يتوقف الناقد والباحث المغربي، في إطار قراءاته للمثن القصصي الحديث في المغرب، عند تجربة مهمة واصلت تشكيل تراكمها الإبداعي القصصي دون كلل. بل ظلت تتجاوز نفسها باستمرار وقدرة على الإنصات لتحولات النص السردي في سياقاته المنفتحة وصياغات جديدة تقدم نفسا جديدا للقصة المغربية الحديثة.

عزف منفرد على إيقاع البتر: موسيقى السرد/ سرد الموسيقى

عبدالرحيم مؤدن

في مقال سابق اعتبرت "عبد الحميد الغرباوي" من الورثة الشرعيين لمرحلة السبعينيات  زمنا وإبداعا، بل جعلت من تجربته،  وتجربة مجايليه، حقولا يانعة لبعض خصائص الكتابة السبعينية التي فتحت جبهات عديدة ارتبطت بالتاريخ والذاكرة،  فضلا عن أسئلة النص، وسياقاته المتعددة  المنفتحة على أسئلة الحلم والرغبة في التغيير بمختلف مستوياته وأبعاده. ما زلت مصرا، إلى الآن، على هذا الرأى إلى اليوم، والدليل على كذلك النصوص الحالية المعنونة بالعنوان أعلاه، والتي تعكس، من ناحية أخرى، قدرة كاتبنا على فتح مجالات المتعة والتأويل النابعة من طبيعة هذه النصوص المتحركة في أرخبيل الأجناس والأنماط والصيغ ذات المرجعيات المتعددة.

 قبل ذلك، أو بعد ذلك، أشير إلى  بعض العلامات الأساسية المؤطرة لهذه التجربة على الشكل التالي:

أ- إصرار صاحبها على متابعة طريق الإبداع،  وقد دخل في عقده الرابع، إلى آخر نفس. وهذا أمر ليس بالهين في زمن من سماته التدمير اليومي للكائن بالرغم من مظاهر البهرجة الزائفة التي توحي عكس ذلك. فالكتابة جنة( وقاية) ووسيلة- في الوقت ذاته- من وسائل مقاومة الإنهيار.

ب- حيوية الكاتب المجسدة في تنويعه لطرائق الكتابة، بين الرواية والقصة القصيرة،  بين النص الموجه للأطفال والنص البيداغوجي المدرسي، بين تصميم الأغلفة،  والإمساك بالفرشاة، بين التصوير الفوتوغرافي وإنجاز الموقع الإلكتروني للسرد وسراده،  بين "الفتونة" المتجبرة والرزانة المتخلى عنها أمام لمسة الجمال، أو نفحة عطر،  بين ملامح صورة مدير شركة  عركته الأيام،  وقسمات طفل  لاتغادره الدهشة.

النص
يصطدم القارئ،  منذ البداية،  بقضيتين أساسيتين برزتا على ظهر الغلاف:

1- القضية الأولى مرتبطة بعنوان العمل المستوحى من المرجعية{2} الموسيقية، في شقه الأول، (عزف منفرد)، ومن المتخيل( إيقاع البتر)، في شقه الثاني،  مادامت المدونة الموسيقية تخلو من هذا الإيقاع. تجدر الإشارة إلى أن تجارب عديدة اشتوحت المرجعية الموسيقية بطريقة أو بأخرى. (2رضوان الكاشف في شريطه "ليه يابنفسج"؟ وهو عنوان أغنية شهيرة ل" صالح عبد الحي عبر نظام الأدوار والطقاطيق..الخ/الروائية الأمؤسكية السوداء "توني موريسون" في روايتها الشهيرة المعنونة ب" جاز"..)

2- وتتعلق القضية الثانية بإشكالية التجنيس، مادام صاحبها قد أصر على عدم تجنيس هذه العمل، مكتفيا بجعله نصوصا دون توصيف أو تصنيف. ( والنص، انطلاقا من الجرجاني إلى كريستيفا، قد يكون كلمة أو  جملة أو مقطعا أو سفرا).

في المستوى الأول، نلمس المعادل الموضوعي للعنوان الذي يعبر عنه،  عادة،  ب( الكونشيرتو) الذي يعني، من بين مايعنيه،  اللحن المعزوف على آلة منفردة، أو أكثر،  بمصاحبة الأوركسترا. ومن ثم ،  يفسح المجال للعازف المنفردالذي يتحكم في مراحل المعزوفة ،  وتنويعات إيقاعا تها تبعا لطبيعة اللحن. والتفرد لاينفي التكامل مع" الأوركسترا"( الهارموني) التي تمنح- كما هو الشأن في الديكور المسرحي- مؤثتات،  أو" موتيفات" محددة تسمح باستكمال اللوحة الموسيقية.  

القضيتان ، معا،  تتكاملان في قاسم مشترك تجسد في عنصرين:

أ- عنصر الذات المفردة التي أصر عليها العنوان،  من خلال العزف المنفرد.  وأصبح العزف المنفرد ،  موسيقيا،  معادلا موضوعيا،  لضمير المتكلم سرديا.

ب-عنصر التوليف بين الذات والآخر، بين العازف والأوكسترا،  بين المتكلم والمتلقي، بين النص واللانص. فمن المؤكد أن النص،  سواء في حالته الإيقاعية أو السردية،  يمتح من  عمق الذات،  من جهة،  ومن،  و من جهة ثانية،  من  مرونة الكتابة الرافضة لكل تجنيس.

بعودتنا إلى المؤلف المكون من عشرة نصوص، سنلمس انشدادها إلى المرجعية الموسيقية،  بشكل مباشر(جاز/درس القلب على إيقاع جديد/ روحان على سلم موسيقي/عزف منفردعلى إيقاع البتر/كونشرتو الحلم الرمادي/ آلات العزف. . ) أو بشكل غير مباشر،  دون أن يمنع ذلك من حضوراللمسة الموسيقية معجما  وإيقاعا- في باقي النصوص.

والإشكال المطروح - بالنسبة لي على الأقل-  يتجسد في كيفية الإنتقال من الموسيقى إلى الكتابة،  من التجريد إلى الملموس،  من الصوت " النوتة" إلى الكلمة، من اللوحة الإيقاعية إلى المحكي،  أو المقطع السردي.

هكذا تتعدد معزوفات/ نصوص هذا العمل من خلال صياغة موسيقية سردية لعالم محدد عكسته النصوص عبر المحاور التالية:

1- محور المغامرة ردا على النمطية،  أو الموت البطيئ. في نص "جاز" عزف متواصل، أثناء التماهي مع العزف والعازفين،  بهدف (الإنعتاق من ربقة اليومي الممل،  الخانق..  إلى لحظة العناق) ص. 11. وبنية النص التي توسلت بالتوزيع الشعري، (الإيقاع/ الصورة المرئية ، أو القائمة على التذكر/ الكاليغرافية وتفاعل البياض والسواد) من جهة،  - من جهة ثانية- بالمكون الموسيقي( اللازمة/التكرار/المد والجزر/ تنويع أسماء الآلات الموسيقية من "ساكسو" و"ترومبيت"وآلات وترية وطبول)

 بين الشعري والموسيقي انطلقت مغامرة الأصدقاء الثلاثة عبر مسارب الحواس الخمس التي أرهفت فيها الأذن السمع لإيقاعات معاناة الزنوج التى نبع منها " الجاز"،  بعد الحرب العالمية الأولى، ليعكس،  بدوره،  قرونا من العبودية والقهرالعنصري الصادر عن الرجل الأبيض. ورأت فيها العين لون الأبنوس المشع بنشوة العودة إلى الينابيع الأولى لأفراد جوقة استظلوابا لذكرى، كما استظلوا يوما بسقوف القش ومناغاة الأم،  وأشبعت المسام ب( رائحة العرق والكدح..  رائحة حقول القطن في نيو أورليانز..) ص. 12. واشتعل الجسد بجذبة روح اختزنت كل الرغبات،  كل الإحباطات،  كل الأحلام.

 يأخذ محور المغامرة بعدا جديدا في نص(الجدار). ويقوم هذا البعد على قوائم أسطورية،  أو عجائبية، تجعل من الباحث عن الحقيقة- ضريبة المعرفة- عرضة للعقاب، أو تأدية الثمن بطريقة أو بأخرى.  ومن ثم فتمزيق الحجب، أو أسداف  الظلام،  يقتضي التضحية والشهادة.   وبعيدا عن عقاب الآلهه الأسطوري ل" سارق المعرفه" ،  يفضل السارد تقديم جدار يفصل بين الجهل والمعرفة،  بين الحق والباطل، المسموع والمرئي،  بين الروح والجسد.  ومن ثم ماثل الجدار كل حاجز يمنع من الوصول إلى معرفة معينة.  ليكن هذا الجدار، أحيانا، جدار العنصرية الإسرائيلة الفاشلة،  أو ليكن،  أحيانا أخرى،  جدار الإنعاش الوطني الشهير الذي يخفي مدن القصدير عن عيون السائحين والزائرين. ليكن،  أحيانا،  جدار الإعدامات الموشوم  برصاص  ضائع استقر في الصدور البريئة. أو ليكن جدار "إرم ذات العماد" ،  أحيانا أخرى، لأصحاب الدم الأزرق.  هو الذي رأى.  والرؤية ،  في هذا السياق،  ترادف النبوءة. وسواء كان هذا أوذاك، فالنتيجة واحدة.  هنا تتدخل الأسطورة ،  بالتلميح دون التصريح،  لتحول الرائي  إلى جثة من صخر وجلمود، بعد أن ظلت " ميدوزا" تتابع الرائي دون كلل أو ملل.     

(هذا ما ترويه الحكاية... يروونها كلما مروا بمحاذاة نقطة محددة من رصيف ينتهي بأضغاث جدار،  وتساءلوا عن نتوء رمادي يشبه هيئة إنسان  في حال ذهول ينصت إلى..)ص. 24.

2-  يرتبط المحور الثاني ب"الشرط الإنساني". ومن ثم يصبح الكائن الإنساني عرضة للإستبطان من خلال:

أ- الرغبة والعجز، بدءا بالبسيط( امتلاك سقف في نص" رفيف العيون") مرورا بالصعب عبر التوافق الروحي، والجسدي، بين رجل وامرأة لأسباب عديدة، ومنها البعد المادي، والبون الوحي(نص "روحان على سلم موسيقي")، وصولا إلى المستحيل(نافذة على حافة وجهين). جدلية العلاقة بين هذين الأقنومين- الرغبة والعجز- أنتجت نماذج إنسانية موسومة بالرغبة الملحة في  اقتناص ذكرى طيبة،  أو استرجاع موقف إنساني معين، وهي موسومة،  أيضا، بالعجز عن تحقيق ذلك بسبب ما  يحيط بها من ملابسات زمن صعب حول كل شئ إلى استهلاك مريض،  أو علاقات منخورة ب"الروتين"اليومي، والنمطية الباردة الفاقدة للحرارة الإنسانية والتواصل المجتمعي.

3.   تقديم صور نماذج عديدة ،  من خلال حالات محددة.  ولم يكن  portrait هذا النموذج  سوى لحظة إنسانية انسحبت على الإنسان، في قوته وضعفه.. هكذا برز نموذج" الصديق"،  ونموذج " العاشق" و" المعشوق"،  فضلا عن" الحالم" بما هو في متناول الجميع،  دون أن يطوله من ذلك القليل أو الكثير. وبالإضافة إلى هذا وذاك، لايتردد السارد في استدعاء نماذج إنسانية دالة  تميزت بمواقف محددة سمحت للسارد ببناء علاقة نوعية مستندة إلى  عناصر" أوتوبيوغرافية" رممها السارد بأبعاد عديدة.

في هذا السياق حضرت " فرجينيا وولف"،  بوجهها الخفي المستند إلى ما عرف عنها من أكتئاب،  وعصابية،  أودت بها إلى الإنتحار. ( لكن النوبة اللعينة عاودتني

فنزلت رأسا إلى ضفة نهر..

 نهر

Ouse

النهر العكر)ص. 73.

لم يجر هذا الكلام على لسان " فرجينيا وولف"،  بل جرى على لسان السارد الذي  تبادل الحلول مع الشخصية،  إلى الحد الذي ترسم فيه خطوات الكاتبة الشهيرة أثناء إقدامها على الإنتحار. (وضعت أحجارا ثقيلة في جيوبي،

وألقيت بنفسي

في النهر طبعا)ص. 74.  

 وسواء كانت هذه الشخصية،  أو تلك،  فالمتكلم لايحيد  – ومن ورائه الكاتب طبعا- عن حبه للحياة التي تستحق أن تعاش بالرغم من برقها الخلب. فمتعها بعدد مآسيها،  والإنتصارلها يسمح لنا بالإستمرار في مجاهل القتل اليومي.  ولعل هذا ما يفسرانكشاف النص- على سبيل المثال-( كونشرتو الحلم الرمادي)  في نهايته عن كابوس ثقيل تخلص فيه المتكلم من تأثير" فرجينيا وولف"  وهو يتجه بأقصى سرعته نحو دورة المياه.

هكذا تنبع  الحياة من الموت،  وتصبح لحظات الألم المتعددة نوعا من " الكاثرسيس" الذي تصهر عبره الذات لتزداد قوة وتماسكا.

بعودتنا إلى معمارية النص ستزداد قناعتنا بالتقابل المقصود بين البناء الموسيقي( الكونشيرتو) ،  وبين البناء النصي  على مستوى المكتوب.

شكلا:أ- تماثل بين ثلاثية المقاطع في " الكونشيرتو" وثلاثية المقاطع في النص. ( في نص" جاز" يتحدد المقطع الأول في مغامرة الإنطلاق نحو الحفل، والمقطع الثاني يتمحور حول   جوقة العازفين و" سلطنة" الأصدقاء الثلاثة. أما المقطع الثالث فيرتبط بالعودة.

و" الكونشرتو"،  يفتتح ،  عادة،  بمدخل صاخب أو هادئ،  ليفسح المجال لتفاعل الآلة المفردة مع باقي آلات " الأوركسترا"، مترجمة الأحاسيس المتداخلة،  وصولا إلى لحظة النهاية. وسواء قصد الكاتب هذا التقابل بين الشكلين،  فإن البناء النصي استفاد القليل  أو الكثير،  من المرجعية الموسيقية.

والمتأمل لهذه النصوص،  سيلمس البناء الثلاثي،  بمرحعيته الإيقاعية على الشكل التالي:

صخب- هدوء- صخب

هدوء- صخب- هدوء

صخب-هدوء-هدوء

هدوء-هدوء-صخب

ب- برزت المرجعية الموسيقية، أيضا، في التركيز على  عنصري  الصوت والبصر.  فالقارئ لهذه النصوص يظل مشدودا إلى إيقاع الكلمات،  وموسيقية الجمل والمقاطع ، بسبب:

v     تنويع اللحظة بالتوصيفات  المسايرة للموقف،  وكأنها أشبه بضربات "البيان"الهادفة إلى ترسيخ صورة محددة. ( نحن . .

الحالمين

الوديعين

العنيفين

الصاخبين

الهادئين) ص. 8.

وفي مقطع آخر: ( كم هو معفر. .

كوجه العالم

كوجهك. . كوجهي

 كالوجوه. .

كل الوجوه

المضغوطة

المسلوخة

المتورمة

الكالحة

الباردة

المطفأة. .

 الممسوحة الملامح) ص. 93.

v    التكرار: وهو وسيلة من وسائل مقاربة المتحدث عنه، سواء كان مكانا أو حدثا أو شخصية، من زوايا عديدة. (بمستطاعه معرفة شخصيتك

شخصيتي. .

 من نوع الحذاء،

لمعان الحذاء،

مقاس الحذاء، شكل الحذاء) ص. 92.

مثال آخر:(في البياض

البياض

البياض

شديدالوهج حد الحرق

في الأزرق، الأزرق

شديد الدكنة حد العمى. . )ص. 72.

وقد يأتي التكرار على شكل لازمة ترسّخ مايحرص فيه المتكلم على تمرير ما يرغب فيه. فبالإضافة إلى دور " اللازمة" في خلق إيقاع محدد،  تتحول، أيضا،  إلى بوصلة هادية للقارئ،  يعود إليها بين اللحظة والأخرى لربط السابق باللاحق،  من جهة،  وتوجيه النص وجهة محددة ،  من جهة ثانية.  (نص  "جاز").   

v    الحرص على نقل المسموع بصياغة محددة لاتقتصر على الصور والأحاسيس، بل تمتد إلى تشظية المكتوب ، وتحويله إلى نقرات محددة  ذات إيقاع دال. (آت إليك. .

بغبار

برماد

برائحة الحرب

الموت. .

بآخر ابتسامة أمل لاتزال مصرة على التشبت بشفتي

آت. .

آت.

طق،

طق،

طق،

طق،

ط. . )ص66

أما على مستوى البصر، فالقارئ يكتشف،  منذ الوهلة الأولى، شكل الكتابه التي خضعت للتوزيع الشعري،  سواء على المستوى" الكاليغرافي"،  أو على مستوى توزيع الجمله، أو المسافه القوليه  التي خضعت لطبيعه الأحاسيس،  وتحولات الذات عبر الماضي والحاضر، الواقع والحلم،  السيرورة والصيرورة.

وعلاقه الشعر بالنثر لم تلغ نسغ الحكايه الذي ظل منتشرا بين ثنايا هذه النصوص سواء عن طريق استنبات الحكايات الموازيه( سعدالكفراوي) أو عن طريق توليد المحكي الشعبي بصياغة جديدة. (الجدار). من هنا لم تكن هذه النصوص، بشكلها الجديد، بديلا عن الحكاية التي ظلت متحكمة في طبيعه الكتابة، غير أن الحكاية ذاتها  خضعت لشعرنة الإيقاع  النابع من المرجعية – كما سبقت الإشارة- الموسيقية، أولا،  ومن  بنية الشعر ثانيا./.

 

هوامش:
1-عبدالحميد الغرباوي:عزف منفرد على إيقاع البتر. نصوص. دار الوطن. الرباط. 2012.

2- وهي مرجعيه سائده في تجارب كثيره قصصيه فنيه.  انظر: شريط " رضوان الكاشف" :ليه يا بنفسج؟ والعنوان مستوحى من دورغنائي شهير ل" صالح عبد الحي".

- أيضا رواية"توتي موريسون"جاز" التي استخدمت فيها (أسلوبا سقاسم:الكاتبه التي ملأت الفراغات بصوت النساء السود. القدس العربي. 8 يونيه. 2012. ص. 10.