-1-
إذا كان «هنـاك من لا يعمـل، ويُشقيـه أن يعمـل الآخـرون»، كما قال (طه حسين) ذات قول، فإن هناك كذلك «مَن لا يعمـل، ولا يترك الآخرين يعملون»، وهناك «مَن لا يعمـل، إلّا على أكتاف الآخرين»! وأولئك هم اللّاهون المُلهون. ولقد أصبحت وسائل الاتّصال الحديثة جسور أولئك الفارغين، ممَّن يضيِّعون أوقاتهم وأوقات سواهم، وممّن أصبح من نكد العصر أن تجد نفسك عُرضة لآفاتهم الذهنيَّة وأمراضهم النفسيَّة، يقتحمون عليك خصوصيَّتك، ويخترقون عليك أمنك، ويعكِّرون صفوك، ويفلِّتون من بين يديك حبال الوقت، عرفتَهم أم لم تعرفهم. يفعلون ذلك بوسائل شتّى، وضروب متعدّدة من الصفاقة؛ حتى إنك إنْ لم تُحِط نفسك بسياجات حاجزة دونهم، ذهبتَ أدراج تفاهاتهم وأَفَنِهم، وضاع العمر في ترّهاتهم. تلكم الطائفة الأولى، أمّا الطائفة الأخرى، الذين «لا يعمـلون إلّا على أكتاف الآخرين»، فقومٌ يشغلون عباد الله بشؤونهم الخاصّة، وشجونهم الفرديّة، منتهزين وسائل الاتصال الحديثة في إحراج الناس، كي يتسلَّقوا على أكتافهم، دون مراعاة لأعمالهم ولا لظروفهم ولا لبرامجهم وواجباتهم. حتى إذا اصطادوا جآذرهم، ولَّوا الأدبار، وأعرضوا عنك إعراضًا، وتنكّروا لك تنكُّرًا، كأنهم لم يعرفوك يومًا قط، إلّا أَنْ تَعِنّ لهم في هذه الدنيا حاجاتٌ جديدة، فإذا هم بباك واقفون! وهكذا تنقلب نعمة الاتِّصالات بين أيدينا إلى نقمة! لماذا؟ لأننا ثقافة «ما لا تطاله بيديك، طُلْه برجليك»! ثقافة الغزو القديم، والسلب، والنهب، وإنْ بطرقٍ ناعمةٍ حديثة. ثقافة لا حُرمة فيها لآخَر، ولا خصوصيّة فيها لإنسان، ولا قوانين هنا تحمي من انتهاك الحقوق، بمختلف أنواعها. تلك القوانين التي تتحوَّل في المجتمعات المتحضّرة إلى تربيةٍ فرديةٍ وجماعيّة، لا يشذّ عنها إلّا هالك. أمّا هنا، فتنفتح بالتقنية الحديثة أبواب ونوافذ عديدة لتلك الممارسات التخلّفية الراسخة، في ظلّ غياب قوانين صارمة مطبَّقة. ويتخطّى الأمر في كثيرٍ من الحالات إشغال الناس وإزعاجهم إلى أشكال من الجرائم المعلوماتيَّة، أو إلى تحويل الساحات الشبكيّة- ولاسيما على مواقع التواصل الاجتماعي كـ«الفيس بوك» و«التويتر»- ميادينَ كتاباتٍ بذيئةٍ جديدةٍ، كان زَغَلُها بالأمس يُقذف على جُدران المدارس والجوامع ودورات المياه، وأسعف العصر بالبديل، فصار يُرْقَم اليوم على جدران الإنترنت، وآلتْ وسائط الاتصالات الحديثة إلى مهارشاتٍ عربانيّة، ومنابحاتٍ صبيانيّة، انتقلتْ بنا من بين الكثبان وأحراش البوادي إلى الفضاء المعلوماتي الواسع.
هكذا نفعل بالتقنية، وهكذا تفعل بنا التقنية؛ فلا نحن نستفيد منها، ولا نحن نَسلم من شرورها!
-2-
وعودًا على ذي بدء، في مناقشاتنا لجِنايات التقنية الحديثة على اللغة العربيّة، تحديدًا، وذلك من قبل جِنايتها على العرب أنفسهم ومن بعدها. وكما رأينا من خلال مقال سابق ذلك التحوّل الطارئ في اللغة التي باتت تُقدَّم بها برامج الأطفال، لنقف اليوم على شواهد أخرى:
نحن نعلم أن الأفلام والمسلسلات الأجنبيَّة كانت «تُدبلج» بالعربيّة الفصحى، وكانت، لأجل ذلك- وعلى كلّ ما يقال ضدَّها، اجتماعيًّا وقِيَمِيًّا- تصبّ لغويًّا في مصلحة شيوع العربيّة في مختلف الأوساط. إلاّ أن العاميّة قد غزت هذه الأفلام والمسلسلات في السنوات الأخيرة، فأصبحت تُترجَم إلى اللهجات، لا إلى اللغة العربيّة. وهو ارتدادٌ إعلاميّ سخيف، وانتكاس ثقافيّ مخجل، له دلالاته الصارخة على انحدار الوعي، وتردّي الشعور بالمسؤوليّة الثقافيّة، والاستسلام لسُلطة الدارج، وأهواء العامّة!
وإليك بمثالٍ إعلاميٍّ آخر. فعلى الرغم من أن الأغنية العربيّة الحديثة قد ظلّت عاميّة غالبًا، وتراجع غناء القصيدة العربيّة كثيرًا جدًّا عن ذي قبل، فإن اكتساح الأغاني العربيّة الفصيحة، في مرحلة من المراحل، لما يُسمّى بالأغنية الشبابيَّة- من خلال بعض نجوم الغناء العربيّ المميَّزين- دليلٌ على أن تقبُّل الناس اللغةَ، وشيوعها بينهم، إنما هو رهين المهارة في استعمالها وعرضها؟! وتلك حُجّة على أولئك الذين يَدرؤون عن تهافتهم بالتذرُّع بالجماهير أو بالرغبات الشعبويّة؛ ومن ثَمَّ ينحطُّون إلى تلك الرغبات بدل أن يحملوا رسالة الارتقاء بذوقها وثقافتها! غير أن دور الأغنية في نشر الفصحى وشِعرها لا يستمر عادةً، وإنما يضيء حينًا من الدهر، مع هذا الشاعر أو ذاك، ومع هذا المطرب أو ذاك، ثم ما يلبث أن ينطفئ، ونعود إلى دوّامة اللغة المعجونة بوحل العاميّة وحسِّها الساذج، الذي باتت الأغنية العربيّة تتردّى فيه، لغةً، وشِعرًا، وإيقاعًا، وذوقًا.
أمّا القنوات الفضائيّة، فيُلحظ أنها- إزاء مأزق اللهجات المتفرّقة- لا تجد مناصًا عن اللغة التي يفهمها كلّ العرب. ولذلك- ومع كل الهوان الذي تجده العربيّة بين أبنائها، وعبر وسائل إعلامهم- فليست الآفاق مطبقة سوداء على كلّ حال. بل لعلّه من المتوقّع أن تكون معظم القنوات الفضائيّة- عاجلًا أو آجلًا- وسائل تقريبٍ لغويٍّ نحو عربيّة وسطى، فصيحة أو مفصّحة. بل إنه ليُلحظ أن للغة الفصحى حضورًا حتى في تلك القنوات التي ارتضتْ العامّيّةَ لغةً في برامجها، أو حتى ادَّعتها لغةً بديلةً عن اللغة العربيّة. تُرى أ يستمرّ هذا، أم يُختطف الإعلام الفضائيّ الجادّ أيضًا عن استعمال العربيّة الفصحى، كما حدث في برامج الأطفال، والأعمال الفنيّة، دراميّةً أو غنائيّة؟! ستُبدي لنا الأيّام ذلك كلّه.
وما زلنا نؤكِّد، أنه، على أهمية التعليم في وضعيَّة اللغة في حياتنا العربيّة، فإن المؤثّر الأكبر في جمهرة الناس هو الإعلام. وستزداد اللغة العربيّة ضَعفًا وانحدارًا إلى الهاوية إنْ ظللنا نصرّ على عزلها في هوامش الاستعمال الكتابيّ، والاستخدام الرسميّ، ودفعنا بالعامّيّات إلى الصدارة، في خضم الحياة الفعليّ، بل جعلناها لسان الإعلام، وربما التعليم. ولذا يمكن القول إن من أعظم مصادر الضعف اللغويّ الراهنة، وبلا منازع: وسائل الإعلام. من حيث باتت العامّيّة فيها الطاغية على لغة الفنّ، والدراما، والغناء، والكثير من البرامج الحواريّة، والتواصليّة مع الجماهير. وأخيرًا ظهرت قنوات الشِّعر النبطيّ، ومسابقات الشِّعر العامّيّ، بعجيجها وضجيجها الواسع النطاق. وباتت الإشكاليّة الآن غير قاصرة على الجانب اللغويّ، على خطورته، بل هي اليوم إشكاليّة ثقافيّة؛ لما ينطوي عليه الأمر من ترسيخ قِيَمِ البداوة، واستحياء مظاهر التخلّف، وتشجيعها، وتنميتها، وتمجيدها، في مقابل ازدراء قِيَم الحضارة، أو تهميشها وتسفيهها، مع التشكيك فيها، ورميها بكلّ الموبقات. كما باتت مفاهيم كـ «التراث»، و«الشعب»، و«الوطن»، تُختزل في تلك البقايا الباهتة من موروثات قَبَليّة وإقليميّة، تعود إلى عصور التراجع من تاريخ الأُمّة العربيّة والإسلاميّة. تُصوّر على أنها تراثنا، وأصالتنا، وجذور شعبنا الخالدة! هذا ناهيك عمّا لا تخلو الحمولة منه من بعث نعراتٍ اجتماعيّةٍ، لها رصيدها الوافر من ذاكرة التنافر، وثارات الأمس، غير المأسوف عليه. إنه استمرارٌ في إنتاج الجهل وتدويره، عبر تشجيع ثقافة الصحراء، والقبيلة، والطائفة.
لقد كانت اللغات الأجنبيّة في بدايات القرن العشرين هي العدوّ الأيديولوجيّ التقليدي والمباشر للغة العربية، أمّا اليوم فقد أصبحت هذه الدوارج المحلِّيّة من اللهجات هي العدوّ الأكبر للغة العربية، ولاسيما بما حظيت به من دعمٍ غير مسبوق، من بعض المؤسّسات التي تتسمى باسم «الثقافة». ولذا أزعم أنها باتت عدوًّا أخطر من اللغات الأجنبيّة؛ لأن عدوك إن أمسى في بيتك هو أخطر من أعدائك في الخارج، مهما بلغوا. بل إن هذا العدوّ ليحتلّ عليك وجهك وسمعك ولسانك وذاكرتك، ويمثّل حينئذٍ مرضًا سرطانيًّا، ينخر في لغتك وثقافتك ومستقبل أبنائك، تصعب عليك مقاموته؛ لأنه «منك وفيك»، وهناك من يدعمه ويغذّيه، ويَنذر حياته وماله لخدمته. أمّا المثقف العربي، فيقف اليوم موقفين: مثقف يقف مكتوف الأيدي واللسان، متفرِّجًا، كأن الأمر لا يعنيه في شيء، خوفًا أو طمعًا، ومثقف والغ في دماء هويّته ولغته وثقافته، جهلًا أو عمالة. ولكلِّ طرفٍ تنظيراته، وتعليلاته، وتبريراته، التي من المستحيل أن تجد لها نظيرًا بعُرض العالم وطُوله؛ لأن الأُمم عادةً تُنَهْنِه سفهاءها- إنْ ظهروا- مستمسكةً أبدًا بما تعاقدت عليه مبدئيًّا، وما يحفظ عليها استراتيجيًّا: شخصيتها، وهويّتها، ووحدتها، وحاضرها، ومستقبلها.