 تَمُوجُ فَوْقَ الحقول أُغنيةٌ تَسخر من لصوص النفط. غَزَالٌ يخلع جواربَه ويَعُدُّ أَرْجُلَه، يُوَدِّعُ زوايا المغارة. يقود الزَّيتونُ في الشارع مظاهرةً في وجه الأحكام العُرفية. لسنا أثاثاً يُبدِّله أُمراءُ الجريمة متى شاؤوا.

 مِنْ أوراق فهدٍ منبوذ: «حكومة الحشائش السامة مصنوعة في الخارج!» لماذا تعشقين سفكَ أعصاب المشرَّدين على ذيل الحيتان الرشيقة؟. لماذا تنقلين ناطحاتِ السَّحاب على ظهور الجواميس النحيلة؟.

 مَطرٌ غارقٌ في التثاؤب. وذلك القمرُ يَضحك لي ويَقتلني. فتياتُ بغداد أنتنَّ شجر أخضر في ربيع دم الأضرحة. إلى التراب هذا اتجاهُ حواسنا. فهل جماجمنا ستصيرُ بعد إبادتنا إشارةَ مرورٍ في شارع مزدحم مقابل مصانع البيرة؟.

 الزَّنازين مسقطُ رأس السنونو، إبادةُ الزَّهر الذي يَصعد من جثمانه. تُفتِّش دُموعي عن زِنزانة لكتابة الصَّدى على جسد الصَّوت لتحريض صدأ الحديد على الحديد لخلع قلبي من قلبي.

 أتجوَّل في صحراء دمي كالسُّنبلة المشنوقة. ولا دراهم تحمل صور الخليفة غير الشَّرعي. وذلك السَّجين يُفكِّر في ضوء أبجدية النار. والفراشاتُ تُكلِّم الحائطَ، لكنَّ ثعالبَ الرَّجفة هي فقاعة صابون تَخرج بعد أن يُعلِّق السَّجَّانُ أظافرَ أبنائه على حبل الغسيل الطويل. فلا تمنحوا الفراشاتِ تصاريحَ الدخول إلى انسياب الغدير، ولا تسمحوا لأُمِّي أن ترى جُثَّتي المنثورة في أكواب الشاي الأخضر.

 

كَلامٌ ضِدَّ كَوْمةِ الأنقاض

 أنا هنا يعني هناك. في داخلي ضوءٌ خَفِيٌّ للزنزانة. وجِسْمي نَوَّره البرقُ. قد لا يجدني الهديل حين يزورني في بَيْتي. وربما يمنعونه من زيارتي هنا، فتحفر عيوني السُّورَ الملتف حول أهازيج البراكين. دمٌ يَحشو الإسفلتَ في أوصال الأزهار. دمٌ يُغمَى عليه يسقطُ ينهارُ. ينهار كعظام الهنود الحمر على زجاج السيارات الأمريكية الصُّنع. لستُ أبحث عن أوسمة تنقشها الجيوشُ المسلَّحة بالشخير على جِسْمي. إن اليمامَ الذي كان يُلمِّع أوسمتي قد مات.

 بكى البكاءُ في عينِ نورسٍ نَفَتْهُ قبيلتُه. يُرَوِّضُ الزئيرَ رملُ الشاطئ لتعبر المرايا التي تنكسر على يد البحر. كأن مرفأَ الصَّخب يركض إلى السباحة فِيَّ، ويترك قميصَه على الشاطئ فتأتي النوارسُ لتصطاده. والنوارسُ صَادقتْ البحرَ قَبْلي، ولكنَّ وَجْهي لا يعرفني حين ينظر إِلَيَّ في المرآة.

 طِفْلٌ بَاكٍ يبحث في أزقة المخيَّم المذبحة عن وَالدَيْه. بحيرةٌ تتشظى في دَمْعه. لا يملك ثمنَ مِشْطٍ فاتخذ جذورَ السنديان مِشْطاً. في راحتَيْه زهرةٌ وبعضُ الأحزان. واليتامى يَجمعون خُوذاتِ الجيوش المهزومة كي يبيعوها في السوق السوداء. والحمَّى تشرب عصيرَ العنب في جسد الإسكندر المقدوني. يقف الناسُ على أحجار النسيان يَحملون راياتِ الهزيمة. والعسكرُ المعدني أَضْرَموا عارَهم في رُتبهم العسكرية.

 نَحْوَ فِتْيةٍ يتدارسون القُرآنَ في زوايا المعتقَل ينطلق مطرُ القلب. نحو جهةٍ تكون فيها الرياحُ أبطأَ من نبضات الإسفلت يسير النرجسُ. نحو أرصفةٍ أقل خشونة من القيود تمضي الينابيعُ. نحو تاجٍ يتكسر كظل القطط الضالة على الجدار تجري رائحةُ العفونة.

 أحياناً يُقدِّم لي الشِّتاءُ دَعوةً لحضور العَشاء فأذهب أنا وخيمتي. تَكْسر أبجديتي تيجانَ الليمون. بقايا تيجان مكسَّرة في دماء العاصفة تدل على ثورة الموتى ضد الموتى. إن العارَ يَسرق ما تبقى من أعضاء السجناء وفق دستور الألم، ويُسمِّي ذلك عيد الاستقلال!.

 لما هَزمتُ كل السَّجَّانين استلقيتُ على خد الشجرة أُفكِّر في التشابه بين الحطام والحطام. مَلَلْتُ من خطابات آكِل النَّمل، لا يتقن سوى تأبين أشجارنا. كُلُّ الأدغال ستفيق. سأصعقها كي تفيق. أصدرت بناتُ آوى مرسوماً يتهمني بالخيانة، وأنني أُشكِّل خطراً على الأمن القومي للتفاحات المقتربات من نبض الحمَام. لستُ خائناً أيتها البراري التي تسلخني عن لمعان رؤوس الرماح.

 أيتها النساءُ العارياتُ على شواطئ الرَّغبة، هذا جثماني فلا تَلْعَبْنَ الشطرنجَ على سَطْحه. أيتها الشاباتُ المكتئباتُ في أثينا المتعباتُ من ممارسة الجنس مع عدسات المصوِّرين، هناك ضريحي في الشفق فلا تَصْعَدْنَ إليه. يا زوجاتِ فُرْسان الفرنجة الخائنات، لا تتذكرنَ حوافرَ الخيول السابحة في معدتي.

 أنا والكوكبُ ثورتان تصرخان في العَدَم كي تتكلم الحيطانُ. إنني أَخرج من عُزْلة الخوْخ لأكتشف اكتئابَ تفاح المشانق. الخيولُ الخشبية، والمراحيضُ الرخامية. والمستقبلُ الذي مضى، والماضي الذي سيأتي.

 يا مَلِكاتِ نزيفي اللواتي يَسرقنَ نزيفي، أَنتنَّ دُمَىً في مسرح للعرائس سوف تجف المساحيقُ على وجوههن، تخلعنَ أُنوثتكنَّ كالمعطف البالي، وتَرْكُضْنَ في مدارات الرعشة على الرخام الوردي القاتل.

 نَعْنَعٌ في السَّنة الأخيرة من تخصص الفيزياء. طَرَدَتْه مَعاولُ الهشيم. يتسلل ضوءُ الشمعة في جُزيئات الموجات المتلاطمة على سطح الصَّليل في أشجار السِّدْرِ. أَيُّ حُكومةٍ تجرح صوتَ العشب المغطى بعباءة الحصَّاد؟!. النِّيل ذو نفوذ سياسي في أوساط أوتاد خيام المشرَّدين المقامة على الضِّفاف الزَّهرية، ولكنه لا يُحدِّد موعدَ حصاد محاصيل القطن في قفصي الصدري.

 أَرنبٌ يقود دراجته النارية على إزار بعوضة. رُعاةُ البقر يتبادلون التهاني عقب إبادة الهنود الحمر. أقامت قُرى الحمَام أسلاكاً شائكة حول مائدة يُرَكِّبُ أَرْجُلَها أيتامٌ لا يملكون أُجرة نَجَّار. رَجعت القِطَطُ إلى عيون الجبال في رؤوس الماء. أدغالُ عيوني تسجد في المحاريب للإله. حَسُّونٌ يأكل الحلوى في ناحية لا يرصدها المخبِرون المتكاثرون كبيض الحشرات. سيطرت ذاكرةُ الفاصولياء على حدائق النُّعوش. نَعم، لم يَكْبُرْ جسدي على اقتلاع شرايين النَّهر.

 

أغنياتٌ للطوفان القادم من وراء التَّل

 صَاحِ!، لأنَّ المسافةَ من بيت صديقي إلى خيمتي مليئةٌ بالجثث وسيارات الإسعاف تختبئ النَّوارسُ في جيوبي. لأن الغابةَ منطقةٌ عسكرية مغلقة تأتي الكلابُ المسعورة إلى مقر وزارات الحرب. لأن قفصي الصدري أعلى من البرق أَملأ أكياسَ الطحين الفارغة بالصهيل المقتول.

 هبوبُ الرِّياح على شَعْر خُنصري يهمس في أُذُنِ القمر: «لا سَنَامُ الْجَمل احتياطيٌّ نفطي، ولا جِيفةُ القِرْش بُقعةُ زيت.» إنني أُؤَدِّي التحيةَ العسكرية لذكريات الشفق.

 يا نبتةً تُغَنِّي في هذا المساءِ القريب من الرعود، دمي أم دمكِ ذلك الأحمرُ اللامع على الأغصان؟. إن ملامحي المفتَّتة قنديل غامض. كلما حَطَّمت الصَّواعقُ المذياعَ التابع للهلوسةِ بخناجر الثوار، سمعتُ صوت محرِّكات الشاحنات العسكرية الراكبة في أنين الذباب المستورَد!.

 وداعاً عمودي الفقري!. كنتُ أرجو أن تظل معي، ولكنَّ الغُزاةَ سَرَقوه ليحشوه بالماريجوانا. ولكني سأنسفُ ما تبقى من ذكريات الشعير مُخَزِّناً البرتقالَ في بقايا عِظامي.

 مشت السكاكينُ على الجسر الواصل بين رِئَتَي الخريف بينما كنتُ أَعُدُّ جروحي التي تصطدم بثوب الثلج. إذا رأيتَ ذُبابةً تَحوم على النفايات ثم رأيتَها تحوم حول العسل، فلا تصفها بأنها حمقاء.

 في إحدى الأمسيات التي يحاصرها الغيابُ، كان الصيفُ جالساً على كرسي يقرأ أشعاري أمام المدفأة. وفي الخارج كانت الثلوجُ على مرتفعات البكاء. لا أَملكُ الموتَ ولا الموتُ يملكني. كلانا مملوك، واللهُ سَيِّدُنا. لا أُحاصِر خطواتي ولا خطواتي تحاصرني. كلانا محاصَر بسيوف الموج.

 تبحث حبةُ أناناس عن ابنها في صراخ الحِراب. ماتت الذُّبابةُ بعد أن أكلت بثديها. كنتُ أحرس أعراسَ الطيور من حديد الأقفاص.

 أذكر ليلةً كان القمحُ والضباب يقتتلان على اقتسام شَفَتِي. نَسِيَ القمحُ أَنَّا كنا في قفص واحد في بلادٍ مسجَّلة باسم الإمبراطورة. نتناول الهواءَ البارد ونحتسي أكواباً من القش. هذا السَّرابُ يزرع القمحَ في لحمي. صَوْتي يَعُجُّ بالغابات. فَكُن وفياً أيها القش إن غدر مجلسُ الأمن بنا. إن تاريخَ أحزاني يُولد من لمعان الموج الصحراوي. والحقول أقربُ من ذاكرتي. أيها الجالسون في ضوء القمر، لا تقتلوا القمرَ بعد أن تمتصُّوا ضَوْءَه.

 أُصيبت بسرطان الثدي شجرةٌ لا تملك ثمنَ العلاج لكنَّ الأدغالَ تُقاتِل. تزوَّج التتارُ هزيمتهم في مياه مختلطة بالحِبر لكنَّ النارَ أَحرقت الرايةَ البيضاء. استراحتْ قوافلُ مُحمَّلةٌ بالموتى في جمجمة زهرة برية لكنَّ الصحراءَ فَرَشَتْ عَرَقَها استراحةً لسائقي الشاحنات. اكْتَشَفْنا آثارَ أقدام على جناح صقر مرميٍّ في قارب يستخدمه القُرْصانُ للإبحار في دموع الدلافين لكنَّ البحرَ لم يبكِ. رَسَبَت شُرفتي في امتحان الفيزياء لكنَّ نيوتن أحدُ تلاميذي.

 يا أسماكَ الجوع المهاجرة في نبضاتي. فَلْيَكُن الحوارُ بَيْننا دافئاً كالأمطار في الزنزانة الانفرادية غير المسقوفة، شفافاً كالعواصف، سريعاً كدموع الصبايا الخائفات من العنوسة، هادئاً كبقايا القرى بعد الإعصار.

 دمعي واقفٌ على درج بَيْتي ينتظر سيارةَ الأجرة. كلما اجتاح الفيضانُ خاصرةَ الشَّوْك كَبَّرَ قلبي ووجهي. سقط السقوطُ على سقوط الشَّعر المستعار للملكات، وعلا صوتُ الأذان. رياحٌ تخدش العَرَقَ على جبيني. دماءٌ على وجوه شقائق النُّعمان تمسحها الفيضاناتُ.

 إلى حَبَّات التراب جسدانا أيها البلوط. فرض تاجُ الحصى الزجاجيِّ عُقوباتٍ على وَجْنتي حين رفضت قصائدي أن تُوَقِّعَ اتفاقيةَ سلام مع الظمأ. اشتاق الضبابُ إلى معانقة ضوء القمر عند التلة المقابلة لنظرات الصقر. حريقٌ أصاب حقولَ النفط في فم الشَّعير. لا تَرُشُّوا عليه بكاءَ الأطفال كي ينطفئ. لا ترشُّوا عليه حليبَ الأبقار التي ورثها الإسفلتُ عن أبيه.

 الدُّروبُ التي تُفضِي إِلى رُمْحٍ منسيٍّ في ظَهر الميناء مُغْبَرَّة. تاريخي صاعدٌ في حُنجرة الغيم. هناك، في أطرافِ غابةٍ يعلوها غيمٌ وقوسُ قُزَحَ، كوخٌ حَوَّلَتْه السُّلطاتُ إلى حَطَبٍ كانت تسكنه عائلة تحتفل بالعيد منتظرة قدوم أبنائها المنفيين.

 أعيادُ الطوفان هُوِيَّةُ الحقول فوق طيران السنديان في موسم هجرته. عِشْنا مع دمنا المشاع في بيادرنا، ولكنَّ الطغاةَ عند حضورهم أَحْضَروا كلابَهم البوليسية ليتأكدوا أنهم غُزاة.

 تنطفئ أنوارُ الشوارع، وتصبح خالية إلا من الريح. يحشد الظلامُ رمادَ الجرائم الرومانسية. الأذانُ ينزع الظلامَ الجاثم على هواء يتنفس زَيْتوني. وذكرياتُ الأعداء تحمل مِعْولاً وبندقيةً وتمضي إلى قتالهم. أرفض أن يُحدِّد لي سَجَّاني موعدَ إفطاري. مِعْصمي غير واقع تحت الانتداب البريطاني. تَخَلَّتْ عني وِسادتي، وحين قرأتُ ما كَتَبَتْهُ في سيرتها الذاتية دُهشتُ عندما لم أجد اسمي!.

 عَبَرَتْ تفاحةٌ نارية على جثة أرسطو إلى ذروة المواجهة بين الشرق والغرب. انتظرتُ قدومَ الصباح لأراها تحت شكل الصاعقة واضحةً كأي شيء سوى الوضوح. وَقَعَتْ جبهةُ الإمبراطور في ظلالها المالحة شمال الانهيار. عَلِقَ الصَّليلُ على أسلاك الكهرباء في أَنف عصفور ممنوع من الدخول إلى عشه!. لم يُقاتِل ظمأُ الصحاري لأنه كان عريساً جديداً!. وتجارُ الحروب يُنظِّمون بازاراً خيرياً لمساعدة ضحايا الحروب!. ثَمَّةَ فرقٌ بين السَّجَّانين والرمال. فالرمالُ تُقلِّم أظافري ولكن السجانين يخلعونها. اتخذ المرفأُ أصدقاءَ من شموع يُسَخِّن عليها خَفرُ السَّواحل القهوةَ في فترة الحراسة الليلية.

 عزيزتي الأمطار، إِنْ مررتُ في بالكِ ذات مساء فاقتحمي قَيْدي وحديدَ القضبان. ظلالُ الهديل على خاتمي الفضة. قد تطير القُرحةُ في معدة نَسْر، ولستُ أدري هل يذهب النسر إلى المستشفى أم يبقى في قمم الصمت الواثق؟. سُنبلةٌ رَفَضَتْ سَيَّافي الأرض وأَبَتْ أن تَنتميَ إلى قصور مختبئة في حبات الندى.

 نقشُ الهزيمة على حطب الضياع. القتلةُ يعودون إلى زوجاتهم في نهاية الدوام الرسمي في المجزرة. يعانقون أطفالهم ويحثونهم على الاجتهاد في المدرسة وعدم الكذب. وأطفالنا يأخذون حجارتهم من فراغات جنازير الدبابات.

 أحزانُ الرصيف محطةُ قطارات لتحميل القتلى الإيطاليين في بنغازي. أبناؤنا يَدرسون مفهومَ الرومانسية عند الممثلات الهنديات. أيتها الأميرةُ المزيَّنة بالحطب والزَّبدِ الفاخر، ليس بِوسعكِ أن تشتري تابوتَ أُمِّي.

 إنه الرَّحيلُ القادم عن هذه الأرض التي تخنق أجواءَها أجراسُ النزيف. أغنامي المتفرقةَ كالجلادين المتقاعدين، لنكنْ أصدقاء، اشْتَرَكْنا معاً في السَّفر في جبال الأشعة الشمسية. لي خُطاي على ظهر كوكبنا ولك خطاكِ. اسْتَرَحْنا في فُوَّهة العشب. مَشَيْنا جَنْباً إلى جَنْب، واقَْتَسَمْنا دموعَ البراري. وسوف أسافر وَحْدي، ورِحْلتي القادمةُ ذهابٌ بلا إياب. نِعاجَ المأساة، لا تساعديني في إعداد كفني. سَأُعِدُّه بِنَفْسي. جَدِّي وآثار يديه على جذوع الزيتونات فوق التراب. وهو الآن أسفل التراب. فلا تَبِع دراجتك الهوائية أيها اليَنبوعُ لتشتريَ أكفاناً لي. لقد كان طموحي أن أكون مُؤَذِّناً على كوكب الزُّهرة.

 أيها المطرُ الذي يَعبر الضبابَ البنفسجي، أراكَ من وراء نافذتي. غُرفتي سِراجها مُطفئ ولكنْ تَوَهَّجَ نزيفي تحت جسور سراييفو. للنِّسيان وردةٌ صفراءُ، وللنَّحل مملكةٌ لا يخمشها ابتزازُ المنافي. وتِلْكَ الآبارُ في أطراف الهديل قريةٌ. أَتوكَّأُ على أفعى، وبراميلُ البارود تتوكَّأ على عمودي الفقري. وفي كُرياتِ دمي حربُ شوارع، إنني القاتِلُ والضَّحية.

 

يَوْمَ تَزَوَّجَ الخليفةُ الذي لم نُبَايِعْه

 جرادةٌ مَزَّقت حاشيةُ الثلج أجنحتَها بعد أن وجدوا مذكراتها بين جثتين تسدان ثقوبَ الصولجان. إجبارُ أحزان الطرقات تحت تهديد السِّلاح على التصفيق للموكب العابر حشراتٍ. سنبلةٌ صادروا مؤلفاتِها كما صادروا رسائل السُّجناء.

 في بلادِ القياصرة العبيد يصير الشَّعبُ منظمةً سِرِّيةً محظورةً!. يدخلُ الرَّمادُ في نعوش القبائل الموالية للشَّيْطان. ترقياتٌ لذئاب الوادي إلى رتبة مجرمي حرب. حفلٌ لتوزيع المسدسات على شيوخ الميليشيات لحراسة الأعداء.

 يا أيتها الغزلانُ التي يكسر قُرونَها مواكبُ الآلهةِ المرتزقةِ. يا أيتها الغزلان التي تحمل أحلامَها على رموشها، وتمشي أمام الينابيع لإيصال البِحار إلى صغارها. إِنْ تَعِبْتِ من المشي فنامي على زندي كي تستعيدي ذكرياتكِ في الأدغال. للقلبِ الطريدِ دربُ تحريرٍ عابر على أفئدة السنونو في جبهة القتال الأزرق. تتدفق مياهُ البئر على ريش نَسْر سَحَبَ منه العسسُ جنسيته لأنه رفض تقديم التهاني للخليفة.

 إِنْ أَغْلَقوا الحدودَ أمامكم فارحلوا إلى صدري لتقيموا فيه. وإِن وصفوكم بأنكم خارجون على شريعة الديناميت، فاشكروهم على مَوْتهم وارْحَلوا.

 جُرِحَ عُقابٌ وسال بعضُ دمه في مياه نبع متدفق وسط الغابة. العسكرُ الملتفُّون حول خط الاستواءِ وأعوانهم من فئران الحقول يُطوِّقون كُوخَ حُلْمي. مِصْباحيَ الزيتيُّ في سقف الكوخ. أُحَضِّر مأدبةَ غداء للكستناء المنفية. وأنا أَسِيرُ جُنونِ الرَّمْل رهينُ الشَّفق الهش. بَطَّةٌ تشرب الشاي في ذاكرة حصان جامح، وتُغادِر حُلْمَها المتشعب داخلةً في هواجسها، وتذهب لتنظِّف الأغصانَ من كَهَنةِ البوليس السياسي.

 

الطريقُ إلى الطريق

 في صباحِ الأربعاء التي تَسبق إعداماتي، تُلَوِّثُ أجراسُ صالات الرقص ذَرَّاتِ الأكسجين. يُصاب الرُّكام بالقرفِ من خرافات الأعشاب الخائنة. وتُصاب الزوجاتُ الخائناتُ بالغثيان من الحفلات الموسيقية. والفتيانُ يُردِّدون ما تقوله عِصابةُ الأوحال فرحين بالتعرف على فتيات جديدات كمسامير المقاعد. تَرى كومةً من الموتى يُنشدون في المعبدِ نَخْبَ ضياعهم. تتجمع الفتياتُ العاريات اللواتي يَصْلُبْنَ الحزنَ على صُدورهنَّ المصلوبة أمام عيون تجار الرَّقيق الأبيض. وفي الجانب الآخر من الكفن الجوال يفتتحون المزاد العلني لبيع " صكوك الغفران ". هناكَ أسعارٌ تناسب جميعَ الخفافيش، وهناكَ قِسْمٌ للعائلات الغارقة في الخطايا!.

 هنا أو هناك. روما إلى الهلاك. سقط كُرْسِيُّ الجليد على ذَوَبان المستنقعات في القلوب الضَّحلة. كلابٌ بوليسيةٌ تقودُ كلاباً بوليسية. يحمل الشيطانُ على كتفيه قطيعاً من المسدَّسات لتسويقها بين الرماد. والمقاعدُ الخشبية عليها مقاعد خشبية أخرى تدعى زبائن الحرب.

 حضارةُ الإبادة هي كُشْكُ سجائر مصنوع من خشب الإبادة الفاخر!. تهريبُ الأحلام الممنوعة في خاصرة السُّيول. احتمالٌ قوي أن يَغتصبَ الظلُّ الخشبيُّ لَوْنَ صَمْتِنا. صَمْتٌ رماديٌّ أَعني موزةً مُحترقةً بالثَّرى. دَخَلَتْ في الدهاليز إناثُ الطين هُنَّ آنساتُ العمى اللواتي تنخرُ أَيامَهنَّ الإعلاناتُ الكاذبة. والبرقوقُ مُخرجٌ سينمائيٌّ للأفلامِ الخياليةِ. إمبراطوريةُ السُّل على هامشِ يومياتِ المساجين. يُسعفُ نَابُ العاصفةِ المجروحين. من أرضنا نبتوا سُمَّاً صارخاً في تضاريسِ اللوْز.

 

الرَّحيلُ إلى ضَوْء المِئذنة

(اعترافاتُ قِس اعتنق الإسلام)

 كُنتُ حَجَراً لا أكثر. أَخلعُ قلبي وأُلقي به على حافة الهاوية ثم أدخل مختالاً إلى المقبرة الملوَّنة في ثيابي. لم أكن أعلم ماذا أفعل في حياتي. أُنشد التَّراتيلَ التي لا أفهمها، والحضورُ يُردِّدون ورائي ولا يَفهمون ما أقول. كُنَّا نضعُ أصابعَنا في أحضان السراب غاباتِ الانطفاء.

 كانت الوجوهُ أمامي في عُنفوان الزَّبد. عيون تدور في أدغال الظمأ. رأيتُ العتمةَ تقفز على جباههم. خرجتُ من محيطٍ مُوحلٍ موغل في الأساطير. حقنوني في الدَّير الموحش بالخرافة، وهي أن إلهنا قد صُلب. وكان السؤال الذي أرَّقني في ليالي السهاد كيف سيُدافِع الإلهُ المصلوب _ حَسْبَ زَعْمِ الغُبار _ عني وهو لم يستطع أن يدافع عن نفسه؟!.

 عِشْتُ جُزْءاً من حياتي في بئرِ الإبادة، ولستُ الوحيدَ. بل إِنَّ كُلَّ الذين يضعون رؤوسهم في أحضان اللامعنى هم موتى يمشون هائمين على أرواحهم بلا ضَوْءٍ آخر النَّفق. كانت أعضائي مومياءَ الشَّك، وأعصابي تَسيلُ على حَيْرةِ أعمدة الكهرباء المنطفئة. حَقَّاً، قد كان جسدي المحترقُ أثاثاً للخفافيش التي تُقدِّسها صُكوكُ الغُفران.

 وهذا الظلامُ الذي رَميتُ فيه جَوارحي جعلني أَذبحُ الظلامَ بخنجر الذاكرة، وأهربُ إلى النُّور. أُهاجِر إلى الضوء حاملاً جمجمتي في أكياس الشَّفق، راكضاً إلى الأكسجين لكي تتنفس أعضائي مثل كل الغيوم. تذوب روحي في حروف القرآن، ويتداخل قلبي مع خيوط حِجاب الفراشة. لأول مرة أكتشف أن وجهي ليس خيوطَ عناكب الأساطير. أنا العَتْمةُ المهاجِرةُ إلى نوركَ يا قُدُّوس.

 

تَناولُ الدِّيمقراطية على الغَداء

 حمل اللصوصُ الحمَّى في عروقهم إلى سواحل أمريكا اللاتينية كي يستمتعوا بمنظر الغابات المحروقة. ودِنَانُ الخمر يأخذونها بعد شنق العنب على الصخور المفتَّتة في الأكواخ والبيوت الورقية.

 لم يُفَرِّقوا بين دماء الأطفال ولون الخمور. هذه ديمقراطيتهم تجري على نباتات متقدِّمة في الجماجم. أَشْعَلوا الخشبَ الذي يُظَلِّل صَمْتَ المرضى والعجائز. نَصَبوا على قمم السراب نقاط تفتيش لقوافل العصافير. قَسَموا ظِلَّ النرجس إلى نِصْفَيْن متساويَيْن. افْتَتَحوا مدرسةً لتعليم رقصة التانغو على القبور وبطون الثكالى.

 دَمَّروا قواربَ الصَّيادين البسيطة، وصنعوا منها أصناماً صبغوا بها الأسرى. سَرَقوا حجارةَ المسجد ليقيموا معابد ومذبحاً يتخذونه مَزْرعةَ خُشْخاش للقوَّادين. وقالوا: «هذا تاريخنا العريق، وهذه أراضي أجدادنا.»

 رَفَعوا لهم راياتٍ من دماء الملايين، وأخبروا الصحفيين أن هذا عيدُ استقلالهم!. حَفَروا الصُّلبانَ على أعين السناجب!. شَيَّدوا محاكمَ التفتيش في عُش بلبل مذبوح!. ولما سَمِعُوا الشمسَ تقول الحقيقةَ، قَبَروا السكانَ المحليين لئلا يَعرفوا الشمسَ.

 يا صُدورَ البحيرات الغربية، رفضتِ الصليبَ فصلبوكِ. يا رمالَ الغرب الموغل في رماد العَلْمانية، على شواطئ الكوليرا العُراةُ والشَّواذ جنسياً. يا زيتَ الزيتون القادم من الأندلس، أجدادي زرعوا شجركَ، وقُطاع الطريق قطفوكَ. وجذوركَ لو نَطَقَتْ لقالت الحقيقةَ.

 مِن العصفِ الأُنثوي في الأورال الذي يتحدث الجنسَ بطلاقة يتسرب انتحارُ الغزاة الروس في أفغانستان. مِن النساء الأوروبيات اللواتي أخذ الفِرنجةُ ثيابهنَّ أشرعةً لسُفُنٍ يُحطِّمها مضيقُ جبل طارق تأتي الخيانةُ.

 

دَمي ليس شاطئاً للعُشَّاق

 أنا وأحلامُ الصُّقور على قَشِّ الإسطبلات الواقف سَهْماً في جباه القراصنة. تَدَثَّرتْ أغنامي بجلود الفراشات. عاشت البريةُ في قناديل حياتي الثائرة، وعاشت المراعي جزءاً من أحلامها في فمي نباتاتٍ مليئة بالندى والهدوء والقتل.

 قلبي يُصافح الأنهارَ التي تخترق أزهارَ معدتي. في هَدْأةِ لحم الليل تنزف سُحُبُ الأحزان من أصوات الغرباء. ويبدأ البكاءُ يقتلعني. لا أبكي لأن خيمتي مَرَّت في زيوت شَعْر الأرصفة. لا أبكي لأن زوال بريق أعلام الحلم فقد وظيفته في طُحالي.

 رُوما إحدى أقنعة ميلانو المهشَّمة. زيتُ الزيتون الأندلسي يدل على فأسِ جَدِّي. هذا الوهمُ الذي حَوَّلَ الإنسانَ إلى مِقْصلة لذبح الإنسان. حَوَّلَ زُرقةَ الشطآن إلى مشروع استثماري لتفريخ القتل. حَوَّلَ الشعبَ إلى آلة لإنتاج الحقد.

 لن أنتظر القطبَ المتجمد حتى ينشر اعترافاتِه في الصَّحافة المكتوبة بدماء الضحايا. سأقول ما لم تستطع البحيراتُ المنبوذةُ قَوْلَه.

 أَذْكُرُ أني أسقطتُ بمساعدة الشواطئ أربعَ إمبراطورياتٍ في نصف ساعة!. طَعْمُ الجوافة يُحَلِّق فوق البراري جنوب ذكاء يعاسيب النحل. أَسَدٌ يَفْرض حظراً على حركة ظلاله على هياكل السفن الغارقة في جسد شمعة.

 تتزاوج الثديياتُ بعيداً عن كيس الرِّماح الذي أَحْمِله على ظَهْري. غَديرٌ يزرع مِنقارَه في سِكَكِ حَديدٍ مهجورةٍ أَنشأها غِمْدُ سَيْفٍ يَقْطرُ مِنْه رَوائحُ النَّفي، وملاحقةُ أنصاف رجال الأمن. كَهْفي مَطبعةٌ لمؤلفات الزَّوْبعة. رأيتُ نباتاتٍ تحيا بين القبور. ضَوْءُ البَرْقِ في أعالي حُنْجرتي.

 يَنْشرُ عبيرُ الوِدْيان الهادرُ مصيدةً للأمواج. لا معدتي برقيةُ ولاءٍ للقاتِلين، ولا كَبِدي مَخْبأ لأموال الملوك المهرَّبة إلى الخارج.

 

بُلبلٌ يَهْزِم الطَّاغيةَ

 ذُبابةٌ تنحدر من عائلة مفكَّكة تمتص عَرَقَ الفلاحين في الحقل الذي تراقبه وِزارةُ الإبادة الجماعية. إن الغَرْبَ يُشَرِّح جَسَدَ المرأة على موائد المقامِرين قطعاً متساوية الحجم، ويُسَمِّي ذلك حقوق المرأة!. والبَدْوُ الرُّحَّلُ يَحملون نِساءَهم في عربات اليأس ويركضون خلف جائزة نوبل.

 بُلبلَ التَّحدي. اصْعَدْ من هزيمتكَ في معركة الظلال، وادفن دموعكَ في جثمان خجلكَ. عَلامَ الخجل؟!. هل خجلوا منا حين قتلونا؟!. لا يوجد في قبعة الطاغية متسعٌ للزهر والينابيع. وَدِّعْ محاصيلَ الذُّرة واحْرِقْ ظلالَ نعشكَ وانطلقْ أجنحةَ عُقبان. لا تمسحْ عن جبهتي الترابَ لأن سجودي لخالقي ثَوْرتي. مَزِّقْ هُبَلَ واعْبُرْ حُقولَنا كي يندثر الاختناقُ وينكسر.

 أُصيب الطاغيةُ بالصُّداع من كثرة القتل الذي اقترفه، وقال لأعوانه غداً نُكمِل القتلَ!. قَارَّاتٌ عَاقِرٌ مثل صخرة مُتَّشحةٍ بالزئبق. باضت حمامةٌ على جذوع الهديل في عرين الندى. وقواتُ الأمن تلاحقها وتفرشُ السُّمَّ على صَخْرٍ مُشَقَّقٍ كرداء حضارة الذئب. إن المساءَ أكثرُ نقاءً من خدودي في الشتاء القريب من سَيْفي.

 تنهار راياتُ الثعالب على خاصرة الجليد الحادة كحواف الموانئ القديمة التي شهدت أعراسَ السَّمك. لا مكان في كبدي لمقابر القياصرة المتَّسخة. لا مكان في بستاني لشجر الغرقد. لا مكان في كلامي لمدح القاتِل. لا مكان في أضراسي لأوحال الأكاسرة.

 اقتلي فحيحَ غرف التعذيب يا صواعقُ، وتعالي هادرة كي نهزم هولاكو. تعالي في الصباح تعالي في المساء. لا ترقبي قدومي. فالشموسُ العشبية تَسقط في دمي الأبيض. أَفتح نوافذَ الوداع لمرور نَبْتةٍ تقصفها الطائراتُ المعادِية، لعلَّ صَمْتَ الأغنام يحشو الرصاصَ في البنادق. لعل بوصلةَ الثورة تتجه إلى إلغاء تماثيل الأكاسرة المنصوبة على أصابع أطفالنا. كُلُّ سُفنِ القراصنة هاوية سحيقة. أَقتلعُ من ساق نَعَّامة عاصمةَ الفِطْر السَّام. أَنزعُ سجائرَ الفرنجة عن عِظام شطآن الصدى.

 نزيفُ البرتقال على نحاس ساعات اليد نشيدُ السهام عند الغروب. وخريرُ الماء يحسب عددَ الأسئلة التي يطرحها المحقِّق الهندي على الثَّائر الكشميري. حَضَنَ الموجُ أطفالَه الصِّغار.

 

خَواطرُ جُنْديٍّ فرنسيٍّ

 يا قَائِدي لا تَنْسَ أن تُمَثِّلَ بجثتي لترتاحَ نفسُكَ الشريرةُ وتتأكَّدَ أنَّكَ من الغُزاة. وَلْتَفْرَحْ بناتُ باريس حين يتذكرنَ انكساري ويذهبنَ إلى حفلة الجماجم في أُمسيات لاس فيجاس.

 كنتُ في الحانة الرَّمْلية مع عشيقتي نتجرع هزيمة نابليون. كتيبةُ الدِّيدان اذْهَبي واسْرِقي الجزائرَ. عِنَبُ الجزائر نَبيذُنا، ونحن شوارعُ الضَّجر.

 يا زوجاتِ الجنود السَّمينات، أَجِّلْنَ الخيانةَ قليلاً!. لا تُسْرِعْنَ في المشي على الأكفان. لَدَيْنا الوقت الطويل لإحراق المحاصيل الزراعية. دِيغولُ يا رمزَ الجريمة المرصَّعة بالفيتو الفرنسي.

 تَقَدَّموا يا شبابَ هَوَسِ القَتْل. اسْحَقُوا جِرَارَ الماء لِيَعْطشَ أطفالُهم. اشْرَبُوا بَحْرَهم لتُصَابَ سَوَاحِلُهم بالجفاف. أَحْضِروا عُكَّازاتِ العجائز إلى متاحفنا.

 أيها الجنديُّ يا ذا الأصابع الحاقدة. كَرِّرْ أَوهامَكَ حتى تُصَدِّقَها. كَرِّرْ إِجْرامكَ حتى تَراه حُرِّيةً. مَزِّقْ أَشجارَ الرُّمان. واغْرَقْ في ألحان مُشاة البَحْرِيَّة.

 

انتحارُ الجِنرال

 بَرْقوقُ الشُّموس يخترق أمعاءً مُهَشَّمةً على أزرار البِزَّة العسكرية لجنرال اليأس. كُنيتي عاشق الفجر. وكان الضوءُ يُقاوِم جنرالاتٍ أصحاب مخالب قرميدية. يُجْرون القرعةَ أَيُّهم يبدأ في تشريح تابوت كروان واقع في الأسر. عَقَدوا على أشلاء الإنسان مؤتمراً لحقوق الإنسان!.

 خَبَّأَ نسيانُ الحجارة رحيقَه في روابي قريتي المخضَّبة بالسيوف. للحطامِ قُبَّعاتُ المغول. ارتفع منسوبُ الانهيار في دم الأحزان المتقاعِدة. وَقَّعَ إمبراطورُ اليابان وثيقةَ الاستسلام. كأن قذائفَ المدفعية تجفِّف ذكرياتِ فأر نيويورك الرمادية.

 وبَيْنما كانت نِساءُ رُوما يَأْكُلْنَ الشَّبابَ المدمِنِين على الأفيون، كانت عُيونُنا تَقْصِفُ أوروبا من الإسكندرية لتحرير الوهمِ من الوهم. استقالت أطرافُ القَيْصر من العمل في المذابح بعد خبرة طويلة!.

 يا رمالاً تنحت في رقاب التتار صورتَها. لا تشكريني لأنني حَوَّلْتُ أشعةَ حبل المشنقة إلى رسائل بين الأصدقاء. وَدِّعْ أشكالَ الأواني الفخارية يا لون جِلدي. ولا تحضرِ المؤتمرَ الصحفي للشَّيْطانة. وكالاتُ الأنباء تبحث في أشلاء زهرة عن سَبْقٍ صحفيٍّ.

 بَيْتي الذي كان طابعَ بريدٍ، نفاه رجالُ الأمن إلى منحدرات الثلج المجروحة. هَيَّا إخوتي رُعاةَ الغنم نبكي مع أغنامنا. دَمُنا في عُروق الرَّعد، فكوني يا أعشابَ القصدير أكثرَ وفاءً من أنثى العنكبوت. كَبِدي، هل سمعتِ زئيرَ الجداول يَضرب الغابةَ؟. هل رأيتِ صولجانَ القمر يلتفُّ حول مذكرات النبع السِّرية؟!.

 وعلى أيدي القتلة يعيش غبارُ البحيرات: «دُويلاتٌ يستأجرها الرَّمدُ البرونزي. صورُ مُتَسَكِّعين يَذبحون دهانَ أقنعتهم في السِّرداب. جيوشٌ بلاستيكية تقبض حِصَّتَها من الهزيمة».

 سَيْفي صَرْخةُ النجوم في ليل الخوْخ. أنا صَوْتُ المطر في مراعي التطهير العِرْقي. وَقَعتْ جَرادةٌ على انعكاسات شراع قاربي الذي يَغرق ولا يَغرق. كلما تَرَسَّبت بواخرُ السلاح في قاع معدتي تجمَّع القراصنةُ لسقي أزهار البحر.

 أيتها الريحُ اعْتَقِلي تجارَ الحروب. للرصيف البلاستيكي عائلةٌ قلقة على غيابه. كتبت الأعاصيرُ تقريراً غامضاً عن حالتي الصحية وسَلَّمَتْهُ إلى النَّعنع في أنسجة الجهاز العصبي للبحيرة.

 

الرَّحيلُ قَبْلَ الأَخيرِ

 ضَبابٌ يمنع أضواءَ الشارع من رؤية العاصفة وهي تمزِّق بلاطَ حُجْرتي. يا وطني القاتِلَ المقتول، اتركْ غزالَ القلق يُوصِل الأضرحةَ المشوية إلى زوجته المريضة. قَلَمي يتزوَّج البندقيةَ في أعراس الغَيْم. أعصابي ينقشها لحمي على دمي.

 رئتي الأولى تَسْبح في رئتي الثانية. هل سيمشي جنودُ الحطب في جنازتي؟. أعناقُ أطفالِنا تَسحق الأرصفةَ المفروشة سلاسلَ في أعناق الحمَام الزَّاجل. يقتحم القرميدُ بُلْعومي ثائراً يَرُجُّني. نيزكٌ مشاعرُ الجبال التي تَدْفنني وتُصلِّي عليَّ. إن النَّهرَ يقتل نفسَه حين يغسل الثيابَ الرسمية للقاتِلين. غَنَّت الأسماكُ في وقتٍ كانت فيه أنانيةُ قضبان السجن إعصاراً يَصقل خنجرَ أَبي. تُنَقِّب سمكةٌ خضراء عن حُلْمِها في حُلمها. كيف تجد حُلْمَها يا حُلمها؟!.

 يعصرُ قلقَ الأدغال برتقالٌ ناضج على أغصان قلبي المفتوح للقلوب الاصطناعية. هذه الزَّنازينُ الرَّمليةُ تدل على آثار العابرين. أنا ناقل الخبز إلى الحيتان الزرقاء الجائعة. قصائدي تأخذ بيدي نحو شاطئ لم يُولَد.

 نَظراتُ قِنديلٍ رَقصةُ الفِيَلةِ على سطح الخراب. وهذه الصاعقةُ استأجرتْ سِكِّيني لتقطعَ موجةً شريدة. بعيدةٌ أنتِ، يا ثيابَ والدي العزيزةَ، بعيدة.

 قَبَّلَتْني أُنثى كروانٍ أمامَ البحيرات العوانس. دجاجاتي تُحتَضَر في رمالٍ متحركة في تغريد أمعاء الحجارة. ونحنُ كائناتُ الرفضِ. خِصلةَ شَعْرٍ لماعزٍ مسافر في عشبٍ أحمرَ كان مِشْطُ الأمواج. لعلَّ الدِّماءَ قَبَضَتْ على العشب.

 تلكَ أَشعةُ القمر مَزَّقتْ حِبالَ خَيْمتي، فسقطتْ يَدِي على الأَرضِ كما يسقطُ حنينُ المطرِ إِلى ثُقوبِ سَقْفِ كُوخي. وتاهتْ أَشواكُ البيداءِ في جبهةِ لبؤةٍ عقيم. إِنَّ أَخشابَ البُحيرةِ التي انضمَّتْ لِدروسِ محوِ الأُمِّيةِ تنشرُ خواطرَها في وطنٍ مُرصَّعٍ باللصوصِ. وقلاعُ أَجدادي آختْ بيني وبينَ القمحِ. كأَنَّ امرأةً جميلةً تعتني بأيتامها في قَبْوٍ مُضاءٍ بالمصابيحِ القديمة، ويتدفَّقُ من ضُلوعِها حُزْنٌ قابلٌ للاشتعالِ.

 على تُرابهم عاشوا وماتوا، إِنَّهم شُموسُ الغُربةِ. أَطفأَت الموقدةَ طحالبُ عنيدةٌ تقطنُ في قُمصانِ الانكسار. وساعي البريد يوصل رسائلَ الملاجئ إِلى الإِوَزِّ الهاربِ من الخِدمةِ العسكريةِ.

 وَلَمَّا وُلِدْتُ كان الموتُ موجوداً، وكان هناكَ سِنجابٌ يعيشُ في وِحدةٍ تُشبهُ وِحدةَ فاكهةٍ شتويةٍ في الصَّيفِ. كلما خَطَّتْ يدُ الوادي قصائدَ الحبِّ انتحر العُشَّاقُ، ونامتْ جثامينُ الطيور على بوصلة المنفى الزُّجاجي. وترقبُ بنادقُ الصَّيد طائراً يدورُ حَوْلَ وَجْهِ أُمِّي والسَّحابِ. أُريدُ أَن أَرحلَ باتجاهِ فضاءٍ من الكلماتِ قبلَ أَن يقتسمَ دمائي جيشُ الظلالِ.

 إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلى رَبِّي. شمسُ الدَّم تأتينا من كل الجهاتِ لتنفضَ الإسطبلاتِ عن أجفاننا. تدق المساميرُ صمتَها على لوحةِ الدماء. وفي المساء يشرقُ الغديرُ الوسيم على جُثة صديقي. غَدِيَ القبرُ. كلما شعرتُ كتبتُ نهضتُ أكسرُ ظلالَ النسور على وردةِ الجنون.

 إنني أكتبُ بالسيفِ، وأحياناً تُساعدني المذنَّباتُ. أَنشدت القطاراتُ البخاريةُ في الأنفاق مقطوعاتٍ شِعريةً للأحجارِ. ولم تكد ناطحاتُ الوهم تخلط زيتَ الزيتون بدمائي حتى سمعتُ هُتافَ الأرض يطلع من الأقبيةِ: «وداعاً يا أشجارَ جنازتي، خُطواتكِ على ثوبي تَدْخُلُ فِيَّ تُوقِظُنِي». وهناكَ، ماتَ الرَّعدُ مُعانقاً الغَمام.

 جرائدُ مواليةٌ للحزب الحاكم تَشُمُّ دقاتِ قلبي السِّرية. مقابلةٌ صحفية مع الفيضان عند مَصَبِّه في دماغِ فُقْمَةٍ. رجاءً يا فراشاتِ الضِّياء، ارْحَلي عن قبرِ أُمِّي، وأخبري فتياتِ ميلانو أن البوسنيات يُرْشِدنَ أمطارَ الرُّوح إلى بساتين جثتي.

 ونهرُ الرَّاين يُعلِّقُ على الصَّليبِ نَحْلَةً مُقْعَدَةً، ويَضحكُ. يدهنُ سقفَ السِّجنِ بأشلائنا وبقايا صُوَرِنا، ويَضحك. لعل ضَحِكَهُ حكايةُ رُفاتٍ في نهاياتِ الخريف الدَّامي.

 سأرجعُ إلى لحمي كي أصف ملامحي في الشُّروقِ. فالموتُ شقيقُ الحياةِ، وأنا ترابٌ فوقَ التراب. فَسَجِّلْ يا جليدُ أرقامَ الشَّوارعِ الفرعية على دكاكين الهاربين من الحروبِ إلى الحروبِ، ولا تُغادرْ وشمكَ الخائفَ من حَرْبِكَ مع غرورِ الطاووسِ. لعلك تحلم بوجبةِ إفطارٍ مع الظِّباءِ المذبوحةِ في الحصار. رَاسِلْني على عناوين سَيْفي في أُفق المعركة المفتوح لاحتمالات استشهادي، ومقتلِ غاباتٍ مُحتضرة.

 لتلةٍ ترثُ أغنيةَ الصخر على ذَنَبِ ثعلبٍ يُستخدَمُ كلبَ صيدٍ!، أكتبُ اعترافَ الزَّنابق. حَدِّدْ موقفَ الأموات من طَيْشِ القممِ الثَّلجيةِ، من حظيرةِ أبقارٍ في مصعدٍ مُعَطَّلٍ.

 التواءٌ في كاحل الشَّفقِ ينشرُ الفُلفلَ الكسير على ناصيةِ الشَّارعِ النَّظيفِ. بياضُ الصَّقيعِ حفرةٌ تهوي فيها وقاحةُ المنفى. وأطفالُ المخيَّم يَستعدون للبوح لاستقبال العام الدراسي في السُّجونِ والمنافي قُرْبَ أكوامِ الحجارة.

 لمحنا جاردينيا مشنوقةً، أطرافها محترقة ولكنها لا ترتعشُ. الصَّيادون في يافا يُحرِّضون فقاعاتِ الماء على القتال. الموقدةُ تبتكرُ مملكةً للمشعوذين. والمومساتُ المتشحات بأثدائهنَّ النَّاشفةِ في ارتعاشاتِ الممر المنبوذِ. أين ستُعلِّقُ محاكمُ التفتيشِ قتلاها؟!. توارى التبغُ المصاب بالإيدز في نوم خنفساء على مشتقات البترول. دخل تاريخُ الفرنجة في وشاحِ مومياء. فلم يعد للغزاةِ تاريخٌ سوى قنابلَ عنقوديةٍ على أملاحِ انتحارِ قَيصرَ الآتي من المطر الحمضي، وتوقيعِ البراكينِ في صفحاتِ هيروشيما الغابرةِ.

 يا إلهي العظيمَ، نُورَ السَّماواتِ والأرض. تهاجرُ روحي إليكَ، وأنا في ملكوتكَ البديع. آتي إلى بيتكَ ذلك الفضاءِ وفي عنقي أغلالُ خطيئتي. أَتَعَرَّفُ على شهيقي وزفيري شَاهِدَيْن على خطايايَ. أَحِبَّنِي أَجِدْ اسمي وقلبي.

 أنا العبدُ ذو الثيابِ الرَّثةِ على شبابيك زوايا الصُّوفية. أنا الوطنُ المسروقُ في السَّهلِ الدَّمويِّ. والغيمُ يرصدني. سَيِّدِي الله، أَنْقِذْني من أشلائي.

 

اغْتِيَالُ العَاشِقِ الصُّوفِيِّ

 الذي وَضَعَ أغاني أدغالِ الدَّم على سَرْجِ حصانٍ هو النِّسْيانُ الأخضرُ. وَضَعَها واختفى في حِوارِ جُرْحَيْن جَامِحَيْن على مائدة خالية. أيها القلبُ الذي يتحول وطناً للغرباءِ وعابري السبيلِ. يتحول مسكنَ لاجئين، يصير وطنَ القصائدِ الممنوعةِ. مسكونٌ أنا بالمطرِ. خَبِّئْني في زَهراتِ نبضكَ، في حروفِ لغة ترابكَ، مُروجِكَ المزهرةِ رغمَ احتلالِ دفاترِ الرِّيحِ لقلوبِ الشلالات الأسيرة. وخُذ المشرَّدين من مِضَخَّةِ الماءِ في الحقولِ إلى سريرِ التَّعبِ ليرتاحوا!. لا تُسَلِّمْنِي لثرثرةِ الأَرْزِ المعْدية في جهاتِ جَوْز الهند الاستوائي. أَعِدْ لي جثثَ الأَرانب المتعفِّنة كي أدفنَها في الهضاب الخارجة على قانون الغاب.

 أضاعَ الضَّبابُ فُرشاةَ أسنانه في سيرةٍ ذاتية لِفَرَسٍ. وفي مدائنِ الصَّمت حصانٌ لم يَرِثْ عن أبيه إلا المنجلَ. لكنَّ عودةَ العَوْسجِ إلى أبجديةِ قوسِ قُزَحَ تُشاهدُ رَجُلاً يُردد أناشيدَه في البريةِ. تَابَعُوا خُطاهُ على كومات القش المطعونةِ، ووَجَّهوا رماحَهم ذات الرؤوسِ الفضية في عينيه، وأَطْلَقُوها. كانت زجاجاتُ العصيرِ الفارغةُ شاهدةً على اغتياله، فَكَسَرُوها!.

 ولما اصْطَادوا ذَكَرَ النَّعامِ قالوا له: «عَلَيْكَ أن تنتميَ إلى الوطن». فَرَدَّ عليهم والسنابلُ تَجرحه: «أين هو الوطنُ حتى أنتميَ إليه؟!» وطنَ النوارس الذي يضيع في وريدي مشانقَ ضاحكةً ومجلاتٍ بدون عناوين. أنتَ زنزانتي وحريتي وطفولتي المقتربةُ من جمر العطش. والغاب يعملُ بعد الظهر طبيبَ أسنانٍ.

 كيف سأغرسُ صنوبرَ الأمسياتِ الخريفيَّ في مقابر الفراولةِ ويداي ملطختان بالجذور الصَّارخةِ؟!. اكتشفْني في مقبرةِ عائلتي وأنا أدورُ كالطير المذبوح دمعاتٍ، واكتشفْ في الأناشيد الميتة زوبعةً عندما تذهب البروقُ لتنامَ على ياسمينة جاهزةٍ للترحالِ. استخدمْ أشعاري لكي تسقيَ القلوبَ الجافة.

 يا كُلَّ المخبِرين العائدين إلى أرضهم الميتة في الصباحات الباكرة، أُطردوني من جُرحي سوف تجدوني في جراحِ الآخرين. امْنَعوا أشعاري من مشاهدة التل الفضي تجدوا الأفقَ يُغَنِّيها وعيوني. اسْتَصْلِحُوا صحراءَ الكآبةِ المحتاجةَ إلى طفولة الملامح المختفية في العواصفِ. ادفنوا ضحاياكم بعد أن تُصَلُّوا عليهم. أمهاتهم رَجَعْنَ إلى مجموعة الصور الذابلةِ في كتابِ الفلوات. وسجدتْ حنجرتي على سجاجيدِ الجامعِ العالي. تِلْكَ دموعٌ خضراء في الغُرف السِّرية في الدَّيْرِ. إن الباستيلَ صورة السُّعال على الفؤوس. ألواحُ المسلخِ الشمعي والزَّيْزفونُ القتيلُ. والأعاصيرُ لا ترحمُ آهاتِ البُنِّ المنهمرة. ما لونُكِ يا أعلامَ القلعة عندما يوقظُ شعاعُ الشمسِ مدخنةَ البيت وتلتهمُ استدارةُ الدُّراق الإسفنجَ البحريَّ المعدَّلَ وراثياً؟.

 كقصبِ السُّكَّر في الظلماتِ كان أخي. تَوَغَّلتْ نعومةُ الأمطار في أعماقي كي أراه. أنا الذي رفضتني نساءُ كوكبِنا لأني لا أنامُ إلا مع سَيْفي. أنا هازمُ الأكاسرة. زنودي بابونج الثورة. أَطردُ رعاةَ الرعشة الواقفين على بابٍ مُعلَّقٍ على قَشَّةٍ. وَلْتَنْهَضْ شوارعُنا تُكَنِّس أحطابَنا المتقمصة أدوارَ إناثِ الكلاب.

«إن زوجتي لم تولد بعد ولكنني أحبها، ولا أعلم من سيموتُ أولاً أنا أم اكتئابي». هذان آخر سطرين كتبهما قَمري، وقد وجدتهما في وثائقِ المطر. أُنبوبٌ من زبرجدٍ يحتسي مشنقةَ العاشق الصوفيِّ. قَتَلوه، ونَسَجوا من سنبلاتِ كَبِده معطفاً سميكاً. لَيْتَهم رَأَوْا شالَ ابنته الصغيرة ممدَّداً على القناديلِ الباليةِ. قالبُ شوكولاتة في يدها ذَوَّبه وهجُ الرَّصاص في دمها. لَيْتَهم رَأَوْا زُمردةً على شِراع الهجراتِ تسأل عن نجمةِ الشَّتاتِ هل ستطلعُ في الضُّحى الآتي؟.

 شمسٌ تطعنُ جدائلَ الريحِ. أعلامٌ منكَّسةٌ في إعصارٍ باحثٍ عن عروش دمي. أنا آسفٌ لأني تألمتُ حينما قتلتموني. أنا آسفٌ لأن لُعابي لَوَّثَ معاطفَ الملكات وَهُنَّ يَبْلَعْنَ الشمبانيا على جثتي. أنا آسفٌ لأن رؤيةَ أكفاني قد عَكَّر مزاجَ الليلك. أنا آسفٌ لأن صرخاتِ مَرَضي قد أَزعجتْ ضيوفَ القَيْصر في رُفات المجزرة.

أُحب وقتاً عالقاً على عُشبةٍ بعدد المخبِرين الجالسين في جَوْف بِنطالي. بئرٌ تراودني عن نَفْسي. إن احتضاراتي قادمة. إن لأَمْسِي زُمُرُّدةً تنخرُ تيجانَ الركام. يا تاريخَ الأسماك المتكسرَ على بلاطِ مستشفيات روما المعقَّم بالرؤوسِ المخلوعةِ، ارفضِ الجنونَ. هذه جمجمتي رايةٌ للغرباء منصوبةٌ في المجموعة الشمسيةِ.

 أَكْمِل المشوارَ يا وجهي إِن انتقلتْ أعصابي من الصحاري إلى الثكنات العسكرية. طوفانٌ من الزنابقِ المحترقة يقفز على أكتافِ الغيوم. تِلْكَ المتَّشحةُ بالمبيدات الحشرية حضارةُ إبادة الهنود الحمر. لكن اليمامَ قد نحت خرائطَ الفحيح على أظافري. وأباطرةُ الشَّوْكِ يتفاهمون مع شعوبهم بالبندقية.

 من الموجاتِ الصَّاخبةِ من عنفِ الألمنيومِ في الأواني الفخارية تزهرُ كتيبةُ الأصداءِ اليابسةِ، والسَّهمُ المشتاقُ إلى صدره الطَّريِّ، كأني أَلُمُّ انكساراتِ البُحورِ في الأسطر والورقِ الأبيضِ. وترجعُ ضَمَّاداتُ النزفِ إلى الجسورِ الخرساءِ ليخطوَ الهِرُّ العسكري إلى الأمامِ. أين القبطانُ الخائنُ الذي أهدى دَفَّةَ المركبِ لسائحة؟. أين رجالُ المدفعيةِ الذين قَصَفوا أحلامَهم؟. أين العاشقُ الصُّوفِيُّ الذي بَصَقَ في بُلعوم النَّار؟، لم يَمُتْ.

 كانت قوافلُ الإسبان المصلوبة في جذوع الوهم تمشي على رموش الصخور إلى ضوء باهت تحمله بغايا بني إسرائيل لإرشاد زبائن آخر الليل. أتى هولاكو من أبراج المراقَبة في كنائس روما، ومن مقاصل حجريةٍ حَفَرَتْها على الأجساد الذابلة أصنامٌ بأسماء مستعارة. دمُ الحيضِ لنساء روما المغتصَبات يختلطُ بالشوارع الوحشية. شعراءُ يموتون يومياً على أقدامِ الإسكندر المقدوني بعد أن يُوقِّعوا على وثائقِ اغتيال أُغنياتِ الإجاصِ المسحوقِ.

 وجراحُنا عانقتْ صوتَ الرعودِ عند كهوفِ الرُّعاة. نباحٌ يجيء من أوثان تُطبقُ شفاهَها على هياكل كلاب مشقَّقة. حطبٌ منسوبٌ إلى حقولنا يخرجُ عند المغيب من نعالِنا، و يُجَمِّعُ الهيكلَ العظمي لبطيخة أَبَتْ الاستلقاءَ في ولائمِ استقبالِ غربان الوحلِ النحاسي للدود الخارج من أمعائنا.

 باح السرابُ بكلامه لصدرِ المرفأ المهدَّم. حُمُرٌ وحشيةٌ تلقي قصائدَها في سيناريو المذبحة. جوائزُ الأدب تُمنَح لمهرِّبي البضائع في السوقِ السوداء.

 يا وطناً يَبْسطُ حدقاتِ العُمْيانِ على أرضِ المطار لاستقبال القاتِلين. اخْرُجْ منكَ كي تلمحَني رَسَّامَ أنهارٍ في عُنفوانكَ. يا وطناً يُخفي مجاعةَ خيوله في فناجين عذاباتي. عِشْ خارجَ مصفاة النفط كي نلتقيَ في عشقِ خيامكَ. لونُ البنكرياسِ الخافتُ يَنصب فَخَّاً لناقةِ جَدِّي على أنقاض ديارِ بنات آوى. طاولةٌ تَبْذر الدلافينَ الساذجة في بنطالِ الشوكِ الأُرجواني. للعاجِ مقبرةُ الفِيَلةِ وسُورٌ عالٍ يدل على شيخوخةِ أحزاني.

 الزنجبيلُ الكَهْلُ، وأطيافُ اللامعنى بقراتٌ عقيمةٌ، والكوكبُ الغريبُ مَشرحتي. ذَكَرَ السَّرْوُ في إفادته أن المرفأ القرمزي مسقطُ رأس النحيب. وهذا رأيُ المجراتِ. لستُ المتنبي أَرْصف جِلْدي على أعتاب الخلفاء. لستُ ثوبَ اللغوِ في الجهاز التناسلي لسنديانةٍ.

 البرقُ يحصدُ كلامَ الشَّرر في صمتِ الزُّراعِ، عند الساعةِ التي تبكي فيها الخلجانُ اليتيمةُ. تُقلعُ أعشابُنا وتطيرُ في انتفاضةِ أعشاشِ الأسماكِ. يختفون في حروفنا، ولكنهم يتحدثون بغير لغتنا. يقولون وُلدنا في بغداد، ولكنهم يُدافعون عن روما. يستلقون على أوسمةِ القائدِ المهزوم في انحناءاتِ الورقِ الشجري. قَدَّمُوا موتهم للصَّحافةِ الأجنبيةِ على أنه روحُ الحداثة. عَرَضوا سوائلهم المنويةَ وأعينَ أمهاتهم في متحفِ جائزةِ نوبلَ. عُودوا إلى وجوهكم. خُذوا أسماءكم من الشمس.

 يا ذُباباً يمتطي طيفَ النرجسِ على كاهلِ ماعزٍ. لا تضعفْ أمامَ دموعِ ماري أنطوانيت. لا تنخدعْ إذا تَنَزَّهَ الأباطرةُ في اكتئاب الحقول. أعذارُ الميرميةِ في لغةِ المسامير، فاعذرني. تَذَكَّرْنِي، وتَذَكَّرْ صورتي على الحائطِ وتحتها أثاثٌ مجنونٌ. مُخَيِّلةُ تمساحٍ على مِقَصِّ أظافر ناعمٍ. كأن الياقوت يمصُّ رائحةَ الزَّعْفَرانِ في ضباب المقابر.

 هُمْ يزرعون في أعصاب المرجان ماءَ الثَّورةِ قُرب اتحاد الاكتئاب بالوسواس القهري. جاؤوا من شِعابِ الريح يحملون دمهم على الزِّنادِ المندفع. كَسَروا صمتَ لؤلؤ الجدارِ، صَعدوا إلى لحمهم كي يقذفوه على الطُّغاةِ. إن أرضي سَرْوةٌ لا يقطفها الشَّيطانُ ولا سبايا الرُّومانِ. فلتطلق النارَ أنهارُ بلادي صَوْبَ الأساطير.

 وسار الشجرُ شلالاً يَهزُّنا يُخرِجُ النيرانَ من بطن أمها. لم يعد في حقائبي غيرُ الديناميتِ وجُمجمتي. سقاني العاصفةَ تينٌ مجفَّفٌ على رقبةِ شَمْسٍ. شمعٌ يُضرِب عن الطعام، ويذهب إلى ذهابهِ و يعملُ سائقَ تكسي. قَدِّمْ أحلامكَ لُغماً يَخْمِشُ حواسَّ الوثن. أنشأ الصُّبْحُ مصنعاً للسياراتِ المفخخةِ في بُؤْبُؤِ القرصانِ. أنا قَزَحِيَّتِي كرةُ نارٍ تتدحرجُ على جباهِ أُمراء الحروب.

 اغْتَصَبَتْني سمكةٌ غَازَلَتْني حَشرةٌ. فَتَّشُوا أجندةَ الثَّلْجِ لكي ينقذوني. غديرٌ أعزبُ يموتُ على المسرحِ وحيداً. اقْطُف الرَّصيفَ قبل أوانه. إنَّ النَّخاسين يُطفئون سجائرَهم في أجسادِ زوجاتهم الضائعاتِ في حنين الرِّجالِ المسافرين. يُخفون براميلَ البارود في أجنحةِ ديكٍ رُوميٍّ. فَمُ طِفْلَةٍ مَصلوبٌ. أخبريني من صَلَبَهُ؟!. بسكويتٌ يابسٌ مِثْلُ بُكاءِ البُنْدُقِ وحيداً، في فُنْدُقٍ فخمٍ مملوءٍ بالنَّمل ورجالِ الأعمالِ. كيف سنأكل من تَمْرِنا وهم يُحاكمون نخلَنا في الدوائرِ الرَّسْمِيَّةِ؟!. ملوكُ الغَبَرَةِ أجسادهم خارج أجسادهم أين سيحاكمونهم؟.

 يا ثائرُ مُدَّ يَدَيْكَ خُذْني إِلَيْكَ خُذ استراحةً في قلب حمامة، ثم عَاوِدْ قتالَ الصدى في فصولِ اللهيبِ. ولا تَعْبأ بأحصنة المستحيل الدائرة مع طواحين البكاء.

 ضاعَ الوطنُ وهو يبحث عنَّا. هل نشكر المخبِرِين في مطاعم الوجبات السريعة أم المراهقاتِ العاشقات في ممالك الجمجمة كافتيريا العنوسة. الوطن ضاع. أيُّ الموتى أحقُّ بالرثاء مَلِكٌ لص أم لِصٌّ مَلِك؟. لم يضع الوطن. وما زِلْتَ تُكابِرُ يا نَبْضي!.

 نِسوةٌ حُطامٌ لحميٌّ يُلقينَ بياضهنَّ على ألسنة المشاة. لكن رائحةَ القطن تنخرُ فخذَ مَوْجةٍ. أَنْقِذُوا الأشجارَ البرمائيةَ الطافية على عَرَقِي. رَجُلُ أَمْنٍ يَرْقب مكافأةً ماليةً تتفجر من دموعه في ليالي الخريف، والغرباءُ يعانقون الغرباءَ في الكهوفِ.

 وإسمنتُ عمودي الفقري يُعِدُّ رسالةَ دكتوراة في تاريخ المجاعات. وما إن لمستُ إمضاءَ اليمامِ على خَصْرِ الهضبةِ حتى سالت من عيوني غيمةٌ وبعضُ الأزقةِ. رُموشي انقلابُ الأنوثة على الأنوثة، والقمحُ يخون رئتي اليمنى مع رئتي اليسرى.

 أينَ المرأةُ التي ترفضُ أن تكون لوحةَ شظايا؟. أَلْقِي القَبْضَ على زَرْعٍ بلا مكياجٍ ثم انسخيه على وجهكِ. لا تكوني فريسةَ غُزاةٍ يُرضِعون دمي سِهاماً مكتئبةً في حفلٍ لاغتيالي. بَقِيَتْ مناديلُ الخزامى على عَرَبَةٍ من صَدَىً أَطرشَ.

 واستخرجَ أرخبيلُ الجنونِ الكهرمانَ من جنازة الموانئ. أكتبُ كي أكسرَ زجاجَ قطارات أَوْردتي في صَيْف الإبادة الجماعية، كي تتحولَ أكبادُ شَعْبي إلى جِسْرٍ تَعبرُ عليه شمسُ الله. سَاعِدي لم يكن مكتبةً للأحكامِ العُرفية. غَزَلَ الثَّرى دولةً من الصرخاتِ والأجسادِ المحروقةِ. أسواقُ الجماجمِ في أوطانٍ تتسعُ للمُرابين. لن أدعَ فأرةَ الصدى الخشبي تُجَهِّزُ للحبوبِ وليمةً. أهزوجةُ الأوحالِ قبيلةُ الخاسرين، وأنتَ لستَ منهم يا ضَوْءَ الصَّنوبر. فَمُدَّ يَدَيْكَ خُذْني إِلَيْكَ.

 ثمودُ، خذوا أصنامَكم وارموها في سُعالِ ضفادعَ كانت يوماً ما أُسرةً حاكمة.

 

المنارةُ والرِّمال

 إنه يومُ الأحد. أرى طارق بن زياد يحوِّل الأبيضَ المتوسِّط إلى بغداد كي تُحرِّر الشمسُ الأندلسَ. إنها حربٌ بين الهلال والصَّليب. أرى تاجَ الأخطبوط أحفورةَ زنبقةٍ وزبد. يجيء القوَّادون كالفِطْر السَّام المحنَّط في الشفق ويموتون.

 فلتعلمِ الحملاتُ الصليبية أن رتشارد قلبَ الفأرِ هُزِمَ. سياراتٌ كلاسيكية تستبدل إطاراتِها ساخرةً بألفِ ألفِ جسد. والعائدون إلى انتحارهم لم يجدوا على صفائح موتهم إلا أرواحهم والطينَ. وبِلالٌ شَقَّ الفضاءَ صوتُهُ: «أَحَدٌ أَحَدٌ». حديدُ الأقفاص أعمى وابتسامةُ الرِّيح لا تقتني العُميانَ. يا محاكمَ التفتيش، إن روحي تحيا حين تقرأ سورةَ الصَّمَدِ. مَدَدٌ مددٌ يا رسولَ اللهِ مددٌ.

 إنه يومُ الأحد. جاك نيكلسون يُزيح عن جوائزِ الأوسكارِ عُرْيَ وجهه، يُحيلُ خشبةَ المسرحِ الجارحة إلى مدافن كثيرةِ العدد. يُؤسِّس عارَه ويضعه في السرير لكي يستيقظَ في الصباحِ، ويذهب إلى التصوير كاملَ الغبارِ، مُفعماً بخرائط الرمد. وأطفالُنا يستخرجون البارودَ من حناجر السَّمك. مَدَدٌ مددٌ يا رسولَ الله مددٌ.

 إنه يوم الأحد. أشباهُ رجالٍ يضعون زوجاتهم على عقارب السَّاعة، ويُقَبِّلون يدَ الصنم، يظنون أن القبوَ سيحميهم من الصاعقة. يظنون أنهم سيضحكون إلى الأبد. يذوبون كالمكانسِ كالأشباحِ الغبارية كالقحطِ الرُّوحي، في الظلماتِ في بحرٍ انقضت أيامُه والأمد. مَدَدٌ مددٌ يا رسولَ الله مددٌ.

 إنه يوم الأحد. للانهيارِ أفئدتُهم للبكاءِ عندما لا ينفعُ البكاءُ. للعذاب للجحيمِ، يحملون تيجانهم وجِيَفَهم، ويسيرون إلى المسَد. سأرد عليهم في المقابر في المذابح في المسالخ في المسارحِ على شاشات التلفاز وفوق القمر. طَيْفُهُمْ حُطَامُ الصحاري. جُرُوحِي سَنَابِلُ الرَّي. وبلال ملأ الكونَ صوتُه حتى سمعه زُحَلُ : «أَحَدٌ أحد». مَدَدٌ مددٌ يا رسولَ الله مددٌ.

 

الرَّجلُ وخَشَبةُ الإعدام

 غزا عطاردُ صوتَ النُّجُومِ في عُقْرِ داره. أَعرفكَ أيها الشيخ المنتصبُ ذاكرةً للصَّباحاتِ. لا، ليس شكلُ الياقوتِ عشيقَ المومساتِ. ولا عَظْمُهُ حارسَ الملكاتِ. أعرف عُصفورةً تعزفُ على حبلِ مشنقةٍ مصباحاً لآلافِ الأحلامِ، لأيامٍ ثائرةٍ في فضاءاتي. لَكَ مِنِّي سلامٌ، ومن تقلباتِ المشانق في المرتفعاتِ. الشَّواطئ جمرٌ على وَجْنَة البُحور. كيف تحتضنها أنثى الوقواقِ مبتسمةً ونافورةُ ألمها أعراسُ حِمْلانٍ في النَّهارات؟!.

 امنحني عصاكَ الخشبيةَ أُسْقِطْ بها أجهزةَ الرادارِ في عيون البعوض. خاتمُ الخطوبةِ في إصبعِ جُنْدُبٍ يحتل مطاراتي. أَنقِذْ رايةَ دمي على السُّورِ من غُبارٍ بارزٍ كرجالِ البوليسِ السِّري وهم يتفرقون في وسائدَ على بنادقَ مدنيةٍ. أَسرعْ يا إبهامي المقشَّرَ في أمسيةٍ نَسِيَتْها الآلةُ الحاسبةُ.

 يا شُرْطِيَّاً يَبيتُ جائعاً في المركبِ المبتعد عن أسلاكٍ يُعرِّيها البردُ في آخرِ الصَّيفِ. دَارتْ أربطةٌ تافهةٌ في جراحِ العويلِ الأخرسِ. كيف تمشي وثقوبُ عُنقها تسدها لحومٌ مُقطَّعة؟. عَلَّمَتْني منارةُ الهاويةِ السَّحيقةُ جدولَ الضَّرْبِ.

 لن أُضيِّع وَقْتي في ترجمةِ ظِلِّي إلى لغةٍ يفهمها ضبابُ المزارعِ الفارغةِ. لن أُضَيِّعَ وقتي في احتضان مرآتي. إنها دَفَعَتْ مُهورَ نباتِ أقفاصي الميتة. هل أطردُ الضفادعَ من فهرسِ الصفيحِ أم أطرد المستنقعَ من قصبِ الزوارقِ الأصفرِ؟!.

 سَتَبْذرُ عواصفُ المكانِ رائحتها في ذَقْنِ الزَّبدِ على إبرِ المقاصلِ، وتمضي فِيَّ رِيفاً بلا سُكانٍ، أو سكاناً بلا ريفٍ قُبالةَ سواحلِ معدتي. جِئْتَ يا كلمةَ الأُسُودِ في الشَّذى المطَوَّقِ، من الأورالِ حتى الأطلسيِّ. جئتَ في موعدِ ثورانِ الصَّواعقِ ونزولها في أرحامِ السُّكوتِ. أريافُ الليلِ قصيدةٌ تتلوها فراشةُ الثَّوْرَةِ في العيدِ. هل ثلوجُ بلادِكَ قُبَلُ المجازرِ على مُحادثاتِ خَدِّكَ؟.

 لم تجد الغيمةُ ألواناً زَيْتيةً لرسمِ أراضي صِباكَ على لافتةِ الأبحرِ الحبلى بالبارودِ. هل تَأخَّرَ دمي عن عَظْمكَ وأنتَ تُطلقُ كرياتِ دمكَ على أعداء السُّهول؟. اعترفْ أن دماءَ السُّهوبِ خَانَتْكَ ولم تَخُنْها، أن الأنهرَ هَرَّبتْ ألقابَكَ إلى سكرتيرِ الجنرالِ في مكتبه القرميديِّ على خيلِ التَّتار. وكأنَّ البراري تتحرشُ بكَ غَرْبَ ضريحِ الشَّلالِ. استغربَ الحِبرُ أن تعلنَ الزوبعةُ العصيانَ المدنيَّ في جِلْدي. دَفنتُ تينةً في جِذعِها. صَنعتُ أراجيحَ للسنونو بين عدساتِ نظاراتِ القمر الشَّمسيةِ.

 قَدْ دَرَّسْتُ الكيمياءَ للقططِ الضَّالةِ في القَبْو. بسطتُ محاكمَ الفَرَاشِ في اختناقاتي ورَوَيْتُها بالعواصفِ. أَزَلْتُ مِن حَلْقي حقولَ الكاكاو التي تؤيدُ توريثَ الحكمِ في جمهوريات الظل المتآكل. أنا الذي لا أتنازلُ عن حُبِّكَ ولو كَلَّفَني فقدانَ مقعدي على طاولةِ البحرِ. اذهبن يا نساءَ الكوكبِ إلى جَمالِ الذي خَلَقَ جمالَهُ. نسيتُ عُمُرِي لَمَّا رَأَيْتُ عُمُرَكَ. والفرنسيون طيفُ كلِّ الغزاةِ في أخشابِنا يغسلون سياراتِهم بأكبادِ الثائرين. كنتَ أكثرَ توهجاً من بندقيتكَ الجديدةِ، أجملَ من احمرارِ الغيومِ عندَ المغيبِ المتكررِ.

 أذكرُ الأقحوانَ _ صديقي القتيلَ _ طارَدَ الفتياتِ ثم خجل من نفسه، وحمل السلاحَ في وجه الفيضان. ما أحلى رائحةَ نزيفي على خشباتِ المسلخِ. أفعى تتعلمُ الرشاقةَ من فيلٍ أَحالَهُ مِعصمُ الفيضانِ على التقاعدِ. ودُفِنَ في خاتمي سَيَّافٌ مشى في رحيقِ العاصفةِ المرِّ. حَوْلي المطرُ الحمضي غارقاً في أُهزوجةٍ تخترقُ غِربالَ البُحورِ. حطامٌ أزرقُ كشبلٍ يصبغ واجهاتِ البراكين بألوان السنابل.

 كُونوا طريقاً للضياء المتدفقِ جسوراً. إن محارِباً ملقىً على باب معدتي أكثرُ جَمالاً من القواربِ المسافرة إلى حَتْفها. تتبول الرياحينُ بعنفٍ في قزحية الصدى. أخشى أن تخونني أضراسي. سأبدأُ مكافحةَ الشواطئ الموبوءةِ. ارجعْ يا بركانَ الحب المسحوق إلى أدغالكَ، فقد استولى على قَبْري حيتان زرقاءُ محنَّطة في الكهرمان الغريب.

 هو اكتئابُ الدَّباباتِ مختوماً بالشمعِ الأحمر، خائفاً من دمه يحلم بأنه لا يحلم. صِفْ لي مشاعرَ المحيطاتِ وهي تذبلُ أغصاناً قديمةً. أرسلتُ لُعابي ليأخذ راتبَ الأغبرة التقاعدي. دمارٌ في ذهن طَيْرٍ ملتصق بهواءِ العواصم المحروقةِ. زلزالٌ يَزحفُ في أجنحة عُقابٍ أعزب، فتسيلُ الألغامُ البحرية في حَلْق جَمَلٍ.

 لما ماتَ الليلُ في علبة دواءٍ منتهية الصلاحية، وطُرِدَتْ من عملها نخلةٌ لأنها ترتدي الحجاب. قلتُ للبيادرِ المنهوبة إما أن أكون شهيداً أو شهيداً. ثمةَ ذباباتٌ تعالج الندى المريضَ على السُّور الطريدِ. وفي وقتِ تَفَتُّحِ الرُّعاشِ على أرجلِ الحلم تُزهرُ مشانقُ بيضاءُ متفائلة. ثائرٌ أنا في مرعى يحكمه اللصوص المقدَّسون. ذَنَبُ هِرٍّ مرافئُ تُغيِّر جِلْدَها أناقةَ أعاصير.

 وبَيْنما أَوقدت الأمطارُ سِراجي كنتُ أنام مع الزنزانة في فِراش واحد. أحلامُ صاعقة مدفونة في صهوة فَرَسٍ. كوني يا غمامةً تشنقني الشاهدةَ. كوني شَعْرِي يومَ تسكنُ النيازك في جبلِ حُنجرتي الأصلع. وتتهاوى اللبؤاتُ على مَلَل الزنبقاتِ الوحيدات في عُلب الكبريت الفارغة. ضفدعةٌ اهترأ مِشْطُها الفضي.

 راجعاً من أمعاء الحافلات اصطدمتُ بِقَوْسِ قُزحَ، أعلى من قطارات المغيب. أعلى من مؤتمرٍ يعلنون فيه قيامَ دولةِ شقائقِ النُّعْمانِ في التهابِ حَلْقي. متأخراً وصلتُ إلى ذكرى ميلادي، وقد كانت المعلَّباتُ الفاسدة تقتسمُ الرتبَ العسكرية فيما بينها. الخبزُ المحمَّصُ يناولني ميزانَ حرارة. عِشتُ ومِتُّ والقمحُ في جَبْهتي يكتشفُ النَّارَ.

 حَنانُ المجزرةِ أكثرُ الغِربان انتشاراً في أوساط العُميان. المقاصلُ أطيافٌ خشبيةٌ في مغارة الأكفان. نيرانٌ بيادرنا تهضمُ تقضمُ سلالم الخرافاتِ. يا أيتها السَّماوات. إن قلبي يحيا حين أقرأُ سُورةَ الصَّمد.

 

أمامَ قبرِ النَّبي شُعَيْب

 ضَمَّت خُطايَ ينابيعُ الأرصفةِ، وجئتكَ. سَيِّدي، الصلاةُ والسلامُ عليكَ. غَسِّلْنِي فأنا الميتُ وأنت حَيٌّ. ترتجفُ أدمعي شوقاً. امنحني شرفَ مُجاورتكَ. وجسدُكَ ضَوْءٌ منتشرٌ في الفضاءِ. أعلمُ أنكَ مَدَدْتَ يدكَ لقومكَ لكنهم رفضوها فَقُضِيَ عليهم.

 أنا ضوءٌ مكسور أمام انبهار حضرتكَ الماحية، أَدْخِلْني في مجدكَ، حرِّرْني من أحزاني. كل نبيٍّ رعى الغنمَ واثقاً من بريق عَيْنيه. أما نحنُ فالأمهاتُ يبحثن لبناتهن عن الأمراءِ ورجالِ الأعمالِ والمرابين. وجيوشُنا تسهرُ على راحةِ أعدائنا. سَاعِدْني أيها الأفقُ الخاشعُ في المكانِ. كلما أتيتُ إلى حضرتكَ العُليا صغرتْ الدنيا في عينيَّ. أُقَبِّلُ يَدَيْكَ أيها السيدُ المتواضعُ. امْسَحْ على رأسي ووجهي. في لمساتكَ عطرُ الإيمان وزهرٌ لا ينقطعُ. وددتُ لو أموتُ عند قدميكَ. واقفٌ على أعتابكَ لعلِّي أحظى بنظرةٍ منكَ فأطيرُ فَرِحاً في الحقولِ. سأصنعُ من خيوط جِلْدي نعالاً للأنبياء، وأتبركُ بِعَرَقِهِم في طريق هجرتي الأبدية إلى شمس المعنى، أعلى من قصص الحب، وبعدَ رحيلِ قطارات المنفى.

 مُذ انتقلَ نورُ الوجود نبيُّ البيان والسَّيْف إلى الرفيق الأعلى وأنا حزينٌ. فالأنبياءُ شمسٌ لا يشوبها كسوفٌ. أحالوا عَظْمَنا ثورةً على الطغاة. إسلامُنا ثورتنا. أَخذونا مِنَّا إلى عالمِ المحبةِ. لو غسلتُ نعالَ الأنبياءِ لظللتُ فخوراً مدى حياتي ولأخبرتُ كُل الناسِ بذلك. خُذوا بِيَدِي إلى حضرةِ القُدُّوس.

 

السَّاعةُ الرَّمْليةُ تُعلن مُنتصفَ الليلِ

 أصبح الزُّقاقُ أطيافَ عَابرِين مجهولةً. والوُلاةُ المهزومون مغاراتٌ تلتقطُ الخطايا. وداعاً يا حفَّاري القبور الذين ليس لهم زوجاتٌ ينتظرنَ الأناشيدَ الدافئة على عرباتِ القطاراتِ المختبئةِ في دفترٍ. خَبَّأَ الثلجُ مفتاحَ سيارته في تجاعيدي. والعِظامُ الحزينةُ على الزجاج المغسولِ.

 الصَّرافُ الآلي والبطاقاتُ المصرفيةُ وسياراتٌ فارهةٌ تخترقُ هدأةَ الجسورِ وانحناءاتِ السنابلِ على أكوامِ الجثثِ. كيسُ خبزٍ باردٍ في يدي، كأنني خبازٌ عاطلٌ عن العملِ، أَخْبِزُ الذكرياتِ في مناجم الفحم لأُطْعِمَ الصخورَ المقتولة في المرفأ. قَاتَلَنِي قميصي المتَّسخُ فأمسيتُ بلا حديقةٍ تقطفني.

 عُمَّالٌ يتسلقون الحافلةَ الأخيرةَ، وهي تطبعُ أضواءها على وجه بائعِ الذُّرةِ المشوية. وحيداً ولكنْ معي حُزْنٌ لا ينمو إلا في أحشائي. وبابُ منزلي يسألني هل أُعِدُّ لَكَ طعاماً؟، ويعطيني حَبَّةَ دواء وشيئاً من ترابِ مَدْفني والوطنِ، فأنهضُ أُطالعُ مؤلفاتِ أُمِّي التي لا تَقرأ ولا تَكتب!.

 غريبٌ أنا وما عَرَفني الرصيفُ إلا بعد أن أَخَذَ بَصْمةَ حُجرتي. لا أُشكِّل خطراً على البراعمِ وبَوْحِ الأزمنةِ. هارباً من زنازين الوردِ وعيونِ زوجةِ القُرصان. أولادُ الإمبراطور الدارسون في مدارسَ أجنبيةٍ يُلاحقون يتيماتٍ لا يَمْلِكْنَ رسومَ المدرسة الحكومية.

 وطني، تَصَدَّقْ عليَّ بثمنِ كفنٍ. قَدْ خَانني مرفأُ الريحِ والساحاتُ المنثورةُ في أهازيجِ المرمرِ عُروقَ بَشرٍ. كُلُّ نساءِ القبيلةِ أَبَيْنَ الزواجَ مِنِّي لأني لا أملكُ ثمنَ زجاجةِ دواء للصحاري النائمة على سريرِ المرضِ. سريرُها اللاقطني اشتعالُ غموض لا يَشتعل.

 أين المحارِبون؟. مشتاقاً إلى مشاوير برفقةِ الدروبِ القروية التي لا يصل إليها عمالُ النظافةِ. كأنما اشتياقي محاولةٌ فاشلةٌ لخِطبةِ ابنةِ عَمِّ النسيان. يَهوديةٌ تفكُّ أنوثتها وتلقيها في يَدَي الشيطان. والْجَزْرُ أنشأ له موقعاً على الإنترنت، فأغلقه المدُّ ثم انسابَ سريعاً.. سريعاً في حناجرِ الفراغِ، أو في مقصلةٍ توصَّلتْ إلى سَبْقٍ صحفي: «لا يُشبه الرعدُ إلا حياتي».

 الفتى الصحراوي، والرمال تُوَرِّثُ الرمالَ. فِجْلٌ مُثَلَّجٌ في غِربالِ هجراتِ الرؤوس المقطوعة. وصَعَدَ الإنسانُ من وسطِ الدماءِ. تَوهُّجُ الغُصونِ رسولٌ بَيْني وبَيْن عشيقتي السَّمكةِ. ألمحُ خِرافاً مقتولةً تسكنُ في قميصِ المرعى، ورجالُ الشرطة لم يعثروا على جثة الراعي. أرى بَشَراً يُسحَبون إلى القتلِ ليُثبِّتوا نظاماً مَلَكياً على سطحِ القمر، بعوضةً ترقصُ في مأتمِ الشوكِ ثم تُقتَلُ، شرطياتٍ لتسليةِ القادةِ المهزومين.

 مَن يُبايعني على الموتِ في سبيلِ خالقِ الموتِ. هذا وقتُ انتشارِ الحسينِ فينا. حليبٌ ملوَّثٌ باليورانيومِ، فيموتُ الأطفالُ كالنباتاتِ المتأخرةِ عن باصِ المدرسةِ. أمامَ بطءِ ليلِ الحِرابِ، أتعرفُ على أشرعة شرايين أبي الممزَّقةِ. لعلَّ الفواكهَ تُشاهدُ بمجهرِ الصدأ دودةً تخبِّئُ في ردائها كلابَ حراسةٍ وبحوراً من النارِ تجري وراءَ طائرةٍ ورقيةٍ. تموتُ المجرةُ وأصدقائي وآبارُ النفطِ. إن لفظَ الجلالةِ محفورٌ في قلبي بماءِ المطر.

 لا أنا الحسينُ ولا أنتِ شهربانو. لا أنا ابنُ زيدون ولا أنتِ ولادة بنت المستكفي. لا أنا ابنُ عربي، ولا جارتي عينُ الشَّمْسِ. لا أنا عماد الفايد ولا أنتِ كيلي فيشر. أنا الميتُ المستقبلي الشعلةُ المندفعةُ في الأعاصيرِ. فاكتبْ يا قمرَ الضَّحايا مأساةَ قُرطبةَ في توتِ أربطة الجروح. بِعنا حَيْفا وبَكَيْنا عَلَيْها. ثم ذهبت رموشُنا تسهرُ في الحاناتِ بما معها من نقودٍ. والصخرُ الزيتي والظهيرةُ تسحبُ جوازاتِ السفر من الجنودِ. والياقوتُ الدامعُ هو الوريثُ لانكسارنا. قمرٌ مختبئٌ في قارب أحبَّ موتَه. يا فتاةُ، على ساعةِ يدكِ انقلاباتٌ عسكريةٌ ورياحٌ جائعةٌ. حتى أنتِ تُلاحقينني بالقيودِ. كيف أعود؟. بلا مناجلِ أُسْرَتِي أَنَا، كيف أعودُ؟. قد ضل ساعي البريدِ طريقَه ولم يعرف شوارعَ كُلْيَتِي.

 مُعَانِقَاً بقايايَ وأزهارَ المقابرِ. ضاع الضياعُ في ضياعِ سرطان الثدي في الصدورِ. أتناولُ كأسَ عصيرٍ من يدِ عُشبةٍ سجينةٍ. سلاماً أيها الوطنُ الضائعُ. سلاماً أيها الحزنُ الطالعُ. رماني القمرُ في قوافي الأمسِ الذاهبِ في كتاباتي. حُبِّي للغدِ مِنَصَّةٌ في المحكمة العاشقة لتشريحي. كان في عُنقي كيسٌ أَلُمُّ فُتاتَ الخبز لئلا يدوسه موكبُ الحاكمةِ. جعتُ ومشيتُ حافي الرصاصتَيْن في المراعي. ونمتُ مع الأغنامِ في الشَّفق الذبيح. واشتغلتُ عاملَ نظافةٍ في معدتي التي تصلبني. يوماً ما عَدَّت النجومُ الرُّقعَ في ثوبي فأشفقتْ عليَّ.

 كُنَّا نائمين في أكوابِ الشاي الأخضرِ في مرسمٍ لتلوينِ الآلهة الفاشلة حين سُحِقَت الشموسُ في سراييفو. وسراييفو أعراسُ خُلْجان تَحْضرها المدخنةُ المقطوعةُ والمطابخُ الخاليةُ من الأمهاتِ.

 تِلْكَ المدينةُ: المساجدُ المهدومة على رُكَبِ المصلِّين. المقابرُ الجماعيةُ للبشرِ والفراشاتِ. الشهداءُ الذين رَمَوْهم في المحيطِ الأطلسي الأخرس. مذبحةُ النُّوَّارِ اليوميةُ. بكائياتُ أَسَدٍ في أوقاتِ تسخينِ البحرِ على حرارةِ الدمِ. الجليدُ يزحفُ إلى الزيتون الأسودِ ما تبقى من حديقتنا. انتفاضاتٌ سريعةٌ لعضلاتِ الشمسِ أثناءَ محاكمتي. سَأَتزوَّجُ الرياحَ وأعيشُ في الأمواج.

 

خِطابٌ من النَّمر إلى اللبؤةِ

 أتمنى لكِ حياةً خارجَ الحياةِ. أنتِ مغرورةٌ. لا أعتبر رفضكِ هزيمةً لي، فالذهبُ لا يبكي عادةً إلا عند وفاةِ النارِ. أرحلُ بصمتٍ عالي الصوتِ قليلاً، أعودُ لأستكمل ما بدأتُه من انقلاباتٍ على قلبي الوحيد. لكِ قلادةٌ من العاجِ، كم فيلاً قَتَلَتْهُ أُسْرَتُكِ لئلا تتضايقي وأنت تنامين في أوصالِ شعوبِ الغابِ؟. لكِ خَدَمٌ من الثعالبِ الخائنةِ. هل فكَّرتِ بالليلِ يغسلُ دمعَ البلحِ؟.

 احتضاراتُ الصقيعِ أقامت مصنعاً لتكرير الملحِ على ضفةِ دموعي. إنْ أَخُنْ قلبي أَخسرْ وجهي. إنْ أَعشقِ الرَّصاصاتِ أفقدْ لافتاتِ المجاعةِ. فعودي إلى أسنانكِ ونظِّفيها بسعف النخيلِ، فالأرضُ شمعةُ الغرباءِ إذا انطفأتْ أشعلتُها بذكرياتي في الممالكِ المنسيةِ على خطوطِ جِلْدي السوداء.

 لحنٌ خافتٌ يطلعُ من الشوكِ. والشوكُ لم تلمسه أنثى منذ مصرعِ أُمِّهِ. ولا أذكرُ أن أنثى لَمَسَتْني إلا والدتي. كُنْ يا غُبَارِي عند حسن ظن الميناءِ المحطَّمِ بكَ. بَحَّارٌ صُداعُ التَلِّ الحافي. والطاعونُ يحتل ذاكرةَ القش. يسيلُ دمُ الولادةِ، إنني سأموتُ، وقد يأتي عمالُ مناجمِ الفحمِ إلى مغارتي ويتناولونَ خُبْزِي، ويسخرونَ من تاريخِ عائلتي في الأدغالِ. وربما ينظرون إلى قَبري باستهزاء. فهل ستبكين عليَّ؟، هل ستقولين إن نمراً أحبني يوماً ما إن نمراً مَرَّ من هنا وكانت عيناه تدمعان حنيناً؟.

 أيتها اللبؤةُ. عيونكِ تنقشُ فِيَّ رحلةَ اللاعودةِ. أريدُ منكِ حين تصطادين السَّوسنَ المجروحَ أن تتذكري أحاسيسَ جذوره لكي تتذكري ملامحي. أنا المنسيُّ في قائمةِ عشاقكِ الكثيرين. أصبحتِ مرضاً بالنسبةِ لي أقصدُ وباءً.

 أنت هَوَسِي. صارت الفئرانُ والحمائم تضحك عليَّ. أنا الأب الروحي للباديةِ. أنا مثارُ سخريةٍ في الغابةِ، صرتُ نَبَاتِيَّاً. ماذا سأقول لأبي وأنا أرجعُ كُلَّ ليلةٍ بدون فريسةٍ؟. وما زادَ لحمي ظلالاً أني استقلتُ من السِّيركِ واعتزلتُ الحياةَ السياسيةَ. ما كنتُ أظن أن أنثى من الحيواناتِ ستفعل بي هذا. ولكنني سأقفُ ضِدَّ حُبِّكِ ما دام حُبُّكِ حَربةً تُشرِّحني.

 ما زال في تفاصيلي ضوءُ تمردٍ، ورفضٌ لسَيَّافي الأرضِ. رياحاً تأتي أعضائي المسعورةُ. أتذكرين لقاءنا الأول في المقبرةِ، وزعيمة الجراد والعناكبُ تقفز سعيدةً بوجودنا. شعرتُ أنه حبٌّ من الرصاصةِ الأولى. فكرتُ يومها أن أُقَبِّلَ تاريخاً حافلاً بالمرايا المشروخةِ في الرماد. كدتُ أقولُ لكِ خَبِّئيني في يَدَيْكِ من الصَّيادين وعلماءِ الأحياء. لكنني أدركتُ أنني حيوانٌ وأن الحيواناتِ ألعوبةٌ تستمتع بها بناتُ الأغنياء. أغارُ من شوكةٍ تلمسكِ. أصبحت الحيواناتُ كتفاحةٍ بائسة تُؤجرُ رَحِمها للريحِ.

 ما عساكِ أن تفعلي في هذا العَالَم؟، تعالي أتزوجك فتنجبين أنصافَ نمورٍ وأنصافَ أُسودٍ، ثم نُشعلُ الانقلاباتِ على أناشيد الغابة. نحن خاسرون إن لم نُرسِلْ قاتلينا إلى سلالِ القُمامةِ. فلنبدأ من دمكِ ودمي من موتي وموتكِ.

 يغمرني المكانُ فأصحو. ينتحرُ الطغاةُ على بوابات اكتئابي. ألفُ مستنقعٍ يغفو في أعمدةِ انهياري. ناسفةَ حُطامي عشيقةَ ذُبولي، مَن الخاسرُ فينا؟. لا أُصَدِّقُ أنَّا جَرَحْنا أحزانَ الغصون، وتبادلنا الدموعَ بدل الهدايا، ولم ننتبه إلى أننا قتلنا الفرحَ في معاطفنا، وبذرنا الكراهيةَ في طرودٍٍ ملغومةٍ تتأرجح فينا. وفجأةً أصبحت قصتنا فُكاهةً على ألسنةِ القُرودِ ودببةِ الباندا.

 إنها الأمطارُ فيذهبُ الجميع إلى مخبئه وأظل هائماً مبللاً بلا مأوى. أنالَ عطفاً مؤقتاً من مُخرجِ أفلامٍ وثائقيةٍ يجني الملايين والتصفيق ثم يرميني في الشَّارعِ. رجولةُ الزَّوْرقِ، وامرأةٌ تُذبَحُ في الستائرِ الرماديةِ كُلَّ ليلةٍ، تُذبَحُ في أحضان زوجٍ لا تريده.

 أنا حيوانٌ، وهذا لا يعني أنه ليس لي شعورٌ أو إحساسٌ. أحتاجُ إلى أنثى تشاركني مسيرةَ التوحشِ، وجنونَ الاندفاع الشرس. ليكن الحبُّ بَيْنَنَا حَرْبَاً تتعانقُ فيها بقايانا. لن أخرجَ من جِلدي لكني سأُجَهِّزُ على شطآنه مقعداً يتسعُ لجثةٍ نتقاسمها وتتقاسمنا، ونضم أجسادَ موتانا ونموتُ. أَعْطَيْتِني دمَ الفريسةِ تذكاراً. تَذَوَّقْتُه فَوَجَدْتُه مُرَّ المذاقِ كمساميرِ نعشي المهترئةِ.

 أنا وأنتِ قاتلان. كلانا سَرَقَ براءةَ الغزلان. فلا تلبسي الأنوثة.

 

مَلِكُ الغابةِ غير المنتخَب

 النَّمر

 

حَدَثَ في رمضان المبارَك

 لا أجدُ ما أُفطرُ عليه. أعطاني إمامُ المسجد سَبْعَ حَبَّاتٍ من التَّمْر. فرحتُ وذهبتُ إلى المقبرةِ وجلستُ بين القبور. وما إن سمعتُ أذانَ المغربِ حتى التهمتُ الحباتِ بعد التَّسْمية. انتظرتُ عبدَ القادر الجيلاني كي يُفطرَ معي لكنه لم يأتِ. وانتظرتُ والدي لكنني تذكرتُ أنه مات.

 كُلُّ الفتياتِ اللواتي أحببتهنَّ تَزَوَّجْنَ غَيْري، وَذَهَبْنَ إلى السكن في شققِ الأحياءِ الراقية. أمَّا أنا فأمسحُ القبورَ من الأغبرةِ، وأُنظِّف الغبارَ من عَرَق الأعشاب السامة. أحب الموتى وهم يحبونني. وأحس أنني أجيدُ التحدثَ مع الموتى أكثر من الأحياء. وفي العيدِ يأتي الأغنياءُ بسياراتهم الفارهةِ. أراهم من بعيدٍ ولا أقتربُ منهم لكيلا يظنوني شحَّاذاً أو مُتَسَوِّلاً. لا أملكُ إلا ثوباً واحداً. وعندما يتَّسخُ أغسله بماءٍ مليء بدمعي خالٍ من الصابونٍ. ثم أضعه على الحائطِ وأختبئ في القَش. لستُ نعَّامةً. كان الأطفالُ يأتون مع أهلهم ويلعبون معي يركبون على ظهري قائلين: «امشِ أيها الحصان» ثم يرحلون. لهم أهلٌ وليس لي أهلٌ إلا الأموات. حتى الأحصنةُ لها إسطبلاتٌ تعيشُ فيها.

 لا تقتليني. إنكِ قَتَلْتِنِي ولم تدفعي دِيَتِي. هُدُبِي قوافلُ من البَدْوِ الرُّحَّلِ. الترابُ المشرَّدُ ودموعي، وعمالٌ يموتون وهم يحفرون قناةَ السويسِ، وبوارجُ تمرُّ منها لتحرقَ الجوامعَ وتخطفَ خُبزي وكوفيةَ أبي. لا تقتليني. عيناكِ تَخُطَّان في برتقال قَتلي حَربةً. أنينكِ يُكَهْرِبني. اقرئي الفاتحةَ المقدَّسة على جثماني. والسلامُ علينا. انظري إلى دُبِّ الباندا يحاول مسح حزني وهو في القفص. تذهبين مع الصخورِ المذهَّبة إلى بُكاء اللوز كُوني مخلصةً له.

 لا أطلبُ منك إلا رغيفَ خُبزٍ وكوبَ ماءٍ. لا تضربي القططَ لأن وجعَ النيازك يأكل معها وهي تحبني. وقولي للبكاءِ أن لا يُلوِّثَ حَناجرَ الزَّيتون بالصَّليل.

 

السَّفرُ والأرضُ القادمة

 بالأمسِ، رأى الصباحُ زهورَ الظهيرة تشتري تذكرةً للسَّفر في الزوابع المخملية. رَحلتْ بهدوء، بدون تذكارات الدمع الملحي الممزوج بانهيار الشموع البطيء. إنه السَّفرُ المتكرر قرب رماح الذكرى. يا مطرَنا الموسمي، لا تبكِ عليَّ عندما ترحل أعضائي إلى جسدي. يا دموعنا السنوية، لا تلتفتي إلى أعلامِ الغزاةِ المرفرفةِ في الزرائبِ. لماذا يُغْمِدُ المرجانُ الباكي عَويله في أوردتي؟. ضجيجُ ملابس يعاسيب النحل يملأ مُدني وأظافري. كلما نَبَتَ على جِلْد الربيع مِعْولٌ أحسستُ أن عُشَّ الفيل يتمزق مثل قلب عاشق. ولكنَّ مُدني واقفةٌ وحَوْلَها ركامٌ أبيضُ، وحَزانى تائهون في أصوات عمال الإنقاذ الساكتة. حَبَّاتُ الرُّمان الباردة تقاوم ارتفاعَ حرارة أعواد المشانق. أَرْضُنا تخرج من صمتها لتكشف أسماء المجرمين.

 لم تهضمْني الأحزانُ المعصورةُ في صوتِ الأقمارِ. أُريد من شَحْمي أن يطردني من عيوني لأرى. وداعاً لأشيائي المحاصَرة التي أَنكرتْ معرفتي. وشكراً لديكٍ يوقظني عند صلاة الفجر، وشكراً لصهيل مطعونٍ صَلَبَهُ دُخانُ الحافلات على المزهرية. غنَّت في حَيٍّ مُدمَّر نِسْوَةٌ يحتسين حليبهنَّ ثم يُسحَقنَ. يضعنَ مكياجَ الإبادة على الأقنعة، ولا يَغْتَسِلْنَ بماءِ عيون الفراشات.

 أُستاذاً يرحلُ الغَمامُ من رأسي إلى الشفقِ القريبِ من أكفاني. أَتُراهُ يرجعُ الرَّاحلون مع السككِ الخضراءِ في الظَّلامِ الذي لم يعد يذكرني؟. غداً أم بعدَ غدٍ، سآتي ممتطياً دمائي، وأموتُ على نداءاتِ حجارةِ أرضي. شعيرَ الذِّكْرَى، طارِدْ جلاديكَ، وأَوْقِف المقامرةَ والمهزلةَ. وصَلبتْ راياتُ الغبارِ بلوطَ الألمِ على كاهلِ الطُّوفان.

 مُذَنَّباتُ، وأنتِ تحاولينَ زراعةَ الندى الأَسْوَدِ في صَوْتي اسكني جمجمتي المنفصلةَ عن الدروبِ المشطوبةِ من خرائطِ الحِرابِ. اسكنيها وعِيشي معها لأني خطيبُ الغرباءِ. كأنَّ بؤبؤ عيني غُرْفَةٌ فيها سمومٌ على كرسيٍّ هَزَّازٍ. احملوا عودَ مشنقتي وسيروا إلى الشمسِ مُكَبِّرِينَ. شعوبٌ في قطاراتٍ من ثاني أكسيد الكربون. سنبلةٌ ملفوفةٌ حَوْلَ جرحي الحارقِ الماحي.

 لو معي عَرَقي لما أبصرتُ شظايايَ تشع في بيوتِ البطاطا البلاستيكية. لو معي سِحْنتي لَمَا ارتقيتُ على درجات السلالم في الشَّفق البنفسجي. لو معي قصيدتي الأولى لَمَا بَكَتْني الشموسُ وَحَضَنَتْني أقفالُ المحال التجارية. لو معي مسقطُ رأسي لَمَا نَهبتْ مزهريةُ الجيرانِ لَوْني. لو معي ترنيمةُ النخلاتِ لَمَا انتظرني الباص في صباح مقتلي. لو معي سطوحُ داري لما استهزأتْ بي عذراواتُ الغيابِ. لو معي عِقْدُ أمي الشَّهيدةِ لَمَا أنكرني جرسُ منزلنا في الخليلِ.

 

زِنْزانةٌ في الزِّنْزانة

 هناكَ، خَلْفَ تابوتِ البحر زِنزانةٌ في الزِّنْزَانةِ. حبيبتي الزنزانة اكرهيني أنتقمْ منكِ. أكتبُ إليكِ هذا اللحمَ من الزنزانة. أعرفُ أن الزنزانةَ تتَّحد في الزَّنازين المجاورة لزنزانتي، ولكنَّ زنزانةَ الفرح مرفوعةٌ في سقف الزنزانة. للزنزانةِ عَظْماتٌ كَشَطَتْها الزنازينُ عندما خرجتُ من الزنزانةِ إلى الزنزانةِ. كرةُ قدمٍ في الزنزانةِ لتلعب الزنازينُ بي على رقعةِ الزنزانة. أَحَبَّت الزنزانةُ أن تكتب ضَجَرَها على زنزانةِ كَفِّي. مغامرةٌ في الزنزانةِ لأننا في الزنازين نشربُ بَوْلَنا، فالزنزانةُ خاليةٌ من الماءِ والزنازين. وَجدتْ زنزانةٌ وحيدةٌ حُرِّيتها في حبسِ الزنازين في فَخْذِي. إلى اللقاء يا زنزانةَ الخوخِ في موسمِ حصادِ الزنازين في الخريف قبل الماضي. أطرافي زنزانتي. لحمي زنزانتي. نزيفي زنزانة. صورتي زنزانتي. القمحُ حول قصيدتي زنزانةٌ. أخشى أني تعودتُ على الزنازين. وأنتَ أيها الشبلُ الذي يقابل الزنازين في حديقةِ الأسيراتِ، أُهديكَ زنزانةً في صدري المنحوتِ على أرضيةِ الزنزانة.

 

خَواطرُ زَيْتونةٍ فَارسيةٍ

 تحيةً لأبي الذي دَمَّرَ حياتي!، لوطني الذي نَسَفني بَيْدراً بيدراً، لزوجي الذي قَتَلني في حريرِ إعداماتِ العَوْسجِ. إِنْ صَبَّتْ ملامحُ النارِ عَرَقَكِ في عَرَقي تسممتُ وانطفأتُ وصِرْتُ تراباً في ديباجِ الأمكنةِ النازفِ. يا صهيلَها، أنتَ ترى بعينيكَ لكنكَ لا ترى عينيكَ. أنتَ تسمعُ غناءَ البارودِ لكنكَ لا تسمعُ دقاتِ قلبها.

 وأَلَّفَ الشعيرُ روايةً مأساويةً عن صوامعِ الحريق: «لم يتزوَّج الميناءُ لأنه _ حسب زَعْمه _ لا يوجد من يستحق أن يحملَ اسمه، ولا امرأةٌ تستحق أن تحتفظَ بأبنائه في رَحِمِها». يطرحُ غيابُ الأُقحوان في الشروقِ سؤالاتٍ على الدَّمار: «لماذا تهاجمُ بناتُ الفرنجة أغشيةَ بكارتهن بالمنجنيق؟. لماذا عقول السائحاتِ في أفخاذهن البيضاء المكشوفةِ للجماهيرِ الجائعة؟. لماذا تتمنى الراهبةُ لو كان هناك زَوْجٌ على سريرها؟»

 ترنيمةٌ، والسماءُ بعيدةٌ عن جدائلِ خالتي الزَّوبعةِ. لا ألمسُ قلباً أَسْود للعشب الخائفِ، لأن نهاية الكواكب تجيء مفاجِئةً. واستقالةُ الصخور على ممحاةِ الريح. وأولادُ الشوارع يتبخرون في حلقات زُحل. تحرق لندنُ نساءها المغتصَبات في المزهريات كُلَّ صيفٍ. أين ستختفي الصَّغيراتُ في البنفسج المشتعِل؟.

 والظلماتُ محمولة على ضريح إنسانٍ عادي. إذا جَمَعْنا أجزاءَ الحزن سنملأ صمتنا بمجرات الكلامِ. قد انتظرت البئرُ خطيبها طوالَ ملايين السنين لكنه لم يأتِ. وأتت الممرضاتُ بعدَ انتهاءِ المجزرة في باصاتٍ يُجري لها الحلْمُ صيانةً أسبوعيةً.

 صُراخُ بناتِ الليلِ في مونتريال المدمَّرة ينسابُ على زجاج شُقَّتِي، يُلغيني فأفشلُ في إنقاذهنَّ، لكنني سأحاولُ من جديد. وكان حبلُ أفكار اللهيبِ ترميه نساءُ الراعي في البئرِ العمياء.

 

سُقوطُ الباذنجان العسكريِّ

 حين تهتُ في ترانيمِ البلحِ أرشدني الضياعُ إلى صدأ سريري على سكة حديدٍ تصل مشنقتي بمقصلتي. مَوْتي خميرةُ أجيالٍ ثائرةٍ تُطبَخُ في المجراتِ وتُقَدَّمُ على إعدامي. عبيرُ الصُّوانِ طريقُ الآخرين. ومَوْتي طريقي. بَايَعَنِي قلبي على ألا نُبايعَ القتلةَ. أُصيبت الأنهارُ بالإحراجِ حين رأت جسدي المقطَّع في الغسقِ عارياً. يكاد يملؤني صياحُ البساتين. ذبحوكَ أم لم يذبحوكَ. ارفضْ سجونَ الملوك.

 لا تُعْطِ البيعةَ لرجلِ المسالخِ الشعبية. نزعت العاصفةُ من رقبتها بَيعةَ الوالي. وأنا عاصفةٌ أهدرُ تِيناً. تَنْفضُ عني قلاعَ الرُّومِ صاعقةٌ. وأنا صاعقةٌ اتَّحدتْ معي مواسمُ قِطافِ الانفجارِ لنُولدَ ثائرِين من شرياني. ماسحاً أبراجَ الشيطان في برودةِ بطون المسجونين. يركضُ شِرْياني إلى شرياني حتى أموتَ. اسمع تحياتِ الشفق المحرومِ. أسروكَ أم لم يأسروكَ. ارفضْ جنونَ الملوك.

 لأول مرة أرى وجهي بدون إسمنت وبرقياتِ ولاءٍ. أرى مَوْتي مَوْلدي في احتفالاتِ وقوع السلاطين في أرحامِ الجواري. لستُ من الجواري والمستشارين، ولا ينتمي روحي إلا لله هازمِ ثمود. قياصرةُ العَتمة سرابٌ. جيشُ المنافي غبارُ الموائدِ. شوارعُ الغثيان مشانقُ. ومدارسُ الهلوسة مراكزُ اعتقالٍ. خَوْفُكَ أوثانٌ مُعَظَّمة تُسحَقُ. فترنَّم مع ألغامِ الحقول. ذبحوكَ أم لم يذبحوكَ. ارفضْ ضحكاتِ الملوك.

 حليبُ أميراتِ الرُّكام قُربانٌ في فم تمثالِ الحرية، يُقدِّمه كهنةُ البلاطِ المشقَّقِ. وداست المذنَّباتُ أعلامَاً منكَّسة في الآبار. إذا تخلى أنفي عن استنشاقِ ثورةِ النباتات خلعتُه ونَصَّبْتُ مكانَه بندقيةً محشوةً بالرعودِ. لِنكنْ في الضبابِ نقاطاً على حروفِ أغاني الأرضِ. خَزِّنْ في إعداماتي قصةَ العشب. حَرَقوكَ أم لم يَحْرقوكَ. ارفضْ ذكرياتِ الملوك.

 

مَنفىً على شَكْلِ عُشبة

 سَتُطَهِّرُ البروقُ سُعالي من احتلال الإسفلت، سَتُحَرِّره وتغسله بماءِ الوردِ ودمعاتي، رغم أن السُّيولَ العوانس يَخْرُجْنَ من البارِ عارياتٍ، صباحاً. تقتربُ شهوتهن من جثمانٍ ملغومٍ، من أقبيةٍ تنهضُ في فوهةِ الحبِّ مسرحاً للعرائسِ. يمنحن مواعيدَ نهايتهن للعساكر على جسورٍ تائهةٍ في طرود بريدية مهيئةٍ للانفجار وامتصاصِ الأناشيدِ البركانية.

 أنا وسورُ عكا في المدى الذهبي. اضمحلَّ جِلْدٌ. هتف فينا الصمتُ اللامعُ: «اغتسلا معاً في براميلِ نفطٍ أبيض». سيبيريا في ضميرِ النيرانِ الميتِ. حُزَّ الفحيحُ بسيوفِ الظل والغدِ، وهي تشتهي حفلةَ إعدامٍ من قَصَبٍ. والسُّحبُ تُشهِرُ الأَسِنَّةَ في كوليرا القُطن. صُوَرُ الخيزران على قرميد الحمى تجديفٌ في العَدَمِ. مزهريةٌ ذابلةٌ، وقُبْلَةُ الفراغِ على خُدودِ الأمسيةِ المنسيةِ.

 يا ضائعُ، معذرةً، ما وجدتُ لكَ وظيفةً تليقُ باكتئابِ حيطانِ الحبسِ. حبيبتي تلك الخوخة المصلوبةُ، نسيتُ جبينها في زَحمةِ التلالِ. قارورةُ الحِبرِ الصَّريعةُ هي غَمامةٌ. شعاعُ القناديل الميتةِ يأسرني في رقصةِ الفَخَّارِ.

 كُلَّ يومٍ أموتُ، والصلاةُ تُحييني. إن شَنَقَتْني الثلوجُ فاحملي حفيدةَ الشفقِ ديوانَ شِعري إلى مسقطِ رأسِ الشمسِ. لكنَّ لَيْلِي أقصرُ من الأسلاك الشَّائكة في سُعالي.

 رشفةٌ من شاي السكاكين العقيمِ. ومهرجانُ اعتزال الذئب الشاعرِ على النصلِ اللامعِ. ويتوهجُ الأسى الفضائي. يَسقطُ يُلوِّنُ قطراتِ الماءِ بلون الريح. بئرٌ مفقودةٌ في أضراسِ العويل خَسِرَتْنِي. ويتوهجُ الأسى. وفي الربيع الصاعقِ يُبَدِّلُ ألمي ملابسَه العسكريةَ مثلما يرتدي الشجرُ ثيابه المدنية. بلادٌ حَوَّلت بناتِها إلى بغايا لزيادة الدخل القومي لدفع رواتب الموظفين.

 قَاتِلي أو أخي الشرطي المسحوق، إن كنتَ مُحْرَجاً من مواجهتي بحكم شَنْقي، فابعثه عَبْر بريدي الإلكتروني. مَغْصٌ متقطعٌ في بطنِ الجدار، وتسيلُ الأوبئةُ في الثلوج الدامية، وتصير الأدغالُ طريحةَ الفراشِ لأن الحمَّى أَكلت الغصونَ.

 كانت الجذورُ كوخَ الزوبعةِ يُعاني من الإسهال. لا تزالُ آثارُ الرصاصِ في عُنقي حَبَّاتِ زيتونٍ على قطعة بيتزا تتناولها مُراهقةٌ قُرب حوض السباحةِ. لحومُ التلميذاتِ الطرية تُمسي بلاطاً للمسابحِ المخْتَلَطةِ. والمغولُ يقتلونني بسرعةٍ كي يُكْمِلوا تمرينَ اليوغا.

 مَارَّاً بأطلالِ ذكريات النسيان، أحملُ في حقيبتي شَعْرَ المدنِ القتيلةِ. سنبلةٌ ودخانٌ، وفي آباري مأتم القبيلةِ. أنا وخياشيمُ الغروبِ المخنوقان المنتهيان.

 ناديتُ على العَدَمِ، يا عَدَمُ. إن شعبي قطيع صفائحَ في العدمِ، وطَعْناتي قماشٌ جديد للعَلَم المنكَّس قُرْبَ أغنيةٍ تشرب النسكافيه في نحيبي.

 والقتيلاتُ يَضعنَ فضلاتِ الطعام على صفحة الوَفَيات. وداعٌ للطفلةِ الماشيةِ في صُداعي. أنا وبائعُ الذُّرَةِ المشويةِ بقينا وَحْدَنا في الشوارعِ الموبوءةِ آخر الليل. والريحُ تتجولُ في خَوْفنا. أَسلخُ مِن كَفِّي تفاصيلَ جنائزِ المساميرِ في أعمدةِ ارتباك اليمامِ. ولَمَّا تموتُ عاهرةٌ تمشي في جنازتها قبائلُ الأعرابِ، وإذا مات فقيهٌ فلا يسيرُ وراءه إلا ضباط الاستخبارات لكي يطمئنوا على زواله من طريقهم.

 ربما بعد خروجي من جُرْحي أحصلُ على وظيفةِ مدير أعمال المد والجزر. النشيدُ المحترقُ إعلاناتُ حَتفي في الطوابير عند المخبز. تدخلُ الحشائشُ في حِدادها على نعش الهباءِ. هَيَّجَ الغديرَ ضوءٌ. صفائحُ النرجسِ فِراشُ احتضاري. وما زلتُ أموتُ.

 كلما أجرت الأميراتُ عملياتِ تجميل لتكبير النهود اتشحتُ بالنِّسرين، ومسحتُ من نقوشِ الحناءِ حزباً حاكماً يجرفُ تواريخَ الحريقِ. هذه المدينةُ الوباءُ. أَخاديدُ المنامِ تُصعَق. نارٌ للتوتِ تُحرَق. يُسرَقُ من رئتي نباتٌ يُسرَقُ. غادرني شرياني الأبهرُ وركعَ لرَبِّه على الحصى الليلكيِّ.

 تَخَيَّلْ مشاعرَ الأنبياءِ وهم يُكَذَّبُون. " أعضائي شققٌ مفروشةٌ للبيعِ "، هذا قرارٌ أُمَمِيٌّ صوَّتوا عليه بالإجماع. ذلك هو انبعاثي في الذاكرة الدموية. سأبدأ أنتهي حيطانَ بئرٍ مخصَّصةٍ لأقدامِ الماءِ. الأَرْزُ مرشدٌ اجتماعيٌّ للزوجات الخائناتِ.

 وبعد أن قتلوني وأَسَّسوا في بُلعومي جسوراً لنقل الجنود المهزومين، اعتذروا لي قائلين: «نحن آسفون فأنتَ الضحيةُ الخطأ!» كان يبكي مستخدماً أجفانَ أُمِّه، لأن السُّعالَ قلعَ عَيْنيه الصغيرتين.

 من بائعة الترمس في جذوعِ الكابوسِ حتى أميراتِ موناكو، والزيتوناتُ تحتويني فأتدفقُ. تضع في فمِ انكساراتي ميزانَ الحرارة، فأتسلقُ. وجهي مخدوشٌ بجناحِ الرعدِ يُخَدِّرني. لم يتغير فيه سوى ميعادِ سَلْخِي.

 قَشتالةُ تبدأ من كربلاءَ. سَعَلَتْ أهدابي كواكبَ دماءٍ. وهكذا صارَ نُعاسي الفيروزيُّ عاطلاً عن العمل. أَمْسَكَ البحرُ الميت بِيَدَيْه المسلوختَيْن حضاراتِ المهرِّجِ، وقذفها على حمارٍ وحشِيٍّ كالصدى المرِّ دُميةً.

 أنا في القيد حُرٌّ. لا يعنيني توقيتُ التراب. والزائدةُ الدوديةُ مقيَّدةٌ بالزوابعِ. أَأَنتِ الزنبقةُ التي وَضعت الجرَّةَ المأسورةَ على كَتف الطوفانِ وغَطستْ ضفائرُها في رَحِمها الاصطناعي؟. وهل رَحِمُكِ خَزَّان وقودٍ للنباتات المهاجِرة؟.

 أنا والوطنُ، وُلِدْنا معاً وشُنقنا معاً. افتتحتْ معدتي فرعاً لها على الشارع الرئيسي في قرى البكاء. التقطْ لي صورةً بجانبِ جنازتي المتواضعةِ. يا هواءً تنامُ عليه الأدغالُ الصاخبة، أُولئكَ الجنودُ المهزومون يَضربون نساءهم.

 أمنحُ اللهبَ نشيداً، وأدع مياهَ الطباشير تُلحِّنه. من كواليس مقصلتي اللازورديةِ قَدِمَتْ عينُ ذئبٍ حُبلى بالسِّياط. بلدٌ ليس لوجوهنا لأننا مطرٌ بدون دفترِ عائلةٍ. وقلبي عائلتي التي مَرَّتْ على حدودِ الوجه الحزين، لأن الوطنَ الذي أنجبَ الغزلان اصطادها. وتَبْقى بائعاتُ الهوى في الطرقاتِ يَبحثنَ عن زبائن.

 تَحُطُّ الأمسياتُ القديماتُ على خُنصري. أرى وجهَ أبي في العَتمةِ، والقناديلُ تشربُ نظراتي زُجاجاً لا ينكسرُ، فأعودُ إليَّ. الثورةُ كامنةٌ في أضلاعي كُمونَ أعشاشِ العُقبانِ في ابتسامات الصُّوانِ.

 نَعمْ، إنها بشرتي السمراءُ تصبغُ النيلَ وتتمزقُ فُراتاً جديداً. أنا النجمُ المحترقُ في مداراتي، وفئرانُ الحقولِ ثلاجةُ موتى اليعاسيبِ. صارخةٌ ينابيعي في سِحْنتي. ارْحَمِيني، إنني سائرٌ إلى الجفافِ الهادئ. السَّيْلُ يفتحُ بابَ الآلامِ فتجرفُ الدموعُ زنجبيلَ المذبحة. مجازرُ أكثر من خيوط دودةِ القَز مغلَّفة بالشوكولاتة. أَحْرَقُوا الطيورَ ليحصلوا على ريشٍ مصبوغٍ بالسَّواد. أَخَذوا رئاتِ الأطفال لتبريد المفاعلات النووية.

 الوردُ عرباتٌ جاهزة للتفجير. إنه الليلُ الأخير يهطلُ أراجيحَ. مِن رعشاتِ القَيْصومِ بدأ العدُّ التنازلي لولادة نعوش الإسفلت. كان خَدِّي لَيْلاً من هطولِ الأخشابِ علينا، أبيضَ فيه خيوطُ المدى السَّليبِ. حواجبُ من القصديرِ تُهرولُ في صفيرِ الأقبية.

 يا صَبِيَّةُ، عُودي من أثوابِ الينابيعِ إلى إجازةِ الصيفِ في النيازك. ولا صيفٌ فيَّ كي أمدحَ هواجسَ الرملِ المستيقظ مني. صارت أكبادُ قلبي جنازير دباباتٍ تأتي من حقائبنا.

 لا تتركْ مِقعدَ الريح وإِنْ صعدتْ مقابرُ التِّين على الدرج الكهربائي في الأعراسِ، ولا عرسٌ حولَ انقراضاتِ شِهَابٍ يطرقُ بابَ قبري مرةً أو مقبرتَيْن. ما الذي جاء بكِ يا غروزني إلى أعلامِ تمزيقي؟. عيناكِ البريئتان بيارقُ لا تحتملُ منظرَ الأمطارِ وهي تُحَنِّطُ أفكارَ البراكين التي تأخذ حِمَمَها من رَجْفتي. والضبابُ يعيدُ تشكيلَ خنجري كما تريدُ البروقُ.

 تدق الساعةُ أرقامَها في الشُّهبِ السماويةِ. جاء الغُزاةُ من أَسِرَّةِ نَوْمِنَا. وارتمت النجماتُ المذبوحةُ في دواخلنا عُضْوَاً في اللاجسد. ساحاتُنا اندمجت في خَصري. أنهى عَرَقِي موسمَ البياتِ الشتوي للجبالِ. بندقيةٌ يَدِي، احْمِلْهَا يا جريانَ الأكفان على تفتيتِ أوصالي إلى رصاصٍ وشقائقِ نُعمان تختارُ اسماً عربياً لموسكو. ورِجْلِي قُنبلةٌ يدويةٌ مسكنٌ للعصافيرِ المقاتِلةِ.

 سكنتُ في مياهٍ مغسولةٍ بوجوه الثائرين. أولئك الرجالُ خرائطُ جديدةٌ للرعودِ وحُبِّي. كُلُّ المقاصلِ تُغَنِّي في النعوش المتطايرةِ في عُنُقي. لم يبقَ لكَ يا عُشبَ كلماتِ الشجرِ إلا أن ترفعَ رأسكَ. لكنهم هَجَروا أكبادَ القهوة المتساقطة. السيفُ غَدُهُمْ والميناءُ المتجمدُ ومشانقُ من فَرْو الثعالب. ما زالت ريحانةُ الغروبِ قواربَ عائدةً بأغنياتِ البحَّارةِ القتلى. ولا بد من موافقة الاستخبارات العسكرية حتى تفتحَ مَحَلَّ فلافل، كأنما دمعي زيتُ القلي، وعيوني زلازل.

 كأن إسبانيةً أحبت فتىً عربياً، لا الحبُّ انتصر ولا الأندلسُ عادت. أُصَلِّي الجمعةَ في برشلونةَ. مرثيةٌ ليتيماتٍ يَحْمِلْنَ أكفاني في الإسكندرية، وأُدفنُ في مَكَّةَ. شَيْءٌ ما في حُزني يحرثُ النارَ. وفي المكتبةِ العامةِ دفنتُ نَفْسي في الرُّكنِ المنزوي، وبكيتُ عند مؤلفاتي.

 ذلكَ المنبوذُ. اجمعْ وطناً للكستناء شمالَ طاولات تشريحي وهذا المكانُ برقوقٌ خَدَشَني. بِطْريقٌ تُوُفِّيتْ زوجته وما زال مُحتفظاً بوشاحها في أهدابه. أيُّكما عاشَ في قِرْطِ سَحَابَةٍ لما تراكم عند عِشقي جبالٌ من المآتمِ؟. والشوكُ خِزانةُ ملابسها بُقعٌ على جِلْد غزالٍ تُقَطِّعُني وتُقَبِّلُني.

 يا مشنوقةً أَحبَّتْ ظِلَّها أكثر من مرآتها وماتت في رنين السنابل، أين تسكنين حتى أُعَزِّيَ أَهْلَكِ الرَّاجعين من الكولسترول والمذابح والسلاسل؟.

 أُحب الشموسَ المنهمرة من وجوه الأنبياءِ. وغُرْبتي تَتشبَّثُ بأكتافِ المحارِبين في المساءِ. أكياسُ جُباةِ الضرائبِ والصَّراصيرُ ونقارُ الخشب المتفحم. إنني غريبٌ كالمساءِ الراكضِ في خياناتِ أكشاكِ السجائرِ، كأي شيء يأتي من صيحاتِ البوصلة في مرضِ الرُّبانِ. لأخشاب الصندلِ شَفَقٌ سوى غضاريفي الطينية.

 اخترْ منفاكَ بيديكَ. قلتُ: «أُريدُ المجرَّة». والمجرَّاتُ تُمشِّطني، وكُلُّ حِرابِ العباسيين دَمعتْ رَقصتْ في ذهني أبراجاً من الدَّمعِ المرمري. لكنَّ الزوابعَ تبوسني ظناً منها أني ابنها الذي شُنقَ مَرَّتَيْن على التوالي. تتقمصُ الذهبَ فِضَّةٌ. مناجلُ الصهيل أحصنةٌ تُخيطُ إسطبلها بكثبان أناملي. ما كنتُ أتخيلُ أن رُفاتي سيصيرُ طاولةَ مُفاوضاتٍ يتصافحُ عليها الأمويون والعباسيون أمامَ محطاتِ التلفزةِ الأجنبية. ما توقعتُ أني بتلك الأهمية!.

 وهَبطتْ خُلجانُ المذبوحين على أنجمِ العصور الحجريةِ. كأنني سَلَّةُ خَسٍّ فضيةٌ. أحشائي إنها أَسِنَّةٌ لا سجائرُ. وشَكَّلَت الديدانُ في قزحيتي مقهىً لعائلتها. لا تُلطِّخ أحشاءَ العاصفةِ بالعد التنازلي للخجلِ عند إناث الرَّماد. ولو امتلكتُ أكثرَ من جسدٍ لَفَرَشْتُهم على المقاصل لكي أرى وجهي. أتحدَّثُ إلى أخشاب المرافئ عن مشاعر رمال البحر.

 انتحارٌ بالتقسيطِ يَلفُّ أعناقَ الديدان. مِكياجٌ على الأفخاذ الجرباءِ والنعالِ الأجنبيةِ. نُزعت الجنسيةُ من الصنوبرِ لأنه سَلَّمَ عَلَيَّ. أقامَ الصرصارُ نظاماً برلمانياً في سلةِ النِّفاياتِ. والنهارُ ينقلُ على ظهره أحجارَ ضريح الذُّبابات، ويرتبها قمراً تلو آخر. عُمُرِي عشرون وأملكُ خمسينَ سنةً خبرةً في الوقوفِ على خشباتِ الإعدامِ.

 لا بد أن تصبغَ دَمَكَ بالأبيضِ لتَكونَ رايةَ استسلامٍ. كلا، لن تَصِلُوا إلى رمشي وفي سُحُبِي نيران تَشربُ. صارت السكاكينُ موسيقى لها ملمسُ البارودِ. والنحلُ الميتُ على البلاطِ.

 أُثقلت الغصونُ بالرؤوسِ المهروسةِ كالثمر المتروك للجفافِ. إنني أندمجُ جزئياً مع البرتقال المنفيِّ. وقبلَ ميلادي أحببتُ أناملي، وبعد أن وُلدت أشلاءُ الطاعون تساقطتْ أناملي. أستدل بلحمي على لحمي لكنني قمرٌ شريدٌ. فالسَّياراتُ تنقشُ الحِنَّاءَ على أَكُفِّ السَّماءِ.

 أغشيةُ بكارةٍ مُلقاةٌ في الشَّوارعِ المتحدةِ بجنونِ سان بطرسبرغ. نسوةٌ كالنعال الرومانسية يَغسلنَ المزابلَ بحليبِ الرَّضاعةِ. والأتربةُ القاتلةُ عجوزٌ مُقْعَدٌ على كرسي الاحتضارِ. قَبِّلْ جُثماني حيثُ تركبُ المحيطاتُ على فناجين الإعصارِ، ويَهْرَمُ المكانُ الذي ضَمَّ الضَّحايا وجلادَهم والوطنَ المنفى.

 مروراً بالليلِ الأزرقِ، والقطاراتُ البخارية على حوافِ اللوزتَيْن. سِكِّينٌ تلدُ بريقَ نَصْلِهَا. ضُمِّيني يا أجداثي حيثُ تغدو جُمجمتي كرةَ قدمٍ يلعبُ بها الصِّبْيَةُ والبرتقالاتُ في حاراتِ بَصَرِي. إنما السَّحالي تتبخترُ في مناديلِ دودةٍ تقضمُ الشَّفقَ.

 الزبائنُ الجددُ والبَغِيُّ الجديدةُ والأَسْرُ الجديدُ والمولودُ الجديدُ للدُّوقةِ والحثالةُ وطلاب مدارسِ رُعاة البقر في الطابور الصباحي يُصغون لأسطوانةِ الولاءِ للشَّيْطانِ. كيف ابتكرتَ مِحراثاً من عروق الأسرى الذين لم يجدوا شمعةً تقتفي أخبارَهم؟.

 بَلَدي، رَكِّزْ في رفاتي. أتعرفه؟. كَرِّرْ موتي أَلْمَحْكَ حَيَّاً في السكوت ذي الصوت المرتفع على درجات قصر الحمراء والبلداتِ الممدَّدةِ في أطرافِ الصَّمتِ المبتورةِ.

 هذا الدمُ أشعةُ غيماتٍ باكياتٍ في الانتظار. كشميريةٌ تنظرُ إلى قيودي على خشبةِ الإعدامِ. وأَخَذُوا ذراعي عصا بلياردو بعد تقطيعي، وقبل مجيء أحداقِ الريحِ. ظَهري المصدَّعُ الذي كان يحملُ أكياسَ الطحين للعجائزِ، أخذوه عتبةً لصالةِ رقصِ الباليه. إنه جسدُ نبتةٍ مُشَوَّهٌ.

 إنكم تريدون قصص العشقِ مع عصير التوتِ في المقاهي، ولكن يا زمنَ المثقفاتِ الوهميَّ، جسدي مرميٌّ في الشارعِ بالقربِ من حفر المجاري. والشايُ المقدَّمُ على بلاطِ مجزرتي يبردُ ويبردُ، لأنه لم يأتِ مني إلا طَيْفي.

 لماذا أنتم مُصِرُّون على قضاءِ شهرِ العسل الجماعي في أكفاني؟. مَن صاحبُ برواز الجريمة الكامنِ في ضوءِ القناديلِ البائسةِ؟. زعموا أن ابنَ العم يُنزلُ ابنةَ عمِّه عن ظهر الفَرَسِ، ولا ابنةُ عَمٍّ ولا فَرسٌ. وكانوا يُناقشون مشروعَ تحويل طُحالي إلى مسبحٍ مُختلطٍ في الجامعات. والمتفرجون على مهرجانات تمزيقي يُلوِّحون بالتذاكر طرباً، حيث كانت الروحُ الرياضية سائدةً بين الجمهور أثناءَ قَتْلِي وتعليقي على بوابة المدينة رَقماً.

 صباحُ الخير يا مسائي!. حاكِماتٌ مثلُ النِّعالِ يثقبن ملابسهن الفاضحة ليضعن فيها أقراطَ المشنوقاتِ. وفوق ثورتي ثورةٌ من سريرِ البرقِ في خشونةِ نُعاسي. أمساً كان حاضرُ عِبارات الغبارِ. افرشيني سَرْجاً لخيل الله. اصهريني نظاراتٍ ترد الأغبرةَ عن عيون النسور في طريقها لفتح بيت المقدس. حزني بيتُ قلوب الأنهرِ، ومينائي أمسُ الرَّحيلِ حزبٌ سياسي في مجلسِ الفاكهة. وإمارةُ أنطاكية تقع. كالسقوطِ حَامِيَتُها تَشَظَّت في صميم اغتصاب يونانيات في الجانب الشمالي لِعَرَقِ المتوسط. أغلقَ أرسطو أبوابَ ظِلِّه. وأثينا هُدنةُ جنونٍ في إضرابات المناجم. أبوابٌ متراكمةٌ عُرْيَاً، والجنودُ يتجولون في ثياب الهلوسة. الفرسانُ رُكامٌ والكهوفُ القابعة فيهم تجرُّ الشجيراتِ صواريخ نزيفٍ لا بد أن ينتهيَ. وما زال أرسطو يغوصُ في هوسِ النبلاء. مَنْ سؤالي الواقفُ على دقةِ ساعةٍ أَعْلنتْ ميعادَ سَفري؟. وفي خاطرةِ صخرةٍ على شاطئ المحيط قَعَدَت عُشبتي ترقبُ طارقَ بن زياد. ألا أيها المضيقُ المتسرِّب في مدى استماع الموجات للنحيب النورسي المنظَّف في آخر يوميات وريدي. اعبرْ أمامي نتجاذبْ أطراف مُرَبَّى نحيبي.

 عاهرةٌ إسبانيةٌ تستعملُ أكوابَ الشايِ ذاتَها التي تركناها في بَيْتنا في قُرطبة ومِتنا. سلامٌ عليَّ وأنا أُحارِبُ، واليانسون يبصقُ أهدابي في رمال الرُّبْعِ الخالي. وابْتَكَرُوا في احتراقاتي مطعماً للعائلاتِ. أُعدمتُ بعدد مرات بيع إناث القبيلة. وطالباتُ كلية الطب يُجَرِّبْنَ الأدويةَ السامة على خدود الفقراء الضامرة، ويتدرَّبْنَ على تشريح معاناةِ إشارة المرور.

 أنا المصلوبُ اليومي لكني الفاتحُ المنتصِرُ. وفي حطامِنا يضعُ قطاعُ الطرقِ إناثَ الحيتان في أحداقِ بناتِ آوى.

 

كَشْميرُ تَلْبَسُني

 روائحُ الحبوبِ تَغْلي في عِظامي. يا نشيداً أقوى من الأحجار الكريمةِ، أقوى من رقصات ظَلامي. كشميرُ ياقوتةٌ في كَفِّ النهرِ. وِشاحُكِ يُغرقني في إيقاعات السِّكين. يا لَكِ من زُمُرُّدةٍ حمراءَ أبراجاً!. قُتِلْتِ ألفَ مرةٍ وما زلتِ تمشينَ. جَدِّفي في أبخرةِ زفيري حتى فلسطينَ، لأني سأُغنِّيكِ مدىً صارخاً للصُّبح. وأنتِ سُلالةُ أقمارٍ حُذِفَ من قاموسها لفظة الاغتصاب.تَوَضَّئي بماء عيوني المقذوفتَيْن في نظراتكِ. قالت: ((دَعْنا نتيمَّمْ ونُصَلِّ ركعتين)). ورَكِبْنا أشرعةَ الضبابِ.

 كانت جبهتكِ ترتفعُ على المراكز الحدودية في نخلاتي. أتخيلُ جِلدي كشميرَ، وفمي وقلمي. وكشمير هي أنا في رعشةِ الجهاتِ. يومَ أضاء حِجَابُكِ في دنيا القمرِ كان الناسُ سَلَّمُوا مفاتيح عيونهم للنعاس، أما أنا فانتظرتكِ لآخذ عن خدودكِ أنهارَ السَّفر. ترافقنا في حدائق المشنقة لأن التعبَ يُراوغُنا على سطوحِ القطارات الكهربائية. أَنْفُكِ يُشْبِهُ أَنْفِي، لم يبقَ إلا وجهان طَرِيَّان بنى الصخبُ بينهما سوراً من الفراشات الرافضةِ.

 زئبقٌ في عيونِ المنفى، وأنتِ وجهي حين ينصهرُ المساءُ في حماقاتِ الهديلِ في شبابه. دفاترُ من صوف النِّعاجِ. وأحلامٌ مُسَمَّمَةٌ تلفُّ المواشي الساذجةَ. هِيَ صباحٌ كشميرُ أو دمُ المجرة. أُحِبُّ الشِّعْرَ لأكره السلاطين، وأتوقعَ خياناتِ الغدير الهاربِ. أُسَمِّي عظماتي بأسماء تلالكِ، وأنظر في مرايا عينيكِ كي أُصفِّفَ شَعْري، وأُرتِّبَ ثيابَ القتالِ المغسولةَ، وأُجَهِّزَ التوابلَ للقتلى القادمين من الشَّفقِ.

 أنتِ عُشِّي، وأنا الصقرُ الذي ينهشني عشقُكِ. كنتُ مُتعَباً من الإبحارِ في جدائلكِ، فحملتُ جثتي على ظهري المشقَّقِ، وتنقلتُ في حِنَّاء كَفَّيْكِ الناعمتَيْن. شَريدٌ لحنُ وريدكِ، وأنا شريدٌ. لعل رُفاتَ الجديلةِ على شفتي بركان وحيدٌ. مشتاقاً إلى نسيمِ نبضاتكِ المملوكةِ، حاصريني بالقُبُلاتِ العابرةِ. تلتصقُ يدانا وينسابُ الماءُ بينهما، لأن بِرَكَ السِّباحةِ في دماء الشهداء سَلبتْ حَقَّنا في الشُّربِ ومغازلة الأنهر.

 قضيتُ حياتي في الشرايين اليابسةِ كمن يبحثُ عن جثةٍ تتناولُ العَشاءَ في عُرسها. هَشَّمت الفصولُ براويزَ لقائنا، فأضحيتُ بعدَكِ بروازاً لتذكاراتِ السنونو. أتلمحين هُدُبِي خارجةً من إشبيليةَ وأبوابِ السَّحَرِ عليها آبارٌ ميتة مَثَّلَ بِهَا المساءُ الضَّيقُ؟. إن صورتها مخدةٌ للعرائسِ من بناتِ آوى. جروحي البذرةُ والدمعاتُ شجرتي اليتيمة. وضرب الصمتَ الزهريَّ أمكنةٌ منكسرة. فَلْتَكُن ثِيابُ الحِدَاد جَاهزةً على الدَّوام.

 طعمُ الكواكب على أحطابِ العِناقِ. أستلُّ من لحم القمر قطعةً، فتنتفض جبهةُ يمامةٍ وتأسرني أشواقٌ. الأمسُ المستقبلي، والريحُ الجريحة تَصرعُ اسْمَها. كيفَ سارت الحيطانُ على حِبالٍ لَفُّوها حولَ اللاشيء؟. وأنادي في الشوارع القتيلة، فارغةٌ أنتِ إلا من الضحايا والأوراقِ البيضاء. وغابت الحقولُ عن مؤتمر الصُّلْحِ بين السراب والضباب. وأدورُ على أبواب الأرامل المذبوحات، تدق كياناتي أجراسُ القحطِ. كأنَّكَ الشفقُ يُنزِلُ دَلْواً ممتلئاً بسُعالي إلى قاع نَفْسي. فالنارُ غير عالمةٍ بأن حتفَها على يَدِ ما يخرج منها من رمادٍ.

 

سِفْرُ الرُّؤيا

 أرى شركسياتٍ يَغْسِلْنَ جمجمتي في نهرِ الأردن، فتساءلتُ. نشيدي مدايَ بيننا الظِّلُّ غاضباً. سِفْر رؤيا القرميد أعمى يُخبئ لحمَ السرابِ في جسدِ الأسطورةِ. وسِفْرِي أفقٌ مائلٌ نحوي. يا أُمِّي، هل اكتشفتِ في فِراشي رُمحاً لغيابي؟. مزهريةٌ تبوحُ بما لم تبح به النجماتُ المهجوراتُ. العيدُ الوطني لذبحِ الوطنِ. يومَ ذُبحتُ استفقتُ رأيتُ.

 حضارةُ الشواذ ملتصقةٌ بعلكةٍ في فمِ سلحفاةٍ. أنا العريسُ المفضلُ للمذبحةِ المقتولُ الرسمي المذبوحُ الشعبي الحزنُ المؤقَّتُ. أُشْعِرُ السنابلَ بأنوثتها. والصهيلُ يأكل فطوري. بَيْنهم مكانٌ للعاصفةِ. قوسُ قزحَ يمامةٌ مضرَّجةٌ بسريرها. أُدخِل البرقوقُ في مَصَحَّةٍ عَقْليةٍ لمعالجته من كثبانِ الذئابِ العالقةِ فيه. قِطٌّ يلاحقُ قطةً من غيمةٍ إلى غيمةٍ. وتشرُّدُ أقمارٍ يلاحقني من خيمةٍ إلى خيمةٍ. عَرَقُ الفلاحين أكثر نقاءً من عرقِ الراقصاتِ. يا قَبِيلتي التي جَرَّدَتْني من جسدِ أبي وشكلِ البراري، لَمْلِميني في ابتسامِ الشفقِ وشموخِ الجبالِ.

 الذكرى العاشرةُ لإعدامي. حَمَّلَنِي المذبحُ اسمه وغابَ. إن العشبَ لا يموتُ في السَّحابِ. أَشربُ الشايَ إلى جانبِ ضريح القمر، فأرى في شظايا السُّكَّر تابوتَ المطرِ. ناديتُ تناثرتُ. رِجالٌ يَجْدلون شَعْرَ زوجاتهم أمام مرايا مَقْتلي. لا تُنَصِّبْني مَلِكاً على هذه الرِّمال. لا تجعلوا النساءَ يُشَارِكْنَ في رِثائي وَهُنَّ في قُمصان النومِ. مُراهِقةٌ تفتخرُ بحجمِ نَهْدَيْهَا على شاشات التلفاز، وتتبادلُ أحاديثَ الغرامِ مع صديقها في جنازتي الموسمية. تشم الورودُ عرقَ الخيولِ الراجعاتِ من معركةِ الحلْم. يا خِياماً تمتص طفولتي وتتبرأُ مني، أنا وابنةُ عَمِّي قُتلنا بنفسِ المسدَّسِ لأننا فراشتان. وكانت حشوتُه دربَ بَطَّةٍ تهاجر من مخدَّتي. ينبتُ على جناح طائرةٍ نعنعٌ يزرعُ تراباً في جوف السُّكوتِ.

 لم يتوقع الرعدُ أن تمتد أكفاني من جزر الكناري حتى مثلث برمودا. دمي المعلَّبُ. أنا الشاطئُ المعتقَل في كل الكواكبِ المطرودُ من كل الوجوهِ. أعرابٌ يُخَيِّمُون قُرب القوافلِ يبيعون نساءَهم لرجالِ الأعمالِ. اسْمِي مُعَمَّمٌ على حدودِ كوكبِ المريخِ. بناتُ الفرنجةِ يُفَتِّشْنَ عن أغشيةِ البكارةِ في قرون ثورٍ هاربٍ من الخدمةِ العسكرية في جيشِ الاحتلال. سَحْقُ الراهباتِ في مكتبةِ الكنيسةِ. تأخذُ الشجرةُ إجازةَ أُمومةٍ. أُمِّي والعُقبانُ واقفون أمامَ الحاجزِ الأمني ينتظرون تَسَلُّمَ جُثماني.

 صَادَرُوا كتاباتي وعظامي اللامعةَ، وما زالت الرؤيا تراني. ثغرةٌ في سيناريو احتفالِ الحلم بذكرى استقلاله عن مجرى تَنَفُّسي.

 كُنْ دمي يَوْمَ تمشي البَرِّيةُ في غُربتي. لا يوجد دمٌ مُحايد. ألمي ثورتي القادمةُ. السَّرابُ مُؤرِّخٌ متخصِّصٌ في الأحداث الداميةِ في جسد الصَّبارِ. لم يفقد ضبابُ برج المراقبةِ الأملَ بعد إصابته بالزهايمرِ. حتى القططُ لم تنجُ من رصاصِ القناصِ. أَلَمٌ بسيطٌ في ضِرْسِ كوكبٍ مجهول.

 يا كُلَّ الثُّوار الراجعين من الملاجئ، واليانسونِ المصلوبِ على أبراج المراقَبةِ في مُعْتَقَلات التفاح، والأسلاكِ الشائكةِ في الأعين المخلوعة من الوجوه المنفيةِ، هذا نَعْشي اسْكُنوا فيه. هذا جسدي ازرعوه قمحاً وشعيراً. هذه حروف جبيني احصدوها، وخَزِّنوها في أياديكم المثقوبة.

 لا أبناءَ لي أُورِّثهم عُقدي النَّفسية. العدوُّ الساكنُ في دمي. قد يزورُ الليلَ شَمعُ المذبوحين. يكسرُ المطرُ ظِلَّه ويتزوَّج أظافري. فتنخلعُ الأشرعةُ. فلا تَسْمَحْ للموتى السَّائرين في الشَّارع أن يُولَدوا في نخاعكَ الشَّوْكي. خيالُكَ الرماديُّ عاد مهزوماً. تَوَضَّأْ بماءِ المطرِ واغْسِلْ نزيفَ الغيوم. امْسَحْ عن الرَّمل عَرَقَ المسافاتِ قبل أن يمسحكَ!. لو انتظرتَ محاصيل ذاكرتكَ فلن ينبتَ في السُّيول وردٌ.

 البحرُ الملثَّم. الزمهريرُ المائلُ للبياضِ. الناسُ حُطام. أين أنا في كوكبِ الموتى؟، وأين دموعي؟. مَوْتٌ يُوقِف احتراقَ ضُلوعي. أتخيَّلُ القططَ تَهْرمُ في مزارعنا عند مواعيد الحصادِ. أراملُ إشبيليةَ يَكْتَشِفْنَ في خِزَاناتِ المطبخ توابيتَ أبنائهنَّ وخياناتٍ زوجية في عُلب البيرة. ضحكةُ فرانكو تُعكِّر ماءَ البئرِ، والأرضُ جارفةٌ تركضُ إلى حَتْفها الأكيد.

 تاركاً دمي وراء ظَهْري. عَدُوِّي أمامي وخَلْفي، سأنسلُّ من فُوَّهةِ المكان وأخترقُ صمتَ وسادتي. أحطاباً للنارِ تأتي قواربُ جُثثِ الغُزاة. يَتَصَدَّعُ قَلْبُ العاصفةِ الذي تتجمَّع فيه مياهُ السُّيول. أنا الوليمةُ الجاهزةُ للدودِ في حُفرتي. أتعرفينَ لونَ الصمتِ لأناسٍ لا يزورهم أحدٌ في العيد؟. باح الإسطبلُ بأسرار القمرِ للنسورِ. اكتئابُ الغربان إذا وجدتْ ريشَها فريسةً ونظراتُ النمور. سَيَعْبرُ الزمانُ خنادقَ السَّحابِ، فإِنْ فقدَ حياته سيجد على الأقل ذكرياتٍ تحملُ نعشَه وتمضي.

 أَغارُ على جرحي من مراهِقِين يَرْقُبون حبلَ مِشْنقتي ينساب على إعلانات التلفازِ. أغارُ على طَيْفي من مراهقات ينتظرنَ صدورَ حُكْم إعدامي بفارغ الصَّبرِ. يؤسفنا أننا لا نستطيع إعدامَكَ أكثر من مرة _ قالت لي الأطلالُ المائية. فراشاتٌ تتجمد في عُلبٍ مِن جُلود القطط السِّيامية.

 اضطهادُ الحلْم. وُعورةُ شرايين الإعصار. أيتها المراعي المتكدِّسةُ في الأوعيةِ الدموية، اعْبُري رُمْحِيَ الأولَ جثتي الأولى وأضواءَ التراب. وطنٌ أخضرُ كالشاي الأخضرِ يذوبُ في دماء الفقراء لِيُلغيَها. حشائشُ تمسحُ أحذيةَ القططِ العمياءِ.

 اللهُ أكبرُ، لم أَقتطعْ من لحمِ جَدَّتي حقائبَ للملكاتِ. ولم أَنْسِجْ من فَرْو الثعالب ملابس داخليةً لبناتِ الإقطاعيين. هي الدولةُ البوليسيةُ ضياعُ أوقاتِ بناتٍ يَبْحثنَ عن الجنسِ في انحناءاتِ البرتقال. البوليسُ السياسيُّ يَلُمُّ أوراقَ التِّينِ ويسترُ بها ضريحي لئلا تراه دماءُ المساءِ وبلادُ الشمسِ. أدقُّ على أبواب جُرْحي، فيخرجُ سِجْني، يصافحني ونتبادل الأحاديث، ثم نذهب إلى ضوء كستناءِ الشَّفق.

 المجدُ لخالقِ هذا المدى. اقترب الرَّحيلُ إلى لهب الشَّمعة. تتبخترُ السيوفُ في مفاصلي لأني نسرٌ أَخيط أجنحتي من فراشاتِ الرفض. أغسلُ سيفي بأحصنةِ الرُّوم، وأرمي على حصون بيزنطةَ أظافري. أنا وشموسُ المطر وأعشابُ النار رَفَضْنا التوقيعَ على أوراق بيع فلسطين.

 والشموسُ الفِضِّيةُ تعتنق الكفاحَ المسلَّح. في قلبِ الرعشة عواصمُ مُطفأةٌ. وعلى أجنحة السنونو جيوشُ الفراغ. حاشيةُ الكلاب البوليسية في آبار الضجر تُتاجر باسم الوطن. إن نزيفي الفعلُ لا ردُّ الفعل. تمتص أعضائي الأذانَ. اكْسِروا الاكتئابَ على لافتات الشوارع. اطْرُدوا رعشةَ السُّعال من السَّنابل. اشْطُبوا الظلالَ النازفة من أرضنا النازفة. لِمَن هذه النعوش الخارجة من أوكار الحليبِ إلى أشجار الليمون المحروقة؟. نُمزِّق لوحاتِ الثلوج في موقدة الكوخ المحاصَر بالدِّببة القُطْبية. لا لحمي شهرُ عسل للمتزوِّجين الجدد، ولا كتاباتُ الشجرات تصفيقٌ للثعلب. أَرضي مجروحةٌ ووجهي مُتعَب.

 أيها الرَّسولُ المشرق رَغْمَ أنف اللات والعُزَّى. خجلتِ الشُّموسُ حين بدا نورُكَ. تبكي شراييني على قَدَمَيْكَ الشريفتين يا شمساً لا تأفل. وكلُّ ذَرَّةٍ في قلبي تشهد أنَّكَ جِئْتَ بالحق. يا غَيْمةً تُظَلِّل النَّبيَّ كُوني أُختي في الدُّروب.

 ينسف مطرُ الحقيقةِ شهيقَ صُكوك الغُفران في خِزَانات محاكم التفتيش. انْتَظِرْني يا جُرْحي في أعالي زَفير الفراشات، حيث شَيَّد الغضبَ قَلْبٌ أبيضُ. وقلوبُنا بيضاءُ كالبارود الصافي. لي سيرةٌ ذاتية خالية من أوسمة الحطب. لي ملفٌّ في دوائر الأمن الساكنة في أعصاب اليمام يُرتِّب أوراقَه شَوْكُ الطريق. لي أصدقاء أمعاؤهم على قائمة الاغتيالات ووجوههم تطاردها مرايا النسيان. لي بلابل كَسَرتْ بابَ القفص وخَرجتْ. لي كبدٌ يثقب الصولجانَ. لي دفاتر ترى فيها السهامُ وصاياها، وللسنونو ثكناتٌ عسكرية من رخام براميل البارود. في آخر صرخاتِ الندى غاباتٌ من أحلام ومطارٌ لليمام. دِيكُ جارتنا الوحيدُ هو ذاكرةُ الخناجر. اذهبي أطرافي حتى آخرِ جراح النخيل. لا أَنَّاتي قيثارةٌ ولا أسنانُ التمساح استراحة للبلابل المتعَبة.

 سأُقاتِلُ حَتَّى آخرِ غَيْمةٍ مِن دمي، حتى آخر شجرة من دموعي، حتى آخر كوكب من لحمي، حتى آخر زلزال من كبدي، حتى آخر فراشة من جمجمتي، حتى آخر قطرة مطر من قلبي، حتى آخر بركان من عظامي، حتى آخر شُبَّاك من أظافري، حتى آخر نَبْع من معدتي، حتى آخر شريان من بندقيتي، حتى آخر برميل من عَرَقي، حتى آخر بَرِّية من جِلْدي، حتى آخر شلال من غضبي، حتى آخر رصاصة من شفتي، حتى آخر إعصار من سِجني، حتى آخر حَجر من أنفاسي، حتى آخر غابة من طُحالي، حتى آخر نبضة من خطواتي، حتى آخر جرح من عُمري، حتى آخر عصفور من عضلاتي، حتى آخر نَبْتة من زمني، حتى آخر خَيْط من جُرحي، حتى آخر بستان من قفصي الصدري، حتى آخر رُمْح من سُعالي، حتى آخر مدينة من عمودي الفقري، حتى آخر لَوْن من أمعائي، حتى آخر حَقْل من خَيْمتي.

 يَتوهَّجُ لحمي وهو على الأَسِنَّة يَصُبُّ في شلالات العمر المتفجِّر. إنني قلبٌ عائش في الملكوت. أَهيمُ مع أنهار النشوة. وتنساب الجداولُ في رَحِم الغابات الأرجوانية. ميلادُ الأنبياءِ الشُّروقُ نقياً، فيا مسيحَ الله، سأنتظركَ وأنتَ تنزل من السماءِ عند المنارة البيضاء لتكسرَ الأسطورةَ. فَخُذْني ماسحَ نَعْلَيْكَ، أو خَيْطاً في ثيابِكَ.

 إن دمي محرقةُ الأكاسرة. حاضناً كُلَّ بنادقِ الرَّعد حتى تَنْسى سِفْرَ الرُّؤْيا الراهباتُ، إن مُسدَّسي هو سِفْرُ الرؤيا. أُحِبُّكِ يا مئذنةَ الفجر كي أَقتلَ اكتئابي بخنجر أبي. للموتى طريقُ السناجب المشنوقة على حطب الأنهار. وهذه الضفادعُ المقليةُ في دم الضَّحايا هي اسمُ الخديعة البرتقالية. دخل في عزلة رياح الرماد الحزنُ ورومانسيةُ البنادق الآلية وجنونُ الأرصفة. إنني ضَوْءُ الشَّمس، أَسْطَعُ كالعُشب الخام والذكرياتِ البَرِّية. لم أَتَنَفَّسْ عِطْرَ المهرِّج. أَنْزَلْتُ صُورةَ الصَّحراء عن جُدْرانِ شراييني. وكُلُّ بارودِ المجرَّات يَحْرُسُ الذكرياتِ بالفراشات.

 

عُصفورةٌ تَبْكي اسْمُها الأرضُ

 قُيودي هي ثلوجٌ صَاغها ضَوْءُ الموقدة في كُوخِيَ المهجور. يومَ دخلتُ السجن لأول مرةٍ، شعرتُ أن شراييني تزوَّجت إسفلتَ الذاكرة. تنبثقُ شموسي من ضلوعِ الحيطان التي تقتربُ شيئاً فشيئاً لتطبق على أنفاسِ الأُقحوان الجبلي. هذه بدايةُ نهايةِ الضَّياع. هنا يأتي حَمَامُ الأماني ليبيضَ. هنا تأتي أَمطارٌ موسميةٌ تحملُ إشراقاتٍ غامضة كأقفاص من قصدير منهَك القوى. أُصافحُ أَيامي بيدٍ واحدة، واليدُ الأُخرى أُغَطِّي بها جراحاتي. وإذ أكتبُ تاريخَ الغاباتِ المحتضرة أتذكر الفقراءَ الواقفين أمام قَبْري ينتظرون. إنني أعيش الربيعَ في قلب الخريف.

 تتساقطُ أَوراقُ الشجر في الخريف، أيضاً قد تتساقطُ لحومُ السجناء في الخريف. قد يزوركَ أشخاصٌ يحملون سياطاً جافةً. يُحَوِّلون صمتَ الحائط إلى صراخٍ. أشخاصٌ ضد الفَرَاشِ. يُنزِلون السَّوطَ على ظهركَ وهم يبتسمون. قد ترى القحطَ يُخَيِّم على أَطرافكَ البعيدة كالقرى النائية.كلما حَطَّت الزنازين على سواحلِ دمي ازدادت رومانسيةُ البَعوض.

 الزنازين والبعوض والمخبِرون يتسابقون إِلى دمي. اتركوا دمي مصباحاً للأرامل الصاعدات من عِظام الفجر. سلامٌ على شجرةٍ تنتظر زوجاً كي يبكيا في ليلِ المنافي والملاجئ. والنجماتُ المتشحات بالسَّواد خيمةُ الفقراء. قمحةٌ تضع على أُذُن تابوتها مغارةً للذباب العاشق. والغيثُ يقتفي آثارَ النخل في عُطاسي. تبحث الشجيراتُ عن راية تكون فيها الدماءُ خطوطاً هندسية. تَزَعَّمَ بنكرياسي مجلسَ قيادةِ اليمام.

 وكانوا يركضون في أفلاك الفرح. إن قلبَ العاصفةِ مثلُ الموتى. يذهب الغُزاةُ إلى انتحاراتهم كلَّ يومٍ، ويعودون مُحمَّلين بالغرقد المنهَك والقصديرِ المغشوش. وُلِدَت السنابلُ لتثور. وعندما مات الشفقُ في المعركة حضنتُ أبناءه بعد أن تزوَّجت أرملتُه غضبَ المجرَّات. مِتُّ مثلما تُولَد الذكريات. مِتُّ في الحياةِ ومِتُّ في الموتِ.

 الليلُ يَحضن موتانا. اكْتَشِفْني أَكتشفْ جرحاً مرمياً كأطلال مجهولة. لا يُشرِّفني أن أكون دماً للمرعى لأن جسدي زمانٌ. والأمكنةُ ظِلُّها الرمادُ شاهدُ قبر مطموسٌ شَاهِدْني وأنا أُحتضَر. مُدَّ يديكَ إلى أُفقي. أفقتُ وما زال موتي عائشاً. سلامٌ على الأموات الذين يسكنونني. أين سَنَبْكي أيها الدمارُ الملتصق بحواسنا في خرائط لم تعد تَذْكر مجازرَنا؟. مقالةٌ قصيرة في رثاء القمر. تُوزِّع الأمطارُ الثورةَ على مفاصلي، وينتظر الزقاقُ المتشعِّب في كُلْيتي وجهاً للمغيب كما ينتظر الفقراءُ استلامَ الخبز في طابور الضياع. يستثمرُ الغروبُ بكل إمكانياته في غضاريفي. أنا الموتى والصحاري الذبيحة التي سقاها الأنبياءُ فاخضرَّت وعادت إلى الحياة.

 شُكْراً للملوك الذين باعوا الأندلسَ من أجل أثداء الإسبانيات. شكراً للمراهقات العائدات من الاحتفال بجنازة شَعْر رأسي. شكراً للزوجات الخائنات الماهرات في الطبخ على نار هادئة. شكراً لدمي الذي هجرني لأني لا أملك ثمن لاصقات الجروح. شكراً للآباء الذين باعوا بناتِهم بالتقسيط المريح. شكراً للفقراء المرضى بِالوهم يخافون من الثورة حين ترتعش أطرافُهم من البَرْد مثل أصابع المطر. شكراً للمرتزقة وهم يقتسمون كعكة عذاباتي في الأعياد الوطنية. شكراً للشعب الميت الذي لم يجد قبراً يتسع له. شكراً للجنود الذين يعملون بعد الدوام الرسمي حفاري قبور للأحلام.

هبط الظلامُ سريعاً. سراديبُ ترتمي أمامي متاهةً. «أين أذهب؟!»، قلتُ للسَّجان الذي يقتادني. فأجاب بصوتٍ ذابلٍ: «السردابُ الذي في نهايته ضوء خافت أو الضوء الخافت الذي في نهايته سرداب».

 تَوَجَّهْنا معاً بخطى تتمنى لو تغادرنا وترحل إلى مكانٍ أكثرَ غاباتٍ وينابيع. عُصفورةٌ انتفضتْ انتفضتُ رأيتُ الموتى المتحركين إنهم يرونني وكلما ساروا ماتوا في أوردتهم. أيتها الكمثرى الزئبقية أعرف أنكِ لم تنتخبي المنفى، ولكنه انتخبكِ. نعوش الصحاري في خِزانة بُحَّةِ صوت الوديان. جِرَاحي فلسفةُ حضارة أكباد الأسرى. ظلال الرياح ديدان موتانا. ومستودعاتُ الميناء تنخرها أشرعة المحار الباكية. يقتحم الدودُ حفلةَ تتويج التراب مَلِكاً على عظام الصُّبح وأوردةِ اللوز الحار وأربطةِ جرح الفُستق. يخرج المصلون من صلاة الجمعة، ويذهبون إلى بيوتهم كي يتناولوا الغَداء مع الفراشات، أمَّا أنا فأخرجُ فلا أعرف أين أذهبُ، فأنامُ على الرصيف وأتناول ورقَ الشجر.

 مَشَيْنا ومشينا. كانت ظلالُنا تسير مَعَنا وبدا عليها وكأنها تَسْخر منا. رَجُلان يمشيان نحو المجهول. ضياءُ النجوم لا يصل إلينا. أشرعتنا ممزقة كأحلام حصانٍ مذبوحةٍ في الحقول الواسعة. زهرةٌ على وشك الانهيار يحيط بها كلابُ حراسةٍ مدرَّبة. والضبابُ الذبيحُ ضيفُ القمرِ الأسير في جسم الندى القرميدي. صافحتُ الغسقَ الرَّاجعَ من تأبين قَوْس قُزَحَ. احتضاراتٌ في أدمغة حفيدات القَيْصر. ضِفدعةٌ تَحْمل على رأسها بحيرةَ الشَّظايا وأوصالَ اللحوم البشرية المهترئة.

 سألته وأنا أصارع رحيقاً يحاول امتصاصَ صَوْتي:«ألم نصل بعد؟!». «عندما ترى باباً ضيقاً مفتوحاً على تعاليمِ الذباب فقد وصلنا إلى صُداع الياسمين». «وَصَلْنا أم وصلتُ أنا؟» «بل وَصَلْنا».

 شعرتُ أنه يَسْخر مِنِّي كما ظلالنا. أنا السَّجينُ والسِّجنُ وهو السَّجان. فكيف يجتمع سجين وسجان؟ «عليَّ انتظار ذوبان الثلوج التي تحجب عَرَقَ الشُّهب».

 ولم تكد تمضي بضع دقائق حتى لمحتُ باباً كما وُصِفَ لي. لم أعرفْ وقتها شكلَ البارود في صدري. هل أفرح أم أحزن؟. هل أذهب إلى مَسْكني الجديد أم أترك مسكني الجديد يأتيني؟. الأرض سوف تموت، وستذهب الشمسُ إلى قبرها. يُحِبُّنا تَشَرُّدُ الزرنيخ في خيامِ الفاكهة غير الطازَجة. وتشربنا القهوةُ عند نافذة مطلة على مقبرة النجمات.

 شكلاً للذكريات كنتُ. إن سَيْفي الصدى وقلبي الصوتُ. وطنَ اللصوص، اقْتُلْني وأَرِح السجانين من رؤيتي. كنتُ أنا والشلالات نبيع العلكة على إشارات المرور في النهارِ، وفي الليلِ نكتب المنشوراتِ السرية ضد نزيف القمر، ونوزِّعها على النوارس.

 كان البابُ طريقاً خشبياً يُفضي إلى تقييد أوصالي. ضَيِّقاً باكياً تنهمرُ دموعُه على رائحةِ البُن المهاجرة. إنه الحبسُ خليطٌ من الروائح والألوان، اندفاعاتُ أشياء تبحث عنكَ في أماكن الحصار. دخلتُ وصِرْتُ البابَ والدمعَ اليابس. أنا الآنَ في غرفةٍ مُعتمةٍ. بيني وبين أوراقي آلافُ الوديان وعواءُ الذئاب اليقظة. أَجَلْتُ بصري في المحيط فلم أجد سواي. لقد كان السجان بجانبي، أنظر إليه ولكني لا أراه. وهو ينظرُ إلي ولم أكن أعرف هل يراني أم لا. شخصٌ مُصابٌ بالحمَّى تلعبُ الخفافيشُ برائحة عَرَقِه.

 استلقيتُ على الأرضِ لأن التعبَ هدمني. أحسستُ أن الزوايا تخاطبني، وأن الفِراشَ الأرضي الخيالي الملقى يبتلعني، والألوانُ تصمتُ تارةً وتهيجُ تارةً أخرى. هذا عالَمي الجديدُ سجونٌ تتجمع لِتُشِعَّ سِجْناً واحداً. وسجنٌ واحدٌ يتَّحد ليقتل كُلَّ وردةٍ تعشقُ الحقول، كُلَّ رمحٍ يواجه الطاغيةَ، كُلَّ سَدٍّ يتصدى للسيول.

 وأُغلِقَ البابُ. «أراكَ بقيتَ معي لم تتركني!». وَجَّهتُ هذا الكلام للسَّجان.

فقال وهو يضع المفاتيح في جيبه: «سأظل معكَ!». كأن نهراً يحشرني في بئر عميقةٍ، ويرصدني ليغتالني بعيداً عن أعين الفراشات. «هل سيعيشُ سجينٌ وسَجَّانٌ في نفس البُقعة؟!» «ولِمَ لا؟» «أنا وأنتَ نقستم هواءَ المكان، ننتظر الضوءَ، والضوء قادمٌ».

 لقد أحال عنفَ السَّراديبِ إلى مكانٍ تنتشر فيه المعاني. وتذكرتُ حمامةً تُغنِّي مع البحر أغنيةَ الموجِ، أجساداً تذوب تحتَ السِّياط، أطفالاً يضيعون في براميل اليورانيوم المخصَّب، أمهاتٍ يَبحثن عن فلذاتِ أكبادهنَّ، دمعةً خرساء تنساب شلالاً يُغرقُ الأَفاعي. شواطئُ تَدمع شَوْقاً إلى بَحَّارةٍ اقْتَحَموا خَوْفَهم من البِحارِ، ومَضَوْا.

 أيتها السَّنابلُ التي يَلمعُ لونُها ويتوهج بكل ثقة، اسْكُبي في جُرْحِي بَريقاً. تلك الأزهارُ التي هَرِمَتْ قبل أَبي بِساطٌ مُلوَّنٌ. السِّجنُ دُنيا، والدنيا سجنٌ. قلبٌ يضخُ الدمَ في حقول الغد. تعلمتُ الشُّموخَ من مئذنةِ المسجد التي لا تَسقطُ.

 يا أيها الفهدُ الموزَّع على اللصوصِ والجرذان الناضجةِ، باعوا أقلامي للجلادين. يابحرُ، خذ رقمَ هاتفي واتصل بي بين الفَيْنةِ والأخرى لتطمئن على صحة المتفجرات في سُعالي. أشعرُ أن قططاً تتزاوجُ بين أصابعي. أشعر أن أبناءَ جِلدتي يَرْصدون أجفاني. وأنا المصلوبُ البريء أشكالُ الأموات ذكرياتُ الأحياء. أشعرُ أنهم أقاموا وزارةَ الحرب لاقتفاء آثارِ لحمي على الصليب.

 أفتتحُ سكوتَ الزنزانةِ. لمعانُ أظافر الجدارِ ينعكسُ على الحصى الخشن. أقدامُنا على الحصى. حُفاةٌ نحنُ. خَلَعوا البلاطَ وصَبُّوه سُوراً جارحاً كي يصبح جُحراً للعقاربِ والطيورِ الجارحة. تغتصبني كلماتُ قلبي التي لا أطيق تفجرها. اكتشفتُ مجزرتي قبلَ أن أكتشف أعضائي. وموطني يبحث عن موطني كي يقتلني. مثلما ترجع البغايا من صيدٍ وافرٍ. مثلما يذهبُ الملوك المهزومون إلى مضاجعة عشيقاتهم. مثلما يُنظِّم الشواذُّ جنسياً مظاهراتٍ في شوارع الإبادة. مثلما تستحم لاعباتُ التنس بدم الحيض. مثلما تُولَد الأظافر المشروخة في أدغال محاكم التفتيش. مثلما تسرق حكوماتُ الطاعون حواسَّ الفقراء. رسموا طريقَهم إلى السُّلطةِ على أعضاءِ البشرِ الممزَّقةِ. لَوَّحوا بالمقصلةِ وأعوادِ المشانقِ انْتَزَعوا الحلمَ من الحالِم. فأضحى الفرحُ تائهاً في قريتي منبوذاً في مدينتي شريداً. والحدودُ تَغُصُّ بالألغامِ ونقاطِ التفتيشِ والمسلَّحين الذين لا يُوَجِّهون بنادقَهم إلا إلى صدورِ أصدقائهم.

 يبزغُ في براعمِ المرافئ صدىً غير واضحٍ. أنهارٌ تَجرف تجتاحُ أكوامَ التُّربةِ، ترميها على جوانب أدغال عُزلةِ العُقبانِ النَّازفةِ، حيث تَطبعُ مملكةُ السَّناجبِ عاصمتها على خشبِ القواربِ المتآكلِ. ويصعدُ النَّرجسُ الوحيدُ من الزِّحامِ. كُحلُ المها أنشودةٌ ترددها حقائبُ السَّفر. كلما عَصَفَتْ ذِكرياتُ الجِمالِ في الصَّحاري تَكدَّس رملٌ مبلَّل بالدِّماءِ على بواباتِ ألمِ الحِيتان. ماذا سيفعل البرقوقُ ليغسلَ ماضيه؟.

 أَخرج المفاتيحَ من جَيْبه بسرعةٍ ملتهبةٍ واختارَ مِفتاحَ الزنزانة بدون أدنى ارتباكٍ رغم وجود الكثير من المفاتيحِ، ولستُ أدري هل كانت لزنازين أخرى أم لا. أَدخلَ المفتاحَ في الفوهةِ المخصَّصةِ وأداره بحركةٍ دائريةٍ خاطفةٍ، فَفُتِحَ البابُ وخرج منه كأسدٍ ينقض على الفريسةِ. لم يترك لي وقتاً كي أسأله. لقد غادرَ وتركني، وترك البابَ مُشرعاً مثل فجوةٍ في جدارٍ مهدومٍ إلا أنه واقفٌ.

 أَمسيتُ في موقفٍ غريب: سجينٌ في زنزانةٍ مفتوحةٍ!. سمعتُ حبَّات الحصى تقول: «هذه فرصة مواتيةٌ للهرب». فكرتُ بالهربِ، ولكن إلى أين؟!. عائلتي أبادها لورداتُ الحروب وأُمراءُ سُكارى!. أمراءُ قصفوا خيامَ أُسرتي في المنفى. أكاسرة يعتنون بحيواناتهم الشخصية أكثر من اعتنائهم بالشعبِ الذي يسمعون عنه في وسائلِ الإعلامِ الأجنبيةِ!.

جلستُ على الحصى في إحدى الزوايا. ليس لي أتباعٌ سوى دماء الفصول، ليس لي بيتٌ سوى قَبْري. كنتُ أنثرُ كرياتِ دمي للحمائمِ الجائعاتِ على كفي الصَّغيرةِ. وأبي حين قَتَلوه لم يجدوا في جَيْبه سوى الذكريات. وما عرفتُ أين قَبْره. قُبورُ عائلتي في المقابرِ الجماعيةِ العشوائية. حتى القبورُ لم تَسْلَمْ من فوضى العسكر. صُوَرُهُمْ في البراويز الصَّامتةِ في غُرفتي يومَ كان لي غرفةٌ.

 ذئابٌ تشربُ التَّبغَ على ظَهر تمساح أَحْول، وتُصَوِّبُ عُواءها باتجاهِ قوافلِ البَدْوِ الرُّحَّلِ. الرَّحيلُ يُطوِّقنا في أرضنا السَّليبةِ. جمعت الجبالُ عصافيرَ التلةِ في براميلَ لكي لا تراها سِهامُ الجندِ القادمين من الجريمة. ولأنني دافعتُ عن ضوء أعمدة الكهرباء في وطني المنطفئ صرتُ مجرماً!.

 يَوْمَ قَذَفوني خارجَ بيتي قالوا لي: «مِن هنا ستمر سكةُ حديدٍ. خُذْ طائرتكَ الورقيةَ معك، ولا تُرسِلها في الأفقِ إلا بتصريحٍ رَسميٍّ من الدولةِ. هيا انصرِفْ. واحذر أن تُدلِيَ بأحاديث صحفيةٍ للجرائدِ الأجنبية. لا تلتفت وراءكَ، فطلقاتُ أسلحتنا موجهةٌ إليك».

 حَمَلْتُ دموعي على ساعدي وسرتُ إلى الوجهة ذاتها التي سار إليها الحمَامُ الزَّاجلُ الممنوعُ من توصيلِ الرَّسائلِ إلا بتصريحٍ رسمي. لستُ رصاصتي كي تخونوها، ولستُ أُغنيتي كي تُعدموها. طائرتي الورقيةُ عاطلةٌ عن العمل. صارت كالشعبِ المسحوقِ تعاني البطالة. والحمَامُ الزَّاجلُ راح يتصفحُ الجرائدَ بحثاً عن وظيفةٍ.

 لغتي تَصْعدُ. أساقفةُ الرَّمادِ يحتفلون في سفينةٍ تَسْحَقُ مِشنقةَ صَقْرٍ. عرباتُ الشِّتاءِ الزرقاءُ تَغزلُ في دمعاتِ زنبقةٍ رصاصاً مُوجَّهاً إلى الأعداء. زِندي سريرٌ للخِرافِ المنهَكة. وهذي أوصالُ قطتي المشنوقةِ، وحين يَظْهرُ الشَّفقُ أرى الأوصالَ مُفَرَّقةً على وَرثةِ القطة.

 إن الليالي تَفتحُ في بُكاءِ البراري منجمَ فحمٍ، ثم تُحَمِّلُهُ في قطارات لإيصاله إلى مواقدِ الغُزاةِ كي يُصابوا بالدفء. يا دمعةً تتأرجحُ في أحداقِ اليتامى، لا توجد ذكرياتٌ تمسحكِ. يا طِفْلاً يذهبُ إلى المدرسةِ بلا حقيبةٍ وإلى المقبرة بلا كَفَنٍ، لا توجدُ أمطارٌ تغسلكَ.

 نخلةً أقفُ أمامَ جَرْي الصحراء في عُروقي. ومُستقبَلُ شجرِ اللوز حطبٌ تنهشه مواقدُ العشَّاق في الشتاء الدَّموي. يا راعي الغنم الذي يُوَقِّعُ على مرسومِ إعدامِ المرعى. أنتَ إلى المحاكمة حتى ولو كبَّلتَ القُضاةَ بالأغلالِ الدَّاميةِ. يا رئيسَ محكمة الإبادة الجماعية الذي ينزلقُ كالأوساخِ على أعلامِ القراصنة: لماذا اخترعتَ قوانين لرمي شرايين الشمس في أقبيةِ الفئران؟. لماذا حوَّلتَ حديقةَ بيتنا في القريةِ إلى مقبرةٍ؟. لماذا لا تعترفُ بوجودِ الشَّعْبِ؟.

 أصعدُ أنا والعنب من وهجِ نزيفِنا، ونعانقُ ديكَ الصَّباحِ. ثم نَلُفُّ على نزيفنا حشائشَ الزُّقاقِ، وضوءَ الشُّموعِ. لم يجيء الجنودُ المهزومون كي ينقذوا قططَ الشوارع الذبيحة. فقد كانوا يُجرِّبون الأوسمةَ المعدنية لكي يعرفوا أي وسامٍ يتأقلم مع لون القميصِ!.

 صَلَّيْنا لله، وتزامنت دموعُنا مع انطلاقِ الأدعيةِ من شُغافِ قلوبنا، وسجدت أوصالُنا في أرضنا النازفة، وانطلقنا إلى الصَّباح. البابُ مفتوحٌ على نوافذ طُحالِ الزَّرافة. الهواءُ يتجدد رغم أطرافنا المتعفنة بعد قطعها بالموجِ، وقيودي هِيَ هِيَ. ذراتُ الأكسجين تُطَوِّق قيودي من كل الجهات. ضوءاً كانت سيرتي. سيفاً لاهثاً في رِقابِ الطرق الرماديةِ عاشَ ثعلبُ الخديعةِ الذي يَسلخون من خلاياه الفِراءَ لكي يصنعوا منه حقائب للسَّيداتِ اللاهثات في الموضةِ القاتلة.

 تناهى إلى مسامعي ضجيجٌ مُنَظَّمٌ آخذٌ في الاقترابِ مني. وهو يأتي من جهةٍ لا أعلمها. إنه يتربص بي. ارتديتُ الحذرَ، وارتكزتُ على الأرضيةِ بثباتٍ، أُحَدِّقُ إلى الظلام، أرقبُ صوتاً يأتيني. وما هي إلا برهةٌ منِ أخشابِ الأبانوس المكسورةِ حتى ظهر رجلٌ ذو تعابير قاسيةٍ، متجهم الوجه، يلبسُ بِطْرِيقَاً مشلولاً، ويمسك قفصاً وسخاً مملوءاً بالعصافير الملونة.

 «أنا السَّجَّانُ الجديد». «وأين السَّجان القديم؟!»

 لم أكن مُصاباً بالحنين. فُضولٌ جارفٌ يُغرقني في كومة قش مبلولة. «أحضرتُ لك عصافير لتساعدك في الحفر إن أردتَ الهرب، والآن سأُغلق بابَ الزنزانة وأُغادر».

 رمى القفصَ عليَّ بوحشية، فتدحرجت العصافيرُ على بعضها وعلا صياحها. ثم هَدأتْ وسَكنتْ. صَمتتْ أصابعي وهي تراقبه يغادر. تساءلتُ هل هذا انتحاري الرومانسي؟. وتمنيتُ لو معي أطفال الشوارع لندرسَ مفهومَ الزنزانة في الوطن الضائع. نظرتُ إلى العصافير فإذا بها تتأمل في تفاصيلي، وخُيِّل إلَيَّ أنها تتعاون مع المخبِرين، فقد سَجَّلتْ ملاحظاتِها على أعمدةِ القفص.

 عَبَّدُوا حقولَ الجنون، وماتت خطواتهم على نحاسياتِ الهلوسةِ. عانَقوا شقاءهم وعاشوا في موتهم باردين كرُفاتِ نخلةٍ قديمة. لم يَظهر ورثةٌ، فقالوا: لتكن التَّرِكة في جَيْب السُّلطانِ!.

 هنا. وفي انهيارات الجليد الحار، وفي دنيا الحديد المطلي بالقضبان، وادٍ بحجم قبضتي، ورجلٌ بحجم قارة، وأطلال حجرةٍ أصغر من حبل الغسيل. ومعك عصافيرُ للفضاءِ. قَرَّرتُ أن أفتح القفصَ رأفة بالعصافير التي لا تقبل قبيلتُها الرَّاحلةُ أن تظل في سِجْنَيْن. مددتُ يدي إلى فتحة القفص، واستولى وجومٌ مَشوبٌ بالأسوار على أكتاف العصافير، وكأنها تنتظر لحظة انطلاقها من الأَسْر إلى نصف الحرية. فُتحَ القفص، وليس بوسعي أن أتذكر مَن فتح القفصَ، أنا أم العبير المتواطئ مع الحائط. اندفعتُ كرضيعٍ أنهى حصة الفيزياء النووية للتو. ولكن يا مسكينة، أين تذهبين في هذا المكان اللامكان؟. نامي على نَوْمكِ حتى نتناقش ماذا سنفعلُ بشأن الانقلابِ على هذيانِ الأقفاصِ.

 نَعست العصافيرُ وَوَقَعَتْ في نومٍ سريعٍ يشبه النومَ غير السَّريع. الآن آخذ غفوةً لأستعيد نشاطي كمحارِبٍ في زمن اتفاقياتِ السلام بين السِّكين واللحم. استلقى جسمي ثم تبعتُه بعد مدة قصيرةٍ قَدَّرْتُهَا بأربعِ سنواتٍ ضوئيةٍ.

 رأيتُ عصفوراً صغيراً يلبس نظاراتٍ طبية جالساً أمامي. ولكنَّ الدنيا حُلْمٌ سرعان ما يتبخرُ وينقضي. مستقبلُنا المقبرة، ونمشي إلى قبورِنا كما مشى آباؤنا إلى قبورهم. قُتِلَ البحرُ رمياً بحقول الرصاص.

 كيف تُطوِّر السجونَ لتصبحَ أكثر ضيقاً ليرتاح السجناء من عمليات التنظيف الشاقة!. انتخاباتُ الإجاص مسرحيةٌ. جاء الحزنُ العُشبيُّ قبل قدومِ الرَّبيعِ، وقبلَ أن تضع سلحفاةُ الحديقةِ بيوضها في جوفِ الشطآنِ المخملية. دُميةٌ مدفونةٌ في قيعانِ الجريمة. وبينما كان الطاووسُ يُصارعُ الأرقَ الليلي الموسمي كان البحرُ يستحم في برتقالةٍ مسرعةٍ لإطفاءِ حرائقِ الغاباتِ القلقةِ. هضبةُ الأحزانِ في سراويلِ غُبارٍ على بَشَرَتي.

 قال الزبدُ: «خدعتُ الآخرين لكي يُخلِصوا لي. أن أشتريَ ولاءَ الصَّحاري. كانت ولادةُ المزهريات قبل مَوْتي، ولكنني أشعر كما لو كنتُ مَيْتاً. ارتكبتُ الفرحَ وأنا أَسْخر من أنين المرضى الذين غَسَلوا بواباتِ قصري بِعَرَقهم. وجوههم تلاحقني في كل شظيةٍ زرعتُها في صدرِ طفلٍ أو في ضحكةِ زَوْرقٍ على غلاف كتابِ النِّسيان. لم أَرَ ضوءَ القمر، بل أحسستُ به شعرتُ بأهميةِ الضياء كي يوقف نمو القضبانِ في رُكَبِ السُّجناء. أيتها الأغوارُ النائمةُ في سهر مرضى الرُّعاشِ، ارجعي إلى رمالكِ عند منبعِ غضبِ الفيافي. أيتها الإشراقاتُ الرمليةُ في حَرِّ العنب الصحراوي ابكي على كتفِ الريحِ، واتركيني مُسافراً في ذكرياتي، صاعداًً إلى تعرجاتِ عيونِ الماءِ في القرى المنكوبةِ. أريدُ أن أبكيَ فغادِري قفازاتي يا أشياءَ الرُّكام، ولا تبعثي لي الرسائل المزخرفة كالوجوه الخرساء».

 مذكراتُ الصَّفيحِ تذرفُ الندى على هدير السُّيول. أحسستُ بدموعي تستقبلني فاتحةً ذراعيها لأيتامِ الريح وزهورِ بلدتي. شعرتُ بالوحدةِ في تجمعاتِ الألمِ المحتشدة على جحورِ الحسراتِ. وتذكرتُ القائدَ الفاتحَ الذي فَرَّ من المعركة إلى أحضان زوجته، ومات في ثيابها، ومع هذا قالوا إنه شهيدٌ دافع عن الوطن!.

 وأتت الأعشابُ المبحوحة لكي تمشيَ أجنحةُ البُحورِ على نظرات الرُّبَّانِ. فأراضي الهديلُ ندى يُحْتَضَر فامشي يا وحشةَ السفن المريضةِ بالزُّكامِ واعبري ليلاً جاء أو رَحَل. كُنْ يا خُنصري ثائراً كَوِسَادَةٍ مِن جلودِ خَيْل الرُّومِ. مِن ريشِ النسورِ التي قامرتْ بأعشاشها تدفقت آلامُ بِذْرةٍ.

 في الصُّبح، والصبحُ ينتشرُ رصاصاً وموانئَ عسكريةً، تُمَزِّقُ الأرصفةُ سُباتها فتبدأ رحلةُ الجرجيرِ إلى موائد من خشبِ السفنِ المنكوبةِ. أين البطيخُ الساهرُ على قشوره؟. أين الكهرمانُ المستخرَجُ من سِكِّينٍ تَنهشني؟.

 لم يعد في البحيرةِ سوى البحيرةِ، والبحرُ يموت. وأنا الميتُ الذي سيموتُ. سأدفنُ النعاماتِ القتيلة ثم أُدمِّر أكواخَها الخاليةَ لآخذ أخشابها حطباً لمدفأةٍ حَوْلها عصافيرُ الثورة. نُعُوشٌ تطوفُ في المدينة. وأهدابي جمجمةٌ تطوفُ على الشبابيك التي ترفضني. اشتريتُ قماشَ كفني فلتبتعد الفراشةُ عن جنازتي. ولتبتعد النِّعاجُ عن سور المقبرةِ. مئذنةُ مسجدٍ في حَيْفا تُنيرُ طريقي إلى الإسكندرية.

 لكي أنالَ ثقةَ البقدونسِ لا بد أن أُطَهِّرَ أرضَ الشموس من وقاحةِ الأباطرةِ. لكي تحترمَني الأدغالُ لا بد أن أفتحها للثوارِ. لكي يُعطيَني النهرُ مصروفي اليوميَّ لا بد أن أُخزِّن شهيقي في براميل البارود.

 قصيدةٌ هي تاريخُ زوجاتِ المطر. كتابةُ القصيدةِ موتٌ متتابعٌ لكي تُولَد الشَّمسُ. أرغفةُ الخبزِ الأسمرِ أَضُمُّها إلى صدري لأشعر بالدفء بعد موتِ صدرِ الزَّهرةِ. أكفانٌ لا تحمل أيَّ لقبٍ. أنتَ النبعُ يا مَن تمسكُ مُسدَّساً وتُصَوِّبه إلى الغَازِي. يا والدَ السمكةِ لا تُطَلِّقْ أُمها. تحاورا، ولتكن بينكما محادثاتٌ في بئرٍ نائيةٍ. تَذَكَّرا أيامكما الحميمةَ في أناشيد أسماك القِرْش. كُونا يداً واحدةً كالأرصفةِ غير القذرةِ.

 عندما حَزِنَ الصيفُ على مقتلِ ابنه اندفعت قوافلُ اليمامِ في البلادِ التي تَرْأسها الديدانُ. اندفعتْ تُحرِّض النمورَ القاطنة في انطفاءاتِ الأحلامِ على الثورةِ. فصارت الضحيةُ مُطَارَدَةً والقاتلُ أباً روحياً للمخبِرين. يا رمالَ المحيطاتِ المصبوغة بإنفلونزا الطيور. حاولتُ أن أنقذكِ ولكني مُمَدَّدٌ على المقصلةِ ومُوَزَّعٌ على الهضابِ. فكيف أُساعدكِ وجسمي تنهشه آلافُ السكاكين والأحزانُ المصنوعة محلياً.

 أعلمُ أيها الوطن أنك لن تنقذني، لكني سأحاولُ إنقاذكَ. وطني يا أجملَ المقاصل وأحلى ذكريات الإعدام. ترجع البناتُ من المدارس فوق فوهة المجازر، ويعود الموظفون من مساءاتِ الانتحار، وأعودُ من دموع جَدَّتي في المخيَّم المشرحة. تتزَيَّن لي أحطابُ المرفأ المتروك للبلح الميْت، ولا امرأةٌ تتزَيَّن لزوجها القتيلِ. مَصْلوبٌ أنا على إشارات المرور، والدمارُ يَغْسل مِشْطيَ المهجورَ في كوليرا الرَّصاصة.

 أحفر أرضَ الزنزانة والعصافيرُ تساعدني. أن تحفر لهباً مكدَّساً في حُلْم. ذلك الألم ليس مقهىً للبجع. انكساراتُ البُنِّ أثناءَ زراعته. وَصَلْنا إلى حبال المشنقة قبل وصول القهوة إلى أحزان النساء. يحلم الحزنُ أن يكون له أطفالٌ يحملون اسمَه فوق النِّصال. حَفَرْنا وحفرنا وتذكرتُ قناةَ السويس مُعبَّدةً بالموتى. رأيتُ في خيالاتي عبيداً لم يسمعوا بشيء اسمه الحرية. وتكونت حفرةٌ كبيرةٌ تختالُ بقيودها وخُلخالها المستعار تتسع وتغوصُ في سذاجةِ فأسي. نزلتُ فيها وقد لمعت العواصفُ في المراكبِ. أين فمي؟!. هل ضاع؟!. لا لم يضع ولكنه ذهب ليشربَ أزرارَ المصاعدِ الكهربائية، وسيعودُ عندما تخجلُ الضِّباعُ من ماضيها. وجدتُ أحافير أسماك مُعتقَلة. تفحصتُها فأنا أعملُ راعي غنمٍ في الصباحِ وبعدَ الظُّهرِ عالِمَ آثارٍ.

 قد نقل الوُلاةُ الأسماكَ من البحر إلى مخيماتِ اللاجئين. حَوَّلوا البحرَ إلى لوحةٍ هادئةٍ لكي ترسمها الأميرةُ الصغيرة. هل ستأسرني هلوساتُ القياصرةِ؟. قد يُفكِّرون في بناء مطعمٍ للعائلات على قبور عائلتي التي نَبَشَتْها الغربانُ. لا جيشٌ يُعَلِّمُ البارونةَ الأدبَ، ولا جُندٌ يرفضون الانحناءَ لتمثال الزعيم. ذلك عالَمي الأطرشُ.

 بدأتُ أغوصُ في تاريخ المحيطات الجافة وفي حُفرتي، وانتهى بي المطافُ إلى جدارٍ شفَّافٍ مَزَّقْتُه فاندفعتُ خارجاً تحت ضوء الشمس. لأول مرة منذ قرونٍ أرى ضوءَ الشمسِ. بدا صاعقاً حيث ضَمَّني بشراسةٍ ثم فَجَّرَني. أغلقتُ كبدي سريعاً لئلا يصاب بالعمى. وبشكل تدريجي انبعثتُ في الحياةِ تلك الزهرة المخدوشة.

 رقصتُ وقفزتُ منتشياً بحريتي المؤقَّتة. لا أُصدِّق أغاني رموشي. وكالطوفان المعبَّأ بالذكريات نظرتُ حَوْلي فإذا جثث العصافيرِ تُغطِّي صحراءَ حُنجرتي. صُعِقْتُ. ودَبَّت في أنسجتي رجفةٌ مالحةٌ. ضَحَّت بحياتها من أجل انبعاث جِلْد القرنفل.

 في المغيب تبرقُ. خَيْمتي على خيمتي في السَّيْلِ. رائحةٌ تجيء من قوافلِ البخور المهاجرة في جُثماني. هؤلاء العصافيرُ ذكورها وإناثها جمعتُها ودفنتُها في قبرٍ جماعيٍّ في خيامِ عمودي الفقري. دفنتُها وَدَفَنَتْني وبكيتُ خَوْخَاً دامعاً. لغةٌ تُولَدُ. ورِياحي بَكَتْنا وتحطَّمتْ على وقع السنين وأيامِ القحط. لَيْتني ما فارقتُ فِراقي، لأن سيارات السِّباقِ تتخلصُ من دُخانها في أهدابي. والسُّفنُ الأجنبيةُ تقذفُ النفاياتِ النوويةِ في بُلعومي. كان رجالُ القريةِ أَسْرى، وكُنَّا نلعبُ على قرميد سطح المخفر. احتفظت الشُّموعُ بمشهدٍ عابرٍ في المناطيد: «لقاءٌ خاطفٌ بين دَمْعَتَيْن أو لُغَتَيْن على الدَّرجِ المهدوم».

 زحفتُ على أقدامِ المنسيين مسيرةَ شهرٍ من الأحزان. تتباعد عني الطُّرقُ والغرباءُ كلما عَضَّتني معاطفُ الحمائم. انقطعت عني أشعةُ الشمس. لم أعد أراها. للظلماتِ أكياسٌ مليئةٌ بالأكتافِ المتطايرة. سَحَبَ حطامُ دولةٍ غابرةٍ من وريدي إسمنتَ الوحشة. ما أشهى نقالةَ التين وهي تحتضنُ رأسي.

 لا تأخذوا أنهاري إلى غرفة العناية المركَّزة. وأصرخُ في أوصال القشةِ الغريبة، فتتفرقُ الصرخاتُ في مدرجاتِ الذين يَرْقبون مَقْتلي على سنابكِ البراكين. هُمْ سكوتٌ. مِن أين أتى مَقتلي؟!. وسُجِّلت القضيةُ في الأدراجِ ضد مجهول. رفعتُ انهياري وحَدَّقَتْ فِيَّ الحمَّى.

 وانكشفت الدروبُ المراوِغة تستدرجني إلى عيونٍ مُغمَضةٍ أو مقلوعةٍ. ما هذا الجسدُ الذي تخرَّج منه الشَّظياتُ كالمداخن المتصدِّعة؟!. أيُّ بُركانٍ حزينٍ على فراق الحِمَم؟. مَهْلاً أيتها الأهازيجُ الخائفةُ. . مهلاً. أنا مِن هذه الأرض، وأجدادي قد عُلِّقُوا على الشُّهب، وما دَلَّني عليهم إلا رائحةُ ابتساماتهم.

 رأيتُ صليباً أكبرَ من اكتئاب الراهبات أكبرَ من هواجس جان دارك. هل هو فارغٌ أو مملوء؟. إنْ كان فارغاً فالمكانُ يشهقُ في الزمان. وإن كان مملوءاً فالقتلُ سَرَّحَ المدينةَ من أبنائها. استدرتُ حَوْله لأرى وجهَ القطار الذي يَنْقلُ التوابيتَ الفخمةَ. زاويةُ الرُّؤية ثمانون جمجمة. ارتعشتْ حُنجرتي وقَفزتْ في جَيْبي، وفقدتُ السيطرةَ على فزَّاعات الأحلام.

 الزلازلُ تلثمُ يدَ البراكين. اللهُ أرحمُ بي من أُمِّي. أهذا موسمُ قتل الإنسانِ للإنسانِ؟. حَوَّلوا رئتي إلى مذبحة. قد صَلَبوه منذ مدةٍ طويلةٍ فأصبح دمُه مزاراً للسُّياح. يقفون تحته في مجموعاتٍ مسعورةٍ ويلتقطون صوراً تذكارية يحملونها معهم إلى صقيع منازلهم. كأن بلادَهم مواعيدُ عِناقِ أسماك القِرش تحت شمسٍ. وسمعتُ طفلاً يقول لأبيه: «التقطْ لي صورةً أمام هذا المصلوب لأُرِيَها لمعلِّمتي!»

 ارْحَلوا أيها اللصوصُ الأنيقون من ذكريات انهيار الصدى. هذا صديقي تستمتعون بموته؟!. هذا صديقي. انْصَرِفُوا عنه. كَبُرْنا سويةً مع الفيضان الذي دَمَّرَنا في الرمل الوحشيِّ. ومهما يُدَمِّرْنا نبقَ نُراوغُه لأنه يحمل بذورَ شجيراتٍ قادماتٍ بتألقِ المنفيين في الأفق. صُوَرُكم حصارٌ تَسقطون فيه، وكاميرا ذلك الطفل ثمنها يُطعِمُ عائلتي التي أُعْدِمت سنةً كاملةً. صديقي صُلِبَ فلا مكانٌ لرموشه سِوَى حجارةِ النَّيازك، ولا زمانٌ لأحزانه سِوى حُبوبِ منع الحمل للبحيرة.

 وبدأتُ أُفَرِّقُ السُّياحَ. وعمَّ الشَّتاتُ في أصواتِ العُقبان. ربما ظَنُّوا أنني مجنونٌ. لكن صديقي كان مُعَلَّقاً أو ساخراً من قاتليه. إنهم خَدَعونا، وضحكاتهم ستبزغُ في أنين مواكبهم ديناصوراتٍ مجنونةً. وستذبحهم سقوفُ السُّل. وجحورهم دوائرُ تُطَوِّقهم. حاولتُ أن أبتكرَ مزارعَ رثاءٍ. أطرافي الجليدُ يأكلني.

 غداً ستأتي الغريباتُ ليتعرَّفْنَ على بصماتِ المشنوقين في انكسارات الشفق. جَهِّزوا البكاءَ والدمعاتِ الاصطناعية كي يتدفق المشهدُ أكثرَ حرارةً من رَحِمِ الكارثة أكبرَ انهياراً من ضحكة الخراب. وراقِبوا الباعةَ وهم يتجمعون لبيع البوظةِ إلى أيتامِ السَّحَر.

 سامحيني كواكبَ حضاراتِ الصَّليل. في زفراتِ حجارةِ القهوةِ سجادٌ أحمر لأباطرة يتجرَّعون مأساتي. كُلُّ شهقةٍ سَيْفٌ، وكلُّ نجمٍ ثائرٌ. وليندلعْ الزَّحفُ العارمُ على انطلاقاتِ الندى ساعةَ اللقاء الذي لا يحدثُ.

 إلى الخريفِ الهادئ يتطلعُ الفاتحون. هناك في السُّهوبِ زوجةٌ تُحْضِر لكَ كوباً من الشاي الساخن. ومَقعدُكَ يقابلُ حوضاً من السمك المستحم، ووراء النافذةِ الطوفانُ. أنتَ تمسك قلماً لتوهمَ الموقدةَ أنك مثقفٌ، وتُقنعُ زوجتكَ أنها أجادت الاختيار. أمسى الشاي لعبةً سياسيةً، والقممُ فراغاً قابلاً للعشقِ. وفي بَيْتي ألفُ مدينةٍ فيها ألفُ أميرِ مؤمنين، كلهم يتناولون أغلالي والشايَ على مائدتي السليبة.

 اسْتَلَّت جبهتي بركةَ ماءٍ من ثعلبٍ مقتولٍ وغَطَّيْتُ صديقي بها. وانصرفتُ. مخلوعاً من مكانه عَبَرَ قلبي في الضبابِ الصخري والشذى المسمومِ. لا طلاءُ أظافرِ الناقةِ قلعةٌ للمشرَّدين، ولا ضوضاءُ الرئةِ الأسيرةِ وَتَرُ رَبابةٍ. ألقى السَّيافُ في مهرجانِ حِبالِ المشنقةِ مُحاضرةً عن حق الشمبانزي في المشاركة في انتخاباتِ المياه الجوفية. متى تقومون بتزوير أجنحةِ المكان؟. وامتنع الصَّبارُ عن الإجابة عن سؤالي. أضحيتُ خارجَ وقت الضحى، والشمسُ إلى الزوال، والأرضُ تغيب فِيَّ. أُريدُ أن أتكلمَ زلازلَ لأتذكر أنني حي أُقاتِلُ. ما زال هناك صوتٌ يَكْبرُ. حُنجرتي تطحنها البيادرُ. أُريد أن أقول. لساني عاطلٌ عن العمل.

 يا شَعْباً باعوكَ مع البهارات والدقيق واشْتَرَوْكَ عبداً بائساً من سيدات المجتمع المخملي في رأس الرجاء الصالح. إنْ دخلتُ فيكَ دَفَنْتَني حَيَّاً. وإن دَخلتَ فِيَّ قَصَمْتَني. أَشُمُّ طَعمَ العُصفر في طريق الشمسِ الذاهبة نحو الركام. أنا الطائرُ أتفجرُ لأُضيء المدى لأُحرِّر رئتي من أكسجين العاصفة. أَشُقُّ أمواجَ الغربانِ في آفاقٍ تنتظرني تريدني تهزُّني.

 يا شَعْبُ، تعالَ إليَّ في البُخارِ نموراً لا تحملُ لوحاتِ أرقام. تعالَ إليَّ حَيَّاً أو مطراً مَيْتاً، لا تُوَظِّفْ البطَّ في الجمارك. اقْرَأ اسمي على شاهدِ القبر.

 أنا مَن بَكى وانتظرَ الأنهارَ النائمة. لا تَلُمْني، إن الأرضَ تَحْرقني. لا تَذْكُرْني، إن يدي تهجرني. أُريد من إرادة الأُُسودِ أن تريدني كي أشاهدَ مصرعَ الثلج الذي لا يريدني. كلما حَدَّقْتُ في المرآةِ رأيتُ حُفْرتي على مسطرةِ طالبةٍ يتيمةٍ. كتاباتُ القمر تَضيع والنهرُ يَجْتَثُّها من سُعالي.

 أعرفُ أن الشعبَ مُغمىً عَلَيْه، ولو شَاهَدَ حُكمَ إعدامي فلن يرميَ شرايينَ اللوز على المرمر، وسوف يَدخل في سُباته. فأنا أصرخُ في الفراغِ العَدَمِيِّ، وأنتظرُ أن يمدَّ لي جيشُ الهباءِ يدَ النهاية. الأمهاتُ يُوَاصِلْنَ الحملَ والولادةَ كالعادة، والآباءُ يَذْهبون إلى أعمالهم كالعادةِ. وسَيُهَرِّبُ اللصوصُ المقدَّسون أموالَ الدولةِ إلى أرصدتهم الشخصية في الخارجِ كالعادة. وسأذهبُ إلى الزنزانة الانفرادية كالعادة، وتذهبُ الفتاةُ التي أَحْبَبْتُها إلى الزواج من غَيْري كالعادة.

 قد يطالعُ الشعبُ الأُمِّيُّ أسمائي في صفحة الوَفَيَات، وقد لا يطالعه. لن يكترث بي أحدٌ. سواءٌ عشتُ أم مِتُّ. معي لغةٌ ناريةٌ، وأبوابُ ملامحي تنتظرني وأنا أعودُ في الساعة الثانية ليلاً من غرفة التحقيق.

 لبلادٍ تضيقُ عليك بيوتاً من الحرائقِ. لنساءٍ في سوقِ النخاسة يَتَحَوَّلْنَ إلى جواري قصرِ السلطان، أُعطي سيفاً وهديلاً. ظَلَّت وزارةُ اليباب تحرثُ الزيَّ الرسمي للضفادع. هل إخوتي لصوصٌ؟!. عَواصِمُ تَسْتخدم أثداءَ بناتها شعاراً لتشجيع السياحة. أَرْضي التي تطردني من عُروقي. امْنَحِيني شهادةَ ميلادي، وصَكَّ وَفاتي، أريد أن أضعهما في بروازٍ بسيطٍ لكي أَذْكر أنه كان لي وطنٌ ومدرسةٌ وقبيلةٌ مثل كل الأسماك، لكي أطمئن أن وطني سيسمحُ لي بالبكاء الطويل دون ملاحقاتِ العسكر، وأضواءِ المعتقَلات.

 ونسيتُ معطفاً من السِّياطِ في حُجرة التوقيفِ، وناداني أمسٌ. إنه جزءٌ مني. لَعَلِّي هُبوبُ الأطيافِ في حِبرٍ على رَفٍّ مُخَلْخَلٍ في بئرٍ نائيةٍ. وتذكرتُ كيف كانت الأشجارُ توقظني لصلاةِ الفجرِ. سيُهَشِّمُ عظمُ الرمدِ الرَّميمُ عروشَ الماعزِ في السَّواحلِ. إنما جسمي قفزةٌ ليست لراقصاتِ الباليه. والغصونُ تستأنفُ إضرابها في ظَهْري. ربما تتجسسُ أدواتُ المرسمِ على غُربة الرَّسامِ، وربما أموتُ مراراً قبل الموْتة الكبرى، لكني سأُكْمِلُ خيوطَ ثورة كَبِدي، وأُعلِّق أوردتي على حيطان مطبخ بَيْتنا في كوكب زُحل.

 واصلتُ التفتيشَ في هجراتِ الشوارعِ إلى غَدِها، فرأيتُ برتقالاً نحيلاً يلتحف زخرفةَ كبريتٍ وبقايا أمطارٍ. ارتبكتْ بَشَرتي، وتفاجأ نَوْمي. قد يكون مجنوناً أو يدعي الجنونَ. كلامه إرهاصاتٌ مستقبلية، أو مستقبلٌ للإرهاصات. عجيبٌ سكوته المرتفع أحطابَ ضوضاءٍ. أَتُرَاهُ عَجَنَ اكتئابَه بساعة المنبِّه؟. قَرَّرَ الرحيلُ أن يقتحم خطوةَ محاورته نيابةً عن ذاكرتي. أَشْرِكوني في القرار يا أجزائي التي تجتمع في مكانٍ سِرِّيٍّ بدوني. أَطْلِعُوني على أفكاركم في المجلس الوطني للذكريات!.

 قد خسرتُ طيفي وأعشابي، أنا الخاسرُ الأكبر الاحتضارُ بلا ألوانٍ تجميلية. حاجبي الأيسر سبورةٌ عاريةٌ من طباشير الأسرى. أَخْبِرْني عن دمكَ وأجسادِ رُمحكَ. قِصَّتي لا تُشبه إلا عَظْماً تعيساً ينتخبني. فاسمعها واجمع دموعي لتستخرج منها اليورانيومَ المخصَّب. تَجَمَّعَ ذهني مُصغياً إليه، وقوله ودمعه يتزوَّجان. وأحكامُ قانون الطوارئ تزعجُ هواجسَ غرفة الطوارئ في مستشفى متنقل لا يقدرُ الفقراءُ على دخوله.

 كَيْف أبدأ؟. مِن عَرَقِها أم مِن عَرَقي؟. كيف أسيرُ؟. على حبل مِشنقتي أم على ضريحها؟. كانت تنشرُ الغسيلَ على كوكب عُطارد. وَقَّعْتُ الأوراقَ اللازمة لإعدام خشبة الإعدام. خَرَجْتُ من دمائي، والدُّوار يَصْعقني. تقيَّأتُ على ثياب الرياح. أرى عصيرَ ليمون تَسْبح فيه مذابحُنا. سأرتدي ثيابَ العُرس في طريقي إلى المقصلة. انفجرتُ باكياً.

 تزايد معدلُ هطولِ الدمع. وأدخلتُ رأسي تحت المخدة، غرستُ أظافري فيَّ. أتألم رماداً. نُثِرَتْ أقسامي. اقْتُلِيني قبل أن أقتلكِ. اشربيني مع الماءِ قبل أن يشربكِ مع النبيذ. زوجةُ الفيضان هي القربانُ، وعروقُ الليل هي المذبحُ. كلماتٌ لا تسمعها تلك المقتولة.

 وأتى الصباحُ. عمليةُ إنقاذٍ أخيرةٌ بائت بالفشل. وسيرتي الذاتية_ إن كان لي سيرةٌ _ لن ترحمني. ركبنا الأدغالَ. لقاءٌ هو أم فِراقٌ؟. فقدتُ القدرةَ على الكلامِ. وتمكَّن الصَّمتُ مِنَّا. مهاجرٌ فقيرٌ استوطنَ في أجنحةِ غُرْبته. دقائقُ مَرَّت أم قرونٌ من الحرقة واللهيب. لم أدمع ساعتئذ، سافرت الدموعُ. إنه الانكسارُ اللامتوقَّع. عَلَّمَني السَّرابُ كيف أقطع الشارعَ ولكنه لم يُعَلِّمْني كيف أُصادِق شراييني. صوتُ البابِ مسمارٌ. جثوتُ على رُكبتيَّ، وارتكزتُ على الأرضِ بباطنِ كَفِّي. لونُ الخشبِ المطعَّمِ بالصدفِ ألغى ألواني. نظرتُ إلى البجعة وبَيْننا أُلوفُ السُّدود. خِفْتُ الذهابَ إليها. خفتُ أن ترى عيوني. مُتكوِّمةٌ على نَفْسها. لا تجدْ حَوْلها إلا ثياباً مُقطَّعةً. تَسترُ جَسَدَها بجسدها. ليت الأرضَ ابتلعتْ دموعي. ليت أمي لم تَلِدْ رمالَ البحر. لا طيورٌ تشاركني انتحاري ولا صدى يتداولُ صرختي في السوقِ السوداء. غسيلُ أموالٍ أم غسيلُ كِلَى؟. رائعٌ توقيعكَ على شهادة وفاتي.

 تلكَ القطةُ المصلوبة على زجاج السيارات. كانت منتصبةً. أجالتْ بصرَها في المكان. وتوجَّهتْ صَوْبَ النافذة العريضة بخطواتٍ قاسية. فكرتُ حينئذٍ أنها ستتنفس الهواءَ، ولكنها ألقتْ بنفسها من النافذة. جحظت عينايَ، واحتلني الوجوم. ثم ضحكتُ. لا بد أنني ضحكتُ على نحو هستيري. ونهضتُ أرقص. أحضرتُ ما تبقى من ملابسها، وغطيتُ بها وجهي. وبدأتُ أرقص أرقص أرقص إلى أن سقطتُ على السجاد. قَتلتُ نَفْسي التي نَالتْ أوسمةَ الهراء.

 قاتلٌ وجهي الدُّخاني. إنه الخراب في المحاصيلِ الهالكة. وانقطع عن نبضي كهرباءُ الشتاءِ. سأعملُ لا لأنسى بل لأتذكرَ ما ردَّدته الذُّباباتُ في حجراتِ الماضي. زعم الحبُّ أنني جاسوسٌ للعاصفةِ أنقل أخبارَ الرمد إلى الشلالات. وبينما كانوا يستعملون " بينما " أحسستُ بلغتي تنساني في مأتم.

 مِن الظلام والأمطارِ العاريةِ يَفِرُّ فَراري. يومَ عَصفتْ في حواجبي الجهاتُ، وسال جبيني باروداً. وُلدتُ قبلَ شنقِ جارِنا البريء. هكذا هي شجراتي العاصفاتُ، أغنيةً لأطفال تقمَّصت الألغامُ أطرافَهم.

 على المسرحِ يمارسُ الضبابُ هوايته في التمثيل. شمسٌ تُفسِحُ لي في حُضْنِها بُقعةً لنهايةِ سِحنتي. أَرْبِطُ جذعَ الأقحوانةِ بأراجيحِ السراب. وإنْ ساقَ الطاعونُ بَعْضي إلى الهاويةِ لَغَّمَتْنِي القممُ العابرةُ. فلتكونوا نوافذَ للغد، ارْحَموا الأطفالَ الذين يَزْرعون في قَزَحِيَّاتهم الأسمدةَ الكيماوية.

 إذا شاءَ المنفى أن يصبحَ عالِماً في العناصرِ المشعة، فعليه أن يتوقع الإصابة بالسرطان. انظري أوتادَ مأساتي إلى صفحاتِ أقلامي بالخط العريضِ " المنفى يُصابُ بالسرطان ". خبرُ الموسمِ. نحن نتشرد وغيرنا يحقق سبقاً صحفياً. أين سنأوي في عالَمٍ يَسْلخنا ويبيع جِلْدَنا للسَّائحات؟.

 وشاحُ غيمةٍ على كَتِف البارود. وتحرَّكت الخلجانُ في طوابيرِ التلاميذ عندما سمعتْ قرعَ الجرسِ. الحِصَّةُ الأولى بَدأتْ. ماذا سَيُعلِّمون البعوضَ في حَلبات مصارعة الدِّيَكة؟. يَعْزِفني كُلُّ مَن يراني. في تلك البلدةِ، وأباريقُ الفخارِ على عيونِ الثيرانِ. ما الفرقُ بين البقرةِ والجاموسةِ؟. سؤالٌ هامشي مثل أجساد الفقراء.

 لِنُغيِّرْ صيغةَ الحقول. ما الفرقُ بين المنفى الذي وُلِدَتْ فيه العُقبانُ والمنفى الذي مَاتتْ فيه؟. تَنْبتُ أجوبةُ الصَّدى على آثارِ السِّياطِ على بَطْني. مُناقشاتٌ في برلمان النعاس حول رفاهية المواطن الذي لا يعرفُ أنه مواطن!.

 واستسلمَ صوتُه للفضاء. إن انتحارَها عُودُ مِشنقةٍ يتزوَّج عُودَ ثِقابٍ. القُربانُ في جسد الشَّفق. قارةٌ من النزيف المتواصل. ماتت لِتُولَدَ الثائراتُ، لكي نُشَيِّدَ مصنعاً من جماجمنا يقوم بإنتاج حبال المشانق الملتفة على أعناقِ القاتلين. وجدتُ جُثَّتها تنمو عليها الفِطْرياتُ. غَطَّيْتُ ذاكرةَ الصحراء بالنُّعوش.

 تناثر الجنودُ باعةً مُتَجوِّلين في وقت إغلاقِ سوقِ النخاسة. نملةٌ تُدَرِّسُ ابنتها لغةَ الضباب. قَرَّرْتُ حَفْرَ القبر بأظافري. حفرتُ قبراً عميقاً وأدخلتُها فيه، وحثوتُ عليها الترابَ الممزوج بالفراشات الميتة نتيجةَ الجوع. باسمِ الشعب أُعلن موتَ الشعب!. أيها الثوار من أجل تحرير السَّردين من مجرات الرعشة، أَنعي إليكم وطناً تناثر في ضباب النوافذ المكسورة. باسمِ الشعب الميت في صحاري المحيط الهادي.

 خَوْفُ الكُمَّثرى أحدُ القضاةِ يُصدِرُ قوانينَ صَهْري بالمياه الجرداءِ المنحصرة في بيوت الرُّفاتِ، ثم يذهبُ وينام مع زوجته. إنني عندما أرى ناساً لا يستحقون أن أُسمعَهم أشعاري فإنني أُسمعها لسلاسل الجبال. كان السَّيافُ يحاولُ إنهاءَ وجبة حَقْني بالدخان المجنون بسرعة، لأن زوجته تنتظره على الغداء. قد عَلَّمَني حبلُ مِشنقتي شُربَ الشاي بالسَّبانخ.

 الموناليزا هذيانُ انفعالاتٍ جنسيةٍ مُهَيِّجة على حديد الصدأ في برج إيفل. أعلامُ القراصنة ممسحةٌ على بابِ كهفي، تدوسها أقدامُ ابنةِ عَمِّي وهي تدخلُ مع أهلها ليُلقوا النظرةَ الأخيرة على جثماني. لعبُ كرةِ القدمِ مع أطفالِ سراييفو أحب إلي من التزلج في جبال الألبِ. ومساعدةُ الطفلاتِ الشركسياتِ في قطفِ الزهورِ أحب إلي من التنزه في هاواي مع العاريات. والصهيلُ في المعاركِ أحب إلي من رنين خلخالِ امرأة.

 وهكذا أَسْكَنوني السجنَ، لأني ما كتبتُ الشِّعْر تحت شُرفاتِ العاهراتِ، لأني ما قَدَّمتُ قصائدي لبغايا بني إسرائيل، لأني لم أُصاحِب اليهوديات الثرياتِ في مكاتب الشركات في نيويورك، لأني رفضتُ دعوةَ الوزيرة إلى سريرها في شقتها في مانهاتن، لأني ما كتبتُ رسائلَ الغرامِ للملكةِ فكتوريا، لأني لم أُنَسِّق صفقاتِ الرقيق الأبيضِ في البيت الأبيض، لأني لم أُهَرِّبْ أفخاذَ المراهقات في حقيبة الأزرار النووية، لأني ما صَوَّرْتُ المرقصَ على طوابع البريدِ، لأني فضحتُ الكهنةَ وهم يتحرشون جنسياً بالراهباتِ، لأني لم أبع سائلي المنويَّ في زُجاجاتِ الكُنْياك.

 للجسدِ بصمةٌ مثل الإبهام تشقُّ الغَمامَ والطريقَ الصاعد. العودةُ إلى جسدِ السجين. عدتُ من نفس الطريقِ الذي سرتُ فيه. لم يتغير شيءٌ سوى أن الشمسَ تحرَّكت. خُروجي مأساةٌ تُلهِمُ الروائيين. خارجَ القضبانِ نكأت الحنطةُ جراحاتي.

 هناكَ سجنٌ أكبرُ في الخارجِ. قضبانٌ أكثر، وفرحٌ أقل. شَرَدْتُ من الأََسرِ إلى الأََسرِ. صَعدتُ من القيدِ كارهاً، وعُدتُ مُشتاقاً لعُزْلةٍ تستثمرُ أعضائي. ليت حُبِّي للبحرِ يرجمني بالقطن كي يُطَهِّرَ غضاريفي من الدودِ والاكتئابِ.

 سَيْفي مرهونٌ عند المجرَّة. لن يُباعَ في المزاد العلني. بِيعوا جِلدي وفُكُّوا الرَّهنَ. فأبي عاملُ منجمٍ في مجرةِ درب التبانة، وجَدِّي سائقُ شاحناتٍ على خط الأرضِ القمر. أرى قوةَ الأحلام في إبادة الوهم. حطامٌ للبناءِ، سأصهرُ مِشْطَ الريحِ في حوضِ أسماكٍ. يا قيوداً تُفَرِّخُ نباتاتٍ مُقَاوِمَةً في حُلُوقِ الصاعقةِ. ها أنا أتقدمُ في المساء الخالي من حُلْمي شريداً معه مخيَّماتٌ. أنا لا المسرحيةُ لا المسرحُ لا الممثِّلُ لا المخرِجُ لا القاعة لا السِّجادةُ الحمراء في المطار. يا مجرَّةً مقتولةً على مِعصمِ الكَوْن. بَيْننا أنشودةٌ قصيرةٌ عن بناتٍ ذَهَبْنَ إلى الموتِ. وعَرباتُ نقلِ المحكومين بالإعدام تغرقُ في الحبوب المنوِّمة.

 إنَّنا رَكَضْنا في القبوِ أجساماً مثقوبةً، وسيجذبُ غموضُ الفضةِ فراشاتي، وأظل وحيداً كما بدأتُ دراستي في مغاراتِ المستقبلِ. إن طريقي لا يتسعُ إلا لأهدابي. ستنادي عليَّ مُعَلِّمتي القديمةُ: «عُدْ أيها الولدُ اليتيمُ فنحن نُحِبُّكَ». ينحرفَ قطاري عن السِّكة يوماً، وربما أَصِلُ إلى عَبَراتٍ في خريرِ الملحِ أو شجرةٍ سجينةٍ في قلعة. وسأبقى العاشقَ المنبوذ تحتَ المطر.

 تحشدُ الصفحاتُ البيضاءُ سطورَها في دَرْبي. لن أستلمَ بطاقةَ دعوةٍ إلى عُرْسِ جارنا. والآباءُ قلقون في ردهات المستشفى. يلتصقون بأبوابِ غرف الولادةِ. طفلٌ جديدٌ يسيرُ نحو المجزرة الجديدة. وأنا أُفتِّش عن ذكرياتي: «كَم مرةً قُتِلْتُ في حياتي؟». لكنَّ الغَمامَ لا يَهُمُّه هذا السؤالُ. لو أُمِّي حَيَّةٌ لاهْتَمَّتْ بالإجابة. سأتركُ الإجابة للقاضي المعيَّن من قبل أعدائي. كأن ارتعاشاتي هرولةُ صخراتٍ في ريشِ المكانِ، وها هي الكواكبُ تشقُّني بمنشارِ الجنونِ. أَحزمُ حقائبَ نباتات الزِّينة. لكن رصيدي في بنك الجثثِ لا يكفي لشراء حقيبة. إذن سأحزمُ كومةَ ورودٍ، أضعُ فيها طواحين الهواءِ لأتنفسَ إن قُطعت الكهرباءُ عن أَوردتي. سأمنحُ ضريحي حَقَّ كتابةِ سيرتي الذاتيةِ أثناءَ تَحَوُّلي إلى جثةٍ مشهورةٍ.

 ما رائحةُ حطب فِراق الحافر لضجر الحصان؟. إن عَرَقي المصيدةُ والطُّعْمُ لحيتانٍ لم تُولَد. يشقُّ الغَسقُ طريقَه في تفَّاحاتي مَنْفياً مطارَداً. هناك، حيث وُلدتُ وأضحكني بكاؤهم، وهناك حيث مِتُّ وأبكاني فرحُ السهولِ. مُذْ جئتُ إلى الأرضِ وأنا أبكي وأبكي ثم أبكي وأحكي ما جرى للحُلْم فوقَ الشهقاتِ. آهاتي كُسِرَتْ حين سمعتُ الصباحَ يقول للدمعةِ: «أنت طالِقٌ!» للنعوشِ دَقَّاتٌ. وأولئكَ المشنوقون أبناءُ الغدِ. مهما يَكُن مِن نَعْشٍ، فالعشبةُ العاشقةُ تُعانِقُ بُؤْسي على ستائرَ معدنيةٍ. الشرارةُ الأولى نحو حائط المقبرةِ في الشارعِ العامِ.

 كان هناك بنتٌ متأخرةٌ عن المدرسةِ. هي أندلسيةٌ من مدينةٍ لم يصمد فيها سوى المساجد. عروسٌ شهيدةٌ ظَلَّ وجهها في فضاءِ غروزني رايةً. حَضَنَتْني ذكرياتٌ. اشتبكتُ مع أوردتي. صدري يَعجُّ بالشهداءِ، بدمائهم التي غَسلت بواباتِ التاريخِ، بنظراتهم وهي تناقشُ مسألة اقتحامِ وجهي لبابِ الحِصْن.

 عنفُ الألوانِ في منديلِ مزرعةٍ قتيلةٍ. أقيسُ منسوبَ دمي في سُدودِ بلادي بحنجرةِ بجعةٍ تموتُ بين غَدِها ولُغتها. لا زوجةٌ تُغَسِّلُنِي إنْ مِتُّ، ولا إمامُ مسجدٍ يُصَلِّي عليَّ، فالأئمةُ مُعتقَلون في قلاعِ النبلاء.

 تقرعُ بناتُ آوى أبوابَ انبعاثي. تَوَّجَ الرمادُ الكونتيسةَ الثريةَ تاجَ العذاب في احتفال مُقْتَبَسٍ من نهاية ثمود. الوطنُ ليس عُلبةَ مكياجٍ لعشيقةِ الكاردينالِ، وإنما قلبٌ يتفجرُ زيتوناً وتِيناً. وَوَصِيَّتي تكتبني بماءِ النَّخيل، وستنشرها دارُ نشرٍ في كوكبِ المريخ، لعل النيازكَ تَطَّلع عليها إذا سَارتْ في طريقِ جُرحي، لعلَّ غُصوني تُلغي حَظْرَ التجولِ في وريدي. اختلفتْ أشكالُ رَبَطات العُنُقِ لكنَّ المجرِمَ واحدٌ.

 مضيتُ إلى زنزانتي، ووصلتُ إليها. المكانُ هادئٌ. ما زال القفصُ المفتوح على وريدي يُعذِّبني بأشكالِ العصافيرِ المهروسةِ. مملكةُ الضَّحايا. أَصبحتُ واثقاً من زفيري. صار للضحايا فمٌ ومجرى تنفسٍ يَحرقون فيه ضبابَ الجريمة. رائحةُ الخشبِ الزُّمرديةُ، والموكيتُ الجديد. كلُّها ترافقني عندما يَنْسِفني طيرُ المأساةِ.

 يا مَلِكَ الأغبرةِ!. الدنيا سجنٌ أكثرُ قذارةً. اختاروا لي أحكاماً مؤبدةً تستحقني. إِنكم إن تُفرِجوا عَنِّي تَصْلبوني. البقاءُ في سجنٍ صغيرٍ أفضلُ من البقاءِ في سجنٍ كبيرٍ. لا أحترم الدودَ ولا أنتمي إلى قمصان أحكام الطوارئ. لستُ أُؤْمن بالقضاة الذين يُعيِّنهم ضُبَّاطُ المخابرات في خط الاستواء. هُمْ غربالٌ متكررٌ غير مثقوبٍٍ يَسْلخُ أباريقَ الوباء.

 وُلِدْتُ بَيْنكم لكني أَسْمعُ الأنينَ الأنثوي في شوارع القمر. قُرصُ الشمسِ طردَ الخلفاءَ من شبابيك قصورهم لأنهم صاروا زَبَداً. والدلافينُ تقود المظاهَراتِ في قيعان المحيطات. وطُيوري تُنَظِّم العصيانَ المدني على أسلاكِ الكهرباء. وصديقي الأعمى مُتَّهم بخطفِ الطائرات. والأطفالُ الرُّضَّعُ يُخطِّطون لقلب نظام الحكم. فيا ضوءَ الشموعِ، مَشْهداً مَنْسِيَّاً أُسَمِّيكَ، وقاتلاً مأجوراً تُسَمِّينِي.

 طُرِدَ البركانُ من مَنْصبه، وتقاعدت الأدغالُ. حزينٌ أنا لأن الزلازل ماتتْ في سُعالي. استقالت الشوارعُ. سافرَ النهرُ إلى الخارج لإكمالِ دراسته. نوارسُ الجرحِ تعاني البطالةَ.

 إِسطبلاتٌ في قاموسِ الينابيع، ومصانعُ لإعادةِ تكريرِ الدَّمع الفائضِ عن دَمْعه. سأتركُ أعصابَ الشَّفق تستريحُ في بطيخةِ الذاكرة. أَغلقَ النهارُ ذاكرته بمفاتيح الشجيراتِ. يَعْصِرني النعاسُ المتشظِّي. صَرَعَتْني لذةُ الأقمارِ فانسحبتُ من شحمي إلى الحرية. ورملُ البحر طبيبٌ نفسانِيٌّ لمن يملكون أجرةَ العلاج. أما نحن _ وأتحدثُ في هذا الفضاءِ باسمِ الينابيعِ والجبال والنَّعنع _ فلا نملك أجرة الطبيبِ والدواءِ. لم يَستفد اليَنبوعُ من خريطة الجينات الوراثيةِ التي اكتشفها الأغنياءُ.

 دَعِي عَنْكِ القلقَ يا سنابكَ خيلِ أجدادي، فنحنُ نعتني بأجسامنا في إسطبلاتِ الخليفةِ حيث فرضَ الجليدُ علينا الإقامةَ الجبريةَ. يخجلُ الظلامُ من الأزهار، والحديقةُ في طريقها إلى الدمار. وَحْدَنا،كُنَّا نحكي قصصَ مشانقنا للهُدهدِ قبل نَوْمه. أخافُ أن يأتيَ يومٌ تصيرُ فيه مشانقُنا ورقاً أبيضَ تُلَفُّ به الفطائرُ، أو رسوماً متحركةً على عُلَبِ حليبٍ تشتريها الأمهاتُ غيرُ المرضِعاتِ من المتاجرِ الأجنبيةِ.

 وطنٌ تحت رمل المحيطات بحجمِ عودِ الكبريتِ لا يَحْضنُ إلا قاتلينا. أعيشُ في ملعقةِ الصهيلِ نقاءَ العاصفةِ في لحظةِ ميلادها. جهازُ الكمبيوترِ مأتَمٌ، والشظايا بيتُ عزاء. غاصت المياهُ الجوفية في شالِ الحِدَادِ. ما زالت ثيابُ زوجتي الميتةِ تُحْرَقُ بالمطرِ. متى تخرج الأوحالُ الباكيةُ من أجندةِ الصَّاعقةِ؟.

 شعبٌ للبيعِ في وحدة العناية المركَّزة في البلاد التي ترفع انتحارها إكليلَ غارٍ. قَرَأْنا ظِلَّنا بلغةٍ تطيرُ بنا فوق الحدودِ تَصْرعنا وتَقْبرنا. غباءُ الطوبِ يُرَاوِغُ نخلةً عزباء في وجه السماء. لماذا يُمَجِّدون القرصانَ في تلك البلداتِ المدمَّرة؟. الاعترافُ الأخيرُ والشرايينُ المغلَقة، ومرضى السُّكري يقومون بمحاولةٍ أخيرةٍ لحقنِ القرميدِ بالضحك المرير. الكرةُ الأرضيةُ تُدافع عن حقوقِ الشموس المبحرة فِيَّ، والإسفلتُ روائيٌّ فاشل.

 كأنني رَضِعْتُ من نهودِ المنافي. عائداً من كارثةٍ يوميةٍ في شَفَتيَّ صادقتُ القبطانَ قبيلَ غرقه في جُزُرِ الإنفلونزا. للمرساةِ المتقاعدةِ تنظيمٌ سِري يَنبعُ من انفجاري، ويصب في حبَّاتِ الغِناء. أصارعُ سطوةَ الرمال في انتحاراتِ الفؤوسِ. سوف تَهُزُّ البوصلةُ الأثريةُ ضوضاءَ الخِرَافِ في مراعي الخيبةِ، وكلُّ البوصلات تشيرُ إلى صَلْبِي.

 اصْبِرْ نشيداً حُرَّاً كالأحجارِ الكريمةِ لأنهم لن يستطيعوا رسمَ قلبي على الرخام. فوجهي زالَ والرياحُ والطوفانُ. أمعاءُ الهزيمة سلةُ قُمامةٍ، ينتعلُ الغرورُ اشتعالَ إشارات المرور. إخوتي لصوصٌ. إن تم اغتيالي فلا تندهشي يا مساءاتِ اليَنبوعِ، فحياتي نظرياتُ كيمياء في لُعابِ سمك القِرْش.

 يا أيها النملُ الداعمُ لجهودِ السلامِ في عَظْمي. مَن أنتَ في الليالي الأسيرات؟. دَرِّسْنِي علمَ الاقتصادِ وكيف أمتص ماءً بلون نزيفي في الجرةِ المهشَّمة. قبري وطني المؤقَّت راحلٌ إليه، وكتاباتي ستُعيد ذِكْراي ترفرفُ على ثوب الصقورِ الجاف. لَمْلِمي نقوشَ الحِنَّاءِ في قاموس الصَّحاري. فلتكسِرْ أرقامَ السُّهوب ومَرْكباتِ أميرةِ النِّفاياتِ. روائحُ القُمامةِ تتسلقُ شُرفاتِ العار.

 في مقهىً لجباةِ الضرائبِ، تجلسُ النِّسوةُ على صورِ الزعيمِ يَنْطَفِئْنَ في دُخانِ السيجارِ، والتبغِ المصنوعِ من مخيماتِ النازحين إلى مَقْتلي. كُنَّ يَتَوَحَّشْنَ بروجاً من القسوةِ والعقيقِ المزوَّرِ. والديوكُ المشرَّدةُ تَوارَتْ في سُرَّتي. نحن نقطنُ في بكائي المحتل. يكاد جفافُ صرخاتِ الوِحْدَةِ يقتلعني من نخاع عَظْمي لأن المجاعاتِ فَرَّت إلى خياناتِ الرصيفِ.

 أنهارُ ثم أنهضُ من احتراقاتِ النبات الصحراوي. كُلُّ غارٍ منفاي، وكل دمعةٍ زُوَّادةٌ للأمواج المقبلة مِن الضَّحية. وأنا ضَحِيَّةُ نَفْسي. هل سيغدو شَعْرُ إبطي عُشباً لملاعب كرة القدم؟.

 يداكَ أيها الشتاتُ تعطفان عليَّ، تَسْقطان ضَمَّادةً على جبهتي المفتوحة. مندهشةٌ فَرَسي، ولا فرسٌ لي. السَّفر يعني نهايةَ اغتراب الزبرجد على توهُّجات نجمةٍ. ليت رسوماتي عُشٌّ للمذنَّباتِ المحتاجة إلى شُقَّةِ الزوجية. أُقَبِّلُُ رَوْعةَ المئذنة. في تقاطعات خيوط كفي أمطارٌ تُكْسَرُ، وعلى ظَهْري دبابيسُ الطرقات. أكتبُ أحترقُ أشتعلُ أذبلُ أفنى أموتُ. تتلاشى أجملُ العواصفِ دون أن تخطبني أيٌّ منها. وأولادُ الحارةِ ينسجون من شراييني كرةَ سلة.

 أَينَ تَمُتْ أَكْتُبْ. صديقان قَبَّلا الحمَامَ الزَّاجلَ وماتا كما يموتُ الموظفون العاديون في طوابيرِ انتظارِ الرواتب. سُقوطي مخطوطةٌ تُحقِّقها ملحمةُ الصواعقِ بدون إِذْني. تَذْكرين كَفَني؟. بدا وكأنه لا يعرفني. تذكرين كفنكِ؟. بدا وكأنه كفني. نحن مَيِّتان، فشكراً لحكومتنا!. بَلَدي كُرَّاسةٌ تخطُّ فيها الأعاصيرُ مَرْثيةً لروحي. كَم بَدَتْ قَرْنِيَّتي وقوداً للزوابع!. يا هذا العالَم اسْمَعْ تدحرجَ أشلائي على شاشةِ مروحيةٍ. صياحُ حيطاني يُعجِبُ الآخرين. كُرْسِيُّ الهضبةِ المتحركُ يستهزئ بعُروقي. تكتئبُ عصفورةٌ مخنوقةٌ بين درجات سُلَّمِ الاحتضار.

 أُمِّي، إنهم يُقَدِّمون كَبِدي في ليلةِ الدُّخْلَةِ للشجرِ المتزوِّجِ، في صحونٍ مع التوابلِ الشهية. حزنتُ عندما أُصيبَ الزورقُ بالعجزِ الجنسي. النساءُ المطلَّقاتُ، والمتزوِّجاتُ من الصَّدى، والمولودُ الأول، والضائعاتُ. وبائعةُ التُّرمسِ في بداية الليلِ والبَرْدِ، إلى جانبها نارٌ صغيرةٌ تَحرق ذكرياتِ الغيوم.

 لا يَهُمُّ إحضارُ هدايا في ذكرى وفاتي، فميناءُ رعشتي الخرابِ رثاءٌ للحُلْمِ الضائعِ. دائماً يَنتحرُ بلوطُ الغرباء في خِزانتي. لكنَّ الجبلَ المنزوي تَغَيَّرَ مُذْ سَكَنَتْه صدمةٌ عصبيةٌ لأن رملَه المائي خَانَه. والمفاجأةُ السارةُ أن العطرَ راح يُنَظِّمُ فتراتِ الحملِ لامرأته!.

 صُعِقْتُ حين استلمتُ رسالةَ غرامٍ من مقبرةٍ متعثرةٍ في طريق بنكرياسي. وحزنتُ حين أرسلَ إليَّ الزلزالُ قصيدةَ رثاءٍ لسيارةِ جارتي. فيا صَدِيقي المطر، لا تقتحمْ حياةَ امرأةٍ مُتزوِّجةٍ، لأنَّ طيفَها انتحارُكَ قُرب عبثية أخشاب المذبح. ابْتَكَرْنا خريطةً للفرحِ المسلوبِ. نَحَتْنا من الأعشابِ شاهدَ قبرٍ لزوبعةٍ. مَرَضِي مَهْرُ السنابلِ في المناطقِ المهمَلة. إنَّ الغربَ صرصارٌ على سُرَّةِ راقصةٍ. وفي مُسدَّسي غزالةٌ تغتسلُ بعد الولادةِ. غدا لهيبُ الرعشةِ النهائيةِ حبةَ فلافل في وجبةِ دماء. هل بقي شيءٌ من الحب العُذْرِيِّ في ممالك العاهرات المحترِفات؟. والتَّبغُ المهرَّبُ أدمنَ ألواني الزيتيةَ لعلها تنقذه من أزمته المالية.

 كالمجاعاتِ الرومانسيةِ، كالعاشقين الفاشلين نرجع أنا وأنتَ يا حُزني. دولةً للريح مَرَّت عُروقُنا خلفَ أسوارنا. للأمسِ وجهٌ أو وجهُ الموتى المنثور في وجهي. للذاكرةِ ذاكرةٌ مُخترَقةٌ بالوجوه. مررتُ كيسَ طحينٍ على أَسْرِ صاحبِ المخبز.

 أيها الصِّحابُ الحزانى، مَن أنتم؟!. هل التقيتُم بِذَبْحي قبل هذا الليلِ؟. لكنَّنا رَسَّامو جدارياتٍ تُؤْلمنا لأننا اسْتَمْتَعْنا بآلامِ اليختِ الياقوتيِّ. لنا الألم خجولاً مكشوفاً في مذاقِ الظهيرةِ.

 وَضَّحَت فطيرةُ القتلِ برنامجاً لزيارةِ انتكاساتي. في العصفِ مَالَت ترانيمُ غَنَّيْتُها للقادمين من تأبينِ الغزلان متأخرين عن ميعاد جنازتي، وغَنَّاها الصُّداعُ النِّصْفِيُّ بَلَداً يَطْعنُ بناتِهِ ثم يُغطيهنَّ بدروعِ الفرسانِ نادماً. صليبيةٌ تستحمُّ في بحيرةِ طبريا لكنَّ لحمَها تابوتُ صَقْرٍ أعمى. نَعْشي ما هو بميِّت، وإنما مُغمىً عليه. أَصدمُ نَفْسي بكهرباء الكلامِ كي أستيقظَ. شمسٌ واحدةٌ تُنَقِّينا. قوسُ قزحَ على جريدة. اخترق أضرحتَنا وطنٌ يستلمُ ضريبةَ النارِ من الهواءِ. أَيُّ دروبٍ في شُعيرات أَنْفي سوف تَضْحكُ عَلَيْنا؟.

 اعْتَرِفْ، لستُ حزيناً بما فيه الكفاية لكي أفرحَ!. وحينما بكيتُ على الضفة الجنوبيةِ لقلبي، لمسَ دَمْعي كوكباً ساقطاً في حُضْن الموج. لا أصابعَ لي لتَحْضُنني. في رئتي أزمةٌ سياسيةٌ لأن السُّلطانةَ غَيَّرَتْ نوعَ نبيذها دون إذن السلطان المشغول بتلميع أوسمته.

 لماذا يكرهني دمي؟!. ماذا فعلتُ له؟. نافذتي التي على القمم المتساقطة في سُباتي هي ملكةُ جَمال السلاحف. ومِقصلتي ملكةُ جمالِ المقاصل. والقبائلُ المتحارِبةُ اتَّفقتْ على اقتسامي لأن هذا الألم له صوتُ الفجر. وتتكلمُ الأميراتُ مرتدياتٍ ثيابَ الرقصِ. إن بنتاً تقود سيارتها إلى قبرها في الصنوبر.

 الرَّجفةُ الفوضويةُ تأكل اسْمَها الوحشي. تُرى هل سيقتلني نزيفُ الوديان الموحلة أم الأغنية الحجرية؟. منديلٌ قذرٌ تضعه الرمالُ على شَفَتَيْها لمسح أحمر الشِّفاهِ. تواريخُ التحرش الجنسي في الكاتدرائيات. أشكرك أيها الوطنُ لأنك صَلَبْتَني، وأشكر روادَ الملاهي الليلية لأنهم أَسَّسوا في توابيت إخوتي أراجيحَ للأطفالِ اليتامى. بدويةٌ ترعى ضريحها في سِهَامِ الحروب القَبَلية. أحسبُ عُمُرَ الريح لأتخيلَ عُمُرَ الشَّمس. كأن الضَّوءَ شَاهَدَ راعيةً ميتةً في الفحيحِ. إذن فَلْنُصَلِّ عليها وندفنها.

 أزورُ قبرَ أستاذي في قاع المحيط الهادي. سأُعطي الحِبْرَ مهمةَ دَفْني. سيقول التاريخُ إن هناك شاعراً نحيلَ الجسم تحدَّى الأباطرةَ. أيتها البوسنياتُ لا تَنْزَعِجْنَ إذا أَعدموني. اقْرَأْنَ الفاتحةَ ثم اذهبنَ إلى المطبخ لتحضير إفطار رمضان.

 يا أيها الوباءُ المرشَّحُ للتفشي في الطوبِ اللحمي، ارحلْ من المشمشِ اليابسِ، انطفئْ لأشتعلَ في اليابسةِ المتبخرةِ في فُنجانٍ قهوةٍ باردٍ. ما طَعْمُ الفراشاتِ المقلية بماءِ عيوني؟. بلدٌ ضائعٌ ضَيَّعَنَا ليُشجِّعَ السياحةَ في مقابرنا. المؤذِّنُ أكثرُ أصدقاء الشَّفق إخلاصاً.

 كوخٌ عند منبعِ النهرِ. تلعبُ المجاعةُ دورَ قلمِ رصاصٍ. لكنَّ سَمَكاً يعاني من الرَّبْوِ على الغصون الحالمة. وفي يومِ ميلادي من كل عامٍ أشعر بالوفاةِ لأعيشَ. أعصابي وشراسةُ التألقِ في الصقيعِ حكايةٌ للأطفال قبل النومِ. سأخطفُ البحيرةَ وأُطالبُ الطوفانَ بِفِدْيةٍ، عشرين كِيساً من حُزن الراهبات. اغْرِسْ أهدابي في الضبابِ تجدْ طفولتي عندها. غَيْبوبةُ الطباشيرِ الحمراءُ في المدرسة المدمَّرة. هذي عاصمتي المفقودةُ تُرَكِّبُ جهازَ إنذارٍ في سُرَّتِي. تقتلني رائحةُ دم الولادة في تثاؤب الياسمينة، والسِّجادِ في الوزارات، ومعجونِ الأسنان الخاص بماركس. الجنرالُ واقفٌ في الطابور أمام المخبز. لن أُغَنِّيَ لعنكبوتٍ تُقَبِّلُ زوجَها ثم تقتله. يا ريشاً للنعامات يصير عُلبةَ سردين تتقلصُ وطناً للمشنوقين، سأصاحبُ الزُّقاقَ الذي لم تختره حُنجرتي. سأختارُ شَفقاً لم تنتخبه أُغنيتي. خُذْ توقيعي قبل مَوْتي ولا تَبْكيني. واحاتٌ شريدة. أَحَبَّ الجبلُ النازفُ البنتَ الميْتة فهي لا تستطيع أن تخونَه.

 ورمٌ غيرُ خبيثٍ في ثدي الشَّمعة. لا فرقَ بين المرأة العارية والحائط بالنسبة للوطواط. آخرُ أيامِ الشعراءِ الفاشلين شهواتُ المطر المكبوتة. لماذا لا تتوحد حكوماتُ الدنيا إلا على ذَبْحي؟. قصديرٌ يشرب طيفَه عند المدفأة. الحائكُ يَصِفُ مشاعر العُراةِ فقراً. الليلكُ الشبعانُ يكتب عن الجائعين. نداءٌ إلى خشب الصندل، إن عثرتَ على دمي في الدحنون فأرجو أن تعيده إليَّ. تجرعت النَّعامةُ أطيافي حتى الثمالةِ. لماذا يفهمني الجدارُ ولا يفهمني السَّجانون؟. إنني أموتُ. سؤالٌ للأرزةِ الذكيةِ: ما الفرق بين دمي والبطاطا؟. الجواب: دمي يشربني، أما البطاطا فتأكلني.

 في معجم انتكاساتي تهتُ لكنني تزوَّجتُ ضوءاً ماحياً وانْبَعَثْنا. وما اللافتةُ في آخر الطريقِ الملوكي إلا أُخدود أَشْوي فيه بداياتِ الصدى. ولم يكد المغيبُ يتصدق على المواويل العطشى حتى عَدوتُ في أجزائي. والموَّالُ النقي فارسُ أحلامِ سمكة قرشٍ لقيطةٍ.

 لا أحتاجُ إلى حُبِّ العاجِ، أحتاج كراهيةَ الوجوه الملوَّنة. السِّجنُ لا يلزمه أُنثى تحبُّه. يلزمه أنثى تدمِّره إن عاش وتدفنه إن مات. أكرهُ النهرَ الذي لا يفعل شيئاً سوى قبض الراتب وإنجاب الضائعين. وفي طلقة الزبد اغتصابُ عُشبةٍ وبنتٌ مُغتصَبةٌ.

 كالبرقوقِ المشقَّقِ طلبت الذبابةُ الخلاصَ من شكلِ السيانيد. تَبغٌ يلدُ خيمةً للقطارِ البخاري. ألفُ عامٍ من الحِدادِ على الكواكب الميتةِ. ها قد جاء موعد التفتيشِ العسكري في أقمارِ الجيشِ المتهاوي. ليس لدى الأفعى وقتٌ كي تقابل مرآةَ البصل، فهل وجهي مكانٌ عابرٌ للسنونو؟.

 وتلك الأنجمُ تتعلمُ رياضةَ الغطسِ في دمي. أَنْقَذَتْني أشلائي من فجوةِ العشب. أَرُشُّ ألسنةَ الخرائبِ على لازوردِ الملحِ. غاب الذين يقولون: لا. تابوتي متأرجحٌ على سطر مطاطي ترقصُ عليه عاهراتُ بلادي والخائنون. قوةُ الشِّين في "الشمس " تتحدى وُعورةَ تضاريس كبدي. لم تسمح لي والدتي أن أُدفَنَ في مِعصمها. لم يسمح لي أبي أن أُدفَنَ في قلبه. تَفَضَّلْ أيها الرعدُ إلى وَليمة الدُّخان، دَعْكَ مِن غرور الحجَرِ لأن يأسَ الرمالِ زَهرةٌ تعاني الصُّداعَ.

 تجتمعُ في قاعةِ الهباءِ نسوةٌ يستخرجنَ القهوةَ من الإسفنج، ويتحدثنَ عن قماشِ كفني. صورةَ أبي، ما أنتِ إلا رؤيةٌ معاصرةٌ للجَزْرِ. جَهِّزي يا أمطارُ نَعْشي. أوردتي هي القناديلُ الوحيدةُ المنثورةُ في أكثر الغيمات ثورةً. يا جداراً يُحَلِّلُ أعمالي الشِّعْرية. أُعْدِمَ أهلُ الدار، وبقينا أنا وأنتَ في الضباب القرمزيِّ. وسيفتحون في محيَّايَ شوارعَ مُعَبَّدةً بأحلامي وأُعْدَمُ. إذن ستظل وحيداً عاصفاً عارماً الشاهدَ على قضية الفراغِ. والفقراء يتجمعون حول العرقسوس المتداول مثل الإبادة الجماعية للأمواج. ولَمَّا نظرت قُبَّعةُ الريح في عيون راهبةٍ رَأت مجزرةً للسِّنديان.

 يا مذبحةَ البطاطا المقلية، وموطنَ الأعياد التي لا أعيادَ فيها. تمهَّلْ أيها الجنون، قِفْ نيزكَ آلامٍ. هذه سِحنتي إشارة مرورٍ حمراءُ، كيف تَعْبرها وشرطي المرور يراقب حركةَ أمعائكَ؟. حُبُّنا طاهرٌ كالأسلحة الأتوماتيكية، ومشاعرُ الغزاةِ كالأعضاء الميكانيكية للرجال الآليين، وأنا من أهل القبور. والجاردينيا تشمُّ أيتامَها وتموتُ معهم في أحضاني. نزيفٌ باعه أبناؤه فباعهم. بَلَغَنِي أن جِرْذَاً نبذ الشاطئَ واعتنق زُرقةَ المحار. لكن ماعزاً يعمل حارساً شخصياً لأشهر الضفادعِ في العصور الحجرية.

 طُموحُ المقامِر وَوَقاحةُ المومس. أعرف أن الضائعات في كوكبي سيواصلنَ الضياعَ، وأن حكومة المرتزقة سَتُصَدِّرُ حليبهن إلى الخارج، مثلما هَرَّبت الآثار إلى متاحف الغرب. إنها تاجرتْ بكل شيء. عانى المحيطُ الأطلسيُّ من ضَربة شمسٍ. والسُّفنُ تنامُ على فِراش الموت. حشدتُ أقفاصي لمواجهة النورسِ الأعمى. شعوبٌ تُباعُ. وطنٌ يُباعُ. تُباعُ رُكبتاي. سأوقفُ المؤامرة.

 إنَّ صحراءَ العرقسوس جبيرةٌ تُكسَر. عَرَقي في عَرَقي أشجارٌ، ورُمْحي في نظَّارتي أشجانٌ. كنتُ الطريقَ حين اختفتْ ملامحي في الإطار المعدني للبلحِ. هكذا البراكين المتوحشة في ثلاجتي. زميلتي الطبيعة، هل سيبقى جِلدي محتفظاً بلون خيوله تلك التي تحقنني بِطَعْم الأرضِ المتروكة؟.

 إنما سطوحُ الماضي معالم حزنٍ على وشك الوصول إلى عالَمي. هذا الآتي من مرساةِ الحمَّى بَحَّارٌ منبوذٌ. فُقِدَ في الحربِ على توهُّجِ الكاوتشوك، ففسخت محبوبتُه السفينةُ خطبتَها منه.

 زَهْرٌ والبلدُ يُشَرَّحُ. ظلامٌ والكهرباءُ للأغنياءِ. كأنني أقرأ آيةَ الكرسي على قبري. وفي أقبيةِ حرماني بازيلاءُ ليس بوسعها شراءُ صحيفة. أيها الشُّبَّاكُ المثقَّفُ، يا مَن تدلُّ المخبِرين عليَّ وتبكي عليَّ. سَأَدَعُ لَكَ الْحُجْرةَ، فَعِشْ فيها ذكورةَ وَطواطٍ وأنوثةَ بئر.

 نهدُ الدنيا الفولاذيُّ. أُلْصِقُ بنظراتِ الفراغِ كلامَ النارِ ثم أنطفئ كي أُقَلِّلَ فاتورةَ الكهرباء. أكتبُ وَصِيَّتي قبل اغتيالي. وحينما يتقدمُ كريستالُ المنازَلة إلى حَتْفي أنسحب من خَدِّي لأُقاتِل الحطبَ بمسدَّس ماءٍ. مطرٌ في وقتِ الحصاد. عُرسٌ في ميعاد الجنازة. بكاءٌ في أيام الضحك. وسُعالي يستمر. هل سأموت مِن الجوع أم من التُّخمة؟.

 انتابت النهرَ وعكةٌ صحية، فَنَقَلْتُه على ظَهْري إلى المستشفى. وكان السَّوطُ يقوم بتأجيرِ جثتي للطوفان. يا شركسيةً تُقاتِلُ مع غيماتِ الشيشان، أَعطي مدفني حفرةً بين الأشجارِ وزُورِيه، فأنت المقاتِلةُ الوحيدة التي تعلم أني مِتُّ. وَجْهُكِ نخلةٌ تتسلَّقها عصافيرُ تعيش رقصتها الأخيرةَ. والشيطانُ يحتسي نبيذاً مخلوطاً بحليب أُمِّه، ويحتكر تجارةَ التَّبغ في خُوذته النحاسية، ويُسَمِّي أفخاذَ عشيقاته ديمقراطيةً.

 احتضارُ كوكب يرتفعُ في نواحي قريةٍ هجرتها جباهُ البَطِّ. بحيراتٌ تجفُّ خلفَ ذاكرةِ المكان. وأتت أمسياتُ الخريفِ كي تقول للنسيمِ أسرارَها، مثلما تعترفُ المحيطاتُ بحزنها المجفَّفِ على السُّفنِ الغارقةِ بين الشعابِ المرجانية.

 أيها الشمبانزي! حاول أن تفهم النظريةَ النسبية. " اشنقوه أولاً ثم دعوه يستنكرْ هذيان الحكومة المهرولة في تموُّجات الباركنسون ". إن إبهامي احتضاراتُ الفَرَاشِ النهائية في صورة الهيدروجين. هو الرَّصاصُ الذي ضَمَّنا: مساحاتٌ من الياسمين المقطوفِ مُبكِّراً. بشرٌ يخطبون المرفأَ في الطرقاتِ العامة على مرأى من لافتاتٍ كتب عليها المأجورون قصائدَ المديحِ للقصر الرمليِّ.

 أَتركُ للفجرِ تحليلَ شخصيتي. أشلائي قطنٌ مبلولٌ في جَرَّة ماءٍ على كتفِ فلاحة. احتلَّ أجفانَ مومسٍ شيطانٌ. سحابةُ دمٍ وتمضي، والمِغسلةُ تغارُ عليَّ. لأمراءَ يتكاثرون كالجواربِ في توهجات الشتاء، لقحطٍ يطلبُ من البراكين أن تشاركه في كتابة وَصِيَّته، لجريدةٍ تزرعُ صفحة الوَفَيات في الملحق الرياضيِّ، لفأسٍ تغمضُ عينيها لكيلا ترى اغتيالاتي، لنجمةٍ سينمائيةٍ ترجع إلى عارها في الثالثة فجراً، أُرسِلُ قذائفَ الرفضِ.

 وجدت الضفدعةُ بئرَ نفطٍ في زِندي، فأحضرتْ شركاتٍ أجنبيةً للتنقيب عن رِمشي،ولكنني طردتُها. وأنا الذي لا أتكرر، كأن خَدِّي سُلَّمٌ على أدراج غرناطة يتفجرُ. نبش الغدُ أشعاري المضيئة، لأن اسمي مُعَمَّمٌ على الحدود.

 تتعانقُ أسماءُ النخيلِ في أطوار تكونها في المدافنِ. يشعرُ المتزوجون بالطمأنينةِ في ليلةِ الدُّخلة، وأشعر بالطمأنينة على ألواح المسلخ في تمارين تشريحي. يريدون تكوين أُسرةٍ للرجوع إليها في نهاية يومٍ شاق وأخاف من إنشاء أُسرةٍ لكيلا أعودَ إليها مقتولاً محمولاً على رؤوس رماح بني أُميَّة. وفي الأمسيات الصيفية يعودُ الناسُ إلى عائلاتهم حاملين بطيخاً، أما أنا فأعودُ إلى مغارتي القتيلةِ حاملاً جُمجمتي في يدي. يُقَبِّلُ الرجالُ زوجاتهم، أما أنا فأُقَبِّلُ أشجارَ مجزرتي. ويستحمُّ الزَّوْجان معاً، وأستحمُّ مع ضجيج محرقتي. ويتغزلُ الأسودُ باللبؤات، وأنا أتغزلُ بصفائحِ الحديدِ. وينتظرُ المتزوِّجون الجددُ المولودَ الأول، وأنتظر ميقاتَ شَنْقي. ويُسَمِّي الرجالُ أبناءهم، وأُسَمِّي صغارَ السمكِ. ويترك الناسُ وراءهم أموالاً، وأنا أتركُ صدأَ مقصلتي. يقضي الأثرياءُ إجازةَ نهاية الأسبوع في جبال الأنديز، وتقضي الصحاري إجازتها في نهايات دمعاتي المقيَّدة بملفات الأشغال الشاقة المؤبدة. تحتفلُ المومساتُ في طوكيو بأعياد ميلادهن، وأحتفل بصدور حُكْم صَلْبي على أخشابِ زَوْرقِ جَدِّي المنبوذ.

 وضعت القُلنسوةَ نبتةٌ، وراحت تحارِبُ أبراجَ العمى. والنَّحلُ يُتاجِرُ بالقلنسواتِ المستعمَلةِ. والنخلاتُ تعطسُ على الشرفاتِ الخافتة. الدنيا عجوزٌ شمطاءُ. هل هذه الدَّولةُ كُوبُ عَصيرٍ أم سَلَطَةُ فواكه؟. دموعُ الشمسِ تراثُ الغزلان. تلقيتُ برقياتِ تهنئة بمناسبة اغتيالي. حُبٌّ ضائعٌ في نفوس شعب ضائعٍ في بلدٍ ضائعٍ.

 صحيحٌ أن البرقَ أبي والنخلةَ أُمِّي لكني يتيم. غدٌ والألم يُبَدِّل جِلْدَه. لمسَ العدمُ يدَ امرأةٍ بالخطأ فأُغميَ عليه. في تلك الناحية تركتُ عَظْمي يحرسُ عَظْمي، وصَهَلَتْ أبوابي، والبواخرُ تحملُ المهاجرين والحقائبَ الجلدية المصفوفةَ ذكرياتٍ. أكون مُعَطَّراً بالقبور عند تحطم مروحيَّتي، فلا تُخبري أُمِّي بذلك. رأيتُ شبحَ دولة. انفصامٌ بلوريٌّ في شخصية الدُّولفِين. يبني طيرُ اللقلقِ عُشَّه على شكلِ وردةٍ ماحية.

 سأرحلُ من نزيفي. ماذا سأفعلُ في حَقْليَ الجريحِ؟. فيه مات أبواي وهما يغرسان الضحكاتِ في جذور التين، وقطتي العمياءُ تسمَّمتْ، وجَرف تُرابي نجمٌ، وقُصِفَت أغصاني بالغاز المسيلِ للدموعِ، وصُودرت كتاباتي. إني أُهاجِرُ من جُرحي الحاشد. أبوسُ حُزْنِي لئلا يظنَّ أنني حزينٌ. متى طيفكِ الرَّمليُّ يُعْدِمُ صحراءَ اليأسِ؟. اجمعي أقسامَ حُزني هذا الغروبَ. أضحت تمزقاتي شامةً لحفرياتٍ في وجهِ البركان. أَوْصَى الوشقُ بإقامةِ مستشفى ولادةٍ للذئابِ المدجَّنة في ضجري. وعلى الغصنِ طَفَتْ باذنجانةٌ تُقلَى بسخونة اللقاء مع المغيبِ.

 ما زلتُ أذكرُ التركياتِ وَهُنَّ يُصَلِّين عليَّ صلاةَ الجنازةِ. جلابيبهن بيضاءُ، ووجوههن بيضاءُ، وأكفاني بيضاء. البندقيةُ شمسي وزُقاقي. كيف سأتزوَّجُ الآنَ وملايين الحرَّاس الشَّخصيِّين ينامون في رَأْسي؟!.

 غاب السَّجانُ في هستيريا القضبان. وفي الأعين المقبورةِ قلعةُ الذئب المكتئِب. أُحْضِرَ نحاسُ الذاكرةِ ملفوفاً بالصيحاتِ. للزمانِ زفراتٌ حارقةٌ تَقْلِبُ أوكارَ السنونو. مقصلتي ذاهبةٌ إلى غبار فضيٍّ. صحيحٌ أن وجهي الامتدادُ الجغرافي لموْتي، لكنَّ أحزانَ المراعي تُلقي علبَ البيرة الفارغةَ في فضلات النَّعامات. إن نهايتي سَبَقَتْ بدايتي. أَتَتْني مشنقةٌ وأنا جالسٌ في مكاني.

 وَجَدْنا الْحُبَّ، ولكن أين القلبُ؟. وَجَدْنا جُثَّتي، ولكن أين أنا؟. عَثَرْنا على الذكريات، وأَضَعْنا الذاكرةَ. قَمَعْنا الأحلامَ، وأَطْلَقْنا سَراحَ المخيِّلة. وَجَدْنا الخطوةَ، وضَيَّعْنا الطريقَ.

 يَروحُ المتزوِّجون إلى مراكز التسوقِ فيشترون عصيراً لأبنائهم يحملُ صُوَري. هناك صارت مذبحتي ماركةً مُسَجَّلَةً. تشريحي مُلْصَقٌ على ألعابِ الأطفالِ، وصَلْبِي مقطعٌ قصيرٌ من فيلم سينمائي عن التعاون بين الشعوبِ. إنني أراقبُ صعودَ الأَرْزِ في براميل المرفأ.

 أبي، كنتَ تُريدني أن أُنجبَ أطفالاً أعتني بهم، لكنهم لم يعطوني الفرصةَ. ما زلتُ أتحسسُ منزلَنا عند سور المجزرة. والنَّقالاتُ تتوالد في شِراعي كيساً تُعَبَّأُ فيه الجماجمُ المجهولة لأصدقاء لم أتعرَّف على هويتهم. وداعاً أيتها الكاميراتُ الحديثة التي صَوَّرَتْني وأنا أُسْلَخُ. دولةُ الجراح توغَّلتْ في احتضارها. وجعٌ مفتوحٌ على مِصْرَاعَيْه لا تَحْتمله الزَّنابقُ. شعرتُ بِقُرْبِ إعلان وفاة الدَّولة. جَهَّزْتُ لدولةِ الهوس قبراً، وأخذتُ إجازةً من أخاديد دمي وارتحلتُ.

 شهداءُ، لا تتصلوا بي لأن هاتفي مُراقَبٌ. هذا موعدُ تجمعِ الزَّنابق في عيون الراقصاتِ لتكوين قوانين الطوارئ. إنها بلاد ما وراء انتحار مارلين مونرو، هل بِعْناها أم بَاعَتْنا؟. مراقصُ مفتوحةٌ للمراهِقاتِ. مشانق خمس نجومٍ. محاكم عسكرية للبطيخ الآتي قبل أوانه. حقول الاختناق. إغفاءات للصدى الذي تآمر على الصوتِ. والملكةُ فكتوريا تخدمُ في البيوتِ كي تحصل على مصروفها اليومي.

 أَحْضَروا للفراشة السجينة طبيباً، فَشَخَّصَ حالتَها وأوصى بإعدامها ثلاث مراتٍ يومياً، مَرَّةً بعد الإفطار ومرة بعد النسيان ومرة بعد التذكر، وهكذا تطورت المستشفياتُ في ممالكِ اللوزِ الهادئة. وأجبر الخليفةُ ابنَ سينا على تسلم وزارة الصحة. وربحتُ محكمةَ تفتيشٍ في قطعةِ شوكولاتة. العَجاجُ وتسديدُ فواتير الدماء في آخر كل رعشةٍ. تَبَرَّأَ الوطنُ مني ولن أتبرأ منه.

 " احجزْ نسختكَ من صكوك الغفران ذات الحجم العائلي ". تلاميذُ رَوْضةٍ يقودون تمرداً عسكرياً على جيش السُّيول. وضعتُ دمائي التي تم توقيتها في أمكنةٍ تَبتلع أزمنتي.

 وَضَعوني على خشبةِ الإعدامِ، وحينها فقط أدركتُ معنى الديمقراطية. ولَمَّا سرقوا أراضي الشمس عرفتُ معنى الأخوة البشرية. وعندما عَرَفَ الطوفانُ أن خطيبته من الاستخبارات العسكرية فَهِمَ معنى الحب الأول.

 قصائدي، إِنْ بلغكِ نبأُ وفاتي فاستمري كما كنتِ كوكباً منفصلاً عن فوهات المدافع. لَمْلِمي مطراً للفجر، عُودي إلى الغسقِ ولؤلؤِ ارتباكي. منثورةٌ سِحنتي في أغوارِ لُعابِ الرعد. هو ذا يجيء من سُحُبٍ أهزوجةً. ليتَ ظلَّ السماواتِ الفسيحةِ يتعرفُ على قاتلي. هؤلاء الضاحكون في خاصرتي سَيَرْكَبون هزائمَ البحرِ الأخيرةَ. ضَحِكْنا وكُنَّا للبكاءِ فُوهةً زفرةً ليلةً من الدمعات الإلكترونيةِ أُمسيةً مُرتعشةً عَشاءً مع صحونٍ فارغةٍ ابتساماتٍ من نحاسٍ.

 وَأَدَعُ حَفَّارَ قبري في هدأة احتمالاتِ عودةِ فاقد الذاكرةِ إلى بناته. هَاتِفَاً بوبر الجَمَل وبصحراء غريبة تأتي من شظياتِ المرمر تشتهيني. أتعرفين تاريخَ أول مَصَّةٍ من ضِرْعِ النَّعجةِ، والعِطاشُ مُلْقَوْنَ خَلْفي يتجاذبون أطرافَ الظمأ؟. ماتوا وفي أعينهم أضرحةٌ ملكيةٌ، ماتوا فاقدي الجنسية. وتذكرتْ رجفاتُ البساتين _ عند موتهم _ أن تصدرَ لهم شهاداتِ ميلادٍ، والموتُ ميلادٌ. وأنا الميِّتُ المولودُ لا المولودُ الميِّت. تواريخُ الإبادةِ الجماعيةِ تلاحقني من قصيدة إلى قصيدةٍ. وما وجدَ اللاجئون غير صناديقِ الاقتراعِ في دويلات الهذيان لكي يَحْتموا فيها من القصفِ الجوي.

 رُبَّ حُكْمٍ بالإعدامِ ينالُكَ، صَادَقوا عَلَيْه وأنتَ في دَوْرة المياه. المشنوقون هم وَحْدَهم الذين يحتفلون بذكرى ميلادي. وشعوري شعورُ حَجَرِ صُوَّانٍ تآمروا على اختزاله في أعوادِ كبريتٍ.

 واقترحت الأقفاصُ أن يجعلوا رأسي المقطوعةَ مانعةَ صواعق. كلما اقتبست صلابةُ النظراتِ أقوالَ الجليدِ تباعدتْ عَيْنايَ أكثر وأكثر. هذا أنا لم أُدَنِّسْ وجهي بالانحناء للتيجان، ولم أنتظر على أعتاب الأكاسرة لأني لا أعترفُ بالأكاسرة.

 قررتُ أن أُوَفِّر على الشعراء مشقةَ رثائي، فرثيتُ نفسي. طَرَدني بَيْتي من قلبي، فما لمستُ سوى كرسيٍّ في قاعة الانتظار في المطارات لأنه ليس لي رصيدٌ في البنكِ يُغَطِّي بُؤسَ الفقراء أو أريكةٌ في منزل يقفز عليها أطفالٌ ينادونني " أبي "، ولا زوجةٌ تناديني"حبيبي". كَوَّنْتُ أُسْرَةً من قُضبان الحبسِ وحِبالِ المشانق. ولكي تُخَفِّفَ عني خيوطُ الحصيرِ في خيمتي نَادَتْني " حبيبي ".

 سأتركُ تجارةَ العلاقات الزوجيةِ لبناتِ الخليفة اللاشرعي اللواتي أكملنَ الدراسة في أسنان تماسيح الأمازون، يَحْبلنَ ويلدنَ أُمراءَ وأمراءَ وأمراء. ولكن انتبهنَ إلى الريجيمِ واستهلاكِ الأجساد التافهة وتنظيم الحمل والشعبِ اليابسِ كالاعتقالاتِ المتتابعةِ أجفاناً لبنات آوى. واجعلنَ علماءَ البلاطِ يُفتون بجوازِ تحديد النسل.

 وفي ألمي غثيانٌ، وابنُ الزبير واقفٌ غيرُ شاعرٍ بالدُّوار. مطرٌ أمامَ عيادةِ الطبيبِ النفسي فَيَصِلُ النعنعُ مُبْتلاً. عَدمُ انتظامِ دَقَّاتِ قلبِ العاصفة. وموتُنا قادمٌ. غَسِّلوني بماء زَمْزَم. ظَلَّ جُثماني طَوَّافاً على الحدودِ المغلَقة، فلم تَقْبل أيُّ دولةٍ أن أُدفَن فيها. مَكاني على أرجوحةٍ منكمشةٍ في كلمةٍ في قصيدةٍِ مجهولة كتاريخ النسور. يومياتُ الأغبرةِ مسرحيةٌ من فَصْلَيْن وخَمس جماجم. شَيَّدت المساءاتُ مطعماً مخصَّصاً للأفيالِ العاملة في تنقيةِ الأحزان من الوديان. عندي حمارٌ وحشيٌّ أتحاورُ معه حول أهمية الباذنجان في الثورة على عروشِ الحمَّى.

 وتلك الطلقةُ التي وَجَّهُوهَا إليَّ أغلى ثمناً من ثيابي. امرأةُ العصفِ تدورُ على المحامين لعلهم يُنهون اعتقالَ زوجها. من أين تُحْضِرُ أتعابَ المحامين ورسومَ المحاكم؟. اخْتَرَعوا قانونَ إبادة الهنود الحمر لتصدير انطفاءاتِ البشر إلى السماسرة. والبلدُ مُتفرِّغٌ لرفع الشعارات الانتخابية.

 تَعَهَّدَ الثلجُ بتقديمِ الدعم اللوجستي حينما أبدأ تنفيذ القصائدِ في صنوبرِ الأضرحة. لَيْتني أجدُ نهاراً ينتشلني من الكآبةِ. كُلُّ حزنٍ حفارُ وجوهٍ يُنَقِّبُ في رُفاتي عن الكافيارِ. وفي الحبس يَتَّحدُ الليلُ والنهارُ لهيباً من الخزامى تتصدعُ منه خرائطُ الغدِ في ليلةِ الزِّفافِ.

 لم أُبَايِعْ. وذلك صدري فيه كُل أمجاد الرعد. كم نخلةً عُلِّقَتْ على الكستناء الملتهبةِ لأنها لم تُبايِعْ؟. ليس أنا الذي يمنحُ صوته للحطامِ. لن تجد في شجرةِ نسبي خادمَ أكاسرة. وبناتُ حَيِّنا لَسْنَ مُغَنِّياتٍ. لا تُبايِعْ. لستُ مذيعةً تفتحُ ثدييها للمشاهدين وتبتسمُ كالممسحةِ، لستُ أنا. لن أُبايِع. إن أردتَ رَجُلاً وَجَدْتَنِي، وإنْ أردتَ طَبَّاخاً للحاكم العسكري وَجَدْتَني ماحياً. هذا أنا. لم أُبايِع. جثامينُ الزبرجدِ أطيافُ نعنعٍ لم يُمْحَ من التهاباتِ البوصلة. وطلاءُ السجنِ ليلةُ عُرْسي. لا تُبايِع، وإنْ مَضَغَ حياةَ القُبُّراتِ شريطٌ سينمائي منقوع في تواريخ دم مُتعَبةٍ. حَرِّرْني أَجِدْ اسمي. املأني ثورةً أَنْثُرْ جسمي. وكانت المادةُ الدمويةُ في صوتِ العنكبوتِ صمغاً لرقائق كمبيوتر يُستخدَمُ لمراقبتي. أتداخلُ مع مشاعرِ البناتِ المغتصَباتِ. أقضمُ انهياري، وأنتفضُ صومعةَ حُبُوب، أنا بركانٌ يُوَزِّعه الشمالُ على الجنوبِ. لن أُبايِع.

 تريدونني أَن أُغَنِّيَ في الحفلاتِ الراقصةِ في القصرِ، أن أَتَبَرَّكَ بفضلاتِ السُّلطانةِ، أن تصيرَ رقبتي عتبةَ كوخٍ شتويٍّ تقضي فيه عائلةُ الجنرال الإجازاتِ، أن أُقَدِّمَ بُؤبؤ الريح في كؤوس الخمر لضيفاتِ امرأة الوزير، أن أمد يدي مستجدياً ذلك القَيْصر.

 وامتنعت النسورُ عن وضع البيض احتجاجاً على أَسْرِي. مبيداتٌ حشريةٌ برائحةِ الليمونِ. لا دفتري سجنُ الباستيلِ ولا صَيْفي شتاءٌ للمتزلِّجين. أَحْضَرُوا رَاحَتَيْكَ يا أنا نقَّالةً للحكومات المحتضرةِ التي فَتحت في قبري سَفارةً للقصدير.

 غَرِّدي أيتها الأحجارُ وَدَعِي الريحَ للريح. كَتفي شاهدُ قبرٍ لليمامِ. أضحتْ بَسْمتي مركزاً صِحِّياً للفَرَاشِ. لن تسمحَ النَّحلاتُ لقاتلي بأن يُنَظِّمَ لي جنازةً مهيبةً. هل الْتَفَتَّ حَوْلَكَ فلم تجد غير عينيكَ المشنوقتين وَجَدِّكَ شهيداً، وكلُّ ميراثه لا يشتري واقياً ضِدَّ الرَّصاصِ؟.

 لكنَّ البحرَ دافئٌ جثثٌ جديدةٌ للنَّمْلِ. كدتُ أنسى مواقيتَ إعدامي والبحرَ الذي خانني، فرفعتُ رمشَ ضَبْعٍ يبرقُ غابةً ويورقُ أسىً ممزوجاً بمياه المحيطات المتَّسعة في عروقي. ترجوني أفواهُ رُمحي أن أسكنَ في طنجةَ. أُصَلِّي الفجرَ ثم أذهب للسباحة في الأطلسيِّ. وعندما أموتُ أُدفَن في القاعِ إلى جانب قبور تلميذاتي السمكاتِ. دموعي أحدُ أسبابِ دفء الماء. وقُبَيْلَ شروقِ الشمسِ يُشرقُ قلبي وينفضُ عنه الموجُ أواخرَ فصل الربيعِ الدامعِ، فأغسلُ يديَّ بِعَبَرَاتي.

 مُبْتَسِماتٍ على ألواح النحاسِ التي تتلعثمُ حين تتكلم عن عناقنا تَعْدُو إناثُ البلوطِ في ملابسي المهجورةِ على الشاطئ الوحيدِ. وسمكةُ قِرْشٍ تنتظرُ ابنها الجنديَّ الذي قاتلَ نيابةً عن السَّادة النَّائمين مع الجواري. انقطعت أخبارُه سِلْكاً من الوجنات المثقوبة على نقطة تفتيشٍ. متى تخدعني أجهزةُ الحاسوب المزوَّدة بالمشاعر الآلية؟. متى يخونني بَياضُ لبنِ النِّعاج؟. يُعيدُ الفجرُ خيامَنا للخَيَّاطِ العجوز، وترتحلُ الذكرياتُ إلى انكماشاتِ القماشِ في الأكفان القديمة. وُلِدَ الشهيدُ لكي يرفضَ القياصرةَ. وراءَ كُلِّ وراءٍ فتاةٌ مذبوحةٌ تنتظرُ فارساً مذبوحاً يخطبها. وأمامَ كُلِّ أمامٍ شوقٌ إلى ليالينا الحبيبةِ والجزُرِ الغريبةِ.

 اندلعت أحكامُ شنقي على أوتادٍ كئيبة مشدودةٍ بأوتارِ الصَّدى. وَلَفَّ دُولفينٌ مُرَاهِقٌ حَبْلَ المشنقة حولَ أعناقِ مَوْقدتي. وكان الجمهورُ المدعُوُّ إلى مَصْرَعي يظن أننا في مباراة كرة قدمٍ. وقَدِمَتْ نخلةُ الصدى. وأمسكتْ فَرَسِي حبلَ مشنقتي بأناملها الصغيرة وأزاحته عني.

 لا أريدُ القولَ أني أُحِبُّكِ لكيلا تتعلَّقي بميتٍ ولكنني أُحبكِ. قَدَرِي أن يبقى فِراشي بارداً وإصبعي خالٍ من خاتِمِ الزَّواج كالممرات الخالية من صيحات الأطفال الذين يلعبون فوق نعوش أمهاتهم. دَمعتْ آباري فأسندتُ رأسي من كثرةِ الدمع على عَلَمِ منفايَ ومِتُّ. لم نتمكن من إنشاءِ أُسْرَةٍ وابتكارِ لقاءٍ وجهاً لوجهٍ، إذن فليكن وجهاً لقبرٍ.

 صَوِّر اللغمَ العالقَ في فؤادي _ يا جوادَ الغيمِ الأحمرِ _. أذكركَ وأنتَ طفلٌ على صهوةِ العنبِ وتحتنا البلاط المشتاق تمسك بدميةٍ وأهدابِ مستقبلٍ لم تتوقع أن يُنَسِّقَ مقتلي. هذا زمنٌ تُرفرفُ فيه أعلامُ المنافي والمجازرُ. وقتلةُ الحسينِ يُتاجرون بالحِدادِ عليه، وأهل الكوفة يتكررون في رُكامهم باعوه لقاءَ دراهمِ السُّلطانِ.

 لا تَخُنْ حتى ولو خَدَشَتْكَ ألوانُ نحلةٍ تُحِبُّكَ ولكنها أُجْبِرَتْ على قتلكَ. لا تخن حتى ولو ألفيتَ أباكَ جسداً بلا روحٍ، جسداً وضعه القرصانُ رايةً للسفينة الغارقة. لا تخن حتى ولو خَلَعوا رموشَ طفلكَ وغَرَسوا مكانها خناجرَ. لا تخن حتى ولو ترك الوخزُ قواربَه في حَبْسِكَ. لا تخن حتى ولو وَقَّعَت ليلةٌ مطيرةٌ على حُفَرِ إبطكَ. لا تَخُنْ حتى ولو قَطَّعَ سريرُ غرفةٍ في المستشفى إذناً بالدخول على رعشتكَ.

 من بلداتٍ تنتصبُ في ردائي حافلاتٍ مُعطَّلةً وميادينَ لِجُباةِ الضَّرائب، تتدفقُ صُفْرَةُ التراب الحاوي لبقايا فُرسانِ الإمبراطورةِ. ركضوا من أجلِ انتماءٍ إلى البلاطِ والعَتَباتِ السوداء عاراً. وساروا والخرابُ يُغَنِّي لهم ليناموا في حوافر خيلِ اليبابِ. كانت الإمبراطورةُ تُجَهِّزُ من يخلفها على العرشِ، وكان الشَّعبُ يدور في سلالِ القُمامة باحثاً عن أرغفة خبزٍ أو أي شيءٍ يشبه الخبزَ. ومضى الفرسانُ يتساقطون جراثيمَ أَثْقَلَ فجواتِها إِسفلتٌ تعيسٌ تناثرت أشرعتُه تحت حذاءِ كليوبترا. حضارةٌ أم إمبراطورية أم جُمهوريةٌ؟. كلها تَغُذُّ السَّيرَ إلى مقبرةٍ من البلاتين. تاجٌ أخيرٌ على العرشِ الفارغِ والزَّعيمُ جالسٌ في المرحاضِ. شذوذٌ جنسيٌّ في الأديرة. «ودَع الموتى يَدْفِنون مَوْتاهم».

 ظَلَّ المطرُ المضيء ماشياً في دماغي فَعَثَرَ على كتاباتٍ واضحةٍ على صخرة الرعدِ المجدِّفة في حياتي.كان في جفوني فتىً أحصت الكلابُ القذائفَ السامة الساكنةَ في خلاياه فَوَجَدَتْها ستة أحزان فَنَزَعَتْهَا وَسَكَبَتْهَا في رُتَبِ الجنرالِ وأزرارِ بَزَّته. تقدَّم الصحفيون إلى الثقوبِ المتروكةِ وأَرْسَلوا تقاريرَهم إلى جلادي الإسفلت المخنوق كي يطمئنوا أن الجريمة تمت بنجاحٍ في وقتٍ تجاهلته كُلُّ إذاعات السيول. على جَفْنِه مساءٌ يزحفُ بمساعدة عكازاتِ تستخدمها القنابلُ دروعاً بشرية تحميها من الوجوه الجارحة.

 لحومُ بَشَرٍ مُكدَّسةٌ مُطَعَّمةٌ بالصَّدفِ. حُوصِرَ طيفُه في فتحاتِ التهويةِ للنهارِ الغارقِ في لَيْله. أَيُّ أرضٍ بعد صدر أُمِّكَ المحروقِ ستحتويكَ؟. قُذِفَتْ أغراضُ بيتنا في شرارةِ الصاعقة المبتدئةِ من السماء، والمنتهية في سُعالي. أي ابتسامةٍ بعد قدومِ أبيكَ ستعترفُ بكَ؟. والليمونُ ينادي بملء دمه يا منبوذُ. وبين العواصفِ والطريقِ صَداقةٌ من الطوب الأحمر. لا تُخبئ رأسَكَ في الحقيبة كالحقائبِ التي أضاعتها بحورُ الشِّعْرِ في مخيلتي فصرتُ شاعراً أجني ملايين الجِراحِ وقلمي مرهونٌ. أظن أن الرئةَ العالقةَ في شِباكِ الصَّيادِ هي رئتي. أظن أن منبعَ النهرِ هو العقلُ المدبِّرُ لخطفي من الشفقِ الرَّاحلِ.

 سيأتي عُقابٌ عندما تُوَلِّدُ أسناني لهجةً للأدغالِ، ويُلَحِّنُ اللازَوَرْدُ رعشاتي في الأوكارِ مخافةَ أن تقبضَ عليها قُوى الأمن. والعُقبانُ تطبخُ المعكرونةَ في جُمجمتي عند الساعة العاشرةِ مساءً حيث يتبادلُ الخليفةُ النِّكاتِ الإباحية مع جَواريه. والقبطانُ يُوَجِّه الدَّفةَ المهتزةَ إلى الأوحالِ الأميريةِ. سأصنعُ قصيدةً بدون حروفٍ أُولَدُ فيها وأموتُ، ولن أحقدَ على الطيورِ التي طَرَدَتْني مِنِّي وَرَثَتْنِي.

 على طيورٍ مُشَرَّحَةٍ تسدُّ المدخنةَ أقامت السَّوسنةُ مسرحَها. أخذ الطيرُ المحاطُ بالموتِ إجازةً من المذبحةِ المتوقفة قليلاً ليتزوجَ في أقواسِ جاذبيةِ الأحزان. فراشتان قَبَّلَتَا مراوحَ الصَّعقِ عند الثُّرَيَّا الحريريةِ قُبيلَ الارتقاءِ إلى سيوفِ بني أُمَيَّةَ. أُنَقِّي الغبارَ من الغبارِ فأكتسي دروبَ جراحاتٍ تطرقُ اتساعاتِ المجرَّة. البغايا أكثرُ نقاءً من السلاطين لأن البَغِيَّ تُقَدِّمُ جسدَها أما السلطان فيقدم أجسادَ شعوبٍ بأسرها.

 مجرةٌ تُواسي اليَنبوعَ الجاف صادقةً في وجدانها الكربوني. خرجت الطحالبُ من أغمادِ الحِبرِ السائلِ على مُسَطَّحاتِ نشوةِ زجاجاتِ العصيرِ التي شربها الأطفالُ في الروضةِ المحاصَرة بالمدافِع. للمساءِ أُذُنٌ من البلوطِ المجوَّف تأتي إلى جَذرها تَجْمعُ الهجراتِ. اندهشتِ الليالي واقشعر بدنُها الكالح نتيجة منظري وأنا أتفقدَ بقايايَ المبعثرةَ في الهودج على سنام مزمار الراعي. امتطى النخلُ ناقةَ الطيفِ في فصولٍ تحوي شتاءً خالياً من الغُزاة. ماذا أعددتَ للثلجِ يومَ تَنَزَّهَتْ يَدَايَ عليه؟. امتصاصُ مُخاطِ الكواكبِ حِرفةُ الزَّعْتَرِ. ودخولي قَبْو الإعداماتِ خُطوةٌ لملاقاة مَلِكِ الملوكِ.

 كان في المراعي الفسفوريةِ مَلِكٌ أحمقُ خسر حِرابَه في المعركة، فآوى إلى بَيْته، وقال: ((خسرتُ نفوذي ولم أعد أملكُ غيرَ جسد امرأتي. إذن سأستعيدُ مملكتي بدءاً من زوجتي)). فرأى مُلْكَهُ يسيرُ رويداً رويداً على رُفاتِ زوجته.

 في حُزْنٍ برونزيٍّ يُصْنَعُ من جلودِ الأكذوبة، سالت حصةُ الكيمياء في أذهانِ البجعِ والإجاصِ المتقلِّبِ في استقرار حَربةٍ في شبكية العَيْنِ. منظرُ العاصفةِ وهي تنتزعُ من البابونجِ وصاياه جَعَلَتْني أَلُمُّ إغفاءاتِ الصدأ وأقذفها على سَبُّورةٍ متركزة على ضغط الدم في أنوف البراكين. أصبُّ أفكارَ الجزَرِ في زَوْرق. أنتفضُ زُقاقاً تفيضُ مني أدغالٌ مجبورةٌ على تصفيتي. للجزيرةِ القائمة على سوائل قُرحتي كُنيةٌ من العقيق تُغرقُني في وِحْدَةِ الشَّذى.

 سيموتُ الموتُ وأنا في اللانهاية. كوكبٌ بحاجةٍ إلى تعذيبي كي يَتَطَهَّرَ. نبضةُ قلبٍ مريضٍ مَدْرَجُ طائراتٍ. بَايَعَتْني النباتاتُ، فَتسلَّمْتُ إمرةَ الحقولِ. أَسَّسْتُ قبيلةً من حبالِ الشنقِ المستهلَكة وطوبِ المذبحِ الورديِّ وأشياء لم أعد أذكرها. يُبَدِّدُ وحشتي لَمعةُ عَظْمي.

 السَّلامُ عليكنَّ يا فارسياتٍ جِئْنَ من أَشْواكي لزيارة بقايايَ في رمالِ الأنهار المشتَّتةِ. السلامُ عليكنَّ يا شركسياتٍ صَوَّرْنَ أحداثَ صَلْبِي بالهواتف النقالةِ. السلامُ عليكَ يا غَدِي وأنت تُخَبِّئني من لافتاتِ القبض عليَّ. أَمْسَكَني حُلْمٌ صغيرٌ مُتَلَبِّسَاً بجنازتي، والحبسُ يُصدرُ شهادةَ وفاتي كشاعرٍ يُولَدُ. أطرافي ممسحةٌ لثياب الصغيراتِ وَهُنَّ يقطفنَ المزارعَ في أجفاني. فاتورةٌ لونُ عَرَقِي ستدفعها بلوطةٌ مُعجبةٌ بانكسارِ وجوه المرايا في شَفَتي.

 تَتَشَرَّبُ قِطعةُ رُخامٍ حُمرتَها من لسانِ العاصفةِ. وَقْتي مُخَصَّصٌ لاسترجاع الأندلسِ لا عشقِ الإسبانياتِ ولا شيءَ اسمه إسبانيا. عندما تُصابُ ملاقطُ الغسيلِ بالحمى تشنُّ الزنابقُ حملةَ إعداد الضَّماداتِ الباردة. محرقتي مباراةُ كرة طائرة بلا جُمهورٍ. مجزرتي أَلهمت سناجبَ القَرْميد. إنني أُذْبَحُ وغيري يُدَوِّنُ مأساتي فيصبحُ كاتباً مشهوراً وأنا قُرباناً مشهوراً. تدخلُ الغيبوبةُ إلى التُّوتِ وتُراوغُني. إنَّ ما تَبَقَّى من وجهي أَحَبَّ امرأةً وقَرَّرَ خِطْبتها ثم عَلِمَ أنها متزوجةٌ، فلم يَخُنْ ولم يَحْزن. نعم، قلبٌ مُعتادٌ على الانكساراتِ كما البِحَار.

 أدعوكِ يا فَرَسِي إلى العَشاء في الساعة الثانية بعد منتصف صَعقي، أي قُبيل تقطيعي وسرقة أحلامي. كنتُ شريفاً في الحب والحربِ. لعل طلاءَ أظافرِ الصاعقةِ أُسُودٌ، والنزيفُ أَسْودُ سار فينا فلم يَجِدْنا. لتكن الآنَ خِطْبَةٌ وبعد تخرُّجي من الحرائقِ والمسلخِ وغرفِ التحقيقِ نتزوَّجُ. رَاسِلْني على عناوين ذبحي الدائمةِ. الضحكُ من كثرةِ البكاءِ، والزنبقُ مشروعُ أَرمل. لن أهدأَ حتى أرى رأسي مقطوعةً موضوعةً على بوابات سراييفو، وأطرافي مفروشةً في غرناطة، وبطني مَبْقوراً في غروزني، وصدري مُفتَّتاً في رمالِ الرُّبْعِ الخالي التي تراودني عن نَفْسي.

 إلى السَّجانين الذين يَقْذِفون دببةَ عيونهم في العدسات اللاصقةِ تجري أسيافُ العَتمةِ. وفي سُعالٍ ينهشني، يختفي الفرقُ بين الفعلِ الماضي والمضارعِ، وعندها أخافُ أن تتجسسَ عليَّ مَخدتي المبلَّلة من عَبَرَاتِ آخرِ الصَّيف. يُنَظِّفُ الثَّعلبُ نظارته الرَّماديةَ بِعَظْمي الذي يَطْردني. إن هطولَ الملحِ من عيوني أحال الوسادةَ إلى بئرٍ تنشرُ نقاطَ ضَعْفي على حِبال الغسيل.

 عَبَّأْتُ شفاهَ الرياح المثقوبةَ بالكبريتِ، ورُحتُ أبكي. عَظْمي صابونٌ تستحمُ به الملكاتُ. دعوةٌ لحضورِ حفلِ تنصيبي مشنوقاً. اقْبَلُوا مِقْصلتي قطعةَ قماش تمسح نِعالَ نساء سراييفو في حفلات زفافهنَّ. فلتختاروا لي حبلَ مشنقة من نوعية رخيصة الثمن لكيلا تختل الميزانيةُ.

 أقترح أن تشنقوني فوراً، فجسمي نحيلٌ لا يحتملُ التعذيب، أو أن تدسوا السُّمَّ في طعامي كما فَعَلْتُم بالحسن السِّبطِ، ولكنْ لا زوجةٌ لي تُقنعونها بتسميمي. إذن حَرِّضوا أقربَ تلاميذي على خيانتي، مثلما خان يهوذا الإسخريوطي سَيِّدَنا المسيحَ، واتركوا بَغِيَّاً ترقصْ حاملةً رأسي. فليستمتعْ عِليةُ القومِ ونساءُ الخليفةِ المشغولاتُ بالرِّيجيمِ. رَعشت جنازيرُ أَسْري فندقاً يقضي الحمَامُ فيه شهرَ العسلِ، وتُصْنَعُ في قَبْوه البوظةُ النارية. كنتُ الغريبَ الوحيدَ الذي يُساقُ إلى أسياف المذبحِ ضاحكاً. غُرفةُ نومكِ يا إمبراطورةَ اليَبابِ، أخشابُها منصوبةٌ على رُفاتي. والخيانةُ كلبٌ لُعابُه عصيرُ النار.

 أطمحُ أن أخط قصيدةً لا يفهمها السَّحَابُ فيأتِيَ إلى عُشِّي في الغسقِ يسألُني عنها. قطعتُ الكهرباءَ عن الحشائشِ فانطفأتُ. وحينما تُفْتَحُ نوافذُ الذكريات لا تضمنُ أن تظل الأبواب موصدةً. الرَّجُلُ عندما يُحِبُّ يحترقُ وحيداً والذَّكَرُ عندما يُحب يزداد ضحكاً مع رفاقه. وبينما كان المراهقون يُلاحقون بناتِ المدارسِ كنتُ أُلَحِّنُ نشيدَ تابوتي تحت جسور سراييفو فَتَعْلَقُ قُمصاني على شبابيكِ قصر الحمراء، وتغفو أكفاني في تاج محل، وتغورُ ألواني على رموشِ البتراء وتأتي أُمِّي من زاوية ما في رأسي لكي تغسلَ كَفَني. ويُدشِّن الغزاةُ في ذكرى ميلادي مشروعَ اغتيالي.

 أيتها النجمةُ الضائعةُ في إسطبلاتِ بُكائي، لماذا تلهثين وراء الزواجِ مني؟. لستُ رَجُلَ أعمالٍ، ولا أملكُ عقاراتٍ. دعيني للوسواسِ القهريِّ يَحْرقني، لكنني سأتحداه في الأزقة الخلفية للميناء في ضوءِ الرَّصاصِ في عنفوان اليورانيوم في حِبال المشانق والغسيلِ في عنف الأزهار السَّامة. وأحرقُ مراكبَ الشيطان في بِحار يأسه. إن سُعالي يتلاشى لأنني أموتُ. والليلُ أزرقُ. تمنعُ الذُّباباتُ ماءَ الْحُبِّ من الوصول إلى أرضيةِ شَعْري.

 السنديانةُ مُرْضِعتي، وجَناحُ الرَّعدِ مَشْرحتي. ودمعي على فُرشاةِ الأسنانِ المتروكة بالدماءِ اغرورقَ. الليلُ مثلُ أحشائي أزرقُ. لو كانت جُروحي في مزارعِ الصَّليلِ أمطاراً، لكان ظِلِّي نشيدَ الأمسِ وشلالاتِ غيابي.

 عاصرتُ مجزرتي رغم ولادتها قبلي بعدةِ قرونٍ. ورُمِيَ ساعدي على نصوصِ البروقِ همزةَ وَصْلٍ. وقوسُ قزحَ يُتاجرُ بمثانتي في البورصةِ. وقامت مانعةُ صواعق بتحقيقِ مخطوطة رُفاتي. أهلاً بكم في الوطن الخراب، أهلاً بكم في الضياع الذي ابتكره الملوك الفاتحون. إنني لم أجد صدراً حانياً إلا المنفى. آتياً من أشلاء الضَّحايا. شَرَّحَت الكستناءُ جثةَ الصَّخر. والطاغيةُ كابتن فريق كرة قدمٍ من القراصنة.

 صَوَّرت الورودُ مراسمَ إعدامي بالأقمارِ الصناعيةِ، ونُقِلَت الصورُ إلى شاشاتِ الضفادعِ في بث حي ومباشر. لا أبناءَ لي يرجعون من المعركةِ فيخبرون أُمَّهم بأن تبدأَ العِدَّةَ. ولا امرأةٌ لي تَسهر الليالي وهي تُخيطُ ثيابَ الحِدَادِ عليَّ. إنني مِن اكتشافاتِ المد البحري. كان اللهُ في عَوْني، فأنا أُقاتِلُ داخلَ جِسْمي وخارجه.

 هذا نزيفي حارساً على فُوَّهاتِ الخِيام. وأتت الشجيراتُ مَلْفوفةً بعظامي تحملُ نِعالَ الأنبياء كي تحيا. جبلُ أُحُدٍ قلبي الذي يعيشُ في آفاقِ الرِّياح. فَتِّتوا عِظامي ورُشُّوها على الطريقِ لإخفاءِ آثار أقدامِ النَّبي وصاحبِه.

 تتشمسُ حالةُ الاستنفار القصوى في أوردتي المتشعبةِ أمواجَ رَصاصٍ. أحكامٌ عُرْفيةٌ في معدتي. أغارُ على شجرتي المنتشيةِ بِطَعْني، لا مبرر أن تغاري عليَّ أيتها المرافئ، فهناك ملايين الفتيات يَعْبُرْنَ مجزرتي. اعتصمتْ بُحيراتي في ليلةٍ دمويةٍ مطيرةٍ مُطالِبةً بزيادة الرواتبِ لحراسةِ نُعوشي. وأوصالي تَرَكَتْني احتجاجاً على مُصافحتي للوديانِ. مساحيقُ البنكرياسِ تتغزلُ بي.

 بناتِ إسلام أباد، لا تذرفنَ اللؤلؤَ على مَشْرحتي، فجثماني تحمله الأسماكُ إلى القاعِ. من أنا حتى تَبْكِيَ عليَّ الشُّموس؟. إنني مجردُ غُربةٍ طَيْفها فراشةٌ وظِلُّها حصانُ المطر.

 وُلِدْتُ مع الدماء ومِتُّ مع الدماء. جئتُ مع البكاء، وعُدْتُ مع البكاء. أصحابٌ يتبادلون البقدونسَ في مُناسباتِ اقتلاع جهازي التنفسي. ذبحتي الصدريةُ عيادةُ طبيبِ أسنانٍ. حزينٌ الحزنُ لأنه تفاجأ حين علم أن عائلتَه قَتَلَتْهُ وأن أُمَّه من الاستخبارات العسكرية. مناظرةٌ بيني وبين الصحراءِ، والفائز يُعلَن يومَ وفاتي. وناقةُ الربيع تدقُّ النخلاتِ في فَقَراتِ ظَهْري. يتفحص البرقُ جُثتي كالسيارة المستعمَلة. لكنَّ جنينَ السنبلةِ ياقوتٌ يتجسسُ على دقاتِ صدري.

 غداً عندما تستهلكُ عينُ الماءِ المعاقةُ عقلياً دماغي، أعرفُ أن ظِلِّي صار عبئاً عليَّ. أرى في دمِ البِطْريقِ ذلك الكاهنَ المتوحش، هل هو جرس رعشةٍ أم جُمجمةُ قاتِلٍ؟. والزيتُ المشاغِبُ يحتضنُ الفلافلَ ذات الرائحةِ المهرولةِ في الأمسياتِ العظمية. قَدَّم الغرابُ لي رِشوةً كي أمدحَه في عبير القصيدة ولكنني رفضتُ. حان وقتُ حصادي، ونفسي تتآمر ضدي. إن المياهَ تجثو على رُكبتيها فوق سجاجيد المرعى خوفاً من مَلِك الملوك. رَحِمَكَ اللهُ يا قَلْبي، أَتْعَبْتني حَيَّاً ومَيْتاً.

 أكملي المشوارَ يا كشميرُ بدوني. دعيني للموتِ في الغابةِ وَحْدَي، فالسمُّ ينخرُ جسدي. اتركيني وانطلقي قبل أن يأتوا ويقبضوا عليكِ. انزعي يدكِ من يدي. ارحلي سريعاً. لا تمنحيني جذوعَ الشجر تذكاراً، لأن السمَّ الذي يتنزه فِيَّ هو التذكارُ.

 في مواسمِ تقشيري تكون أحداقي طابعَ بريدٍ على الرسائلِ التي لا تصلُ أبداً. نسوةٌ وَجَدْنَ تاريخهنَّ الشخصي في فُروجهنَّ. معابدُ الجنونِ عند حافةِ الأغبرةِ في سرطان الجِلد الساكن في الميناء والإناثِ العارياتِ على الشاطئ المسمومِ.

 لأن عصيرَ الطرقاتِ في سِحْنتي سنابل، يجرفني الصباحُ المقاتِلُ. الْمِسْني شتاءً ضعيفاً، وتَجاوَزْ عينيَّ وسَمِّهِمَا خريفاً. وَبَّخَنِي النهرُ لأن جوارحي أخطأتْ في حقه. إن فتياتِ المدارسِ في بطرسبرغ يتم بيعُهنَّ إلى الأثرياء في الحقولِ الخرساء.

 لو كان قبري مَخْفِيَّاً عن عيون البشر، فلا يأتي إليه الجنرالات ويضعون أقدامهم عليه. هزمتُهم حَيَّاً ومَيْتاً.

 صناعةُ توابيتِ الحشائشِ سَتُوَفِّرُ لنباتاتِ الزِّينة دَخْلاً ثابتاً. تستطيع أميرةٌ ما شراءَ رَجُلٍ، لكنها عاجزةٌ عن شراء دماءِ الشَّفق. محاكمةُ السلاطينِ أعمدةُ ضوءٍ في اتساعِ الشارعِ المثمِرِ. دمُ الشهيدِ يُنَقِّي مياهَنا. حكمَ التوتُ على حُزني بالسجنِ المؤبَّدِ في جوارحي.

 سلامٌ على قبرِ التي أَخذتْ قبري وحُبِّي معها. مدافنُ العواصفِ تتألقُ على أرجوحة الصدى الخشنِ. وبعدَ فوات الأوانِ تَذكَّرت الخزامى أن تسقيَ دمي استعداداً لزراعته في العاصفةِ الخضراء. وَدَّعت يتيماتُ الأصداءِ آباءهنَّ في محطة القطارِ، إنهم سَيُقَاتِلون من أجل اللاشيء.

 عُقابٌ عَصرَ لحمَه في المعركةِ، ولم يعصره في استجداء الأمراء. هناك هاجسُ البحورِ محروقاً مثلَ الكاوتشوكِ. وتخرجُ ظلالُ نُعوش النبعِ من عوادمِ السياراتِ. أسرابٌ من كُثبان الرمالِ تُساعد الصحراءَ على التخلصِ من الارتباكِ في ليلةِ الدُّخلةِ.

 نقلوا مُجَمَّعَ المسافرين إلى رعشتي. لماذا يُرسِلون نعشي إلى أبي بالبريدِ الإلكتروني؟. قَتَلْتُموني، إذن اذْهَبوا وناموا مع نسائكم، وانتهى الأمر!. فلا بلدٌ يسترُ طحالي بحِباله، ولا أجدادي حاملو الصولجان. تتشمسُ الليالي في شتاءِ دموعي. وأطباءُ القصرِ يُوصون الحواملَ بالمشي في جنازتي. وأثناءَ انعقاد الجنازةِ ستسكنُ في خيمتي غجريةٌ لن تحترمَ ذكرياتي مع الشَّافعي والخوارزمي. نظراتي غير خاضعةٍ لمزاجِ بناتِ أثينا، ولن أدعَ نساءَ موسكو يتعلمن الثرثرةَ والغَزَلَ في ذبحتي الصدريةِ، هناك قربَ فراشاتِ غروزني.

 تتعطرُ مُراهقاتُ الحطامِ باليورانيومِ المخصَّب. إنها أزمنةُ الغربِ السَّامِّ. المرفأ تفاحةٌ تُشعلُها قرودُ حكومة الإبادة. يصطادُ ظبيُ الأمعاءِ صَيَّادَهُ. إن أعشابَ الذاكرة جِلدي الخالي من فُقاعاتِ السيانيد وتجاعيدِ شَعْرِ المسرحِ، فأحضنُ أمسي، وأبكي لتعليم الغيوم كيف تبتسمُ. وفَجْري النهوضُ من القش الصناعي. لقد مَدَّدَ شعراءُ الصَّديدِ مصابيحَ ولادةِ أمهاتهم على شُرفةِ الخليفةِ.

 إنني تُرابٌ ينتصبُ على بقايايَ ضَحِيَّتي. وها هُنَّ الإسبانياتُ يُنهينَ امتحاناتِ الجامعة، ثم يتجهزنَ لقصة حُب جديدة، والمشاركةِ في الرقصِ الجماعي على الأكفان البيضاء لصقر قُرَيْشٍ. البراكينُ تنتحبُ لأن القصائدَ القتيلةَ لا تُماثِلُ إلا مدفنها. والإنسانُ يرقصُ على حَبَّات الرَّملِ لكنها سَتَعْلوه يوماً.

 أنا والزلزال نتبادلُ الخبراتِ. مواعيدُ خِتَانِ القمر. وصيةُ الديناصورِ بعد انقراضه. ما زال الفلاسفةُ الإغريقُ يرمونَ برجَ إيفلِ في أرحامِ بناتِ أثينا. فكيف سيقومُ الوردُ الأََسْودُ من قُمرةِ قيادة المجازر زُجاجاً يتواطئ مع المدير والسكرتيرة في الطوابقِ العلوية؟. رَكَّبَت حكومةُ القراصنةِ على أثداء السَّيدات مُفاعلاً نووياً لاستخراجِ الحليب وإسالته في حقولِ القارةِ العجوز. وكُلُّ قُرصان عجوزٌ، وكُلُّ صَك غفران امتدادٌ للإبادةِ الجماعية.

 مُصْحَفٌ مرفوعٌ على رَفٍّ في دقاتِ فؤادي. ذكرياتُ الياقوتِ في أيام الرخامِ قصةُ الجرحى. تعتبرني سوقُ القتلى عريسَها المستقبلي. دروسٌ خصوصيةٌ في التخلصِ من المللِ وأنت ترقبُ المقصلةَ تهوي على ضوءِ ساعة يدكَ جِرْذاً مستحماً بكل سوائلِ الرفضِ. أضواءُ الحافلاتِ تُهَيِّجُ كرياتِ دمي وتغلِّفها بالقشِ المسمومِ. وكانت الأرضُ عظامي المغسولةَ. أيتها المذبحةُ، أنا فارسُ أحلامكِ، فعانقيني قبل قدومكِ. وأَغرقُ في فُتاتي. أستغيثُ قبيلةَ الرياحِ، فتنظرُ إليَّ مبتسمةً تظن أنني أرقصُ طرباً لصوتِ القاضي حاكماً عليَّ بمعانقةِ أطيافِ النمورِ الميتة. لم يمد شعبُ الرعودِ بنكرياسَ المساعدةِ لي، ولكنهم أقاموا لي مأتماً مهيباً حَضَرَتْه رغماً عني الفرقةُ الموسيقيةُ التابعةُ لأطفال الشوارع. وأُرسلت فاتورتُه إلى الخشبةِ التي صُلِبَ عليها أُستاذي.

 يا خالقَ النار، اجْعَلْني ناراً لا تنطفئ على مراكب الغزاة. ذلكَ الرَّماديُّ تاجُ الحاكمةِ يشربُ مساءً بالنعنعِ وأدمعي، ويأكلُ خريفَ المياه الصاعق. إن قُنفذاً رَفع دعوةً على محاكم الرَّمد لأنها مَنَعَتْه من تطليقِ زوجته.

 مثانةُ البكاءِ مزهريةُ الموتى يسكنون فيَّ، لأن ركوبَ سيارةٍ فخمةٍ لا يجعل الأنثى تجد أنوثتها. لأن مدينةَ البندقية ليست بمأمن من الاحتراقِ. لأن زعيمَ الجنون ليس بمأمن من الاغتيالِ. لأن السجينَ ليس بمأمن من القَتلة. لأن أزهارَ حدائقِ القصرِ ليست بمأمن من الذُّبول.

 كأن الكآبة مستشفى للقلوب المسعورة في الطابقِ الثاني من المحكمة. تكتبني أغنيةٌ بعنوان " كيف تتخلصُ من القلقِ في الليلةِ الأولى من السجنِ المؤبَّدِ؟ ". حَبلُ مشنقةٍ واحدٌ يلتفُّ على رقبتَيْن في القوقاز: تلك الشركسية ودمعتي. وكان أذانُ المغربِ ينطلقُ بينما كنتُ في ثياب الإعدامِ. كَمْ وَدِدْتُ عندها لو صَلَّيْتُ المغربَ قبل تنفيذ ذلك الحكم.

 كانت العرباتُ تجرُّ جدائلَ الباندا، والنجماتُ تُصَفِّقُ كالنباتِ الأطرشِ في بكائياتِ العُقبان المدجَّنة. هذا أوان مقتلي، وابتسمت الصواعقُ. صمتُ المهرجاناتِ الصاخب يلفُّ الموقعَ الزُّمردي. تقتبسُ سِحْنتي معناها من الرَّبيع المتدفق في الخريف. وعندما أَدْخُلُه آخذ فؤادي معي ولا أتركه على السُّور الخارجي. زهرٌ أبرصُ ذاك الذي خان أدغالَه الليلكية، وهي أيضاً خَانَتْه يومَ تَسَلَّمَتْ راتبَها من مُغْتَصِبِها. انخفضت معنوياتُ مقاصلي حينما أخبرتني تعرجاتُ قزحيتي بأنني شخصٌ غيرُ مرغوبٍ فيه في مكانِ الزَّمان. كأنَّ الأكشاكَ سجينٌ يخطبُ ابنةَ سَجَّانه.

 للصخورِ القرمزية انتقامُ الفضةِ. لا تنتقمي مني، فأنا أُحبكِ. اسْتُري أجزائي بمعاصر زيتونٍ تبخَّرت من مُحَيَّايَ. كُلَّ مساءٍ أركضُ في ذرَّاتي فخوراً بموعدٍ يجمعني مع وجهي خارجَ نفوذِ المرايا الأجنبية. وفي طريقي إلى صلاةِ الفجرِ وجدتُ اسْمي.

 سيظل حَيُّ سان أنطوان بائساً على عتبة قاعة الرقصِ الفخاري يرقبُ ماري أنطوانيت. رائحةُ عَرَقِ الإناث تملأ الدَّيْرَ وقاعةَ الرقصِ. جَلادون محنَّطون في اشتياق عشيقاتهم. حضارةُ الشعوذةِ مدرسةُ بناتٍ أم معرضٌ لأزياء القتيلات؟، ويستمر عرضُ الأزياء في موناكو حتى ساعة متأخرة من عروقِ الثَّكالى الباكياتِ. التثاؤبُ الإسفلتي، وقائدُ جيوشِ الفراغِ المصابُ بالشذوذِ الجنسيِّ. وتجوبُ الرأسُ المقطوعةُ فِرَاءَ المجاعاتِ. خوفُ الصنوبرِ من عُزلته.

 وما زالت محاكمُ التفتيشِ تقذفُني في رُكامِ القيودِ، فتأتي المنبوذاتُ ويخلعن رموشي، ويسحقنها كالقصورِ الرملية ليصنعن منها كُحلاً للعرائسِ أمام الكاهن. للأنثى بنتٌ تقبرُ وجهَها في مرآةِ سيارتها الفارهة، وتنهار خلف المقودِ مبتسمة.

 إن القمرَ يسيلُ على الثيابِ المجعَّدة. هي جروحي مهدُ الليلكِ ولحدُه أو أرقُ الطوبِ. عيناي تُجَدِّفان في عجينِ الأرضِ. كان سائقُ السيارةِ تشغله القيادةُ عن ملاحظة صَلْبي على حنينِ الغابة. والفلاحُ يشغله انتظارُ المحصولِ عن رؤيةِ لحظة نمو النباتِ. نَلعبُ الغولفَ في حُفَرِ المجاري. وعلى الرغم من أن الشلالاتِ تتناولُ حبوبَ منع الحملِ إلا أنها حَمَلَتْ بجنين الثورة.

 سار الرَّكبُ، والحادي يرثي الإبلَ القتيلةَ، يفتشُ عنها فلا يجد سوى آثار أقدامها على رمالِ الصَّهيل. خرج كُلُّ درب ابتلعَ أطيافَنا، وتَصَاعَدَ من أجداثنا. اختناقَ النَّارِ الذي يسبقُ التأجج كان الطريقُ. قضينا حياتَنا والسَّجانُ يفكر نيابةً عنا، ويتخذ القراراتِ باسْمنا ونحن آخر مَن يعلم. يَفتحون السِّجنَ للشُّموس الحامضة بعد تنظيفه من آثارِ الدماء والصَّرخاتِ والجثثِ الملغاة. والمشرَّدون يفكرون في الأماكن المناسبة للتَّسَوُّلِ. لو تزوجَ المشرَّدُ ابنةَ عَمِّه فسيحافظان على انكماشِ الملاجئ الموحلة، والخِيامِ المتطايرة، وصفاراتِ الإنذار في حرب داحس والغبراء. نوعيةُ القماشِ الذي تُفَصِّلُ منه ابنةُ زعيم القبيلةِ ثوبَ العُرس، يختلف عن نوعية قماشِ الظهيرة. لكننا سَنُبْعَثُ عُرَاةً. لقد نَشَرْنا إناثَنا على حبال الغسيلِ.

تحويلُ أعظمي إلى قضبانِ معسكرات اعتقال. والعَسَسُ ينتشرون في أبجدية التِّين. والأصنامُ منصوبةٌ في الميادين العامةِ.والشعبُ يُباع على السجاد الأحمر في المطاراتِ.

 الآنَ وليس الآن، أغيبُ في مداراتِ الزُّرْقَةِ في عينيكِ العاريتين من الكحل والدهاليز الضيقة. نعم أنتِ يا مقصلتي. يُعجبني فيكِ أنكِ متوهِّجةٌ وحادة. سوف تقضي عليَّ في أجزاء من الثانية. إن هربتِ مني فسوف أواجهكِ، أينما كنتُ. فأنتِ تتواجدين أينما وُجِدْتُ. أنتِ المؤنَّثُ خارج زيتِ عباراتِ الأسى. قد تقرئين هذا الكلام بعد أن تَفْصِلي مُرَكَّباتي. علاقتُنا وطيدةٌ، وليست استنزافاً.

 أيها الرعدُ، خُذ عنوانَ مجزرتي، وتَذَكَّر المقتولين في شوارع الديمقراطية قرب جمعيات حقوق الحيوان. لا تَعْجَبْ. إن المقصلةَ هي المؤنَّث الوحيد الذي أتغزلُ به. فيها جاذبيةٌ تشدُّني وَتَرُجُّني. كان بيتُ أهلها الذين مُسِحُوا في المذبحة مقابل بَيْتنا الذي مُسِحَ في المذبحة، لذلك نشأنا في أحضانِ بعضنا قريباً من المجازرِ والشواطئِ المتجهِّمةِ في وَجْهَيْنا المبتسمةِ للغرباء.

 يوماً ما نَظَّفْتُهَا، ودفنتُها في الألمنيوم لعله يحميها من الصدأ. ولم أتوقعْ أن تظهرَ من جديد. يومَ لقائنا وَضَعْنا نفسَ العطر بدون اتفاق مُسبقٍ. تَبَادَلْنا ذكرياتِ أهلنا الميِّتين.وقالت لي ضاحكةً:((لم يبقَ إلا أن أقتلكَ، أُحِبُّ الذكرياتِ لكني أُعْدِمها)). ما زلتُ أذكرُ ضحكتها وأسنانها البيضاء. طلبتْ مني أن أُسامحَها عندما تقتلني، فهي _ كما قالت لي _ قطعة حديد لا أكثر ولا أقل. غادرتُ بقعة الوقتِ، وقد نسيتُ أن أسألها إن كانت ستبكي عليَّ أم لا. وعندما تجدد لقاؤنا في عصر هولاكو، وأحسستُ بها ستهوي عليَّ. نظرتُ إليها فرأيتُ في يَدَيْها وشمَ حِنَّاءٍ.

 الأطفالُ يَبْكون، والأمهاتُ مشغولات بقراءة كتب فن الطبخ. إنني أموتُ ليعيشَ البرقُ في جِلدي. أكرهُ الحشائش المنتحرةَ، لكن البراعم الخائنةَ تنتحرُ كُلَّ ثانية رغماً عنها. أذكرُ بداياتي لكنني أنتهي. تتكدسُ أعمدةُ الضباب في فُتاتي حتى تصيرَ مدينةً أثرية مطمورة تنتظرُ مَن يكتشفها.

 أبناءَ جِلْدتي، لا تبيعوا قزحيةَ عَيْني بعد مرور جنازير الدبابات عليَّ. لا تذبحوني مرَّتين، فأنتم الذين فتحتم أبوابَ عاصمتي لجيوشِ الرُّومِ، وأَسْكَنْتُم في خِيامي حَيَّاتِ الليالي. أُقْتَلُ في الزاوية شريداً منبوذاً مُطارَداً، عند إبريقِ الوضوءِ وفِراشي ومخدتي المقطَّعة. نقتصدُ في استهلاكِ دموعِنا كي تكفيَ حتى نهايةِ الشهرِ. وإن افتخرت الصَّحراءُ بِرُجولة السَّراب، فافتخري أُمِّي بابنكِ الثائر المشنوقِ في سراديب المجموعة الشمسية، والذي رُميت أحداقُه على فوهاتِ الغدِ، وطاولاتِ المطاعم الرومانسية، وثيابِ المراهِقات من المحلات الأجنبيةِ.

«أبي، أين تأخذني؟» كانت الحيرةُ تضربُ بشدةٍ حبالَ غمدٍ باحثٍ عن سيفٍ يتأرجح بين شفتيها. إنها صغيرةٌ جداً، لم تأخذ من بيئتها سوى وأدها. كانت تكبرُ شيئاً فشيئاً، وتلعب في فناء الدارِ. حملها أبوها في ظهيرةٍ غَلَّفَها زئبقٌ سَامٌّ ينسلخُ من واجهات المرمر في ضريح لا يُعرَف صاحبُه.

 خَبَت الفيافي. انطفأ المطرُ. أحطابٌ من سُلالةِ أشجار نقية. بَشَرٌ في الأسواقِ يبيعون صمتَهم، ويَتَّحِدُون بالضوضاء. وعلى الضفاف البعيدة كحياة القتيلاتِ، نبع رملٌ أخرسُ يَسْكُنها. كَرَّرتْ سؤالها: «أبي، أين تأخذني؟» لم يُجِب.

 راحت عجلاتُ التزلج تتساقطُ في جبالِ الألبِ. صحاري تخلعُ معاطفَها، وتضعها على شَمَّاعةِ الذل. شموعٌ تعلن استقلالها في عيد احتلالها. أيتها الأنثى المنذورةُ للوأد، المنحوتةُ على الخزف الأثري في مائدةِ قِمَارٍ لإناثِ كلابِ بناتِ القياصرة. يا قتيلةً ممدَّدةً على كل خيانات الحضارات المسعورةِ. أنتِ وَحشةُ الطريق تُسحَقِين لِوَحْدَكِ تموتين، والبارونةُ تكتبُ رسائلَ لعشيقها وزوجها نائمٌ في حضنها.

 انزوى والدُها في القطب المتجمد الصحراوي في نزيفها. حَفَرَ حُفرةً في حِبر نَسِيَه الليلكُ على أسماك السَّردين. كأن الذراتِ الرملية تستنزفُ أو تمصُّ رحيقَ عِظام الأنثى تدريجياً.

 أنا المقاتِلُ الوحيدُ المتروك لمواجهة الإغريقِ، وتماسيحِ الأمازون، وحيداً، تخلَّت عني القبائلُ الكِلْسية. أُناظِرُ أرسطو وأُفحِمُه على جسر ذابلٍ من الورد الصناعي، لكن أثينا ترجُمني بالطوبِ تعصباً لفيلسوفها. ولم أجد بلاداً تحضنني. كُنْ يا مَوْتي الشرارةَ التي تُشعِلُ تفاحاتِ أدمعي.

 حياتي محصورة: من المشنقة إلى البيتِ ومن البيتِ إلى المشنقةِ. وربما ألعبُ كرةَ السَّلة قبلَ بكائي. الطبيبُ النفسيُ للإمبراطورة. وشركسيةٌ لا أستحق أن أكونَ زوجها. ومُحْسِنٌ يتكفلُ بنفقاتِ إعدادِ جنازتي. أنا الحافي، ولستُ بِشْرَ الحافي. وذراتُ الإسفلتِ شوكُ فِرَاقٍ عاصفٍ. أنا الثائرُ الذي سلخني أهلُ الكوفة وبَكَوْا عليَّ أمام وسائل الإعلام لأصيرَ سَبُّورةً تكتبُ عليها المراهقاتُ قواعدَ اللغةِ الأموية.

 أنا والقططُ المنبوذةُ جائعون نُفَتِّشُ في المزابلِ عن قطع اللحم والأَرُزِّ التي رُمِيَت بعد الحفلاتِ. إن كان لا بد من أن تأكل الطيورُ جِيفتي فلتأكلها العُقبانُ لا الغِربانُ. كُنْ مُتكرراً كالأطباء النَّفْسِيِّين الذين يُعالجون رصيفَ الميناء في الدُّول المجنونة.

 يا رائحةَ ثيابِ الممرِّضين في مختبراتِ التجاربِ. وبناتُ العائلات الأرستقراطيةِ في مراقص فِيينا يُبَدِّلْنَ أقنعتهن وكلابهن وعشاقهن وسياراتهن وملابسهن الداخلية، بينما جارُنا الأعزب لا يملك حبلَ غسيل.

 يتيماً منبوذاً أنتشلُ حضاراتِ البرقوقِ من غيبوبة الاكتئابِ. واليونانياتُ يتم جَزُّ أجسامهن في حظائرِ الخنازيرِ. زُجاجاتُ ويسكي في طرقاتِنا المرعوبةِ المتلاشيةِ مختومةٌ باستغراب الإناثِ المسحوقاتِ مثل جِرار الأعرابياتِ الخارجاتِ من غُرف النومِ إلى الفيديو كليب. وقَتَلةُ الحسين يُعَلِّمونا كيفية البكاء على الحسين.

 كاستهلاكِ أجسادِ الراقصاتِ الراجعات من المشرحةِ. كمضاداتِ الاكتئابِ التي تتناولها الزوجاتُ الإيطالياتُ اللواتي اكتشفنَ خياناتٍ زوجيةً جديدة. كالحزن المصطنَع على ملامح حَفَّارات الخوخ العائداتِ من دفاتر ملاحظاتهن مُتَسَرْبلاتٍ بالجراد، كانت حضارةُ الغُزاةِ.

 وقتٌ ضائعٌ للتماسيحِ القادمة من أسمال الجنونِ. جذورُ السَّرْوِ تُخفي وراء ابتسامتها حقولَ مأساةٍ. وابتسامةُ يمامةٍ تُخفي في تشتتها مجراتِ قحطٍ. ولكن المرأةَ الساقطة لم تُجَرِّبْ شعورَ الثائر الممنوع من دخولِ ثلاثين بلداً، والمحكوم عليه بالإعدامِ في خمسين بلداً.

 ما الفرقُ بين مدافن العائلة الإمبراطورية ومدافنِ اللصوصِ؟. أُحِبُّ البحيرةَ لأنها تُشبه قلادةَ أُمِّي. كيف سيعيشُ الضبابُ الإنجليزي الآنَ وقد فقد الثقةَ بزوجته وطبيبه النفسي؟. رُوحي مُشقَّقة تتشبثُ بأستارِ الكعبةِ. كلما اقتربتُ من جُروحي ابتعدتُ عن نزيفي. والقادةُ يرفعون على انكسارِ جُندهم راياتِ دُوَيْلاتهم المضمحلة. هل أذهبُ إلى عَظْمي أم أنتظرُ عظمي يأتيني؟. ضابطُ مخابراتٍ شابٌّ يأخذ إجازة كي يتزوج شريكةَ انتحاره. أصعدُ على أنقاضي وأبتسمُ لكيلا تظن الشلالات أنها هَزَمَتْنِي. إِرْثُ اللهيبِ لا يجد من يأخذُه. تندثرُ خطواتُ الماسِ في قلعةٍ يطل عليها بحرُ روحي. أُحَرِّرُ الإنسانَ من نفسه. أنا وعينُ الماءِ انكسرنا وصَعَدْنا من موتنا المؤقَّت. إنني خارجُ دائرة الآباءِ، وهي خارجة دائرة الأمهات.

 كانت آفاقُ البراعم مَداريةً. تزرعُنا فنحصدُها، وتجمعُنا فنفرِّقها. فِيَلةٌ في الأقفاصِ تنتظرُ مصيرها المحتومَ، إنها ذُبِحَتْ من أجلِ العاجِ. والناس سائرون في مواكبِ خُلفاءِ التَّوحشِ، يمسكون أفئدتهم الخالية أوتاراً على رَبابة الاستجداءِ. كانوا يَسْلخون من عيونهم بريقَ السُّيوفِ لكي يهربوا من المعركة فيحصدوا أوسمةَ الفراغ.

 ماءٌ يُنَظِّفُ رِجْلَيْه بالنارِ. أنثى تبتسمُ لذابحِها. خرج الفلاحون بصدورهم العاريةِ يتصدون للجرادِ. إن بيوتنا أفلاكٌ تدورُ فينا وندورُ فيها. وبيوتُنا نتركها للخرابِ ونرحلُ. نحرسُ أموالَنا ليأتيَ ورثتُنا يتقاتلون على اقتسامها. نحن راكضون في حُطامِ أجسادنا المتحلِّلة. اقْتَطَعْنا جزءاً من أعصابنا، وألصقناه بكل لمعانِ العتمة الوحشي.

 شواطئُ ترتعشُ من منظر المراكب المكسَّرةِ. والبَحَّارةُ يتمدَّدون في الهدوءِ الذي يسبق الصُّراخَ. مَشَيْنا فإذا الطباشيرُ الراسخة في غضاريفِنا تستهزئ بنا. الذابحُ والمذبوح يمشيان جنباً إلى جنب، ولا أقواسُ نصرٍ تعلونا. بدأت أتداخلُ في النَّشيجِ مع هواجس المحاكمة وشكلِ قاعة المحكمة.

 ربما يحتل السقفَ ثُرَيَّاتٌ فخمةٌ مُعفاةٌ من الجمارك. قد يتواجد القفصُ في إحدى الزوايا. أتخيَّله مَطْلياً بمادة مضادة للصدأ، مُحاطاً بمخبِرين يفكرون في الجنسِ الذي تعدُّه زوجاتُهم الساذجات. والقُضاةُ يرتدون زِيَّاً مُوَحَّداً تم تفصيلُه حسب رؤيةِ رجالِ الأمن. وحضورٌ لا يَدْرون ما الموضوعُ. والهلعُ يقضمُ آخرَ الديدان الباحثة عن طفولتها.

 ذهب الذين كانوا يبكون عليَّ: ((أُمِّي وجارتُنا العجوزُ وساعةُ يدي ومعادلاتُ الرياضيات واللحدُ الختامي المتوِّج لحياةٍ حافلةٍ في مختبرات تجريب السموم على أجسادنا الغضة، وأشياء أخرى)). كلما أحببتُ امرأةً انسحبتُ من خريطةِ أطيافي وابتعدتُ عنها. تتزلج الشاباتُ الألمانيات على بَنادق الدَّانوبِ، والصرخةُ تتزلج في قُرحة معدتي مثل المحارِبين الذين يكتبون رسائل لخطيباتهم.

 الليالي سارت. فأيُّ لونٍ سينبجسُ من مضاربِ قبائلِ العنبِ؟. والزوابعُ تتثاءبُ على سطوحِ خَيْماتِ السَّبايا. ولم يكن في استقبالي في كل مطاراتِ العالَمِ غيرُ صُداعي الذي يُلطِّخُ زُجاجَ غرف الانتظار.تَخْلُطُ المشاعرُ السجاجيدَ بالغموضِ في غرفة التوقيفِ، وعقاربُ السَّاعةِ سِياطٌ تهوي على أطلال أهزوجةِ الأغرابِ. عيونٌ متتابعةٌ قافلةٌ تموتُ على أعتاب الخبز جائعةً.

 سأبكي حتى أتلاشى في مصابيح الثريا في السقفِ. أتداخلُ مع أكفاني. وقَنْدهارُ تُكَفِّنني برموش ذكرياتها. لأني أَعشقكِ يا قُرطبةَ دمائي، أطلبُ مِنْكِ أن ترحلي عن مدائنِ نزيفي وعينيَّ السائرتَيْن على خَدَّيْكِ.

 تسطعُ الرِّيحُ في آخر أيامِ حياتها آخرَ سُطوعٍ. يقطرُ البارودُ ضوءاً جسراً ينمو على الأشلاءِ القديمةِ. وشمٌ آيلٌ للذوبان في يَد المجاعة. شموعُ الظهيرةِ تُبَخِّرُ دماءَ السناجبِ المنبوذةِ.

 ارتعشتُ ازددتُ ثقةً بجرحي فقدتُ طَعْمَ الشَّاي الأخضر في حُمرة دمائي. كانت أدغالاً من الانفعالات المكبوتة خاليةً من سُكَّانها الدُّمى. إنها لحظات أنتظرُ فيها قدومَ قَتَلَتِي الأنيقين. رأيتُ أبي وأمي مصلوبَيْن على ذَرَّاتِ الهيدروجين. وأخبرني البرقُ أن هناكَ ضفدعةً تضع خطةً لانقلابٍ عسكري.

 الزنازينُ الإلكترونية، حيث يتم تعذيب السجناءِ بحقنهم بفيروسات الكمبيوتر، وقتلهم بواسطة البريد الإلكتروني. مزهريةٌ الأطيافُ الآسرةُ، والعَوْسجُ يغدرُ بي. كأنني زعفرانُ العذاباتِ، والهديلُ ينبثقُ من أزيزِ الطائراتِ. أمسى حاضري يُلغيني، لكني سأَنزلُ إلى قاع شبكيةِ عيني أستأصلُ خيوطَ الصهيلِ من خشبِ طاولات المنافي. إنها الملاجئُ، فهل النسيانُ في دمائي لأتأكدَ أنه لن يسيلَ على زجاج نظارتي غير الطبية وأنا في عيادة طبيب الأسنان أُرَتِّبُ انقلاباً عسكرياً في البحيرات؟.

 أَفْرِجوا عن سريري في المستشفى ولو لساعةٍ. أشتهي النظرَ إلى نظارتي وهي تتكسرُ على رُتَب عساكر الانطفاء، رافضةً كل أجزاء الصولجان التي تُكنِّسني وتصعقني بأوديةِ الحنين إلى صهر الرصاصةِ الهمجية التي اخترقت أظافرَ تحتوي على شِعابِ الجبالِ.والارتعاشةُ منديلٌ لِعَرَقِ السُّعالِ.زِندي_المنشقُّ عن حكومةِ فؤادي_ معملُ صَكِّ العُملةِ التي تحملُ صورةَ الرئيسِ المخلوعِ.

 إنني البراعمُ المحترقةُ لكي أُشرِقَ في زنبقاتِ الإعصارِ. نَزْفي المعلَّبُ أدغالُ المساء الجارح. مستودعُ الموتى على أراجيح رِمْشي. طابورُ العذارى أمام نافذة احتضار عُرسِ الجراحاتِ. قُرصِ الفلافلِ في أضلاع الحزانى يمدُّ عُنقَه وشماً للرَّجفة. ولم تَسْلم جثثُ الخادماتِ في برلين من التحرشِ الجنسي. وزوجاتُ أصحابِ مصانعِ السيارات يُنفقن على وجوههن المنكسرةِ آلافَ مساحيق التجميلِ تكفي لغسل مذابح اغتصاب الكاثوليكياتِ في رواندا. أنا الوحيدُ الذي يتذكر مأساةَ أنوثة الشجرات في هذا المدى الهاجسِ الياقوتي المزيَّفِ النازفِ شظايا العابرِ صرخاتٍ المتوقفِ تابوتاً النائمِ حَربةً على عُنقِ حَجَرٍ صاعدٍ من بُلعومِ ليمونةٍ ذبيحةٍ في أقاصي الغابة المخفية بين تفاصيل مَرضي.

 أيها العالَمُ الذي يَعْدو في مضمارِ حُقَنِ الجراثيمِ، إنكم بعوضةُ الصرخةِ، شكلٌ جديدٌ بدون شكلٍ على خرائط منقوعةٍ في حوضِ سمكٍ مُلوَّث. لم تستفيدوا من الإدريسيِّ في بناء الخرائطِ، لأن مدافعَكم خرائطُكم، وهاجسَكم أغشيةُ بكارةٍ متآكلةٌ جاءت من العابرات في أزقة الطاعون الضيقةِ، حيث تُقيم سلالُ القمامةِ نظاماً ديمقراطياً لا ينقصه إلا شعبٌ تافهٌ، ونجماتُ سينما متنقلات بين المراحيضِ وشاشاتِ الفضائياتِ.

 مراوحُ تستنشقُ قِطعَ الحزنِ في السُّقوفِ، وتُغطِّي إغفاءةَ الجريحات على الرُّفوفِ. تسكنُ المراهِقاتُ في الذكرياتِ، وتمتطي المزروعاتُ قلادةَ الأمطارِ. وفي الشتاءِ ضَيَّعْنا جُرْحَنا الأولَ فَقَتَلْنَا حُبَّنا الأول ثم شَيَّدْنا قبرَنا الأول. إنها أوصالي زهرةُ الجوعِ في حُفر المجاري. قد يرميني العسكرُ قمصاناً على حافة برميل البارود، فيأتي عمالُ النظافةِ النشيطون، وَيُكَنِّسونني دون انتباه. إنهم يُحدِّدون سِعْرَ رُفاتي وفق سِعْر بِرميل النفط الخام.

 لي رياضياتٌ صاعدة من أعواد المشانق ليس فيها الخوارزمي أو فيثاغورس. رياضياتٌ تنبعُ أرقامُها من كرياتِ دمي السجينة والمرقَّمة تصاعدياً. لي فيزياء خارجةٌ عن تفكير الحسن بن الهيثم ونيوتن، حساباتُها تنبعُ من عدد مراتِ بَيْعي في سوقِ الخضراواتِ. حَفلةُ تنصيبي مَلِكاً على السجناءِ المشنوقين. مَن سيطفو أولاً على طاولةِ النهرِ: بُقعُ النفطِ البشرية أم كستناءُ الظِّل الأسير؟. مَن سيتذكر حطامَ النسيانِ في هذا الأفقِ الاحتفالي؟. ضلوعي فتحاتُ التهويةِ في الملاجئ والمنفى المتأرجحِ بين العيون المتوحشةِ والمسدَّساتِ.

 كُنَّا للمجاعةِ وقودَ نظراتٍ عابرةٍ. صِرْنا نظراتٍ عابرةً يومَ خَسِرْنا أعشاشَ الديناميت المستوطنة في أسوارِنا. وهجمت أوردتي عليَّ تُمزِّقني تُفجِّرني حتى أتخذَ من براعم المنفى مرايا تعكسني. أمدُّ يَدَ العَوْن للدماءِ المتجمِّدة على الأحجار.

 للبراري إصرارُ الريح في الذكرياتِ، وجنونُ الغبارِ في الأمنياتِ. يا ليلاً مَرَّ على كل الحواجز الأمنية دون أن يُصاب بطلقةٍ أو مَوْجةٍ، كيف اخترقتَ حاجِبَي الهدوءِ ومررتَ عندما توقفتَ عندي في القرى المطمورة تحت أحداقي؟. للنوارسِ عصفورٌ يرصدُها. للأسى جانبٌ من البحر والفرح. هذه القنابلُ أعضاء خرساء في محكمةِ الهلعِ. هل ستنصبُ خِيامُ النُّمورِ إغراءَ عُود المشنقة في سُعالي أم في الناحية الأخرى من قفصي الصدري؟. إنني أزرعُ القمحَ في حُنجرة الشَّعير.

 مكانٌ للزمن الذاهبِ. اجتمع الحطابون مبكراً في إشراقات السنابل المنحنية على بقايايَ. أعودُ إلى حبيبتي الرياح هذا المساءَ الذي يعطسُ فينتشلني من أخشابِ سُباتي. بقايا الحب في رُفاتي. زمنٌ للمكان الهاربِ في تقاطعات أوعيتي الدموية. لم أكترث بنزيفي الهادر فوق روابي الخيولِ، لأن دمَ الفضةِ أكثرُ صَفاءً من دمِ الشموسِ. إن وجهي قنديلٌ على حائطِ المعركةِ، والحَرْبةُ عَروسي.

 سأرجعُ من طريقِ النَّملِ في ممالكِ المدى. لِسِحْنتي مملكةٌ ليست للصدى. وليس لي وجهٌ آخر سوى حقلٍ يَجُرُّ مقطورةَ دمعي سوى غيمٍ يستمع لأناشيدي سوى أُمٍّ وَقَّعتْ على أوراقِ استلام جُثماني.

 يا عَرباتٍ تَسحبُ خصلاتِ شَعْري المفكَّكة كَزِنْدي الآيل للانفجار. يَتجمَّع حَوْلَه خُبراءُ المتفجراتِ. قلبي المفتوحُ للأطفال الذين عُلِّقُوا على كُراسةِ الجريمة في بغداد. أدواتُ قتلنا تشتغل طوال اليوم. ألم تتعب السيوفُ من مُلاحقتنا في أبراج عصيرِ الدمِ وحدائقِ الجماجم؟.

 تقطفُ المقاصلُ الرومانسيةُ برتقالاً لا هويةَ له سوايَ. البرتقالُ واجهةُ الرمال عند لحظة الاندثار. وكانت البراعمُ تصطاد عيونَ التماسيح في مياهٍ ملوَّثةٍ بالأجساد المتحلِّلة. يا وجوهَ الغُزاةِ المتكلِّسة فوق أحجار الشفاه اللاهثةِ في الاستجداءِ. يا حروفَ المرعى المتحجرةَ فوق أشعة الزَّيْزفون الخشبيةِ. لِمَن صوتُ البراري الغارقة في نشوةِ الغسقِ؟.

 العصافيرُ تتجمدُ في صقيع زفيري. وُلِدُوا وفي أفواههم ملاعقُ من ذهبٍ، وَوُلِدْتُ وَعُودُ المشنقة في استقبالي فَرِحاً بقدومي. احتفالاتُ مَصْرعي تتخلَّلها إعلاناتٌ لِصَلْصة الطماطم الكِلْسية.

 ما أبطأَ الأحصنةَ العجوزةَ المتجمعة في الشفاه القرمزية والمياهِ الجوفية والتفرقةِ العنصرية!. أيها الوهمُ، كم عددُ ضحاياكَ؟. أَفْصِحْ عن جنونكَ كي أراكَ. وكان دمي على رأسي طُعماً لطيور البحر رغماً عني. أُجَرِّدُ ظِلِّي من اسمه لئلا تتعرفَ على وجه الحمَامةِ ألقابُ الوشقِ. وكان جُرحي أجمل ما يكون في معركةِ الهديل. الموزُ المقاتِلُ في أُفقي، والشعيرُ المتمرد على بيادرِ الديناميتِ. مَن يذكرُ الراعي المقتولَ مع خِرافه في نزاع زعماءِ القبائلِ؟. أنا والسدودُ ضَحِيَّتا النزاع بين عائلات القرميد المتحارِبة.

 الجروحُ الذهبيةُ تحت إضاءةِ دمعاتٍ ليستْ من الزِّنك. أُهزوجةٌ على فَرَسِ الثورةِ. الدُّخَّانُ المهرَّبُ، والبلدةُ المهرَّبة في علب صياح الورودِ. هيجانُ جرثومة يتكئُ على قشرةِ موزٍ. أُعطي للفَرَاشِ مدى سُعالي، فيرتكزُ المطرُ على عصاي. ضفدعةٌ تَستعملُ مُزيلَ العَرَقِ أمام ضيفاتها الصاعداتِ إلى برقوقِ الصَّلْبِ. ساعاتُ الانتظار قرب حواجبِ زوجات القادةِ المهزومين. البارونةُ تُكْمِلُ رقصتَها. نزيفُ شعوبٍ أخضرُ كالقَيْح الملوَّن في أعصابِ غريباتٍ ينتظرنَ آباءَهُنَّ لكي يأتوا من حُلْمِ الهوس المفقودِ بعد الإعصار في زلازل رئاتِ القنال الإنجليزي.

 وفي أواخر الصيفِ المجروحِ ضَيَّعْتُ حُبِّي الأولَ، وتزوجتُ انكساري، فَوُلِدْتُ في التحدي الماحي. خِزَاناتُ العاصفةِ في الغضبِ. أنابيبُ جراحاتٍ في الخشبِ. رعشاتٌ تعتقلُ رقمَ هاتفِ الحطبِ. زوجاتُ المساجين يُلقى بهنَّ في صناديقِ العفنِ. أَربطُ طَيْفي بحبالٍ من روائحِ الفضةِ لئلا يقفزَ على خصرِ دجاجةٍ استعارتْ ممحاةً من تلميذةٍ جاهزةٍ للوأدِ. رنينُ الجرح في الخريفِ القريبِ. طَوَّقت الخلجانُ الحديديةُ لمعانَ عيونِ البومِ، فلم يتدخل القمرُ في شؤون الإسطبلاتِ. سحبتُ كاملَ رصيدي من الأنين.

 للقمحِ أولادٌ يزورون ياقوتَ البحيراتِ الأفقيةِ. في تلكَ الساعةِ سينزفُ المستنقعُ خدودَ ثعالبَ مُتورِّدةً خجلاً من عُرْيِ القتلى. اصرخي صومعةَ البهارات المنطفئةَ اختناقاً في غيرِ أشرعتي. ارحلي من عُكَّاز النبع إلى أوديةٍ تعشقُ اجتياحي. أتلمسُ حيطانَ الجامعِ. أُوَزِّعُ أوردتي الجافةَ في الطوبِ. أكتشفُ عُمُري في توهجات المحرابِ. لم أكن أسكنُ ظِلِّي يومَ تَرَكَتْني آنستي الصحراءُ للذبحِ. أَنْفُ النار يخرجُ من ثوبه لاستقبالِ الضيوفِ الأسرى. تكتبُ أبوابُ ظلال السيوفِ دمَها على سَبُّورةِ الصباح بدمٍ باردٍ. كأن تلالاً تمتطي سَنامَ مذبحٍ يتدربُ على ممارسةِ الشطرنجِ مع ألمي. وتُطْلِقُ القبائلُ الأعيرةَ النارية ابتهاجاً بأنباءِ مصرعي.

 أقدامُ الرَّحيلِ. والخطى الترابيةُ تذوبُ في خُضرةِ ظِلِّ الظل. وحينما طَرَدَتْني القبيلةُ من اسمها، لم أجد غير غاباتي أنامُ معها في بئرِ الدمع. ينقلون أصفادي على ظهري. ما جنسيةُ الأدغالِ السائرةِ تحت لسان بَغْلتي؟. ماذا فَعلتْ حقيبتي حتى يَلُفُّوها بمعدةِ دمعةٍ رماديةٍ اختلطتْ بِكُحْلِ البراري؟. استقالةُ الحجَرِ في جَيْبِ مِعْطفه. لُمَّنِي وغَطِّنِي بالمزارع حين تُقَبِّلُ الكوليرا وجهَ الزَّهرةِ.

 أنسحبُ من حياةِ الميناءِ. أقتربُ من حُفرتي. أبتعدُ عن حياتي. للفرحِ المهتزِّ على سلالمِ الغضبِ مَشْيُ البرقوقِ إلى الغروبِ، تَهَيُّجُ الهضابِ المختبئةِ من الحربِ في بذورِ تفاحةٍ لم تنضجْ إلا على هَرَمٍ من تصريحات الجزْرِ.

 وَقَدِمَ الطوفانُ. يَتَّسعُ المكانُ لغَيْري، وتتسعُ القِشرةُ في شَعْرِ السِّياج الأمني. كُلُّ دَمٍ عانقَ النباتاتِ المتسلقةَ على تنورةِ المعتقَلِ دمي. ولكنَّ وجهي ليس معي. إنه مدى الصُّبْحِ يُقاتِلُ في جبهةٍ ما. لم يكتفوا بتقطيعي، بل أرادوني مُحَنَّطاً في المتحفِ جسداً مفكَّكاً إلى مقطورات تَسحبُ حُلْمَ زُرقة الحلْم إلى المجهولِ كي تزيدَ عِظامي من الدَّخلِ القَوْمي.

 جِلْدي مفتوحٌ لكل احتمالات المطرِ. رَنَّةُ العَرْش وهي تشقُّ أمواجَ الهواء. موسيقى صاخبةٌ مجنونةٌ تتبخترُ على شظايانا في أدغالِ النظراتِ المتجمدة. وجوهٌ تذبلُ تجف فتسقطُ عن شجرةِ حاضرها. نرتدي وجوهَ الموتى كي نُخفيَ عجزنا الجنسيَّ أمام نسائنا، ثم نذهب إلى عملنا في الصباح كأن شيئاً لم يحدث، كأن سهماً لم ينطلق من مستودع خَدِّي، كأن الصحاري لم تعطشْ إلا لتغرقني. كانت جروحي القافلةَ، فصارت الطريقَ يوم اكتشفتُ نباتَ الصَّبار يُراود قلبي عن نفسه. دمعي أقل ضجيجاً رغم أنه يرنُّ حينما يَسقطُ على صفائح صدأ أقفاصي. نِسْوةٌ لا يعرفنَ من الحياة سوى إنجاب الذُّكور، وآباءٌ يمارسون مهنتهم في كراهية إنجاب الإناث.

 أيها اليَنبوعُ المتمردُ في قزحيتي، خُذ فرشاةَ أسناني، وأبقِ أسناني أمضغُ بها البلحَ لأطفالي القتلى. قد أستطيعُ النومَ وسبعون ألفاً من الجنودِ يُحاصرونني، لكنني لا أقدرُ على النوم وضِرْسي يؤلمني. قمةُ مدخنةِ مغارتي تقابلُ القمةَ الجليدية في مملكة نشيدي. تخرجتُ من مدرسةِ نزيفي. كُلُّ الخفافيشِ سَلَّمَتْنِي لشرطيِّ المذبحِ لنيل رضاه المجاني. للحَجَرِ المصقولِ دَرَجُ المذبح، وأنا أَتوزعُ بين الأمطار الخالية من أحاسيسِ المجرةِ. خُذ ورقةً واكْتُبْ فيها اعتذارَكَ للجلاد. لن أفعل!، ولن أسمحَ لأظافري أن تُباعَ في المزاد العلني. للسجانِ أظافرُ حديديةٌ، وها هو صوتُ الموجِ يُغَطِّي بَشرتي درعاً حامياً.

 نسيتُ ابتساماتي على المخدةِ فاحترقتُ على رِقاب الغرباء الذين جاؤوا من خفقات الريشِ. تعودُ الطالباتُ من المدرسةِ، لكنني لا أعودُ من غروبِ المذبحةِ. يأخذ أحلامي البجعُ المهاجرُ فأموتُ بلا أحلامٍ. جثامينُ الأعرابِ المرمية على مسرح القوافي الشرسةِ، وطاولاتُ الحاناتِ بين الحمَام الزَّاجلِ والهاتف الجوَّال. غبارُ المقابرِ يتطايرُ على مستقبلي السياسي. كيف أرى أُمِّي الضحيةَ فوق ألغامِ البابونجِ الليلي؟. والنحلةُ التي رَبَّيْتُها نَصَبَتْ إبرتها أمامَ عيوني. أشجارُ النخيلِ تلدُ في جفوني. قصائدُ الغيماتِ تُلقيها القططُ الضالةُ. مَن سَيَذْكرُ برودةَ الزنزانة يا قلبي الشريدَ؟.

 أنا والقططُ الضالةُ جُرِّدْنا من ملابسنا بعد أن سطا علينا رجالُ حكومات القمر المتعاقِبةِ. أبي، لم أستطع أن أكونَ رجلَ أعمالٍ تلهثُ ورائي الأعرابياتُ المتنقلاتُ بين جِرارِ الماءِ والمسابحِ المختلطةِ.

 تَنَاسَيْتُ شَكْلَ حُلْمي مُذْ تجولتُ في وريدي لأحضنَ مدينتي المستباحةَ المفتوحةَ للذئاب المتخصصةِ بمغازلة الفَرَاشِ. شكلُ حُلْمي تناساني مُذْ تمادت قصائدُ غَيْري في انتحارها القَسْري هلاكِ اللازوردِ. هذا ألمي ياقوتٌ على صخرةِ الحريرِ، قافيةٌ يعجزُ البرقُ عن فَكِّ أعشابِها.

 اسْحَبْ جبينكَ من جبيني قبل أن تزدادَ سياراتُ نقل الموتى من حَوْلي. سأرفعُ معنوياتِ حصاني بعدما اكتشفتُ تعاطيه لمضادات الاكتئابِ. والبدرُ في مواعيدِ توهُّجه يبحثُ عن ابنته القتيلةِ بين يَدَيْه الجامدتَيْن. كلاعبِ كرة قدم يَحْرق نفسَه بالمنشِّطات لكي يركض ويركضَ في مدارات الاحتراق عند تصفيق الجمهور.

 للزِّنكِ فضةُ القلوبِ المعذَّبة في مساءات مملوءة بهدوء المخبِرين. مَن يَكسر أصفادي في عيدِ استقلال للبط يحملُ صورة احتلالي؟. واتفقت الشعوبُ على إخراجي من حقوق الإنسان زاعمين أنني سجينٌ لا أملكُ حق التصويت في انتخابات الأغنياء الذين يُخفون الفيتو في جواربهم الشتائية. اقتحمتْ عظامي الشفافيةَ المنشورة في تموجات السَّوْط أثناء حركاته البهلوانية على ظَهْر الوحدة الوطنية. ضائعٌ الحب بين الحب الأول والرصاصة الأولى. حوارُ الحضاراتِ يجري في أدغالٍ تُؤْوي أُسرتي التي لا تجد قوتَ يومها. أنا المواطنُ الصالح للاعتقال كلَّ حين. تابوتٌ هو أم فستانُ عُرْسٍ؟ أطيافُ رمالٍ تأتي وتغيب. لماذا أَخْفَوْا وجهي في كُمَّثرى النحيب؟. وفي فخذيَّ صحاري تصعدُ وتزول. لقاءٌ مع الشمسِ عندما يستعد الغيمُ للصعود أو النزول. تابوتٌ هو أم أنينٌ؟. صوتُ المرضى يختفي في صياح الضبابِ. لحمٌ عارٍ من المطرِ غابَ. سنواتُ الرفضِ ملحمةُ الغضبِ المشتعلة في غاباتٍ جَفَّ حطبُها فاندفع، وتشابكت أغصانُها فاشتعلت قلوبٌ. وباءٌ يخطو على رعشةِ النظرات البطيئة. قمةُ التفاؤل موتٌ قادمٌ تحت مجدِ الله. نعامةَ السَّفَر افترسي ظِلِّي ولا تفترسي لغتي.

 أطفالٌ لا يملكون سِعْرَ الكتبِ فيحملون جثثهم الطازَجةَ في حقائبهم المدرسيةِ ويمشون. قوةُ الاندفاعِ لأمواج الذكرياتِ في العيون الحائرة. مصابيحُ الشَّنق تزدادُ شباباً كلما ازددتُ شيخوخةً. كأن عَرَقَ الراقصاتِ يتبخرُ على راياتِ القبائلِ المتناحرةِ في أنغامِ البيانو.

 مات مسموماً عُصفوري. فيا أُغنيتي! أين أنتِ في هذا الغضب المسكون بعصيرِ التفاحِ المستورَدِ من أُنشودتي؟!. تحتسي الحقولُ قهوتي. تَذَكَّرْني يا قمري ولو قليلاً. تَذَكَّرْ خَدِّي تضعه القطاراتُ الليلية معطفاً قبيل المرور تحت الجسرِ الأخيرِ قرب البلدة الممسوحة من أثر الزلزال. تَذَكَّرْني ولو لمدةٍ تعادل مدة حَفْري بالطعنات الاعتيادية. كأنني النشيدُ الحلو في الحقل المر أو مجالِ نفوذ الوباء.

 وَعُدْتُ من شظايا مقصلتي المعطَّلةِ. إن جراحاتي غير المستعمَلةِ بحاجة إلى الصيانة تماماً كالحلْم الراحل في قطار منتصف الليلِ أَفقتُ من دمي ما لونُ الجدارِ؟. الزنزانةُ لم تتقاعد. ما زالت تدعم الصناعةَ الوطنية بالأجساد المحترِقةِ. كنتُ فيها وكانت فيَّ. أيُّنا دَخَلَ الآخرَ أولاً؟. لا أعرفُ وهي لا تعرف. علاقتان أم علاقة واحدة ذات جُرحَيْن صاعدَيْن من تشظي الفجر الكاذب؟. أحياناً يكذبُ علينا الفجرُ، ونحن نكذبُ على أنفسنا. نُصَدِّقُ الكذبَ ثم نكذبُ عليه. وننتظرُ الغزاةَ يُعلِّموننا طريقةَ الجلوس على مائدة الطعامِ. ننسى لمساتِ أمهاتنا. نبيعُ عكازاتِ أجدادنا، ونشتري قبعاتِ مختومة بالكلمات الأجنبية. هاتفي المراقَب والأرضُ المقبرة المزخرفة. ركضتُ إلى ضَوْءٍ ذَابل يتأرجح بين القُضبان. قَدِمَ صوتٌ فَجَّرَ المكانَ الأخرسَ. مات مسموماً كالجرذان الشريدة في مواقف السيارات التابعة لناطحات السحاب. سَيَضْربُ الأزرقُ شِعارَه في خِيامنا على الضِّفافِ المحاصَرة. انتظري أيتها الطيور المهاجرةُ من قانون الطوارئ. نباحُ كلابٍ جائعٌ يغوصُ في صرخاتِ ركضِ أقدامه العاريةِ. كالليلِ صَوْتي أربطةُ الجرحِ الأخيرِ قبلَ الموتِ. ارتديتُ حِزامَ الضبابِ، ولَبِسَت أعمدةُ الكهرباءِ وجهَها العائد من عمليات الترميمِ. تكوَّمتْ أعضائي وتراكمتْ مثل طُموحِ عُشبةٍ خانَها رملٌ تقمصَ النَّدى. كنتُ حينما أخافُ أُكَوِّمُ نَفْسي في حُضنِ أُمِّي. أما الآن فالخوفُ يتحصن في قلعةِ أحضاني. والأمراء اللصوص يموتون، وعودةُ الجيش المهزوم، والقانون الذي لا يسري إلا على الفقراء. ذلكَ دستورُ الجريمة الذين يُقدِّسونه.

 اقْتَحَمُوا النحاسَ في نحيبِ المكانِ. أشباحٌ تقودُ كلاباً مُدرَّبةً على التصفيةِ الجسديةِ. انْتَصَبُوا كراياتِ الغُزاةِ المنكَّسةِ. كأنني أراهم الآنَ عيوناً تلهث في مداراتها تتجولُ في شظاياها. الجدران المحايدةُ لم تنبس ببنت شفةٍ. كانت نظراتُ الرجالِ تلتقي مع نظرات الكلابِ في بؤرةٍ مُسَلَّطة على قلب الجثةِ. أن تنهشكَ الكلابُ البوليسية. قبضاتُ الرِّجالِ على الحِبال المجدولة من العارِ والتي تُطَوِّق أعناقَ الكلاب، انطلقتْ تنهشُ الجثةَ الملقاة على الأرضِ.

 لم أعد أشعرُ بأطرافي. بَدَتْ أجفاني مفتوحةً رغماً عنها كأنما سُحبت بأقفالِ سجنٍ أضاعُ الطينُ مفتاحَه. لم أَبكِ. مُقامِرون في المقهى يطلبون اثنين ديمقراطية وواحد شاي وحفنة انتخابات مُزوَّرة.

 لا شرنقةُ المساجين غشاءُ ضباب على أبصارِ المذنَّب، ولا جبيني معطفٌ لخيولِ عرباتِ الإمبراطورِ. البؤرةُ اللحميةُ على ساعدِ الثورةِ تجمُّعُ الحشراتِ النادرة في قوارير الغضبِ. تحويلُ الزنزانةِ إلى مسرحٍ لدعمِ الثقافةِ. أنا الموجُ في دمه يُشرِقُ طَيْفاً للآخرين، وقوسُ قزحَ ينحتُ وجهَ المساءِ على فحولةِ البحرِ. الشوارعُ تبدأ من زاويةِ البرقوقِ في عطشِ يتيمٍ تخلى عنه الألَمُ ليتزوَّج الليلُ أُمَّ النهر. أَرْضَعَتْني النيازكُ الثَّورةَ.

 نفسي المحفورةُ على طينِ الشهوةِ ستتركني يوماً وترتحلُ. إنني المنسيُّ في قلب حبيبتي الخيمةِ. جسدي متغيرٌ واسمي ثابتٌ في سجلات دوائرِ القتل. إنني النَّيزكُ العابرُ في الأفقِ. دمي الكوكبُ الدائرُ في أفلاك غضبي. سوف أفكُّ ألغازَ الحيطان المتكاثرة في عُقْمِ النزيفِ. يا رقائقَ البطاطا!، وأنتِ تُبَدِّلين اسْمَكِ في الانهيار سأطلعُ واقفاً كالنخل غير المدجَّن ساجداً لمالِكي.

 قُلْ أَشعاري أَحتضنْ صباحي وأمشِ. تفاحةٌ يتيمةٌ في المدى مدايَ. وُقوفي في شارع جثتي حياةٌ أمامَ قصف الطائرات المتهاوية في خناجر أَرْزةِ انتشاري. مِن غضبي أَلُمُّ أصدافاً. مدايَ أخضرُ كالطُّوفان. أفيقُ فَقُلْ كَم حُلْماً ضائعاً في نشيدِ الصحراء الوطني؟، وسَلِّمْ عليَّ. ها أنذا ذا مكبَّلاً بالمطر، والأحصنةُ تجرُّني إلى المذبحِ، وتحت سنابكها تُسحَق قَوْميةُ دُودة القَز.

 قصيدةٌ لم تَكتملْ لأني شُنِقْتُ. أنا أُقاتِلُ ليس للانتصار بل لأُقتَلَ. جراحٌ تُغادِرُ خيامَها لتغزوَ دهشةَ القمرِ في نُخاعي. تنفجرُ نسبةُ الرصاصِ في عَرَق المجموعةِ الشمسيةِ. أكاسرةُ كلابٌ بوليسيةٌ تقتحمُ سريرَ المذبحةِ في زُحَلَ. أوردتي المستهلَكةُ تحت قبعاتِ الجنود الخاسرين. وطني العابرَ في شظايايَ، مَن أنتَ؟!. غريبٌ صوتكَ المائي. أأنتَ قناعُ المجرةِ وهي تجمعُ حشائشَ الغيابِ أم لقبي فوق برتقالات الذبحِ؟. كم مرة ستقتلني لتفرح الراقصاتُ في شظايا العَتمة؟.

 أنتَ عبقريٌّ وغبيٌّ في نفس الوقتِ. عبقري لأنكَ تعرف كيف تنتصر في معركتكَ، وغبي لأن معركتكَ مع عدو وهمي.

 أضحى اللحمُ المفترَس أنشودةً في أفواه الآبار السرابية في صحراء جلود المهزومين. عِشْنا معاً في غرف الفنادق الصحراوية كالبدو الرُّحَّل. وطني ليس قاتلاً مأجوراً. نحن قَتَلْنَاه. العُميانُ الذين لا يُميِّزون بين النساء وصحونِ المطبخ. الموتى الذين يَحرقون خُبزَ قَوْس قُزحَ بعد أن يَأكلوا.

 أَوْصَتْني الزَّنابقُ أن أبتسمَ عندما يَنْصبون لها عُودَ المِشنقةِ. إذا شاهدتَ مَن ينتشلون جثتي من أكوام القُمامة فَسَلِّمْ عليهم نيابةً عني. فقدانُ ذاكرة جزئي في رأس الرطوبة اللزجة في عقلية السراب الصحراوي.

 هذا حُلْمٌ فلتبدأ الذكرياتُ بحرثه. هذه أجندةُ السراب فلنبحث فيها عن أسماء قاتلينا. دخلتُ دمي من أوسع أبوابه. وضبابُ شراييني يخلع براعمَه الموسمية. دمُ القطط على زجاج سيارات المخمورين. والإناثُ في حضاراتِ الذبيحة يخترعن نظرياتٍ في رقصة التانغو عند سور نحيبي. للأبراجِ الثائرة حجارتُها الخاصة، ولنشيدي هديلٌ خارج من الاحتضار. على صدور البجع يُعَلِّق الخرابُ قلادةَ الذِّكرى، والجبال تسيلُ أوردةً جديدةً لعالَمٍ يُولَد من مَوْتي القادم.

 والحبُّ يتقطع على رماح القبيلة وهي تمصُّ زيتاً برتقالياً في قناديل معلَّقة في سقف القصيدة.كأن ضباباً يعود إلى منزله في نهاية اليوم فلا يجد من ينتظره ويحتضنه. المتاجرُ الأجنبية والمدارس الأجنبية والوجوه الأجنبية في وطن يغيب في إرهاصات ولادة أقمار آتية من قرحة معدة الغابة. وفي زنزانة بحجم عينٍ دامعةٍ تتنزه على غصون بحيرة، تضع الصقورُ آخرَ نظرياتها في الفلسفة. يتدفَّأ الرجالُ في صدور نسائهم، وأتدفأ في ظلال مذكرات اعتقالي. وفي ذكرى انتقالي إلى دماغ الشلال أهدت إليَّ أوحالُ الشوارع خُططَ تصفيتي جسدياً.

 وطني، صِرْنا في عالَمٍ لا يتَّسع لنا نحن الاثنين، فَخُذْ مَوْتي حياةً لكَ، ومجداً لأشجاركَ. اقْتُلْنِي وأَرِحْني من منظر الضائعات في جذور السراب في شوارعكَ المطفأة. دهشةُ الورد على وجه بائعة العلكة على إشارة المرور في شوارع يَدِي. صارت رقعةُ الشطرنج قبراً جماعياً للنحل المستورَد. جُرِحْتُ في معركة الخيال. تنتخب المراعي غُصنَ الشفق نائباً عن ذبحتي الصدرية. أمشي مع أكوام الأحلام على وريد الحصى المتفسِّخ. صُداعي سَطْو مسلَّحٌ على صَديد الجروح اللانهائية.

 سأمشي لأعرف أني ما زلتُ حياً. وأمسيات سراييفو تَنْكِحُ رؤوسَ الرماح. وطني المقتولَ في جوف الحزن البرتقالي في التطهير العِرْقي في معادلات الكيمياء، حَمَّلْتَني مسؤوليةَ الأخذ بثأركَ مُبَكِّراً. كلما قُتِلْتَ قَشَّرَ السرابُ أظافري. وبينما كنا نبيع الوطنَ كنا نترنم بالأناشيد الوطنية على ضريح قَوْس قُزحَ. أضحى الصَّبارُ مُشْتَبَهَاً به، وصرتُ مُشْتَبَهَاً به. خَدُّ الشَّيطانةِ ينزف نفطاً مسموماً.

 سأمشي لأَعرف أن زيتَ الزيتون السائرَ بين قبور عائلتي سَيَعُود مع فُرسان النَّعنع ذات مساء. والطاعونُ يَقضم غيماتٍ مستقرة على أهدابي. المحكمةُ العسكرية والجنازة العسكرية. كُن يا حَبْلُ ذَكَرَاً لأكتشف أنوثةَ المشنقة. فَروةُ رأسي تدريبٌ على الذخيرة الحية. ضوضاءُ الهديل يَجْلدني، ويلتهم عيونَ الصهيل. بيننا قمرٌ قصير كأحاديث الغرباء. فوق رؤوسنا المقطوعة السماواتُ الجميلة، وتحت أرجلنا المقطوعة الدماءُ الرشيقة.أُصيب بالإنفلونزا موجٌ راكضٌ على جِلْد قِطٍّ أعور. حَجَرٌ تحفر عليه قضبانُ حُلْم الأحصنة لغةَ النخيل.

 عِشْقٌ هذا أم سوق سوداء لبيع الأعضاء البشرية؟. أنا وعُصفورتي المشرَّدة عائشان في الخيال، مَيِّتان في الواقع. لابساً جمجمة الريح، وجسدي مدارٌ يطوف فيه بطيخُ المستحيل. لستُ مجنوناً، ولكنَّ أرصفةَ روما خليطٌ من أمراض نفسية شرسة تُهيل عليَّ الطعناتِ في حَمَّامٍِ روماني يرتاده سَرابٌ يَوْمي.

 الجرحُ الاعتيادي، والحبس الانفرادي. شيطان يَشرب الوحلَ في أعين خنزير بريٍّ. نبتةٌ خجولة اسمها الْحُبُّ في حقول الجنس المسعورة. أَتركُ فَمَ العاصفة ملتصقاً على أوداج النبع لتهاجر أسماءُ المسجونين من دفتر تمزُّقي.

 أنا شعبٌ غير عادي أَمُرُّ في سنوات الغَمام سَيْفاً حَافَّته سَفَرْجَلُ الغضب. اجْمَعْ قِطَعَ أصابع النحلة. للأرض مواعيدُ الثوار. قبري الزاحفَ نحو دفاتري، دَعْكَ من اسم الشلالات على كتابات قاربي البسيط. أُخَزِّنُ دمي في رَحِم الأرض لينام المخبِرون على الرَّميم، ويَكُفُّوا عن مُلاحقتي. هي أرضي وأنا قُدُومُها المقاتِل. زوجاتٌ على شُرفاتِ كُلِّ هذه البنادق يَرقبنَ خطواتِ الرجال العائدين من هزيمةِ المستنقعات انتصارِ البِحَار.

 حليمةُ، حتى ولو زرع الحقلَ غَيْري فسأعود مع توابيت الفِطْر غَير السَّام. دفنتُ حبي الأولَ في أقرب مجرة. وفي ناحية من عروق البراري المطرودة حيث يخسر امرؤُ القيس ابنةَ عَمِّه، جلست الأدغالُ تحتسي ضوءَ عَرَق النجمات. عرباتُ باعة الخضار تدور في رئة خاتِمي. تزأر المراعي في وجه الغزاة. يُخَيَّل إليَّ أن ابنةَ عمِّي ستُخيط أكفاني، وأن أُمِّي سَتَكُفُّ_عند مماتي_ عن البحث عن زوجة المستقبل، وأبي سوف يخنق الملحَ في دمعاته أمام رِجال القبيلة.

 حياتي نُطْفَةٌ مُتشكِّلة في رَحِم الطوفان. بَشَرٌ لا يعرفون من الحياة سوى ممارسةِ الجنس. جروحي التي تعتبرني خائناً، سأترك رأسي الدائرةَ على رماح شوارع الموز في أوجاعي تدافع عني. تُكَذِّبينني وتُصدِّقين بائعاتِ الهوى في حُجرات محاكم التفتيش. لا يُفَرِّقون بين النساء والدُّمى في مسرح العرائس. وفي ذكرى مجيئي إلى هذه الأرض الدمارِ تحتفل القواربُ بوفاتي.

 عَباءةُ أبي مَرْمِيَّةٌ على الحصير. بكاءٌ غريبٌ في منزلنا يستأصلني. نظراتٌ مُتعَبة عابرة. ولا زلتُ أذكر طريقةَ القمر الخصوصية في تقشير خجل البرتقال. شِبْهُ جزيرة وجعي. تغفو سيوفُ الفرح في تعرجات وجه إبرةٍ عجوزٍ. شَريعةُ المسدَّس الخشبي. ضَيَّعْنا ميراثَ آبائنا وَوَرِثْنا لونَ حِبْر المذبحة، ولم نتعلم لغةَ التراب. رضيعان يخططان لانقلاب عسكري في كُريات سُعالي.

 فمي لقاءُ الشمال بالجنوب. وجوهٌ ميتة ينهشها خوخُ الطرقات اللانهائية. أفتح شرياني لتشرب منه أرضي، وأَبسطُ جسمي لتأكله أشجارُ بلادي. ما كنتُ أظن أن جسدَ النعنع النحيل سيقف في وجه السلاطين وحِرابهم. تتشقق أوصالُ العَتمة فيسيل ضوءٌ شمسيٌّ عَابِرٌ. أنزع السِّهامَ من صدر العاصفة الذي يَعُجُّ بضياء البارود. يا حُلْماً مَرَّ على طاعون الأعشاب، وما زال يبتسم للكاميرا عند القارب الغارق.

 ثائرةٌ حُفَرُ الوداع على صمت الجياع. عطشي خاتِمُ خطوبة في رقبة مغارة تَمُرُّ عاليةً كالعائدين من المجد الذاهبين إلى المجد. ما أكثرَ جراحات زوجة البركان الشاعرة. للطين جوازُ سَفر في شوارعنا، والمطر يُلقي بيانَ الثورة على البراكين المتجمعة على إبهام الزوبعة. امرأةٌ واقفة على حافةِ الميناء حِنَّاءِ المرساة أبواقِ المأساة ترقب زوجَها البَحَّارَ.

 أُنادي الصليلَ في جبهتكِ يا فَرَسَاً تفترش أحصنةَ العنف في خريفها الربيعي. براميلُ الورد عاصمةُ المساء الرَّعوية. والقُدْسُ تنقش اسْمَها في جبين السماء. بَيْتُنا الخالي المغلَّف كالشوكولاتة في يَدٍ قذرة.

 عائداً من سراويل الحيتان المهدَّدة بالانقراض اكتشفتُ زلزالاً يشقُّني نِصْفَيْن فأنطلقُ شظايا. فلتفتح الخفافيشُ سجونها، ولتنتشر أعوادُ المشانق في أحجار السَّراب. جسدي يَخْلع جسدي، والعواصفُ مذكراتُ الأعين المتفجرة. ذلك قبري، والبارودُ ذاكرتي. وما زلتُ أُقاتِل مع اليانسون. حياتي مَوْتي، ومَوْتي حياةُ كلِّ الأدغال.

 تَسقط الشرايينُ اليابسة من كَفِّ الجسر الذي سارت عليه مَرْكباتُ الغُزاة. جثتي هي الضوءُ في آخر النَّفق. يا بناتِ أُورشليم، يرجع آباؤكنَّ من قتل الأنبياء، وتذهبنَ إلى نهايات الرماد، فلتبكين على انتحار حُلْمكنَّ. والليل أنيابُه شَحْمُ السيوف المغروسة في كلام قوس قزحَ، والبكاءُ يَضْرب أوتادَ خيمته في الكوليرا القادمة. سياراتُ نقل الموتى في دروب الرَّصاص. نعنعُ وجعي لم يترك سجناً إلا دَخَلَهُ. فَجْرٌ جديد ليومٍ دمويٍّ.

 امرأةٌ أَغلقتْ قلبي بالمفتاح وماتت، ولا زلتُ أبحث عن المفتاح. بورصةُ لندن لبيع النساء. ربما يتألم جارُنا ضابطُ المخابرات حين يسمع نبأ إصابتي بمرض الشاطئ، وربما يتناقشُ شاب وخطيبته في صالة الديسكو حول كتاباتي وأشكالِ مصرعي. سأنزع قبري من عيون شعبي، وأموتُ _ كما البحر _ شريداً.

 مُهاجِرٌ أبديٌّ أنا، وقوةُ العشبِ تفورُ في حُزنه الثائر. يَرِثُني صَليلُ القيود، والندى في صرختي آلامُ سُدُودٍ. والوجعُ متأرجح مثل أن يحب الفقراءُ بناتِ الأغنياء. وأنا الذي طَرَدَتْني آلامي لأنه ليس لي قبيلةٌ يتكئ عليها جُرحي. امرأةٌ تفتح ثدييها للكلاب الذهبية ثم تُنظِّر في حقوق المرأة.

 يا أيها الوطنُ المتفجر في صُداعي ثقوباً سوداء مقبرةً لانهائية تحرث أعصابي بالغبار الشمسي، لأني أحبكَ سأبتعد عن عيون القراصنة. استيقظَ سُلَّمُ المجاعات مُبكِّراً، ووصل متأخراً إلى حفلة القتل. مَللُ الطاعون من كثرة الزنابق الميتة. السُّلُّ في الرئات المشرَّدة حَوْل مِرساة الذُّبول. والزوابعُ تقف خلف زجاج غرفتها المقاوِم للرصاص. حركةُ السيف ستُخَلِّص لمعانَه من الكآبة.

 وَاصِلْنَ المطالبةَ بدمي يا صَبايا بُطْرُسْبُرْغ. يحتاج الشتاءُ إلى امرأته كي يبكيَ في حُضنها في الليالي القتيلات. صِرْنا تجاراً محترفين في بيع أوطاننا. الفرنجةُ ذئبٌ أحولُ يمشي على عُكَّازَتَيْن في سنواتِ اللهيبِ. صليبيةٌ تلعب التنسَ الأرضي في حموضة حليب الضائعات. إناثٌ جَرَّبْنَ كَلَّ شيء، وبقيَ أن يمضغنَ حبلَ مشنقة دمعاتي عند مماتي.

 لا تُحِبِّيني يا فراشةَ الرُّكام، ابحثي عن رجل أعمال يُفطِر في موناكو ويتغدى في برلين، وعنده مشاعر كثيرة مثل الدولارات. وحين يفقد الصخرُ قدراته العقلية، ربما ينقله جارُه إلى المصحة العقلية بالسيارة القديمة.

 بلدٌ تَفَجَّرَ في حُلْمِهِ. ليلٌ تَبَخَّرَ في غَيْمه. ثقوبٌ لا معنى لها في الصُّوف الصخري وهو يَفْصل بين أقنعة الصواعق داخل الخِيَامِ. الظلُّ المتآكل على موائد النساءِ. امرأة تُباعُ في أسواقِ صمتها. والليالي تقصُّ شريطَ عُمرها، وتقضُّ مضجعَها في الإسطبلاتِ. زمانٌ احتضن مكانَه ومات بعيداً عن أحاسيس حفار القبور العجوز الذي يطمحُ لزيادة راتبه الشهري كي يُدخِلَ ابنته الجامعة.

 الأزهارُ تتلاشى فتبكي عليها الأمطارُ الأُرجوانية، هناك حيثُ ضَيَّعَ امرؤ القيسِ عُمُرَه على أطلال جسد ابنة عَمِّه. أصفادٌ من شَعْرِ السَّبايا في العتمة المنقبِضةِ على سطوح دبابات الجيش العبثي. امرأة مُهذَّبةٌ تتناول فُطورَ الصباح مع زوجها، تسمع نبأَ دس السم لي في زنزانتي فتُغيِّرُ الإذاعةَ. كُلَّ يومٍ، يذهبُ مثلثُ برمودا إلى خِزانة ملابس زوجته الميتةِ ويَشمُّ خيوطَ القماشِ. يشم أوراقَه المخضَّبة بعطرها، ثم يستسلم للبكاءِ الحارقِ. وضعُ رَغْوة دمي بدلاً من رغوة القهوة في فناجين مقهى سيدات الأعمال. تملأ البدوياتُ جرارهن بهمومِ عُشبةٍ مُطَلَّقة. أتركُ الإجابةَ لظَهْر الزوبعةِ عندما تعود من رحلة الاستجمامِ. مطرٌ آخر للحزن فوق رابيةِ حُبِّنا على أبواب المستشفيات المخصَّصةِ للأغنياء وليس لنا. أتخيلُ نهراً مريضاً نفسياً لكنه غير خجول من مرضه لأن حقولَ القمر مريضة نفسياً. أن تنجحَ في لمس خاتِم الريح، وتفشلَ في تجميع دولارات الدماءِ لشراء فُستان العُرسِ.

 تموتُ نساءٌ ذابلات من الجوعِ، وأخرياتٌ بسبب التُّخمة. تسويةُ أصابع أبي بقطعها من أجل تحويلها إلى أرضية تَزَلُّج في المرتفعات الجبلية. انبعاثُ انتحارٍ من مطبخ الدَّيرِ حيث الرَّاهباتُ يخدمنَ ضيوفَ القِس رغماً عنهنَّ. عواصمُ تحتقرُني لأنهم لم يجدوا في ثيابي الرثة سوى عائلتي التي أُبيدت. تسليطُ أضواءِ المعتقَل على وَجْهِ العنب لمنعه من النَّوْم. يسرقون البحرَ من أَبوَيْه، ويضعونه في ملجأ الأيتامِ. مرمرٌ يُصارِع وحشةَ أجزائه، والوطنُ يقطرُ عسلاً لغَيْرنا. صراعٌ في موانئ الليلِ المحمَّلة بالشركات تَشحنُ جثامينَ الثائرين إلى مدافن النفايات النووية في عظامنا.

 تأتي إلى المرفأ الترابي امرأةٌ تنتظرُ ضوءَ منارةٍ أو سفينةٍ تخبرها عن زوجها البَحَّارِ الذي اختفى. علاقات عنيفةٌ في نظريات الكيمياء التي وضعها علماءُ باعوا الشمسَ من أجل الأعشاب الأجنبية. بُقعةٌ دمويةٌ تعتمرُ شعاعَ الغصونِ تحتل مساحاتٍ من لوحاتٍ فنيةٍ اشترتها الأميرةُ بأموال الشعبِ ثم ادَّعت أنها رَسَمَتْها. هدأةٌ ثقيلةٌ كالصخب الميت المتسرِّب إلى بناتِنا في المدارسِ الأجنبيةِ.

 ابدأْ من حيث انتهى المطرُ. علاقةُ الأنثى بالدم أشدُّ من علاقة الرَّجل به. مؤتمرٌ صحفي سريع يجمع القاتلَ والمقتول في صالة الباليه المفتوحة للطاعون. رَذاذُ الوخزِ على حساسيةِ جلودِ الكائناتِ البحرية المصفوفةِ على بقع الزيت المنهمرِ من ناقلات النفطِ الغارقةِ. أطفالٌ يَبيعون جثامينَ آبائهم على الإشارات الضوئيةِ لم يسمعوا بالكافيار أو دروس تعليم الفرنسية في الرياحِ المسيَّجةِ بالحواجز الأمنية والكلابِ البوليسية.

 أن يطردَكَ والدُ فتاةٍ تقدمتَ لخطبتها، لأنكَ لا تملكُ غير مقصلتكَ. أكثر من هذيانٍ، حيث يصبحُ فِراشُ الاحتضارِ جاهزاً. أعيشُ في موتي البطيء. أحترقُ في عَيْن غزالةٍ ساكنة. أنسحبُ من حياةِ عقارب الساعة. أنا المهاجِرُ الأفقي النازفُ على الدوامِ. تزوجتُ الغابةَ لا حُبَّاً فيها، ولكنْ خوفاً من أن تُصاب بصدمة عصبية حينما تعلم أني تَرَكْتُها.

 حكومةُ المذابح الإلكترونية. المدينةُ الضائعةُ والحب الضائعُ، لكنني سأُقاتِلُ لئلا تصبحَ رَقبتي مَدخلاً للبارِ ذي الحصانةِ الدبلوماسية. دهشةُ الغموضِ في حنجرة بنتٍ جاهليةٍ أخذها أبوها كي يئدها في البيداء. أيها البلدُ المنثورُ في عُلبِ المكياج لممثلاتِ السينما الناشئاتِ في الدمار. شابةٌ عاريةٌ تتمشى مع كلبها في شارع الإمام الشَّافعي على كوكب المشتري. احتفالُ غبار المكانسِ في ذكرى تزاوج الأرصفة في المحاكم العسكرية. الإنسانُ حقلُ أمراض، سَوْفَ يُشفَى منها عندما يموت. الشجرُ المختون كلما ناقشَ الكستناءَ خَسِرَها. بنكرياسُ الصقيع يُطَوِّق العرائسَ المجبَرات على الانتحارِ. إن كانت الحِراب لا تنمو إلا على نسرينِ وريدي فيا خُلْجانُ ضُمِّيني. كلما سَكِرَ الجنرالُ أكثر حصل على أوسمة أكثر. دارت أقداحُ القتلِ حَوْلي، وكُلُّ لقمة طعامٍ أطلبها بقطعة من لحمي.

 أن تبكيَ فلا تجد أحداً يمسحُ دموعَكَ إلا المطرَ. تبكي الحيطانُ لأن بُكاءَ النباتاتِ يَخلعُ أظافرَ البئر. الجسد متكررٌ والمشنقة واحدة. إعداماتُ التراب النقي تُلمِّع مساميرَ نعشِ الكوليرا. وقَتلةُ الهنود الحمر يناقشون حقوقَ الإنسان. والخيولُ تمشي على الأسلاك الشائكة على سور المعتقَل. عرباتُ القش تسير على جبين المطر. تَدخل قرى الغروب إلى عمودي الفقري مباشرةً. تجاعيدُ مبتلةٌ بالزعتر على خاصرة البَرِّية. مصابيحي إمبراطورياتُ الفَرَاش الميت وهو يعتني بالموتى الذين لا يجدون موتى يعتنون بقمح الجراحات.

 عندما كُنَّا صغاراً ظَنَنَّا أننا أصغر من المقصلةِ، وحين كَبُرْنا عَرَفْنا أنَّ المقصلةَ أصغرُ مِنَّا. أَدخلُ إلى السجنِ فلا أجد من يستقبلني، وأخرجُ منه فلا أجد من يستقبلني. يعانقني الشَّارعُ مختوماً بوهج الشمسِ. أستقلُّ سيارةَ التاكسي إلى الغابةِ، فأحفرُ هناك أجندةً للكستناءِ تخبِّئني من رعشاتي. جِلدي المشقَّقُ يمتطي دراجةً هوائيةً ويسيرُ أمامي يكشفُ لي الطريقَ. أَصِلُ كوخي في دماغ بُلبلٍ. أُزيحُ عن الأثاثِ المتواضعِ الأغطية البيضاءَ. أَغْسلها وأُطَيِّبُها لتصيرَ لي كَفناً مستقبلياً. لكنَّ دمي أثاثُ مدافنِ الشموع المترنحة. أمتزجُ بنشوةِ البرقِ المتصاعدة. أن تقرأ الشركسياتُ أعمالي الأدبية بعد اغتيالي. ليس بمقدور الضوءِ أن يُقَدِّمَ عصا إلكترونية للفراشة العمياء كي تَعبر إشارةَ المرور. وليس بمقدور الذبابة العرجاء أن تشتريَ رِجْلاً صناعية تشارك بها في حفلات القصرِ.

 كنغرٌ أضاعَ خارطةَ قبرِ جَدَّته. تنهض الأمواجُ من الأحكام العُرفية لتقولَ للشجيرات حكاية ما قبل نوم الظلال. إعدامٌ النعاسُ البلاستيكي في أذهان القوارب المحمَّلة بالتبغ المهرَّب. أطمحُ أن يأتيَ يومٌ أكون فيه إنساناً عادياً لا مقتولاً مشهوراً. حشائشُ تَصْعد أصعدُ والزئبقُ يَصْعد على كوليرا العُراة. والبابونج لم يعد يذكر راياتِ الغُزاة.

 أنسى آبارَ السُّلِّ كي أتذكرَ غيمةً أَنكرتْ معرفتي. لستُ أعرضُ أعضائي التناسلية في سوقِ النخاسة، وإنما أعرضُ دمي السائل على الصلبان البلاستيكية في لوحات شِعْرِي.

 رُبَّ بنتٍ أَنْقَذْتَها من الضياع، وما علمتَ أن عشقَها سَيُضَيِّعُكَ. ورُبَّ نعجةٍ أَنْقَذْتَها من الجليد، وما عرفتَ أن حليبها مُسَمَّمٌ وسيقتلكَ. في رئتي غربةُ السَّنابل وجاءت غربتي عند المغيب. الطريق إلى مملكة جرحي مغلقٌ فليتوقف الموزُ عن التحرش بمجرى تنفسي. الْتَمِسِي لصراخي عُذْراً لأن جثتي في حُفَر المجاري تلعبُ عليها الجرذانُ الشطرنجَ وكرةَ المضرب. دربٌ بئرٌ كُمَّثرى. والليل ما زال يبكي.

 صمودُ الخشب رغم إصابته بالملاريا. نتعلم الأحرفَ الهجائية من أنهار الغروب، وتشربُ الصقورُ في بنطالِ الشَّلال عصيرَ العنبِ مع الشجر العائد من المجازر. أنا شجرةٌ على الطريق لا الطريق. أنا عصفورٌ على الأسلاك الشائكة لا المعتقَل.

 فصلُ عينيَّ عن مَحْجَرَيْهما وقلبي عن قفصي الصدري، بحيث تصبح أعضائي مُقطَّعةً على الصفيحِ تتمتعُ بالاستقلال كامل السيادة. أن لا تملكَ عائلتي ثمنَ عُلب اللحمة المخصَّصة لكلاب الوزير. اختيارُ المرأة في حكومة الشواذ جنسياً وفق حجم صدرها ونوعية أحمر الشفاه وملابسها الشفافة. إقامةُ مسابح في قصور الخليفة بينما الشعب لا يجد ماءً للشربِ. أن تُباع المرأة لمن يدفع أكثر. ضياعُ أوقات في أهازيج الضحك المنبعث من مدينتي التي دَمَّرَتْها الصواريخُ. هُوَ الميِّتُ الذي سُلخ لحمُه عن ضوئه، وسُكبت المجاعاتُ فيه. ولم ينبس ببنت شفة خوفاً من إزعاج ملوك العصور الوسطى في حفلة الرقص القشعريرة. بدلاً مِن أن يلعبَ الأعرابُ القِمارَ في موناكو، فإنهم يلعبونه في عاصمة البدو الرُّحَّل. وبدلاً من أن يشربوا النبيذ الآسيوي فإنهم يشربون النبيذ الفرنسي القادم من عنب الجزائر. رَقَصْنَا بما فيه الكفاية في إشبيلية وجاء موعدُ طَرْدِنا، وقتلنا الْحُبَّ بكل ما فيه من ثورة وحان موعدُ إعدامِنا.

 وأنا في السجن أُواسي الدموعَ النازفة من ثقوب الحيطان، جاءني أمرٌ عسكريٌّ من عُش نسر سَكَنتْ فيه طواويسُ غريبة. قال لي العشُّ بعد أن تَوزَّعَ في خيالي كالصفيح: ((صدر عَفْوٌ عنكَ بمناسبة احتفالات البلاد الجليدية بهزيمة جيشها في المعركة!)). البريقُ يضع على جانبه مُسدَّساً خالياً من الرصاص لكنه لا يعرف استخدامَه. أَدْرسُ مع سَجَّاني إسهاماتِ راقصات الباليه في النظرية النسبية.

 خرجتُ من السجن أجرُّ أذيالَ الصحاري. ضَيَّعْتَني يا نهرَ الجماجم الرشيقة، دَمَّرْتَني بكل هدوء. جسدي العَراءُ المر، والريح تنخرني. لا أملكُ سوى ثيابي المهشَّمة. لا بيتٌ ولا قبيلةٌ ولا وطنٌ ولا أحدٌ يستقبلني خارج السجن. وكان الجوعُ يُطوِّقني بذراعَيْه. والقرميدُ أعنفُ مراحل اكتئاب المداخن.

 مشيتُ ومشى الخريفُ الصَّيفي في أشجاري السائرات على غُصنٍ تفشَّى في الكوليرا. مُدُني تركض في كُمَّثرى غامضة كحليب الطباشيرِ. جيوبي ملأى بالإسطبلات وخالية من النقود. خطبتُ الأزقةَ وملاحمَ الفقراء.

 أغنامي مريضةٌ بالوهم، وقَرْنِيَّتي موضوعة على رأس رُمحٍ في متحف زئبقي. فقراتُ عمودي الفقري تدور كالرَّحى في أراضي الإقطاعيين. سِرْتُ وسارت الجوَّافةُ في رقصة البارود على خُلخال أنثى الصقر في مشاوير مُتعَبة. صابونُ الليلِ في أرحام المقاصلِ.

 جسدٌ، فينمو الصدى في مقابرنا الممتدة من مضيق بنما حتى سور الصين. إن ظَهْرَ الساحل حزين. حَيَاءُ الفتياتِ في ليلة الدُّخلةِ، وحياءُ البُحور حين يسبحُ فيها المصلوبون العُراة. الوجعُ طيفُكَ العُشبيُّ آخرُ الخيامِ آخرُ مولودٍ أَنْجَبَتْه الصحاري البلوريةُ. غَدِي يضع في أُصبع الغروب خاتِماً. بَسمةٌ حادةٌ على النِّصالِ الرمادية. للمدخنةِ أشجارُ دمائنا. لماذا مررتَ أيها القمرُ المحتضر في شارعنا ولم تُلقِ التحيةَ على أصدقائكَ القُدامى؟. جِسمي رحيلُ البرقوق الأسير إلى خيالِ الدُّودِ.

 خَوْخي العَراءُ المالح في انطفاءاتِ الينابيع. بدأتُ أشجاراً، هل يتمزق بطنُ الصَّقر على مرايا السيارات في البيداء؟. والليلُ قلوبُ الرمل. بَيْننا أشواقُ المطر. أيقتلني العَسَسُ في ذلك المساء الغامض مثل يمامة أَنشأتْ أرجوحةً على ظهيرة كُمَّثرى؟. ذهبَ ريشُ الأوقاتِ مع أُمِّه إلى سوقِ بَيْعي. هل أبكي أم أترك ديدانَ الحقل تَبْكيني؟. لعقارب الساعة جِلْدُ المنطاد الذي يحملُ حقيبتي المشلولة.

 خرجتُ من لحمي جائعاً. عَطشي يحملني إلى عطشٍ. جيوبي خاليةٌ إلا من الرصاصِ. فَتَّشْتُ عن نقودٍ زال لمعانُها في الأيدي المتَّسخة. وكنتُ أدورُ في دمي بحثاً عن كسرة خُبز. سِرْتُ والظلامُ يلبسني. نَزلتْ من ذاكرتي دموعٌ لا أعرفُ جِنْسِيَّتَها. لم أُلاحِظ سوى نعاسي وزهرتَيْن تبكيان الموتى، ثم ذهبتُ في النومِ كيمامةٍ التقتْ برفيقِ دربها الذي كان مفقوداً.

 أنا السَّجينُ في أعشاشِ الرُّعود. كاتبُ الأغنياتِ تحت شمس إسطنبول. النَّجارُ في مكاتبِ البحور. الموظفُ في مؤسسة الفراشاتِ. الأستاذُ في جامعة لحمي. بائعُ العصير في محطات القطارات الساكنة جراءَ الإضرابات. الوزيرُ في حكومة العواصفِ. الفيلسوفُ في زمن الوجبات السريعة.

 إن حقولَ القطن استوطنتْ في أوردتي. أرى الغُزاةَ يتقاسمون المهام الأمنية لمنع الشغب في جنازتي. وغاباتُ الدِّيناميت تَتَنَزَّه في عِظام قفصي الصدري.تمتزجُ دقاتُ قلبي بدقات السَّاعةِ في الحقول الشَّاسعة والدماءِ الشَّاسعة. رَجفةُ العشقِ الأولى والميتةُ الأولى.

 تَصعدُ أبجديةُ الأناناس من أنقاضي وتغتالني تُطْلِقُ عليَّ حضورَها الطاغي. كأنني أتخيلُ نَفْسي وُلدتُ قَبْلَ قُرون، وبَقِيَ مِنِّي الآنَ شَبَحي الذي يطوفُ في المدائن. أُوقظُ هَيْكلي وأَغْسِلُه. وحروفُ أنيني بعدد حروف تعاليم البَجَع. ولا تزالُ أُمِّي تُفتِّشُ لي عن عَروسٍ في آبارِ الزَّئير الأصفر.

 

أكفانٌ مَغْسولةٌ جَيِّداً

 البنفسجُ طريقٌ يَشُقُّ نخاعَ الليلِ إلى ثورتَيْن. وتلكَ الذاكرةُ كأنها بجعةٌ فَتِيَّةٌ أضاعت ريشَها في أجنحة المجاعة. يمتطي النهارُ صهوةَ جواده على أنينِ الدروبِ الحزينة. تمشي الأحزانُ في طرقاتِ عاصمةِ الانطفاءِ بدون تفتيشٍ وحواجز أمنية. أفئدةٌ من الكرتون المقوى والشمعِ الذي لا يذوبُ إلا في توابيتنا.

 سَيَحفرُ في الرِّيحِ صورةَ جلودِنا من أجل الرياح الباكية. فراقٌ من أجلِ اللقاءِ. جدائلُ أمهات الانتظار سلسلةُ انفجاراتٍ في موانئ أعداء السنونو. ليست جمجمةُ العشب دستوراً لدولة عبيد الصولجان الذين يُردِّدون أقوالَ الزَّبد.

 يحمل ذكرياتِ عائلته واقفةً تنتظرُ حُكمَ الإعدام بالغازِ النابعِ من أرضنا، تحت الشرفات الشريدة. جَسدُ قصيدةِ الوجوه المجهولة ينصاع للموت. أيُّ مقبرة ستضمُّكَ في كل هذا المدى؟. الجفنُ الثائر هجرة النوارس إلى حتفها اللذيذ لأن التفاحات المغسولات في دماء العمر مفتاحُ باب الثورة.

 إن لم يسرع الرعدُ في تضميد الجرحِ سَيَكْبرُ الجرحُ ليصيرَ قريةً وحجارةً. سيدخلُ الموجُ في جَوْفنا في ثيابنا في أشلائنا. كُلُّ أرضٍ لا تحيا إلا على نعوشِ أبنائها. للغزاة انتحاراتُ فتياتهم العاشقات في مدارسهم الثانوية التي تزدحم بالأقسام المخصَّصة للحوامل خارج نطاقِ الزواج. إجهاضٌ في المستشفيات أم انتحارٌ في دهاليز محاكم التفتيش. وللغرباء الدنيا والآخرةُ.

 مَن يتجاوز ذاكرةَ الحزن المخنَّث يجعلون من لحمه عشاءً عائلياً للكلاب. هم دفاتر العميان يسيرون في الطريق المرسوم لهم من قبل السُّلطات الأمنيةِ معصوبي الأعين مطمئنين إلى انتحارهم المتكرر. أصبح الغُزاةُ يُملون على أصحاب الأرضِ طريقة العيشِ.

 ولمح ظلالَ العسكر تنسابُ وراء النوافذ البسيطة. بَيْن الحيطانِ المقشَّرة التي لا يملكُ ثمن طلائها. كُلُّ أحلامه طريق آخر لظلال الوديان. طريقٌ يقتلع ظِلَّه من شرعية حُلْمه. إنه في عالَم آخر ليس فيه بَشَرٌ يختبئون في جلودهم خوفاً من جُلودهم المختومة بشعارات الولاء للغروب.

 لم يكن لديهم مطبخ للاكتئاب للذكريات في عُرْيها الخشن. ولكن اللصوصَ الذين يرتدون ربطاتِ العنق في الحفلات العامة غيرُ مكترثين إلا بموعد بدء الرقص. يَسْمعون عن شيءٍ يُدعى مجاعاتٍ ولكنهم يظنونها بئر نفطٍ. مَشَت الأدغالُ البلوريةُ تناثرت الذكرياتُ على الأرضِ جبالاً وحواجزَ أمنية مُكهرَبة. لا أَمسَ لها سوى تواريخ هجرات الطيور. حَقَّاً، إن قَارورةَ عِطْري عَرْشُ الجماجم. أشعر أن وليمةَ خواطر البجع الراقص أعظمُ من ولائمِ الملوك الفاتحين التي تُنْصَبُ على أحشاءِ الجواري. دَمُنا المجفَّفُ وراء شمس بلادنا كالتين المستورَدِ، كجلودِ الحِملان الخارجة من المسلخِ للتو.

 يحاولون زراعة أعين جديدة لنا وألسنة جديدة، فنشاهد ما يُشاهِدون ونقول ما يَقولون، ونُكَوِّنُ مع الببغاءِ فريقَ عملٍ وفِرْقَةً غنائيةً لمديحِ القاتلِ، وهكذا نصيرُ مواطنين صالحين يربتُ رجالُ المخابراتِ على أكتافنا، ويحيوننا بتحية السِّكينِ، وتُحذَف أسماؤُنا من قائمة الملاحقات والإقامة الجبرية في دُويلاتٍ أنشأت مُستشفياتٍ للولادةِ، وإلى جانبِها مقابر جماعية لأمهاتنا. لعل النسيانَ أراد أن يبوسَ الرِّياحَ قبلَ وفاتها، وينثرَ على قلادةِ الأرضِ أحلام رُفاتها. يختلطُ وريدي بالمحاصيلِ الزِّراعية. إنه اندفع في حقول حُلْمِهِ مُمتزجاً بالخرير. عيونُه مُتَّحدةٌ مع الشلالات الجافة. لم يُفَصِّلْ ثيابَ الإغراء لبنات الإمبراطور. لم يُسَجِّلْ آبارَ النفط باسمه. مطرٌ امتداده حيث تصل عِظامُه المنثورة على طاولات القِمار.

 يحملُ همومَ السنابل على ظهر الموج ويسير قُرب نفسه بعيداً عن أرشيف عكازة الأعرج. كلما ضاقت رؤيته وسَّعها بدمه الجاهز لأسئلة الصهيل. للأعراب أهازيجُ الرَّملِ باتجاه الكُثبانِ، وله فراشاتُ الرَّبيعِ المطرودة.

 مِن أين سيأتي السهمُ الموجَّه إلى قَلْبه؟. مِن لَيْلٍ عَبَرَ قُرب اقترابه من الشَّمسِ، أم من نهارٍ تَوَّجَ ليلَ الرِّيحِ بالحناء؟. أيكما سيرفعُ جثةَ الآخرِ؟. قد تَرُشُّ الأوهامُ كومةَ حُكوماتٍ على قتلكَ، ويتهاوى جسدُ أبيكَ على المذبح.

 انتظرنا ولادةَ الأزهار الغريبةِ قبل مجيء أظافرنا وبعد العاصفةِ الخضراء. إنَّ عرشَ الركامِ لن يُزيلَه إلا مَوْتُنا. اكتملت صفقةُ نشرِنا في الأسواق والمطاعم الأجنبيةِ كالمعلَّبات الفاسدة. باعونا في قصور الخلفاءِ حيث تكون المراحيضُ مطلية بالذَّهب ورفاتِنا وأشياء مستورَدة.

 نشتري ذُلَّنا على البلاطِ الملمَّع بخدودنا الجريحة، والمعلَّقة على السِّياجِ الأميري. أيامٌ مَلَّت من ظِلِّنا الأبله. فالقططُ تستميت في الدفاع عن صغارِها، فلماذا قَدَّمْنا صغارَنا إلى السَّياف. لا أَهْلٌ لنا يَبْكون عَلَيْنا عندما تغيبُ الذكرياتُ الواضحة في اللاوضوحِ، وتُؤْخَذُ أراملُ القمرِ المهذَّب سبايا. هو الليلُ فَجَّرَ نهارَنا لصَهرِ البلوط في أحشائنا. أين تَمُتْ تجدِ الأفاعي ترثيكَ، لكي تطمئنَّ أشباحُ الياقوت أنَّك مَيْت.

 في ظُلماتٍ تبقرُ بطنَ المحيط الأطلسي وتستفيقُ على عويلِ النَّدى المشرَّحِ، كان الحرس يطوفون كأنهم قطيعُ جرذانٍ ساذجةٍ تدورُ في المدن المهجورةِ المعروضة للبيع في المزاد العلني. لم أتوقع أن يتم بَيْع الناس في السُّوقِ السوداء. والنرجسُ في خَيْمته ينتظرُ إِذْنَاً بالخروجِ لقضاء الحاجة.

 ذهب أصحابُ القلوب الحاضنة لطيفكَ المرتجف في بلدكَ المنهوب. غادر أولئك المبتسمون في تقاسيم جِلْدكَ للمشاركة في اجتماعات إنقاذكَ من نزيفكَ المتعاون مع الشَّفقِ. أغصانُ الحزنِ سريرُه والشفقُ قاتلُه. نشرَ ظلالَه على ملاقطِ الغسيلِ. ألغى ثلاثين دستوراً من دساتير صالة القِمار محطِّماً الرقم القياسي المسجَّل باسم الصُّبحِ. إنه القادمُ من طوايا بؤسنا، يُعيدُ لملامحنا لونَها، ولرقابنا ارتفاعَها، أعلى من مقصلةِ الغِربان.

 أُصغي إلى كلام الزيتون المحاصَر في أعياد الطوفان. أتذكُرُ أحصنةَ بني أميةَ تُطلقُ حوافرها باتجاه الحسين؟. وكلنا حُسين. خُلفاءُ اعتبرونا كالإسطبلاتِ تُوَرَّثُ، كالغانياتِ يُنْقَلْنَ من مجلسٍ إلى آخر. بِعْنا حناجرَنا في السوق السوداء من أجل الراتب الشهري. مِتْنا قبلَ أن نموتَ، هكذا حُفاةً نلبس عُرْيَنا خجولين منه واثقين من انكسارِنا.

 كلا، هذا زمنٌ لا يُروِّضه السَّلاطين. زمنٌ اختلطَ بدمائنا فتجمَّدَ وتكاثفَ في وجه عرباتِ الإبادة الجماعيةِ والأسطولِ الإمبراطوري. منتصفُ النَّزْفِ المحدودَب بدايةُ نمو وَبَرِ الجِمالِ. لَكَ قلبٌ، يعني أن قفصكَ الصدري زنزانةٌ مكسورة، ورموشكَ بندقيةٌ آلية لم تلمسها لاعبة تنس أرضي في دوائر مذاق اللوز. فاحْضُنْ اليتامى بين شَعْراتِ رمشكَ. لكَ جُرحٌ امنعْ الحزن المسرطَن من الوصولِ إليه، واجعله رصيفاً لمرورِ فتوحاتنا. لم نلتقِ وجهاً لوجه، لكننا اجتمعنا في لحظةٍ نسيت ملفاتُ دوائرِ الأمنِ تدوينها. وخوفاً من النِّسيانِ دَوَّنتُها لصقور آتيةٍ من نزيف الخلجان. يَعُزُّ عليَّ أن أحصلَ على إعجاب قمح المرافئ، بينما يُساقُ القمح إلى الذبح البطيء. ما المنفى إلا هُوَ.

 أرى أبقاراً تُجَرُّ إلى الحظيرةِ مُبتسمةً؟. أقصرُ الطرقِ إلى المشانقِ المرفوعة على باب المدينةِ المهجورة. رَشُّوا الوردَ البري على أغلال المسلخ ليبرزَ المنظرُ أكثر رومانسيةً!. رأوا الشعوبَ دُميةً متحركةً بأسلاكٍ خفيةٍ لإمتاعِ الأميراتِ ومَلْءِ وقتِ فراغهنَّ. أثاثٌ أعمى شمعاً مفروماً من الأبانوسِ، وحِبالٌ من الكِتَّانِ مُعَدَّةٌ لشنق الجوَّافة. مقاعدُ من آلامِ البشرِ وهرولةِ الأراملِ في القاعات الضيقة. براويزُ لآباءِ الخليفة وأبنائه وأحفاده الذين لم يولدوا بعد، وكلهم ينتظرون عرشَ الرُّكامِ.

 ذلكَ النزيفُ المحوَّل إلى كومةِ عِظام هَشَّمَتْها مطرقةُ الوالي. أطيافُ غُرباءَ شَقَّ طبَّاخو الوالي في جباههم طريقاً رئيسياً إلى المطار مُجَهَّزاً بأحدثِ الإعدامات يستقبلُ الضيوفَ. أيتها الحاكمةُ حينما تتناولين قهوةَ الصَّباحِ مصحوبةً بالسِّيجارِ الأجنبي، أرجو أن تتذكري دموعه لتصبحَ طعمَ القهوة ألذ. يدُ الرِّيح مُرتعشةٌ، كيف ستكتبُ قصتنا؟. إذن اتركوني أكتبُ دمه بالأحجارِ الكريمة المهرَّبة إلى الخارج.

 ظهر خروجُ القلوب كأمواجٍ من الفراشات تحاول الانقلاب على ألمها. علا الهتافُ العفوي ضد نعوش الصَّنوبر. نسورٌ مُزِّقَتْ أعشاشُها فتهاوى البَيْضُ الأخيرُ. المسافةُ ليست بالطويلةِ لكنها سنواتٌ من اللهيبِ والفجر الآتي هادراً ماحياً. فتحوا النارَ على طيورِ السماءِ. أَطْلَقُوا القَذائفَ على قِطَطِ الشَّوارع العَمْياء.

 واقتحمْ ليلاً تَكَوَّنَ من نهاراتِ الثلوج تُخفي تحتها غياباتِ الدَّمِ الأثري والبساتينَ اليتيمة. هذه أقوالي أنشرها في المجموعة الشَّمْسية، فانتظرني حتى أبراجِ جمجمتي ورايةِ النصر عليها.

 هَرْوَلَت الطَّلقاتُ حارةً لزجةً، لعلها انصهرتْ واختلطتْ بدموع مَن سبقونا إلى المذبحة. تُهيلُ الذكرياتُ الإسمنتَ الزجاجي في خُضْرَةِ الأدمغة. تحفرُ أدغالُ الدمع في الهواءِ ذكرياتِ الجريمة، وتتثاءب الرمالُ خلالَ غرورها المتوحشِ. وهذا الوقتُ يُقاسُ باحتضارات النباتات النادرة. وتتابعت أدواتُ القتل قافلةَ خفافيش عَطْشى تَهذي.

 اختفت الأصواتُ والوجوهُ البيضاء وأمست أرصفةً عريضةً. انجلى المشهدُ لوحةً زيتيةً بائسةً معروضةً في صالات المزاد السِّري استعداداً لفتح الأبواب أمامَ الجماهير. تذاكر منسوجة من العَظْمات المستقبلية التي ستجفِّفها الشمسُ في الظهيرة الحادة. لوحة زيتيةٌ باهظةٌ لأن زيتها تاريخُ حُلْمٍ ودماء. لا تزالُ اللوحةُ ساخنةً كطبقِ حَساءٍ مُعَدٍّ بإتقان، لكن الضيوفَ غائبون، واللصوص حاضرون. سَيَشْرع الزهرُ _ بعد أن تقضمَ البرودةُ جُثثهم هذا المساء_ في التجول بين المقبورين في الحياة الموْلُودِين في الموت.

 سَكَنَ الرَّصاصُ في الدماء الفاصلة بين الثياب والأجساد المتساقطة. واستولى على المكان هدأةٌ مُتراصَّة. في الفُوَّهاتِ حرارةُ الدُّخان تهدأ شيئاً فشيئاً. أصابعُ الجنود الباردة ضَغطت على الزِّناد، وأنصافُ الابتسامات الساخرة تَفرشُ أريكتها على الناس الممدَّدين على الأرض. دافئةٌ أوصالُهم تحضنُ جسدَ الأرضِ المصاب بالقشعريرة. يا أرضاً امتزجت بنا، فلا هي أَنْقَذَتْنَا ولا نحن أَنْقَذْنَاهَا. ضحكنا سويةً ونحن نُذْبَحُ وتُحَزُّ أعناقُ نخيلِنا. مَن سَيَفْرشُ في غيابنا القَشَّ في الإسطبلِ، ويُطعِم الأحصنةَ كي تنطلقَ في معاركِنا؟. اختبأنا في الأقبيةِ مع نسائنا، ورسمنا ملامحَ الرُّجولة على أشكالِنا. ذابت الألوانُ تَحْتَ شُموع الإبادة، والحفلةُ مستمرة.

 انطفأ العالَمُ اضْمَحَلَّتْ شموعُ الصواعق. سُكوتٌ يلدُ سكوتاً يُفَجِّرُ كلماتِ شفراتِ السيوفِ يَسْتقبلنا الانطفاءُ. غُزاةٌ يَذْهبون رَصَاصاً ويَأْتون وهماً. ينجلي لَيْلٌ مُشَقَّقٌ. تُسْحَقُ بِنتٌ يتيمةٌ في فِراشِ زَوْجٍ تَرفضه. ودمائي مِضَخَّةٌ بلاستيكية لغسل حُفَر المجاري في الشوارع الموبوءة .

 ذلك السَّيْلُ من الأعينِ الغاطسةِ في الأجفانِ المفتوحةِ لا إرادياً، والحزنُ يَشُمُّنَا بعنف. إنها صورةٌ بالألوانِ الوهَّاجةِ سوف يتكالبُ عليها صحفي مبتدئ يريدُ إعجاب رئيسه في العمل. وكحجرٍ حارقٍ صارخٍ يُهَرْوِلُ على أكوام زِنْكٍ متجمدٍ انبجس صوتُ جنديٍّ مهزوم: «انتهى العرضُ المسرحي!».

 صفحة تُقْلَبُ في مجلة المكان الغائب عن أفقه المتَّضح فِينا. وغَيَّرت الشَّلالاتُ عُنوانَ سَكَنِها خَوْفاً من المحاكمات العسكرية. لن تكونَ عَبَرَاتُنا على الرِّمالِ خطأً مطبعياً.

 في تلك الناحية توجد بئرٌ عميقة جداً وواسعةٌ تستوعب القتلى. وكيف سَنَحْملُ التراب وليس معنا أدواتٌ؟، _ نُجرِّد الموتى من ملابسهم ونحمل فيها التراب، فالملابسُ أكياس، وأيدينا رفوشٌ بمثابة الرفوش. نحمل عدة صخرات ونلقيها عليهم. ثم نفرش على آثار الدم طبقة تراب.

 ألقى الجنودُ أسلحتهم جانباً، وشَمَّروا عن سواعدهم، وتهافتوا صوب الكومة الجامدة. مَدُّوا أيديهم مخالبَ تهوى الاستحمام في عَرَق الجريمة. ينزعون الملابسَ برفقٍ خشيةَ تمزقها، يريدونها كاملةً تستوعبُ أكبرَ كميةٍ من التراب. وبعد وقتٍ أقصر من طول مثانة الريح صار العُرْيُ باسطاً نفوذه على الموقع. جمعوا الملابسَ في مكانٍ ما حيث ظهروا كباعة الملابس في جَنازةِ الليمون الصَّخْري.

 انطلقت القافلةُ الدامية في رحلة قصيرة تُجسِّد كلَّ تاريخ الأضداد. تُلقى الأجرامُ الآدميةُ العارية في البئر. حيطانها تغصُّ بالخضرةِ التي خَلَّفتها الطحالبُ المهاجرة من الذِّكْريات إلى الذاكرة. والغَيْماتُ تُشاهدُ التلفازَ في بياتِها الشتوي. الفصلُ لا شتاءٌ ولا صيفٌ. ماء آسنٌ يفتحُ ذراعيه لاستقبال القادمين بدون تذاكر سَفر أو حَجْزٍ مُسبقٍ. تكررت الأحزانُ جيئةً وذهاباً كأنها طابورٌ عسكري أثناءَ التفتيش الصَّباحي.

 يتم القتلُ ببساطة بلا بيروقراطية. بشفافيةٍ وموضوعيةٍ وعقلانيةٍ يَقْتلون، ويُلْبِسون الذئبَ الساكنَ فيهم مُحَيَّا ماعزٍ بريءٍ. والحاكمُ الذي يُرسلُ جيشَه ليحارب أخاه، ويظل هو في شرفة القصر مع زوجته المحنَّطة في قميص النَّوم الشَّفاف يتناولان فطورَ الصباح. وفوقَ الدَّمارِ يُلَوِّحُ قائدُ الحطامِ بقبعته العسكرية، حيث ضَحَّى بشباب البلدِ في سبيلِ اكتساب مُعجَبةٍ جديدةٍ وإضافتها إلى قائمة المعجَبات!. للمنافي تفاصيلُ أشيائنا. وإن عُدمَ المطارُ، فالسَّفرُ خَالِدٌ. حُبُّكَ للحريةِ اختلاطُ نهايات الخريف بعنفوان الشتاءِ في لحظة تماس غائبة عن ملاحظتنا.

 ويعلو النحيبُ في أحداثٍ يَرُصُّها الجنونُ في اللامعقول. الحُجرة التي قَدَّمَتْكَ للدنيا تصير قبراً لك وللآخرين. يأتي من ضوء الظلال رجالٌ يعتبرون الليلةَ الأولى في الحَبْسِ ليلةَ الدُّخْلَة. ليست الغاباتُ المحترِقة بالبياض في أَمْنٍ بل سُباتٍ. لماذا قَبِلنا أن تكون أجسامُنا مزارع أفيون؟. باعت أصواتُ القش أقراطَ أُمَّهاتِنا.

 عَبَرَ وطنٌ أحشاءَ نورسٍ يستغيثُ به. وطنٌ عَبَرَ عند عبوره. نزفٌ سَكَنَ عند نزيفه، وسارت الليالي في مسيره. أيها الجرحُ البركاني، رُوَيْدَكَ. اتركْني أحزمْ حقائبي وأحجزْ في أولِ قطارٍ إلى نحيبِ العطور. صَدِّقْ أنني لا أفكرُ في الهرب من مثانتي، أو تهريب أرصدتي إلى بنكِ الجماجم. أنا ذلك القادم من وراء التل على بغلةٍ تَكْسِرُ خطواتِها وتطير بلا تذكرة سَفر.

 تخرجُ من ظهورِنا أشباحٌ تلتهمُنا لأننا لم نُرَبِّها على امتطاء النيازك. نحن نبيعُ الأرضَ التي فتحها الرجالُ الذين يحملون لَوْنَ بَشرتنا. بِعْنا الأندلسَ لكي نُسَدِّدَ أقساطَ الثلاجة والغسَّالة، وندفعَ أُجرةَ التاكسي يُوصِلنا إلى انتحارنا الرومانسي. يدعو الفجرُ الصادقُ قرطبةَ قاموسَ الشفق.

 أعودُ إلى حُلْمي أشاهدُ صديقتي الريحَ وهي تحصدني. مطرودٌ أنا من قفصي الصدري. مُدْمِنٌ على تخليص النباتات من الاكتئاب. رجالٌ يقودون سيارات نقل الموتى وإلى جانبهم زوجاتهم. إنني لا أحسد النوارس، فقد تَعَوَّدْتُ أن أُقدِّم كرياتِ دمي لهباً لأبجديةِ السَّنابل. أن أكونَ باباً يَحمي الأسرى من الرياح. أن أكون زجاجَ نافذة لجارنا المشلول.

 وهناك السُّكوتُ غير النقي يتأجج في مكان آخر. بيتٌ مملوءٌ بدموع امرأة. إن ناراً تقفزُ في جَوْفها، فخرج اللهيبُ على لسانها مطعوناً بأحلامِ النزيفِ. هي مأساة الياقوت تثورُ في ذَرَّاتِ الأكسجين، والهموم تهدرُ كالطوفان العارمِ. ذلك الوجهُ البعيد وجهي يدل على اكتظاظِ الذاكرةِ بالثلوج.

 انتفضَ قطعةَ مَوْجٍ مَسَّتْها النيرانُ. تواريخُ الدَّمع البَرَّاق. خشباتُ موقف الباصاتِ لاصقُ جروحٍ لِقَدَمِ المرفأ. مِن أي احتضارٍ جاءت هذه الشطآنُ؟. جثثُ الأطفال تختبئ في جثثِ السَّرْوِ. ذلكَ العاشقُ السَّاهرُ يُفكِّر في امرأةٍ غاطسة في نَوْمها يبيعها أهلُها للذي يدفع أكثر. ممالكُ ترابٍ قد تندمجُ ولكنْ لا بد من قبورٍ تَضُمُّها. حُبٌّ جديدٌ أم أندلس جديدة تضيع؟.

 الدماءُ المسالةُ من عصير التوت. فالقاتلُ المحترِف لا يرتجف حين يُشَرِّحُ ضحيته لأن أناملَه أضحت زئبقاً حجرياً. إن مواقيت تجريد المقصلة من ظِلِّها تبزغ موانئ تُباد. الأرضُ مِكْواةُ العاشقين، عشبةُ المنفى البدائية، سخونةُ يورانيوم لا يُكتشَف إلا لتسميمكَ. والحزنُ يتمتَّع بِحُكْمٍ ذاتي في نشيدي. فيا أنبياءَ الله، ذَوِّبُوني في خيوطِ ملابسكم كي يلمسَ جِلْدي جِلْدَكم.

 هذا المكانُ قاتلي. هذا الضَّباب حادي أَسْرِي. شتائي مُزدحمٌ بالصيف الناعم. صِرْنا هياكل. لعلِّي أريافٌ غَادرتْ بُلعومَها بحثاً عن بكائي في الغَسق. كلما مَرَّ المكانُ على الهشيمِ تَسَرَّبَ النهارُ من فجواتِ السُّور الأخيرِ. هو الظلام عساكرُ لم يُقاتِلوا، وإنما شربوا الشاي في أحضان عشيقاتهم ممزوجاً بعُصارة أحلام الأسرى.

 ما شَكلُ العاصفة التي تتقمَّص أعصابَ الزَّبد؟. لستُ أسئلةَ دمائي. سأُكْمِلُ مشوارَ الصَّنوبر. أَجُرْحِي الرَّاوي أم الرِّواية؟. لا وجوه لهم بل أقنعة وستائر معدنية. بلاد ترفع نهرَ الدانوب محرقةً تَغرقُ في حقائب بائعات الهوى. تاجُ الصَّقيعِ المصلوبُ على سواعد سَيِّدات المجتمع المخملي.

 إن صدورَ أُمَّهاتِنا مُسيَّجة بالدموع لا تحتوينا. أرقامُ السجناءِ تصيرُ أكثرَ أهميةً من أسمائهم، وأرقامُ الزنازين تصيرُ ملامحَ للأسرى. تطهيرٌ عِرْقي في الأغاني الوطنية التي كتبها عُمَّالُ النَّظافة في قصر كِسْرى. فلا وطنٌ ضَمَّ النوارسَ ولا منفى.

والوجعُ الرصيفي يتألم من انكسارات أطيافنا على رحيل الميناء. نحن المنفيين في الوطن المواطنين في المنفى. نعيشُ بينهما، وإن نُسبنا إلى أحدهما فهذا رصيفُ المجاز.

 وعبرتُ فيَّ، والنهاراتُ تخلعُ كتفَ الرصيف. بَيْني وبين ذاكرتي حَرْبُ شوارع. مثانتي حقلُ ألغام بحرية. هنالك في أجزائي خيلُنا تأكلُ خيلَ التتار. والتهم لونَه شجرُ الغارِ. كأَنَّ غيمَ نظراتنا خُوذةٌ لرأس العاصفة المقاتِلة إلى جانبنا. عَقَدْنا اتفاقيةَ سلامٍ مع دمائنا، وخَطَبْنا العاصفةَ. يَا وَحْشةَ الإِماء بَعْدَ انتحارِ السَّلاطين.

 كان توحُّشُ الرَّصاص قد ملأ أركانَ القرية الموغلة في النسيان. واخترقت الأصواتُ المتوحشةُ شبابيكَ المنازل، شبابيكَ التصق بها نسوةٌ وأطفالٌ يتطلعون إلى المجهول الساكن وراء مدى النظر المتقطع. رُضَّعٌ دَفنوا خَوْفَهم في صدور أمهاتهم. نشبت حرائقُ في قلوب الأمهات كالشجر المعجون بالدموع. تَفَجَّرَ المنظرُ وراءَ الزجاج غير المكتمِلِ أجفاناً متجمِّدة.

 شُهودُ العَيان الوحيدون هم الضَّحايا هم الموتى. إنها مأساةُ الأمهاتِ في لحظة أكبر تمزُّقاً من أرحام جاهزة للولادة. عندما يتصورُ مأساتَهنَّ الجليدُ يخجل من نفسه. احْتَفَلْنا بالهزائم لأنها نَصْرُنا الوحيد. وتتقطعُ الأجسادُ الأنثوية آلافَ المراتِ. هل يأتي بريدُ سِنديانةٍ يطرقُ البابَ أو رياحٌ ترشُّ أخبارَ الغائبين على حِبال الغسيل؟.

 مُحاصَراتٌ بالوجوه القديمة والمشاعرِ المختصَرة. كالوهج الساعي للالتصاق بأخشاب المراكب العتيقة، كالشمس التي تعلمُ أنها ستموتُ، يجلسنَ على أعصابهنَّ بلا قهوةٍ وجاراتٍ. يمرُّ على المأساة كاتبٌ يجدُ لها نهايةً لكنها تظل مفتوحةً.

 ذكرياتُ السَّبايا. ووقتُهم جُثثٌ. ولحظاتُ حياتهم موتى جالسون على عقارب الساعة. جَرُّوا سهامَ قسماتِ غرورهم، وانطلقوا يجهزون قِدْرَاً. جَمَعُوا أحطاباً جاءت من أغصان مكسورة لم تجد وزارةً تُحافظُ عليها. الشجر الميت اللاهثُ في صفير القطار البخاري. لم يبقَ منه إلا ألوانُ الخراب.

 تتهاوى أشياء الإنسان أو اللاإنسان في بُرهة أقصر من حبل الحريق على سطح عَرَقنا. أي وجهٍ يتخثرُ في حرائق المطر؟. كأنني أنظرُ إلى الأضرحة تخطفُنا. كأننا نخيط قمصاننا من شتاء البساتين. أتُرانا هُزمنا لأننا ذهبنا إلى المعركة بالبيجاما، أم لأن قلوبَنا لم تعد تختلف عن سَذاجة البيجاما؟.

 كان الظلام يتفجر ينابيع نهارية، ويتكلس على مقربة من المصلوبين المتكررين في سنوات الثلوج الحارقة المحترِقة. صراعٌ على أكوام العطشى في الجوع الحياتي. يصعدون كي يتعلموا النزول إلى قيعان التيه. وطنٌ خالٍ من معنى الوطن، نحمله معنا إلى السوقِ لنبيعه مثلما بِعْنا نساءنا، واشْتَرَيْنا تنانيرَ قصيرةً بالمبلغ الذي حَصَلْنا عَلَيْه من رهن كرياتِ دمنا البيضاء.

 ليلٌ ينطُّ على أحطاب لا مستقبل لها سوى الحرق في المواقد، حيث ينام قُبالة سواحل النار جندي خجول مع عاهرةٍ محترِفة، يتوسطهما كلبٌ غير وَفِيٍّ خارج من الاستحمام للتو. رائحةُ الصابون والشامبو، ومجيءُ ساعة النهاية التي تقضي على الملامح. الصحفُ الموالية للحكومة في ممالك الصفيح، والشعبُ الذاهب في إجازة مفتوحة. فتاةٌ في مقتبل عُمُرِها لا تعرف أن دولتها آخذة في الانهيار. لاعباتُ كرة المضرب يعتنينَ بالعَرَق في ملابسهن الداخلية المعروضة أمام آلات التصويرِ. حضارةُ الانتكاسة تمشي على رأسها. إنها امرأةٌ تفتحُ فَخْذَيْها للجماهير، وتأتي جمعياتُ حقوق المرأة لِتُسَمِّيَ ذلك انفتاحاً.

 ذئابٌ تتصارعُ على احتلال عروش الأنقاض. يا أيها العالَمُ الذاهبُ في ظلماته، إنني قادمٌ لأقولَ ما لم يَقُلْه البرقُ. نجاحُ العاهرة في تجميع أكبر عدد ممكن من الزبائنِ. هي الحضارةُ المعدَّلة وراثياً، هي الحكومات التي عَدَّلَت الشَّرفَ وراثياً. لم يعد في نزفي سوايَ، أحترقُ وحيداً منساباً مع نبعِ قريةِ الموتى، أتحدُ مع أعمدةِ الجامعِ، ثم أموتُ تحت المراوحِ، وموتي حياةٌ. فقد كنتُ مَيْتاً، والفيضانُ أحياني. اسمي ذلكَ البحرُ القادم من وراء الغيم. إن النعوشَ تَصْعد على دَرجات السُّلم الموسيقي في حفلاتِ القتلِ التي يُعِدُّها العساكرُ الذين جاؤوا من أصلابِنا. ها هو النهر في بيته محصوراً بين اللهيب الداخلي والخارجي.

 كان المشهدُ أفقَ الرَّصاصِ. هكذا يُدانُ القتيلُ ويُبَرَّئ القاتلُ. أنتَ مُتَّهمٌ ومنبوذٌ سواءٌ ثبتت براءتُك أو إدانتك. وللمرةِ الألفِ تنزفُ القريةُ المغتصَبة، ويضحكُ مُغْتَصِبُهَا. مثلما اغْتُصِبَت الفراشاتُ في سراييفو. وما زال الجنودُ يَشربون البيرةَ عند الأضرحة.

 كَغَيْمةٍ تستعيرُ من الينابيع لونَها كان وجهُ المراعي القاحلة في بلاد صارت مقصلةً لا تقبل الأعذارَ الصادقة والكاذبة. أحياناً أتخيَّل رأسَ البحيرة غير موجود بيننا وإنما يعيشُ وطناً نقياً لا يتكدس فيه المخبِرون المتقاعدون الجالسون في الكافتيريا على الطريق الصحراوي. تخلصتُ من كُلِّ وجوه القتلى، وغَسلتُ جرائمي بصابون النِّسيان. أنا القاتلُ الذي سَيَقْتل نفسَه في هذا الجنون المتطاير. ولن يكترث بي أحدٌ. حتى راتبي التقاعدي سَيَقْطعونه بعد زَوالي. سأترك أوسمتي للصدأ.

 جُثَثُهم مزروعةٌ في نحيب الأمطار. انطفأتْ على شَفَتَيْه ابتسامةٌ محتضرةٌ كأنما هي سرير في غرفة العناية المركزة. كانوا يَعْبرون أغنياتٍ خرساء على قناديل الفقراء الذابلة. ومملكةُ العيون المحترقة بالضباب المر تتهاوى قَشَّةً خارجة من مواسم الإبادة. ولادتنا ثورتنا، فهل سَنُضَيِّعها في أمسيات قوس قزح فوق الأسلاك الشائكة على سور السجن الصحراوي؟. تفجَّرت ساعةُ الحسم وجاء موعدُ قتل الحلم الهادر. تقدَّموا والبراكينُ تفور فِطْراً سَامَّاً في رؤوس تطوف كإبريق ماءٍ قرب خيمة لاجئ. أَطْلَقوا البساطيرَ العسكرية المتوحشة قذائف على ذاكرة الينابيع.

 العروقُ تقشعرُّ جزيئاتِ حُمَّى تقضم الأعصابَ، والجبينُ يتجعَّد كدمٍ مختلط لا تُعرَف هويته. صياحٌ ينطلقُ قطيعاً من المها. تتسلقُ الآهاتُ المدوِّية حيطانَ الضياع بلا موعدٍ سابقٍ. كانت أعينُهم مخالب مغروسة في دمعها المر. لماذا تصير النظراتُ خناجر في جسد الأرضِ؟. هل سننتظرُ القتلةَ كي يجيبوا على سؤالات الملح في أعضائنا الممدَّدة على المذبح؟. تتكسر رماحُ وجهها في معركة غير متكافئة تمتد عبر الأراضي المهجورة التي ضربها العطشُ.

 العِظامُ قافلةٌ مُبَعْثَرةٌ ارتحلتْ منذ زمنٍ. والذهنُ يتشظى في المطر الحمضي. الجفونُ قِطَعُ فُولاذ. مَعاناةُ الصَّدف النحاسي. تفجَّرت النظراتُ سكاكين تمتصُّ اللمعانَ الخافت لحبالِ مشنقة تدور في أذهان شجر البلاد. كان يرى ذَرَّاتِ التراب مقاصل خارجةً من كتابات الصاعقة القادمة من كل الجهات. ماذا ستفعل في هذا النزف المتذبذب كتردد إذاعة تُلقي نبأ استسلام الجنود الغامضين للغُزاة الواضحين في اليباب؟.

 الطائرُ الملتقي مع جلاديه في الحديقة العامة خلف المجزرة دون موعد مُسْبق. الدَّمُ يقضمُ الأرضَ قضماً عنيفاً. دُبٌّ قُطبي يتأرجح على حبل رفيع في سيرك جمهوره من الأموات. كأننا في عالَم من الحِبال والرَّقص. والحِبالُ الخشنةُ في كُل مكان يَعْرفنا ويُنكرنا.

 ترابُنا الذي كُنَّا له وكان لنا. مشروعُ الجثة المستقبلية. إنها نهايات حُلْم الفراشة تدور في دروب مكشوفة تحت ذاكرة الشمس. سَحَبُوا الجسدَ على الأرض الملتهبة المتفجرة في احتكاك اللحم السريع بالأرض الحارقة.

 جسدان ساكنان غارقان في وِحشة متفرقة كموجتَيْن منبوذتَيْن في بحرٍ جَفَّ بسبب كثرة ملح الدمع الهابط فيه. أيها الرِّفاقُ الثوار النائمون مع زوجاتهم. يا إخوتي، في بلاد الرعشة رايةٌ تزورُ الريحَ لحظة ولادة الزَّنابق. نُلدَغ من نَفْس الجحر كلَّ يومٍ ألف مرة. فلنصرخْ في الصدى البحري: لن نخونَ الضَّحيةَ مَرَّتَيْن. يا زَوْجتي: لن أخونَ شكلَ دمكِ الزجاجي لكنني غير متزوِّج.

 كانت العيونُ الوقحة تُشبه الأقنعةَ أو العدساتِ اللاصقة المتَّسخة التي لم تجد أحداً يُنظِّفها غيرَ الدَّم النَّجس. انتحاراتُ الملامح موجودة في كل مكان. والليلُ يَحْسِبُ عددَ الجروح في جسم البحيرة.

 كلُّ شيء في المكان مُهيَّأ للسكوت أو الغياب. ماتت أشكال الجنود اليابسة، وبدأت تتساقط منهم أسراب من الجراد. جَهَّزْنا قصائدَ الرِّثاء ونحن ننظر إلى هلاك الضحية. ولم نفكِّر في مساعدتها، ولم نملك الجرأة على النظر في أعين قاتلينا. نحن متخصِّصون في تأبين موتانا وحَرْقِ شهدائنا في غمرة الضجيج في أسواقنا القتيلة. الرؤيةُ الدموية في الأفق الأرجواني. مَحْبرةُ القمر. لم أتوقع انهيارَ أبجدية العشب قُرب نبع الأحزان.

 تأكل الأتربةُ أطرافها في هذا اللون المختزَل في هندسة الصمت المتواطئ مع السِّكين. حَفَرَنا الضياعُ بأدوات رَسَّامٍ لم يجد في مرسمه سوى جثته. لقد ماتت الوردةُ أيها الشعبُ الغارق في مدن صفائح الدم الملوَّث الذي يُغيِّر جِلده حسب بوصلة السُّلطان. انتهت ابتسامةُ السنابل في الحقول المحروقة. وُجوهٌ تدور حول أعمدة المساء في توهُّجات النِّسرين. نحن نشيدُ الانطفاء في الاستماع إلى النشيد الوطني لدولة الجنون. سوف نعود إلى بيوتنا لمداعبة أبنائنا الذين نُلقِّنهم تعاليم الخوف. لا شيء يبعث على الحلم في مساحات مختنقة تحقنها سجاجيدُ الدوائر الأمنية في جباه القطط الشريدة في الشوارع المعبَّدة بالسموم. لا شيء يبعث على الحلم غير إسقاطِ القناع.

 خذوا المكياجَ الإغرائي في وجوه الزوجات الخائنات في مستودع القِمار، وامنحوها دموعَ التفاح في مساءات غرناطة التي طُرِدْنا منها مذبوحين نَسوق قافلةَ قلوبنا المخلوعة المتطايرة على أبراج الألم شمال الرأس المقطوعة. خذوا عنفوانَ أنوثة الفتيات في ليلة الدُّخلة، وامنحوني تواريخ وفاة البنات المغتصَبات كي تَجمع الأمنياتُ تواريخَ ولادة الوحشة والدمعِ في كوكبنا. خُذوا المناصبَ السِّيادية في حُكومة قُطَّاع الطُّرق الوطنية، واتركوا لي ضياعَ الأندلس لأَصِفَ جَنازةَ العصافير المحدِّقة في موتِ الشعوب في أرضنا الحطامِ. للشَّهيدةِ كُلُّ انتصارات الأُفق رَغْمَ جريان دمها في صالات الألعاب.

 أشكالاً للأسى يمشي الحلمُ على عبور المحارِبين. نهرُ الدهشةِ بيننا، والحِبرُ يَدفنُ ملامحَنا الزِّئبقية. ربما يحتاج النخلُ الذابلُ إلى وقتٍ طويلٍ كي ينسى تلك العيون المنكمشة في الأحداق المشقَّقة نتيجة صياح الحمَامة في صوت العاصفة التي أتت. تفشَّت أغصانُ الطاووس في الجسد الآيلِ للوقوع في غَيْمٍ يَقطع شَرايينَ المسلخ.

 أنا الشَّاهدُ المذبوح أثناء مجيء الزلزال. والغزاةُ هُم القلقُ الأسطوري المتفشي في شعوبهم شواهدَ قُبورٍ تركض في كُلِّ أجزاء العار، يشاركون الآخرين احتضارهم ويسألون الشمسَ بعد قتلهم للشمس: «أين الشمس؟!»

 بلادَ اللصوصِ والمومساتِ القائمة على الجماجم البريئة، إِنَّ شبحكِ مات. عُودي إلى المدافن أو الولادات الجديدة. هياكلُ وطن ماتت في النشيد الوطني ومات فيها. متى ستقتلوننا وتمسحون أشلاءنا عن خرائط الثورة لتفرح أميراتُ الرُّكام وَهُنَّ يَلْعبنَ القِمارَ وصُدورهنَّ عارية؟.

 محبرةُ الليل أغاني اللقاء مع ينابيع الضحك المندهش من عَبَراته. فقهاءُ البلاط أولُ انتحارات القرنفل في صحون العفن الطازَج. احتضِنوني، أنا الأرضُ التي شَهدت على مجيئهم العنفواني إلى قوافل الذبح المتكرر. يا امرأةً مَرَّت من هنا قبل انتحار القراصنة في القوارب المطاطية.

 انتظر أيها البحر النائم في رُكَبنا، لا تمضِ في طريقكَ نحو تسجيل الواقعة ضد مجهول. فقد كان هناك شاهدٌ آخر على الكارثة. ما شكل دمه؟ من أين أتى؟ ما لون عَيْنَيْه اللتين تجمَّدتا على صفيح مرتعش؟. اظْهَرْ يا شاهدُ في الأحاسيس القرميدية كي تستجوب الظلالُ عَيْنَيْكَ، وتأخذ منها اعترافاتِ الرؤية في خِضَم المرئي. إنه هناك. يظهر طفلٌ كشاهد عيان على انتحار المرافئ الفضية قرب منتهى الفراغ الممتلئ بالصعق غير الكهربائي. اسمه ضائع مع الضائعين في حقيبة الصحراء السَّجانة في بلاده المنسية. بَصَرُه متكلِّسٌ في قاع الصدمة مثل صخور رسوبية تزوَّجتْ صخوراً نارية في السِّر المفضوح. خلفَ النافذةِ طريقِ الجثامين العابرة يقف شَعْرُه على قدمين تهتزان فيضاناتٍ ذُوِّبت في أكواب نحاسٍ تافه يشربه الشايُ اللغزُ. اهتزازٌ خُرافي في صُوَّان يَدَيْه أوجاعِ الظِّل. سِحْنته مَداراتٌ. شَاهد الحزنَ بالكامل. تجمَّدت أعضاؤه الطينية، وتآكلت نظراتُه في صندوق من الخزف مَرَّتْ عليه آلاف الأعوام. افرحْ أيُّها الأعمى، سَوْفَ يَخونكَ الدَّمعُ صوتُ البراري في ذِكْرى احتضارها على جداريات المذبح المجهول.

 طاووس أخرس أضربَ عن الطعام في حديقة الحيوانات احتجاجاً على بيع الهواء للشعبِ!. الأحزانُ المسفوحةُ على البلاط شَارعٌ فَرعيٌّ اكتشفه عالِمُ آثار أجنبي زِيرُ نساء مَكْسور.

 الكومةُ الجسدية المتكوِّرة في مدار شمسيٍّ متأرجح بين ذِكْرى القرنفل والرصاصِ الحجري. تسير خطواتُه وتنحت في البلاط أشكالَها. الذكرياتُ المحفورة في جبهته كالمنجل الرديء في صدر السنبلة اليتيمة. إنها مقبرة من الكِلْس المغشوش تبلع أبناءها. يمضي كالقائد المهزوم في آخر معاركه. كانت الذكرياتُ تتوزَّع على جسدٍ نحيلٍ مرميٍّ على الأرضِ القاتلة. نسرٌ كسير لا يستطيع إطعام فِراخه، أو حُلْم لم يستحم منذ ولادته الباكية. يتناسل كالإبر أو الخناجر في عيون المكان العشوائية التي تقفز على الحيطان المشابهة للزنازين المتوالدة في شظايانا المهجورة. صار الدمعُ يتبلور كُحلاً لا لون له في الأحداق الذابلة.

 لم أُرافق شاباتِ نيويورك إلى السِّينما، ولم أفترس فتياتِ مانشستر في أحواض السباحة. إن القمرَ هو الشاهدُ على مراحل إعدامي غير المحسوس. أعودُ إلى بَيْتي حيث يبتلُّ طريقي بالدموع، وتعيد عَبَراتي صياغةَ الأوحال في شتاء المقابر. قضيتُ حياتي في انتظار حُكْمِ الإعدام، لكنه لم يأتِ. عشتُ أيامي كلها في الحصار.

 هجرةُ كريات دمي. الوطنُ صار قَبْراً جَوَّالاً. الورودُ المرميَّةُ على شظايا الزنازين، والسجينُ الخارج من قَلْبه إلى الحقول. والعيونُ المرتعشة التي أَحَبَّتْكَ في الحارات التي لم يعد أحد يتذكرها.

 إنْ نام الشعبُ في كُحْلِ الزَّوجات، فلا تنسَ أن دمكَ مغروس في سقف حُلْم لا تصل إليه إلا بالثورة. جُرْحُكَ سَيَجْرف الشوارعَ ويخلع حُفرَ المجاري. وإن احتقرتكَ بناتُ الأغنياء المحنَّطات في سيارات المرسيدس فتذكَّرْ أنه يتم بيعهنَّ لمن يدفع أكثر، ويتم وأدهنَّ في صالات الرقص على ضوء الشموع الرومانسية.

 يُحضِرون معهم أكفاناً مغسولة جيداً لم تتلوَّث بالتيجان وفساتين السهرة. جنازاتٌ عسكرية يمشي فيها رجالُ المخابراتِ مع الرَّاقصات. وأظل _ كعادتي _ رَقماً على باب زنزانة لا يعترف بها السَّجان. ساد هدوءٌ مرعب في المكان الجليدي الساخن. أَرسل الليلكُ بصرَه إلى الأبعد. وَجْهُه مَسْربٌ واضح في أُقحوان الغمام. والسكونُ يتسلَّل إلى كل خلية من جسمه. نحن الموتى الذين قَتَلْناه ننظر إليه على أنه منبوذ. نتبرأ منه ونُنكر معرفتَه، ونتساءل: «هل مرَّ من هنا رَجلٌ له نَفْس ملامحه؟»

سوف نُدرِّب ذاكرتنا المهشَّمة على نسيان اللوز. سوف نخلعُ المطرَ من حيطان الذكريات. جاء وعاد. من سيُكلِّف نَفْسَه عَناءَ الذكريات؟. الأمهاتُ مشغولات في المطبخ بإعداد المعكرونة بجميع أشكالها، والموظفون يحاولون حَلَّ الكلمات المتقاطعة. سَوْفَ نُفرِّغ تاريخنا من دماء الفاتحين، ونضع فيه عَرَقَ الراقصات. الجنرالاتُ المنتصرون على شَاشَةِ التِّلفاز المهزومون في المعركة. لن نشارك في جَنازة الزَّيتون السِّرية.

 أيها الناسُ، لقد مات الحلمُ. نَعَم. مَات. لقد أُزيلت الصخرةُ من طريقكم. صار بإمكانكم أن تناموا مع نسائكم بكل هدوء، وأن تبيعوا بناتكم بكل هدوء. فلترقصوا الآن في الطرقات. اشْرَبوا أنخاباً جديدة. وَزِّعوا قطعَ الحلوى على المارة. شاهِدوا مبارةَ تنس أرضي للسيدات، ولا تتذكروه.

 وَجَدَ قلبَ الطوفان. قطيعُ سنونو أعلن العصيانَ المدني في أمكنة الغموض. كانت غاباتُ البكاء ترتسم أمامَه أشباحاً. تبكي الشوارعُ العاصفةُ. ساد المكانَ سكوتٌ ضبابي امتصَّ حروفَ الأبجدية. منشورٌ سياسي يُلقى على مسامع الحشائش في البراري. الكلُّ يَعرف الطريقَ ولا أَحدٌ يمشي فيه.

 العيونُ المندهشةُ وَراءَ الأسلاك الشائكة. والعصافيرُ السجينة في أعمدة الكهرباء الخشبية. والفقراءُ في مساقط رؤوسهم يمشون نحو الضوء. كان مرورُ الوجوه في ذهنه عاصفاً. أصواتٌ تدبُّ على سطوح الشرايين بلا موعد. انهياراتٌ صارمة في جسده الملفوف بالصدى. لم تكن خيالاته إلا شكلاً للانطفاء المر. هكذا هي حياته، صُراخٌ لا لَوْنَ له في أغوار جبهته السحيقة. ذهب الذين يستمعون إلى صُراخه. اسْتَسْلَم لطوفان من الذكريات الصاعقة. الأشجارُ على جانبي الشارع خناجر في ظَهْر المسافة. دموعُ السِّنديان يَذْرفها بُلبلٌ مطرودٌ من عُشِّه. إنها الذكريات المتكررة في الجرح المتكرر.

 ملامحُ العواصف لن تتغير حتى لو فهمت الأشجارُ لغتي. مثلما تبكي الأمطارُ في الصحراء تبكي الأشياءُ المولودةُ من العنف الأحول. المسافاتُ تنصهر في حرارة إطارات الكاوتشوك. كلُّ أربطة الجروح في سواعد الغيمةِ سوف تتبعثر كالفخَّار الأرجواني في بساتين النظرات المكسورة. وطنٌ للفرح يطلع من رَحِم الحزن، ونحمله في صدى جلودنا بشراً يمضون في طريقهم نحو ذكرياتٍ أقل عنفاً. إن الحزن بَوَّابةٌ كهربائية في زمن انقطاع الكهرباء عن أريكة الجسد.

 إنه الجوع يا ذاكرة الظمأ. يختار ضحاياه بعناية فائقة. الأصابعُ تنغمس في الصَّهيلِ كبراميل بارود تختبئ فيها فراشاتٌ لا سيرة ذاتية لها سوى التَّطهير العِرْقي.

أنشودةٌ عذراء بدائية ضَلَّتْ طريقَ الرعد. كأن كُرياتِ دمي إجاصٌ خَشِن. عرفتُ الإجاص بعد موت كليوبترا وانتحارِ العاشقين في الكاتدرائيات ذات الإضاءة الباهتة.

 ذهب النومُ إلى النومِ في سرير ذبحتي الصدرية. والبراري الصاعقةُ تنام في عيون الرياح الموسمية. سَقَطَت الموانئُ ضَحِيَّةً للشَّخير. أنفاسُ خَفَّاشٍ قديم يَلبس النسرَ ويضرب جذورَه في أرض ترفضه.

 اكتشفتُ صَوتَ أُمِّي وراءَ هِضاب القشعريرة. أوردةُ الشَّفق تشرب اليانسونَ في استراحةٍ على الطريق الصحراوي. قافلةٌ تائهة على حَافة المجرَّة. كالفراغ الممزوج بالرَّهْبة يجيء عُنفوانُ الأشجار الميتة. لماذا يبكي الحطبُ عَلَيْنا في صحارينا الممتدة من نعوشنا حتى ضياع الأندلس؟.

 القتلةُ يعيشون في قمصاننا، ويتكاثرون كملاقط الغسيل في الأربطة الملفوفة على نزيفنا الصحراوي الذي هَجَرَ خُضرةَ الثلوج الراكضة. كلُّ الطرقِ الصحراوية تمشي على العَرَق المتفجر من مسامات جلودنا في يوم حزين لم تُسَجِّلْه أجندةُ الغُزاة.

 الذكرياتُ القاتلة. شَبحٌ يَتجوَّلُ بين أكوام العِظام والجماجمِ. عُقابٌ يَحفر في الجدران صورةَ احتضاره. في العيون المحترِقة يتصارع النعاسُ مع الشَّبق الهادر.

 الفراغُ الأُفقي. رُخامُ الفوضى الموحشةُ. صَمْتُ الأثاثِ الباكي. الأوعيةُ الدمويةُ مُغطَّاةٌ بالسَّجاجيد.

 مُعَلَّقاً بين جُرْحَيْن لا ينامان. مصلوباً على ألواح الذكريات. كانت الزَّنازينُ تشاركه النَّومَ أو الأرقَ. لا فرقَ بين الأضداد إذا تكاثرت الحبوبُ المنوِّمة. الستائرُ تتطاير في نشيد الصَّنوبر. الشُّرفةُ الخالية من مُواءِ القطط. العَرَقُ اليابسُ في زوايا الملابس العسكرية للنهر. وأتى الصباحُ حَامِلاً ضحاياه في كِيسٍ ورقيٍّ هَش. قال الرملُ الأخضر: ((إنني ضحيةُ نَفْسي عِشْتُ في الوهم وسأموتُ في الوهم. كُنتُ ضعيفاً بما فيه الكفاية لأُحدِّق في شمسي التي دفنتُها في أضلاعي)).

 كان ينظر القمرُ إلى جنازتي بِعَيْنَيْن جامدتَيْن مثل ضفدعَيْن حُوصِرا في بحيرة مُتجمِّدة. يسيلُ العَرَقُ من جبين السُّيول كالدبابيس، وينتشرُ كالمسامير التي لم تجدْ مطرقةً. كانت سياراتٌ عسكرية تَحفر في الأرض خنادقَ الرعب.

 كلُّ شيء جاهز مسبقاً في هذه البلاد. قائمةُ التُّهم جاهزة تعجُّ بشتى أنواع التهم حسب الطلب،وحسب مزاج المسؤولين. أرقامُ الزنازين هي الأخرى جاهزة. المحاكمُ العسكرية في داخل كل بيت من هذا الوطن القُربان، هذا البلد الذبيح.

 الشُّرفةُ الزجاجية تَذوب في دُخان المراعي. حيطانُ الزنزانة تقتربُ من السُّجناء. نَغتسلُ في نهر وَحْشةِ الجدران نختلطُ بذكريات الطيور المهاجرة نحو صُفرة المراحيض في الزنازين الضَّيقة. لكنَّ صَوْتَ نِعال السَّجَّانين قد فَرَّق كلَّ طيور القلب الوحيد.

 جِبالٌ من الثلج الأسود تصهر دمَ البراري ذهباً لساعة يد السَّياف المتكرر في أقنعة السجانين. تتوالى الصرخاتُ الخرساء والسُّعالُ المعلَّب في فقرات العمود الفقري الممزَّق. نَهربُ كالسَّناجبِ الوحيدة في خيوط أجنحة الفراشات الطريدة.

 يا صَمْتَنا المتقمِّص تيجان المرعى المحاصَر. لم نَعُدْ نُميِّزْ بين تقشير البصل في المطبخ، وتقشيرِ جلود الفقراء!. وما زال بريقُ السِّياط يمرُّ على الظهور العارية كما تمرُّ الأسماكُ في عيون الغيمات المنهَكة.

 كان الزَّبدُ يتحسَّس النعوشَ الفاخرة. يستنشق رائحةَ ثياب الزَّوابع. يَشمُّ قطيعَ الدموع البرية. لا تبيعوا تلك الجثةَ في السوق السوداء لتحصلوا على ميزانية صالة القِمار. لا تَعْرِضوها في المتاحف أمام عيون القططِ الضَّالة. لا تُعلِّقوها إشارةَ مرورٍ في الشارع. في العيونِ الخائفة شلالاتٌ من الذكريات المنهمرة والبريقِ اللازوردي. أفتحُ معدتي لأمواج الذكريات.

 لستُ برتقالاً لأن البرتقالَ صَدى، أمَّا أنا فصوتٌ. دمائي سيرةٌ ذاتية للرياح القديمة. وطنٌ يستثمر أجسادَ نسائه كمساحات إعلانية وعقودٍ تجارية ومعامل لِصَكِّ العُمْلةِ. بَشَرٌ يَعتبرون شنقَ الفقراء أفضل وصفة لتخفيف ملل السلطانة، وبَشَرٌ يموتون ليحافظوا على شَرَفِ الأمطار. فتىً أحمق في أحضان عاهرة محترفة، وبنتٌ خجولةٌ في ظلمات دَيْرٍ يَخْنقها ويَغْتصبها.

 ظلالُ الريحِ الغضبُ صورةُ أنيابِ السَّحابة. جَدائلُ راهبةٍ مبتدئة اشمأزَّتْ من زِيِّ الكَهنوت. حَفَروا قبركَ بأسنان خشبيةٍ. قِفْ تاريخاً لضمير الشمس يُلغي تواريخَ الأبقار المتسلقة على النباتات البلاستيكية على جُدرانِ القصرِ.

 الجدرانُ تنقضُّ على السُّجناء كما ينقضُّ الملحُ على دموع الصَّبايا. تَسَمَّرَ خلف مِقْود السيارة ليلٌ. وبينما كانت عرائسُ القصر يَغْرَقْنَ في المرايا الأخيرة، كانوا يقترعون على حُنجرة الضَّحية. وجهي صِدامُ الحضارات فلتصعدْ يا زلزالي إلى الشمال الملوَّث بالزرنيخ الذي يُغَطِّي الشوارعَ كالثلوج الحمراء. الوردُ أجنحة النُّسورِ. تلك الملامحُ المرميةُ وراء برسيم الإسطبلاتِ ومراعي الأثرياء.

 صاعداً من التراب نازلاً إلى التراب عانقتُ ثورتي عند مصبِّ وَرِيدي المفتوح دائماً. غريبٌ أنتَ تحت ذكرياتٍ مشلولةٍ تنفيكَ. وُلِدَ الحلمُ قبلَ ميلادِ قضبان السجون، وبعد انقراض المحارِبين الذين نسوا تقبيلَ نسائهم عند ذهابهم إلى المعركة. أذكرُ التفاحَ الحجريَّ كما يتذكر القتيلُ صورةَ قاتله خلف المغيب المتكرر. لستُ خائفاً من ذاكرةِ العَسَس. ولستُ طامحاً في اصطياد قلب الأميرة. أنا وصيةُ المنبوذ الحاسمة وحجارةُ المآذن.

 لقد اشتقتُ للصنوبر الساكن في الغَيْم. أُعانقُ البَيْلسانَ الموضوع تحت المقصلة لأنه رفض التصفيقَ للخليفة. لصوصٌ ومومساتٌ يَعْملون على تشكيل حكومة وحدة وطنية. أصابني شيءٌ غامض يُشبه الفراولةَ المسمومة. وقررتُ أن أقلب نظام الحكم الهمجي المغروس في ظهور الجواميس. هذا هو دمي الراكض في الأزقة فاحْمِلْه أو اتْرُكْه ليَحْمِلَه غيرُكَ. لستُ أكتب روايةً لأن أشلائي الروايةُ التي تكتبني. ما زال في أبجديتي حرف اللام والألف، وسأقول: لا.

 كُلُّ نعشٍ للغيوم فجرٌ للإعصار، وحياتنا لا تزدهر إلا إذا مِتْنا. إننا ندافع عن وطن يذبحنا. لحمُنا كَوْمةُ نجوم على سطوح بحيرات راكدة. يَعيشُ الإنسانُ منبوذاً، ويموت مجهولاً لا يعرف قبرَه إلا الطيورُ المهاجرة والبناتُ الصغيرات لحفاري القبور.

 لكن العصافير تحمل على أجنحتها براميلَ ماء الثورة. فَخُذْ عِظامي باروداً، وانتظرْ جمجمتي تُكمِل انقلابَ الحزنِ على الحزن، وتصنع سلامَ البنادق. ولا تُوقِّع على صُكوك الغفران لأن دمي هو الخارطة الجديدة للعالَم، وحدودَ قَلْعتي حيث تَصِل بُنْدُقِيَّتي.

 

كَلامُ الفَراشةِ النَّاعِمةِ

 في ظَهِيرةِ عَرَقِ النَّيازكِ سجونُ الدَّجاجِ المشنوقِ. أنا المصلوبُ على دموع الفراشات. العُروقُ المنسيةُ للأشلاء السريعة للأشياء المنفيَّةِ في خريف الربيع. حينما ترى جثثاً مشطوبةً تتمشَّى على أسوار الخديعة في غياب الصراخ. مَن المرأةُ التي تنتظرُ تابوتَ زَوْجِها في أحجار المرفأ اللازوردي؟. مَن البارودُ الصَّاعِدُ من كبد الآبار وهي تنام فينا؟. والمراعي المسيَّجةُ تَذوبُ على نافذتي سُكَّراً للشاي الغامض المخصَّص للجرحى. بحيرةٌ تَزوَّجها الحريقُ الجسدي لبيع الرؤوس المقطوعة. وطَعْمُ طباشيرِ الأسرى في حَلْقي. ماذا سأفعلُ بالزُّهورِ في ساعة احتضاري؟.

 عَطَسَ هذا الغُروبُ رَمَاداً. وارتدى الحِدادُ ثياب الحِداد جَراداً. لو مات الحِداد فلن يجدَ مَن يحدُّ عَلَيْه. هذا الغِيابُ حُضورُ قَصْرِ الحمراء بِلاداً. تواريخُ الينابيعِ الصحراوية عطشُ المجرات إلى ألمي المتشظي باتجاهات الحِراب. وصلاةُ الفجر تحضنني أنا والمئذنة فنكسرُ تاريخَ الزنازين. وعندما تضيع الأوطانُ أصير الأوطانَ. لكنَّ هذا الصدى مَشانقُ.

 نباتيٌّ السَّجانُ. فكيفَ غَزَلَتْ أسنانُه من لحمي خميرةَ حَلْوى؟. ترمي غِرْناطةُ شِبَاكَ الصَّيد في الفجر، فتفزع الأدغالُ في قفصي الصدري، وتلتصق الأنهارُ بجنسية عِظامي. أَصْرُخُ رغم تكميمي بخشبةٍ محترقةٍ حَفَرَتْ ملامحَ أبي: «مَاتَ قَمَري على سرير الشِّفاء».

 تموتُ البحيراتُ في الظلال الأسيرة في القارات المجرمة المبتسمة للصحفيين. تتزوجُ المياهُ الجوفيةُ ضوءَ قيودي، ويَذوب المسافرون في مسامير السكك الحديدية. محطةُ القطارِ في برشلونة القاتلة. إنها الواحدة بعد منتصف الحزن. كيف وَصلتْ أشلاؤنا من الشمال إلى مضيق جبل طارق بدون قطارات؟. غريبٌ أنا كالبطريق المسافر في الصحراء، ومنبوذٌ كدمعةِ قلعةٍ في وسط جيش مهزوم. مقبرةٌ جماعية جديدة عند رَحِم أرملة. والشموسُ تَشرب خجلَ الحجارة. ومطرُ الكوليرا يَحرق لِثَّةَ الفضة.

 أيها الساكنون على سطوح العربات المذهَّبة، حتى لو قَتَلْتُموني وبِعْتم سَيْفي غير المذهَّب، فلن تقدروا على تحويل قبري إلى فرو ثعلبٍ من أجل باريس الفتيات. كأنني أكتشف جماجمَ البنات المغبرة على تحف الكاتدرائيات. يقفز الكبتُ الجنسي في وجدان الكربون. مزرعةُ أوثان في حناجر الرُّهبان، لكنَّ قَمَري مُنتصِرٌ حَيَّاً ومَيْتاً.

 كانت الأحزانُ تلميذةً مجتهدة لكنها أضاعتْ دفترَ الفيزياء في غرفة التشريح، ونَسِيَتْ أسئلةَ الرياضيات في ثلاجة الموتى. والزيُّ المدرسي المغسول بالعار مُعَلَّقٌ على حَبْلِ المشنقة في حُجرات المتاحف التي تَقَمَّصَتْ طَعْمَ الكاكاو. وهذه قَزَحِيَّاتُ الأسرى مقاصلُ بِطَعْم الفانيلا. تَوَحَّشَ مُواءٌ على سطح مَنْزلي. وذئبُ الدُّخانِ يَنْشرُ على ملاقط الغسيل حبالَ المشانق. مُدنٌ يقتحم بطنَها نُطفةُ السُّكوت فَتَحْبَلُ بالسُّكوتِ وتَلِدُ جنينَ السُّكوت. إِنَّنا حُنجرةُ المدينة نموت.

 كأنني الأندلس تنبعث فينا. والصحراءُ تأكل صهيلَ البحر في أوقات النزيف. فَعَلِّمِيني يا جثةَ أُمِّي كيف تصيرُ الأحلامُ تِلالاً. وَالِدي قادمٌ من رحلة الديناميت وإجازاتِ النرجس المسكون بالدم. سأرتدي أجملَ سُجوني، وأُهَنِّئُ البحرَ بطلاق البحيرة. فإن تأخرتُ فلا تنتظروني على الغَداء، ربما أكونُ قد تَعَثَّرْتُ بجراحاتي، أو انشغلتُ بجمع تفاصيل جمجمتي المنثورة زعتراً للأرامل على الرصيف الجانبي. وكلُّ طريقٍ أقواسُ دمعاتي. أفقدُ آثارَ شراييني على ارتباك الكَهْرمان. ولَمَّا أعودُ من جنون الرمال يسألني الشَّتاتُ:

أَينَ كُنتَ؟

كُنتُ أُصلَب!.

إجابةٌ منطقية في زمن هَلْوسة الرماد.

السلامُ على سُكَّان السماء والأرض. إن الأرض التي أَنْجَبَتْنا أَكَلَتْنا. والعنكبوتُ تأكلُ شريكَ حياتها. كثبان من الدمع الأفقي يتصاعد. وما زالت الصحاري تمطرني بخناجر العشق. وتُفتِّش أغلالُ الورد في الأطلال عن خواطر البحيرة وانطفاءاتِ الزَّبد.

 يا طَرْداً بريدياً لن يصلني في شارع الوجوه المعجونة بالرعب. إلى جانب قلبي إسطبلُ البحيرات الجامحة. لأول مرةٍ سيخلو العيدُ مني. لن يلمسَ نَبْضي اليتيماتُ الصغيرات. والعجوزُ المتقاعد يَغْزِلُ قهوته ثوباً في مملكة الأشباح. أطفأني حطبٌ فَوَقَعَتْ شموعُ الجرح في البلوط. والأحزانُ شرارةُ الأرياف التي لا يصلها الكهرباء. خُطَّتي لاستعادة دمي لَيْست كَرْبلاء. كُلَّما خَبَّأْتُ نبضَ الشجرات في صندوق الاقتراع غطَّى عَرَقي نعاسُ الصنوبر. أمسى وريدي محراثاً يتصدع من النار تغطِّيها الدماء.

 حَاصِر التفاحَ قبل أن يقتلكَ. فرُبَّ أسيرٍ عفوتَ عنه وما دريتَ أنه قاتلكَ. أعودُ إلى مآذن طروادة لكي يستريح جبيني في ضوء الأذان. هذه حافلاتُ الشَّنقِ تَفْرشُ على زِنْدي إسفلتَ الرُّمان. وجنونُ الطرقات يَزرع الذكرياتِ في الشَّفق، ويُزِيلُ عَرَقَ البنادق عن أصفادي. الوقتُ إنشادي، والثواني مطرٌ أكثر نعومة من صدور قرار حرق كتبي. يزرع البرقُ في عموده الفقري أحكامَ الأشغال الشاقة المؤبَّدة ضد ابتسامة الثلج الموسمية. شجرةٌ مصابة بالوسواس القهري. الأوردةُ الرخامية. وطواحينُ الهواء المتوقفة. إناثٌ للبيع في الميناء العميق. إنه رصيف الحاويات الغريق. وحيث صفيرُ البواخر المجنونة يتعلم العشاقُ الغطسَ في دماء السناجب. أساقفةُ يبيعون الراهباتِ العقيمات في السوق السوداء لِيُوَفِّروا نفقاتِ إطعامهنَّ. تنام ذكرياتُ الفقراء في أرغفة الخبز خوفاً من البيع في المزاد العلني. لا أبناء لي يموتون معي كما مات أبناء الحسين مع أبيهم.

 أرجوكَ أيها النحيبُ، اهدأْ قليلاً. استرحْ من عَناء الترحال بين برتقال المجزرة وتفاحِ الإبادة. اتركْ مكانك للصليل ساعةَ القبض عليَّ. والسنابلُ المحترقة بالصدى جالسةٌ في ردهات المحكمة. وكلُّ نزيفٍ في مدريد وسواحلِ الاحتضار قام كما تشتهي محاكم التفتيش. لكنَّ مَوْتي ما زال يعيش. فهل أَزْعَجكم دمي المسفوحُ في شهر العسل؟.

 وقَّع الشاطئُ على شيك بدون رصيد. يا نخلةً تنام في سرير القمر. في تلك المجزرة غرفةُ نومٍ لعروسَيْن. وكلُّ فنادقِ الدُّخان تسكن بين فقرات ظَهْري. أَرْكَبُ أمعائي، وأطوفُ في مدينة الأشباح أُحقِّق مع الطباشير المتروكة على المعصم المقطوع جهة الغروب: «متى يأتي إلى وجوهنا العمودُ الفقري للضوء؟»

 أحتفظُ بأسنان الرياح في أجفان المرايا الجريحة كي يتذكرني حفارُ القبور في مُظاهرات الموتى، ويعرفني الليلُ في إضراب عُمَّال المناجم. فجرٌ كاذب بكى فلم يصل المسافرون إلا ورؤوسهم مفروشة على ورق الهدايا. أَخْبَرْتُكَ جنونَ الإسفلت لَسْنا سَبايا. رأسُ الزلزالِ مطلوبةٌ عاريةً من طَيْشِ الفهود، فحملتُ مقصلةَ أبي تذكاراً للعصف الوردي.

 أيتها العواصم التي طَرحتْ بلعومي كأسهم في البورصة، إنني نعشٌ للأزهار الخارجة على سَوْطِ جلادها. ونَعْشي موطني حين تغلق المنافي معدةَ نحلةٍ بأقفال الشوارع المطفأة، وتنتهي الإجازةُ المرَضية للسيول القرمزية. غربان تتحالف مع الشيطان كي يَتَّسِعَ نفوذُها في مملكة الجِيَف. حُزني أكثرُ إشعاعاً أقلُّ أرصفةً. فَأرةٌ حَامِلٌ تَلِدُ في حوافر جوادٍ أعمى. ويتعلمُ الرمادُ مِشْيةَ العقرب في رائحة الكلور.

 أنا المنبوذُ تلقائياً المتَّهمُ الدائمُ المطرودُ الموسمي في غير المواسم. تمنحني الشمسُ وشاحَها فأفيق منتظراً ضوء حُكم إعدامي. إنني دولةُ الشِّعر جمهورية الكلمة. في أناشيد الصاعقة ينكسر الحزنُ الفاصل بين مؤلفات البرقوق وقصائدِ النار. لَيْتَ اسمَ جَدِّي يصل إلى مثواه الأخير لتغفوَ الفهودُ في ذبحتي الصدرية.

 في أحضاني تنام إشبيلية مذعورةً، فتوقظها السنابلُ النازلة من عيوني. أنا العريسُ المقتول في ليلة العُرْس. ولا امرأة إلى جانبي. والمذبحةُ زَوْجتي التي لم أرها في مرآتها، بل رأيتُها على محيط حبال شنقي لأن الأجهزة الأمنية لم تسمح لي بالزواج إلا في جنازتي الأسبوعية. لماذا رمى النعنعُ جوازَ سفره الدبلوماسي في تشرُّد القمح؟.

 لم أكتشفْ في قطار أحزاني سواي. وطالباتُ أكسفورد في ملابس السباحة يأخذنَ الصورَ التذكارية عند جثة أُمِّي. هديلُ أظافري المذبوحُ العفوي. والرمانُ الذكي يستدرجني. أُصيبَ القمرُ بضَرْبةِ شمسٍ تأكلني. والمستحيلُ التدريجي يَصبُّ في سعال الفحم والعزلةِ التي تحتمل الانتشار. إن القمح النابت على حواف القلب يتكرر في موت الخروب. والانتحارُ يأكل المانجا في حقائب بائعات الهوى. تبتكر صوامعُ الدخان في ضجر الأفيال أبواباً للجمارك الموحشة.

 أحملُ قبرَ زوجتي على ظهر حمارٍ وحشي، والصواعقُ تنازلت عن ميراثها في جسدي. والهدوءُ يبيع حِصَّتَه في ثياب السُّجناء. والأغلالُ تتجرع المشروباتِ الغازية في عيد احتضاري. كأن الصنوبر يضطهدني والبارودُ يبتزُّني، فأعرف كيف أُشنَق في بابل، وتتدلى قدماي على أرجوحة في هلسنكي. مطارٌ عسكري في المسالك البولية للنهر. والسيداتُ يلعبنَ البيسبول في قلاع بكائي.

 لم يَدخل اللحمُ بيتنا إلا عندما استلمنا جثتي الملطخةَ بروابي الصليل الأخضر. وكان صداعُنا فارساً يقتل حصانَه بيده. إننا فرسان في غرف نوم الطواويس على رُفوف العطور النسائية. أيها الوطنُ النائم في الطابق الأرضي من خاصرة المعركة. إن أمراء الحرب يُحصون عددَ أصابعهم قبل تعبئة حنان الصخور في براميل الشهوة. وخدودي تستقبل الأنهارَ الراجعة من أسلاك الجريمة. وعصفورُ المنافي ينقر رأسَ تمثال الزعيم، ويأوي الكِلْسُ إلى عتبات قصيدة الينبوع. تسمحون للذئاب أن تكتب قصائدَها على مكاتبكم، أما أنا فلا تسمح لي قصيدتي أن أكتبها.

 سأنتخبُ قلبي زعيماً لحقول الحِبر لأن البجعَ يُصَفِّقُ لي أثناء صَلْبي على السَّحابة. أضعتِ وقتكِ أيتها البئر المثقَّفة وأنتِ تَدْرسين إحصائياتِ شَنقي. والجوعُ يُخرجُ فيلماً وثائقياً عن التفاصيل الكاملة لتشريحي حَيَّاً. أنا أُباع يومياً في بلادي، إذن أنا موجود!. عُشُّ نسرٍ في جَوْف برتقالة. تُعلِّمني معادلاتِ الرياضيات غزالةٌ.

 اعتقالُ ثرثرة الماعز، وقانونُ الطوارئ، والمواطنُ المولود منبوذاً، وخوفُ الشواطئ. أُطالبُ بنصيب أجدادي من أعشاب الثورة. حياةُ الشجيرات في قلب المقصلة. لم يعد معجونُ الأسنان للمرأة المغتصَبة يعرف هل مات أم ما زال يعيش. لكنَّ فضةَ الذكريات تُعلِّمني لغةَ الزنازين. وكبريتُ الجليد نسي أشكالَ أعواد الثقاب. ومرآةُ ضريحي تسأل الرياحَ: «ما الفرق بين أعواد الثِّقاب وأعوادِ المشانق؟»

 لا أُشبه الحلاج. لكنني أُصلَب في عيد النَّيْروز. تغتصبني مشاعرُ الزجاج. وَأَلُمُّ من رُكَبِ النيل الفيروز. أيها البلد المنثور على موائد المرابين، وأوراقِ اللعب في قُبَّعات المقامِرين، ومالكي الملاهي الليلية في بَوْل ذبابة. إن عمودي الفقري مُلقى في حَفريات الزقاق المنسي. مذيعاتٌ مستلقيات في مغارة بيع النساء يصرفنَ رواتبهنَّ على الحليب الصناعي ليحفظنَ حجمَ أثدائهنَّ أمام الجمهور المنسي. وخَيالي نسرٌ جريح ما زال يطير.

 يبدأ البحرُ من القُبُّرات السَّجينات في الأغنيات. تنمو أدغالُ الذكرياتِ في حناجر الرُّعود. كسرتُ المرايا لئلا أتذكرُ غُربتي. أركضُ إلى وشاح العاصفة، حيث أموت وحيداً كما جئتُ. وتدمعُ نباتاتُ الرحيل في طروادة، وتحزم حقائبَها ولادة بنت المستكفي. أين تذهبين؟. أين تموتين؟. وقشَّرت ابتسامةَ الصخور السنين. غُرْبتنا أبهى ما في الينابيع، وأجملُ فجرٍ في كل الأسابيع. وفي هذا الصباح المخنوق لن تقدر الخادماتُ على إعداد العجين لأنك تموتين.

 أنا والبحرُ الميت نَزور طبيبَ الأعصاب. لا نملك أجرةَ غرفة العمليات، فاختفت وجوهُنا العابرةُ للقارات، وتَرَكَنا دِجْلةُ للموت على خط المشاة في الشارع الرئيسي. نَزْفي وصل إلى النجوم وفق مقياس ريختر. يُخزِّن مطرُ الكلمات القشَّ الحزين في عواء الصخور. أنا كَوْمةُ لاجئين بلا خِيامٍ. أُقَاتِلُ نَفْسي كي أَجمع نَفْسي. أُفَاوِضُ بُلْعومي على الاستسلام لصَوْتي. مَوْكبٌ من المقاصل على شاربي، ويَسرق حقولَ ذاكرتي أحاديثُ القرنفل، وأضواءُ مناجل الفلاحين القتلى. أختفي في صواعق مخدَّتي لكيلا يجرحني التبغُ في أفواه الجنود. وأختبئُ في رموشي لئلا تصطادني الفتياتُ في الريف الإنجليزي. السلامُ على مَلَك الموت. قد مِتُّ آلاف المرات يا سَيِّدي. وزيارتكَ مِيتتي الكبرى.

 إلى الليل المختبئ وراء نظارته السوداء قبل تحميل البضائع في شراييني المبحِرة، أنظرُ أركض. يذهب مصباحي واضعاً خَوْفه في النجمات والمزهرياتِ المخدوشة. أطرد الباعةَ المتجوِّلين في أوردتي كما طرد المصطفى شعبَ الشيطان من خَيْبر. وكما طرد المسيحُ باعةَ الحمَام من الهيكل.

 سَأَحْقنُ جبهةَ الورد بشظايا الدم العشوائي. لصوصٌ في مغارة عظامي يَقْتسمون ثيابي كالحلوى الفاخرة في عيد ميلاد الخوخ. روحي المعتقَلةُ تغادرني بلا إذن مني. إن موتَ جسدي حياة أبجديتي. وفي أقمار النزيف أصنع أبراجاً من الدمع البنفسجي وأخترع أحزاناً لا تاريخ لها سوى القطن الشمسي. يصير جَوازُ سَفر الديناميت جسراً فخَّارياً فوق شلالاتي. عاملٌ يُنظِّف دوراتِ المياه في المطار. وفي تمام الجرح الخامس سَتُقْلِعُ ذكرياتي. يخرج الشعيرُ من فترة الخطوبة بمعنويات مرتفعة ويستعدُّ للحصاد.

 زلزالٌ فقد أقاربَه في أحد الزلازل. وطاووس يُفَتِّشُ تحت أنقاض لَوْنه عن براكين خامدة. مديرُ السجن المتقاعد، ورياحُ الخماسين، وتلاشي ثمود، وهزيمةُ نابليون، وهجرةُ الرياحين. يبتسم سُورُ عكا في شرايين قصيدتي. توضع نقاطُ عمري على حروف الثورة. وخادمةُ قائد المغول تحشو أضراسها بأكفاني.

 أيتها الأندلس الواقعية التي تجيء كالذهاب، هل ستعرفين أعصابي المجدولة من حقائب السيدات الواثقات من إعدامهنَّ؟. عَبَروا المضيقَ توابلَ من الأحشاء والعاجِ البحري. تلك الرئةُ تضيق. أقمارٌ يَجْرحها جحافلُ الإفرنج. حدائقُنا أَكَلَتْ رمالَ صحارينا في وجبات البؤس الدسمة فخسرنا الصحراءَ والحديقةَ. قناديلُنا سَقَطَتْ على بلاط انتحارنا. كم تفتقدني بِحارُنا الصديقة!.

 أجدادُنا يَعْبرون المضيقَ حاملين جثةَ المحيط الأطلسي على ظهور البِغال. لا شيء يدعو للقلق!. الوديانُ تجرفني والرعدُ يواسيني. مَن المجرةُ التي تمحو نفوذها في طواويس النهر وتفيق؟. الصباحُ الملتهِبُ حتى الثمالة يُهاجِر. والغيثُ يُجرَح في الميادين فيُسافِر. مَن الغريق؟. لا شيء يدعو للقلق!. يرمي أسئلته الزمانُ ويندثر. دماؤنا الطريق.

 عنبرُ الحرائق حريرُ البارود. قلوبُ ملايين الشجيرات على الحصباء الوردية. والدخانُ يعود من مكتبه مُرهَقاً، ويَغزل جدائلَ قريتي أدغالَ حريق. أطرافي واقعةٌ تحت الانتداب الرَّعوي. وطفلاتُ الجنود يَجمعنَ الصدفَ في ميناء البروق ثم تمرُّ عليهنَّ حاوياتُ البضائع، وكتائبُ العسكر والحروقُ. والنبيلاتُ الإسبانيات يَشربنَ تاريخَ العدس في الحانات. نبيذٌ من أحمر الشفاه البارودي، وفرسانُ الملكة السكيرون في مخازن الحبوب يضاجعون عشيقاتهم ويُهزَمون. لكن دماءنا للشمس طريق.

 وفي زحمة الفراغ يبحث السرابُ عن امرأة يبكي في حُضْنِها فلا يجد غير السِّياط وسَجَّانِه. أحلامٌ خشبية وعُكازاتٌ لعجائز الإغريق. امرأةٌ لا أعرفها في لمعان الشَّفق تُحضِر لي طعاماً في السجن، ويتسلق الضياءُ وشاحَها فوق حَوَافِّ وعاء الأَرُزِّ. ومات النسرُ. كم سِرَّاً دُفن معه؟. وكأني أرى مصرعي يُشرق من ضحكة الظهيرة. ينهار سقفُ سوق العبيد في زُرقة الأحجار الكريمة. ترتيبُ الصحون على مائدة إفطار المخبِرين . أكبادُ الجواري حقلُ غازٍ اكْتَشَفَه الصدى

واحْتَرَق. هؤلاء القتلى راجعون من الملاجئ. فاكْتَشِفْ _ حَفَّارَ جُرْحي _ وجهي في وجهكَ كي نغرس تاريخَ أجسادِنا في زيتون العواصف. خُدودي في خدود غرناطة خارج الخرائط. فلا تقلقْ عَلَيْنا أيها القلقُ، فإنَّا عائدون.

 

نِدَاءٌ أخِيرٌ إِلَى مُومِسَاتِ بُوينس آيرِس

 لِلْمَجَاعَةِ حُضُورُ الْهَاجِسِ الْخِنْجَرِيِّ. صَارَتْ أَغْوَارُ الشَّذَا ضِمْنَ أَدَوَاتِ الْحَدَّادِ، وَهُوَ يُجَهِّزُ السَّيَّارَاتِ الْمُصَفَّحَةَ بِاللحْمِ الأُنْثَوِيِّ. وَحِينَمَا تَرْكَبْنَ مَعَ زَبُونٍ جَدِيدٍ، تَنْهَارُ أَشْرِعَةُ الْفَيَضَانِ عَلَى ثَأْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَيَصْحُو النِّسْيَانُ عَلَى أَكْوَامِ الْحَدِيدِ الْعَائِلِيَّةِ.

 رُكَامٌ يُغَنِّي لِلضَّائِعَاتِ حَتَّى يَنْسِجْنَ مِنْ سَوَادِ الْغُرَابِ نَظَّارَاتٍ رَخِيصَةً ذَاتِ إِطَارَاتٍ مِنَ الْبَرَارِي الصَّدِئَةِ. رَفْشٌ يُهِيلُ الانْتِحَارَاتِ عَلَى صُدُورِكُنَّ. طَوَابِيرُ مِنَ الشَّابَّاتِ الدُّمَى يَنْتَظِرْنَ عَلَى أَبْوَابِ الْقَصْرِ لَعَلَّ رَجُلَ الأَعْمَالِ الثَّرِيَّ يَسْتَأْجِرُ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ أَوْ يَشْتَرِيهَا.

 وَمِنْ زُجَاجِ الْفُنْدُقِ النَّظِيفِ. الطَّابِقُ الْعِشْرُونَ وَالظَّلامُ الْمَجْنُونُ. يَلْمَحُكُنَّ الْهُدُوءُ الْقَتِيلُ خَارِجَاتٍ مِنْ دَهْشَةِ الْخَرِيفِ، مُضَرَّجَاتٍ بِالْمَعَاوِلِ بِالنِّعَالِ بِالْقَحْطِ الْعَنِيفِ. فُقَاعَاتُ دَمٍ مُتَوَحِّشَةٌ.

 الصَّدَى يُنْكِرُ صَوْتَهُ. مَارِيجوَانَا فِي غَثَيَانِ النَّمْلِ الأَحْمَرِ عَلَى أَكْتَافِ التَّمَاثِيلِ فِي الْمَيَادِينِ الْعَامَّةِ. وَشُرْطِيُّ الْمُرُورِ يُرَتِّبُ ذَاكِرَةَ الزِّحَامِ، وَيُفَكِّرُ فِي مُظَاهَرَةٍ لِزِيَادَةِ رَاتِبِهِ. غَمَامَةٌ عَلَى أَحْرُفِ سَكَاكِينِ الأُفُقِ. فَتَاةٌ مَشْنُوقَةٌ عِنْدَ الأُرْجُوحَةِ.

 

جَنَازَةُ الْفَيْلَسُوفِ الْمَجْهُولِ

 لَمْ يَرْجِعْ مِنْ وَجْهِي سِوَى الْمَرَاعِي. أَنَا الْمَيِّتُ ضِمْنِيَّاً فِي جِهَةٍ مَا، الأُفُقُ النَّابِتُ عَلَى هَوَامِشِ رِوَايَاتِي، السَّائِرُ فِي هَلَعِ الشَّوَارِعِ. أُوصِي الموتى أن يَناموا مع نِسَائهم. وَلا دَاعِي أَنْ يُسَانِدُوا ثَوْرَتِي لأَنَّهُمْ أَهْلُ الْكُوفَةِ الْخَائِنُونَ. وَرَأْسِي لَيْسَتْ رَأْسَ الْحُسَيْنِ.

 عَاصِمَتِي غُرُورُ الضَّبَابِ شَلَلُ ضَفَادِعَ. كَمْ مَشَتْ تَحْتَ أَعْمِدَةِ كَهْرَبَائِهَا غُرْفَةُ إِنْعَاشِي وَشَقَائِقُ النُّعْمَانِ. وَالضَّوْءُ يَنْبِشُ قَبْرَ جَدَّتِي. جِرْذٌ يَخْطُبُ فِي مَجْلِسِ النُّوَّابِ التَّابِعِ لِلطُّوفَانِ الصَّاعِدِ إِلَى رَايَاتٍ لا تَعْنِينِي. أَشْرِعَتِي تُسْنِدُ بَطْنَهَا إِلَى رِئَتِي الْحُبْلَى. تَخُطُّ الرَّصَاصَاتُ تَارِيخَ مِيلادِي.

 عَلَى صَدَاقَةِ السُّدُودِ أَجْوِبَةُ الْغَسَقِ عَلَى سُطُوحِ مِمْحَاةِ الْحُلْمِ. أَرَقُ الْحِبْرِ لَحْظَةَ وِلادَةِ الْكَلِمَةِ. وَيَتَجَمَّعُ دُخَانُ السَّيَّارَاتِ فِي زَهْرَةِ الْوَرِيدِ الْمُطِلِّ عَلَى يَقِينِ الضَّوْءِ. سُحُبٌ تَلْتَصِقُ بِحَنِينِي. سَقَطَ حَجَرُ الْخَوْفِ مِنْ قَرْمِيدِ النَّفْيِ إِلَى قَاعِ سَفِينَتِي وَالْبَحْرُ مُجَفَّفٌ. وَدُسْتُورُ الأَلَمِ يُعَدِّلُ قَانُونَ أَنِينِي.

 انْعَقَدَ الْمُؤْتَمَرُ الْقَوْمِيُّ لِلشَّيَاطِينِ. مَدِينَةٌ تُولَدُ مِنْ جِرَاحِي الْحَجَرِيَّةِ. كَانَتِ الْمُسَدَّسَاتُ تَنْبَعِثُ فِي الْخَوْخِ مِثْلَمَا تَمُوتُ الشَّلالاتُ فِي قَلْبِي. مَارَّاً بِكُلِّ دَمٍ امْتَصَّنِي. اكْتَشَفْتُ أَنَّنِي الْمَشْهَدُ الشِّعْرِيُّ فَلَمْ أَجِدْ فِي تَقَاسِيمِ رَقَبَتِي غَيْرَ قَرْيَتِي الْمُحَاصَرَةِ. رَصَاصَاتُ الْحُلْمِ الْقَمَرِيِّ تَهُزُّنِي.

 سَمِّنُوا بَنَاتِكُمْ وَزِيدُوا أَوْزَانَهُنَّ لَعَلَّكُمْ تَحْصُلُونَ عَلَى سِعْرٍ جَيِّدٍ مِنْ شُيُوخِ الْبِتْرُولِ وَالنَّخَّاسِينَ. اغْسِلُوا أَيْدِيكُمْ جَيِّدَاً قَبْلَ افْتِرَاسِي وَالْتِهَامِ عُيُونِي مَعَ التَّوَابِلِ. تَصِيرُ أَعْضَاءُ الْفُقَرَاءِ الْجَدِيدَةُ قِطَعَ غَيَارٍ عَلَى رُفُوفِ أَجْسَادِ الأَغْنِيَاءِ. يَهُودِيَّاتٌ صَغِيرَاتٌ فِي صَبَاحِ الْعِيدِ يُغْرِقْنَ دَمِي الْمُؤَقَّتَ الْمَسْفُوحَ عَلَى الْهَوَادِجِ فِي الْفَطَائِرِ الذَّابِلَةِ. سَأَحْضُنُ طُرُقَاتِ الْمُدُنِ الْمَحْرُوقَةِ بِالدِّعَايَاتِ الانْتِخَابِيَّةِ وَالرَّقْصِ عَلَى ذُبُولِ نَظَرَاتِ الشَّعْبِ الْمَسْرُوقَةِ. سَأَنْتَظِرُ أَمْطَارَاً تُرَتِّبُ شَعْرَهَا بَعْدَ أَنْ تَسْتَيْقِظَ مِنَ النَّوْمِ. سَأَنْتَظِرُ حَشَائِشَ وَفِيَّةً لا تُسْحَقُ تَحْتَ بَسَاطِيرِ الْمُجَنَّدَاتِ الْمُلَمَّعَةِ. سَأَنْتَظِرُ شَمْسَاً سَقَطَ مِشْطُهَا فِي أَرْضِ مَعْرَكَةِ خَيَالِي.

 انْتَظِرُوا قَلِيلاً حَتَّى أُقْتَلَ!، لِكَيْ تُتَاجِرُوا بِجِرَاحِي الْمَنْشُورَةِ فِي الصَّفْحَةِ الأُولَى مِنْ وُجُوهِ شَعْبِي، وَتَفُوزُوا فِي الانْتِخَابَاتِ الْمُزَوَّرَةِ، حَيْثُ تَتَعَلَّمُ الصَّبَايَا وَالْوَزِيرَاتُ الأَنِيقَاتُ تَفَاصِيلَ الْمُوضَةِ عِنْدَ رُسُومَاتِ مَذْبَحَتِي.

 يَا بَعْضَ ذِكْرَيَاتِ النَّارِ، وَالْهَوَاجِسِ فِي الأَرْضِ الدَّمَارِ. فِي لَيْلٍ تَنْهَمِرُ فِيهِ جِيَفُ النُّسُور، وَتَنْزَوِي الرِّيحُ لِتَبْكِيَ عَلَى اللاشَيْء قُرْبَ ارْتِعَاشِ السُّورِ، يُهَاجِرُ بُسْتَانِي إِلَى عَمُودِهِ الْفَقَرِيِّ لِيُكَوِّمَ شَتَاتَ الْعُصُورِ. اعْذُرْنِي يَا مَلْجَأَ أَوْبِئَتِي، فَقَدْ نَسِيتُ طَرِيقَةَ مُحَادَثَةِ الآدَمِيِّينَ لأَنِّي قَضَيْتُ عُمُرِي فِي السُّجُونِ. حَيْثُ تَنْبُتُ مَشَاعِرُ كِلابِ الْحِرَاسَةِ عَلَى عَوَاطِفِ عَيْنَيْكَ وَالصَّمْتِ. وَحِينَمَا خَرَجْتُ كَانَ قَمَرِي قَدْ غَادَرَنِي. وَجَاءَ انْطِفَاءُ الْمَسَابِحِ الْمُخْتَلَطَةِ فَرَفَضَنِي.

 وَتَتَكَاثَرُ الْمُرَاهِقَاتُ فِي الدُّرُوسِ الْخُصُوصِيَّةِ، وَيَتَكَاثَرُ لَيْلِي وَالْيَانْسُونُ فِي الْمَجَاعَاتِ الْخُصُوصِيَّةِ. وَالسِّكِّينُ الْمَذْبُوحَةُ تَقْتَبِسُ رَقْصَتَهَا الْخِتَامِيَّةَ مِنِ اهْتِزَازِي عَلَى ظُهُورِ الْبَجَعَةِ الطَّرِيدَةِ.

 أَنْتِ يَا مَنْ تَتَمَشِّينَ فِي أَرْوِقَةِ جَامِعَةِ هَارفارد بِالتَّنُّورَةِ الْقَصِيرَةِ وَفِي يَدَيْكِ قَصِيدَةُ عِشْقٍ، وَدَفْتَرُ مُحَاضَرَاتٍ عَلَى هَامِشِهِ هَوَاتِفُ الأَصْدِقَاءِ. وَالدِّفْءُ يَضْرِبُ فِي كَانُونَ مَمَرَّاتِ الشِّتَاءِ. آنِسَةَ الْعَطَشِ الصَّغِيرَةَ ذَاتِ الأَظَافِرِ السَّوْدَاءِ، إِنَّ وَطَنَكِ يُذْبَحُ فِي كُلِّ الأَشْهُرِ فِي بَرِيقِ الأَحْزَانِ الْجَلِيدِيَّةِ الأُمِّيِّ. وَهَيْكَلِي الْمَدْفُونُ فِي هَوَاءٍ يَعْلُو الْمَوْجَةَ هُوَ انْتِشَارِي عِنْدَ انْهِيَارِي. لَكِنَّنِي أَقِفُ مِنْ جَدِيدٍ ذَلِكَ قَرَارِي. لَيْسَ حَفْلَةً تَنَكُّرِيَّةً. كُلُّ أَعْرَاسِ الْيَمَامِ تَمُرُّ مِنْ أَمَامِ عَذَابَاتِي الْقَمْحِيَّةِ.

يَنْسَانِي الْفَرَحُ كَالْبَرِيدِ الْمُسْتَعْجَلِ، وَتَرْكُلُ تَوَارِيخَ ابْتِسَامِي غَجَرِيَّةٌ.

 

مَمْلَكَةُ الثَّعَالِبِ الْحَمْرَاءِ

 مِنْ فَيَضَانَاتِ الضَّجِيجِ تُضِيءُ الْمُدُنُ الْمَوْبُوءَةُ ذِكْرَيَاتِ بَرَاكِينِهَا. الآنَ يَتَصَاعَدُ مَا تَفَرَّقَ مِنْ قَلْبِي عَلَى مَوَائِدِ الْغَضَبِ وَالزَّعْفَرَانِ. شَهِيقِي رِئَةُ زَفِيرِي فِي كُلِّ الأُمْسِيَاتِ. الْمَجْدُ للهِ فِي الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ. مَرْمَرٌ جَارِحٌ أَدْغَالِي. كَيْفَ أَدْخُلُهَا وَخَاصِرَتِي أَضَاعَتْ حُدُودَهَا فِي لَوْحَاتِ الرَّسَّامِينَ السَّاكِنِينَ فِي إِرْهَاصَاتِ اللونِ؟.

 اللغةُ الْمُغَطَّاةُ بِالْبُرُوقِ تَكْتُبُنِي فَتَصْعَقُنِي حُقُولٌ لا نَشِيدَ لَهَا. أَخْشَابٌ تَمْسَحُ دُمُوعَ الْكَافيارِ فَتَنْتَفِخُ أَوْدَاجُ الْعَاصِفَةِ. تُفَّاحٌ يَزْدَحِمُ عَلَى فُوَّهَاتِ الْمُسَدَّسَاتِ. اغْرَوْرَقَتْ عَيْنَايَ بِالنَّدَى الْمَسْلُوخِ، وَأَجْهَشَ السَّجَّانُ بِالضَّجَرِ. وَالسُّنُونُو تَمْضُغُ جُذُورَ الصَّنَوْبَرِ فِي الْحُفَرِ. إِنَّنِي خَلِيفَةُ نَفْسِي أَرِثُهَا بَعْدَ مَوْتِهَا. بِرْوَازُ حُلْمِي شُبَّاكٌ يُطِلُّ عَلَى مِنَصَّةِ جَلْدِي. ضَيَّعَ الْمَوْجُ رُخْصَةَ قِيَادَةِ السَّيَّارَةِ فِي سِيَاطِي، فَكَيْفَ سَيَدْهَسُنِي بَعْدَ الآنَ؟. أَمْسِكْنِي تَجِدْ حُرِّيتِي حَوْلَكَ كَأُنْثَى نَوْرَسٍ بَكَتْ عَلَيْكَ لِتَجْرَحَكَ.

 الْمُرْتَزَقَةُ أَوْتَادُ شَمْسٍ مُطْفَأَةٍ. خِيَامُهُمْ رَمَادُهُمْ جُرْحٌ تَنَاسَلَ فِي الاضْمِحْلالِ. مِنْ أَيْنَ دَخَلَ الْقَرَاصِنَةُ إِلَى أَكْبَادِنَا؟. كُلَّمَا كَسَرْتُ وَثَنَاً ظَهَرَ فِي الْحَدَائِقِ وَثَنٌ. احْتِجَاجُ زُهُورِي عَلَى جَرَيَانِ سُهُولِي فِي أَشْلائِي. لَيْلٌ أَضَاءَ أَصَابِعَ الذُّبَابِ الْمَقْطُوعَةَ مِنْ بَعْدِ انْغِمَاسِهَا فِي لَهَبِ عُنْفُوَانِي. سَأَشُدُّ الْبَحْرَ بِدَهْشَةِ مَاعِزٍ وَهُوَ يَرَى السِّكِّينَ.

 كَانَ يَنْتَشِرُ فِي دَمِهِ اللزِجِ يَنْبُوعَاً يَتَعَلَّمُ اصْطِيَادَ الْمُذَنَّبَاتِ. وُلِدْتُ مَيْتَاً وَمُتُّ وَلِيدَاً. كُلَّمَا اقْتَرَبْتُ مِنْ أَخْشَابِ مَرْكَبِي ابْتَعَدْتُ عَنْ جَبْهَتِي. أُمَّنَا الْمَجَرَّة، كُلُّ مَرَاكِبِ الصَّيْدِ تَعُودُ إِلَى أَيْتَامِهَا إِلا مَرْكَبِي. وَلا ضِفَّةٌ حَوْلِي تَقِفُ عَلَيْهَا أَقْدَامُ الْبُحَيْرَاتِ خَارِجَ أَشِعَّتِهَا، حَيْثُ يَصْعَدُ اللاوَطَنُ فِي الْوَطَنِ فَتَخْتَصِرُ الرَّوَابِي أَمْكِنَتَهَا.

 فَأَيُّ شَلالٍ سَتَمُوتُ عَلَى انْدِفَاعِهِ الطُّيُورُ الْمُهَاجِرَةُ فِي مَوْسِمِ حَقْنِهَا بِالْهِضَابِ؟. قُنْبُلَةٌ يُلْقِيهَا الْحَمَامُ الزَّاجِلُ الْمُدَرَّبُ عَلَى اغْتِيَالِي. وَتَكْتُبُ كِلابُ الصَّيْدِ تَقْرِيرَهَا، وَأَجْتَازُ تَابُوتِي الْمَرْمِيَّ فِي حُقُولِ التَّبْغِ. أَزُفُّ الْبُحَيْرَةَ إِلَى زَوْجِهَا فِي حَقْلِ الشُّوفَانِ. وَحْدَهَا الْحَشَائِشُ الَّتِي سَتَرْقُصُ فِي مَأْتَمِ حَضَارَةِ الأَلْغَامِ. دَقَّاتُ السَّاعَةِ مَسَامِيرُ فِي خَصْرِ الْمَكَانِ. تَكْتُبُ الْعَصَافِيرُ الْمُتَمَرِّدَةُ ضَبَابَاً فِي الزَّوْرَقِ الْوَرْدِيِّ فِي الْمِينَاءِ الْمَهْجُورِ، وَقَصَائِدَ ضِدَّ دَوْلَةِ جُرْحِي. فَهَلْ آمُرُ جَيْشَ كُرَيَاتِ دَمِي بِالْقَبْضِ عَلَيْهَا أَمْ أُزَوِّدُ ظِلَّهَا بِالْغَازَاتِ الْمُسِيلَةِ لِلْهَدِيلِ؟. يُحَاوِلُونَ قَلْيَ الْفَلافِلِ فِي دَمْعَاتِي. وَالليْلُ يَسِيرُ عَلَى رُمُوشِ نَحْلَةٍ فَيَنْعَكِسُ تَوَهُّجُ الليْمُونِ فِي أَعْيُنِ الظِّبَاءِ الْيَتِيمَةِ. عِنْدَ الْمَغِيبِ وَالطُّرُقَاتُ الْمُغْلَقَةُ فِي وَجْهِ النَّهْرِ، وَبَقَايَا الْعَسَسِ فِي زُجَاجِ النَّحِيبِ، ظَهَرَ النَّهَارُ يَحْمِلُ عَلَى كَتِفَيْهِ غَضَبَاً لِرَمْلٍ يَغْرِسُ أَنْيَابَهُ فِي مَصْرَعِ أَوْلادِهِ، كَالسَّرَابِ يَنْصُبُ فِي ضِحْكَتِهِ مَأْتَمَاً لِدَوْلَةٍ بُولِيسِيَّةٍ تَأْتِي وَتَغِيبُ.

 كُلُّ غُرُوبٍ لِوَجْهِي شُرُوقٌ لِلنُّسُورِ الرَّاقِصَةِ فِي حَفْلَةِ زِفَافِهَا أَوِ اغْتِيَالِهَا. وَالنَّخْلَةُ تُوَدِّعُ أَيْتَامَهَا، وَتَتَسَاءَلُ عَنْ مَعْنَوِيَّاتِ الرِّيحِ. ذَاكَ الْعَارُ لَيْسَ لِي. سَآتِي _ أُمَّاهُ _ مِنْ جِهَاتِ اللوْزِ وَالْمَرْمَرِ، وَصَوْتُ الانْفِجَارَاتِ فِي سُكُوتِ الأَطْفَالِ فِي حَارَاتِ الْخَوْفِ، وَالْقِطَطُ الْمُنْدَهِشَةُ. ضَوْءُ الْمِئْذَنَةِ يُوقِظُنِي مِنْ لَيَالِي الشِّتَاءِ. صَخَبُ سَيَّارَاتِ الأُجْرَةِ أَمَامَ الْمَحَاكِمِ الْعَسْكَرِيَّةِ. وَصُورَتِي وَأَنَا أُحْتَضَرُ تُهْدِيهَا الأُسُودُ لأَدْغَالِهَا خَاتِمَ خُطُوبَةٍ غَازَاً مُسِيلاً لِلدُّمُوعِ.

 جَدِّدْ جَوَازَ سَفَرِي الذَّاهِبَ إِلَى مَدَارِسِ الْغَيْمِ لأَنَّ سَدَّ مَأْرِبَ يُزَوِّرُ تَأْشِيرَةَ السَّفَرِ. وَالنِّيلُ يَفِيضُ عَلَى الْقُرَى الْكَسِيرَةِ. هَلْ سَيَرْمُونَ فِيهِ عَرُوسَاً أَنِيقَةً أَمْ جَمَاجِمَ أَسِيرَةً؟. مَرَّ صَوْتُ الْمُؤَذِّنِ حَيَاةً جَدِيدَةً لِلشُّعُوبِ الْمَيْتَةِ. وَالشَّمَالُ يَقْتَرِبُ مِنْ حُقُولِنَا الْمَنْهُوبَةِ. يَا أَبِي المنثورَ على أعواد المشانق كأعواد الكبريت، جَاءَ الْهَدِيلُ مِنْ إِعْصَارِ الْمُرُوجِ الْبُرُونزِيَّةِ، فَاخْرُجْ لاسْتِقْبَالِهِ قَبْلَ وَفَاتِهِ وَوَفَاتِي. وَالرَّحِيلُ يُجَهِّزُ حَقِيبَةَ سَفَرِهِ، يَضَعُ فِيهَا نَزِيفَهُ الصَّخْرِيَّ وَمَزَارِعَنَا الْمَسْرُوقَةَ، وَأَلْوَاحَاً تَصْلُحُ تَوَابِيتَ لِلأَغْنَامِ.

 أَنَا وَشَجَرُ النِّسْيَانِ لَمْ نَجِدْ مَنْ يَدْفِنُنَا تَحْتَ صَلِيلِ الْمَجْزَرَةِ وَهَوَاءِ الاحْتِضَارِ. قَبْرِي يَمْشِي أَمَامِي مُسْرِعَاً يَكْتَشِفُ الأَلْغَامَ فِي دَرْبِ النَّرْجِسِ. رَعْشَةُ الْجُنُودِ الْخَاسِرِينَ الذَّاهِبِينَ إِلَى مُضَاجَعَةِ نِسَائِهِمْ.

 قَتَلْنَاكَ ثُمَّ رَثَيْنَاكَ، وَلَمْ نَتَوَقَّعْ أَنْ يَصِيرَ صَمْتُكَ عَتَادَ ثَائِرِينَ. يَا كُلَّ الأَرْضِ الَّتِي تَرْفُضُنِي، سَأَدْفِنُ جِرَاحِي فِي نَشِيدِ السَّحَابِ، وَأُقَاتِلُ حَتَّى لا يَبْقَى فِي سِحْنَتِي سِحْنَةٌ. وَطَنٌ مَاتَ فَلْنَحْمِلْ نَعْشَهُ الْمَاسِيَّ، وَلْنَصْنَعْ وَطَنَاً آخَرَ يَلِيقُ بِأَسْمَائِنَا الْعَالِيَةِ.

 عَلَيْكَ السَّلامُ يَا حُسَيْنُ، يَوْمَ خَانُوكَ وَيَوْمَ قَتَلُوكَ، وَيَوْمَ يَرِثُ اللهُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا، وَيَوْمَ تَرِثُ الْجَنَّةَ. انْتِحَارٌ لِلْمُرْتَزَقَةِ كَانْتِظَارِ الْبَغَايَا عَلَى جَانِبِ الشَّارِعِ الليْلِيِّ فِي صَيْفِ الْعَوَاصِمِ الْمُدَمَّرَةِ. نَشَرُوا بَيْنَنَا الأَحْكَامَ الْعُرْفِيَّةَ، وَأَنْهَارَ السَّرَابِ وَالْمَسَالِخَ الْمُتَعَفِّنَةَ. يَا هَؤُلاءِ!، يَا طُرُقَاتِ عَارٍ، يَا عَوَاصِمَ انْتِحَارٍ فِي غُبَارٍ. سَيَقْفِزُ الْبَحْرُ عَلَى الْمَصَابِيحِ الْمُحْتَوِيَةِ عَلَى دَمِي، وَيُسَجِّلُ هَدَفَاً فِي مَرْمَى حُلْمِ الأَفْعَى، فَيَخْسَرُ الْحُلْمُ وَتَجَاعِيدُ عَرَقِي فَأَنْتَصِرُ. وَطَنِي الَّذِي يَحْقِنُنِي بِلَوْنِ الْحِدَادِ وَمُضَادَّاتِ الاكْتِئَابِ، اعْتَرِفْ بِي وَأَعْطِنِي قَبْرَاً فِي رُمُوشِكَ. يَا أَيُّهَا النَّزِيفُ الْمُعَبَّأُ فِي زُجَاجَاتِ الْعَصِيرِ، أَنَا الْمَصْلُوبُ عَلَى كُلِّ أَعْمِدَةِ الْكَهْرَبَاءِ. يَا دَوْلَةً عَلَّقَتْ أَثْدَاءَ بَنَاتِهَا عَلَى تَذَاكِرِ الْقِطَارَاتِ الْبُخَارِيَّةِ. شَعْبَ الرُّكَامِ الْقَاتِلَ الْمَقْتُولَ. يَا مَنْ تَسْكُبِينَ دَمَ الْحَيْضِ عَلَى الرُّسُومَاتِ الإِبَاحِيَّةِ فِي مَتَاحِفِ الْهَوَسِ. لِلزَّوَالِ شَخْصٌ مَيِّتٌ يُضَاجِعُ زَوْجَتَهُ لَيْلاً، وَيُصَفِّقُ لِلزَّعِيمِ الْمُتَبَخِّرِ نَهَارَاً. تَسْقُطُ أَشْجَارِي وَتَقِفُ أَكْفَانِي بَيْنَ الأَنَاشِيدِ الْوَطَنِيَّةِ وَصُوَرِ الإِمْبراطُورَةِ عَلَى وَاجِهَةِ الْخَمَّارَةِ. سَرَّحَ النَّرْجِسُ أَلْوَانَ الشَّهْوَةِ لِفَتَيَاتٍ مِسْكِينَاتٍ تَرَكَهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ الْجُنُودُ فِي لَيْلَةِ الدُّخْلَةِ وَجَاؤُوا كَيْ يَعْتَقِلُونِي. الْحَبِيبَةُ الأُولَى وَالرَّصَاصَةُ الأُولَى نُسْخَتَانِ لِلصَّهِيلِ الْمَالِحِ، وَالْمُحَنَّطَاتُ خَلْفَ مَقَاوِدِ السَّيَّارَاتِ لا يَلْتَفِتْنَ إِلَى مُحَاكَمَتِي عَلَى الرَّصِيفِ النَّظِيفِ. دَمُكَ عَلَى الْمُصْحَفِ يَا عُثْمَانُ. وَدَمِي عَلَى صَلِيلِ نَخِيلِ بِلادِي.

 

مَقْتَلُ مُصَارِعِ الثِّيرَانِ

 كَانَتْ بَرَامِيلُ النِّفْطِ تَسْبَحُ فِي نَزِيفِهَا. يَقُولُ لِي النَّدَى الْمَبْحُوحُ: «خُذْ جُمْجُمَتِي وَارْبَحِ الثَّانِيَةَ مَجَّانَاً». أَقُولُ لِلنَّدَى الْمَنْثُورِ فِي رِيشِ النُّسُورِ: «هَنِيئَاً لَكَ، صِرْتَ بِرْمِيلَ نِفْطٍ!»

 يُعْجَبُ ثَوْرُ الْقَحْطِ بِاحْمِرَارِ دَمِهِ الزَّيْتِيِّ عَلَى الرَّايَاتِ الْمُنَكَّسَةِ فِي طُحَالِ الْقَتِيلِ. إِنَّ أَجْسَادَ السُّحُبِ الذَّبِيحَةِ جُمْهُورٌ فِي الْحَلَبَةِ. عَلَى شَفَتَيْكِ يَا سَيِّدَةَ الْمُشَجِّعَاتِ عَرَقُ زَيْتُونٍ.

 وَانْطَلَقَ ثَوْرٌ عَلَى أُذُنَيْهِ كُلُّ الابْتِسَامَاتِ الَّتِي جَاءَتْ مِنْ وُقُوفِ سَيِّدَةٍ خَرِيفِيَّةِ الْغُبَارِ عَلَى سَارِيَةِ الْعَلَمِ الْمَكْسُورَةِ. وَالظَّلامُ لِلْبُكَاءِ صُورَةٌ. تَذْكِرَةٌ مُمَزَّقَةٌ عَلَى كَتِفِ رَجُلٍ يَدُورُ حَوْلَ غِرْبَالٍ مَرَّ فِي أَنْفِ جَرَادَةٍ. مَلابِسُهَا عُصُورٌ مِنَ الأَنْهُرِ الْمُتَزَوِّجَةِ حَدِيثَاً. رَجُلٌ مَاتَ خَلْفَ أَحْجَارِ الْبُحَيْرَاتِ الَّتِي تَتَثَاءَبُ عَلَى ظُهُورِ الثِّيرَانِ الْمُنْدَهِشَةِ ضَيَاعَاً عِنْدَمَا يُبَدِّلُ النِّسْيَانُ جِلْدَهُ فِي كُوخِ التُّوتِ.

 كُنْ أَجْمَلَ الضَّحَايَا فِي الْوَطَنِ الْخَرَابِ. قَتَلْنَاكَ مِثْلَمَا تُقْتَلُ الْكِلابُ الْمَسْعُورَةُ بَعْدَ أَنْ تَحْلِبَهَا الدِّيدَانُ الْمَذْعُورَةُ فِي الْبُسْتَانِ الْحَدِيدِيِّ. وَتَخَلَّيْنَا عَنْ جَفْنَيْكَ يَوْمَ احْتَجْتَ رُمُوشَنَا، ثُمَّ تَقَاسَمْنَا مَلابِسَكَ الْمُلَوَّنَةَ كَالْحَرَائِقِ. عُيُونُكَ أَضْوَاءُ سَيَّارَاتٍ مُعَطَّلَةٍ فِي مُنْعَطَفَاتِ وَرِيدِ الزَّنْبَقِ. وَالنِّيلُ حِيطَانُهُ صَمْغُ الأَشْجَارِ الْمُحْتَرِقَةِ. لا عَرَقٌ حَوْلَ عَرَقِي وَلا صَهِيلٌ. لَهْجَةُ الْخِرَافِ تَتَكَسَّرُ فِي الْبَرَاكِينِ ضِحْكَةً لِغِيَابِ النَّخِيلِ. مَا جِنْسِيَّةُ خِزَانَاتِ الْعَوْسَجِ فِي أَوْعِيَةِ الْمِيَاهِ الْمُلَوَّثَةِ بِالْمَلِكَاتِ؟.

 لا ذَبْحَتِي الصَّدْرِيَّةُ تَعْرِفُ الْجَوَابَ، وَلا الْبُرُوقُ الْمُخْضَرَّةُ وَلا الْبَابُ الصَّامِتُ. رَعْشَةُ قَلَمٍ تَمْتَصُّ الأَحْبَابَ. لَمْ يَبْقَ عِنْدَ قَبْرِي إِلا كَلامُ الْحِجَارَةِ السَّاكِتُ. وَتَنْمُو أَعْمِدَةُ الليْمُونِ فِي أَسْنَانِي رَكْضَاً فِي أَفْلاكِ رَحِيلِ الْمَصَابِيحِ، وَالْحُزْنِ الْمُدَجَّنِ وَالْحَطَبِ الْجَرِيحِ. أَنَا وَالرَّعْدُ نَجْمَعُ الْجَرَائِدَ فِي الرِّيحِ. امْرَأَةٌ تُبَاعُ وَطَنٌ يُبَاعُ. يَقْضُمُ نَسْرُ الْقَوَافِي مَوْجَ الضَّيَاعِ. وَتَتَزَوَّجُ الْفَرَاشَاتُ الزَّهْرِيَّةُ فِي مَعِدَةِ الْجِيَاعِ.

 شَيَّعَتْ سُنْبُلَةَ الرَّعْدِ زَلازِلُ الْجَسَدِ. أَتَفَرَّسُ فِي وُجُوهِ الْحَمَامَاتِ. قَدْ أُذْبَحُ فِي يَوْمٍ مُشْمِسٍ مُلائِمٍ لِلرِّحْلاتِ الْمَدْرَسِيَّةِ. أَنْ تَرْجِعَ إِلَى كُوخِكَ النُّحَاسِيِّ فَلا تَجِدُ سِوَى مَقَاصِلَ مَزْرُوعَةٍ عَلَى الْحِيطَانِ كَالْبَرَاوِيزِ الرَّخِيصَةِ. أَعْقَابُ الْبَنَادِقِ فِي خَيَاشِيمِ الطَّاعُونِ. الليْلُ أَشْقَرُ فَتَصْعَدُ مِنْ صِيَاحِ الأَوْحَالِ حَمَامَةٌ نَحْوَ مَجْزَرَةِ الرُّوحِ.

 يَا أَيُّهَا الْمَسِيحُ الْمُتَدَفِّقُ فِي السَّمَاءِ ضَوْءَاً، لَمْ يَصْلُبُوكَ عَلَى خَشَبَةِ عَارِهِمْ. لَكِنَّ الْجَرَادَ الْوَطَنِيَّ فِي أَعْوَامِ التُّفَّاحَاتِ الْمُرْتَعِشَاتِ صَلَبَنِي عَلَى كُلِّ أَخْشَابِ السَّنَاجِبِ الْمُنْطَفِئَةِ.

 هُنَاكَ مُذَنَّبٌ فِي أَقْصَى رَغْبَةِ الرَّكْضِ اللانِهَائِيِّ فِي مَدَارَاتِ الْمَرْفَأ الْمُحَاصَرِ، وَأَنْوَارِ الْحَجَرِ الْمَخْدُوشِ. أُخْتُ الْبَارُودِ تَزُورُ النَّبَاتَاتِ الْمُتَسَلِّقَةَ عَلَى شَظِيَّاتِ عَوْدَةِ الْجَيْشِ الْمَهْزُومِ. الْوَحْلُ الْمُتَنَاقِضُ وَالْجِلْدُ الْمَغْرُورُ. كَوْمَةُ صُخُورٍ سَامَّةٍ فِي لَهَبِ الشُّعْلَةِ الأَبْيَضِ يُكَنِّسُ الشَّهَادَةَ الْجَامِعِيَّةَ لِلإِجَاصِ الْيَتِيمِ، وَالْهُوِيَّةَ الْعَسْكَرِيَّةَ لِلنَّحْلاتِ الْمُتَقَاعِدَاتِ تَحْتَ أَظَافِرِ الْمَسْجُونِينَ الْمُبَعْثَرَةِ أَعْلامَاً مُنَكَّسَةً. سَرَايِيفُو جِلْدٌ أَخْضَرُ لِلشَّلالِ الْمُتَّكِئِ عَلَى غِمْدِ قَمْحَةٍ تَسْتَصْلِحُ قُلُوبَ الطَّرِيقِ الصَّخْرِيَّةِ كَقَلْبِ يَهُودِيَّةٍ سَمَّمَتِ النَّبِيَّ.

 يَا رَاحِلِينَ إِلَى لافِتَاتِ مَحَاكِمِ التَّفْتِيشِ فِي دَهَالِيزِ الْبَنْكِرْيَاسِ. اسْتَرِيحُوا عَلَى عَتَبَاتِ الْقَشِّ الَّذِي يُغَنِّي عَلَى سِكَّةِ حَدِيدٍ مَهْجُورَةٍ نَصَبَتْهَا الْغِزْلانُ فِي رَائِحَةِ تَوَارِيخِ الأَنْهَارِ. وَطَنُ الْمَنَافِي عِنَبٌ هَلْ جَرَحْتَنِي؟. عُمُرِي يَمَامَةٌ مَخْنُوقَةٌ فِي مَحَلِّ تُحَفٍ. وهذا الشَّلالُ حَارِسي الشخصيُّ.

 يَا نَبِيَّاً قَبَّلَتْ عِمَامَتَهُ الْعَالِيَةَ نَجْمَاتُ الْقَلْبِ، مُدَّ يَدَيْكَ الطَّرِيَّتَيْنِ اللتَيْنِ نَبَعَ مِنْهُمَا الْمَاءُ لِتَسْقِيَ صَحْرَاءَ مَلامِحِنَا وَأَجْسَادَنَا الْحَجَرِيَّةَ. إِنَّنَا أَمْوَاتٌ انْتَشَلْنَا دَمَنَا مِنْ شَرَايِينِ أَرْضِنَا فَانْتَشِلْنَا مِنْ أَكْوَامِ الْعَارِ الرَّمَادِيِّ كَيْ نَتَدَاخَلَ مَعَ صَهِيلِ الرِّيَاحِ فِي الْغَزَوَاتِ. وَالسَّلامُ عَلَيْكَ أَيَّامَ جِئْتَنَا وَسَكَنْتَ فِينَا. أَيُّهَا الشَّاهِدُ الشَّفِيعُ الْغَيْثُ فِي ضَوْءِ عُيُونِنَا.

 لأَنِّي مِسْكِينٌ تَلْعَبُ النَّيَازِكُ بِعَوَاطِفِي. دَخَلْتُ فِي عُزْلَةِ الْعَوَاصِفِ. وِسَامُ مَعِدَتِي فَوْقَ أَسْمَاءِ الْعَاجِ الْمَخْدُوشِ. تَفَضَّلْ أَيُّهَا الْوَطَنُ الْمُخَصَّصُ لِلْمُرْتَزَقَةِ تَفَضَّلْ. اقْتُلْ فَرَاشَ الزُّرْقَةِ الْمَأْسُورَةِ. اطْمَئِنْ فَلَنْ تَتَحَدَّى الذِّكْرَيَاتُ عَبَاءَةَ الدُّرَّاقِ. يَحْتَلُّنِي عِشْقُ الْمَجَرَّاتِ فِي خَرِيرِ ذِهْنِي. يُفَصِّلُ عُنْفُ الْكَهْرَمَانِ اكْتِئَابَاً عَلَى مَقَاسِ حِيطَانِنَا. مِئْذَنَةٌ يَنْفَجِرُ فِيهَا قَلْبِي وَلا تَنْفَجِرُ. يَرَانِي الشِّتَاءُ الْمُبْتَلُّ بِأَقْوَاسِ النَّصْرِ فَأَرَاهُ كَيْ يَبُوسَ تَصَحُّرُ الليْلِ شَرَايِينَ الْمَذْبَحِ، وَهِيَ تُضِيءُ لِلطُّيُورِ الْمُهَاجِرَةِ وَجْهِي. وَجْهٌ لِلْغَيْمِ يَمْتَصُّنِي أَفِقْ شَجَرَاً حَضَنَتْهُ الْقَنَادِيلُ. أَمْشِي إِلَى وَجْهِي فَيَرْفَعُنِي عَلَى ظَهْرِِ الْقِطَارِ. مَضَتِ السِّيَاطُ إِلَى حُفْرَتِهَا، اغْرِسْنِي عِنْدَ رَعْدِ الْكَلامِ. وَلا أَمْشِي إِلَيْهَا خَوْفَ أَنْ أَبْكِيَ عَلَى أَسْمَاءِ الْبَلابِلِ فَوْقَ مِيَاهٍ تَحْتَلُّ اسْمِي. وَلا أَمْضِي إِلَى حَيْثُ أَرَادَتْ طُفُولَةُ الْوَحْلِ خَارِجَ أُنُوثَةِ الْخَوْخَةِ الْمُتَرَنِّحَةِ عَلَى الرَّصِيفِ الْمَجْهُولِ وَسَطَ زِنْدِي عِنْدَ الْمَكْتَبَةِ الْخَالِيَةِ مِنَ الْغَيْمِ.

 إِنَّ دَمِي خَالٍ مِنَ الْبِهَارَاتِ تَمَامَاً، لَكِنَّ الْعُصْفُرَ دَخَلَ بِالْخَطَأ إِلَى ذَرَّاتِ الأُكْسُجِينِ فِي هَوَاءِ الإِطَارَاتِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي جِرَاحِ الأَرْضِ. وَالنَّجْمَاتُ تُعَسْكِرُ فِي فَتَحَاتِ مِضَخَّاتِ الْمِيَاهِ فِي الْعَرَاءِ الْمُرْتَعِشِ عَلَى ثِيَابِي. تَرَى شُجَيْرَاتُ الثَّلْجِ مَا لا أَرَاهُ. أُعَانِقُ مَا لا تَرَاهُ الْبُرُوقُ فَأَنْسَاهُ. مِدْخَنَةُ لَيْلِي أَفَاقَتْ اسْتَفِقْ زُمُرُّدَاً. جُسَّ نَبْضَ الطُّوفَانِ هَلْ أَنَا حَدِيقَتِي؟. جَاءَتِ السِّكِّينُ فِي الْعَرَبَاتِ الْمُذَهَّبَةِ لأَقُولَ مَا عَنَاوِينُ الْفُقْمَاتِ فِي مَكْتَبِ الْبَرِيدِ. الزِّلْزَالُ يَتَغَطَّى بِالذِّكْرَيَاتِ الَّتِي تَمْضِي.

لِحَافِي أَقْصَرُ مِنْ حَبْلِ رَقْصٍ عَلَيْهِ سَرِيرُ الْمَجْزَرَةِ. عَلِّمْنِي طَرِيقَةَ الْبَرَاكِينِ فِي الْبُكَاءِ الْكَهْرَمَانِيِّ.

 أَتَى الْعُمُرُ ذَهَبَ الْبَرْقُوقُ إِلَيْهِ مُمْتَطِيَاً عُودَ مِشْنَقَةٍ. بَنْكِرْيَاسِي دَرْبِي وَيَحْتَسِي الْغُصْنُ شُوربَةَ الْعَدَسِ. هَلْ تَسْمَحُ أُسُودُ اللوزِ لِلْمَرْعَى بِأَنْ يَرْكُضَ فِي جَنَازَتِي؟.

 تَبْحَثُ الرَّاقِصَاتُ الزُّجَاجِيَّاتُ عَنْ تَذَاكِرِ الْحَفْلَةِ، وَأُفَتِّشُ عَنْ رَأْسِ أَبِي الْمَرْمِيَّةِ فِي الآبَارِ الْجَوْفِيَّةِ. تَشُكُّ الصَّحْرَاءُ فِي ذَلِكَ الأَصْفَرِ الاحْتِفَالِيِّ عَلَى مُدَرَّجَاتِ الْبَنَادِقِ الْجَدِيدَةِ وَأَنَا أُعَلِّمُ شَكَّ قَوْسِ قُزَحَ أَنْ يَتَيَقَّنَ مِنْ مَمَاتِي.

 امْرَأَةٌ تَبْكِي عَلَيَّ لَحْظَةَ إِعْدَامِي الرُّومَانسِيِّ. جَسَدٌ الضَّوْءُ تَثْقُبُهُ الرِّيحُ الْعَارِيَةُ، وَتَضُمُّهُ النِّسَاءُ الْمُتَّشِحَاتُ بِالسَّوَادِ فِي أَوْدِيَةِ الْمُحِيطَاتِ غَيْرِ الْمُكْتَشَفَةِ.

 يَرْفُضُ غَيْمُ بِلادِي أَنْ أُدْفَنَ فِيهِ. يَتَكَدَّسُ الْبَارُودُ فِي ثُقُوبِ زَفِيرِي فَيَنْهَارُ انْهِيَارِي قُرْبَ جُثْمَانِي. وَأَسْأَلُ الأَرْضَ أَيْنَ اسْمُكِ أَوْ سُؤَالِي؟. ادْفِنِينِي فِي أَيِّ قَلْبٍ مُهَاجِرٍ. فِي جَبِينِي صَلاةُ النَّوَارِسِ. وَالْمَحَارُ يَمْنَحُ اسْمَهُ لِذُرِّيةِ الْيَاسَمِينِ مِثْلَمَا تَدْخُلُ الْحَيَوَانَاتُ فِي بَيَاتِهَا الشَّتَوِيِّ تَدْخُلُ أَرْصِفَةُ جِرَاحِ النَّسْرِ فِي اكْتِئَابِهَا الْمَوْسِمِيِّ وَخِيَانَاتِ الْمُلُوكِ.

 

قُلُوبُنَا مَعَكَ وَسُيُوفُنَا عَلَيْكَ

 إِنَّنِي السَّفَرُ حِينَ قُتِلَ الْمُسَافِرُ. أَطَاحَ الْغُرُوبُ بِمَمْلَكَةِ الْجَسَدِ الْمُحَمَّصِ. وَأَبْرَاجُ دَمْعٍ يَذْبَحُ عِشْقَ الْجِبَالِ. صَحَارِي تَنْتَهِي مِنْ مُمَارَسَةِ الْجِنْسِ ثُمَّ تُصْدِرُ أَحْكَامَ الإِعْدَامِ بِحَقِّ فَرَاشَاتِي. اتْرُكُونِي لأَتَّحِدَ مَعَ اللازَوَرْدِ الْعَاشِقِ. وَتَبْقَى رَائِحَةُ الْمَجَرَّاتِ عَلَى شَوَاهِدِ الْقُبُورِ. الْمَوْتَى جِلْدُ الرِّمَالِ وَجِرَاحُ الضَّبَابِ تَحْمِلُهَا الْخِيَامُ عَلَى ظَهْرِ طَاوُوسٍ مَيِّتٍ يَمْتَطِي عُكَّازَتَيْنِ لإِيهَامِ الشَّجَرَاتِ أَنَّهُ حَيٌّ!.

 الليلُ أَضَاءَ نَخِيلَ كُهُوفِ رِئَتِي مِنْ مَجَرَّاتِ الْكَلِمَةِ حَتَّى حُفْرَتِي الْمَثْقُوبَةِ. بَلَدِي ذَلِكَ الارْتِعَاشُ النَّازِفُ فِي أَكْوَاخِ وَرِيدِي. مَاذَا سَتَفْعَلُونَ بِمَا تَبَقَّى مِنْ شَكْلِي؟. أَخِي حَجَرَ الرَّحَى الْبُرُونزِيَّ، تَكَاثَرْ فِي أَحَاسِيسِ الْقَرَنْفُلِ غَيْرِ الْمُسْتَوْرَدِ، وَشَارِكْنِي صَمْتَ حُرُوفِ الْوَرْدَةِ الْمُتَفَجِّرَ وَحَفْرَ أَخَادِيدِ وَجْهِ الطُّوفَانِ. رَأْسُ الْحُسَيْنِ تَدُورُ فِي دَوَرَانِي حَوْلَ رَأْسِي الْمَقْطُوعَةِ. وَالأَرْضُ تَفْتَحُ فِي كَتِفِي شُبَّاكَاً صَغِيرَاً لِعَابِرِي السَّبِيلِ لِيُطِلَّ الزِّئْبَقُ عَلَى أُذُنِ الرَّصَاصَةِ وَهِيَ تَمُصُّ الْغُصُونَ عَنْ شِفَاهِ حَضَارَةِ الْقَنَابِلِ. قَبْرِي دَمَارٌ لِلدَّمَارِ وَلَيْلِي نَهَارٌ لِلنَّهَارِ. فَاقْتُلِينِي يَا ذِكْرَيَاتِي كَيْ أُولَدَ نَقِيَّاً. خَسِرْتُكِ وَخَسِرْتِنِي وَفَازَ الدُّودُ بِجَسَدِي. وَالْمَسَاءُ قِطْعَةُ لَحْمٍ عَابِرَةٌ فِي خَاصِرَةِ الْعِنَبِ.

 ثَلاجَةُ الْمَوْتِى الضَّيِّقَةُ وَآخِرُ عَذَابَاتِ الْحَمَامِ. حَبْلٌ يَتَدَلَّى مِنْ سُرَّةِ جُثَّةِ الشَّلالِ إِلَى قَاعِ ظِلِّي فِي الأَنَاشِيدِ الْمُرَاقَبَةِ. أُحِبُّ أَشْيَاءَ الْوَادِي حِينَ تَحْيَا وَتَمُوتُ لأَنَّ الصَّخَبَ حَفَّارُ قُبُورٍ ثَائِرَةٍ كَرَجْفَةِ الرَّاهِبَاتِ الْمَصْلُوبَاتِ عَلَى أَبْرَاجِ الْكَنَائِسِ. فَلْنَهْبِطْ إِلَى ضَوْضَاءِ دَمِنَا يَا جَدَّتِي. هَذِي رِحْلَتُنَا نَجُرُّ أَجْدَاثَ الْعَصَافِيرِ، وَنُفَرِّغُ أَكْتَافَنَا مِنْ صَرَخَاتِ الْقَشِّ فِي ضِحْكَةِ الْغِيَابِ غَيْرِ الْغَائِبِ.

 أَنَا السُّجَنَاءُ وَالسُّجُونُ فَكَيْفَ تَسْجُنُونَنِي؟!. لا رَعْدٌ حَوْلَ دَمِي يُذَكِّرُنِي بِذَاكِرَتِي، وَلا مَطَرٌ فِي قَلْبِي يَحْتَلُّ مَأْسَاتِي. كُنْتُ الْحُبَّ الأَوَّلَ فِي حَيَاةِ الْمَقَاصِلِ. لِلْمَغِيبِ ثَوْبُ الْوَجْهِ لا قِنَاعُهُ.

 أَدْرَكَنِي البِطِّيخُ فِي مَخَاضِ ثَوْرَاتِي. أَدْرِكْنِي حَيْثُ تَتَفَتَّحُ قَبْضَةُ الضَّجَرِ أَبْوَابَاً لِلْمَسَالِخِ، وَتَطْلُعُ أَشْتَالُ التَّبْغِ مِنْ بُطُونِ الأَطْفَالِ الْمُقَطَّعَةِ. أُوَزِّعُ هُمُومِي عَلَى بَرَاعِمِ مَقَابِرِنَا الطَّرِيدَةِ. أَيْنَ الذِّكْرَيَاتُ الْهَنْدَسِيَّةُ يَا حَفَّارِي الْقُبُورِ الْكِلْسِيَّةِ؟.

 مُشَرَّدُونَ وَسَمَاسِرَةُ وَذُبَابٌ خَشَبِيٌّ. وَفِي ضِحْكَتِي أَثْمَرَ زَوَاجُ السُّلِّ مِنَ الْمِدْخَنَةِ أَرْبَعِينَ سِكِّينَاً تَمْتَصُّ أُرْجُوانَ الْحَدِيقَةِ. نَزْفِي انْتِخَابُ مَلِكِ التَّشَرُّدِ. وَجَوَازُ سَفَرِي نَخْلٌ خَجُولٌ. أَتَتْ وُجُوهٌ لا جِنْسِيَّةٌ لا مَطَارٌ. وَأَلْقَابُ الصَّقْرِ لِلْمَجَاعَةِ حُقُولٌ. طَابُورُ بَنَاتٍ أَمَامَ قَصْدِيرِ الْمَذْبَحِ.

 الْجَرْجِيرُ قَبِيلَةُ السُّيُوفِ أَلْصِقْنِي عَلَى وَجْهِي. أَنَا تَوْأَمُ التَّرْحَالِ أُشْبِهُ ذُرِّيةَ الزَّيْتُونِ. وَالزَّعْفَرَانُ الصَّرِيعُ عَلَى لافِتَاتِ الْعَاصِفَةِ. هَذَا الْخُبْزُ وُجُوهُ الْمَطَرِ كَأَنَّكَ أَنَا. مَنْ دَمِي؟ وَأَيْنَ أَيْنِي كَيْ أَرَى؟. أَشْبَاحُ قِطَطٍ فِي مُحَاكَمَةِ الْجَسَدِ. مُوَظَّفُونَ يَجْلِسُونَ ضَاحِكِينَ فِي أَدْمِغَةِ ثَعَالِبِ مَحَاكِمِ الْعَارِ.

 رَحِيلُنَا عِنْدَ الْفَجْرِ يَا أُخْتَاهُ. وَمَلابِسُنَا تَصْطَادُ الأَرَانِبَ الْمَنْفِيَّةَ فِي أَنِينِ الْبَسَاتِينِ أَوْ قُيُودِهَا. الشَّمْسُ أَقَلُّ صَفَاءً مِنْ تَوْبَةِ الْمُرَابِينَ. ضَيَّعَنِي التَّرْحَالُ فِي عُكَّازَاتِ الْمَهَا فَوَجَدْتُ نَفْسِي صَدِيقَاً لِلْبُرُوقِ. كَأَنَّنِي أَلْمَحُ حَمْزَةَ بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ تُضِيءُ ابْتِسَامَاتُهُ شُمُوعَ غُرْبَتِنَا فِي أَدْغَالِ عُيُونِ الظِّبَاءِ.

 تَنْتَصِبُ الْخَنَاجِرُ بَيْنَ الْحَيَوَانَاتِ الْمَنَوِيَّةِ الْمَنْشُورَةِ فِي أَجْسَادِ الْيَنْبُوعِ الثَّوْرِيِّ. كُنْتُ الْجَسَدَ أَقْوَاسَهُ الْبَيْضَاءَ عَلَى الْحَرِيرِ الأَسْوَدِ. مَدَاخِنُ الْبِهَارِ مُعَلَّقَاتُ انْحِنَاءِ الْفَخَّارِ عَلَى مُسَاءَلَةِ الْقَرْمِيدِ.

 مُحَاصَرٌ مِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ أَوْ مِنْ كُلِّ كُلِّي. سَأُفَجِّرُ ظِلَّ الْخَطِيئَةِ، وَأَحْرِقُ الْخَطَايَا بِالنَّدَمِ. وَأُمَزِّقُ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ عَلَى ثَوْبِ عُمُرِي. وَيَكْسِرُ لَحْمُ كَلامِي أَقْفَاصَاً تَخْمِشُنِي. سَأَحْفِرُ قَبْرِي الْمَعْنَوِيَّ بِأَنْيَابِ مِلْحٍ مُسْتَعَارَةٍ. وَأُهَاجِرُ ضَوْءَاً لِلْيَدِ الْجَرِيحَةِ. الأَسْلاكُ الشَّائِكَةُ تَنْمُو عَلَى جِدَارِيَّاتِ أَنْفِي. وَحُجُرَاتُ الْمُعْتَقَلِ تَرْكُضُ نَحْوِي أُغْلِقَ عَلَيَّ. أُرْسِلُ وَجْهِي الثَّانِي وَسَجَّانِي إِلَى أَرْشِيفٍ مَا. وَأَذْهَبُ إِلَى مَالِكِ رُوحِي.

 يَا ضَوْءُ، هَلِ الْبَرَاعِمُ اعْتِذَارِي الْمُهَذَّبُ عَنْ حُضُورِ مَذْبَحَتِي؟. مِنْ كُتُبٍ تَفْتَرِسُ بَرِيقَ عَيْنِ الذِّئْبِ يَخْرُجُ قِطَارُ الْحِبْرِ وَيَذُوبُ فِي بِلادٍ تَبْذُرُ فِي نَظَرَاتِ الضِّبَاعِ دُكَّانَاً لاسْتِثْمَارِ أَفْخَاذِ الْمَلِكَاتِ. أَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ فَأَرَى غَيْرِي. أَوْسِمَةُ بَشَرٍ نُسَمِّيهِمْ مُلُوكَاً وَتُسَمِّيهِمُ الأَغْصَانُ الْبُرْكَانِيَّةُ ضَفَادِعَ. وُلِدَ غَزَالٌ أَعْوَرُ فِي الْمَقْبَرَةِ الرَّمْلِيَّةِ. وَمَاتَ فِي الْمَقْبَرَةِ الرَّصَاصِيَّةِ. وَقَضَى حَيَاتَهُ مَاشِيَاً بَيْنَ الْقُبُورِ الْمَاشِيَةِ.

 سَلامٌ عَلَى الأَنْبِيَاءِ ضَحُّوا مِنْ أَجْلِنَا، نَحْنُ الْمُسْتَلْقِينَ سِجَّادَاً رَخِيصَاً فِي الْمَخْفَرِ الْوَحْشِيِّ. مَنْ سَيُصَلِّي عَلَيَّ صَلاةَ الْجَنَازَةِ؟: الْمُرَاهِقَاتُ الْخَارِجَاتُ مِنَ الْمَسَابِحِ الْمُخْتَلَطَةِ؟. الْجَوَارِي الْمُسْتَحِمَّاتُ بِالْبَارُودِ الْمَغْشُوشِ لاسْتِقْبَالِ السُّلْطَانِ الْعَائِدِ مِنَ الْهَزِيمَةِ؟. عُلَمَاءُ الْبَلاطِ الَّذِينَ يُجَهِّزُونَ الْفَتَاوَى حَسْبَ أَمْزِجَةِ الشَّيْطَانِ؟. أَصْدِقَائِي الْمُعَلَّقُونَ عَلَى مَشَانِقِ شُرُفَاتِ الْخَوْخِ فِي حَدَائِقِ الْقَصْرِ الْمُتَفَشِّيَةِ فِي الْجَمَاجِمِ؟. جَارِي الْقَدِيمُ الَّذِي مَاتَ بَاحِثَاً عَنِ الْخُبْزِ النُّحَاسِيِّ وَرَأْسِ زَوْجَتِهِ فِي سِلالِ الْقُمَامَةِ؟. نَجْمَةُ السِّينَمَا الْعُشْبِيَّةُ الَّتِي تَعِيشُ عَلَى مُضَادَّاتِ الاكْتِئَابِ؟. رِجَالُ الأَمْنِ الْمُبَعْثَرُونَ فِي خُيُوطِ قَمِيصِي الْمُتَآكِلِ؟.

 أَشْرَبُ يَوْمِيَّاتِ الرَّعْدِ فَأَنْسَى هُمُومِي. مَغَارَاتُ يَدِي خُبْزٌ لِلْحَمَامِ الْمَسْلُوقِ. رَائِحَةُ الْكُلُورِ فِي قُبَّعَةِ الْمَاءِ تَخْطُبُ دَرَجَ الْمَذْبَحِ وَتَمَوُّجَاتِ إِبْهَامِ السَّجَّانَةِ الْعَزْبَاءِ. وَالْبَاعَةُ الْمُتَجَوِّلُونَ يَحْمِلُونَ ضَرِيحَ الْبَنَفْسَجِ فِي أَكْيَاسٍ بِلاستِيكِيَّةٍ مُسْتَعْمَلَةٍ، وَيَطُوفُونَ بِهِ عَلَى الْكَوَاكِبِ. حَيْثُ تَأْكُلُ الْوُرُودُ لَحْمَ الزَّهَايمرِ. الزَّهْرُ لُغَةُ الثَّوْرَةِ الَّتِي تُبَدِّلُ أَسْنَانِي. وَتَرْقُصُ فِي سِينَاريُو مُحْتَمَلٍ لِتَشْرِيحِي. مِنْ أَيِّ رَحِمٍ خَرَجَتْ أَرْبِطَةُ الْجُرُوحِ؟.

 الْبَرْقُ عَلَى صَدْرِ الرَّعْدِ. يَا طِفْلَ حُفَرِ الْمَجَارِي النَّائِمَ فِي إِبْطِ مُسَدَّسٍ. دُلَّنِي عَلَى طُوفَانِ اسْمِ أُمِّي فِي قَائِمَةِ الضَّحَايَا أَوِ الْمَفْقُودِينَ. أَنَا الْمَاءُ الْجَالِسُ فِي حِجْرِ الْيَانسُونِ فِي مَوْسِمِ بَيْعِ نِسَاءِ الْقَبِيلَةِ. رَسَائِلُ بِالْحِبْرِ السِّرِّي إِلَى حَبِيبَتِي كَشْمِيرَ. غِيَابُ أُسْتَاذِ الرِّيَاضِيَّاتِ فِي الْمَدَافِنِ الْمُرَتَّبَةِ. جُودي فُوستر تِلْكَ الطِّفْلَةُ الضَّائِعَةُ. أَحْزَانُ فَتَاةٍ شِيعِيَّةٍ خَارِجَةٍ لِلتَّو مِنْ جَثَامِينِ الليْلِ الأَخْضَرِ. الْحَيَاةُ فِي وَطَنٍ مَيِّتٍ.

 أَمِيرَ الأَنْقَاضِ، وَأَنْتَ تَتَعَشَّى مَعَ عَشِيقَتِكَ فِي مَسَاءَاتِ كَوْكَبِ الزُّهْرَةِ. انْسَ الْبَشَرَ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ غَيْرَ حِيطَانِ الزِّنْزَانَةِ لِيَمْضُغُوهَا. الْقُرَى الْمَنْحُوتَةُ عَلَى وَجْهِ الْقَمَرِ وَجْنَةٌ لِلْكَهْرَمَانِ. قَافِلَةُ الْمَقَاصِلِ تُخَيِّمُ فِي سُرَّتِي فَيَضْحَكُ زِنْدُ الشَّمْسِ مِنْ نَزِيفِي الْمُنْهَمِرِ عَلَى جَبِينِ الصُّوَّانِ. كُلَّمَا حَمَّلَنِي الْغُرُوبُ مَسْؤُولِيَّةَ الأَخْذِ بِثَأْرِهِ اكْتَشَفْتُ أَنَّ ظَهْرِي غِمْدُ سَيْفٍ. احْتِضَارُ غَابَاتٍ مَلْفُوفٌ بِالسُّيوفِ دَاخِلَ سَجَاجِيدَ فَاخِرَةٍ فِي الْكُهُوفِ. تَجِيءُ دِمَاءُ خُرَسَانَ مِنْ بَطْنِ حَبَّةِ الرَّمْلِ.

 يَا أَنَا، أَنَا وَأَنْتَ سَوْفَ يَلْبِسُنَا مَوْجُ الأَكْفَانِ، وَنَفْتَحُ جُلُودَنَا أَمَامَ قُدُومِ سُلالَةِ الْمَجَرَّاتِ. دَعْنِي أَتَخَنْدَقْ فِي رَقَبَةِ أَبِي حَيْثُ وَرَّثَنِي زَهْرَ مِشْنَقَتِهِ. مَاذَا طَبَخْتِ يَا رُعُودُ لِضُيُوفِكِ الْحَامِلِينَ لِجُثَّةِ الأَرْضِ فِي لَيَالِي الشِّتَاءِ الصَّيْفِيِّ عِنْدَ الْبِلادِ السَّائِلَةِ كَعَصِيرِ الدَّمِ فِي أَفْوَاهٍ قَذِرَةٍ قِلاعَاً؟.

 وَيَخْتَفِي الْعَسَسُ فِي أَكْوَابِ الشَّايِ الْمُتَجَمِّدِ. وَيَتَبَوَّلُ نِسْيَانُ القُبُّرَاتِ عَلَى قُبُورِ الْمُلُوكِ. أَجْسَادُ الْمَوْجِ تُقَايِضُنِي وَلا قَمْحٌ فِي أَنْفِي. تَفِرُّ السُّنْبُلَةُ مِنْ ثِقَلِ قِنَاعِهَا مُتَدَاخِلَةً مَعَ شَكْلِهَا. فِي شَوَارِعِ الْمُحِيطِ الْهِنْدِيِّ الْمُوحِلَةِ أَدُورُ عَلَى الْمَزَابِلِ بَاحِثَاً عَنْ كِسْرَةِ خُبْزٍ وَمَرَقِ الْعَوَاصِفِ. أَنَا وَالْجِنُّ وَالْقِطَطُ الضَّالَّةُ نُفَتِّشُ عَنْ أَشْبَاهِ الطَّعَامِ بَيْنَ الْجُثَثِ الْمَغْلِيَّةِ جَيِّدَاً وَالْمِدْفَأَةِ الْمُكَسَّرَةِ. الزَّمْهَرِيرُ يَقْضُمُنِي عَلَى أَغْصَانِ الذَّاكِرَةِ. طَالِبَةٌ جَامِعِيَّةٌ فِي قَمِيصِ نَوْمِهَا الْقُطْنِيِّ تَدْرُسُ الْكِيميَاءَ وِفْقَ الْمِنْهَاجِ الأَجْنَبِيِّ فِي غُرْفَتِهَا دَاخِلَ قَصْرٍ ذِي تَدْفِئَةٍ مَرْكَزِيَّةٍ. وَأَظَلُّ أَدُورُ عَلَى أَطْرَافِي أُوَزِّعُ سُخُونَةَ دَمْعِي لأَنَّ صَبِيَّ الضَّوْءِ يَرْكُضُ فِي نُخَاعِ تُفَّاحَةٍ، وَيُفَتِّشُ عَنْ جُثَّةِ أُمِّهِ فِي جُثَّةِ أَبِيهِ ثُمَّ يَذْهَبُ إِلَى صَلاةِ الْعَصْرِ.

 قَتَلَنِي رَمْلُ الشُّهُبِ فِي رَقْصَةِ الْحِجَارَةِ، فَرَثَانِي اسْتِسْلامُ الأَمْوَاجِ لِذِكْرَيَاتِ الصَّاعِقَةِ. سَتُضَيِّعُ وَقْتَكَ إِنْ حَفَرْتَ قَبْرَكَ، وَانْتَظَرْتَ مَلَكَ الْمَوْتِ كَيْ يَأْتِيَكَ. إِنَّنِي مِنْ مَكَانٍ ثَوْبُهُ طَمَاطِمُ الْبَنَادِقِ. يَا صَاحِبِي أَنْتَ أَجْمَلُ مِنْ رُسُومَاتِ الضَّبَابِ الْمَسْنُونِ عَلَى أَجْفَانِ الْخِنْجَرِ. النِّصَالُ تَأْكُلُ السُّطُورَ فِي دَفْتَرِ الرِّيَاضِيَّاتِ. لِلضَّوْءِ عَشِيرَتُهُ أَخْرِجْنِي مِنْ حِسَابَاتِ الدُّمُوعِ الْبَرِّيةِ وَخُيُولِ الدَّوْلَةِ الْبُولِيسِيَّةِ لأُمْسِكَ شَكْلَ اسْمِي فِي مَرَايَا الْوُجُوهِ السَّرِيعَةِ حِينَ تَعْبُرُ ازْدِحَامَ الْقَتْلَى الْمَارِّينَ فِي الأَسْوَاقِ.

 كَأَنَّ خَدِّي يَاسَمِينَةُ بَارُودٍ يُرَاقُ. سَحَابَةَ خَيْلٍ كَانَتْ أَحْصِنَةُ السَّحَابِ. يَا صِحَابُ، أَيْنَ قُتِلْتُمْ يَا صِحَابُ؟!. خَرَائِطُ الْعُمُرِ وَجَدَتْ اتِّجَاهَاتِ الْغَزَالِ فِي خَنَادِقِ إِبْرَةِ بُوصَلَةِ الرُّبَّانِ الْعَائِدِ مَعَ كُلِّ تَوَابِيتِ الْيَنَابِيعِ وَالْحِبْرِ السَّجِينِ. تَحِيَّاتُ الدَّلافِينِ فِي كَهْرَمَانِ أَعْمَارِ الْبَوَاخِرِ الْغَارِقَةِ فِي سَوَائِلِ مَعِدَتِي الطَّرِيدَةِ. وَمَا زَالَ الدِّينَامِيتُ يَسْمَعُ وَقْعَ نِعَالِ الْغَابَاتِ فِي الْجَنَازَةِ.

 

الْجُنُودُ الأَلْمَانُ يُغَنُّونَ أغْنِيَةَ الْفُولغَا

 النَّهْرُ الْخَائِفُ يَقْرَأُ فِي كِتَابِ هَزِيمتِنَا، فَتَقْلِبُ الصَّفَحَاتِ جُثَّةٌ مَجْهُولَةُ الْهُوِيَّةِ. كَيْفَ يَمْشِي الْجَيْشُ وَالدُّودُ وَالأَدْغَالُ وَشَوْقُ الزَّوْجَاتِ الْخَائِنَاتِ وَالْمَدَافِنُ الْبَازِلْتِيَّةُ نَحْوَ ستالينغراد وَكُلُّ رَاهِبَاتِ بَرْلِينَ مَرْمِيَّاتٌ فِي حَلِيبِ الأُمَّهَاتِ الْمُلَوَّثِ بِالصُّلْبَانِ قُرْبَ نِقَاطِ التَّفْتِيشِ وَبَصَمَاتِ الأَرَامِلِ الأُمِّيَّاتِ؟.

 الْوَطْوَاطُ يُعَلِّقُ الْمَشَانِقَ لأَطْفَالِهِ الْمُتَكَلِّسِينَ فِي قَاعِ أَوَامِرِ الْقَرْمِيدِ الْعَسْكَرِيَّةِ. وَوَصَلْتُ إِلَى ضَوْءِ نِهَايَتِي لَكِنَّ رِجَالَ الأَمْنِ لَمْ يُحَدِّدُوا مَسَارَ جَنَازَتِي. رَكَضْنَا فَسَقَطَتْ أَيَادِينَا عَلَى رُقْعَةِ الشَّطَرَنْجِ. إِغْفَاءَةُ رُعُودٍ فِي الْجُلُودِ الْخَشِنَةِ. مَا جِنْسِيَّةُ مَصَابِيحِ الْمُشَيِّعِينَ الْخَارِجِينَ مِنْ أَوْحَالِ النَّهْرِ الْمُطْفَأ؟. أَرَى عُيُونِي وَنَظَرَاتِ الْمَهَا خُطَّةً وَاقِعِيَّةً لِتَحْرِيرِ الأَنْدَلُسِ. كَوَاكِبُ شِعْرِي تَتَقَيَّأُ عَلَى سَطْحِ مَبْنَى الْمَخْفَر. رَغْوَةُ الدَّمِ الَّذِي يُعَادُ تَكْرِيرُهُ. لَمْعَتُهُ الأَجْرَاسُ انْتَحَرَ الْحُرَّاسُ. فَأَحِبِّينِي يَا كَشْمِيرُ كَيْ نَحْيَا مَعَاً وَأَمُوتُ وَحْدِي.

 أَيَّتُهَا الْبَغَايَا الآتِيَاتُ مِنْ جُنُونِ الْبِلاستيكِ وَاللافَرَاشَةِ فِي اللاوَطَنِ. ارْحَمْنَ الزَّبَائِنَ قَلِيلاً لِتَهْدَأَ مُحَرِّكَاتُ سَيَّارَاتِ نَقْلِ السُّجَنَاءِ الدَّائِرَةُ فِي حَارَاتِ دِمَاغِي. لَسْتُ لِطُوبِ الْمَحَاكِمِ أَقْوَاسَ نَصْرٍ.

 ارْحَمِينِي أَيَّتُهَا النَّظَّارَاتُ الطِّبِّيةُ عَلَى عُيُونِ الْقَشْعَرِيرَةِ. أَكْوَامُ النِّفَايَاتِ فِي مَوْعِدِ وِلادَةِ أَثِينَا عَلَى سَرِيرِ الْعَارِ الْمَوْلُودِ مِنْ أَحْجَارِ الْمَدْفَنِ. وَرَقُ غَارٍ مُشَقَّقٌ فِي دُخَانِ السَّجَائِرِ الْمُلْقَاةِ عَلَى الْبَلاطِ بَعْدَ انْتِحَارِ فَتَيَاتِ مُونتِرْيَالَ.

 جِسْمِي وَأَيْنَ جِسْمُ الأَرْضِ؟. فَلْيَحْيَا الْوَطَنُ الْمَعْزُولُ عَنْ أَشْجَارِ الْبُوظَةِ الْبِتْرُولِيَّةِ. أَنْتَفِضُ رَصَاصَةً تَنْتَفِضِينَ مُسَدَّسَاً. خَاصِرَتِي لِلضَّوْءِ مَلاحِمُ. أُقَارِنُ بَلُّوطَ الزِّنْكِ بِالثَّكَنَاتِ الْعَسْكَرِيَّةِ فِي سُرَّتِي. بَشَرٌ يَسْتَحِمُّونَ بِالْهَزِيمَةِ فِي هِضَابِ الْحِبْرِ. كَأَنَّ رَصِيفَاً يَبِيعُ أَعْضَاءَ امْرَأَتِهِ قَارِبَاً قَارِبَاً لِيُسَدِّدَ دُيُونَهُ الْمُسَجَّلَةَ عَلَى جُذُورِ الصَّنَوْبَرِ. قِرَاءَةٌ سَرِيعَةٌ فِي مَلامِحِ الْمَوْتَى. مُلُوكٌ لُصُوصٌ وَشُعَرَاءُ فَاشِلُونَ وَنِسَاءٌ تَافِهَاتٌ. عِنْدَمَا تَصِيرُ الْبُحَيْرَةُ مُهَنْدِسَةً مِعْمَارِيَّةً فَلْتُسَاعِدْنِي فِي حَفْرِ عَوَاطِفِ الصُّبْحِ بِالإِزْمِيلِ. دَمِّرُونِي يَا إِخْوَتِي بِكُلِّ إِخْلاصٍ ثُمَّ اذْهَبُوا مَعَ عَائِلاتِكُمْ إِلَى التَّسَوُّقِ.

 مَضَى الْجُنْدُ نَحْوَ ثَلْجِ الظِّلالِ. وَالْغَرْقَى يَتَصَايَحُونَ مِثْلَ أَطْفَالِهِمْ حَوْلَ الْمَوَاقِدِ فِي عَتْمَةِ السُّعَالِ عِنْدَ مَنْبَعِ زُرْقَةِ الْوُجُوهِ. لَمْ يَأْتِ الْبَرِيدُ يَا حَجَرَ النَّرْدِ الْوَاقِفَ فِي أَبْرَاجِ الْمُرَاقَبَةِ الْمُطِلَّةِ عَلَى شَوَاهِدِ قُبُورِ الإِفْرَنْجِ. طَالَ انْتِظَارُ زَوْجَاتِ الطَّيَّارِينَ الرَّاكِضِينَ إِلَى رِمال البحر. أَتَى الدَّمَارُ مَالَ وَجْهُ الْمَغِيبِ عَلَى زَوَاجِ الْمَدَافِعِ. بَيْنَهُمْ تِذْكَارَاتٌ لِلْمَسَاءِ الطَّرِيِّ دَمْعَاً. مَاتَ النَّهَارُ فِي بُطُونِ الْحَوَامِلِ. وَضَابِطُ اللاسِلْكِي يُرْسِلُ إِشَارَاتِ دَمِهِ لَكِنَّ أَحَدَاً لا يُجِيبُ. أَمْوَاسُ الْحِلاقَةِ الْمُسْتَعْمَلَةُ تُدَرِّسُ الأَلْمَانِيَّةَ لِلْمُوسِيقِيِّينَ الْعَائِدِينَ مِنْ مِحْبَرَةِ شَنْقِ طَوَاحِينِ الْهَوَاءِ. وَمُوسِيقَى الْجَازِ تُرَتِّبُ سَرِيرَاً لِعَشِيقَةِ هِتْلَرَ عَلَى أَعْمِدَةِ الْكَهْرَبَاءِ فِي الْمُحِيطَاتِ وَتَلَوُّثِ شَعِيرِ أَبْرَاجِ الْمُرَاقَبَةِ فِي الْمُعْتَقَلاتِ. وَالصُّبْحُ يُغَطِّي أَرْضِيَّةَ مَلاعِبِ الْبِيسبُولِ بِشَعْرِ حَفِيدَاتِهِ الأَسِيرَاتِ وَالتِّبْنِ الْمَسْمُومِ. وَتَمَدَّدَتِ الْوِدْيَانُ عَلَى مَقْعَدِي فِي مَحَطَّةِ الْقِطَارَاتِ الْخَرْسَاءِ. أَنَّا كَارنِينَا تَخُونُ رَائِحَةَ ظِلِّهَا وَتَذُوبُ فِي حَدِيدِ السِّكَّةِ الأَبْلَهِ. كَأَنَّ الْحَطَبَ سَحَالِي تَنْقُلُ عَلَى رُمُوشِهَا كُلَّ سِلالِ الْقَمْحِ الْمَعْدَنِيِّ. وَالْقَمَرُ يَشْرَحُ لِبَنَاتِهِ قَوَانِينَ نُيوتِنَ. " أَنَا " لا يُشْبِهُنِي وَمُسْتَقْبَلِي وَرَائِي. فَعُدْ إِلَيَّ يَا أَنَا وَلا تَفْرُشِ الْعَقِيقَ السَّامَّ عَلَى حُرُوفِ الْمِدْخَنَةِ فِي أَرْيَافِ النَّزِيفِ.

 أَيُّهَا الْمَوْتَى الْمُكَدَّسُونَ قَطِيعَ جَلِيدٍ فِي عَرَبَاتِ الْقِطَارِ الْخَلْفِيَّةِ. إِنَّ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ يُخَزِّنُونَ مُذَكَّرَاتِ الْخَرِيفِ الأُرْجُوَانِيِّ فِي سَائِلِ الْقَشِّ الْمَائِيِّ. وَكَّلَتْنِي النَّبَاتَاتُ كَيْ أَبْكِيَ عَنْهَا فَاخْتَبَأْتُ فِي ذَرَّةِ مِلْحٍ تَتَزَوَّجُ رَغِيفَ خُبْزٍ فِي أَوْدَاجِ الدِّينَامِيتِ الأَصْلِيِّ. وَمَا زَالَ الأَطْفَالُ يَلْعَبُونَ بِالرَّشَّاشَاتِ عِنْدَ أَضْرِحَةِ آبَائِهِمِ الْمُوحِشَةِ، وَيَتَدَرَّبُونَ عَلَى دَفْنِ الْجُنُودِ فِي الْعُطْلَةِ الصَّيْفِيَّةِ.

 

قَصِيدَةٌ أعْظَمُ مِنْ دَمِي اسْمُها غوانتانامو

 الْجَسَدُ _ يَا بَارُودَ الْحَدِيقَةِ _ تُفَّاحَةٌ لِلْقُضْبَانِ. كَأَنَّنِي الشُّهَدَاءُ يُسَجِّلُونَ رَائِحَةَ الأَدْغَالِ وَأَحْجَارَ الْفَرَاشَةِ فِي دَفْتَرِ مُلاحَظَاتِ النِّسْرِينِ. غُرْفَةُ التَّحْقِيقِ الْوَجْهُ خَمِيرَةٌ. اشْرَبْنِي أَيُّهَا الدَّمُ الرِّيفِيُّ وَامْشِ عَلَى شَفَرَاتِ النَّسِيمِ. لا ذَبْحَتِي الصَّدْرِيَّةُ خَلِيجُ الْخَنَازِيرِ وَلا جَوْرَبِي حَضَارَةُ الْمُومِسَاتِ الدِّيمُقْرَاطِيَّةُ.

 وَحَضَنْتُ أَجْسَادَ أَئِمَّةِ قُرَيْشٍ الثَّائِرِينَ. وَلَمْ أَجِدْ جَبِينَ أَبِي كَيْ أَمُوتَ فِيهِ. ادْخُلْ يَا أَذَانَ الْفَجْرِ إِلَى خَلايَا نُخَاعِي الشَّوْكِيِّ. رُفَاتِي، إِنَّكَ الشَّاهِدُ عَلَى مَوْتِ فُهُودِ عُيُونِي فَلا تَخْدَعْنِي مِثْلَمَا خَدَعُونِي. تَمَارَا تُوَافِقُ عَلَى خُطُوبَتِنَا بَيْنَمَا كُنْتُ أُسَاقُ إِلَى خَشَبَةِ الإِعْدَامِ. الذِّكْرَيَاتُ آخِرُ أَسْلِحَةِ الْعَصَافِيرِ. يَنْبُعُ أُكْسُجِينُ دَمِي مِنْ جَبَلِ أُحُد، وَيَصُبُّ فِي عِظَامِ الأَطْلَسِيِّ.

 حَامِلاً نِعَالَ الأَنْبِيَاءِ عَلَى رَأْسِي. أَيْنَ رَعْشَتِي الَّتِي تَلُفُّ نَيَازِكَ الأَنْهَارِ؟. تَشْهَدَ الْبُحُورُ فِي مَحْكَمَةِ الصَّرَاصِيرِ وَيَرْجِعَ الْمَاسُ كَرْبُونَاً فِي صَخْرَاتِ الْمَغِيبِ. وَتُؤَلِّفُ بَغَايَا شِيكَاغُو إِنْجِيلاً دَمَوِيَّاً جَدِيدَاً. وَجْهِي الْمُؤَقَّتُ عَلَى لائِحَةِ الْمَقْتُولِينَ. جِسْمِي الْمُمَلَّحُ عَلَى شَوْكِ الضَّحِكِ. فُكَّ شِيفرَةَ سُكُوتِي سَاوِمْ ظِلالِي فِي أَوْجِ الرَّغْبَةِ لأَنِّي أَصْرُخُ فِي خَلايَا طَيَرَانِ الْوَادِي بِاتِّجَاهِ صَدْرِي الغِرْبَالِ فَأَشُمُّ صُرَاخَ أُمَّهَاتٍ غَرِيبَاتٍ. وَرَكَضْتُ نَحْوَكِ يَا رِئَتِي أَسْأَلُ عَنْ أُمِّي وَبَكَتْ خَالَةُ الْفَرَاشَةِ الْمُتَعَفِّنَةِ عَلَى الأَرَاجِيحِ فَرَأَيْتُ جُثْمَانَ حَدِيقَتِنَا فِي عُيُونِ الرِّيحِ. وَقَرَأْتُ اسْمِي عَلَى شَوَاهِدِ الْقُبُورِ. وَامْتَلأَ بَيْتُنَا بِالنِّسَاءِ الْبَاكِيَاتِ اللوَاتِي تَرَكْنَ الطَّعَامَ عَلَى النَّارِ وَالأَطْفَالَ الصَّاخِبِينَ وَالأَقْفَاصَ الرَّخِيصَةَ لِلنُّسُورِ. وَانْكَسَرَتْ قُلُوبٌ وَقُيُودٌ وَأَبَارِيقُ فَخَّارٍ فِي زَوَايَا مَرَضِي الْقَدِيمِ وَغُرْفَتِي الْمَهْجُورَةِ. وَلَمَحْتُ فِي ذِهْنِ الليَالِي الْقَتِيلاتِ سَدُومَ تَسْرِقُ ثِيَابَ الْقَتْلَى وَتَبِيعُهَا لِلْعَارِ.

 سَيَزُورُ الْعَقِيقُ لَوْنَ الْبِنْزِينِ الْمَرِيضِ فِي مَنَامِ سَيَّارَاتِ نَقْلِ الْمَوْتَى الْجَدِيدَةِ. وَبَنَاتُ حَيِّنَا الْمَيِّتَاتُ وَرَاءَ سَتَائِرِ الْخَيَالِ. حَاوَلْتُ إِنْقَاذَ رُمْحِي الْمَنْصُوبِ فِي جُرْحِي لَكِنَّ الْبَرْقَ أَقْرَبُ إِلَى حُلْمِي مِنَ الصَّحْرَاءِ. وَبَكَيْتُ نِيَابَةً عَنِ السُّكَّرِ فِي دُمُوعِي حَتَّى قَرِفَ الْبُكَاءُ مِنِّي. كُلَّ ثَانِيَةٍ أَنْتَحِرُ وَأَنْتَحِرُ. إِنَّ الرَّصَاصَةَ الَّتِي رَسَمَتْ ضِحْكَتَهَا فِي قَلْبِي هِيَ وَمْضَةٌ أَوْ قِطْعَةُ ثَلْجٍ فِي كَأْسِ عَصِيرٍ عَلَى قَبْرِ ذُبَابَةٍ مَشَى الْجُنُودُ فِي جَنَازَتِهَا. تَصِيرُ القُبورُ أرقاماً خَارِجَ ذَاكرةِ عُلماء الرِّياضيات.

 إِنَّ لِلصَّخْرِ دِمَاءً نِسَائِيَّةً تَتَنَفَّسُ فِي حُفَرِ الْمَجَارِي. فِي كَفِّ الْمَاءِ الْيُمْنَى اسْتِعْرَاضٌ عَسْكَرِيٌّ لِلْوَحْلِ. وَفِي الْيُسْرَى شَعْرُ تِينَةٍ أَسِيرَةٍ. وَالْغُرَبَاءُ دَفَنُوا مَمْلَكَتِي فِي رِمَالِ الْوَهْمِ. عَانَقْتُ مَوْتِي عِنْدَ مَوْتِي قُرْبَ مَوْتِي فِي سُفُوحِ الْمَطَرِ الْمُعَلَّبَةِ. أَتَعَرَّى أَمَامَ مِغْسَلَةِ الْحُزْنِ كَمَا يَتَعَرَّى لَوْنُ الْفِطْرِ السَّامِّ فِي قَشْعَرِيرَةِ الْحِبْرِ. جُرْحُكَ الْكريستَالِيُّ دَمِي الْمُلَوَّثُ زِنْزَانَةٌ تَحِيضُ. وَفَرِحَ الزَّبَرْجَدُ لأَنَّ النَّبَاتَاتِ مَشَتْ فِي جَنَازَتِهِ. الذِّكْرَى شَظِيَّاتٌ أَمْ أَضْرِحَةُ الْقَلْبِ عَصَافِيرُ؟. حُقُولُ الرَّعْشَةِ فَجَّرَتْنِي أَوْدِيَةً فَلَمْلَمْتُ أَشْلائِي فِي كِيسٍ حَجَرِيٍّ. عَلَّقْنَا نِسَاءَنَا بَرَاوِيزَ ذُبَابٍ عَلَى لَوْحَاتِ أَرْقَامِ السَّيَّارَاتِ فِي الْجَمَارِكِ وَلَمْ نَكْتَشِفِ الْمَرْأَةَ الضَّوْءَ.

 بَجَعَةٌ تَرْتَدِي وَاقِيَاً ضِدَّ الرَّصَاصِ. وَالْبَرْقُ يَقْطِفُ وَرَقَ التُّوتِ بِيَدَيْهِ الْجَرِيحَتَيْنِ. لَمْ تَتَذَكَّرْ مُرَاهِقَاتُ مَرْسِيليَا وُجُوهَ الْمُلُوكِ الَّذِينَ يُبَدِّلُونَ عَشِيقَاتِهِمْ كَالْجَوَارِبِ الْمُرِيحَةِ. نُغَيِّرُ أَقْنِعَتَنَا لِنَصِيرَ قِمَاشَاً رَخِيصَاً لأَعْلامٍ مُتَعَفِّنَةٍ يُلَوِّحُ بِهَا مُقَامِرُو الْوِحْدَةِ الْوَطَنِيَّةِ. وَتَنْتَشِرُ التَّوَابِيتُ الْبَطِيئَةُ فِي الأَغَانِي السَّرِيعَةِ.

 عِنْدَ مَلاقِطِ الْغَسِيلِ عَلَى نَزْفٍ تَمَسُّهُ بِنْتٌ إِيطَالِيَّةٌ تَنْتَحِرُ فِي ضِحْكَاتِ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ. قَدْ أُرَبِّي أَحْفَادَ الْخَشَبِ بَعْدَ احْتِرَاقِهِ فِي قُلُوبِ الثَّلْجِ الأَزْرَقِ. وَلَمْ يَكُنْ تَفْكِيرُ الْبَابُونجِ فِي أَشْكَالِ ذَبْحِهِ سِوَى إِصَابَةِ الصَّقِيعِ بِالشَّلَلِ النِّصْفِيِّ عَلَى قَرْمِيدِ الْمَنَافِي وَكَرَاسِي الْمَجَرَّاتِ. وَالْبُرْتُقَالُ الأَخْضَرُ سَيَرْمِي قِصَصَ حُبِّنَا الْفَاشِلَةَ فِي أَفْوَاهِ الْغَسَقِ أَوْ أَسْنَانِ الإِعْصَارِ. وَتَمْضِي حَوَاجِبُنَا تَحْمِلُ الْبَنَادِقَ فِي طَرِيقِ الْمُذَنَّبَاتِ.

 كُلَّ لَيْلَةٍ تَغْسِلُ حَيْفَا _ جَارَةُ الأُكْسُجِينِ فِي رِئَتِي _ خُصْلاتِ شَعْرِهَا فِي دِمَائِي الْيَابِسَةِ. سَيُزَوِّرُ الأَغْرَابُ جَبْهَةً رَاكِضَةً لِلرَّمْلِ وَرْدَةَ الْجِبَالِ الْوَحِيدَةِ صَدَاقَاتِ النَّخِيلِ بُرْتُقَالَتَيْنِ عَلَى طَاوِلَةِ الأَحْلامِ الْعَابِرَةِ. كَأَنَّنِي ظَهِيرَةٌ مَا فِي يَوْمٍ مَاطِرٍ. وَالْمَزَارِيبُ تَتَشَظَّى فِي سَاعَةِ يَدِ الْحَصَى. وَالْغُصُونُ مَا زَالَتْ تَحْلُمُ بِالْمُحَارِبِينَ الْقُدَامَى.

 إِنَّ جِذْعَ الليْلَكِ يُقَاتِلُ غُبَارَ الأُمْسِيَاتِ. رَفِيقَتِي الذِّكْرَى الَّتِي تَجْمَعُ صَدَفَ الْحَنِينِ عَلَى سَوَاحِلِ الْغَضَبِ الْبَنَفْسَجِيِّ. إِنَّكِ الشُّرْطِيَّةُ الْوَاقِفَةُ عَلَى نَافِذَةِ قَلْبِي فَمَتَى سَتَسْمَحِينَ لِلْبَحَّارَةِ أَنْ يَزُورُونِي؟. وِلادَةٌ قَيْصَرِيَّةٌ لِكَلامٍ سَيَمُوتُ لأَطْفَالٍ يَنْهَضُونَ مِنْ أَنَابِيبِ خَزَّانَاتِ الْمِيَاهِ فِي مَزَارِعِ الثَّوْرَةِ وَأَسْفَارِ الْقِتَالِ.

 تَعَالَ إِلَيَّ أَيُّهَا النِّسْيَانُ الزُّمُرُّدِيُّ لأَنْسَى أَكْوَامَ الْوَسْوَاسِ الْقَهْرِيِّ فِي خَلايَايَ، وَمِكْيَاجَ الْقَاضِيَةِ الْعَارِيَةِ فِي مَحَاكِمِنَا الْعَسْكَرِيَّةِ، وَبَلُّوطَ الْمَقَابِرِ الصَّاعِدَ مِنْ رِقَابِ الأَسْرَى، وَذُهُولَ إِنَاثِ الْكِلابِ فِي دَوْلَتِنَا الْبُولِيسِيَّةِ. لُصُوصُ بِلادِي أَثَاثُ الْقُبُورِ الْمُرُّ إِنَّهُ الطُّوفَانُ. كُلَّمَا أَمْسَكْتُ صَوْتَ الْمَاءِ تَفَجَّرَ الصَّدَى الْمُتْعَبُ. شُكْرَاً لِلأَمْوَاتِ الَّذِينَ يُضَيِّعُونَ وَقْتَهُمْ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ النِّسَاءِ وَالأَحْذِيَةِ. مِكْيَاجُ التَّوَتُّرِ كَأَنَّهُ الرَّقْصَةُ الْقَاتِلَةُ عَلَى حَافَّةِ مِغْنَاطِيسِ الْحُلْمِ. كُوخٌ يَقْضِي وَقْتَ فَرَاغِهِ فِي زِيَارَةِ الْخَفَافِيشِ عَلَى مُدَرَّجَاتِ الْغِيَابِ بَكَارَةِ الدَّمْعَةِ الْخَرِيرِ الْعَاصِفِ.

 الآنَ أُسَلِّطُ عَلَى غَضَارِيفِ أَثَاثِ الْجُرْحِ أَشِعَّةَ الْحُبِّ كَيْ أَحْرِقَ الليزَرَ فِي الصَّهِيلِ. لِلضَّوْءِ ضَوْءٌ لا يَعْرِفُ أَبَاهُ. تَسْأَلُنِي الْقَاعَاتُ الْخَالِيَةُ. وَتَسْأَلُ بَرْقُوقَ الْمَغَارَاتِ حَاوِيَةُ الْقُمَامَةِ عَنْ أَرْقَامِ الْقُبُّرَاتِ السَّجِينَةِ. هَلْ سَيَرْقُصُ الْحِصَانُ فِي صُنْدُوقِ بَرِيدٍ فَارِغٍ أَمْ سَيَصْطَادُ الْغُزَاةُ حَرَكَاتِ رَاقِصَاتِ الْبَالِيه عَلَى دَرَجٍ نَظَّفَهُ رَمَادُ الْجُثَثِ الْمُحْتَرِقَةِ؟. الْعِطْرُ يَتَرَنَّحُ عَلَى بَيْضَةِ بُحَيْرَةٍ لَكِنَّ الْوَرْدَةَ تُرَوِّضُ نَعَّامَةً لا تُرَوِّضُهَا بَسَاطِيرُ الشُّرْطِيَّاتِ فِي أَدْغَالِ الشَّهْوَةِ.

 كُلُّ شَيْءٍ يَتَغَيَّرُ فِي هَذَا الْجُنُونِ: أَلْوَانُ رَبْطَاتِ الْعُنُقِ لِلْقَوَّادِينَ فِي مُسْتَوْدَعَاتِ الْمِينَاءِ. عَنَاوِينُ بَائِعَاتِ الْهَوَى فِي أَكْيَاسِ الشَّايِ. أَنْوَاعُ الآلاتِ الْحَاسِبَةِ لِلْمُرَابِينَ. لَوْنُ قَزَحِيَّاتِ الْعَبِيدِ وَهُمْ يَتَسَلَّقُونَ أَعْضَاءَ نِسَائِهِمْ كَيْ يَصِلُوا إِلَى الْوِزَارَاتِ فِي مَمْلَكَةِ الضَّفَادِعِ. انْتِمَاءُ النَّرْجِسِ إِلَى مِيَاهِ الرَّعْدِ النَّيْئَةِ. تَنُّورَةُ سكرتِيرَةِ الطَّبِيبِ النَّفْسِيِّ. مُضَادَّاتُ الاكْتِئَابِ عَلَى مَقَاعِدِ الْكَنِيسَةِ. مُزِيلُ الْعَرَقِ لِلاعِبَاتِ التِّنِسِ الأَرْضِيِّ. أَوْقَاتُ انْتِحَارِ مَارِي أَنطوَانِيت فِي آبَارِ الرَّقْصِ. لَوْنُ قُبَّعَاتِ الْبَنَاتِ فِي جَامِعَةِ كَامبرِدج حَيْثُ يُلْقِي نُيوتِنُ آخِرَ مُحَاضَرَاتِهِ.

 

دُسْتُورُ الدَّوْلَةِ الْبُولِيسِيَّةِ

 سَتَفْرَحُ أُمَّهَاتُ الإِسْفَلْتِ فِي جِنِيفَ لَوْ كَانَتْ تَنَانِيرُ بَنَاتِهِنَّ أَقْصَرَ مِنْ دُسْتُورِ دَوْلَةِ السِّنْجَابِ الْبُولِيسِيَّةِ. الْبَسْكَوِيتُ الْمُمَلَّحُ وَرَقْمُ الرَّصِيفِ مَجْهُولٌ. يَا جَنَازِيرَ الْبُرْتُقَالِ الْمَارَّةَ عَلَى شُجَيْرَاتِ الْجَسَدِ، إِنَّ فِي أَوْرِدَتِي زَمَنَاً يَلِدُ أَمْكِنَتِي تِلْكَ الْوَجْنَةَ الْمُمَزَّقَةَ. كَأَنَّ شَكْلَ رُمْحِي وَطَنٌ ثَانٍ لانْتِحَارَاتِي. لا شَيْءَ حَوْلَ نَزِيفِي لَكِنَّ الشَّوَارِعَ تَغُوصُ فِي كُلِّ ثِيَابِ أَنَاشِيدِ الْقَتِيلِ. سَتَبْسُطُ أَشْلاءُ الْبِئْرِ سِجَّادَاً لِضُيُوفِهَا بَعْدَ قَلِيلٍ. مَا نَفْعُ اصْطِيَادِ بَيْضِ النُّسُورِ إِذَا كَانَتْ يَدَاكَ ذُبَابَتَيْنِ مَشْنُوقَتَيْنِ عَلَى صَفِيحِ الْعُشْبِ؟.

 قَدْ تَكُونُ مَذْبَحَتِي إِلَى جَانِبِ صَالَةِ سِينَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا الْعُشَّاقُ وَأُمَرَاءُ الْحَرْبِ وَالْمُرَابُونَ ثُمَّ يَتَفَرَّجُونَ عَلَى شَهِيقِي النِّهَائِيِّ مَجَّانَاً. الْقَصْرُ الرَّمْلِيُّ مَكَبُّ نِفَايَاتٍ حَيْثُ يُحْتَضَرُ شَهْرَيَارُ، وَتَتَقَاتَلُ عَشَائِرُ الرَّمَدِ عَلَى اكْتِئَابِ شَهْرَزَادَ. قُلْ إِنَّكَ لِلْجَلِيدِ ضَوْءُ الأَزْرَارِ فِي مِعْطَفِ الْفَجْرِ وَلا تَرْجِعْ إِلَى أُقْحُوَانِ الرَّغْبَةِ فِي بُكَاءِ الْمُشَيِّعِينَ، حَيْثُ تَخْتَفِي مَخَالِبُ الْهَضَبَةِ قُرْبَ مَرَاحِيضِ السُّجُونِ. قُلْ إِنَّكَ صُورَةُ السُّحُبِ وَلا تَكْذِبْ عَلَى أَثَاثِ الدَّارِ لأَنَّ أَبَوَيْكَ نَائِمَانِ عَلَى خَاصِرَةِ يَمَامَةٍ تَنْتَحِبُ

وَهُمَا يُعَلِّقَانِ صُوَرَ ابْنِهِمَا الْمَفْقُودِ عَلَى شُبَّاكِ التَّذَاكِرِ فِي مُجَمَّعِ الْحَافِلاتِ الَّتِي تَشْرَبُ شَايَاً أَخْضَرَ فِي فَتْرَةِ اسْتِرَاحَةِ الإِمْبرَاطُورَةِ بَعْدَ الْجِمَاعِ وَقَيْلُولَةِ الْمُخْبِرِينَ بَعْدَ كِتَابَةِ التَّقَارِيرِ بِالشَّمْعِ الأَحْمَرِ. أَتَذَكَّرُ وَجْهَكَ الْمُفَتَّتَ عَلَى وَرَقِ التُّوتِ الصَّاعِدِ مِنْ مَلَفَّاتِ الدَّوَائِرِ الْحُكُومِيَّةِ. أَعْرِفُ أَنَّكَ تَبْحَثُ عَنْ شَهَادَةِ حُسْنِ سُلُوكٍ مِنْ دَائِرَةِ الْمُخَابَرَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي جَنُوبِ نَعْشِكَ لِتَصِيرَ حَشَرَةً تُخْفِي لَوْنَ بَوْلِهَا عَنْ أَعْيُنِ الْبُولِيسِ السِّيَاسِيِّ مِثْلَ كُلِّ الذُّبَابِ الأَخْرَسِ عِنْدَ أَعْمِدَةِ الْجِيرِ تَعِيشُ وَتَمُوتُ وَتَتَزَوَّجُ رُعْبَ الْحِيطَانِ وَرَجْفَةَ السَّتَائِرِ الْمُخْمَلِيَّةِ، وَسَتَفْخَرُ بِكَ طَاوِلاتُ الْمَطْعَمِ فِي غُرْفَةِ الْعِنَايَةِ الْمُرَكَّزَةِ، وَتَنْتَظِرُكَ الْمُسَافِرَاتُ إِلَى الانْتِحَارِ الْحُكُومِيِّ، فَلا تَسْأَلْ لِمَاذَا تُهَاجِرُ السَّنَاجِبُ مِنْ خَدِّي؟.

 إِنَّ سَرَطَانَ الْبُروسْتَاتَا يَنْخُرُ بُرْتُقَالَ حَدِيقَتِنَا فَلْتَكُنْ اسْمَ الْفَرَاشَةِ فَوْقَ الْبُخَارِ الْمُلَوَّنِ وَالْقَتْلِ الرُّوتِينِيِّ وَالْمَحَارِ الدَّامِعِ وَالْحُزْنِ الْمَسْقُوفِ لأَنَّ رَائِحَةَ الْمُلُوخِيَّةِ فِي رِيشِ غَيْمَةٍ غَارِقَةٍ، حَيْثُ تُفَصِّلُ هَضَبَةُ الْحِبْرِ ثَوْبَ عُرْسِهَا مِنْ أَقْمِشَةِ الْجُلُودِ الآدَمِيَّةِ وَتُفَّاحَاتِ الْفَجْرِ. وَالْحَطَبُ يَقْضِي وَقْتَهُ فِي تَفْكِيكِ عُقَدِ الشَّلالِ النَّفْسِيَّةِ. دَاسَتْ رَمْلَ الْمُحِيطِ وَأَوْرَاقَ الْقَاتِ عَرَبَةُ قَوْسِ قُزَحَ.

 تَصْلُبُنِي بُرُوقُ الْكَلامِ فَتَمُرُّ مِنْ ثُقُوبِ قَلْبِي الْمَجَازِرُ وَأَسْرَابُ الرِّمَالِ الْمُهَاجِرَةِ. صَارَتْ رَائِحَةُ الْقَهْوَةِ الْعَابِقَةِ بِالدِّمَاءِ تَقْفِزُ فَوْقَ تَوَابِيتِ الْمُسَافِرَاتِ إِلَى الْعُمُرِ. هَذَا شَكْلِي رُفَاتُ بُحُورٍ وَجُغْرَافيَةُ قَصِيدَةٍ مَاحِيَةٍ. لَحْمِي زَمَنٌ فَلْتَعْتَرِفْ أَنَّكَ جُرْحِي الْهَائِجُ لأَسْقِيَ حَشَائِشَ الْمَدْفَنِ وَأَقْتَرِبَ أَكْثَرَ مِنْ مَمَاتِي. مَذَاقُ السَّبَانِخِ فِي آخِرِ عَشَاءٍ تَنَاوَلَهُ مَشْنُوقٌ.

 كَانَتْ فِي أَوْدَاجِي فَتَاتَانِ مِنْ سَمَرْقَنْدَ تَنْتَظِرَانِ أَبَاهُمَا الْمَحْكُومَ بِالثَّلْجِ وَالانْتِظَارِ، وَطِفْلَةٌ تَقْطِفُ الْغِيَابَ مِنْ سُقُوفِ الْمَسَاءِ. وَفِي مِينَاءِ الْغُرُوبِ تُدَخِّنُ الصَّحْرَاءُ سَرَابَهَا وَتَبْقَى أَعْقَابُ السَّجَائِرِ فِي مِنْقَارِ مَوْجَةٍ. كُلُّ الْمِكْيَاجِ الْمُتَسَاقِطِ مِنَ السُّومَرِيَّاتِ عَلَى دَرَجِ الْمَعْبَدِ وَأَرْضِيَّةِ تَوَارِيخِ التَّبْغِ أَجْمَعُهُ لأُغَطِّيَ بِهِ هَزِيمةَ الْبَيْلَسَانِ فِي حَرْبِ اللوْزِ.

 مَا فَائِدَةُ أَنْ تَتَزَيَّنَ الْمَرْأَةُ لِزَوْجٍ أَعْمَى؟. مَا فَائِدَةُ أَنْ تَبْتَسِمَ الْمَرْأَةُ لِزَوْجٍ تَخُونُهُ؟. تَصَرُّفَاتُ الدُّخَانِ الصِّبْيَانِيَّةُ فَوْقَ غُصُونِ الصَّبَاحِ كَمَا تَنْمُو صُخُورُ الشَّمْسِ عَلَى جُذُورِ الْحُلْمِ. خُذْ مَا تَبَقَّى مِنْ أَمْسِ الْيَمَامَةِ وَاتْرُكْ لِي أَكْفَانَ جَدِّي فِي زُرْقَةِ الْغَمَامِ، وَسِيَاطَ الدَّرَكِ خَلْفَ سُورِ الرَّعْشَةِ. حَشَائِشُ مَذْبَحَتِي أَصْدَافُ مَلْحَمَةِ السِّنْجَابِ، وَجَبِينِي قَصِيدَةٌ نَسِيَ امْرُؤُ الْقَيْسِ أَنْ يَقُولَهَا، فَاتَّكَأَتْ مِنَصَّةُ الإِعْدَامِ عَلَى سَيْفٍ تَقْضُمُ حَوَافَّهُ قُبُّرَةٌ كِلْسِيَّةٌ تُسْلَخُ. هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ مِنَ الرُّخَامِ الْمُتَرَسِّبِ فِي ضَوْءِ الأَظَافِرِ فَرَاشَاتٍ لِلاسْتِهْلاكِ الْمَحَلِّيِّ.

 

الزَّمْهَرِيرُ

 احْضُنْ حُنْجرةَ الْبِئْرِ وَمَزِّقِ الْخَارِطَةَ الزُّجَاجِيَّةَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى مَوْقِعِ قَبْرِي. الْقَصِيدَةُ هِيَ مَا تَبَقَّى لِلْكَرَوَانِ بَعْدَ نَفْي رِيشِ الْحَجَرِ. قُولِي إِنَّكِ صُورَتِي خَارِجَ احْتِضَارِ السَّجَّانِ فِي مُكَبِّرَاتِ الصَّوْتِ. قُولِي إِنَّكِ أَيُّ حُلْمٍ سِوَى حُلْمِي. دَمْعَتِي تَحْمِلُهَا بَنَاتُ آوَى إِلَى الزَّمْهَرِيرِ. أَخَافُ يَا عُشْبَتِي الْمُفَتَّتَةَ أَنْ يَأْتِيَ بَحْرُ الظِّلالِ إِلَى أَيَّامِ اسْمِي. أَخَافُ يَا أُمِّي أَنْ يَغْتَالَنِي يَوْمٌ يَصِيرُ فِيهِ جَلْدِي شُعْلَةَ الصَّقِيعِ. أَخْشَى الزَّمْهَرِيرَ لأَنَّ ذِكْرَيَاتِ الْعُصْفُورِ الْمُحْتَرِقَةَ فِي الْمَوْقَدَةِ لَنْ تَغْدُوَ حَطَبَاً لِلتِّلالِ النَّائِيَةِ. إِنَّنِي أُقِيمُ مَمْلَكَتِي عَلَى أَنْقَاضِي. كُلَّمَا اقْتَرَبْتُ مِنْ دَمِي ابْتَعَدْتُ عَنْ لَحْمِي. هَلْ تُصَدِّقِينَ مَا قَالَهُ الشِّتَاءُ بَيْنَمَا كُنْتُ أَغْفُو فِي عَرَبَةِ الْكُمَّثْرَى؟. لا جَوَابٌ وَالإِسْفَلْتُ يَفْتَحُ بَابَ الصُّرَاخِ.

 يَذْهَبُ الْجَسَدُ إِلَى خِنْجَرِهِ، لِمَاذَا؟. نَسْرَ الْجُوعِ، هَلْ سَتَأْكُلُنِي بَقَايَاكَ لَيْلَةَ الْعِيدِ عِنْدَ أُرْجُوحَةِ التُّوتِ؟. كَأَنَّ أَسْئِلَتِي صُدَاعُ الْمَسَافَاتِ فِي الأُمْسِيَاتِ. وَتَتَكَاثَرُ الْخَنَاجِرُ الْمَارَّةُ عَلَى وَجْهِ الْوَادِي. أَدْرِكْنِي أَيُّهَا الْمَوْجُ الْمُنْبَعِثُ مِنْ ثُقُوبِ سَقْفِ غُرْفَةِ التَّحْقِيقِ. إِنَّنِي أَفْتَرِشُ عَظْمِي وَأَلْتَحِفُ مِقْصَلَتِي. لا اسْمُ الْغُيُومِ سَيَحْمِي خُيُولِي، وَلا رَاتِبُ الْحَشَائِشِ سَيُغَطِّي أُجْرَةَ حَفَّارِ الْقُبُورِ. لِنَرْجِعْ إِلَى أَسْئِلَةِ الْحَمَامِ الْمُسْتَلْقِيَةِ عَلَى رُمْحٍ. كُنَّا لِلْقَشِّ صَوْتَاً حَجَرِيَّاً بِلا مَعْنَى بِلا صَوْتٍ يَدْفِنُنَا وَيَرْثِينَا. فَلْنَشْطُبِ الْمُلُوكَ مِنْ أَصْوَاتِنَا.

 قَالَ الليْلُ: «سَتَأْتِي إِسْطَبْلاتُ الْغُصْنِ مِنَ الْجَنُوبِ الْمُرْتَعِشِ». وَسَكَتَ الْحُضُورُ. صَفَّقْنَا كَثِيرَاً لِلْمُرْتَزَقَةِ النَّائِمِينَ فِي أَفْخَاذِنَا. كُلُّ وَطَنٍ شَكْلٌ آخَرُ لِلْمَنْفَى فَلْتَصْعَدْ أَحْصِنَةُ الْجَسَدِ مِنْ جِهَاتِي. إِنَّ حَيَاتِي تَطْلُعُ مِنْ مَمَاتِي. وَدَاعٌ رَسْمِيٌّ لِلْبَرْقُوقِ فِي مُعَسْكَرٍ يَنْثُرُنَا عَلَى أَعْمِدَةِ الْكَهْرَبَاءِ. تُفْطِرُ الْوِدْيَانُ الرَّمَادِيَّةُ مُبَكِّرَاً. أَمْشِي إِلَى الْمَسْجِدِ طَيْرَاً يَتَشَظَّى عِشْقَاً لِلأَذَانِ. الآنَ أَعُودُ إِلَى بَرِيقِ الزَّنْجَبِيلِ الْمَرْمِيِّ عَلَى سُطُوحِ الْبُنْدُقِيَّةِ. لَمْ تَلْمَعْ مَنَادِيلُ الْمَجَرَّةِ حِينَ تَمَزَّقَتْ أَحْلامُ عُقَابٍ خَانَتْهُ أَوْسِمَتُهُ. هَا نَحْنُ وَاقِفُونَ تَحْتَ عِبَارَاتِ الْمَطَرِ نَنْتَظِرُ مَجِيءَ قَوْسِ قُزَحَ لِيُعَرِّفَنَا عَلَى شَخْصِيَّةِ الدَّمِ. تَتَقَاسَمُنَا أَشْيَاءُ لا نَعْرِفُهَا فَتَهُبُّ مِنْ أَطْيَافِ الْقَلْبِ دَبَّابَةٌ تَرْكَبُهَا شَلالاتٌ لا هَمَّ لَهَا سِوَى صَعْقِنَا. نَسِينَا أَسْمَاءَ أُمَّهَاتِنَا لأَنَّنَا رَضَعْنَا حَلِيبَاً أَجْنَبِيَّاً، وَحَضَنَتْنَا التُّفَّاحَاتُ الْمُهَاجِرَةُ بِالْقُرْبِ مِنْ مِسَلاتِ الْحُزْنِ.

 الآنَ، يَبْدَأُ الْحُزْنُ يَنْتَهِي الْحُزْنُ. اذْهَبُوا إِلَى حَيْثُ شِئْتُمْ فِي قَلْبِي تَجِدُوا غَيْرِي. مَاذَا تَبَقَّى مِنَ الْبَزَّةِ الْعَسْكَرِيَّةِ الَّتِي يَرْتَدِيهَا الْعُشْبُ الصَّاعِقُ؟. مِحْبَرَةً أَضْحَتْ كُنْيَةُ الْغَرِيبِ. أَجَارَتَنَا، قَدِ اخْتَفَى لَوْنُ الْوَرْدِ فِي أَوْدَاجِ مَوْتَانَا. تَعَالَيْ نَتَعَرَّفْ عَلَى هُوِيَّةِ الضَّحَايَا فِي النَّيَازِكِ الذَّهَبِيَّةِ. عَابِرَانِ نَحْنُ، وَسِكَّةُ الْحَدِيدِ مَنْصُوبَةٌ عَلَى سُورِ مَقْبَرَةِ الْكَهْرَمَانِ. لا تَشْتَرِ أَحْطَابَ الْعَطَشِ الْمَخْنُوقَةَ مِنْ بَائِعَةِ اللازَوَرْدِ لأَنَّ ذَبْحِي دَلِيلٌ سِيَاحِيٌّ يُرْشِدُ الْبُحَيْرَاتِ إِلَى ضَوْءِ كَفَنِي. إِنْ تَحْضُنْ طَيْفَ الرَّوَابِي تَلْمَحْكَ مُسَدَّسَاتٌ.

 يَا نَهْرَاً يَحْفِرُ صَدْرِي وَيَا وَطَنَاً يُزْهِرُ قَتْلاً، إِلَى مَتَى سَأَظَلُّ فِي انْتِظَارِكَ؟. أَعْطِنِي قُيُودَ الصَّنَوْبَرِ لأَكْسِرَهَا زَنْبَقَاً وَأَرُشَّهَا عَلَى ثِيَابِ الأَطْفَالِ الْعَائِدِينَ إِلَى الْيُتْمِ. كِتَابُ الرِّيحِ مَفْتُوحٌ لِكُلِّ الأَشْلاءِ. إِذَنْ، زُرْنِي فِي مَلامِحِ احْتِضَارِي قَبْلَ أَنْ يَشْنُقُونِي عَلَى الْخَوْخِ الْمُتَأَلِّمِ وَلا تَتَوَقَّعْ حُضُورِي فِي رَعْشَةِ الْبَلاطِ. إِنَّ الصَّاعِقَةَ تَبْلَعُ رَحِيقِي وَتَبْصُقُنِي حِرَابَاً فَلا تَنْسَ اسْمَ قَلْبِي يَا صَدِيقِي. كُنْ أَكْثَرَ اتِّسَاعَاً مِنْ بَوَّابَةِ الْمَذْبَحِ الْبَشَرِيِّ. كُنْ أَنَا أَوْ أَنْتَ وَلا تَتَوَقَّعْ أَنْ أَبْكِيَ.

 عُمَّالُ النَّظَافَةِ عَادُوا إِلَى شَوْكٍ يَتَسَلَّقُ مَوْكِبَ الإِمبرَاطُورِ. هَذا الطَّرِيقُ مَوْجَةٌ تَأْكُلُهَا قَمْحَةٌ طَازَجَةٌ. مِنَ الْحِجَارَةِ الْقَدِيمةِ وَالزَّنْجَبِيلِ تَسِيلُ كُرَيَاتُ دَمِ الصَّابُونِ وَمَجَاعَةُ الأَزْهَارِ. اذْكُرْنِي أَيُّهَا الْوَشَقُ وَأَنْتَ تَمْتَصُّ خُضْرَةَ الْجِبَالِ فِي قَاعِ مَعِدَتِي. الْجِهَازُ الْهَضْمِيُّ لِلزُّقَاقِ لا يَتَذَكَّرُنِي. أَنَا الآتِي مِنْ لافِتَاتِ مَقْتَلِ الْهِضَابِ فَعَانِقْنِي يَا نَزْفِي وَلا تَفْرَحْ كَثِيرَاً. فَقَدْ تُغَادِرُ السَّنَابِلُ الْعَاشِقَةُ فِي أَيَّةِ لَحْظَةٍ. قَتِيلانِ عَلَى صَفِيحِ السَّفَرِ. أَعْرِفُ أَنَّ أَغَانِي الرُّعَاةِ لَيْسَتْ لِي لَكِنَّ الشُّجَيْرَاتِ الطَّالِعَةَ مِنْ غَضَارِيفِي أُغْنِيَةٌ لِلشُّرُوقِ.

 إِنَّكَ كُلُّ الشَّوَارِعِ الَّتِي تَحْمِلُ أَسْمَاءَ الشُّهَدَاءِ. نَعُودُ إِلَى عَوْدَةِ الرَّوَابِي الْمُسَافِرَةِ. الْغُرُوبُ يَصْبُغُ الْبَحْرَ بِأَلْوَانِ طُيُورٍ مَجْهُولَةٍ. هَذَا نَهْرُ الْكَلِمَاتِ الْوَاضِحَةِ يَصْهَرُنِي فِي ثِيَابِهِ. بِلادِي الرَّاكِضَةَ فِي الْجُوعِ وَيَوْمِيَّاتِ الْقَتْلَى الْمَنْقُوشَةِ عَلَى حَقَائِبِ الأَطْفَالِ الْمَدْرَسِيَّةِ. إِنَّ أَشْكَالَ الْمَوْتَى لا تَزَالُ تَحْتَلُّ صَدْرِي. كَمْ وَطَنٍ مَرَّ فِي مَنْفَايَ لِيُسْكِتَ فِي ضَوْضَاءِ الصَّقْرِ جَبِينَ مَجْزَرَتِي!.

 مَدْرَسَتِي تَمْشِي بَيْنَ أَشْجَارِ السِّنْدِيَانِ وَجُثَثِ الْبَحَّارَةِ الْمُنْهَكَةِ. أَيْنَ الدَّفَاتِرُ الذَّابِلَةُ بِسَبَبِ هُطُولِ الدَّمْعَاتِ؟. هُنَا مِثْلُ هُنَاكَ. جَرَسٌ فِي عُنُقِ قِطَّةٍ عَالِقَةٍ عَلَى شُرْفَةِ الْبَيْلَسَانِ. كَأَنَّنِي أَحُسُّ أَنْ بَعَلْبَكَ مِكْيَاجُ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ فِي صَحْرَاءِ نِيفَادَا. كَوْكَبُنَا يَنْتحرُ يَا أَلْقَابَ الصَّبَاحِ. يَذْكُرُنِي غَيْمٌ يَسْبَحُ فِي الْمَعْنَى. يَكُونُ جَسَدِي أَحَدَ أَسْمَاءِ الْقَمْحِ. أَلْفَاظِي ضِحْكَةُ الْمَطَرِ حِينَ يَتَمَزَّقُ الْقَرْمِيدُ عَلَى ثَكَنَاتِ الْمِلْحِ. شَظَايَايَ تَجْمَعُ الْمَحَارَ. يَحْلُمُ النَّهَارُ بِأَنْ يَتَعَرَّفَ إِلَى دِمَائِنَا لَكِنَّ صَائِدِي الْمُكَافَآتِ مَشْغُولُونَ بِبَيْعِ بَنَاتِهِمْ لِلنَّخَّاسِينَ. الضَّوْءُ يَرْتَكِزُ إِلَى مِنْكَبَيْهِ. لَيْتَنِي كُنْتُ مَوْجُودَاً عَلَى رُفُوفِ مَطْبَخِ رِئَتِي يَوْمَ تَزَوَّجَ الْكُلُورُ طَعْمَ الصُّوديُومِ فِي مِلْحِ الطَّعَامِ.

 لَسْتِ ذِكْرَيَاتِي أَيَّتُهَا الْيَمَامَةُ. أَنَا ذِكْرَيَاتِي فَانْثُرِي عَيْنَيْكِ فِي يَدِي لأَنَّ الانْطِفَاءَ لَنْ يُمَيِّزَ بَيْنَ سَجِينٍ وَسَجَّانِهِ بَيْنَ عُصْفُورٍ وَقَفَصِهِ بَيْنَ رَاقِصٍ وَرَقْصَتِهِ. سَاعَةُ الْحَائِطِ عَلَى سَنَامِ جَمَلٍ. مَكْتَبُ الْبَرِيدِ يَهْرُبُ مِنْ رَسَائِلِي. تَأْكُلُ سَيَّارَاتُ الأُجْرَةِ اسْمَهَا. مَطْعَمٌ لِلْعَائِلاتِ جُرْحٌ كُومِيدِيٌّ. تَقْفِزُ إِشَارَاتُ الْمُرُورِ عَلَى سَرِيرِي. خَمَّارَةٌ لِرِجَالِ الأَعْمَالِ فِي حُقُولِ الْغَازِ. لُصُوصُ النِّفْطِ حَائِرُونَ بَيْنَ نِسَائِهِمْ وَعَشِيقَاتِهِمْ. طَاوِلَةٌ عَلَى جِسْرِ الليْلَكِ تَضُمُّ طُلابَ مَدْرَسَةٍ ابْتِدَائِيَّةٍ يُخَطِّطُونَ لانْقِلابٍ عَسْكَرِيٍّ. مَا مَذَاقُ شَظَايَا الْغِيَابِ؟. كَأَنَّ رُوزنَامَةَ الْعَاجِ تَلْعَبُ بِعَوَاطِفِ الْفِيَلَةِ. يَضْحَكُ الْعُشْبُ افْتَرِسِينِي يَا نُجُومُ بِسُرْعَةٍ. هَذِي بِلادِي تَعُودُ زَيْتُونَاً. سَأَزُورُكِ يَا رَجْفَتِي الْحَامِضَةَ حِينَمَا تَنْسَكِبُ الْحُرُوبُ فِي قَارُورَةِ النَّدَمِ.

 أَتَوْا مِنْ حَيْثُ يَحْضُنُ الْمَغِيبُ خَشَبَاتِ الْحِبْرِ. لَمْ تَعُدْ أَنْفَاقُ الْجُرْحِ تُؤْلِمُ. وَسِرْنَا بِكُلِّ مَا فِينَا مِنْ مَنَاجِمِ عُشْبٍ. وَطَنِي نَسْرٌ أَضَاعَ عُشَّهُ. لَمْلِمِينِي يَا أَتْرِبَةَ الْوِدْيَانِ وَتَشَظَّى كَبِدُ الرِّيَاحِ.

 أُورشَلِيمُ تُعْدِمُ بَنَاتِهَا. حَتَّى الْقُيُودُ تَخُونُنَا. وَقَبَضْنَا عَلَى حِصَّةِ الدِّينَامِيتِ فِي أَجْسَادِنَا. مَرْسُومٌ إِمبرَاطُورِيٌّ يَقْضِي بِوَضْعِ السُّمِّ فِي طَعَامِ السَّجِينِ. نُنَقِّي صِيَاحَ الإسمنت مِنَ الْجِرْذَانِ الْحُكُومِيَّةِ.

 إِنَّكُمْ شَجَرِي الزُّمُرُّدِيُّ فَأَيْنَ الشَّوَارِعُ الَّتِي سَالَتْ مِنْ جُرُوحِي؟. أَيَّتُهَا الرَّاهِبَةُ الَّتِي تَقْمَعُ أُنُوثَتَهَا بِإِزْمِيلِ الرَّغْبَةِ. أَيَّتُهَا الْكَاهِنَةُ الَّتِي تَشْتَهِي الرِّجَالَ وَتَخَافُ أَنْ تَعْتَرِفَ بِأَنَّهَا امْرَأَةٌ.

 الأُكْذُوبَةُ مَحَاكِمُ التَّفْتِيشِ الْعَارُ. كَاردِينَالُ الْقَحْطِ زُعْرَانُ مِيتشِغَان لُصُوصُ النِّفْطِ وَالآثَارِ فِرْعَوْنُ. رَايَاتُ الْفِرِنْجَةِ تُحَاكِمُ أَحَدَ أَئِمَّةِ قُرَيْشٍ الثُّوَّارِ. الصُّحُفُ الْعُنْصُرِيَّةُ الْغَرْبِيَّةُ بِطَاقَةُ هُوِيَّةٍ فِي جَيْبِ إِبْلِيسَ. الطَّرِيقُ هُو الأَجْسَادُ الْمُخْتَلِطَةُ بِالزَّنْبَقِ الْمُذَابَةُ فِي بُرْتُقَالِ الْحَنِينِ. وَأَضَاءَ الْقَرْمِيدَ نَرْجِسٌ. قُبُّرَةٌ تَحْفِرُ فِي مَنْجَمِ جُرْحِي فَتَتَسَاقَطُ عَلَيْهَا شَرَايِينِي النَّاضِجَةُ. مَزْهَرِيَّةُ الْعَطْشَى خَلِيطٌ مِنَ الْعَبْقَرِيَّةِ وَالأَمْرَاضِ النَّفْسِيَّةِ. ذَكِّرْنِي أَيْنَ تَقَعُ مَذْبَحَتِي التَّاسِعَةُ. أَوْصَلْتُ الصَّقِيعَ إِلَى مَنْزِلِ جَدَّتِهِ وَمَا زَالَتِ الرُّعُودُ تُشَكِّكُ فِي وَطَنِيَّةِ الْبَنَفْسَجِ. غُرْبَتِي تُرْبَتِي أَسْقِيهَا بِمَاءِ الْحُبِّ.

 وَمَضَى الْمُسَافِرُونَ إِلَى سِحْنَتِي دُونَ وَدَاعٍ. مَا النَّهَارُ الْقَادِمُ فِي مَطَارَاتِ الشَّعِيرِ؟. حَقَائِبُ عَلَى الْبَلاطِ الَّذِي يَمُوجُ فِينَا. لُطْفَاً أَيَّتُهَا الأَرَامِلُ الْوَاقِفَاتُ عَلَى صَيْحَةِ سَيَّارَةِ التَّاكسِي، لا تَتْرُكْنَ النَّظَرَاتِ الْعَابِرَةَ عَلَى سُطُوحِ مَحَارَةِ الْمَسَاءِ. عُشْبَةُ الْحُلْمِ فَسَخَتْ خُطُوبَتَهَا فَانْكَسَرَ نُخَاعُ الشِّتَاءِ. وَاقِفَاتٌ تَحْتَ الْبَرْقِ صَاعِدَاتٌ إِلَى الشَّفَقِ غَيْرِ الْوَاضِحِ. وَطَنِي يَتَسَرَّبُ فِي خُيُوطِ مِعْطَفِي.

 يَا دَمَارُ، دَعْنِي أَسْأَلْكَ عَنْ عَنَاوِينِ الضَّحَايَا. أَنَا مُتَأَكِّدٌ أَنَّكَ لَمْ تُجَرِّبْ إِحْسَاسَ الْعِنَبِ بِفُقْدَانِ الْحَدِيقَةِ: رِفَاقِي أَوْ أَشْلائِي. انْتَظَرْتُكِ فِي أُمْسِيَاتِ الزَّعْفَرَانِ. كَانَتْ عَاصِمَةُ النَّارِ تَمُدُّ رِجْلَيْهَا عَلَى الْمِنْضَدَةِ. رُبَّمَا تَكُونُ هَذِهِ الأَرْضُ هَذِهِ الْخَوْخَةُ الْمُشْتَعِلَةُ آخِرَ الْقَصَائِدِ الَّتِي سَيَكْتُبُهَا الثَّلْجُ، آخِرَ مَا سَيَتَذَكَّرُهُ النِّسْيَانُ. اتْرُكْنِي أَتَمَرَّغْ فِي قُطْنِ الأَمْوَاجِ. سَقَطَتْ مَرَاوِحُ الْبُكَاءِ فِي تَثَاؤُبِ الْقَمَرِ. لا التُّوتُ الْمَشْنُوقُ يَشْوِي لِسَانَ النَّارِ وَلا النَّدَى يَحْلِبُ شَظَايَا الْجُنُونِ.

 سَيَّافٌ يُلَمْلِمُ قُرُوحَ رِقَابِ التِّلالِ وَيَحْضُنُهَا نَعَّامَاتٍ بَاكِيَاتٍ. تَلْجَأُ أَعْضَائِي إِلَى حُفْرَتِهَا النِّهَائِيَّةِ إِنَّمَا حَيَاتِي حُفَرٌ شُمُوسٌ مُهَاجِرَةٌ. وَكُلُّ كِتَابَاتِي تُسَوِّي حُفْرَتِي. كُلَّمَا أَمْسَكْتُ خَيَالَ الْبِطْرِيقِ فَرَّتْ مِنْ وَرِيدِي أُغْنِيَاتٌ. كُلُّ مِلْحٍ فِي الدُّمُوعِ سُكَّرٌ فِي الْغَيْمَاتِ.

 عَمَّانُ، لا تَخْجَلِي مِنْ تَقْبِيلِي أَمَامَ الأَيَائِلِ الَّتِي تُخَالِطُ عَطَشِي. يَا مَصْلُوبِينَ عَلَى الْقَصِيدَةِ تِلْكَ مَدِينَتِي تَنَامُ عَلَى عُنُقِ مَخَدَّتِي. كُنَّا نُدَحْرِجُ الْبَنَادِقَ عَلَى حَوَافِّ الْجُمْجُمَةِ الْمَرْصُوفَةِ بِالْحَشَائِشِ النَّازِحَةِ. الدَّرَكُ فِي طُرُقَاتِ عُمُرِي. لَعَلَّ الْمُخْبِرِينَ يَتَذَكَّرُونَ أَصْوَاتَ الْبَنَاتِ الْمُعَلَّقَاتِ عَلَى بَوَّابَةِ الْكَلِمَةِ. اعْتَرَفَتْ بِدَوْلَةِ النَّبَاتَاتِ شَظِيَّةٌ انْطَلَقَتْ مِنْ قَلْبِي الْمُتَفَجِّرِ حُبَّاً. سَافَرَ الْبَرْقُ مَضَى الْقِطَارُ يَجْلِدُ الصَّهِيلُ أَحْصِنَةَ اللفْظَةِ. الْمَقَاعِدُ خَالِيَةٌ فِي مِتْرُو الأَنْفَاقِ. كُلُّهُمْ قَتَلُوهُ وَأَخَذُوا يَسْتَعِدُّونَ لِتَنْظِيمِ جَنَازَةٍ مَهِيبَةٍ تَلِيقُ بِهِ. إِسْطَبْلٌ لِلْحِيتَانِ أَلْغَى الصَّوْتَ الرُّخَامِيَّ. لَكُمْ مِنَ الرَّعْدِ سَلامٌ. الْمُونَالِيزَا صَارَتْ رَقْمَاً حَبِيسَاً عَلَى جِدَارٍ أَخْرَسَ تَقِفُ أَمَامَهُ نِسَاءٌ مَخْمُورَاتٌ لا يُفَرِّقْنَ بَيْنَ أَحْصِنَةِ الذِّكْرَى وَمَدَائِنِ الرَّجْفَةِ. لِلآخَرِينَ شَمْعَةٌ وَلِي ضَوْءُ الْبَلُّوطِ فِي مَقْبَرَةِ الأَوْلِيَاءِ.

 إِنَّنَا عَبَرْنَا مِنْ ثُقُوبِ أَرْجُلِنَا إِلَى ضِفَّةِ الْحُلْمِ. كَانُوا يُحْصُونَ الرَّصَاصَاتِ فِي إِجَاصَةٍ نَائِيَةٍ. وَأَتَى الرَّبِيعُ النَّازِفُ. يَا أَمْسَنَا الْمُسْتَقْبَلِيَّ فِي رُوَاقِ الانْتِصَارِ دُلَّنِي عَلَى كِتَابَاتِ الْجَلِيدِ الْمَحْفُورَةِ عَلَى الْمَوْقَدَةِ. سَنَرْجِعُ إِلَى حَدَائِقِ السُّيُولِ تَحْتَ نَوَافِذِنَا الْمُهَلْهَلَةِ. مَا جَدْوَى الْبُكَاءِ عَلَى الْحُطَامِ الْمُزَرْكَشِ؟. سُلالَةُ أَحْجَارٍ تُحَنِّطُ أَشْكَالَهَا فِي الْمَرْفَأ عِنْدَ الْمَغِيبِ وَمَلابِسُ الْجُنُودِ عَلَى حَبْلِ الْمِشْنَقَةِ وَأَسَاطِيرُ الإِبَادَةِ الْمُتَعَفِّنَةُ تَمْشِي عَلَى حَبْلِ غَسِيلٍ مَنْقُوعٍ فِي أَكْوَامِ قُمَامَةٍ.

 سَتَرْتَدِي مِيلانُو قِنَاعَهَا هَذَا الْمَسَاءَ. لَيْسَ لِلنِّسَاءِ الذَّابِلاتِ صَوْتُ الأَشْجَارِ. الْوُجُوهُ الْمَيِّتَةُ تَعْتَمِرُ رُؤُوسَاً مُتَحَرِّكَةً مِثْلَ أَقْوَاسِ النِّهَايَاتِ وَخُدُودِ السُّنُونُو. حَدِّدْ مَعَالِمَ حُلْمِنَا قَبْلَ مَجِيءِ الإِعْصَارِ. نَبْنِي وَدَاعَ الرِّيحِ فِي الشُّرْفَةِ الَّتِي نَامَ فِيهَا السَّيْلُ الْعَارِي. اشْرَبِينِي مَعَ صُرَاخِ الْبَرْقُوقِ.

 عَصِيرُ جِرَاحٍ عَلَى مَائِدَةٍ رَمْلِيَّةٍ كَانَتْ يَوْمَاً مَا شَجَرَةً فِي طَرِيقِ مَذْبَحَتِي. تَرْتَسِمُ بُيُوتُ الْعَزَاءِ صَفْحَةَ فَضَاءٍ. لا تَقُولِي إِنَّ تَشَرُّدَنَا فِي الْمُخَيَّمَاتِ الْغَرِيبَةِ ذُبَابَةٌ تُسْحَقُ عَلَى جِسْرٍ. تُفَّاحٌ قَتِيلٌ فِي الصُّحُونِ كَأَنَّ الْغَدَ أَمْطَارٌ وَحُصُونٌ. أَمْشِي إِلَى آخِرِ قِلاعِي عَلَى جَنَاحِ بُحَيْرَةٍ بِكْرٍ. الرَّعْشَةُ مِثْلُ انْطِفَاءِ الْمَجَرَّةِ. كَيْفَ أَنْسَاكَ يَا وَطَنِي وَخَنَاجِرُ أَعْشَابِكَ مَزْرُوعَةٌ فِي فَرَاشَاتِي؟.

 يَصْقُلُنِي الشَّجَرُ الْفِضِّيُّ فَأَنْهَضُ أُفَتِّشُ عَنْ جَبْهَتِي. أَعْرِفُ أَنَّ أَمْوَاسَ الْحِلاقَةِ تَتَقَطَّعُ عَلَى مَدَارَاتِ الطُّيُورِ غَيْرِ الْقَادِرَةِ عَلَى الْهِجْرَةِ لَكِنَّنِي نَبَاتٌ أَزْرَقُ فِي مَزْرَعَةِ السُّيُوفِ. نَنْتَظِرُ الْخَرِيفَ لِنَحْتَفِلَ بِأَمْطَارِ الصَّيْفِ. إِنْ حَاوَلَتِ الْقَصِيدَةُ قَتْلَكَ فَلا تُقَاوِمْ. فِضَّةٌ الصَّرْخَةُ الْمُهْمَلَةُ. كُلُّ جَسَدٍ يَمَامَةٌ أَوْ مَذْبَحَةٌ. الْوِدْيَانُ تُحَارِبُ ظِلَّهَا فَلْنَقِفْ عَلَى رَايَاتِ الْخَيْبَةِ. هُمُ الْمَوْتَى الْمَنْسِيُّونَ وَنَحْنُ نَسِينَا أَنْ نَدْفِنَهُمْ. ذِكْرَيَاتُ الضِّفْدَعِ الْمُنَكَّسَةُ. هَذِهِ الْمِحْبَرَةُ غِطَاءُ الْوَرْدَاتِ. مَدَايَ يَخْمِشُ سَرِيرِي. يَفْتَخِرُ الرَّمْلُ بِأَسْلاكِ الْعُمُرِ. قَيْلُولَةٌ ذَهَبِيَّةٌ عَلَى قَرْنِيَّةِ طُوفَان. أَبْوَابُ الْجُرْحِ الصَّاعِقِ يَتَشَظَّى. ظَمَأُ الليَالِي أُعْطِيَ ضَوْءَاً لازَوَرْدِيَّاً. دَعْ لِلنَّزِيفِ الْمُذَهَّبِ اكْتِشَافَ اللمَعَانِ فِي طُوبِ حُجُرَاتِ التَّعْذِيبِ.

 أُفُقِي يَصِيرُ فِي عِظَامِي شُبَّاكَاً لِلْفَجْرِ. سَرَطَانُ الْمَاءِ يَزْحَفُ عَلَى قِمَاشِ الإِعْدَامِ. لَمْ يَبْقَ مِنِّي غَيْرُ جَبِينِ أُمِّي فَوْقَ الْمَقَاصِلِ لأَنَّ رِئَتِي سَيْفٌ لا غِمْدٌ. نَزِيفَانِ عَلَى قَنَادِيلِ الْحُبِّ. يَعْتَرِفُ النَّعْنَعُ: بَيْنَ نَوْمِي وَالْوِسَادَةِ شَجَرَةُ خَرُّوبٍ.

 جِرَاحٌ مِنْ خَيْزَرَان. يُسَاعِدُ النَّدَى فَرَاشَةً عَمْيَاءَ عَلَى عُبُورِ الشَّارِعِ. ذَلِكَ الْمَدَى الْمَحْفُورُ فِي مَنَاطِقِ الْبُرْتُقَالَةِ ذَلِكَ الْعُمُرُ وَشْمٌ عَلَى شَجَرِ الْقَصِيدَةِ. مَنْ يُمْسِكْ نَايَ الْكَلامِ يَخْسَرْ آخِرَ قُلُوبِ الْمَغِيبِ. الْعَاصِفَةُ الَّتِي وَلَدَتْ جِدَارَ الذَّاكِرَةِ سَوْفَ تُعَلِّقُ عَلَى بِنَايَاتِ السَّفَرِ خَلِيجَ النِّسْيَانِ لَكِنَّ مَوْجَاً أَسْمَرَ يَقْضُمُ إِبْهَامِي وَالدَّمْعَ الْقَدِيمَ. لَمْ يَخْسَرِ الْبَحْرُ شَرَفَهُ. الأَسْرَى يُنَظِّفُونَ قُيُودَهُمْ بِرِمَاحِ أَعْيُنِهِمْ وَشَظَايَا قُرُوحِهِمُ اللامِعَةِ.

 الرَّمْلُ النَّازِحُ يَتَقَلَّدُ وِسَامَ الْمَجَاعَاتِ الْفَائِضَةِ. أَعْطِنِي أَيَّ شُبَّاكٍ مِنْ مَذَابِحِ بَلَدِي. زَوِّجْنِي كُلَّ مُخَيَّمَاتِ السِّكِّينِ. سَأَتْرُكُ قِلاعَ الْجِلْدِ الْمَسْلُوخِ تُعَلِّمُنِي سِفْرَ الْجُوعِ الْمُدَوَّنَ عَلَى الرَّصَاصَةِ كَيْ أَشْبَعَ مِنْ رُؤْيَةِ الْمَشْنُوقِينَ. نُيويُورك الْفَتَاةُ الَّتِي أَضَاعَتْ بَكَارَتَهَا فِي أَنْحَاءِ أَصَابِعِ الْقُرْصَانِ. سَنُنَقِّيهَا مِنْ مَلامِحِهَا مِنْ رَائِحَةِ أَفْوَاهِ التَّمَاسِيحِ الْمُحَنَّطَةِ وَنُعْلِنُهَا مُتْحَفَاً لجثثِ الهنود الحمْرِ فَوْقَ مَصَبِّ الْمَجَرَّةِ فِي دِمَاءِ الْمُذَنَّبَاتِ.

 يَا مُتْحَفَ الْوَرْدَاتِ الْمَصْلُوبَاتِ. فِي تِلْكَ الرِّئَةِ بَرْقٌ مُتَفَجِّرٌ يَصْهَرُ حَدِيدَ الدَّرَّاجَاتِ الْهَوَائِيَّةِ. الأَطْفَالُ الْعُرَاةُ فِي حُفَرِ الْمَجَارِي وَاللقَطَاءُ يَبْحَثُونَ عَنْ أَنْسَابِهِمْ فِي حَدَائِقِ الْخَرَابِ الْمُتَكَرِّرِ. عِنْدَمَا أَصْرُخُ فِي شَوَارِعِ النَّزِيفِ يَسْقُطُ مِنْ شَرَايِينِي صَوْتُ النُّجُومِ سَاعَةَ السَّحَرِ. أُكَنِّسُ دَمَ الأَغْرَابِ الْمُتَبَقِّي عَلَى أَجْنِحَةِ عَصَافِيرِ ظِلِّنَا. لِمَاذَا يَتَزَلَّجُ الإِسْفَلْتُ عَلَى خَاصِرَةِ الْعُزْلَةِ؟. هُنَاكَ أَسْئِلَةٌ يُجِيبُ عَلَيْهَا الصُّرَاخُ بِأَسْئِلَةٍ أَكْثَرَ تَفَجُّرَاً. إِنَّ الْبَحْرَ أُسْتَاذُ عِلْمِ الاجْتِمَاعِ فِي جَامِعَةِ قَلْبِي الْمَفْتُوحِ للبَعوض. وَهَا هِيَ ذُبَابَاتُ الزِّنْزَانَةِ تَكْتُبُ وَصَايَاهَا عَلَى نَخِيلِ الْجَسَدِ.

 لَوْ حَلَّلْنَا عُزْلَةَ الدَّيْنَاصُورَاتِ فَسَنَحْصُلُ عَلَى أَسْمَاءِ التِّلالِ تَحْتَ مَطَرِ الضَّوْءِ الَّذِي يَنْمُو فِي جِبَاهِنَا. لَمْ تُضِفِ الشُّهْرَةُ لِلنَّهْرِ أَيَّ شَيْءٍ. نَزِيفَانِ يَتَعَانَقَانِ فِي صَحْرَاءَ وَالآبَارُ الْجَوْفِيَّةُ تَبِيعُ الْفَاكِهَةَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الدَّوَامِ الرَّسْمِيِّ الَّذِي تُحَدِّدُ سَاعَاتِهِ حُكُومَةُ الْعَارِ. كُنْ وَجْهَاً مَاطِرَاً لأَتَذَكَّرَكَ. فَالصُّرَاخُ لا يَتَذَكَّرُ غَيْرَ أَشْكَالِ عَوَاصِفِ دَمِي. الْكِتَابَةُ تَقُودُ سِرْبَ مُسَدَّسَاتٍ إِلَى صُدُورِ الرَّمْلِ الْخَشِنِ. الْوِدْيَانُ الَّتِي حَضَنَتْ أَحْلامَنَا سَتَبْلَعُنَا فِي سَاعَةٍ لا نُحَدِّدُهَا نَحْنُ الْمَاشِينَ إِلَى مَشْي الْحِيطَانِ الْمُتَرَسِّبَةِ فِي كَأْسِ عَصِيرٍ غَيْرِ طَازَجٍ. لَدَيَّ مَا يَكْفِينِي مِنْ صَدَىً وَأَرْكُضُ إِلَى صَوْتٍ. مُعَانِقَاً الْبَيْلَسَانَ فِي كُلِّ صَرْخَةٍ. الآنَ _ أَيْ بَعْدَ قَلِيلٍ _ سَتَأْتِي الأَغْوَارُ اللازَوَرْدِيَّةُ إِلَى مَأْدُبَةِ شَظَايَايَ الْوَهَّاجَةِ.

 لا شِرْيَانِي حَلِيبُ الْبَيْدَاءِ وَلا شَجَرِي مِنَصَّةُ إِطْلاقِ صَوَارِيخِ النَّدَى. أَنْتَ مَدَايَ إِذَا كُنْتَ تَصْطَادُنِي زَيْتُونَاً. طُرُقَاتُ الْفَرَاولَةِ مَدِينَةُ الْقَلْبِ الْمَفْتُوحِ عَلَى الشَّظِيَّاتِ كَامِلَةِ الدَّسَمِ. لَمْلِمِينِي قَبْلَ انْدِلاعِ الرَّصِيفِ عَلَى شَفَةِ الْمُنْشِدِ الأَسِيرِ. يَخْرُجُ مِنْ سُطُورِ الْمَذْبَحَةِ قَمَرٌ سِرِّيٌّ وَأَمْلاحُ عُمُرٍ مَضَى تِلالاً. أَيَّامُنَا كُلُّهَا مَوْضُوعَةٌ عَلَى نَقَّالَةٍ وَسَيَّارَةُ الإِسْعَافِ تَخْتَبِئُ فِي شَحْمَةِ أُذُنِي. قَدْ يُرَبِّي الْيُورَانيُومُ فِي صُدَاعِي بَلُّوطَ الْغُرَبَاءِ لَكِنَّ الْجُرْحَ سُنْبُلَةٌ.

 كَانُون الثَّانِي يَصْرُخُ فِيَّ مُعْلِنَاً مِيلادِي. وُلِدْتُ كَمَا الْبَرْقُوقِ الْخَامِ وَانْبِعَاثِ الاحْتِضَارِ. وَمُعَلِّمَتِي الإِنجلِيزِيَّةُ تُمْسِكُ سِيجَارَةً ذَابِلَةً بَيْنَ أُصْبَعَيْنِ لَمْ يُحَدِّدْهُمَا لَوْنُ الْمُوكِيتِ فِي غُرْفَةِ الْمُعَلِّمَاتِ. سِيرَتِي الذَّاتِيَّةُ فَرَاشَةٌ وَرْدِيَّةٌ تَحْضُرُ حَفْلَ زِفَافِ الْجَسَدِ اللوْلَبِيِّ الْمَشْنُوقِ. أُوَدُّ أَنْ أُعَانِقَ دَمِي الَّذِي هُنَاكَ. تَارِيخُ الْفَرَاولَةِ مُسَدَّسٌ مَنْقُوعٌ فِي إِسْفَلْتِ النِّيكِلِ. ابْدَأْ مِنْ حَيْثُ انْتَهَتِ الثُّلُوجُ الَّتِي كَنَّسَتْنِي فَوَجَدْتُ نَفْسِي هُنَاكَ بَعِيدَاً عَنْ مِيَاهِ الذَّهَبِ وَأَعْمِدَةِ الضِّيَاءِ الْمُتَسَاقِطَةِ فِي الْمَقَابِرِ. قُلْتُ لِلصَّنَوْبَرِ إِنَّ جِرَاحَاتِي تَرْكُضُ عَلَى سُطُوحِ بَيْضِ النُّسُورِ. مِنْ أَحْصِنَةِ الْعَاصِفَةِ تُولَدُ الْبَنَادِقُ الْمُعَبَّأَةُ بِالزَّفِيرِ. شَعْرِي يَمْضِي إِلَى حَيْثُ يَشَاءُ غُبَارُ الْمَعْرَكَةِ. كُلَّمَا عَرَفْتُ اسْمِي أَنْكَرَنِي بُسْتَانُ الْقِطَطِ الْمَيْتَةِ.

 يَا صَقْرَاً يَتَقَيَّأُ فِي طَرِيقِ سَيَّارَةِ الإِسْعَافِ. عُدْ إِلَى قِمَاشِ الْعَصْفِ قُرْبَ زَوَايَا رَعْشَتِي. مَسَاءً كَانَتْ مَقُولاتُ النَّهْرِ. يَا جَدَّتِي، لِنَرْجِعْ إِلَى غُروزنِي قَبْلَ حُلُولِ الدِّمَاءِ فِي الزَّبَرْجَدِ وَدَوَرَانِ أَوْرَاقِ اللعِبِ عَلَى طَاوِلَةِ الْجِنَرَالاتِ. خَبِّئِينِي فِي ثِيَابِ الْقَمَرِ فِي أَيِّ مَكَانٍ لا تَرَانَا فِيهِ الْمَجْزَرَةُ. وَأَتَى الْحِصَارُ. الْمَدَاخِنُ الْمُتَجَمِّدَةُ وَلا دُخَانٌ يَصْعَدُ مِنْ ظِلالِهَا. الأُمَّهَاتُ الْقَتِيلاتُ فِي الْمَطْبَخِ الرُّخَامِيِّ وَلا رَنِينٌ حَوْلَ مَائِدَةِ الطَّعَامِ. نَشْرَةُ الأَخْبَارِ فِي الْمِذْيَاعِ تَنْتَهِي وَالْغُزَاةُ يَبْدَأُونَ. أَنَا هُنَا عِنْدَ حَجَرِ الابْتِسَامِ وَالشُّهَدَاءُ يَسِيرُونَ بَيْنَنَا كَزَيْتُونَةٍ. نَزِيفُ الْحَدَائِقِ فِي حُلْقُومِي أَمْضِي إِلَى رِمْشِي وَاثِقَاً مِنْ خُطَّةِ اغْتِيَالِي. عُشَّاقَ حُلْمِي. يَا عَابِرِينَ عَلَى مِنَصَّاتِ الإِعْدَامِ بِأَرْجُلَ اصْطِنَاعِيَّةٍ مَخْدُوشَةٍ اجْمَعُونِي زَهْرَاً لِلْكَوَاكِبِ الْعَاشِقَةِ. مَضَيْتُ وَكَانَ حَوْلَ خَصْرِي حِزَامٌ نَاسِفٌ يُفَجِّرُهُ الْعِشْقُ فِي مَرْكَبَاتِ جَيْشِ الْغَرْقَدِ. سَيَجْمَعُ الْغُرُوبُ أَجْزَاءَ خَاصِرَةِ الْوَرْدَةِ فِي عُلَبِ زِنْكٍ رَخِيصَةٍ. تَمْشِي الْبِحَارُ إِلَى نَظَّارَاتِ الرُّبَّانِ حَيْثُ تَتَكَسَّرُ زُجَاجَاتُ الْفَرَحِ فِي الزَّوْرَقِ الْوَحِيدِ. اذْكُرِينِي أَيَّتُهَا الرُّعُودُ كُلَّمَا الْتَقَى صَدِيقَانِ يَتَنَاوَبَانِ عَلَى الْكُرْسِيِّ الْكَهْرَبَائِيِّ فِي الزَّنَازِينِ. دَوْلَةٌ مِنَ الْكَرْتُونِ نُسَمِّيهَا بِأَسْمَاءِ الظِّرْبَانِ الَّذِي يَمُوتُ جَالِسَاً عَلَى طَاوِلَةِ قِمَارٍ. الضَّبَابُ الدَّمَوِيُّ أُنْشُودَةٌ لِغَيْرِي. النَّحْلُ بِلادٌ افْتَحِيهَا بِخُيُوطِ قَلْبٍ أَصْفَى مِنْ ثِيَابِ الْوَهْجِ. فِي آخِرِ أَيَّامِ الْعُشْبِ يَنْطَلِقُ الْعُصْفُرُ بَلْدَاتٍ وَنُعَاسَاً لِلطَّبَاشِيرِ الْمُمْتَلِئَةِ بِالْحِرْمَانِ. جَاءَ الْمُعَزُّونَ قَبْلَ وَفَاةِ الْعِنَبِ الْمُتَفَرِّقِ عَلَى أَجْنِحَةِ الْوَادِي. تَلْتَهِمُنِي حَشَائِشُ الْمَغِيبِ.

 سَيِّدَةَ كُلِّ الأَثَاثِ الأَعْمَى أَخْرِجِينِي مِنْ إِسْطَبْلاتِ الْبِتْرُولِ مِنْ لَمْعَةِ الْجَسَدِ الْمُتْعَبَةِ. انْهَمَكَ الصُّبْحُ فِي تَرْتِيبِ حَقِيبَةِ سَفَرِهِ إِلَى الْجُلُودِ الْمُنْهَكَةِ. أَيُّ حِصَانٍ سَيُفْطِرُ نَزْفَاً وَيَتَغَدَّى مَقَاصِلَ؟. دَعِينِي أَمْنَحْ لِكَفِّي نَسْفَ الْوَرْدَةِ، تَهْشِيمَ الزُّمُرُّدَةِ فِي أَعْوَامِ الْبَيْلَسَانِ، حِينَمَا تَصْحُو الْخُيُولُ فَلا تَجِدُ غَيْرَ سَوْطٍ يَجْلِدُهَا وَتَنْهَضُ الأَكْوَاخُ فِي لَوْحَةٍ يَرْسُمُهَا عَاطِلٌ عَنِ الْعَمَلِ. لَنْ نَضِيعَ فِي الْقَصَائِدِ السَّرِيعَةِ الَّتِي تُسَابِقُ قِطَارَاً يَتَفَجَّرُ فِي حَقَائِبِ الرُّكَّابِ. دَعِينِي أَتَسَلَّقْ مَعِدَتِي لأَخْدَعَ جُوعِي وَأُقْنِعَهُ بِأَنْ يَخْرَسَ مِثْلَ كُلِّ جَثَامِينِ السُّنُونُو وَأَعْوَادِ الثِّقَابِ الْمُهْمَلَةِ. تَتَكَسَّرُ سُيُوفُ الْكُمَّثْرَى فِي سُرَّتِي. وَالْبَجَعُ يُنَظِّفُ قَفَصِي الصَّدْرِيَّ مِنَ الأَلْغَامِ الأَرْضِيَّةِ.

 

نَقَابَةُ اللصُوصِ الأَعْرَابِ

أُعْطِي لِجُثَّتِي الْخَضْرَاءِ الْمُزْهِرَةِ وَرْدَةَ النُّسُورِ. مِحْبَرَةُ الْمَسَاءِ الأَشْقَرِ تَزُفُّنِي إِلَى أَزِقَّةِ الْمَدِينَةِ الْقَتِيلَةِ. وَرْدَتَانِ فِي الْقَلْبِ جُرْحَانِ فِي مَزْهَرِيَّةٍ وَاحِدَةٍ. أَتَلَفَّظُ بِحُرُوفِ الْغَارِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ الدَّمَوِي. يَا أَمْسَنَا الَّذِي سَيَأْتِي، كُنْ قَرِيبَاً مِنِّي سَاعَةَ احْتِضَارِ الْبَجَعِ، فَالْخَوْفُ بِرْوَازُ شَعْبِي عَلَى الْحِيطَانِ الْمُفَتَّتَةِ. نَعُودُ إِلَى حَيْثُ تَمُوتُ الشَّوَاطِئُ الْعَارِيَةُ إِلا مِنْ رَغْبَةِ الْحَيَاةِ. مُدِّي إِلَيَّ حَبْلَ مِشْنَقَتِي كَيْ أَتَزَلَّجَ عَلَيْهِ وُصُولاً إِلَى بَلْدَتِي الْمَسْرُوقَةِ.

 بِلادِي، إِنَّكِ الْعُشْبَةُ الْبِكْرُ فِي دَوَاخِلِي بَيْرَقَاً لِلنَّوَارِسِ الْمُهَاجِرَةِ. كُلُّ مَا فِيَّ يُنَادِي كُلَّ مَا فِيَّ. سَأُعِيدُ الْبَوْحَ الْمُتَشَظِّي إِلَى الْيَانسُونِ الْبَارِدِ. لَمْ يَحْضُرْ ضُيُوفُ الْحُلْمِ إِلَى كُوخِ الْحَمَامَةِ. لَمْ يَدْخُلِ الليْلُ بَيْتَنَا الْجَبَلِيَّ مُنْذُ احْتِضَارَاتِ النَّهْرِ الْيَوْمِيَّةِ. الآنَ، سَأَتَسَلَّقُ مَاعِزَ الرَّصَاصِ. أُنَادِي عَلَيْكَ يَا وَطَنِي الَّذِي يَأْتِي مِنْ فُوَّهَةِ الإِجَاصِ. أُنَادِي عَلَى الْفُقْمَةِ الَّتِي مَاتَتْ وَالرَّصَاصَةُ فِي جَيْبِهَا. أَتَقَلَّدُ وِسَامَ الْعُشْبِ الأَبْيَضِ. كَمْ مَرَّةً ذُبِحْتُ عَلَى الرَّصِيفِ أَمَامَ الْعُشَّاقِ الْخَارِجِينَ مِنْ صَالَةِ السِّينَمَا؟!. مُسَدَّسٌ مِنَ الْخَشَبِ كَانَ يُدَافِعُ عَنْ أَسْمَائِنَا النَّاهِضَةِ مِثْلَ غِزْلانٍ فِي الشَّفَقِ الطَّازَجِ.

 يَا إِلَهِي، نَقِّنِي مِنْ دَمِي الْمُلَوَّثِ. لأَحْلَى وَرْدَةٍ فِي الْمَقْبَرَةِ يُغَنِّي الْيَمَامُ. لَمْ يَنْتَظِرْنِي الشِّتَاءُ حَتَّى أُعِدَّ مَرْثِيَّةً لِجَارَتِنَا الأَسِيرَةِ فِي مُعْتَقَلاتِ الْبَحْرِ. لِوَرْدَةٍ قَيَّدَهَا الشَّكُّ بِرِمَالِ الأَنْهَارِ وَسَلاسِلِ الْجُرْحِ سَأُغَنِّي. فَهَلْ سَيَمْنَعُنِي اسْمُ الْغَيْمَةِ مِنَ الْبُكَاءِ عَلَى رِئَةِ الزُّمُرُّدِ؟. خُذِينِي عَاصِفَةً تَدُلُّ الطُّيُورَ الْمُبْحِرَةَ فِي شَرَايِينِي عَلَى عُنْوَانِ مَجْزَرَتِي. مَا أَسْرَعَ الدَّمَ الْمُتَدَفِّقَ فِي غَيْمَاتِ الذِّكْرَى!.

 انْثُرِي ضَوْءَاً لِلْبُنْدُقِيَّةِ عَلَى الْعَجِينِ وَالضَّوْءِ الْمَعْجُونِ بِالأَشْلاءِ. نَزْفِي الْعَرِيسُ الَّذِي لَمْ يُعْطِهِ الْمُخْبِرُونَ فُرْصَةً لِلْفَرَحِ. وَدَاعَاً أَيَّتُهَا الْحَشَائِشُ الذَّبِيحَةُ فِي مَوْسِمِ تَزَاوُجِ الرَّوَابِي. إِنَّنِي أَتَذَكَّرُ مَلامِحَ الْجَبَلِ الْمُنْتَقِلِ مِنْ قَلْبٍ إِلَى آخَرَ. أَتَذَكَّرُ أَعْشَاشَ الْغَسَقِ فِي وِدْيَانِ الْبَنْكِرْيَاسِ الْمُمَدَّدَةِ عَلَى حَوَافِّ الْمِغْسَلَةِ فِي دَارِنَا الْمُحَطَّمَةِ جَرَّاءَ قَصْفِ السُّنُونُو بِالْكِلابِ الْمَسْعُورَةِ. جَارَتُنَا الْمُتَحَرِّكَةُ عَلَى كُرْسِيِّهَا الْمُتَحَرِّكِ. أَيْنَ وُجُوهُكُنَّ يَا بَنَاتِ الْعُشْبَةِ الْمُرْتَجِفَةِ؟.

 إِلَى شَمَالِ الرَّغْبَةِ مَضَتْ قَوَافِلُ الأَفْخَاذِ الْمُقَطَّعَةِ. إِلَى جَنُوبِ الرَّغْبَةِ مَضَى تَصَدُّعُ سُنْبُلَةِ الأَحْلامِ. وَالنَّهْرُ مَا زَالَ يَبْحَثُ عَنْ أَبِيهِ بَيْنَ الضَّحَايَا. يَتَذَكَّرُ الليْلَكُ أَقْوَاسَ النَّصْرِ عَلَى بَوَّابَاتِ دَمْعِي لأَنَّ الْوَشَقَ يَدْفِنُ الْبَرْقُوقَ فِي قَاعِ الْمُحِيطِ. فَامْشِ أَيُّهَا الْغَيْمُ إِلَى أَغْصَانِي قُرْبَ زَوَايَا الْمُعْتَقَلِ. النِّصْفُ الأَعْلَى مِنْ جَسَدِ الْبِئْرِ. عَلَى كَتِفِي يَنَامُ الْبُرْتُقَالُ، وَرِئَتِي تُبَاعُ خَلْفَ زُجَاجِ الْمَحَلاتِ التِّجَارِيَّةِ. أُفَكِّكُ تَعَالِيمَ التُّفَّاحِ إِلَى أَبْجَدِيَّاتٍ ثَائِرَةٍ. الأَسْلاكُ الْمُكَهْرَبَةُ أَوْبِئَةُ حِيطَانِ الْعَفَنِ. تَرْكُضُ نَبَاتَاتُ الزِّينَةِ إِلَى سِحْنَةِ الْقَمَرِ. أَيُّهَا الْقَلْبُ الَّذِي يَصِيرُ شَعْبَاً مِنَ الْكَلِمَاتِ وَالأَضْرِحَةِ وَالذِّكْرَيَاتِ. لَوِّحْ لِلْمُسَافِرِينَ بِِمِينَاءِ الْعِشْقِ. أَتَدَاخَلُ مَعَ مِيَاهِ الأُكْسُجِينِ مُسَافِرَاً مَنْفِيَّاً حَامِلاً جُمْجُمَتِي الأَنِيقَةَ فِي حَقِيبَتِي غَيْرِ الأَنِيقَةِ. أَمْهِلِينِي يَا أَحْصِنَةَ الْمَغَارَةِ حَتَّى أُجَهِّزَ وَصِيَّتِي. مَنَادِيلُ الْبُحَيْرَاتِ عَلَى مِنْضَدَةِ الثَّوْرَةِ. أَنْقِذْنِي مِنْ شِكْلِ بُنْدُقِيَّتِي وَأَكْوَامِ الْبُنْدُقِ فِي حَارَاتِ الارْتِعَاشِ. كُنْ مَعِي يَوْمَ يَتْرُكُنِي وَجْهِي وَيَرْحَلُ مِنْ بَسَاتِينِ الْخَوْفِ.

 مِنْ فَرْطِ مَا مَرَّ فِي جَسَدِي مِنْ بَرَامِيلِ الْكَلِمَاتِ الصَّاعِقَةِ أَضْحَتْ أَنَاشِيدِي اسْمَاً خَفِيَّاً لِلْبَحْرِ. لَكِنَّنِي لَسْتُ الْبَحْرَ وَلا أَنْسَخُهُ عَلَى مُحَيَّايَ. حَضَرْتُ أَعْرَاسَ الْبَطِّ تَزَوَّجَ الإِسْفَلْتُ فَرَحَ صَيَّادِ السَّمَكِ. أُغَنِّي فِي غُرْفَةِ التَّحْقِيقِ وَحِيدَاً خَالِيَاً إِلا مِنْ نُمُورِ الرَّفْضِ. سَيَغُوصُ مَا بَقِيَ مِنِّي فِي أَشْرِعَتِي. هَلْ تَفْهَمِينَ كَلامَ الْبَرْقِ عِنْدَمَا تَحْفِرُ الأَبْجَدِيَّةُ أَجْنِحَتَهَا عَلَى مِعْصَمِي؟. لا الْمَسَافَةُ ابْنَتِي وَلا الرَّصِيفُ عَائِلَةُ الْبِطِّيخِ الْمَنْفِيِّ. وَلَمْ يَكَدِ الْغُرُوبُ يَفْتَحُ بَابَ نَزِيفِي حَتَّى انْهَمَرَتْ عَلَيَّ قَوَارِبُ الْغَضَبِ. اغْضَبْ أَيُّهَا الْجِدَارُ الْكُرْسِيُّ الْكَهْرَبَائِيُّ. أَلْوَاحُ الزِّنْكِ قَرْمِيدُ الْمَلاجِئِ نَهْرُ الْغَثَيَانِ أَدْمُعُ النِّفْطِ. كُلَّمَا أَرَدْتُ لَمْلَمَةَ أَشْلاءِ النَّوْرَسِ نَظَرْتُ فِي الْمِرْآةِ. عُرْسُ الْغَرِيبِ أَسْمَاءُ الْمَطْلُوبِينَ أَحْيَاءً أَوْ أَمْوَاتَاً. صَيَّادُو الْمُكَافَآتِ بَلاطُ الْمَخْفَرِ. يَتَكَاثَرُ الْبُولِيسُ السِّيَاسِيُّ فِي حَشْرَجَاتِ صَدْرِي. سَيَكُونُ لِقاءُ الإِوَزِّ العَاشِقِ في شمَالِ الجثثِ المتعفِّنةِ.

 ابْنَةَ عَمِّي، أَرْجُوكِ امْشِي فِي جَنَازَتِي لِتَتَزَوَّجَ الْفَرَاشَاتُ فِي أَدْغَالِ قَلَمِ الرَّصَاصِ. نَحْنُ الْعَابِرِينَ إِلَى خُيُوطِ الْفَجْرِ الأُولَى. وَاقِفُونَ تَحْتَ رَذَاذِ الصَّنَوْبَرِ. لَمْ أُمَيِّزْ بَيْنَ طَعْمِ الْمَطَرِ وَلَوْنِ ثَوْبِ أُمِّي. إِنَّ الْجُرْحَ غَابَاتٌ مِنَ الْقَصْدِيرِ الْعَنِيفِ فَلْتَسْمَعْنِي سَكَاكِينُ تَتَكَسَّرُ عَلَى مِدْخَنَةِ حُلْمِ الْبَلُّوطِ الْعَجُوزِ. هَذَا الْخِنْجَرُ يَاسَمِينَةٌ أَضَاعَتْ بِطَاقَتَهَا الشَّخْصِيَّةَ فِي تَابُوتِ الأُغْنِيَةِ. وَزُرْقَةُ الدَّمْعَةِ مُصَابَةٌ بِدُوَارِ الْبَحْرِ. مَا زَالَ الْبِطْرِيقُ يَعُدُّ جُرُوحِي وَيُخْطِئُ. أَعْشَابِي قَمِيصُ الْحِصَارِ كُتُبُ فَنِّ الطَّبْخِ وَمَسَائِي آخِرُ أَيَّامِ الْمَشْنُوقِينَ. عَمَّا قَلِيلٍ سَنَفْتَرِقُ تَرْنِيمَةً لِلشَّجَرِ الْمَيِّتِ فِي كُلِّ الْفُصُولِ. سَيَتَذَكَّرُنَا إِسْطَبْلُ الْغُصُونِ الْمُثْقَلَةِ بِرُؤُوسِ الْقَتْلَى وَسَنَعُودُ يَا وَطَنِي _ كَمَا بَدَأْنَا _ وَرْدَتَيْنِ عَلَى السِّكينِ وَعُرُوشِ اللصُوصِ. قُولِي إِنَّ الْمَسَاءَ سَيَقْبُرُنِي فِي يَدَيْهِ حِينَمَا تَمْتَدُّ الْمَرَاثِي عَبْرَ صَحَارِينَا يَنْبُوعَاً أُسْطُوَانَةً لِمُنْشِدٍ مَجْهُولٍ جَاءَ وَذَهَبَ. لَعَلَّ وَجْنَتَيْهِ تُسَجِّلانِ وَصَايَا اللازَوَرْدِ عَلَى وِدْيَانِ الْكَلِمَةِ. أَطْفَالُ الْعَصْفِ يُفَتِّشُونَ عَنْ جَمَاجِمِ أُمَّهَاتِهِمْ فِي أَكْوَامِ الْقُمَامَةِ الَّتِي تَمْتَصُّهُمْ.

 لِلْخَرِيف شِتَاءٌ يُنْكِرُ الليْمُونَ وَيَقْتُلُهُ وَيَمْشِي فِي جَنَازَةِ كُلِّ الْوِدْيَانِ. مَنْ سَيَتَذَكَّرُ حَدِيقَةَ مَنْزِلِنَا عَلَى ظَهْرِ الْقَمَرِ؟. لِلْفَجْرِ الصَّادِقِ هَؤُلاءِ الأَسْرَى. وَرَّثَنِي أَبِي شَكْلَ قَبْرِهِ وَاحْتِضَارَ السُّجُونِ. وَالشَّلالُ يَجْلِسُ خَلْفَ مَكْتَبِهِ فَلْتَسْتَثْمِرِ الشَّجَرَاتُ فِي دِمَاءِ الصَّبَاحِ وَجَاءَتْ مَرْكَبَاتُ الْخَرِيفِ لَيْلاً مِنَ النَّزِيفِ وَالْيُورَانيُومِ الْمُخَصَّبِ. وَفِي خِزَانَةِ جُرْحِي فَرَاشَةٌ تَحْمِلُ عَلَى جَنَاحِهَا الأَيْسَرِ بِرْمِيلَ نِفْطٍ فَارِغَاً وَتَطِيرُ بِاتِّجَاهِ كِتَابِ الْجُنُونِ. هَلْ تَسْمَعُ فِي عِظَامِي قَرْقَعَةَ نِعَالِ الْبَيْدَاءِ؟. أَرْجُوكَ اغْسِلْنِي يا خِنْجَرَ الشُّموعِ كَيْ أَكْتَشِفَ وَجْهِي مِنْ جَدِيدٍ.

 

مُذَكَّرَاتُ النَّوْرَسِ الْوَحِيدِ

 سَيَحْصُدُ الْبَارُودُ مَا زَرَعَهُ الرَّعْدُ فِي جِرَاحَاتِي. أَمْدَحُ الْعَبِيرَ لِئَلا يَخْنُقَنِي وَأَتَغَزَّلُ بِالْبُحَيْرَةِ لِكَيْلا تَقْتُلَنِي. رَائِحَةُ حَبْلِ الْمِشْنَقَةِ بَعْدَ صَلاةِ الْعَصْرِ. ضَيِّعْنِي فِي مَمَالِكِ دَمِي وَاجْمَعْنِي فِي الْهِضَابِ نَشِيدَاً. تَبْذُرُ الأَنْهَارُ أَشْلاءَهَا عَلَى مِرْوَحَةِ السَّقْفِ. الْمُوَظَّفُونَ الَّذِينَ عَادُوا إِلَى ضَرْبِ نِسَائِهِمْ وَطَنٌ مَسْبِيٌّ. كَهْرَمَانُ الْعُمُرِ وَالأَكْشَاكُ تَبِيعُ ظِلالَ الْعَصَافِيرِ لِلْمُتْحَفِ.

 أَيُّهَا الْوَطَنُ الْمُغَلَّفُ مِثْلَ الشُّوكُولاتَةِ الْمُسْتَوْرَدَةِ مِنَ الدَّمِ مِثْلَ النَّرْجِسِ الْمُسْتَحِمِّ فِي فَرَاشَةٍ وَقِحَةٍ. وَفِي قَاعِ الأُغْنِيَةِ تَتَرَسَّبُ أَضْرِحَةُ السَّوْسَنِ الْفَضَائِيِّ. اسْتِفَاقَةُ كَوْكَبٍ فِي عُشٍّ تَبِيضُ فِيهِ الرِّيَاحُ. كُونِي أَيَّ شَيْءٍ سِوَى زِنْزَانَتِي لأَصْقُلَ حَجَرَ الْمَعْنَى. وَالْقَبَائِلُ تَتَقَاتَلُ عَلَى حَمْلِ ذِكْرَيَاتِي وَدَرْبِ مَذْبَحَتِي تِلْكَ السِّنْدِيَانَةِ وَالْكُحْلِ الأَبْيَضِ. كَصُنْدُوقٍ مِنْ جَمَاجِمِ الْهُنُودِ الْحُمْرِ هُوَ الارْتِعَاشُ. شَمْسٌ تَجْدِلُ شَعْرَ الْقَمَرِ زَنْبَقَاً لِلْعَاصِفَةِ الْحَالِمَةِ وَجَسَدَاً لِلتُّفَّاحِ النَّائِمِ فِي الزِّئْبَقِ الْحَجَرِيِّ.

 يَا بِطِّيخَاً يَبْنِي فِي نُخَاعِ الْعَظْمِ مِينَاءً لِلأَشْجَارِ الْمُهَاجِرَةِ وَحُقُولِ الْحِبْرِ الْمَنْفِيِّ حَيْثُ تَخْتَبِئُ الْقَارَّةُ تَحْتَ إِبْطِ عُصْفُورَةٍ. وَيَكُونُ دَمُ الْعُقْبَانِ مُهَنْدِسَاً مِعْمَارِيَّاً. رِئَتِي الْمَهْجُورَةُ يَحْمَرُّ خَدُّ الْحَصَى تَبْنِي النُّسُورُ أَعْشَاشَهَا فِي عَمُودِي الْفَقَرِيِّ يَدُقُّ النَّهْرُ صُورَةَ وَالِدِهِ عَلَى تَابُوتِ أُنْشُودَتِي.

 كَتِفِي يَهْجُرُهَا كَوْكَبُ الرُّوحِ أَيْنَ مَأْسَاةُ النَّمِرِ الَّذِي أَرْضَعَتْهُ سَمَكَةٌ؟. رَبَّتْنِي الصَّاعِقَةُ فِي حَارَاتِ الأُغْنِيَةِ إِنَّ جَدَائِلَ الْبُحَيْرَةِ تَرْمِيهَا الْمَقَاصِلُ عَلَى ضِفَّةِ الْوَقْتِ وَالْفَيَضَانُ يَرْبُتُ عَلَى كَتِفِ الْيَانسُونِ.

 كُلَّمَا شَرِبَ زُجَاجُ مَرَاكِزِ التَّسَوُّقِ احْتِضَارَاتِ الْحَدِيقَةِ الْمَجْدُولَةِ مِنَ الْفُهُودِ هَرَبَتْ مِنْ قَفَصِ الْجَمَاجِمِ وَرْدَةٌ فهَلْ جَرَّبْتَ خَوْفَ الْقَرْمِيدِ مِنْ مَطَرِ الْقَلْبِ؟. كَزَوْجَاتِ الْبَحَّارَةِ الَّذِينَ لَمْ يَعُودُوا كَالأَظَافِرِ الَّتِي تَحْتَفِظُ بِشَرَايِينِ الصَّخْرِ وَنُخَاعِ الشَّلالِ فِي الْحَقَائِبِ الْمَدْرَسِيَّةِ. لَمْ يَكُنْ ضَبَابُ عَرَقِي مَوْجُودَاً حَوْلَ الْمِدْخَنَةِ يَوْمَ زَارَتْنِي الْبُحَيْرَاتُ فِي لَحْمِي الْخَامِسِ رُمْحِي الأَوَّلِ. تُعَبِّئُ الشَّمْسُ دَمَهَا فِي زُجَاجَاتٍ نَظِيفَةٍ وَتُرَتِّبُهَا عَلَى رُفُوفِ مَكْتَبَةِ قَاعَةِ الإِعْدَامِ. أَنَا وَمَوْتِي انْبَعَثْنَا مَعَاً وَالْمَسَاءُ أَخْضَرُ أَوْ أَصْفَرُ. مَا لَوْنُ السَّنَابِلِ حِينَ تَلِدُ صَمْتَ الشَّلالاتِ الزُّمُرُّدِيَّةِ؟.

 يَا مَطَرُ، تَأَمَّلِ الطُّيُورَ الَّتِي تَمْضُغُ طُحَالِي. هَلْ تُشْبِهُ بَوَّابَةَ الرُّؤْيَا أَمْ حَشَائِشَ الْمَدْفَنِ؟. حَدِّقْ فِي أَثَاثِ الْمَذْبَحَةِ الطَّالِعِ مِنْ وَجَنَاتِ الْخَفَافِيشِ الْمُحَنَّطَةِ. يُغَيِّرُ الْمَسْلَخُ دَرَجَهُ اللحْمِيَّ وَمَا زَالَ قَوْسُ قُزَحَ جَالِسَاً فِي الْمَقْهَى يَحْتَسِي انْتِحَارَاتِ الْقَشِّ. وَفِي جَسَدِ الشَّعِيرِ تُطْلِقُ الرِّئَةُ الأُولَى النَّارَ عَلَى الثَّانِيَةِ. يُفَصِّلُ الْقَمَرُ مِعْطَفَاً مِنْ جِلْدِي عَلَى مَقَاسِ الْحُلْمِ وَالْمِدْخَنَةُ تَرْتَدِي رَبْطَةَ عُنُقٍ مِنَ الْكِتَّانِ الْمَهْجُورِ وَالْبَحْرُ حَزِينٌ لأَنَّهُ أَضَاعَ مِحْفَظَةَ نُقُودِهِ فِي الْحَافِلَةِ.

 

إِنَّهُ يَجْمَعُ الْيَاقُوتَ فِي الْوَطَنِ الْحَجَرِيِّ

 سَأَنْتَظِرُ أَنْ تَنْمُوَ أَسْوَارُ الْخَوْخِ عَلَى فُوَّهَةِ مِدْفَعٍ مُلْقَى فِي غَابَةٍ مِنْ فَوْضَى الْبِلَّوْرِ إِبْرَةِ الضَّبَابِ الْقُرْمُزِيِّ. لِي عَاجُ الطُّوفَانِ وَتَحْتَ أُذُنِي أَدْغَالُ حُرُوفِ الضَّوْءِ مِثْلَمَا تَحْبَلُ نَخْلَةُ الذَّاكِرَةِ بِالدِّينَامِيتِ وَالْغِزْلانِ الْبَرِّيةِ أَنْثُرُ سِحْنَتِي عَلَى صَنَوْبَرِ الْمَقَابِرِ وَأُحَمِّلُ أَكْيَاسَ ذِكْرَيَاتِ الشَّمْسِ عَلَى ظُهُورِ الْخَيْلِ.

 قَالَتْ أُنْثَى الشَّلالِ: «سَيَأْتِي الْحِصَارُ مِنْ هُنَاكَ». وَأَشَارَتْ إِلَى أَبْجَدِيَّةِ النُّحَاسِ الْخَام. ذَكِّرِينِي يَا مَدِينَةَ الْمَوْجِ بِأَلْقَابِ التِّلالِ فِي أَكْتَافِ الْقَلْبِ. نَافِذَتَانِ مُتَوَسِّطَتَا الْحَجْمِ فِي كَفِّ إِحْدَى الْيَتِيمَاتِ حَيْثُ يَعِيشُ فَرْخُ السُّكُوتِ مَعَ رَائِحَةِ السِّيلِيكُونِ الْبَرِّيِّ. زِنْزَانَتِي الانْفِرَادِيَّةُ وَطَنٌ عَاصِمَتُهُ الْفَرَاشَةُ الصَّارِخَةُ. وَمَمَالِكُ الشَّبَقِ تَغْزِلُهَا ابْتِسَامَةُ تَلَّةٍ عَلَى ظَهْرِ عَنْكَبُوتِ الْمَنَافِي. يَا صِيَاحَ جِدَارِ الشَّعِيرِ فِي دَمِ زَهْرَةِ اللوتِسِ ذَكِّرْنِي بِاسْمِي فَوْقَ مُنْحَدَرَاتِ الْبُكَاءِ وَكُنْ وَجْهَاً خَامِسَاً لِلْعُشْبِ حِينَ يَزْأَرُ التُّوتُ.

 لَمْ أَحْمِلْ جُثْمَانَ أَبِي فِي حَقِيبَةِ سَفَرِي. وَلَمْ تَأْخُذِ القُبُّرَاتُ أَكْفَانَ الْبُوسنِيَّاتِ تِذْكَارَاً. سَلامَاً أَيُّهَا الْبَرْقُ الَّذِي يَسْتَأْجِرُ ظِلَّ السُّنُونُو. إِنَّ السَّفَرْجَلَ الصِّنَاعِيَّ عَلَى سَبُّورَةِ الْحِصَارِ لَكِنَّ رِئَاتِ النَّخْلِ تَقَاسَمَتْهَا حِرَابُ الأُمَوِيِّينَ. كَفَنُ عُصْفُورَةٍ يَقُودُ دَرَّاجَةً طِينِيَّةً فِي أَرْيَافِ الرِّئَةِ الْجَنُوبِيَّةِ. لأَنَّ نَوْمِي عُقَابٌ لا تَدْعُونِي قِلاعُ الْكَرَزِ لِحُضُورِ جَنَازَتِهَا غَيْرِ الرَّسْمِيَّةِ وَالْغُرَبَاءُ يَحْتَفِلُونَ بِغُرْبَتِهِمْ.

 صَحْرَاءُ فِي مَسَاحَاتِ أَقْمَارِ الْجِرَاحِ. لِلضَّيَاعِ مَنَادِيلُ جَدَّةِ الْمَوْجِ. بِطِّيخَةٌ تَحْتَسِي ضَوْءَ الْمَشَانِقِ وَدَرَجَ النَّهْرِ. تَكَلَّمَتْ أَنْفَاقُ عُمُرِي هَذِي غَابَاتُ الصَّدَى وَالْوَرْدَةُ طَابُورٌ مِنْ حَمَامَاتِ التَّجْنِيدِ الإِجْبَارِيِّ. سَأَمْسَحُ اسْمَ الْقَمَرِ مِنْ هُوِيَّةِ الليْلَكِ. عُودِي إِلَى كُهُوفِ الدَّمْعَةِ لأَتَذَكَّرَ اسْمِي عِنْدَ نُمُوِّ الْغُرُوبِ عَلَى كُرَّاسَاتِ الرَّعْدِ وَالْبَرْقُوقُ غَدُ مَنْ لَيْسَ لَهُ شَاهِدُ قَبْرٍ فِي حَافِلاتِ النَّرْجِسِ فَانْهَضْ شَجَرَاً خَالِيَاً مِنْ قَرْمِيدِ الشَّلالاتِ الدَّامِعَةِ وَكُنْ صَدِيقَ الْغَيْمِ يَوْمَ يَمُوتُ الْغَيْمُ الأَخْضَرُ فِي رَوَابِينَا الثَّائِرَةِ مَوْزَاً وَيُسَجِّلُ سَقْفُ النَّزِيفِ أَبْنَاءَهُ فِي مَدْرَسَةِ الدِّينَامِيتِ نَهَضْتَ فَلْتَبْكِ لأَنَّ حَنِينَ أَشْجَارِ الْمَلاحِمِ هَبَاءٌ وَخَوْخَةٌ لِلطُّوفَانِ الْقَادِمِ لَيْتَ الأَرْضَ تَسْتَلْقِي فِي كِرِيستَالِ الْحَرْفِ وَسَجَاجِيدِ الصَّاعِقَةِ فَالْمَسَامِيرُ تُثَبِّتُ آذَانَ الْعَاصِفَةِ عَلَى جِدَارِ آخِرِ أَيَّامِي لَمْ أَعُدْ غَيْرَ تَرْنِيمَةٍ عَابِرَةٍ تُرَدِّدُهَا تِلْمِيذَاتِي فِي لَيْلَةِ عِيدٍ يَنْتَظِرُهُ الْفُقَرَاءُ تَحْتَ أَعْمِدَةِ الضِّيَاءِ. وَالبَغَايَا يَتَبَوَّلْنَ عَلَى أَضْرِحَةِ الصَّنَوْبَرِ. شَعْبٌ مِنَ اللبُؤَاتِ الْمُحْتَضِرَةِ مَتَى يُولَدُ مِنْ عُشْبِ الْمَرَاعِي؟. بُحَيْرَاتٌ لا تَعْرِفُ إِلا الْجِنْسَ فَلْتَمُتْ لأَنَّ الْغَابَ نَوَافِذُ الْقَلْبِ الأَخِيرَةِ. لِلْحِصَارِ أَعْضَائِي وَمُشْمُشُ الْمِقْصَلَةِ.

 هَجَمَ عَلَيْنَا تُرَابُ الْغُرَبَاءِ. بَيْنَ اسْمِي وَالْكَسْتَنَاءِ عُودُ مِشْنَقَةٍ عَابِرَةٍ فَاعْبُرْ شَجَرَكَ الْمَيِّتَ وَقَبِّلْ زَهْرَةَ الثَّلْجِ الْمُشْتَعِلِ زَعْتَرَاً وَلَيْلاً.

 أَيُّهَا الطِّفْلُ الْمَسْلُوخُ عَلَى رَبْطَةِ عُنُقِ الشَّلالِ. سَتَقْتَحِمُ ضَوْءَ الْغُبَارِ وَرْدَةُ الْقَتِيلَةِ. وَيُنِيرُ مَغَارَةَ الأَمْوَاجِ حَطَبُ الرَّعْشَةِ. اتْلُ وَصِيَّةَ الْبَيْلَسَانِ عَلَى مَسَامِعِ زَيْتِ الزَّيْتُونِ. أَهَازِيجُ الرَّمْلِ ذُبَابَةُ جُرْحٍ. يَا شَجَرَةَ الْمَوْتَى، اجْمَعِي ثِيَابَكِ وَارْحَلِي مِنْ نَشِيدِي. تَحْمِلُ الأَمْطَارُ أَغَانِي الرُّعَاةِ إِلَى مُعَسْكَرَاتِ الرَّمَادِ الْمَخْمُورِ.

 عُدْ إِلَيْنَا يَا سَمَكَ الثَّوْرَةِ نَحْنُ الْمُعَلَّقِينَ عَلَى الشَّفَقِ كِتَابَاً مَفْتُوحَاً لِلْبَعُوضِ السَّكْرَانِ. لِنُحَاسٍ يَتَقَمَّصُ حَشَائِشَ الْبُرُوقِ فِي أَمْعَاءِ الرِّمَالِ، لِحَدِيدٍ يَزُورُ غُرُوبَ الْبَحْرِ السَّاقِطِ فِي دَفَاتِرِ عَرَقِي تُولِمُ الصَّاعِقَةُ. الْتَصَقَ الدَّمْعُ بِالْهَوَاءِ الْمَارِّ فِي أَكْبَادِ سَيَّارَةٍ يَرْكَبُهَا الْمَوْجُ. وَالْمُحَارِبُ وَضَعَ رُمْحَ الذَّاكِرَةِ عَلَى طَاوِلَةٍ تَمْشِي فِي تَوْقِيتِ السُّيُوفِ. وَجَعُ الْمُذَنَّبِ رَأَى جُثَثَ الْمُلُوكِ عَلَى فُوَّهَاتِ مَدْخَلِ الْبَارِ. وَالْغَرِيبُ يَمْشِي عَلَى مَعِدَتِهِ الْمَنْثُورَةِ عَلَى الشَّاطِئِ الْوَحِيدِ.

 عُشْبَةٌ نَسِيَهَا مُؤَرِّخُو الْجَلِيدِ. أَنْيَابُ جِدَارٍ مِنَ الْبِلاتِينِ. تُهَاجِرُ الْحِيتَانُ مِنْ بَنْكِرْيَاسِي لِتُفَتِّشَ عَنْ حُبِّهَا الأَوَّلِ. وَالْغَيْمَةُ تَشْرَبُ قَهْوَتِي فِي حُصُونِ الليْلَكِ. وَفِي زَحْمَةِ زِيجَاتِ الْمُتْعَةِ لَمْ تَعُدِ الشِّيعِيَّةُ تَتَذَكَّرُ مَنْ مَزَّقَ غِشَاءَ بَكَارَتِهَا.

 

جَدَّتِي الأُمِّيةُ تَضَعُ آخِرَ نَظَرِيَّاتِهَا

 غَابَةٌ مِنَ اللازَوَرْدِ تَلْتَقِي بِعَشِيقِهَا مُقَابِلَ قَبْرِي الْمَطْمُوسِ وَيَتَبَادَلانِ الأَكْفَانَ الْجَاهِزَةَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الدَّوَامِ الْمَدْرَسِيِّ. جَسَدِي مَطَرُ الْيَاسَمِينِ اشْرَبِينِي يَا تُرْبَةَ أَضْرِحَةِ السِّنْجَابِ الْكريستَالِيَّةِ. حَوْلَ مَعَاطِفِ الْمَجَرَّاتِ يُزْرَعُ الصَّخْرُ الزَّيْتِيُّ وَيَنْمُو إِجَاصَاً ثَوْرِيَّاً يُظَلِّلُ عُنْفَ الرَّبِيعِ وَحُرُوفَ مَنْ مَاتُوا قَبْلَ أَنْ يَقُولُوا كَلِمَةَ السِّرِّ وَيَفُكُّوا شِيفرَةَ الدَّمْعِ. وَالنِّسَاءُ اللوَاتِي مَلَلْنَ مِنْ مُمَارَسَةِ الْجِنْسِ فَمَارَسْنَ الثَّقَافَةَ كَسْرَاً لِلرُّوتِينِ.

 أَخِي الْقَمَر، أَيُّهَا الْمَلِكُ الْمُتَوَّجُ عَلَى أَحْزَانِي رَغْمَ أَنْفِ الأَناناسِ. إِنَّ الْبَرْقَ أَوْصَانِي أَلا أُعْطِيَ قَلْبِي لِغَيْرِ الشَّرْكَسِيَّاتِ. دَخَلْتُ إِلَى اسْمِ الْفَرَاشَةِ أَقْرَضْتُ كَبِدِي طَبْشُورَ الدِّمَاءِ وَأَعْطَيْتُ لِلصَّوَاعِقِ عُنْوَانَ أَمْسِ الْعُشْبَةِ. لِلْبَرِيدِ _ الَّذِي ضَيَّعَهُ الأَسَفُ _ وَجْهُ النَّخِيلِ. وَهَذَا الصَّبَاحُ بُرْتُقَالَةٌ لِلأَسْرَى. الْبَطَاطَا الْمَقْلِيَّةُ وَالْجُثَثُ الْمَقْلِيَّةُ وَالْوَطَنُ الْمَقْلِيُّ. رَمَيْتُ دَمِي فِي طُحَالِ تُفَّاحَةٍ. شَعْرِي سَوْسَنَةٌ تَخْرُجُ مِنْ حُكْمِ الإِعْدَامِ لِتَقْضِيَ فَتْرَةَ النَّقَاهَةِ. رُبَّمَا يُؤَخِّرُونَ شَنْقِي كَيْ تَلْعَبَ الأَمِيرَةُ كُرَةَ السَّلَّةِ فِي قَسَمَاتِ وَجْهِي.

 جَدَّتِي تَحْمِلُ جُغْرَافِيَّةَ الْقَصِيدَةِ فِي مِنْدِيلِهَا وَتَهْزِمُ الْحَطَبَ الْفَيْلَسُوفَ. كَرَاسِي الْمَسْرَحِ الْمَذْبُوحِ. لِلأَرْضِ دَوِيُّ نَحْلَةِ الْمَنْفَى. يُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنَّ الْعَصْفَ لا يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّ سِحْنَةَ النَّارِ زِلْزَالُ أَجْسَادٍ مَشْوِيَّةٍ فَاصْعَدْ مِنْ أَنْقَاضِ الْبَيْلَسَانِ كَنَافِذَةٍ تُشْرِفُ عَلَى مَزْرَعَةِ جَمَاجِمَ لَعَلَّ الْبِطِّيخَ يُفْضِي إِلَى شَرَارَةِ حِكَايَةٍ تَبْدَأُ مِنَ النِّهَايَةِ.

 قُلْتُ لِلرُّعُودِ إِنَّ أَسْمَاكَ الانْقِلابِ تُفْرَشُ عَلَى طَاوِلاتِ الْمَلْهَى الليْلِيِّ فَلَمْ يُصَدِّقْنِي السَّيْفُ الْهَارِبُ مِنْ غِمْدِهِ. وَطَائِرُ الذَّاكرةِ يَزْرَعُ الْخُشْخَاشَ فِي حُفَرِ الْمَعْنَى وَيَبْصُقُ الْعَبِيدُ صُدُورَهُمْ تَحْتَ حَجَرِ الرَّحَى. وَالْمَنَافِي الْمُرَقَّمَةُ تَتَفَرَّسُ فِي وُجُوهِنَا الْمَحْجُوزَةِ. دَمِي لا تَحْتَمِلُهُ الطُّرُقَاتُ لا يُحْمَلُ. هُوَ الْحَامِلُ لأَشْوَاقِ صُخُورِ الشَّفَقِ. حَبِيبَةُ الْقَمَرِ تَتَوَزَّعُ فِي الرُّخَامِ الْقَتِيلِ. وَالْجِرَاحُ الْكِلْسِيَّةُ خَلْفَ صَخْرَاتِ النَّحِيبِ. وَبَكَيْتُ فِي غُرْفَةِ الْفُنْدُقِ وَحِيدَاً لَكِنَّ دَمْعِي لا يَلِيقُ بِعُيُونِ قَارَّةِ الرَّجْفَةِ.

 كَانَ الْقَوَّادُونَ مَشْغُولِينَ بِاصْطِيَادِ الْمَوْجِ فِي وُجُوهِ الذُّبَابِ. وَكُنْتُ مَشْغُولاً بِتَوْزِيعِ أَعْمِدَةِ الضِّيَاءِ عَلَى قُصُورِ الزَّبَدِ الْمَزْرُوعَةِ فِي أَجْفَانِ الْمَهَا. بَشَرٌ يَحْتَسُونَ سِمْفُونِيَّةَ الْعَارِ مُسْتَلْقِينَ بَيْنَ أَفْخَاذِ الْوَحْلِ. يَتَنَاسَلُ الصُّرَاخُ عَلَى سَجَاجِيدِ الْغِيَابِ. وَتَتَرَاكَمُ فِي أَعْضَاءِ الْمَنْسِيِّينَ هِضَابٌ مِنَ الْكَهْرَمَانِ الَّذِي يُقَلِّدُهُ الرَّمْلُ النَّازِفُ أَوْسِمَةَ الضَّبَابِ فِي الْمَنَافِي الْجَلِيدِيَّةِ فَأَيُّ قَمْحٍ سَوْفَ تَتَسَلَّقُهُ قَامَةُ الْوَحْلِ فِي أَعْيَادِ الْجَرِيمةِ؟.

 حَفْنَةُ طَوَاوِيسَ ذَبِيحَةٍ تَتَكَدَّسُ كَالأَمْوَاجِ الْبَاكِيَةِ فِي إِسْطَبْلِ الدُّخَانِ. لِمَاذَا تُدَوِّنُ الْمِدْخَنَةُ مَوَاعِيدَ حُضُورِ الْبُحَيْرَةِ إِلَى شَكْلِي الَّذِي يَغِيبُ فِي دِمَاءِ الصَّبَاحِ؟. تِينَةٌ مُغْتَصَبَةٌ فِي الرِّيفِ الإِنجلِيزِيِّ. ثِيَابِي فِي خِزَانَةِ غُرْفَةِ التَّحْقِيقِ. سِيجَارَةٌ تَمْتَصُّ الْخَوْخَ الْمَشْنُوقَ عَلَى شِفَاهِ الْمُحَقِّقِ فَاهْبِطْ فِي سِرْدَابِ كَبِدِي لأَلْتَقِيَ بِسِحْنَتِي الَّتِي فَرَّتْ مِنْ وَاجِهَاتِ الْمَحَالِّ التِّجَارِيَّةِ.

 نَمْلَةٌ تُسْحَقُ تَحْتَ أَنْيَابِ السَّوْسَنِ مَنْ يَعْبَأُ بِهَا؟. وَأَتَتْ أَشْلاءُ النَّوْرَسِ مِنْ صَوَامِعِ الْحُبُوبِ لَكِنَّ الْجُنُودَ يَمْضُغُونَ عِلْكَةَ الْهَزِيمةِ. يَحْرُسُ أَرْزَةَ الْحِصَارِ عُرْسُ النَّهْرِ الْعَابِرِ فِي مِنْجَلِ الرُّمُوشِ الْبِلاستِيكِيَّةِ. قَدْ يَنْسَانِي حِبْرُ الْخَرِيفِ عَلَى مِرْسَاةِ الشِّتَاءِ. وَالسِّيَاجُ الْجَسَدِيُّ يَتَّخِذُ عُمُرِي سَبُّورَةً لِعَصَافِيرِ الْحِرْمَانِ وَنُهُوضِ الصَّفِيحِ الْمُلَوَّنِ مِنْ نَوْمِ اللاجِئِينَ. فَلا تَتَذَكَّرُوا عُكَّازَتِي الَّتِي يَتَّكِئُ عَلَيْهَا شَنْقُ الْحَجَرِ. انْتَهَتْ جَنَازَةُ الْحَمَامِ فَبَدَأَ السَّمَاسِرَةُ يُزَيِّنُونَ غَابَاتِ الْجُوعِ. رُبَّمَا يَمُرُّ فِيهَا مَوَاكِبُ انْتِحَارِ النَّعَّامَاتِ. مَقَاصِلُ تَقُودُ دَرَّاجَةً فِي الرِّيفِ الْمَحْذُوفِ مِنَ الْخَارِطَةِ. مَاذَا تَسْتَفِيدُ الطَّبَاشِيرُ مِنْ لَوْنِهَا حِينَ تُرْمَى فِي سَلَّةِ مُهْمَلاتٍ كَانَتْ صَالَةَ قِمَارٍ؟.

 لِخَشَبَةٍ تَعْمَلُ مُذِيعَةً عَلَى مِنَصَّةِ الإِعْدَامِ يَهْتِفُ السِّجَّادُ الْفَاخِرُ. كُلُّ مَا حَوْلِي يَغْتَالُنِي لَكِنَّنِي الشَّاهِدُ عَلَى مَوْتِ الأَشْيَاءِ. قَلْبِي وَالشَّارِعُ أَمَامَ قَبْرِي بَكَيَا مَعَاً. أَقْبُرُ سَيَّارَاتِ التَّاكسِي فِي وَرِيدِ الْيَنْبُوعِ وَيَحْمِلُ الصُّبْحُ فِي حَقِيبَتِهِ اللبُؤَاتِ الْعَقِيمَةَ. إِنَّنِي مَنْفِيٌّ دَاخِلَ قَصِيدَتِي فَلا تَتْرُكْنِي مُنْسَابَاً بَيْنَ أَعْوَادِ الثِّقَابِ أُفَتِّشُ عَنْ قَاتِلِ أَبِي. شَجَرَةُ نَسَبِي تَنْمُو فِي بَارُودِ الثَّوْرَةِ. لَمْ يَبْقَ مِنِّي غَيْرُ مَدِينَةٍ تُلاحِقُنِي. لِكُلِّ وَجْهٍ نَزِيفٌ خَاصٌّ بِهِ.

 انْطُقِ اسْمِي أَيُّهَا الرَّعْدُ وَعَلِّمْنِي كَيْفَ أُصَادِقُ النَّيَازِكَ. خُذْنِي إِلَى أَبْجَدِيَّتِي لأَتَعَلَّمَ كَيْفَ اتَّحِدُ بِالْمَرَايَا دُونَ وَدَاعٍ فِي مَحَطَّةِ الْقِطَارَاتِ. سَاعَةُ حَائِطٍ فِي الزِّنْزَانَةِ لِكَيْ تَجْرَحَ أَوْقَاتُ الصَّدَى نَبَاتَاتٍ تَفْتَرِسُ الثَّوَانِي الْمُذَهَّبَةَ وَالْعَاجَ الْمُشَرَّدَ. وَالْحِيطَانُ تَتَبَوَّلُ عَلَى السُّجَنَاءِ.

 

مَوْتُ أسْتَاذِ الرِّيَاضِيَّاتِ

 رَكَضَت النَّجْمَاتُ إِلَى طَاوِلَةِ الصَّدَى وَأَتَى الْمَغُولُ. مُقَامِرُونَ يَجْلِسُونَ حَوْلَ أَتْرِبَةِ الشُّهُبِ. لا تُتَوِّجْنِي مَلِكَاً عَلَى هَذَا الْغُبَارِ الْبُرْتُقَالِيِّ وَالْفَرَاغِ الْمَدْهُونِ بِالْفِضَّةِ الْعَابِرَةِ. إِنَّكَ وَشَقٌ مُخَصَّصٌ لِلذَّبْحِ لِلْوَرْدَةِ الضَّامِرَةِ. وَالْمِقْصَلَةُ تُنَظِّمُ دَقَّاتِ قَلْبِ الشَّعِيرِ. خَرَجَ وَجْهِي مِنْ أَنَابِيبِ الدِّمَاءِ كَوْكَبَ قَشٍّ. إِنَّ مِعْطَفَ الْبُحَيْرَةِ يَبَابٌ مَصْبُوغٌ بِالْبَيَادِرِ الْعَطْشَى كَازْدِحَامِ جَدْوَلِ أَعْمَالِ الْمُومِسَاتِ كَالْفُقَرَاءِ الَّذِينَ يَتَقَاتَلُونَ عَلَى مَقْعَدٍ فِي الْبَاصِ كَرِجَالِ الأَمْنِ الَّذِينَ لا يَقْبِضُونَ إِلا عَلَى الْمُشَرَّدِينَ. لِصٌّ يَغْرِسُ فِي قَمِيصِهِ صُورَةَ غِيفَارَا الانْتِحَارِ. لَمْ تَعِشْ يَا أَبِي لِتَرَى اسْمِي فِي قَوَائِمِ الْمُشْتَبَهِ بِهِمْ.

 قُولِي أَعْشَقُ الْغَيْمَ الذَّهَبِيَّ لأَعْرِفَ شَكْلَ مَذْبَحَتِي. أَتَوْا مِنْ حَيْثُ يَمُوتُ الْمَسَاءُ الْقَمْحِيُّ فِي أَحْضَانِ الْغَسَقِ. تَصْعَدُ الْقَصَائِدُ مِنْ حِبَالِ الْمِشْنَقَةِ الْمُنْكَمِشَةِ كَعَضَلاتِ الشَّحَّاذِينَ. الْجَسَدُ عُنْفُوَانُ الْفِضَّةِ. وَفِي بَنْكِرْيَاسِ الْبَحْرِ سُوقُ نِخَاسَةٍ. أَيْنَ النَّخَّاسُونَ الْعَابِرُونَ فِي ذَيْلِ فَرَسِ النَّهْرِ؟.

 يَفْتَرِسُ رِئَتِي طَائِرُ اللقْلَقِ. تَضُمُّنِي ثِيَابُ الأَكْوَاخِ الْعَارِيَةِ. كُلَّمَا مَرَرْتُ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي افْتَرَقْنَا فِيهِ طَوَّقَتْنِي إِشَارَاتُ الْمُرُورِ فِي الْمَنَافِي. لا تُصَدِّقِ الْبُحَيْرَةَ إِذَا قَالَتْ إِنَّهَا تَكْرَهُنِي. دَمُنَا الأَرْصِفَةُ الدَّاكِنَةُ عَلَى الْغُصُونِ. مَا زَالَ وَجَعِي وَاقِفَاً عَلَى بَابِ الْعِمَارَةِ يَحْرُسُ خِيَامَ اللاجِئِينَ وَالْكُرْسِيَّ الْمُتَحَرِّكَ لِجَارِنَا. وَالْجُنُونُ يَنْشُرُ الْغَسِيلَ عَلَى حِبَالِي الصَّوْتِيَّةِ وَمَقُولاتِ الإِسْفَلْتِ الشَّاهِدِ عَلَى اغْتِيَالِ الْمَاءِ.

 يَا وَطَنَاً تَتَكَسَّرُ فِي أُذُنَيْهِ الأَنْهَارُ كَأَعْوَادِ الثِّقَابِ. خُذْنِي إِلَى بَرِيقِ السُّيوفِ الْمُعَلَّقَةِ فِي سَقْفِ حَلْقِي. أَعْلَنَتِ الشَّمْسُ وَصِيَّةَ الْفَرَاشَةِ: «انْتَظِرُوا الْفَجْرَ الْقَادِمَ مِنْ جُرْحِي». بَعْثَرَنِي الْمَسَاءُ عَلَى حِبَالٍ مِنَ الْكِتَّانِ مَجْدُولَةٍ مِنْ ضَوْءِ الْيَنَابِيعِ. أَجُرُّ حُرُوفَ الْجَرِّ بِأَصَابِعِ دُمْيَةٍ قُطْنِيَّةٍ تَغْسِلُ حِجَارَةَ النَّيَازِكِ بِعَرَقِ الْوُرُودِ. بَيْنَنَا حُدُودٌ لِلْفُلِّ وَالْمَقَاصِلِ. تَدْخُلُ أَفْكَارُ الصَّحَارِي فِي ثُقْبِ إِبْرَةٍ نَسِيَهَا الطُّوفَانُ فِي قَمِيصِي. ارْكُضْ نَحْوَ غَابَاتٍ تَحْتَرِفُ النِّسْيَانَ وَتَحْتَرِقُ فِي دِمَاءِ الشَّفَقِ.

 جَرَسٌ غَامِضٌ مَزْرُوعٌ فِي بَابِ جُرْحِي. كُلَّمَا تَنَاثَرَتْ أَعْضَائِي عَلَى جُدْرَانِ الْمَجَرَّةِ احْتَوَتْ حُرُوفِي أَبْجَدِيَّةُ الْبَحْرِ. خُذُوا مَا سَقَطَ مِنْ إِنْسَانِيَّةِ الرَّمْلِ تِذْكَارَاً لأَيَّامٍ تَنْسِجُ الصَّخْرَ الزَّيْتِيَّ ثَوْبَاً لِلْوَجْهِ الْمُلْتَصِقِ عَلَى زُجَاجِ الْحَافِلاتِ. وَالشَّحَّاذُونَ يُقَبِّلُونَ مَنَادِيلَ الْبَيْلَسَانِ السَّاقِطَةَ فِي حُفَرِ الْمَجَارِي. يَرِنُّ الْمَسَاءُ كَالْجَوَّافَةِ الثَّائِرَةِ فِي مَيَادِينِ الْعُمُرِ. هَلْ يَذْكُرُ خَشَبُ الْمَرَاكِبِ أَشْكَالَ جُثَثِ الْبَحَّارَةِ الْمُبْحِرَةِ فِي الصُّوفِ الصَّخْرِيِّ؟. لا رَمَدٌ حَوْلَ عُيُونِ الْبُحَيْرَةِ وَلا تَلاتٌ. فِي قَرْيَةٍ مَحْمُولَةٍ عَلَى أَكْتَافِ السُّنُونُو يَغْفُو النَّهْرُ كَالْعَذْرَاءِ الْعَائِشَةِ مَعَ مُسَدَّسَاتِ خَطِيبِهَا. أَسْتَيْقِظُ عَلَى ضِفَّةِ النَّهْرِ صَارِخَاً فِي التِّلالِ الْمُجَاوِرَةِ: «اذْكُرِينِي مِثْلَمَا يَذْكُرُ الْمَنْبُوذُ ابْنَةَ عَمِّهِ الْجَرِيحةَ».

إِنَّهُ الصُّرَاخُ وَجْهَانِ مُنْحَرِفَانِ عَنْ خَطِّ الاسْتِوَاءِ. سَأَتْرُكُ خُصْلاتِ شَعْرِي عَلَى حُدُودِ الْمُذَنَّبَاتِ وَأَذْهَبُ إِلَى صَلاةِ الْعَصْرِ فِي غَابَةِ الشُّمُوسِ. أَحْبَبْتُ دَمَاً يَتَقَلَّصُ تَدْرِيجِيَّاً فِي طُبُولِ الْقَبَائِلِ الْمَهْزُومَةِ. لَمْ تُحِبَّ الْمَرَاعِي مِزْمَارَ الرَّاعِي. وَهَذَا حَقُّهَا الْمَكْفُولُ فِي دُسْتُورِ مَذْبَحَتِي. كِتَابٌ أَلَّفَهُ الرَّعْدُ فَقَرَأَهُ الْيَنْبُوعُ بَعْدَمَا تَقَاعَدَ مِنَ الْوَظِيفَةِ الْحُكُومِيَّةِ. هَذِي بِلادِي تَصْلُبُنِي كُلَّ يَوْمٍ لأَنِّي أُحِبُّهَا أَكْثَرَ مِنْ تَارِيخِ إِعْدَامِي. حَفِيدَاتُ الْمَلِكَةِ فِكْتُوريَا يُتَرْجِمْنَ مِشْنَقَتِي إِلَى لُغَةٍ يَفْهَمُهَا الْعَصْفُ وَلا يَفْهَمُهَا بُرْجُ الْمُرَاقَبَةِ فِي الْمُعْتَقَلاتِ السِّرِّيةِ.

 اجْمَعْنِي تَرَ قِلاعَ الذِّكْرَى تُرَفْرِفُ حَوْلَكَ كَمِقْصَلَةٍ تَائِهَةٍ تُفَتِّشُ عَنْ رَأْسٍ تَائِهَةٍ. لِلزَّهْرِ لَمَعَانُ الْخَنَاجِرِ عَلَى رِقَابِ الْعَبِيدِ. إِنَّ رُومَا أَقْبِيَةُ الْجَوَارِي خَارِجَ مِسَلاتِ الْبَرْقُوقِ. ثَارَ النَّزِيفُ فِي غَيْمٍ يَتَكَدَّسُ عَلَى حَبْلِ غَسِيلٍ. لِي وَرْدَةُ الْقَتْلَى وَوَصِيَّةُ الْقَتِيلِ. إِلَى قَلَمِ الرَّصَاصِ تَمْشِي الرُّؤُوسُ الآيِلَةُ لِلسُّقُوطِ. وَالْعُشْبُ يَبْصُقُ عَلَى الْبَلاطِ وَيَمْشِي كَأَنَّهُ أُهْزُوجَةُ الْغُبَارِ الْبُرُونزِيِّ. لا شَيْءَ فِي غُبَارِ مَكْتَبَةِ الصَّحْرَاءِ يَسْتَحِقُّ هَذِهِ الْمَقَاصِلَ.

 تَرَيَّثْ قَلِيلاً أَيُّهَا الْمَوْجُ. أَمْهِلْنِي حَتَّى أُجَهِّزَ أَشْلائِي لِحُضُورِ احْتِفَالاتِ الْعِيدِ الْوَطَنِيِّ لِلْخَوْخِ. مَا جَدْوَى الْحُبِّ إِذَا لَمْ يَجِدْ شَجَرَاً يُظَلِّلُهُ؟. سَلامٌ لِبِنْتٍ قَدَّمَهَا أَهْلُهَا عَلَى الْمَذْبَحِ. لِغُصْنٍ يَطْلُعُ مِنْ أَرَقِ الْمَجَرَّاتِ. لا أَبْنَاءَ لِي يَرِثُونَ مَجْزَرَةَ أَبِيهِمْ. يَا أَيُّهَا الْوَطَنُ الْمُعَبَّأُ فِي زُجَاجَاتِ الْعَصِيرِ الذَّاهِبَةِ إِلَى التَّصْدِيرِ. أَنَا الْوَدَاعُ الرَّصَاصِيُّ فِي الْمَرْفَأ الْمَهْجُورِ فَلا تُوَدِّعْنِي إِذَا رَأَيْتَ مَشْرَحَتِي عَلَى أَطْرَافِ الْمَجْمُوعَةِ الشَّمْسِيَّةِ. لِي ذُهُولُ الأَطْفَالِ الشَّاهِدِينَ عَلَى شَنْقِ أُمَّهَاتِهِمْ وَدَهْشَةُ بَنَاتِ حَيِّنَا وَهُنَّ يَنْتَظِرْنَ الْخَاطِبِينَ وَرَاءَ سَتَائِرِ الْجُرْحِ الْمَعْدَنِيِّ. أَعْطَيْتُ أَنِينِي لِلأَشْجَارِ النَّازِفَةِ وَالْتَحَفْتُ صَوْتِي وَجَعَ الْعَاصِفَةِ.

 

تَمَارَا تَجْلِسُ عِنْدَ قَبْرِي

 دَمْعِي الزَّرْعُ الْعَاصِفُ وَأَتَى الْحَصَادُ فِي مَوَاسِمِ الْبُكَاءِ الأَخْضَرِ. تَنْقُرُ الْبَلابِلُ أَجْزَاءَ مَرَضِي. وَسُعَالِي يَحْمِلُهُ الْحَمَامُ الزَّاجِلُ إِلَى أَلْوَانٍ تُعَلِّقُنِي عَلَى بَوَّابَاتِ الْمُدُنِ الأَسِيرَةِ نَحِيبَاً لِمِكْنَسَةٍ تَهْتِفُ لِلْجُنُونِ. وَتَبْنِي الْبُحَيْرَاتُ الآسِنَةُ أَعْشَاشَهَا فِي ظَهْرِي الَّذِي يَثْقُبُهُ الْحَنِينُ. الْجَسَدُ هُوَ الْمَطَرُ الْمِلْحِيُّ وَالْقُرْبَانُ الْمَعْدَنِيُّ.

 فَتَمَهَّلْ يَا نَزْفِي حَتَّى أَرْثِيَ طُيُورَ الْمُسْتَحِيلِ. فِي نَزْفِي شُبَّاكٌ يُطِلُّ عَلَى نَزِيفِ الشَّجَرِ. وَالدِّبَبَةُ الْقُطْبِيَّةُ تَسْتَأْجِرُ مَشَاعِرَ الأَنْهَارِ. وَجَعِي مَحْصُورٌ بَيْنَ بُرْتُقَالَتَيْنِ. إِنَّ دَمْعَاتِي الطُّعْمُ وَقَلْبِي الصَّيَّادُ الْمُتْعَبُ لَكِنَّ الضَّرَائِبَ أَرْهَقَتِ الشَّفَقَ الْوَحِيدَ. عَرَقُ الْحِرْبَاءِ يَغْلِي فِي شَمْسِ الأَرْيَافِ. بِنْتٌ تَجْلِسُ عِنْدَ قَبْرِ الْكَسْتَنَاءِ قَبْرِي تَنْتَظِرُ قِطَارَ الْبَجَعِ وَالْغَيْمَاتِ الَّتِي تَنْقُلُ الْمَشْنُوقِينَ. هِيَ السِّنْدِيَانَةُ تُخَبِّئُ تَحْتَ إِبْطَيْهَا صَوَامِعَ الْحُبُوبِ وَشَلالاتِ أَفْرِيقيَا ضَرِيحٍ يَسْبَحُ فِي الْقَرْمِيدِ.

 لَحْمِي مَنْذُورٌ لِلْهُتَافِ عَلَى سَطْحِ الدِّمَاءِ السَّمْرَاءِ. دَخَلْتُ فِي عُزْلَةِ الرَّعْدِ الْبَنَفْسَجِيَّةِ. رِئَتِي تَنْقَلِبُ عَلَى رِئَتِي وَلَيْسَ الْمَسَاءُ إِلا خَوْخَاً ذَبِيحَاً. يَطْلُعُ النَّخِيلُ الدَّامِعُ مِنْ مَسَامَاتِ جِلْدِي. وَيُقِيمُ الصَّفْصَافُ الطَّرِيدُ مَوْقِفَ سَيَّارَاتٍ فِي لُعَابِي. سَرْوَةٌ تَنْمُو عَلَى أَجْنِحَةِ الصُّقُورِ وَسَلالِمِ الْقَلْبِ. عَصَافِيرُ الشَّعِيرِ تَقَاسَمَتْهَا سُيُوفُ الْغُرْبَةِ. إِنَّ وَجْهِي حِرَاثَةُ حُقُولِ الدَّمْعِ. غَسَّلَتْنِي الْمَجَرَّاتُ وَكَفَّنَتْنِي الْيَنَابِيعُ وَدَفَنَتْنِي الْفَرَاشَاتُ لَكِنَّنِي مَا زِلْتُ أَرْكُضُ إِلَى قَلْبٍ أَحَبَّنِي تَذُوبُ فِيهِ عُقَدُ حَبْلِ مِشْنَقَتِي الْقَدِيمِ. وَالْخَرُّوبُ الْمَطْرُودُ يُغَنِّي لِنَحْلَةٍ مَشْلُولَةٍ تُرَاقِبُ جَنَازَةَ الشُّطْآنِ الْمَنْفِيَّةِ مِنْ بَعِيدٍ. نَزْرَعُ شَجَرَ الْبَرْقِ لِغَيْرِنَا وَنَرْحَلُ عِنْدَمَا يَسْقُطُ طِلاءُ أَظَافِرِ الْهَضَبَةِ فِي بَرَامِيلِ الضَّجَرِ الْوَرَقِيِّ. كَأَنَّ أُنُوفَ الْمَذْبَحَةِ خَجَلُ بَرَاكِينَ فِي لَيْلَةِ الدُّخْلَةِ. وَيَنْتَحِرُ صَمْتُ الْحِمْلانِ كُلَّمَا اسْتَخْرَجْتُ مِنْ صُخُورِ رِئَتِي أَحْزَانَ الْبَنَفْسَجِ.

 إِنَّ الْقَمْحَ يَغْفُو فِي سُقُوفِ أَوْعِيَتِي الدَّمَوِيَّةِ فَمَا جَدْوَى بُكَاءِ الْقَمَرِ فِي لَيَالِي الْمَجْزَرَةِ؟. إِنَّنِي أَذُوبُ فِي غُرْبَةِ الأَنْبِيَاءِ وَأَنْصَهِرُ فِي صَلَوَاتِ الشَّمْسِ للإِلَهِ. لا قَمَرٌ يُضِيءُ جِرَاحَ قَوْسِ قُزَحَ وَلا نَهْرٌ يَطْرَحُ أَسْئِلَتَهُ عَلَى الْحَمَامِ. فَابْكِ فِي الطُّحَالِ الْمُتَّسِعِ لِقُمْصَانِ الضَّوْءِ. عَيْنَانِ لِلصَّدَى الْحَامِضِ وَسُؤَالاتِ الرِّمَالِ. هَلْ يَبْكِي الْقَشُّ عَلَى سَطْحِ دَمْعَاتِي الْحَدِيدِيَّةِ؟.

 وَرَكَضَتِ الْمَقَاصِلُ فِي خُطُوطِ قِشْرَةِ الْمَوْزِ فَأَيُّ مَتَاهَةٍ سَوْفَ تَنْصُبُ عَلَى جَنَاحِ الْبُلْبُلِ رَايَةَ اللوْزِ وَعُنْفُوَانَ الشُّطْآنِ الْخَشَبِيَّةِ؟.

 نَسِيتُ أَنْ أُطْعِمَ ثَلْجَ الْجِرَاحَاتِ رَصِيفَاً طَازَجَاً. وَالأَقْمَارُ تَلُفُّ ضَمَّادَاتٍ رَمْلِيَّةً حَوْلَ نَزِيفِ السُّكُونِ. شَوَاهِدُ قُبُورٍ لامِعَةٌ تَحْتَ وَهْجِ ظَهِيرَةِ الْيَانسُونِ. وَسَاعَةُ يَدِي تَحْفِرُ فِي بَرَاوِيزِ الْمَسَاءِ نِسْيَانَ الْبُحَيْرَاتِ.

 شَجَرَةٌ مُصَابَةٌ بِالنِّسْيَانِ. الْقُبُورُ الضَّوْئِيَّةُ طَرِيقُ شُجَيْرَاتِ الْجَسَدِ الْمَشْنُوقِ. وَعُيُونُ الْمَهَا دَاخِلَ زَنْجَبِيلِ الْعَاصِفَة. جَسَدِي صَنَادِيقُ الْمَطَرِ لَكِنَّ بَرَارِي رِئَتِي حَلِيبُ الْبُحَيْرَةِ. وَأَنْتَ سَيِّدُ كُلِّ هَذَا الرَّمَادِ الأُرْجُوَانِيِّ. فَاكِهَةٌ اسْتِوَائِيَّةٌ فِي عُلْبَةِ انْتِحَارِ أَخْشَابِ الْمَرْفَأ. تُوَقِّعُ فَتَاةٌ عَمْيَاءُ عَلَى وَثِيقَةِ اسْتِلامِ جُثْمَانِ خَطِيبِهَا.

 وَعِنْدَ حَافَّةِ أَشْوَاقِي سَطْوٌ مُسَلَّحٌ عَلَى لُعَابِ الصَّخْرِ. نَحْوَ كَبِدٍ خُيُوطُهُ بَنَفْسَجُ الْمَشَانِقِ تَسِيرُ الإِسْطَبْلاتُ. إِنَّكَ مُوغِلٌ فِي أَجْسَادِ الْمَرَايَا كَأَنَّكَ بُرْعُمٌ حَامِضٌ هَبَطَ مِنْ فُوَّهَاتِ الذِّكْرَى. حُمُوضَةُ أَوْحَالِ الْمَدَافِنِ فِي أَفْوَاهِ الْبَجَعِ السَّجِينَةِ. قُولِي مَا شَكْلُ الانْقِلابَاتِ اللوْزِيَّةِ فِي وِدْيَانِ رَسَائِلِ الْبُحَيْرَاتِ إِلَى غَدِهَا الْمَاضِي. لَسْتُ صَغِيرَةً كَمَا يَظُنُّ الْمَسَاءُ. جَسَدِي فَرَاشَةٌ عَلَى الْمَذْبَحِ اشْرَبْنِي وَعُدْ مِنْ حَيْثُ افْتَرَقَ الصَّنَوْبَرُ عَنْ صُورَتِهِ. لا حَجْمِي قِنْدِيلٌ لِلطُّغَاةِ وَلا اسْمِي ثَوْبٌ لِلْعُرَاةِ.

 نَافِذَتَانِ مُغْلَقَتَانِ فِي بُلْعُومِ الْمَكَانِ هُمَا اسْتِدَارَةُ خَوْخَةٍ فِي مَوْسِمِ احْتِضَارِ النِّسْرِينِ الْجَبَلِيِّ. أَنَا الانْقِلابُ الْوَاضِحُ كَالْغُمُوضِ الْمُنْتَشِرِ كَبَوَّابَةِ الْجُرُوحِ الذَّهَبِيَّةِ. كُونِي إِحْدَى مُكَوِّنَاتِ النَّيَازِكِ لأَكْتَشِفَ شِتَاءَ الْمَدْفَنِ الذَّاهِبِ فِي الضَّبَابِ الأَزْرَقِ. الليْلُ يَشُدُّ أَحْصِنَتِي لأَنَّنِي بَلاطٌ تَحْتَ أَرْجُلِ النَّهْرِ. كُلَّمَا بَكَيْتُ انْتَشَرْتُ فِي السَّوْسَنِ الْبَرِّيِّ. تَرْكُضُ حِيطَانُ السِّجْنِ إِلَى عَاصِفَةِ الْقُلُوبِ الْمُهَاجِرَةِ إِلَى مَلامِحِ الْبَطِّ. كَفِّي مَرْفُوعَةٌ فِي وَجْهِ فَرَسِي الَّذِي يَتَزَلَّجُ عَلَى رُكَامِ الأَزْمِنَةِ. ابْتَعِدْ عَنْ لَحْمِي لأَنَّنِي كَوْمَةُ مَوْتَى يُحَدِّقُونَ فِي الْبَعِيدِ. بَنْكِرْيَاسِي لَيْسَ مِنَ الإسمنت الطَّازَجِ مِثْلَ الْعَصْفِ.

 إِنَّنِي أَعْدُو فِي مَدَارَاتِ نَحْلَةٍ تَحْتَسِي كُوبَاً مِنَ الْمَنْفَى. لا شَيْءَ فِي جُرْحِي يَمْتَصُّ قِلاعَ عَمَّاتِ الْبَحْرِ فَانْهَضْ مِنَ الْوَرْدِ الْمُدَجَّنِ إِسْطَبْلاً لِخُيُولٍ تُطْلِقُ الْقَشَّ عَلَى رِئَةِ السُّكُوتِ. إِنْ تُهَشِّمِ الْقَفَصَ الصَّدْرِيَّ لِلسُّكُونِ تَجِدِ اسْمَ الْفَرَاشَةِ مُضِيئَاً.

 إِنَّ الْحَطَبَ ضَوْءٌ فَلا تَخْدَعِ الذُّبَابَ النَّازِفَ شَعِيرَاً لِلْغُرَبَاءِ. أَنَا الْمَوْتَى الصَّاعِدُونَ مِنْ أَكْوَامِ الْمَقَاصِلِ وَأَعْوَادِ الْمَشَانِقِ الأَنِيقَةِ. لَمْلِمِينِي عَارِيَاً مِنْ غُبَارِ الْمَجَرَّاتِ وَنُحَاسِ الأَقْبِيَةِ الْجَسَدِيَّةِ.

 لِي أُغْنِيَةُ الإِسْفَلْتِ وَدَرْبُ الْحَزَانَى. الْمَدَى تُفَّاحٌ لِلْيَنْبُوعِ الْمُتَحَجِّرِ. تُعْمِلُ أَنَاشِيدِي مِعْوَلَهَا فِي سِيرَامِيكِ الرَّعْشَةِ. قَتِيلٌ أَنَا وَمَا عَرَفَنِي أَحَدٌ فِي هَذِهِ الْمَدِينَةِ الذَّبِيحَةِ. أُنْشُودَةٌ أَنَا وَمَا تَذَكَّرَنِي أَحَدٌ فِي هَذِهِ الْقَبِيلَةِ الْجَرِيحَةِ. اعْتَلَى الْمَوْجُ مِنَصَّةَ الْخُطَبَاءِ فِي حَفْلِ تَأْبِينِي. تُجَسِّدُنِي عَلَى خَشَبَةِ الْمَسْرَحِ قُضْبَانُ الْمَلاجِئِ وَأَسْوَارُ الْمُعْتَقَلاتِ. كَأَنَّ قَمِيصِي أُمْسِيَاتُ مَنْ لَيْسَ لَهُمْ ضَرِيحٌ يَحْضُنُهُمْ وَلَمْ أَسْمَعِ الليْلَ يَفْرُشُ أَسْرَارَهُ فِي حَقْلِ الشُّوفَانِ أَوْ فِي أَوْرَاقِ الزَّعْتَرِ الْمُسْتَوْرَدِ. صَحِيحٌ أَنَّ الْقَتْلَى كَالْبُرْتُقَالِ يُقْطَفُونَ كُلَّ مَسَاءٍ لَكِنَّنِي الْجُرْحُ الْعَمُودِيُّ الَّذِي يَبْتَلِعُ أَرْوِقَةَ مَحَاكِمِ الْبَارُودِ.

 يَنْمُو السِّنْدِيَانُ فِي صَوْتِي الْمَبْحُوحِ وَيَكْبُرُ الشَّفَقُ عَلَى حَوَافِّ دَمْعَتِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ نَشِيدِ مَنْ عَادُوا مِنَ الْمَعْرَكَةِ حَامِلِينَ صُوَرَ الْخَلِيفَةِ. اقْتُلِينِي يَا مَجَرَّاتِ الأَبْجَدِيَّةِ. لا تَقْتُلْنِي أَيُّهَا الْغَسَقُ. أُرِيدُ أَنْ أَزُورَ قُبُورَ الأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ لا يَمُوتُونَ. أَحْصَى الْوَرْدُ عَدَدَ جُرُوحِي فَوَجَدَهَا شَكْلاً لِتَوْلِيدِ الْكَهْرَبَاءِ مِنْ تَصَادُمِ عِظَامِي الْهَشَّةِ. هُنَاكَ دَفَنْتُ دَمَ الدِّمَاءِ حَاضِنَاً هَزِيمةَ آبَاءِ الْعُشْبِ. وَفِي الْمَعَارِكِ الْعَابِرَةِ الَّتِي تَجْرِي بَيْنَ الْحِينِ وَالآخَرِ عَلَى كَوْكَبِ زُحَلَ، تَنْهَمِرُ ظِلالُ الْخُيُولِ الْمُمَزَّقَةِ كَالْيَقْطِينِ. فَيَا وَطَنَ اللصُوصِ اعْبُرْ دَرْبَكَ الرَّمْلِيَّ نَشِيدَاً ثَائِرَاً طَالِعَاً مِنْ عُنْفُوانِ الْقَمْحِ. لَمْ يَبْقَ فِيَّ غَيْرُ الصَّحَارِي الصَّاعِقَةِ. إِنَّكَ أَهْرَامَاتُ الدَّمْعِ الْمَاحِي. أَمْسَحُ الصَّدَى بِالْمِمْحَاةِ اللازَوَرْدِيَّةِ فَلا تَثِقْ بِأَبْنَاءِ أُورشَلِيمَ الْعَائِدِينَ مِنْ قَتْلِ الأَنْبِيَاءِ.

يَكْتُبُ الْبَرْقُ اسْمَهُ عَلَى سَبُّورَةِ الأَلَمِ. لَنَا الْحُزْنُ الشَّارِدُ وَمُذَكَّرَاتُ الضَّحَايَا. مَنْ كَنَّسَ الأَسْرَى فِي الشَّارِعِ الْعَامِّ؟. لا مَكَانٌ تَحْتَ شَمْسِ اللهِ يَضُمُّنَا نَحْنُ الْمَغْرُوسِينَ فِي قَامَاتِ الذُّرَةِ مَنَاجِلَ قَدِيمةً لَمْ يَخْتَرِقْهَا شَجَرُ الرَّعْدِ. الْمَكَانُ هُوَ طُحَالُ الزَّمَانِ فَشُكْرَاً لِلْبَغَايَا اللوَاتِي يَحْتَرِمْنَ مَوَاعِيدَهُنَّ!. ذِكْرَيَاتِي سَنَابِلُ فِي الأَجْرَاسِ الشِّتَائِيَّةِ لَكِنَّ الْخَرِيفَ يَرْتَدِي أَوْسِمَتَهُ وَيَمْضِي إِلَى الْعُصُورِ السُّومَرِيَّةِ.

 يَا شَعِيرَ الْعُصُورِ الْحَجَرِيَّةِ!، لا تَلْبِسْ نَزِيفِيَ الْفِضِّيَّ. وَقَدِمَتْ عَرَبَاتُ الأَمْسِ لِتَفْتَرِسَ مُسْتَقْبَلَ الْبَيْدَاءِ. اتْلُ وَصَايَا الزَّبَرْجَدِ تَلْمَحْ مُسَدَّسَ الْغَزَالَةِ. يَا أَيُّهَا الْبَلَدُ الْمُخَصَّصُ لِلْغُرَبَاءِ هَلْ تَذْكُرُنِي؟. سَيَفْتَرِسُنَا الزُّقَاقُ الَّذِي يَنْحَنِي أَقْوَاسَاً تَزُفُّ رَنِينَ دِهَانِ السَّيَّارَاتِ إِلَى الْغُرْبَةِ. غَرِيبٌ أَنْتَ يَا قَلْبِي فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا عَيْنَانِ تَذْرِفَانِ الْكُمَّثْرَى وَالْبِطِّيخَ. جَلِيدٌ كَثِيفٌ عَلَى شُرْفَةِ الضَّجَرِ.

 لِمَاذَا يَسْتَيْقِظُ الْهَذَيَانُ مِنْ نَوْمِهِ الرَّابِعِ؟. نَيْزَكٌ يَقْسِمُ الْبُرْتُقَالَةَ نِصْفَيْنِ وَإِسْطَبْلاتٌ تَخْتَبِئُ فِي جَوْفِ لَيْمُونَةٍ. مَا الْمَسَافَةُ الَّتِي تَفْصِلُ الْبِطْرِيقَ الْجَرِيحَ عَنْ سَيَّارَةِ الإِسْعَافِ الَّتِي لا تَأْتِي؟. وَطَنٌ لِلأَزْهَارِ الْمَذْهُولَةِ لِلْبَرْقُوقِ وَالْقَصْدِيرِ وَالْحُلْمِ الشَّرِيدِ.

 إِنَّ جِلْدِي مُعَبَّدٌ بِالْيَانسُونِ الَّذِي لا يَخُونُ، وَمُمْتَدٌّ مِثْلَ الشَّوَارِعِ الْخَلْفِيَّةِ فِي الْمَرْفَأ الْمَنْبُوذِ مِثْلَ ثِيَابِ الْمُمَرِّضَاتِ الرُّوسِيَّاتِ وَهُنَّ يَزْرَعْنَ الْحُقْنَةَ فِي جَبْهَةِ الْقَمَرِ. مُشَرَّدُونَ يَتَجَمَّعُونَ حَوْلَ الرَّحَى فِي مَوَاسِمِ الْحَصَادِ. إِنَّهَا بِلادٌ لِلْمُزَارِعِينَ الْمَسْحُوقِينَ كَأَقْرَاصِ الْفَلافِلِ قُرْبَ هَاوِيَةِ الصَّدَأ. دَثِّرْنِي بِالْغُيُومِ وَدَثِّرِ الْغُيُومَ بِأَشْكَالِ الْمَنَافِي. إِنْ تَبْكِ تَهْزِمِ الصَّدَى.

 هِيَ حَبَّاتُ النَّدَى فِي أَفْوَاهِ التَّمَاسِيحِ. أَشْكَالُ عَرَقِي تَصُبُّ فِي الأَمَازُونِ فَلا تَسْتَجْوِبْ يَا مَوْجُ حَفَّارَ قَبْرِي. إِنَّهُ مَشْغُولٌ بِشُرْبِ الشَّايِ الأَخْضَرِ عِنْدَ بَلُّوطِ الْهَذَيَانِ. أَتَيْتُ وَفِي أَجْفَانِي حَفْلُ زِفَافِ دِجْلَةَ. كُلُّ الأَنْهَارِ وَجْهٌ لِلنِّسْيَانِ يَصُبُّهُ الارْتِعَاشُ فِي هُدُبِي الْمُسَافِرَةِ. حَزِينٌ كَأَنَّ دَمِي أُرْجُوحَةٌ خَالِيَةٌ. تَنْبَعِثُ مِنْ وَهْجِ الْغَمَامِ شَرَايِينُ الأَرْزِ. لَمْ يَصِلِ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى بَرْقُوقِ الذَّاكِرَةِ لأَنَّهُمْ أُهْزُوجَةُ الصَّحَارِي الْعَابِرَةِ فِي الأَغَانِي الْمُسْتَهْلَكَةِ.

 مَا أَنْتَ يَا قَلْبِي إِلا غَيْمَةٌ تَجْلِسُ عَلَيْهَا أَسْمَاكُ النَّفْيِ وَالتَّشَرُّدِ. عُدْ إِلَى اسْمِكَ يَا لَمَعَانَ الشَّاطِئِ فَأَنَا طَرِيقِيَ الْمَارُّ عَلَى تُفَّاحَاتِ الْغَسَقِ. يَتَذَكَّرُنِي كُلُّ دَمٍ مَرَّ حِصَانَاً فِي قَاعِ الْمُحِيطِ. لا خُدُودِي شَظَايَا وَلا زَهْرَةُ الْبَرْقِ دِينَامِيتُ. يَتَنَاوَلُ قَلَمُ الْحِبْرِ طَعَامَ الْغَدَاءِ فِي خَيْمَةِ الأَشْلاءِ. تَرَكَ النَّجَّارُ أَخْشَابَ الذِّكْرَى وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَمَاتَ قُرْبَ أَشْلائِي الْمُزْهِرَةِ جَوَّافَةً لِلْمُشَرَّدِينَ. لِلْعَاصِفَةِ عَيْنَانِ تُطْبِقَانِ عَلَى الرَّصَاصَةِ. إِنْ تَجْمَعِ النُّعَاسَ فِي كِيسٍ وَرَقِيٍّ تَجِدْ رَأْسَ أَبِيكَ عَلَى طَائِرَةٍ وَرَقِيَّةٍ.

مَا أَنَا إِلا أَنْتَ. مَرَايَا تَسْبَحُ فِي جَسَدِي الْمَصْلُوبِ وَتَتَزَوَّجُ الْقَشَّ الأَحْمَرَ. يَجْلِسُونَ عَلَى الْمَنَادِيلِ الَّتِي عَبَرَتْ فِي الْمِينَاءِ الظَّهِيرَةِ. وَحَبَّاتُ الْحُمُّصِ تَصْعَدُ إِلَى خُدُودِي. تَرَكْتُ بِلادِي وَمَا فِيهَا مِنْ رُعُودٍ تَصْرُخُ فِي وَجْهِ الْغَرِيبِ. لَمْ يَعُدْ فِي صَوْتِي غَيْرُ مَدِينَةٍ تَصْلُبُ إِوَزَّةَ الصُّرَاخِ. نَخْتَبِئُ فِي صَنَادِيقِ الْفَاكِهَةِ خَوْفَاً مِنْ أَحَادِيثِ جَدَّتِنَا عَنِ الأَغْرَابِ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي الْغَمَامِ الأَحْمَرِ، وَأَظَلُّ أَسْأَلُ ضَابِطَ الْمَخْفَرِ عَنْ دَمِي الْمُضَاعِ فِي الْمَرَاكِبِ وَشِبَاكِ الصَّيْدِ.

 بِنْتٌ فِي عَيْنَيْهَا جَثَامِينُ الشُّهَدَاءِ نَادَيْتُ عَلَى النُّمُورِ السَّابِحَةِ فِي الْغُرُوبِ وَكَانَ الصَّدَى بِطِّيخَةً يَتَجَمَّعُ حَوْلَهَا الْفَلاحُونَ وَالصَّيَّادُونَ فِي الْمَسَاءِ. أَيْنَ صَبَاحَاتِي؟. سَأَلْتُ كُلَّ أَوْحَالِ الْمَلاجِئِ وَالدُّرُوبِ. لَنْ تَجْتَمِعَ زُرْقَةُ شَعْرِ السِّنْدِيَانَةِ بِالْوُجُوهِ الْعَابِرَةِ خَلْفَ تَابُوتِ الْحَصَى. لَكَ الْمِرْآةُ نَزِيفَاً وَبَعْضُ الْمُشَرَّدِينَ الَّذِينَ يُصَفِّقُونَ لِلْخَلِيفَةِ. كُلُّ وَرْدَةٍ صَرْخَةٌ فِي قَفَصِي الصَّدْرِيِّ. وَجَاءَ الطُّوفَانُ مِنْ جِهَةِ الْتِقَاءِ الْغَرِيبِ بِالْغَرِيبِ. كُلُّنَا سَوْفَ نُسَجِّلُ أَسْمَاءَنَا عَلَى حِيطَانِ كُوخِ الْيَمَامِ. مَا مَضَى مِنْ أَشْلائِنَا يَظَلُّ يَتَذَكَّرُنَا نَحْنُ الْمَنْسِيِّينَ فِي أَكْوَابِ الْحَلِيبِ الطَّازَجِ عَلَى مَوَائِدِ الأَثْرِيَاءِ. مَا مَضَى مِنْ ذِكْرَيَاتِنَا سَوْفَ يَنْسَانَا نَحْنُ الْعَالِقِينَ عَلَى أَعْوَادِ الْمَشَانِقِ لأَنَّنَا غُرَبَاءُ. مَا بَصْمَةُ صَرْخَةِ الْجِبَالِ الْوَاقِعَةِ عَلَى أَعْنَاقِ الظِّبَاءِ؟. عَرَقٌ لَيْسَ كَعَرَقِ الْهِضَابِ الأَسِيرَةِ وَحُلْمٌ لَيْسَ كَأَحْلامِ الْبِلادِ الْمُسَجَّلَةِ فِي دَوَاوِينِ الْخَرَاجِ.

 انْتَظِرْ أَيُّهَا الانْتِظَارُ لأَنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَحَدَّثَ مَعَ الطُّوفَانِ الَّذِي لا يَسْمَعُنِي. نَزِيفِي بُنْدُقِيَّةٌ نَسِيَهَا الْمُحَارِبُ فِي سَرِيرِهِ الْبَارِدِ. لا امْرَأَةٌ فِي دَمِي تَمْتَصُّ اكْتِئَابَ الْحَصَى وَلا أُهْزُوجَةٌ. عَبَرُوا فِي الشَّفَقِ لَحْظَةَ وِلادَةِ الْحُزْنِ الْقَسْرِيِّ. زَمَانٌ يَحْتَلُّ جِلْدِي وَهَا هُوَ الصَّدَفُ يَجْمَعُنِي عَلَى شَاطِئٍ سَقَطَ سَهْوَاً مِنْ خَارِطَةِ الدِّمَاءِ وَالْحُرُوبِ. لا بُدَّ أَنَّ مَارِي أَنطوَانِيت لَمْ تَسْمَعْ نَحِيبَ الْفَتَيَاتِ الْمُغْتَصَبَاتِ فِي حَيِّ سَان أَنطوَانَ. رَقْصَةُ الليْلَكِ الْمَذْبُوحَةُ عَلَى مِنْضَدَةِ أَوْدَاجِ الصِّيَاحِ. فَاذْكُرِي الأَطْفَالَ اللقَطَاءَ يَا مَسَاءَاتِ الذَّبِيحَةِ كَمَا تَذْكُرِينَ مَقَاسَ أَحْذِيَةِ سَيِّدَاتِ الْمُجْتَمَعِ الْمُخْمَلِيِّ فِي مَرْسِيليَا.

 كُلُّنَا رَعَشَاتٌ لِلصَّاعِقَةِ. أُصَلِّي الْجُمُعَةَ فِي قَصْرِ فِرْسَايَ. سَقَطَتْ وَرْدَةٌ عَلَى ظِلِّ الْغِيَابِ. تَفْتَرِشُنِي أَقْبِيَةُ السَّرَابِ فَأَنْهَضُ مِنْ صَحَارِينَا أُفَتِّشُ عَنْ سَرَايِيفُو بَيْنَ الرُّكَامِ. مَا السِّكِّينُ فِي مَطْبَخِ الأَنْقَاضِ إِلا تَارِيخُ زَهْرَةٍ تُحْتَضَرُ. أَحْضِرُوا جِلْدِي مِنَ الْمَسْلَخِ وَلا تَضَعُوهُ عَلَى جَسَدِ ثَعْلَبٍ. وَطَنِي الْغَارِقَ فِي الصَّمْتِ الشَّمْسِيِّ الْبِسْنِي كَمَا أَنَا. أَبْحَثُ فِي قَامَاتِ الأَشْبَاحِ عَنْ ذِكْرَيَاتِ مَدِينَةٍ كَانَتْ شُرْطِيَّةً تَحْرُسُ قَفَصِي الصَّدْرِيَّ. وَالأَنِينُ الَّذِي يَتَشَمَّسُ تَحْتَ مَقَاصِلِ الْعُشَّاقِ وَجْهُ مُقَاتِلٍ مَرَّ مِنْ أَمَامِ بَابِ الْحُلْمِ. اسْتَجْوَبَنِي رِيشُ الْمُسَدَّسَاتِ فَلُذْتُ بِالْمَوْجِ النَّائِمِ عَلَى حَافَّةِ الْبِئْرِ. صَمْتِي مَا زَالَ يَتَفَجَّرُ فِي الدُّرُوبِ وَالنَّاسُ يَهْتِفُونَ لِمَوْكِبِ الذُّبَابِ الإِمبرَاطُورِيِّ.

 إِنَّ يَدِي نَبْتَةٌ اقْطِفْهَا وَازْرَعْهَا فِي ذَرَّاتِ الأُكْسُجِينِ فَوْقَ مُنْحَدَرَاتِ الدُّمُوعِ وَرَوَابِي الْوَدَاعِ الأَعْزَبِ. أَسِيرُ وَاثِقَاً مِنْ صَرْخَتِي إِلَى بَلْدَةٍ لا تَعْتَرِفُ بِالْبَحَّارَةِ الرَّاجِعِينَ إِلَى نِسَائِهِمْ بِلا صَيْدٍ. وَالأَمِيرَةُ عَلَى شُرْفَةِ الْقَصْرِ تُزِيلُ مِكْيَاجَهَا بِجُلُودِ الدَّلافِينِ الْيَتِيمَةِ.

 رَاكِضَاً فِي أَفْلاكِ الْكُمَّثْرَى حَاضِنَاً مَوْتَ الأَشْجَارِ الْوَاقِفَةِ. إِنَّنِي الطُّرُقَاتُ السَّاحِلِيَّةُ فِي أَجْسَادِ الْبَحَّارَةِ. لِي عُرْيُ الْمَسَافَاتِ وَلَيْمُونُ الْحِكَايَاتِ. وَجَدَّتِي تَقُصُّ عَلَيْنَا أَحْدَاثَ مَقْتَلِ أَبِي. كُنْ شَرْقَاً لِجِهَةٍ ثَامِنَةٍ تَأْتِي لِتَغْتَالَنَا فِي حَدَائِقِ الْمَرِّيخِ. وَالْجَائِعَاتُ يَمْضُغْنَ أَثْدَاءَهُنَّ فِي قَلْبِ الزَّمْهَرِيرِ.

 رَأْسُ الْحُسَيْنِ تَدُورُ. أَيُّهَا الأُمَوِيُّونَ الطَّالِعُونَ مِنْ احْتِضَارَاتِ الْخَيْلِ وَدِمَاءِ الْمُذَنَّبَاتِ فِي غُرَفِ الْقُصُورِ الْمُتَهَاوِيَةِ. لا مَكَانٌ لَكُمْ فِي رِئَةِ الشُّرُوقِ. وَجَاءَ شِتَاءُ الْمَقَابِرِ مُمْتَطِيَاً عَرَبَاتِ التُّوتِ. إِنَّ كَوَابِيسَ الْجِدَارِ سِحْنَةُ صَحْرَاءَ تَعُجُّ بِالْعُرُوقِ الْمَقْطُوعَةِ. رَقْمُ الْحَافِلَةِ الَّتِي سَتَنْقُلُ جَثَامِينَنَا مَطْبُوعٌ عَلَى لُحُومِ الْمُسَافِرِينَ. يَدَانِ مَحْمُولَتَانِ عَلَى عُمُرِ الْقَصْدِيرِ الْبَرِّيِّ.

 

مَلامِحُ طُلَيْطِلَةَ تَنْتَشِرُ عَلَى الْجُفُونِ

 يَقْضُمُ الأَمْسُ مَا تَبَقَّى مِنْ أَكْفَانِنَا فِي مَهَبِّ الذِّكْرَى. إِلَيْكِ تَرْكُضُ الأَشْجَارُ الْمَوْلُودَةُ حَدِيثَاً. وَفِي خُصْلاتِ شَعْرِي تَقْرَأُ حُقُولُ الذُّرَةِ الْجَرِيدَةَ. إِحْدَى الْغَيْمَاتِ تَغْمِسُ رَأْسِي فِي كُوبِ عَصِيرٍ يَتَرَنَّحُ فِي يَدِ سَيِّدَةٍ مَخْمُورَةٍ. إِنَّنِي الصَّنَوْبَرُ الْعَتِيقُ وَالْمِنْجَلُ الْقَتِيلُ فِي كُلِّ الْبَرَارِي النُّحَاسِيَّةِ. يَتَسَكَّعُ كَلامُ الْوَحْلِ عَلَى حِيطَانِ السُّوقِ الْمَهْجُورَةِ. لا يَزَالُ هُرُوبُ الْكُهُوفِ مِنْ صَدْرِي يَشْغَلُ بَالَ الرُّعُودِ. أَفْرُشُ جِلْدِي عَلَى عَتَبَةِ بَيْتِي لِتَفْرَحَ النَّيَازِكُ وَهِيَ تَقْتَحِمُ عُزْلَتِي الْبَنَفْسَجِيَّةَ. مَرَّتِ الْبَنَادِقُ عَلَى غَابَاتِ أَصْفَهَانَ يَوْمَ انْتَحَرَتْ حِجَارَةُ الْمَعَابِدِ فِي أَثِينَا وَالْتَقَى الْعُشَّاقُ الْعَاطِلُونَ عَنِ الْعَمَلِ تَحْتَ سُورِ بَرْلِينَ.

 رُشُّوا عَلَيَّ قَلِيلاً مِنَ الأَدْغَالِ لأَتَذَكَّرَ كِتَابَاتِ الْبَرْقِ عَلَى ذَيْلِ السَّمَكَةِ. الْتَقَمَ الطِّفْلُ ثَدْيَ الْغَابَةِ وَمَاتَ كَالْخِزَانَاتِ الزُّجَاجِيَّةِ فِي مَحَلاتِ بَيْعِ الأَسْلِحَةِ. لَمْ يَكُنِ الإِغْرِيقُ يَلْعَبُونَ بِجَمَاجِمِ آبَائِهِمْ. أَنَا الْعَائِدُ مِنْ إِغْفَاءَةِ الأَبَارِيقِ الْفَخَّارِيَّةِ. يَا مَنْ يُخَزِّنُ الْمَطَرَ فِي قَلْبِ الْيَتِيمِ هَا هُوَ قَلْبِي نَوْرَسُ الْجُوعِ لَهُ النَّدَى جَنَاحَانِ. يَجْلِسُ الصَّبَاحُ عَلَى كُرْسِيِّهِ فِي الْمَكْتَبَةِ الْعَامَّةِ. احْتَضِنْ نَفَسِي تَجِدْ مِشْنَقَتِي يَنْصُبُهَا الصَّدَأُ عَلَى شُرْفَةِ بَيْتِي. لِكَيْ أَظَلَّ مُتَذَكِّرَاً الْيَوْمَ الَّذِي مَثَّلَ فِيهِ النَّبْعُ بِجُثَّتِي لا بُدَّ أَنْ أَنْسَى تَارِيخَ مِيلادِي. نَسْرٌ يَضَعُ الْمَجَاعَةَ فِي جَيْبِ قَمِيصِهِ وَيَدْخُلُ فِي الْبَيَاتِ الشَّتَوِيِّ.

 شُنِقَ أَهْلِي فِي مَسَاءٍ رِيفِيٍّ مُنَاسِبٍ لِتَأَمُّلاتِ الْفَلاسِفَةِ فِي كُرَّاسَةِ الأَحْزَانِ. لا أَنْفِي إِعْدَامَاتُ بِطْرِيقٍ وَلا رُمْحِي مَطْعَمٌ لِلْعَائِلاتِ. الأَسْلاكُ الشَّائِكَةُ وَالْمَلابِسُ الدَّاخِلِيَّةُ لِلْجُنُودِ الْمَهْزُومِينَ وَالْفُقَرَاءُ الَّذِينَ يَتَسَلَّقُونَ أَجْسَادَ نِسَائِهِمْ بَحْثَاً عَنِ الْخُبْزِ. رَقَبَتِي هِيَ السُّجُونُ وَأَزِقَّةُ سَمَرْقَنْدَ وَفَتَيَاتُ غُروزنِي. أَنْتُنَّ يَا بَنَاتِ كَشْمِيرَ تَتَذَكَّرْنَ أَطْرَافِي الْمُرْتَعِشَةَ فِي قَاعَاتِ مَحَاكِمِ التَّفْتِيشِ.

 تَنْمُو الْجُدْرَانُ كَالْبَعُوضِ الشَّمْسِيِّ فِي تَقَاسِيمِ وَجْهٍ عَائِدٍ مِنْ حَرْبِ الصَّدَى. كَانَ الْفِطْرُ السَّامُّ يُمَزِّقُ الأَغْشِيَةَ الْمُخَاطِيَّةَ لِلْغُبَارِ. افْرَحْنَ أَيَّتُهَا السَّيِّدَاتُ الْعَارِيَاتُ اللوَاتِي يَتَسَوَّقْنَ فِي مِيلانُو لأَنَّنِي أَمُوتُ. وَتُجَّارُ الرَّقِيقِ الأَبْيَضِ يُعَلِّقُونَ صَرَخَاتِ الْفَقِيرَاتِ بِرْوَازَاً لِلأَثْرِيَاءِ الشَّاذِّينَ جِنْسِيَّاً. وَرَاءَ السَّتَائِرِ وَجَلِيدِ الأَدْيِرَةِ مَكَانٌ لِلرُّعْبِ. وَجْهٌ أَخْرَسُ مُشَرَّبٌ بِانْطِفَاءِ الصَّنَوْبَرِ فِي أَرْحَامِ النَّعَّامَاتِ.

 كُلُّ لَيْلٍ دَمٌ لِصَبَاحٍ يَطْلُعُ مِنْ يَاسَمِينِ الْمَقَاصِلِ. وَالْكَهَنَةُ يَتَعَثَّرُونَ بِخُيُوطِ النَّعْنَعِ الصَّاعِدَةِ مِنْ شُقُوقِ بَلاطِ الْمَعْبَدِ وَيَفْتَتِحُونَ انْتِحَارَهُمْ فِي حُقُولِ عُيُونِهِمُ الْمُشَقَّقَةِ. وَالْبَحَّارَةُ الإِغْرِيقُ يَنْصُبُونَ الْقُلُوعَ شَوَاهِدَ لِقُبُورِهِمْ. أَيْنَ حَفَّارُو الْقُبُورِ الْمُتَرَسِّبَةِ فِي قَاعِ الْبُطُونِ الْخَالِيَةِ؟. لا بَشَرَتِي حَقْلُ ذُرَةٍ يَرْتَدِيهِ جَابِي الضَّرَائِبِ وَلا إِبْطِي مَزْرَعَةٌ لِتُجَّارِ الأَسْلِحَةِ. كُلُّكُمْ مَاءٌ لِلْعَاصِفَةِ. اشْرَبُونِي حُفْرَةَ دَمْعَاتٍ فِي لَحَظَاتِ عُرْيِ مُسَدَّسَاتِ بُخَارَى. الطَّرِيقُ إِلَى طَشْقَنْدَ تُشَرِّحُ آذَانَ الْفَلاحِينَ. يَا قَمَرَاً مَذْبُوحَاً فِي صَبْرَا وَشَاتِيلا، لا تُصَدِّقْ كَلامَ الْخَرِيفِ الْعَالِقَ عَلَى سُرَّةِ بَابِلَ لأَنَّ قَلْبِي يُعِيدُ فَتْحَ الأَنْدَلُسِ.

 حَطَّابُونَ نَائِمُونَ عَلَى غُصْنِ الْفِكْرَةِ. فَتَحْنَا أَقْفَاصَنَا الصَّدْرِيَّةَ لِلْخُيُولِ الطَّالِعَةِ مِنْ خَشَبِ أَعْمِدَةِ الْكَهْرَبَاءِ. أَتَيْنَا وَفِي مَلامِحِنَا يَقْفِزُ سَمَكٌ قَطَعَتْ رَأْسَهُ وَرْدَةُ الرَّعْدِ. الْمُذَنَّبُ أَقَامَ مَدِينَتَهُ عَلَى حِبَالِ الْغَسِيلِ، وَلا غَسِيلٌ عَلَى سُطُوحِنَا الْمَفْتُوحَةِ لِلْمِرْوَحِيَّاتِ الْعَسْكَرِيَّةِ. أَنْسَانَا الْعَوْسَجُ الْمُسْتَوْرَدُ كَيْفَ نُنْجِبُ الأَطْفَالَ وَنَسِينَا طَرِيقَ الْمَقْبَرَةِ فِي زَوَايَا حُلُوقِنَا.

 لَمْ تَكُنِ الْبَرَارِي تُسَجِّلُ بَيَانَاتِ جَوَازِ السَّفَرِ لِحِصَانِي الَّذِي أَضَاعَ هُوِيَّتَهُ الشَّخْصِيَّةَ فِي أَحَدِ الْكَوَاكِبِ. فَلْنَسْتَمِعْ إِلَى الْمُحَاضَرَةِ الَّتِي يُلْقِيهَا الشَّجَرُ الْمُطَارَدُ فِي كُلِّيةِ الْحُقُوقِ. لَكِنَّنِي لا أَدْرِي لِمَاذَا رَشَّحَ الْبَحْرُ نَفْسَهُ فِي انْتِخَابَاتِ الإِسْطَبْلِ الذَّهَبِيِّ. لَمْ يَشْطُبِ الْغُبَارُ أَسْمَاءَ الشُّجَيْرَاتِ مِنْ قَائِمَةِ الْمَطْلُوبِينَ لِلشَّاطِئِ. لَسْتُ الرَّمْلَ الْمَائِيَّ حُنْجُرَةَ التُّفَّاحَةِ. إِنَّمَا لَحْمُ الزُّهُورِ نَيْزَكٌ اتْبَعْهُ وَلا تَنْسَ أَنْ تَدْفِنَنِي.

 أَصْغَيْتُ لِصَوْتِ الْجِدَارِ الْمَخْلُوطِ بِعَوِيلِ الرِّمَالِ. أَيَّتُهَا الصَّحْرَاءُ الرَّاكِبَةُ عَلَى ظُهُورِ الْخَيْلِ لِمَاذَا تَلْبِسِينَ الْوُجُوهَ الْمَنْبُوذَةَ فِي حَيِّنَا الْمُحَاصَرِ؟. اتَّخَذَتْ مَدَائِنُ الرَّعْشَةِ مَقَرَّاً لَهَا فِي بُلْعُومِي. ارْحَمْنِي يَا ضَوْءَ الْمَنَافِي الْمَنْفِيَّةِ. أَكْوَامُ النِّفَايَاتِ فِي الشَّارِعِ الْمُعَبَّدِ بِالْجُثَثِ. وَرُؤُوسُ الْعَبِيدِ الْمَقْطُوعَةُ الَّتِي نَسِيَهَا النَّخَّاسُ فِي السُّوقِ. لا تَلْبِسْنِي إِذَا احْتَفَلَ الْقَتِيلُ بِأَعْيَادِي لأَنَّ يَوْمَ اغْتِيَالِي مِيلادِي. زَرَعَ الْوَلَدُ الَّذِي أُعْدِمَ أَبَوَاهُ نَبْتَةً فِي خَدِّي. وَصُرَاخُ الطَّبَاشِيرِ يَنْمُو كَرَاتِبِ السَّيَّافِ. وَإِطَارَاتُ سَيَّارَةِ الْبَلُّوطِ الْمُصَفَّحَةِ ضِدَّ دَمِي لَكِنَّ الْبَارُودَ رِئَةٌ.

 فِي الْعَامِ الْمَاضِي أُعْدِمْتُ فِي السَّاحَةِ الْعَامَّةِ. كَانَتِ النِّسَاءُ يَنْتَظِرْنَ الْمَوْلُودَ الأَوَّلَ وَكُنْتُ أَنْتَظِرُ الْمَوْتَ الأَوَّلَ. وَلَمْ يَكَدِ البطيخُ يَسْتَلُّ مِنْ أَوْدَاجِي سُيُوفَ الْحُلْمِ حَتَّى أَحْسَسْتُ بِالأَبْوَابِ تُغْلَقُ فِي وَجْهِ الْبُحَيْرَةِ. انْطَلَقَ صَوْتُ الْمُؤَذِّنِ يُفَجِّرُ تَوَارِيخَ الإِبَادَةِ وَيَكْسِرُ الظِّلَّ الدَّمَوِيَّ فِي دَهَالِيزِ مَحَاكِمِ التَّفْتِيشِ. كُنْتُ مَصْلُوبَاً عَلَى الْغَسَقِ. أَنَا الْغَيْمَةُ الْمَصْلُوبَةُ فِي لَيْلَةِ عُرْسِهَا. أََنَاشِيدِي يَحْمِلُهَا الآخَرُونَ إِلَى زَوْجَاتِهِمْ وَبَنَاتِهِمْ أَمَّا أَنَا فَأَظَلُّ أُرَدِّدُ الأَذَانَ حَيَّاً وَمَيْتَاً. مَلامِحُ لِلذِّكْرَيَاتِ السَّلِيبَةِ لِلشُّعُوبِ تُفَتِّشُ عَنْ عَصَافِيرَ ذَهَبِيَّةٍ فِي سِلالِ الْقُمَامَةِ. جُثَّتِي الْمُضِيئَةُ تَنْصُبُهَا خِيَامُ الصَّنَوْبَرِ عَمُودَ كَهْرَبَاءَ فِي الشَّارِعِ الْمُمْتَلِئِ بِرِجَالِ الأَمْنِ. انْتِحَارَاتُ امْرَأَةٍ لا تَعْرِفُ مِنَ الْحَيَاةِ غَيْرَ فَتْحِ فَخْذَيْهَا لِزَوْجِهَا. رَأْسِي قِرْطٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي أُذُنِ الشَّجَرَةِ الْمُحْتضرةِ. دَخَلْتُ فِي مَوْتِي الْخَامِسِ.

 

هَوَاجِسُ الطِّفْلِ ذِي الْيَدِ الْوَاحِدَةِ

 تُبَدِّلُ حِبَالُ الْمَشَانِقِ جُلُودَهَا كَمَا يُبَدِّلُ الْفُسْتُقُ شَفْرَاتِ مِقْصَلَتِهِ. لا مَكَانِي قَصْدِيرٌ تَحْتَ مِظَلاتِ الْحُزْنِ وَلا كُوخِي مُسْتَشْفَى وِلادَةٍ لِلدِّبَبَةِ الْقُطْبِيَّةِ. أَنْتِ الْعُشْبَةُ الطَّرِيدَةُ فِي كِتَابَاتِ الْمَعِدَةِ فَلْتَضْحَكِي مِثْلَمَا يَبْكِي مَا تَسَاقَطَ مِنْ أُنُوثَةِ الأَرْصِفَةِ. سَجَّلَ الْخَرُّوبُ الْمَقْلِيُّ اسْمَهُ الْبُرُونزِيَّ عَلَى شَوَاهِدِ قُبُورٍ مُخَصَّصَةٍ لِلْخُيُولِ. مَسَائِي وَهْجُ التُّفَّاحِ آخِرَ الصَّيْفِ. مُنْتَصَفُ الْمَرَاثِي أَلَقُ الطَّبَاشِيرِ الْمَارَّةِ كَالْقُلُوبِ الْمُسَيَّجَةِ بِالزَّرْنِيخِ. وَذَهَبْنَا نَفْرُشُ مَعْنَى الْبَنَفْسَجِ عَلَى مَرَايَا الْمَصَاعِدِ الْمُعَطَّلَةِ.

 كُنْ قِمَاشَاً يُخِيطُ الإِبَرَ الصَّدِئَةَ قُرْبَ شِتَاءِ الأَلْفَاظِ. قَطَعْنَا خَاصِرَةَ الْبَحْرِ بِسِكِّينٍ قَدِيمةٍ نَسِيَتْهَا الشَّمْسُ فِي مَطْبَخِ بَيْتِنَا فِي الأَنْدَلُسِ. لِمَاذَا تَلْتَصِقُ دَمْعَاتُ الْحُوتِ الأَزْرَقِ عَلَى قَبْرِ ابْنَةِ عَمِّي فِي قَشْتَالَةَ؟. أَضْرِحَةٌ يَبْنِيهَا الْعُشْبُ الْمُبْتَلُّ فِي خَدِّي الأَيْمَنِ. أَتَى الذُّبَابُ حَامِلاً فِي جُفُونِهِ مَا تَبَقَّى مِنْ قَلْبِ النَّسْرِ الْمَنْبُوذِ. لِلرَّعْشَةِ أَحْصِنَةُ الْفِضَّةِ وَمَنَاجِلُ الْغُرَبَاءِ. يَلْتَقِي السِّيَانِيدُ بِوَالِدَيْهِ فِي مَقْهَى الْيُورَانيُومِ.

 إِنَّ الأَوْحَالَ تَمْشِي إِلَى تَلَّةٍ فِي أَحْشَاءِ ثَعْلَبٍ مُجَرَّدٍ مِنْ جِنْسِيَّتِهِ. ابْنِ طَرِيقَاً مِنَ الْعَقِيقِ حَوْلَ الْبَلابِلِ تَلْمَحْ مَوَاعِيدَ حَصَادِ أَجْسَادِ الْعَبِيدِ. وَفِي انْهِيَارَاتِ تَكْسَاسَ أَرْمَلَةٌ تُضِيءُ مُعَسْكَرَاتِ النَّزِيفِ فِي جَمَاجِمِ أَبْنَائِهَا الْخَاسِرِينَ فِي الْحَرْبِ بَيْنَ الشَّمَالِ وَالْجَنُوبِ.

 نَحْوَ الشَّمَالِ الدَّامِي يَعْدُو وَقْتُ الأَكْفَانِ. يُحَدِّقُ تِمْسَاحُ الزَّنْبَقِ فِي سَاعَةِ يَدِهِ وَيَتَسَاءَلُ عَنْ مَوْعِدِ الْجَرِيمةِ. أَضَاعَتِ الْمُذَنَّبَاتُ حُبَّهَا الأَوَّلَ فِي الْجُرْحِ الثَّانِي. هَكَذَا تَصِيرُ حَيَاتُنَا كَوْمَةً مِنَ الأَرْقَامِ. وَتَحْتَ الشَّجَرَةِ الَّتِي لَمْ تُولَدْ بَكَيْنَا حَاضِنِينَ أَسْمَاءَنَا وَتَوَابِيتَ أَجْدَادِنَا. إِنْ تَسْكُنِ الْعَاصِفَةُ نَرَ دَرْبَ جَثَامِينِ مَنْ عَبَرُوا إِلَى سُطُورٍ ذَابِلَةٍ فِي الْكُتُبِ الَّتِي تُطَالِعُهَا رُفُوفُ الْمَكْتَبَةِ. لَيْسَ لأَبْجَدِيَّتِي نَهْرٌ أَوْ سُورٌ.

 كَانُوا يَحْفِرُونَ الأُنُوثَةَ فِي عُيُونِ الْقِطَطِ الضَّالَّةِ. وَعُمَّالُ النَّظَافَةِ يُصْدِرُونَ جَوَازَاتِ سَفَرٍ لِلصَّنَوْبَرِ الْبَحْرِيِّ. السَّفَرُ كُنْيَةُ الليْمُونَةِ وَفَاكِهَةُ الْغَرِيبِ. وَبَيْنَمَا كُنَّا نَمْشِي إِلَى مِرْوَحَةِ جُمْجُمَةِ الْوَقْتِ اصْطَدَمَتْ رُؤُوسُنَا الْمَقْطُوعَةُ بِأَسْلاكِ الْكَهْرَبَاءِ فَارْتَعَشَتِ الْعَصَافِيرُ الَّتِي وَدَّعَتِ النِّسْرِينَ فِي مَحَطَّةِ الْقِطَارَاتِ. أَصْبَحْنَا صُوَرَاً خَرْسَاءَ فِي بَرَاوِيزَ تَزَوَّجَهَا غُبَارُ أَشْرِطَةِ الأَفْلامِ الْوَثَائِقِيَّةِ. لَنْ أَبْكِيَ أَمَامَ ابْنَةِ عَمِّي لَكِنَّنِي بَكَيْتُ. لَنْ أَمْشِيَ إِلَى رَمْلِ الْمُحِيطَاتِ لَكِنَّنِي مَشَيْتُ. لَنْ أَرْوِيَ قِصَّةَ اغْتِيَالِ الْيَنَابِيعِ لَكِنَّنِي رَوَيْتُ. كُنْتُ الْغَرِيبَ يَوْمَ اكْتَحَلَتْ عَيْنَا النَّبْعِ بِرَمَادِ الأَجْنِحَةِ الْمُتَسَاقِطَةِ فِي الْقَصَبَاتِ الْهَوَائِيَّةِ لِلْخَرِيفِ. كُنْتُ الشَّاهِدَ عَلَى إِعْدَامِي الْمُتَكَرِّرِ مِثْلَ أَلْوَانِ رَبْطَاتِ الْعُنُقِ لِمُوَظَّفِي الدَّوْلَةِ. رَتَّبَ السَّوْسَنُ الْمَحْرُوقُ مَوْعِدَاً بَيْنَ الْفِيَلَةِ وَالأَلْغَامِ الْبَحْرِيَّةِ لَكِنَّ الْغُرُوبَ مَا زَالَ يَنْمُو كَدُمُوعِي. فِي خُيُوطِ خُنْصُرِ الْوَحْلِ جَدْوَلانِ مِنَ الْعَقِيقِ وَالْبَجَعِ الْمَيِّتِ. اكْتَشَفَتْ أَقْمَارُ الأَلَمِ أَنَّ الْجُرْحَ زَوَّرَ بَعْضَ الأَوْرَاقِ الرَّسْمِيَّةِ. سَوْفَ تَذْهَبُ الْوِدْيَانُ إِلَى الْجَامِعَةِ هَذَا الصَّبَاحَ مُمْتَطِيَةً حِصَانَاً خَشَبِيَّاً.

 صَبَاحَاتِي مَسَاءُ الْكُمَّثْرَى وَتِلالُ الْقَلْبِ الطَّرِيدَةُ. بِلادِي الْوَاقِفَةَ عَلَى بَابِ ذِكْرَيَاتِي، حَرِّرِينِي مِنْ خَنَاجِرِ الْمَوْجِ الأَخْضَرِ. وَمَشَى الْخَرُّوبُ إِلَى حُضْنِ جَدَّتِهِ. فَأَيْنَ وَجْهُ جَدَّتِي الْمَصْلُوبَةِ عَلَى أَلْوَاحِ رِئَتِي؟. أَمْكِنَتِي تَجُرُّ عِظَامِي بِكَلِمَاتِ الرَّعْدِ. غَطَّيْتُ عُيُونَ النَّوَارِسِ الذَّبِيحَةِ بِرِمَالِ جَبْهَةِ الْمُحِيطِ. يَرْوِي قِصَّتَنَا الآخَرُونَ وَنَظَلُّ نَعُدُّ أَصَابِعَنَا فِي ظَلامِ مَحَطَّاتِ الْقِطَارِ خَوْفَاً مِنْ لُصُوصِ الآثَارِ وَالأَظَافِرِ.

 كَانَتِ الصَّحْرَاءُ تَجْلِسُ عَلَى مَقْعَدٍ مِنْ خَشَبِ الْمَرَاكِبِ الْغَارِقَةِ وَتَضَعُ رِجْلاً عَلَى رِجْلٍ. وَزُجَاجُ مَكَاتِبِ الْمُوَظَّفِينَ يَبِيعُ السَّحْلَبَ لِلأَنْهَارِ الْمُشْتَاقَةِ إِلَى لَوْنِ النَّزِيفِ. وَالْهِضَابُ تَسْتَمِعُ إِلَى صِيَاحِ أَقْوَاسِ النَّصْرِ عَلَى بَوَّابَاتِ الْمُدُنِ الْمَهْزُومَةِ. كُلُّنَا نَصْطَادُ آلامَنَا فِي جَوْفِ سَمَكَةِ الْخَوْفِ.

 كَأَنَّنِي فَتَحْتُ نُخَاعِي الشَّوْكِيَّ أَمَامَ سَمَكَةِ الْقِرْشِ وَارْتَمَيْتُ عَلَى ظَهْرِ مُذَنَّبٍ عَابِرٍ فَوْقَ اسْمِي. لا وَجْهِي عُشْبَةُ الْمَنْفِيِّينَ وَلا مُسَدَّسِي حَافِرُ بُحَيْرَةٍ. سَنَابِكُ الارْتِعَاشِ وَاجِهَةُ النَّزْفِ الْقَرْمِيدِيِّ. هُنَاكَ حَيْثُ نَسِينَا وُجُوهَنَا تَحْتَ صُنْبُورِ الْمِيَاهِ وَآخَيْنَا صَمْتَنَا الْحَجَرِيَّ.

 بَيْنَ وَجْهِي وَالْحُرُوفِ الْهِجَائِيَّةِ يَنْبُتُ صُرَاخُ الأَرْزِ مِرْآةً لِلْغُرَبَاءِ السَّاكِنِينَ قُرْبَ انْتِحَارَاتِنَا. فَلْتَسْتَمِعْ إِلَى نَحِيبِ أَطْفَالِ الْبِئْرِ وَلْتُشْفِقْ عَلَى الرَّضِيعِ وَهُوَ يَمُوتُ فِي أَنْفِ الرُّعْبِ. إِنَّ اسْمَ النَّعَّامَةِ مَخَدَّتِي فَاذْهَبُوا إِلَى حَيْثُ تَلْتَقِي أَسْلاكُ الْكَهْرَبَاءِ بِالأَسْلاكِ الشَّائِكَةِ حَوْلَ قَفَصِي الصَّدْرِيِّ. كُلَّمَا حَفَرَتِ الْغَابَةُ اسْمَهَا عَلَى عِظَامِ النَّهْرِ تَسَاقَطَ الْمَاءُ مِنْ سُرَّةِ الْحُزْنِ وَتُفَّاحَةِ الْوَدَاعِ.

 يَخْتَبِئُ الْحُوتُ الأَزْرَقُ دَاخِلَ مَحَارَةٍ فِي يَدِ طِفْلَةٍ قَطَفَ الذُّبَابُ الْمَلَكِيُّ ضَفَائِرَهَا. يَا خَالِقِي، احْمِنِي مِنْ دَمِي الْمُلَوَّثِ بِظِلالِ التَّاجِ. وَخَرَجَ الْبُرْتُقَالُ الْمَنْفِيُّ مِنْ بَيَاتِهِ الشَّتَوِيِّ. حَفَرْنَا فِي أَوْدَاجِ الْحُلْمِ أَخَادِيدَ زَنْبَقٍ وَمَمَرَّاتِ شِتَاءٍ. سَمَّيْنَا مَوْسِمَ الْحَصَادِ بِأَسْمَاءِ الصَّوَاعِقِ وَعَلَّقْنَا قَنَادِيلَ دَمْعِنَا فِي أَعْنَاقِ الْجِبَالِ الْمَارَّةِ فِي عَقَارِبِ السَّاعَةِ رِمَاحَاً. كَيْفَ سَتَلِدُ خَلِيَّةُ النَّحْلِ آبَارَ قُلُوبِنَا؟.

 إِنَّنَا الْمَنْفِيُّونَ عَلَى رُؤُوسِ جِبَالِ الْغَيْمِ. عَلَّمَتْنَا الْفَرَاشَةُ أَنْ نُصَادِقَ أَشْجَارَ الدُّمُوعِ. وَمَضَيْنَا إِلَى مُؤَلَّفَاتِ النِّسْرِينِ الْفَلْسَفِيَّةِ نَحْنُ الْعَابِرِينَ فِي أَشْلائِنَا دَفَعْنَا ثَمَنَ صَدَاقَةِ الْيَانسُونِ الْمُحَمَّصِ فِي مَسَاءٍ يَكْتَشِفُنَا مِنْ جَدِيدٍ وَيُعِيدُ قَتْلَنَا مِنْ جَدِيدٍ.

 ضَيَّعْنَا شَكْلَ مَذَابِحِنَا. إِنَّهُ يَكْتَشِفُ آثَارَ أَصَابِعِنَا عَلَى خَاصِرَةِ الْخَرِيفِ. إِنْ تَبْذُرْ قَلْبِي فِي حَبَّاتِ الْمَطَرِ تَحْصُدْ دِمَاءَ الْمَرَاعِي. أَشُقُّ طُحَالِي بِسَيْفِ الْقَافِيَةِ فَامْنَعْ خُدُودَ الْبُرْكَانِ مِنِ اسْتِقْبَالِ دَمْعِنَا الْخَارِجِ عَلَى الْقَانُونِ. نُخَزِّنُ الْعَبَرَاتِ فِي أَكْيَاسٍ بِلاستِيكِيَّةٍ حَتَّى تَكْفِيَنَا لِلسَّنَةِ الْقَادِمَةِ. قَدْ سَقَطَتْ دُمُوعُ الأَقْمَارِ فِي غِرْبَالِ الْجِرَاحِ فَفَصَلَ الْغُرُوبُ الْمِلْحَ عَنِ الْمَاءِ الْحَارِّ. لَوْ كَانَتْ رَصَاصَتِي الْوَحِيدَةُ فِيلاً لَرَكَضْتُ فِي أَدْغَالِ الْفِكْرَةِ لَكِنَّنِي الذَّبْحَةُ الصَّدْرِيَّةُ وَالصَّاعِقَةُ وَالْهَضَبَةُ وَالْغَيْمَةُ الْمَالِحَةُ.

 إِنَّ التِّينَ يَخْلَعُ أَسْنَانَ الْغَيْمَةِ. يُفَكِّرُ الْحَائِطُ فِي مَصِيرِ الْكَسْتَنَاءِ. كَانَتْ خُيُولُ الرَّعْشَةِ أَصْغَرَ مِنْ مَلاقِطِ الْغَسِيلِ عَلَى سُطُوحِ نِسْيَانِنَا. وَالْمَغِيبُ يَدْفِنُ عُشَّاقَهُ فِي أَجْفَانِ الرَّصَاصَةِ وَيُتَوِّجُ الشَّرَرَ النَّاتِجَ مِنْ تَصَادُمِ عِظَامِي إِمْبرَاطُورَاً عَلَى مَمَالِكِ الصَّدَى. مَا زَالَ الْوَحْلُ يُصْلِحُ نَعْلَهُ عِنْدَ الإِسْكَافِيِّ. طَرِيقِي نَحْوَ خَوْخَةٍ لامِعَةٍ فِي ظُلُمَاتِ النَّزِيفِ فَلا تُصَدِّقْ نَبَأَ انْتِحَارِ النَّهْرِ فِي أُمْسِيَاتِ الرَّجْفَةِ. هِيَ الْقَذِيفَةُ فِي عُيُونِ السَّرْوَةِ. عَيْنَا قِطٍّ أَجْرَبَ يَغْزُو خَيَالَ الشَّاطِئِ فِي إِحْدَى عَرَبَاتِ الْقِطَارِ الَّذِي يُوصِلُ الْجُثَثَ إِلَى مَقْبَرَتِنَا الْجَمَاعِيَّةِ.

 أَتَوْا مِنْ مُخَيِّلَةِ الْعِنَبِ الْمَنْثُورَةِ عَلَى طَاوِلَةٍ نَظِيفَةٍ. صَدِّقْنِي وَلا تُصَدِّقْ قَرْقَعَةَ عِظَامِي فِي خَرِيفِ الْمَعَانِي. تَحْبِسُنَا الْكَلِمَاتُ الْمَاطِرَةُ فِي زُجَاجَةِ عَصِيرٍ فَارِغَةٍ. لا عُنُقِي مُحَاوَلاتٌ لِفَكِّ شِيفرَةِ الدَّمْعِ وَلا قَلْبِي كِيسُ طَحِينٍ مُسْتَوْرَدٍ. إِنَّكُمْ ظِلُّ إِحْدَى الرَّصَاصَاتِ عَلَى حَقِيبَةِ الْمُهَاجِرِ. وَالأُغْنِيَةُ تَبِيعُ أَبَاهَا فِي سُوقِ عُكَاظَ.

 

التَّفَاصِيلُ الْكَامِلَةُ لِقِصَّةِ اغْتِيَالِي

 قَالَ الرَّمْلُ الدُّبْلُومَاسِيُّ: «لِنَتَوَقَّفْ قَلِيلاً عَنْ خِيَاطَةِ الأَغَانِي الْوَطَنِيَّةِ وَلْنَبْحَثْ عَنِ الْوَطَنِ فِي الْمَجَازِرِ الْمُعْتَادَةِ». رَأَى السَّيْلُ كِتَابَاتِي عَلَى سَبُّورَةِ الأَحْلامِ. إِلَى شَيْءٍ رَاقِصٍ كَالرُّؤُوسِ الْمُتَطَايِرَةِ تَمْشِي أَزْمِنَةُ الْبَيْلَسَانِ. لا يَدْرِي الْقَمَرُ لِمَاذَا تَأْخُذُ الْبُحَيْرَةُ إِجَازَةً مَرَضِيَّةً. رَقَصْنَا عَلَى الأَنْغَامِ الْخَرْسَاءِ فِي قَاعَةِ الْجَمَاجِمِ فِي قَصْرِ الْخَلِيفَةِ. كُنَّا مُهَرِّجِينَ مُبْتَدِئِينَ فِي مُدُنِ الزَّبَدِ فِي بَلاطِ الْوَالِي فِي التُّرَابِ الأَجْنَبِيِّ. نَقْفِزُ كَأَشْجَارِ الْمَذْبَحَةِ لإِسْعَادِ الأَمِيرَةِ الصَّغِيرَةِ. هَذِهِ الرِّئَةُ مَفْتُوحَةٌ لِكُلِّ السُّيُوفِ. غَائِبٌ الْمَكَانُ فِي قَلْبِ الصُّرَاخِ. تَصْطَادُ الأُسُودُ الْحَيَوَانَاتِ الْمَنَوِيَّةَ فِي أَدْغَالِ الْعُمُرِ. هَكَذَا تَعِيشُ أَشْبَاحُنَا كَالأَرْصِفَةِ الْمَكْبُوتَةِ جِنْسِيَّاً. فِي الدُّرُوبِ الْمَنْسِيَّةِ جَلَسَ وَقْتُ الزَّنْبَقِ عَلَى كُرْسِيِّهِ الْهَزَّازِ حَيْثُ تَلْتَصِقُ جُثَثُ الْبَحَّارَةِ الإِغْرِيقِ عَلَى حِيطَانِ الْمَعْبَدِ وَتَنْتَظِرُ الْقِطَطُ خُرُوجَ لَحْمِ الْبُحَيْرَةِ مِنْ شُقُوقِ الْبَلاطِ الْقَذِرِ.

 لَسْتُ بِرْوَازَاً لِلصَّمْتِ الأَعْرَجِ. تَكُونُ أَزْمِنَتِي بَارُودَاً لِصُوَرِ الْغِيَابِ شَكْلاً لِلأَصْفَادِ النُّحَاسِيَّةِ فِي أَطْرَافِ الظِّلِّ. وَاضِحٌ غُرُوبُ الْجُرْحِ خَلْفَ جِبَالِ الْكَلِمَةِ. أَتَيْنَاكَ وَفِي أَوْدَاجِنَا عَنَاوِينُ الْمَنَافِي الَّتِي يَقْضِي الْوَقْتُ وَقْتَهُ فِي عَدِّهَا. شِبَاكُ الصَّيَّادِينَ الرَّاجِعِينَ مِنَ الْمَغِيبِ. وَالأَنَانَاسُ الْوَاقِفُ عَلَى حَافَّةِ كُلِّ الدِّمَاءِ. وَالأَنْهَارُ الْجَارِيَةُ عَلَى سُطُوحِ الْقِطَارَاتِ. كُلُّ الْعَنَاصِرِ الْكِيميَائِيَّةِ تَسْتَقِرُّ فِي ظِلالِ الدَّمِ.

 قُلْتُ إِنَّ الْبَحْرَ سَوْفَ يَضَعُ عَلَى رَأْسِهِ خُوذَةً فُولاذِيَّةً. أَيْنَ الْبَحْرُ الْمُتَعَطِّشُ لِرُؤْيَةِ مَا تَسَاقَطَ مِنْ عُنْفُوَانِ الرِّمَالِ؟. نَفْرُشُ سِجَّادَاً عَلَى رَمْلِ الْمُحِيطِ اسْتِعْدَادَاً لِقُدُومِ مَوْكِبِ أَسْمَاكِ الْقِرْشِ. كُلَّمَا اسْتَنْزَفَنَا الْغَسَقُ سَرَّحْنَا الْعَصَافِيرَ مِنْ خَاصِرَةِ الرُّعَاشِ. عِنْدَمَا أُصِيبَ النَّهْرُ بِالْبَاركِنْسُون حَزِنَتِ الصَّحْرَاءُ الْمَارَّةُ بِمُحَاذَاةِ مَجْزَرَتِنَا. لِلسِّكِّينِ جُلُودُنَا وَفَرْوُ الثَّعَالِبِ. إِبَرٌ تَتَجَمَّعُ كَرِيشِ الْمَدَاخِنِ وَدُخَانِ الثُّلُوجِ فِي أُنُوفِ التَّمَاسِيحِ. زُورُوا الْفُقْمَةَ فِي غُرْفَةِ الْعِنَايَةِ الْمُرَكَّزَةِ وَامْنَحُوا لِلشُّرُفَاتِ الْخَرِيفِيَّةِ حُزْنَ الْفَتَيَاتِ الْمُغْتَصَبَاتِ فِي رِيُو دِي جَانِيرُو.

 وَبَعْدَ شَنْقِي سَوْفَ تَذْهَبُ الْفَتَاةُ الَّتِي أَحْبَبْتُهَا مَعَ خَطِيبِهَا إِلَى مَطْعَمٍ لِلْوَجَبَاتِ السَّرِيعَةِ قُرْبَ أَطْيَافِ مِشْنَقَتِي. سَنُطْلِقُ عَلَى شَوَارِعِنَا أَسْمَاءَ الْمَشْنُوقِينَ وَنُسَمِّي عِظَامَنَا بِأَسْمَاءِ الضَّحَايَا وَنُعَلِّقُ عَلَى رِئَاتِنَا لافِتَاتٍ تَحْمِلُ أَسْمَاءَ مَنْ رَحَلُوا. سَافَرَتْ بِئْرُ الأَحْلامِ وَلَمْ تُوَدِّعِ الْبَحْرَ الْمُخْمَلِيَّ وَالزَّيْتُونُ يُؤَرِّخُ أَحْدَاثَ مَصْرَعِي وَيُوَثِّقُهَا وَالْعُطُورُ الَّتِي يَضَعُهَا بُلْبُلُ الدَّمِ تَشُقُّ بَلاطَ زِنْزَانَتِي.

 لا وَجْهٌ يُغَطِّي الْقَشَّ الْبَحْرِيَّ. وَصَلَتِ الأَعْشَابُ إِلَى كِتَابَاتِ الْمَطَرِ مُتَأَخِّرَةً. مَشَتِ الأَشْجَارُ فِي جَنَازَةِ الْبَلابِلِ. إِنَّكُمْ لَوْنُ الْخُبْزِ فِي الْمَجْمُوعَةِ الشَّمْسِيَّةِ. فَلْتَمْشِ أَيُّهَا الْبَارُودُ إِلَى كُهُوفِ الْبَنْكِرْيَاسِ الرَّصَاصِيَّةِ. يَحْتَفِلُ السُّكُوتُ بِذِكْرَى اسْتِقْلالِ جُرُوحِي عَنِ الْمُذَنَّبَاتِ. وَحَيْثُ يَضَعُ النَّهْرُ خُوذَةَ الشَّعِيرِ عَلَى رَأْسِهِ تُولَدُ ثَوْرَةُ الْبَيَادِرِ.

 لِي ضَوْءُ الْجَوَّافَةِ فِي بُكَائِيَّاتِ زُحَلَ وَلَيْلٌ خَالٍ مِنَ الْقُبَلِ. وَالْقَمَرُ يَحُلُّ مَسْأَلَةً فِي الرِّيَاضِيَّاتِ. وَحِينَ تَبْكِي ابْنَةُ عَمِّي عَلَى الْبَجَعِ الْمَنْفِيِّ يَنْدَلِعُ الْوَرْدُ فِي شَظَايَا الْفِرَاقِ وَمَرَايَا الْوَدَاعِ. إِنَّنَا مِرْآةُ السَّفَرِ عَلَى صَفَائِحِ النَّثْرِ. الْمِشْنَقَةُ الطَّازَجَةُ كَرَقَائِقِ الْبَطَاطَا الْخَارِجَةِ مِنَ الْجُرْحِ الْبَنَفْسَجِيِّ. اعْتَادَ اللازَوَرْدُ عَلَى الْتِهَامِ قَوْسِ قُزَحَ فِي جِهَاتِ شَمَالِ الأَلَمِ. بَدَأَ الصَّمْتُ يُمَارِسُ هِوَايَةَ قِرَاءَةِ الشِّعْرِ فِي الْكَوَاكِبِ الْمُجَاوِرَةِ. مُنْتَصِبَةٌ شَوَاهِدُ الْقُبُورِ فِي صَدْرِي الرَّمِيمِ فَانْهَضِي أَلْوَاحَ الصَّفِيحِ الْعَابِرِ وَسَجِّلِي اسْمَكِ فِي قَائِمَةِ السَّوْسَنِ الْمَحَلِّيِّ.

 وَمَضَيْنَا نَزْرَعُ النَّعْنَعَ عَلَى ظَهْرِ حُوتٍ أَزْرَقَ يُغَيِّرُ لَوْنَهُ كَالأَدْغَالِ الْمَطْرُودَةِ. وَالْجِرْذَانُ تَقْضُمُ نِصْفَ قُطْرِ فُوَّهَةِ الدَّمْعِ. إِنَّ الأَمْسَ مُسْتَقْبَلُ الْوِدْيَانِ. وَاضِحَةٌ ارْتِعَاشَةُ الْمَطَرِ. قُلْ إِنَّكَ مَاضِي الْغَابَاتِ الْمُضِيئَةِ فِي مَسَاءَاتِ الْبِطِّيخِ. يُشْرِقُ مَعْنَى الْبُخَارِ مِنْ جِهَةِ الرَّجْفَةِ. رَكَضْنَا فِي شَهَوَاتِ الْحِصَانِ الْخَشَبِيِّ. بَيْنَنَا صَبَاحَاتٌ لِلْبَرْقُوقِ اسْتِمْرَارُ الرَّعَشَاتِ لُهَاثُ مَا تَنَاثَرَ مِنَ الإسمنت الْفِضِّيِّ.

 عَلَّقْنَا عَلَى طُحَالِ الليْلَكِ جَرَسَ الْعَتْمَةِ وَبَكَيْنَا لِتَبْدُوَ صُورَةُ غَابَاتِنَا وَاضِحَةً فِي مَنَادِيلِ الْحِجَارَةِ فِي الْمَوَانِئِ الْمَنْسِيَّةِ. نَسْتَخْرِجُ الصُّوديُومَ مِنْ مَخَدَّاتِ سُكُوتِنَا كَأَنَّنَا عَبَّأْنَا زُجَاجَاتِ الْعَصِيرِ بِهَزَائِمِ النَّهْرِ وَمَشَيْنَا إِلَى مَوْتِ الْفِطْرِ الزَّهْرِيِّ وَاثِقِينَ مُلْتَفِّينَ حَوْلَ أَفْوَاهِ النِّسْيَانِ. الْمِينَاءُ الَّذِي رَمَانَا فِي الْقَوَارِبِ الَّتِي لا تَعُودُ مَا زَالَ يَحْتَفِظُ بِقُمْصَانِنَا تِذْكَارَاً. وَالْبَحَّارَةُ نَسُوا أَنْ يُطْعِمُوا لِلرَّمْلِ الأَخْضَرِ الْقِطَطَ الْمُشَرَّدَةَ فِي الأَزِقَّةِ الْقَذِرَةِ.

 مِنْ كُلِّ أَبْوَابِ الْوَدَاعِ جَاءَتْ خُيُوطُ وِشَاحِ الْمَرْفَأ اللوْزِيِّ. إِنَّ الْمُسَافِرِينَ يُسَجِّلُونَ تَقَاطِيعَ خَاصِرَةِ الشَّاطِئِ فِي جَوَازِ السَّفَرِ الَّذِي يُجَدِّدُهُ الْبَحْرُ الْغَرِيبُ. نَتَقَاسَمُ وِحْدَةَ الرَّاعِي وَغُرْبَةَ الْفِيَلَةِ وَنَصْعَدُ كَالْمِلْ