تقدم هذه الدراسة استعراضا لمسيرة النقد الأدبي الحديث وإنجازات النظرية الأدبية في القرن العشرين، وتعد مقدمة لدراسة أوسع عن أعمال الناقدين البارزين رايموند وليامز وإدوار سعيد.

قرن النقد والنظرية الأدبية

أو مسيرة النقد من التقطع إلى الاستمرارية

صبري حافظ

يشكو الواقع الثقافي عندنا من أزمة نقدية خانقة، وهي في حقيقة الأمر أزمة معرفية وأزمة تعبيرية في المحل الأول. أزمة معرفية لأنها تسفر عن نقص معيب في المعرفة بما يدور في النقد الغربي، لا من حيث المعرفة بقشور هذا النقد السطحية، فالخطاب النقدي العربي المعاصر ـ ومنذ صدور مجلة (فصول) ـ مترع بتلك القشور، وبمعرفة مبتسرة بالكثير مما يدور فيها. ذلك لأن الظهار الفكري والفلسفي لكثير من مدارس النقد الغربي ونظرياته غائب عن تلك المعرفة القشرية السائدة في الخطاب العربي، وإن كانت هناك حفنة قليلة من المتخصصين على علم بهذا الظهار الفكري والفلسفي. فجل مدارس النقد الغربي الحديث ونظرياته تمد جذورها في الفكر الغربي والفلسفة الغربية بصورة يصعب معها الفصل بين الأثنين. وأغلب الظن عندي أن سيادة المعرفة القشرية بمنجزات النقد الغربي الحديث لاتنفصل عن غياب المعرفة العميقة بتيارات الفلسفة الغربية التي انبثقت عنها هذه المناهج أو تطورت في جدل مع رؤاها وكشوفها. وهذا بدوره هو المسئول عن تقاعس النقد العربي عن محاوره انجازات النقد الغربي بندية وبشكل خلاق. هذا من حيث أعراض الأزمة المعرفية، أما الأزمة التعبيرية فناجمة عن أن النقد يزدهر في مناخ الحرية الكاملة، والمناخ العربي مناخ يعاني من القهر والهوان والتبعية، ويفتقر للمشروع القومي الذي يحدد أولويات الثقافة، ويدير حواراته وفق هذه الأولويات. وإذا ما اجتمع نقص المعرفة مع انتفاء الحرية بالمعنى العميق لهذا المصطلح كان من الطبيعي أن يحس الجميع بالأزمة النقدية. لأن الفكر النقدي لايقتصر تأثيره على مجالات تطبيقه المحدودة في الآداب والفنون، وإنما يمتد إلى تكوين العقل النقدي الجمعي الخلاق القادر على التعامل بشكل نقدي حر مع كل قضايا الواقع ومشاغله. بدلا من العقل القطيعي أو السلفي أو التقليدي/القبلي أو الذرائعي الذي يرتع في الساحة العربية في غياب العقل النقدي الحر. فليس إرهاف الوعي النقدي ـ حتى في أكثر مجالات النقد الأدبي تخصصا ـ عمل تخصصي، وإن كان يبدو للوهلة الأولى أنه كذلك، ولكن تأثيره يمتد إلى كل مناحي التفكير في الواقع الاجتماعي والفكري والسياسي من وراءه. فثمة دائما مسافة معينة في كل واقع بين أشد خطاباته رقيا وفلسفية وتخصصا، وبين أكثر خطاباته سوقية وضحالة. وكلما أراد المجتمع أن ينهض بأدنى مستويات الخطاب فيه، فإن ذلك لا يتأتي عادة إلا عن طريق النهوض بأرقى خطاباته كي تشد معها أشدها ضحالة وتدنيا وترتفع به عن التردي في مهاوي لم تعد مقبولة مع شيوع مثل هذه الأفكار الراقية، بسبب هذه المسافة الثابته أو درجة التفاوت المتاحة والممكنة بين أرقى الخطابات وأدناها في أي مجال من مجالات الحياة الاجتماعية. فتقاليد الحوار النقدي الخلاق، وضرورة تقديم البرهان العقلي على المقولات قبل قبولها، أو حشد مبررات دحضها، ما أن تسود في التعامل مع النصوص حتى تبدأ في التسرب إلى الكثير من مناحي الحياة الاجتماعية الأخرى. لهذا كله كان من الضروري أن تعمل على إرهاف العقل النقدي الحواري الخلاق إن أردنا النهوض لا بالنقد الأدبي وحده، وإنما بالمجتمع كله، وبقدرته على التفكير المستقل والإبداع الحضاري الخلاق.

(1) عواقب الأزمة المعرفية والتعبيرية:
ولأن الواقع يكره الفراغ، فإن غياب النقد العقلاني الحقيقي سرعان ما يخلق فراغا يملأه النقد الشائه أو الزائف، والذي يحمل في جميع قسماته ميسم العجز، وفكر الأزمة، ومعالم غياب المعرفة الحقة. ومن يقرأ ما تنشره الصحف المصرية بين الحين والآخر باعتباره نقدا يدرك حقيقة الأزمة التي تتجلى في سيادة تلك اللغة العمياء كما يسميها الراحل الكبير غسان كنفاني. فقد أعلن غسان كنفاني قبل أكثر من ثلاثين عاما في محاضرة بعنوان "أفكار عن التغيير واللغة العمياء" ألقاها في بيروت عام 1968، عن سيطرة ما يدعوه باللغة العمياء وتفشيها. يقول غسان كنفاني: "لقد ولدت في المنطقة خلال السنوات العشر الماضية ما نستطيع أن نسميه لغة عمياء. وليس ثمة شيء يستخدم في حياتنا اليومية أكثر من هذه اللغة العمياء. لقد باتت الكلمات التي لاقيمة لها إلا إذا كانت معبرة، لاتعني شيئا على وجه التحديد. إن التعريف لم يعد موجودا. وبات لكل كاتب قاموسه الخاص،، يستعمل كلماته على ضوء فهمه الخاص لها. وهو فهم غير متفق عليه، ولذلك فهي لاتعني شيئا. يبدو أننا في حاجة ماسة إلى إعادة القيمة للكلمات، كتعاريف محددة تعني شيئا متفقا عليه. وهي خطوة كانت لازمة لجميع شعوب العالم في أواخر القرن التاسع عشر وهي على عتبة انطلاقها نحو العصر". (1) ويربط غسان كنفاني هذه اللغة التطريبية العمياء بالهزيمة والعجز وسوء القصد. فقد "صار بالوسع أن يستخدم إنسان ما اللغة ليستر عجزه، أو ليخفي مقصده. وصار بين أيدينا الآن تراث من اللغة العمياء التي أفقدت الحوار قيمته الفعلية، ومن الممكن أن تستخدم لأغراض متناقضة في وقت واحد. إن الاختباء وراء غموض الكلمات هو سلاح أساسي للذي يشعر بعجزه عن تحقيق هدفه. أو الذي لا هدف على التحديد لديه". فالكلمات العاطلة من الدلالة ليست مجرد كلمات زائدة عن الحاجة فحسب، ولكنها أساسا وفي الوقت نفسه أدوات لتمييع الرؤية وطمس الحقيقة وتكريس العجز. ولا أظن أن هناك خلاف على أن عجز الواقع العربي الراهن عن صياغة أهدافه، ناهيك عن تحقيقها، بغائب على أي مثقف مشغول بالهم العام في عالمنا العربي.

غير أن أهم إضافات غسان كنفاني في هذا المجال هو ربط هذه اللغة العمياء بفكر أعمى مثلها، يسميه بـ"الفكر الغنائي الذي يستبدل الوضوح بالتغني، ويرشو غياب الهدف بالكلمات الطنانة التي ترضي الشاعرية الموجودة في أعماق كل منا دون أن تزيد في رؤياه. إن هذه اللغة العمياء قد تكون في نهاية التحليل مبعث اطمئنان أولئك الذين يخشون التغيير". بل يمكنني أن أضيف هنا إلى أنها توشك أن تكون أحد أهم أدوات تغييب التغيير أو عرقلة أي تفكير حقيقي فيه. لأن هدهدة اللغة العمياء لتلك الشاعرية التقليدية الكامنة في الأعماق يشجع الاستنامة إلى دعة الجهل والركود، ويطمس ما ينطويان عليه من قبح وبشاعة. وأهم من هذا كله يمكن الفكر الأعمي من الاستمرار بل الازدهار. وهذا الفكر الأعمى هو الذي يكشف لنا مدى تجذر الأزمة المعرفية في الواقع العربي، ومدى تفشى تجلياتها الفكرية في شتى مناحي حياتنا حتى اليوم. فما ينشر في كثير من صحفنا باسم النقد لاعلاقة له من قريب أو بعيد بالنقد. قد تكون له علاقة بتبادل المنافع، والمجاملات، وتكريس المكانات والمكاسب؛ وفي أحسن الأحوال بالتلخيصات المدرسية المتحذلقة للنصوص الأدبية، ولكن علاقته بالنقد الأدبي بالمعنى المعروف في الغرب منذ أرسطو وحتى اليوم واهية إلى أقصى حد. ليس فقط لأن هذا النقد ينم عن نقص فاضح في المعرفة بما يدور في مجال عمله وهو النقد الأدبي، ولكن أيضا لأن أغلب هذا النقد مكتوب بتلك اللغة التي يسميها غسان كنفاني باللغة العمياء، وينطوي بسبب ذلك على فكر أعمى مثلها. وكلما قارنت ما أقرأه في الصحف والدوريات المصرية والعربية من نقد، بما أقرأه في الصحف والدوريات الانجليزية من نقد أدركت مدى عمق الازمة التي يعيشها النقد الأدبي عندنا.

فأنت تقرأ المقال النقدي في الصحيفة العامة أو الدورية المتخصصة في اللغة الانجليزية فتدرك أول ما تدرك ثراء هذا النقد المعرفي. ونهوضه على مجموعة من المصادرات والتصورات الفكرية والفلسفية الصلبة. لأنه لايزيد معلوماتك في الموضوع المطروح فحسب، ولكنه يرهف باستمرار عقلك النقدي إزاءه. أما إذا قرأت مقالا نقديا في أي صحيفة مصرية أو عربية فستفاجأ بغياب أبسط المعلومات الضرورية لموضوعه، ناهيك عن العقل النقدي الفاعل في المقال كله. وقد يكون الكاتب معذورا في كثير من الحالات، لغياب الموسوعات التي تؤسس للمعرفة وتوفرها، وتمكن الكاتب من الحصول على تواريخ ميلاد الكتاب ووفاتهم وتواريخ طبع كتبهم، وما رافق ظهورها من سياقات وأحداث بمجرد استشارتها، وتمكنه من تمحيص المعلومات الواردة في الكتاب المنقود والتأكد من صحتها. فالثقافة العربية تعاني من غياب هذه الموسوعات وهي جميعها من أدوات الثقافة الثقيلة، جريا على التمييز في الصناعة بين الصناعات الثقيلة والخفيفة. فثقافتنا تعاني من غياب مصادر الثقافة الثقيلة الحية فيها، والتي لا تتأسس بدونها مفردات المعرفة الأولية، بالرغم من أنها الثقافة التي اخترعت القواميس والموسوعات في عصورها الزاهرة. وقد يتعلل الناقد بغياب أدوات الثقافة الثقيلة تلك، ولكن مسئوليته تظل فادحة في أغلب الحالات. لأن ما يتوفر له من معلومات بسطية لايوفرها لقارئه، ولا يشعر بأنه مسؤول أزاءه. لأن معظم الكتابات النقدية تغيب في طوايا تلك اللغة العمياء ولا يوفر كاتبها لقارئه أبسط المعارف التي يتطلبها منه موضوعه. فكثيرا ما قرأت عن كتب دون أن يقدم لي ناقدها أبسط المعلومات عنها، عنوان الكتاب، وموقعه من انتاج مؤلفه، ومكانه في المشهد الثقافي، وفي مسيرة الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه. ناهيك عن من نشره، وثمن الكتاب وكيف تعثر عليه إن أردت الحصول عليه، وغير ذلك من المعلومات البسطية والبديهية والتي يوفرها أي ناقد انجليزي لقارئه في أي صحيفة أو دورية أسبوعية أو شهرية، ويوفر معها كذلك ثمن الكتاب وعدد صفحاته في هامش أساسي في نهاية كل مقال نقدي.

فقد اعتاد الناقد، حتى في أكثر الصحف الانجليزية ضحالة وشعبية ـ ولكل صحيفة انجليزية ناقدها الأدبي، وناقدها المسرحي، وناقدها الموسيقي، وناقدها التشكيلي، وناقدها الأوبرالي، وناقدها التليفزيوني، ومراجعوا الكتب بها ـ على توفير هذه المعلومات البسيطة والأساسية لقارئه قبل تقديم أي رأي نقدي متخصص له. أما الدوريات المتخصصه فلكل منها فريق كامل للعمل في هذه المجالات الأدبية والفنية المختلفة. لايقدم للقارئ خدمة جليلة في مجالات تخصص كل منهم فحسب، ولكن يعمل على أن تظل ذاكرته الثقافية والتاريخية حية ومتقدة باستمرار، حتى يشكل القارئ قوة من قوى المراقبة على مستوى الآداء النقدي. لأن القارئ الذي يعاني من فقدان الذاكرة ـ وواقعنا العربية كله يعاني من فقدان الذاكرة التاريخية منها والثقافية ـ لا يستطيع أن يقرأ قراءة نقدية تمحص ما تقرأ وتحكم عليه. ويقظة الذاكرة هي الأساس ليقظة الشعوب ولتطورها، فلانهضة لأي شعب يعاني من فقدان ذاكرته، تماما كما لايمكن لنا أن نتصور أن يتقدم فرد يعاني من الجهل وفقدان الذاكرة. لأنه لن يستطيع التمييز بين العدو والصديق، أو بين ما ينفعه وما يضره. ولأن النقد في الدوريات والمجلات المتخصصة على درجة عالية من الرقي، فإنه في أكثر الصحف الشعبية ضحالة يتسم بالدقة والوضوح كذلك، ولا يستطيع النزول عن حد معين من الجدية واحترام المعرفة والقاريء. لأن هناك دائما في كل ثقافة من الثقافات مسافة معينة بين أرقى ما تقدمه في مجال من المجالات وأدنى ما تقدمه جودة كما ذكرت. فالمسافة بين السطح والقاع تحافظ دائما على نفسها. فكلما ارتفع مستوى أرقى ما تقدمه هذه الثقافة في ميدان من الميادين كلما رفع معها أقل المستويات جودة فيه، بمعنى أنه كلما ارتفع السطح كلما شد معه القاع، لأنه لايمكن النزول عن حد معين. ولأن المسافة بين السطح والقاع في الثقافة تحافظ على نفسها في أغلب الأحيان إن لم تضق كلما ارتفع السطح وازدهى. أما إذا ما هبط السطح ــ كما هو الحال في واقعنا المصري ـ فإن القاع لايهبط فحسب إلى الحضيض، بل ترتع معه في غياب الذاكرتين الثقافية والتاريخية ـ السلفية والخرافة والفكر المتخلف، ويتبنى بسهولة تصورات أعدائه ومفاهيمهم كذلك. وتتفشى فيه البديهيات المقلوبةن والفكر الغيبي، والعقل القطيعي، والاستبداد. وهذا هو السر مثلا في أن الثقافة الانجليزية تنفق بسخاء من أموال الدولة على عدد من أرقى المسارح البريطانية برغم نجاح هذه المسارح الجماهيري، لأن هذا هو سبيلها للحفاظ على رقي المسرح التجاري نفسه، والذي لايستطيع أن ينزل عن مستوى معين مادام هناك هذا المسرح الراقي الذي يقدمه المسرح القومي أو فرقة شكسبير الملكية. فإذا كان أرقى منبر ثقافي عندنا يتسم بالتخبط وتسود فيه اللغة العمياء، فلا يمكن أن ننتظر من أكثر المنابر ضحالة ألا يتورع عن الإسفاف والابتذال.

(2) الميراث النقدي المتقطع والأسهام العربي الغائب:
وحتى ندرك سر هذا الرقي في تناول النقد لمختلف الفنون في الصحافة والدوريات الأسبوعية الانجليزية، لابد لنا من معرفة الميراث النقدي المتخصص الذي تنهل منه، والذي يمنعها عمقه الفكري من التردي إلى ما يتردى إليه النقد العربي عندنا من ضحالة وشللية ومجاملات وتبادل للمنافع. لأن ما انتاب النقد الأدبي في القرن العشرين ليس أقل من ثورة معرفية كاسحة وغير مسبوقة، ولايمكن استيعابها في مقال قصير من هذا النوع، فثمة كتب عديدة كتبت عن الموضوع. فما أضافه هذا القرن إلى النقد الأدبي يعادل ما أنجزه النقد الأدبي منذ أرسطو وحتى نهاية القرن التاسع عشر مع استقصاءات سانت بيف وهيبوليت تين الفرنسية، إن لم يفقه. فأي دارس لتاريخ النقد الأدبي الغربي يجد أن ثمة العديد من الفجوات التي يعاني منها تاريخه منذ أرسطو وحتى نهاية القرن التاسع عشر، وأن هذا التاريخ القديم المليء بالفجوات يشكل مفارقة واضحة مع تاريخه الحديث في القرن العشرين والذي يتسم بالاستمرارية والثراء. والواقع أن هذه المفارقة تطرح أول تساؤلات مسيرة النقد الحديثة: لماذا اتسمت مسيرة النقد في القرن العشرين بالاستمرارية والثراء، في مقابل التقطع والفجوات في مرحلة طويلة سابقة؟ هل تعود هذه الاستمرارية إلى طبيعة النقلة النوعية في تطور النقد التي حدثت مع بدايات القرن العشرين؟ والواقع أن الإجابة على هذا السؤال هي التي تستلزم استعراضا سريعا لمسيرة النقد الأدبي عبر العصور. كي نكتشف بعض أسباب هذه المفارقة التي كان من الممكن ألا تحدث ـ في رأي هذه الدراسة ـ لولا غياب الإسهام العربي المرموق في هذا المجال عن ساحتها.

فإذا كان هناك إجماع على أن النقد الأدبي بمعناه المتخصص قد بدأ مع بعض أفكار أفلاطون، ولكن شهادة ميلاده الحقيقية لم تكتب إلا مع ظهور (فن الشعر) لأرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد، وهو الإجماع الذي يربط ميلاد النقد بالفكر الفلسفي المنطقي العقلاني من البداية، فإن ثمة خلاف كبير على مساره منذ ميلاده الباكر ذاك وحتى نهاية القرن التاسع عشر. لأننا ننتظر بعد أرسطو ثلاثة قرون قبل أن يظهر لنا هوراس وكتابه (فن الشعر Ars Poetica ) عام 19 ق.م.. ثم ننتظر ثلاثة قرون أخرى حتى يظهر إسهام لونجينيوس On the Sublimeفي القرن الثالث الميلادي. ثم ننتظر بعده عشرة قرون أخرى حتى تظهر لنا استصاءات دانتي عن اللغة والشعر مع مطلع القرن الرابع عشر. صحيح أن هذه الفترة الطويلة التي لانجد فيها أثرا لأي اجتهاد نقدي غربي ـ أوعلى الأقل في القرون الأربعة الأخيرة منها ـ كانت فترة ازدهار النقد الأدبي العربي من ابن سلام الجمحي حتى عبدالقاهر الجرجاني وحازم القرطاجني. إلا أن هذا الاجتهاد العربي ظل غائبا عن الفاعلية في المشهد النقدي، أو حتى عن الاعتراف بوجوده في عمليات التأريخ المختلفة للنقد الأدبي في مختلف الثقافات. فمن المعروف أن النقد وهو نشاط ميتافكري ـ كما يقولون ـ يزدهر في فترات الازدهار الثقافي والحضاري العام. ويغيب إسهامه أو يهمش في مراحل التردي والانحدار. وكما لم يهتم العرب إبان ازدهار الحضارة العربية بترجمة النصوص الأدبية اليونانية، وإنما تركز جل اهتمامهم على العلوم والفكر. كان الحال كذلك بالنسبة لعصر النهضة الأوروبي الذي استفاد كثيرا من الإنجاز المعرفي العربي ـ الفكري منه والعلمي، ولم يهتم كثيرا بالجانب الأدبي. وربما كان غياب هذا الجانب مسئولا ـ حسب تأويلي ـ لا عن تعثر النقد اللأدبي لقرون فحسب، وإنما كذلك عن هذا الاستقطاب ـ الذي لعب فيما بعد دورا سلبيا على الجانبين ـ والذي تحول بسرعة إلى توتر وعداء بين العرب والغرب عامة.

وقد أدى غياب الإسهام العربي عن مسيرة النقد الأدبي الإنسانية، أو على الأقل غياب الوعي الإنساني الواسع به، أدى في اعتقادي إلى فترة طويلة من التخبط في تاريخ النقد الأدبي عامة، والنقد الغربي خاصة، استمرت من دانتي وحتى مطالع القرن العشرين. لأن النقد العربي ومن ابن سلام وحتى الجرجاني والقرطاجني كان من النوع الذي يمكن وصفه بأنه نقد يركز على النص Text-centred وعلى تفاصيل العملية النصية الدقيقة، وليس على العناصر المحيطة به من سياقية، أو فردية بيوغرافية، أو اجتماعية، أو حتى تاريخية. وهذا التركيز على النص هو ما تتسم به الثورة النقدية التي سأتناولها في القسم التالي من هذا المقال، والتي لم تتخلق ملامحها وتتبلور إنجازاتها إلا مع القرن العشرين. فقد عمد النقد العربي منذ محاولته المعيارية لتحديد طبقات فحول الشعراء، مرورا بموازاناته بين شاعرين على أسس نصية صرفة، وانتهاءا بنظرياته الدقيقة في اللغة والمجاز والاستعارة إلى بلورة حقيقتين معياريتين أصبح لهما فيما بعد دور أساسي في الثورة النقدية الحديثة. أولاهما ضرورة اعتماد النقد على معايير نصية مستقاة من داخل النص نفسه، ومن عناصر تكوينه الأساسية. وثانيتهما أن النص الأدبي مشيد من الكلمات، ولذلك فإن أي تعامل معه لابد أن يعتمد على تحليل اللغة كبنية مولدة للمعاني والدلالات قبل أي شيء آخر من خارج العملية النصية. أو إذا ما شئنا استتخدام المصطلح النقدي الحديث يمكن التعبير عنهما بالبنية والخطاب. لكن هذه النقلة النوعية التي أحدثها الخطاب النقدي العربي من القرن التاسع وحتى القرن الثالث عشر، والتي تؤكد أن العقل النقدي الإنساني لم يكن معطلا أو متوقفا كما يبدو الأمر من التركيز على تاريخ النقد الغربي وحده، واعتباره تاريخا للنقد الإنساني بشكل عام، بل كان مستمرا، وإن انتقل مركز الثقل النقدي فيه مع انتقال مركز الثقل الحضاري ودورة الحضارات. وفي هذا المجال كذلك نلاحظ أن غياب الإسهام النقدي العربي عن مسيرة النقد لم يكن استثناءا، بل صاحبه غياب محتلف الإسهامات النقدية من ثقافات آسيوية أخرى من اليابان والصين وحتى فيتنام وكوريا. وبالرغم من أهمية هذه الإسهامات، فليس باستطاعتنا تناولها هنا خارج إطار التنبيه إلى وجودها وأهميتها كي يتناولها آخرون في المستقبل. كل ما يهمني التركيز عليه هو أن النقلة النوعية التي بلورها الإسهام النقدي العربي، خاصة بالمقارنة بحال النقد الإنساني قبله، ظلت غائبة عن النقد الإنساني عامة، والغربي خاصة، وأدت إلى شيوع نوع من القطيعة النقدية التي امتدت منذ الرومان مع هوراس ولونجينيوس وحتى بزوغ بدايات الاجتهادات النقدية في عصر النهضة مع دانتي ومقالته الشهيرة عن البلاغة De Vulgari Eloquentia عام 1304. وقد ظل التقطع بعدها سمة التفكير النقدي الغربي لفترة طويلة. صحيح أن القرن السادس عشر شهد نوعا من الصحوة النقدية التي صاحبت صحوة النهضة الأوروبية منذ (فن الشعر Vida's Poetica) لفيدا 1527 عام وحتى كتاب لوب دي فيجا العلامة (فن كتابة الكوميديا) عام 1609 مرورا بمقال دي بيللي Du Bellay's Defense et Illustration وأطروحتي بوتنهام Puttenham عن (فن الشعر الانجليزي The Art of English Poesie) عام 1589، وفيليب سيدني (دفاع عن الشعر Apologie for Poetrie) عام 1595.

وقد اتسع نطاق هذا النشاط النقدي في القرن التالي واتسم بالتراكم والمنهجية التي كان شاغلها الأول معياريا، ينطلق من تكريس كلاسيكيات الثقافة الغربية الأوروبية ويجعل انجازاتها هي النموذج الذي يجب أن يحتذى، سواء أكان ذلك في الشعر أو المسرح. خاصة وأن القرن الساذس عشر شهد بزوغ موهبة أحد أهم كتاب المسرح الأنساني وهو وليام شكسبير، وتلته صحوة مسرحية مشابهة في كل من فرنسا وأسبانيا، كانت هي المسئولة عن أبرز كلاسيكيات المسرح الفرنسي من راسين وكورني إلى موليير. ولأن إنجاز شكسبير كان في تلك الفترة الباكرة ملفحا بقدر من إشكاليات التحولات الدينية في بريطانيا وقتها، احتاج الأمر إلى فترة طويلة نسبيا ليظهر تأثيره على تنظيرات الخطاب النقدي من خلال مقال بن جنسون عن كشوف حسن التعبير Timber or Discoveriesعام 1640ومقال جون درايدن الشهير عن فن المسرح Essay of Dramatic Poesy عام 1668 . لكن أهم التنظيرات النقدية التي قدمها القرن السابع عشر كانت في فرنسا خاصة من خلال خطاب كورني Corneille's Discours عام 1660و(فن الشعر) لبوالو Boileau's L'Art Poetiqueعام 1673. واستمر تكريس قواعد الكلاسيكية والاهتمام بما يمكن العمل الفني من تجاوز زمنه ليظل قادرا على التأثير خارجه شاغلا مسيطرا على الخطاب النقدي الغربي. حيث سيطر على النقد يقين بأن سر استمرار فاعلية الكلاسيكيات القديمة في الحاضر، وخلودها يكمن في طبيعتها الخاصة، في انطوائها على مجموعة من السمات والمبادئ المطلقة، وهو ما يجب على النقد التعرف عليه وإماطه اللثام عن غوامضه. وهذا ما نجده في مقال ألسكندر بوب Pope الشهير (مقال في النقد An Essay on Criticism) عام 1711. ويوشك هذا المقال أن يكون ختام مرحلة كاملة في تاريخ النقد الغربي، بدأت بالكلاسيكية الأرسطية وانتهت بالكلاسيكية الجديدة في معظم هذه النصوص.

لكن هذا القرن شهد كذلك اضافة نفدية فكرية أساسية كانت سابقة لعصرها إلى حد كبير، وهو الأمر الذي ساهم في إغفالها، فلم تنل حظها الجديرة به من الاهتمام إلا مع ثورة النقد في القرن العشرين.(2) وقد تمثلت هذه الانطلاقة التي رفضت لازمانية كل التصورات الكلاسيكية القديمة للأدب في كتاب جياباتيستا فيكو (مبادئ العلم الجديد Principi Di Scienza Nouva) عام 1725 والذي أسس لتاريخية الظاهرة الأدبية، بل والظاهرة الإنسانية الاجتماعية برمتها. لأنه كتاب يطمح إلى تأسيس علم شامل للمجتمع الإنساني، أو بالأحرى ما يسميه بالبنية النسقية التاريخية للمجتمع الإنساني وللطبيعة العامة للأمم. وهو كتاب فيه كثير من كشوف ابن خلدون الأساسية في هذا المجال، وإن تأخر عن ابن خلدون بعدة قرون، ولكنه غياب الإسهام العربي من جديد. لكن المهم أن فيكو الذي كان استاذا للبلاغة اللاتينية في جامعة نابولي أسس فيما يتعلق بدراسة الأدب المنهج التاريخي لتناول الظاهرة الأدبية والنصوص. وشكل هذا المنهج في حد ذاته ما يقرب من الثورة النقدية التي أطاحت بإطلاقية كل تنظيرات الكلاسيكية الجديدة، وجرؤت على البرهنة على أن القواعد التي كانت صالحة لزمن معين قد لاتكون صالحة لزمن آخر. كما أن كل أعمال العصور القديمة لم تصمد لتجربة الزمن، وإنما هناك حفنة صغيرة منها لا يعود صمودها لقدمها، وإنما لخصائص أخرى فيها ينبغي علينا استكناهها. وقد فتحت هذه الثورة الباب أمام مجموعة جديدة من المفاهيم احتاجت إلى زمن طويل حتى تبلور كل إضافاتها الجديدة، ولكنها دقت أهم مسمار في نعش الكلاسيكية الجديدة، وفتحت الباب أما تجديدات أدبية ونقدية بالغة الأهمية. وأهم من هذا كله لفتت النظر إلى أن سر بقاء الأعمال الأدبية ليس قدمها، ولكنه شيئ آخر فيها على البحث الأدبي استقصاءه والتعرف على ماهيته. وكان هذا تنبيه باكر لا إلى زمانية النص وتاريخيته فحسب، ولكن إلى نصيته قبل كل شيئ.

وقد تمثلت أولى التغييرات الجذرية بعد قطيعة فيكو المعرفية مع الماضي في بزوغ التصورات الرومانسية المختلفة في شتى مناحي الثقافة الأوروبية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر. وكانت الأرضية الفكرية والفلسفية التي ساهمت في بلورة هذا الفكر النقدي هي فلسفات الذاتية المختلفة التي أعادت النظر في الذاتي والموضوعي عند كانت وفيختة وشيلينج وصولا إلى جدلية هيجيل المثالية وحوارها بين العقل والخيال، بين الذاتي والموضوعي، بين الطبقات الاجتماعية المختلفة، بين الماضي والحاضر، وبين الرب والطبيعة والإنسان. فقد طرح هؤلاء الفلاسفة جميعا الوعي الإنساني باعتباره مستودع معرفة الإنسان بالعالم الخارجي، مما فتح الباب أمام اعتبار الفهم الفردي أو الشخصي معيارا للمعرفة، بل وللحقيقة ذاتها. وقد أضافت الرومانسية الألمانية لذلك المعيار المثالية باعتبارها العنصر المشترك بين الطبيعة والرب والأنسان. كما لعبت الثورة الصناعية وتغيراتها الاجتماعية الكاسحة دورا آخر لايقل عن هذا الدور الفكري أهمية في تمهيد الأرض لتلك التغيرات الجذرية. أما على الصعيد الأدبي فيمكن تلمس بذور الفكر النقدي الأولى للرومانسية في فكر جان جاك روسو (1712-78) وتركيزه على الإنسانية الطبيعية وأدب الاعترافات والمجتمع المثالي الحلمي أو اليوتوبيا/ وهو الفكر الذي ساهم في تكوين الكثير من رؤى الرومانسيات الأوروبية المختلفة. وكان المفكر الألماني هيردر (1712-1803) اول من التقط أفكار روسو وبلورها فلسفيا، مؤكدا الطبيعة الخاصة لكل مرحلة من مراحل التاريخ الإنساني المختلفة، والروح العامة التي تتخلل كل أنشطة المرحلة الثقافية على الصعيدين المادي والروحي. وكان الشاعر الألماني هولدرلين (1770-1843) أول تجسيد إبداعي لتلك الرؤى الأدبية والفلسفية الجديدة. ثم تبعه جيته (1749-1832) وشيللر (1773-1805) وهنريس هاينه (1797-1856) في ألمانيا. ثم جاءت بعد ذلك أهم التجديدات الرومانسة إبداعيا وفكريا مع بداية القرن التاسع عشر، وبعد نشر وردوزورت (1770-1850) قصائدة الغنائية Lyrical Balladsالشهيرة عام 1800، وتبلورت نقديا في كتاب كوليريدج (1772-1834) الشهير (السيرة الأدبية Biographia Literaria) عام 1817، الذي منح شكسبير وميلتون مكانتهما المركزية في الثقافة الانجليزية، وبنى رومانسيتها فوق إنجازهما المتميز. وتبعه بعد أعوام ثلاثة دفاع شيلي (1792-1822) الشهير عن الشعر Defence of Poetry عام 1820 فأسسا معا قواعد الرومانسية الانجليزية وتصوراتها المتميزة للأدب والشعر والإنسان التي وجدت بعدهما في بيرون (1788-1824) وكيتس (1795-1821) تعبيرا قويا عنها. وقد كان انتشار الأفكار والرؤى الرومانسية من انجلترا حتى فرنسا عند سان مارتان ودي صاد وشاتوبريان، ومن ألمانيا حتى روسيا عند ألكسندر بوشكين وميخائيل ليرمانتوف، بصورة ساهمت في تعميق كشوف الرومانسية الفلسفية والنقدية على السواء، وجذرتها في الإنتاج الأدبي بشكل واسع، وقدمت تنويعات كثيرة وثرية عليها من بلد إلى آخر.

وإذا كانت الرومانسية والتي أخذت في اعتبارها استقصاءات الفكر الفلسفي حول الذاتية والموضوعية، ومتغيرات الواقع الاجتماعي بعد الثورة الصناعية، هي أهم التغيرات الجذرية التي نجمت عن القطيعة النقدية المعرفية التي أحدثها فيكو، فقد رافقها تغير آخر لايقل عنها أهمية، وهو محاولة تأسيس تصور نقدي أدبي على أساس علمي راسخ، وعلى مقولات ذات طبيعة عامة يمكن تعميمها، كما هو الحال في الخطاب العلمي. وقد بدأ هذا التصور بشكل جدي في مقال شهير لدافيد هيوم نشره عام 1757 عن معايير الذوق الأدبي "Of the Standard of Taste" طارحا فيه وجود معايير موضوعية للذوق الأدبي، ومجموعة من المبادئ التي يمكن وفقا لها الثناء على العمل الأدبي أو توجيه النقد له. منطلقا من ضرورة الاعتراف بوجود هذه المعايير التي اتاحت للإعمال الجيدة الحياة والفاعلية عبر العصور. وإلا لما كان هناك هذا الإجماع على أهمية كلاسيكيات الآداب المختلفة، والاستمتاع بها. صحيح أنه لم يستطع أن يفصل لنا تلك المعايير، أو بالأحرى تجنب الوقوع في شراك تحديداتها الصارمة، إلا أنه أكد لنا أن هذه المعايير الموضوعية هي مصدر المتعة التي نحصل عليها عند تلقي العمل. كما أكد، وهذا هو الأهم أن أي تناول عقلاني للآداب والفنون لابد أن ينطلق من الاستجابة الإنسانية لها. وهو موضوع أولاه الفيلسوف الألماني عمانويل كانت (1724-1804) عناية تفصيلية في كتابه الضخم نقد القدرة التمييزية على الحكم Critique of Judgement عام 1790 التي تعامل فيها بشكل تفصيلي مع مقاهيم الجمالي والسامي والحكمي والذوق والمتعة ... إلخ.

وإذا كان صحيحا أن هيوم فتح الباب أمام بلورة دور العناصر الذاتية في الاستجابة والتلقي، وفي المتعة التي تنتج عن الفن، فإنه لم يعبأ كثيرا بالكشف عن كيف يتحول الموضوعي (أي عناصر الذوق المعيارية) إلى متعة ذاتية. لكن كانت أولى هذه المسألة عناية تفصيلية ساهمت فيما بعد في تطوير العديد من مناهج النقد الأدبي، لا في القرن التاسع عشر وحده، بل وفي القرن العشرين كذلك. وقد أصبحت هذه الإشكالية المعرفية المتعلقة بالموضوعي والذاتي في الفن والأدب هي مجال استقصاءات علم جديد أنبثق في تلك الفترة هو علم الجمال Aesthetics على أيدي ألكساندر بومجارتن ليصبح علم التصورات والمعرفة الحدسية. وهو الأمر الذي نطور فكريا وفلسفيا على أيدي بينديتو كروتشه في كتابه الشهير (علم الجمال) عام 1902. كما أنها رادت أعمال أحد ابرز نقاد هذه المرحلة في بريطانيا، وهو والتر باتر الذي بلور نظرية الأنانة أو مركزية الأنا المستجيبة للعمل الأدبي والفني في دراساته المختلفة وأبرزها دراسته عن عصر النهضة وعن تقدير العمل وتقييمه Walter Pater's The Renaissance (1873) and Appreciations (1889) هذا وقد فتحت كتاباته الباب أمام تقييم الأعمال الأدبية والحكم عليها وفق ذائقة مثقفة ومتغيرة ولكنها فردية في نهاية المطاف في حكمها وتقديراتها. وهي أراء نقدية سنجد لها أصداء مختلفة لدي عدد من الكتاب والنقاد في مختلف البلدان الأوروبية من أناتول فرانس في فرنسا إلى إدجار ألان بو في أمريكا، كما Poe's The Philosophy of Composition (1846) and The Poetic Principle (1850)

وفي مواجهة هذه الأفكار الذاتية، كانت هناك مجموعة من الاستقصاءات النقدية التي تنهض على فكرة الموضوعية، التي تلقت دفعة قوية مع بزوغ ماركس (1818-83) وفكره المادي الجدلي الذي لفت الانتباه إلى أهمية كل من التاريخ والعوامل الاجتماعية. وأخذت الاستقصاءات التي استفادت من هذه القاعدة الموضوعية العريضة تسعى إلى تأسيس معيارية النقد الأدبي وفق نفس القواعد المتبعة في العلوم الطبيعة، وأبرز النماذج في هذا المجال هو الكاتب الفرنسي الشهير إيميل زولا(1840-1902) الذي كتب الرواية التجريبية La Roman Experimental عام 1880 في نوع من التناظر مع كتاب كلود برنار الشهير في تلك المرحلة عن علم وظائف الأعضاء (الفسيولوجيا) التجريبي. وهو كتاب يتعامل مع كتابة الرواية كما يتعامل الطبيب مع تجاربه المعملية. وقد طور الناقد الفرنسي الشهير هيبوليت تين Hippolyte Taine (1828-93) هذا الاتجاه حينما بلور مبادئ علم التاريخ الأدبي بناء على ما توصل إليه تشارلز داروين في أبحاثه الطبيعية عن نظرية النشوء والارتقاء. مفصلا أثر البيئة والظروف المحيطة على تطور الأفكار والأجناس والشخصيات، بل وحتى الأمم (فقد طبق منهجه على تاريخ فرنسا وتكوينها) داعيا إلى ضرورة تطبيق العلم والمنهج العلمي على علوم الإنسان/ وعلوم الأدب والفن والمجتمع. وإذا كانت صرامة تين قد هددت النقد الأدبي بالجمود، فإن سانت بيف Sainte-Beuve (1804-69) استطاع أن يحرر النقد من هذا الجمود وأن يكسبه ذيوعا وشعبية، دون أن يتخلى عن صرامته العلمية. ولذلك كان طبيعيا أن يعتبره الكثيرون أبو النقد الأدبي الحديث بمعناه الواسع الذي يحقق التوازن بين جدية النقد الأكاديمي وتخصصه، وسلاسة النقد الصحفي الذي يؤثر في الجمهور الثقافي الواسع. فقد استطاع المزاوجة بين المنهج الموضوعي في العامل مع الأدب وأخذ كل العناصر السياقية المحيطة بالنص والكاتب بعين الاعتبار، فقد كان يعتقد أنه من العسير فهم العمل دون معرفة دقيقة بكاتبه. فلم يكن هدفه الحكم على الأعمال التي يتناولها أو الكتاب الذين يدرسهم وإنما أن يفهمهم بأعمق وأوسع طريقة ممكنة. وهذا الفهم يتطلب معرفة بنشأتهم وبيئتهم وتكوينهم المعرفي والثقافي وأثر هذا كله في عملهم وإبداعهم. واتسم نقده لذلك بقدر كبير من الحساسية والموضوعية.

وإذا كان الكثيرون يعتبرون سانت بيف أبو النقد الأدبي الحديث، فإن العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر شاهدا تبرعم منهجه وانتشار هذا المزيج الشيق من الدراسات السياقية المفصلة والانطباعات القيمية والجمالية المستبصرة. وهي الانطباعات التي كانت تأخذ بنصيب كبير من استقصاءات نفسانية أو جمالية أومعيارية، ولكنها تظل في نهاية الأمر انطباعات تأثرية تتفاوت في قدرتها على الحكم والإقناع، وتعاني من تقلص الجوانب الموضوعية والعوامل المعيارية فيها. وتعتمد كثيرا على ما دعاه النقد الأمريكي الجديد فيما بعد بالأغلوطة القصدية أو التأثيرية Intentional or Affective Fallacy التي تعتمد كثيرا على ما تتوهم أنه قصد المؤلف دون تقديم برهان مقنع على ذلك. خاصة بعدما أجهز كروتشه على ثنائية القصد والتعبير، وبرهن على أن القصد لا يوجد دون التعبير، ولا ينفصل عنه، وأن زعم الكاتب بأن ما كان يقصده غير ما عبر عنه هو محض وهم وتعلة.

(3) تواصل الجدل النقدي وثورة النقد الحديث
يوشك النصف الثاني من القرن التاسع عشر بإجهازه على عملية التقطع والفجوات التي ميزت تاريخ النقد الآدبي، وببلورته لمسار من الجدل المتواصل حول الأدب والفن وعلم الجمال أن يكون المقدمة الضرورية لثورة النقد في القرن العشرين. وهو مقدمة بأكثر من معنى، ليس فقط بمعنى التمهيد لتلك الاستمرارية المهمة التي مكنت النقد من تحقيق ثورته، والاعتماد على تراكماته المعرفية والمنهجية الخاصة، ولكن أيضا بمعنى تمهيد الطريق وتعبيده، وتحديد الطرق المسدودة فيها، والتي لاتعد مواصلة البحث فيها بكثير من العطاء. وتوشك انطلاقة ثورة النقد الحديث ـ سواء في في روسيا مع الشكليين الروس، أو أوروبا مع البنيويين أو في أمريكا مع مدرسة النقد الجديد ـ أن تكون نوعا من رد الفعل على ما أنجزته مدرسة سانت بيف النقدية من تركيز على السياقات المحيطة بالعمل الفني والعناصر الخارجية عليه، ومن اعتماد على انطباعات تأثرية لايمكن لكثير منها ـ برغم استبصاراتها المهمة في كثير من الأحيان ـ أن تصمد أمام محك التمحيص المعياري والعلمي الدقيق. والواقع أن أهم الأسس التي انبنت عليها الثورة النقدية الجديدة، والتي أرساها مبكرا، مع بدايات القرن العشرين، الشكليون الروس هي ضرورة أن ينبني أي تنظير للأدب على أهم مكونات الأدب، وهي اللغة. وألا يعتمد هذا التنظير على منجزات العلوم الأخرى، سواء منها الطبيعية أو الاجتماعية. ذلك أن مدار اهتمام هذه المدرسة الأول كان ما دعته بأدبية الأدب، والكشف عما يجعل الرسالة الأدبية مختلفة عن أي رسالة لغوية أخرى. وقد بدأت مغامرة الشكليين الروس الشيقة في التبلور النظري في حلقة موسكو لدراسة اللغويات عام 1915 وجمعية درسة اللغة الشعرية في سانت بيترسبورج عام 1916،(3) بالرغم من أن البدايات الأولى للاستقصاءات التي تبلورت نظريا في هاتين الحلقتين تعود إلى العقدية السابقين، بل وإلى العقد الأخير في القرن التاسع عشر كذلك.(4) وشكلت هذه المغامرة نوعا من القطيعة المعرفية مع كثير من التصورات النقدية السابقة عليها. لأنها انطلقت من التعامل مع الأدب باعتباره نشاطا أنسانيا متفردا، وممارسة لغوية وليس نوعا من التعبير عن المجتمع أو ساحة لصراع الأفكار. وأنصب اهتمامهم في المحل الأول على الشعر وليس على الشاعر، على العمل الأدبي نفسه وليس على مصادره وتأثيراته. فقد كان هدفهم هو فصل الدراسة النقدية عن غيرها من مجالات الدراسات النفسية والاجتماعية أوحتى دراسات التاريخ الثقافي. ولذلك انصب اهتمامهم على الملامح المميزة للنصوص الإبداعية، أو بالأحرى لأدبية العمل الأدبي، من استراتيجيات مميزة للكتابة الآدبية عن غيرها من الخطابات الأخرى. وكشفا عن أن الخطاب الأدبي يتميز عن غيره من الخطابات اللغوية المختلفة بأنه لايهتم فحسب بالرسالة اللغوية، وإنما بالوسيط اللغوي ذاته، بصيغ التعبير واستراتيجيات الكتابة على نفس الدرجة من الأهمية التي تعطيها الخطابات الأخرى للرسالة أو المعنى.

وهكذا فتحت استقصاءات فيكتور شكلوفسكي، وفلاديمير بروب وميخائيل باختين اللامعة، الباب أما نوع جديد من النقد الأدبي، ينهض على دراسة أداة التعبير الأدبي ذاتها، أي اللغة، واختلافات وظائفها في النص الأدبي عن غيرها في الاستعمالات الأخرى. وهي استقصاءات أسست دراسة الأدب على أسس أدبية خالصة، بعدما كان كل من الدراسات النقدية وعمليات التحقيب الأدبية تعتمد على منجزات العلوم الأخرى. واهتمت بمعرفة ما يجعل نصا من النصوص أدبيا بينما لا يستحق نص آخر هذه الصفة، أي بما دعوه بأدبية الأدب. وأسست هذه الأدبية على قاعدة من التحليل الهيكلي واللغوي للأدب، وليس على قواعد مستقاة من علم النفس أو الاجتماع أو غيرهما. فما يهم الشكليون ليس دور الصورة في الشعر مثلا، ولكن كيفية استخدام هذه الصورة، ووضعها داخل القصيدة في علاقات مع غيرها من الصور، ومع بقية مكونات الخطاب الشعري اللغوية في القصيدة. فالشعر عندهم ينطوي على تراتبات مغايرة للرسالة اللغوية من تلك التي يعتمد عليها النثر. فقد كان السائد أن الصورة هي أداة لتقريب المعنى من القارئ، أو حتى خلق ما دعاه ناقد معاصر لهم في بريطانيا في هذا الوقت ـ وهو ت س إليوت ـ بالمعادل الموضوعي للعواطف والانفعالات. ولكن الشكليين الروس طرحوا تصورا مغايرا لها في الشعر، وهو عكس ذلك تماما، فليس هدف الصورة تقريب المعنى وإنما الإجهاز على الألفة به من خلال تقديمه بصورة غير مألوفة، تستقطب الاهتمام لنفسها، وليس لما تريد التعبير عنه أو توصيله، فتتخلخل بذلك اللاقة التقليدية بين الآثنين. وقد حاول الشكليون تفصيل هذا التصور الجديد لأدبية الأدب من خلال دراسات تفصيلية للشعر والأسطورة والحكايات الشعبية والمسرح وغيرها من الفنون.

وقد طور الشكليون الروس في هذا المجال ـ وخاصة على أيدي شكلوفسكي وإيخينباوم ـ واحدة من أهم الإضافات النقدية في مجال تحليل النص السردي والحكايات الشعبية على السواء. وهي التفرقة المهمة بين ما دعوه بالـ fabula أي الحكاية التي يرويها أي نص سردي في ترتيب أحداثها التاريخي، أو بمعنى آخر المادة الخام التي تتكون منها حبكة النص السردي؛ والـ sjuzhet أي العرض السردي لهذه الحكاية أو المادة الخام، والذي لا تتحول بدون استراتيجياته النصية المختلفة إلى بنية جمالية أو عمل أدبي. ذلك لأن ترتيب الحبكة لايخضع غالبا لتسلسل وقوع أحداث الحكاية أو المادة الخام التاريخي، ولا يمنح التفاصيل المختلفة للحكاية في سرده لها ثقلا متساويا مع ثقل هذه التفاصيل خارج السرد. بمعنى أن النص قد يخصص فقرة لأحداث استغرقت أعواما، بينما يخصص صفحات طويلة لأحداث لم تستغرق إلا دقائق أو ساعات. ومن خلال وعي الناقد بالجدل المستمر بين الحكاية والحبكة يفك شفرات النص ويتعرف على دلالاته ورؤاه. فالنص السردي عند الشكليين الروس يعتمد أساسا على البناء المراوغ للحبكة وليس على الحكاية التي يمكن تلخيصها في عدة جمل عادة، لأن تلخيص العمل السردي واختصاره في الحكاية يعنى إغفال أهم ما ينطوي عليه هذا العمل من رؤى ودلالات. وقد استخدم الشكليون في هذا المجال سخرية تولوستوي من الناقد الذي استطاع أن يلخص (أنا كارينينا) في عدة جمل، حينما قال عنه "إنه أكثر براعة مني، لأنني لو سئلت عن موضوع أنا كارينينا، فإن جوابي الوحيد سيكون إعادة كتابتها من جديد." (5) وهو الأمر الذي أحاله رولان بارت فيما بعد إلى قاعدة نظرية أساسية حينما قال إن الوسيلة الوحيدة لتلخيص النص الأدبي هي أن تكرر مفرداته وبنفس الترتيب. فأهم ما أجهز عليه النقد الحديث ما يدهى بخطيئة التلخيص وتأسيس التحليل بديلا لكل التهويمات التلخيصية القديمة.

لكن أبرز إنجازات هذه المرحلة النقدية الباكرة من القرن العشرين قاطبة، لا في روسيا وحدها، بل خارجها أيضا، هي أعمال الناقد الكبير ميخائيل باختين (1895-1975)، والتي تشكل وحدها ثورة نقدية عارمة. بل إن كثيرين يعتقدون ـ وأنا شخصيا منهم ـ أن باختين هو أهم ناقد أنجبه القرن العشرين، وأن أهميته لاتقل عن أهمية أرسطو إن لم تفقها في تاريخ النقد الأدبي. (6) فقد أسس باختين إنجازه النقدي على قاعدة صلبة من نظرية اللغة أولا في كتابه المهم (الماركسية وفلسفة اللغة). ثم دخل بعده في حوار نقدي خلاق مع أفكار التشكليين الروس ورؤاهم، ودحض الكثير من أفكارهم الأساسية، مؤسسا من خلال هذا النقد تصورا جديدا للغة يختلف كثيرا عن تصور الشكليين لها، وعن تصور البنيويين فيما بعد، لأنه تصور لايفصل اللغة عن سياقها الاجتماعي ووطيفتها التراتبية ولا عن الخطاب الذي تنتجه، دون أن يتخلى عن الاهتمام ببنيتها اللغوية ذاتها. وهذا التصور المهم والمتميز للغة، هو الذي مكنة من تطوير مفهومين أساسسين: أولهما هو مفهوم الكرنفالية في دراسته الباهرة لرابالييه، وثانيهما هو مفهوم الحوارية وتعدد اللغات في دراسته البديعة لديستوفسكي. فالكرنفال والذي كان مجرد حدث طقسي دوري قبله، أصبح مفهوما فلسفيا ووجوديا شاملا. يتخلل كل ممارساتنا الاجتماعية بالتباساته الدالة وعمليات تبادل الأدوار المستمرة. حيث تنمحي الحدود الفاصلة بين المشارك والمتفرج فيه، ويصبح المشارك متفرجا والمتفرج مشاركا في آن. وتتعطل تراتبات السلطة أو الوضع الاجتماعي، وتنحي الفواصل بين الجدي والهزلي، ويصبح الضحك فيه أداه للسخرية من الآخر والزراية بالذات في أن، حيث تصبح الذات موضوع الضحك والضاحك معا، هي المهرج وهي الجمهور معا، هي الشخص والقناع الذي يتخفى وراءه. ويصبح الضحك أحد الممارسات الأساسية للحياة والموت، للعقل والجنون. فهو شارة للحياة وعلامة على الموت في آن. ومن هنا يربط باختين الجدل بين شارات الحياة وعلامات الموت في الكرنفال، بنظرية في الجسد وممارساته لها أهميتها الخاصة في التحليل الباختيني لجدل الحياة والموت في الأدب والفن، ولجدليات التوهيم والواقع، أو الالتباس والحقيقة.

وبالإضافة إلى مفهوم الكرنفال الذي يحتاج إلى دراسة ضافية للإلمام بكل أبعاده، طور باختين مفهوم الحوارية وتعدد الأصوات الذي أحدث ثورة حقيقية في دراسة الرواية، والذي لايقل كثافة وتعقيدا عن مفهوم الكرنفال. فالحوارية عنده لاتعني الحوار بين أصوات متباينة كما كان سائدا من قبل، وإنما تعني الإجهاز على نقاء الصوت الواحد، والرؤية الأحادية. فكل صوت ينطوي في حقيقة الأمر على الكثير من الأصوات الأخرى في داخله، تصوغ وعيه وتتخلل تفكيره سواء أوعى ذلك أم لم يعه. فالخطاب الروائي عند باختين ليس هو لغة التخاطب أو التعبير التي يتعامل معها عالم اللغويات، ولكنه مجال حركي حواري يتم فيها باستمرار جدل تعدد الأصوات، أصوات الشخصيات وصوت الكاتب معا. فاللغة في الرواية هي لغة بصيغة الجمع وليست لغة بصيغة المفرد، ولايعنى هذا الإجهاز على التصور المنولوجي للسرد، والذي تتسم به الملحمة وشخصياتها التي تمثل مواقف واضحة ومتباينة معا، وإنما على المنطق المنولوجي للحياة والذي اختفى مع قدوم الرواية وما بلورته من التباسات الوضع الإنساني ذاته. وهذا التصور الحواري للغه والذي بلوره باختين في دراسته المهمة (شعرية ديستويفسكي) يعتمد على ازدواجية الصوت وحوارية الكلمة. وهو التصور الذي دخل به إلى ساحة الرواية فغير نقدها إلى الأبد. وكشف عن حوارية البنية الروائية ذاتها، وليس خطابات الشخصيات فيها فحسب. وهي حوارية نابعة من تعدد اللغات وتراكب العلاقات بينها داخل النص. فلايمكن اليوم لأي نقد للرواية يستحق هذا المصطلح أن يتعامل مع النص الروائي دون الوعي بحواريته التي صاغها باختين في دراساته اللامعة عن (الرواية والملحمة) وعن (الخيال الحواري). فقد غيرت هذه الدراسات تصور النقد للرواية، ودخلت بها إلى مرحلة من النضج والعمق غير مسبوقتين.

وبالإضافة إلى هذين التصورين طور باختين مفهوما أساسيا آخر في نقد الرواية هو مفهوم الكرونوتوب Chronotope أو الجدل المستمر بين المكان والزمان، أو الصلة الوثيقة بين العناصر الزمنية والمكانية في العمل الروائي. وهو مفهوم نابع من تصوره الدينامي للبنية الروائية، ومن رفضه لتصور أن النص وحدة ذاتية الاستقلال يمكن فهمها خارج سياقاتها المختلفة. فالزمن عنده هو البعد الرابع للمكان، والمكان هو البعد الثاني للزمن، ولايمكن تصور أحدهما دون الآخر في النص الروائي. وهكذا استبدل باختين التصور الأقليدي للمكان، والتصور النسبي للزمان بعد نظرية أينشتين في النسبية، بهذا المفهوم الجدلي للكرونوتوب الذي تكستب فيه الرواية بعدا آخر من أبعاد الحوارية وتعدد الأصوات فيها. والواقع أن نضافر هذه التصورات الثلاثة ونهوضهما على أساس من نظريته اللغوية التي بلورها في كتابه (الماركسية وفلسفة اللغة) يصوغ لنا نظرية متكاملة في الانتاج الأدبي، وفي تحليل الرواية على وجه الخصوص بما في ذلك مشاكل التصنيف والتحقيب المتعلقة بها.

ثم امتدت تأثيرات هذه المغامرة الروسية الكبيرة بفرعها الشكلي لا الباختيني إلى براغ ومدرستها المرموقة التي برز منها يان ماكاروفسكي(1891-1975) ورومان ياكوبسون(1896-1982). فطور ماكاروفسكي الأساس الإشاري المزدوج للتعامل مع المنتج الثقافي كعلامة أو بالأحرى بنية متشابكة من العلامات. لها استقلالها النسبي وفعالياتها داخل العمل الفني من ناحية، ولكنها تتعرض أثناء عمليات التوصيل والتأويل لعدد من التحويرات المهمة التي لايمكن التغاضي عنها في التعامل مع العمل الفني من ناحية أخرى. واستطاع ماكاروفسكي بذلك الأساس الإشاري المكثف تطوير نقد المسرح والعلامة المسرحية بطريقة بدأ بها العرض المسرحي يحتل مكانة مرموقة في نقد المسرح بعدما كان هذا النقد قاصرا في الماضي على النص المسرحي وحده. كما طور من خلال هذا النقد جماليات جديدة للمسرح لايزال تأثيرها فاعلا في نقد المسرح حتى اليوم. (7) أما ياكوبسون فقد أصبح أبرز أعلام مدرستي الشكليين الروس وبراغ في الغرب بسبب دراساته اللغوية، واستقصاءاته المهمة عن عمل اللغة وآليات عملية التوصيل من ناحية، وتطبيق هذا كله على نقد الشعر من ناحية أخرى. بصورة أصبح معها أحد مؤسسي المقترب البنيوي في نقد الشعر فيما بعد. (8)

وترافق هذا كله مع إنجازات تشارلز بيرس (1839-1914) الأمريكي وفرديناند دي سوسور (1857-1913) السويسري، ولويس هيلمسليف (1899-1965) النرويجي اللغوية، وما ترتب عليها من مناهج نقدية وإضاءات لامعة لكيفية عمل اللغة ذاتها بالدرجة الأولى، وكيفية عملها في النص الأدبي في الدرجة الثانية. وهي إنجازات تحتاج إلى وقفة إزاءها لأنها غيرت النقد الأدبي، ونتج عنها عدد من المقتربات المهمة من البنيوية وحتى التفكيكية. وقد ترافقت هذه الاجتهادات الثلاثة بمعزل عن بعضها البعض برغم اقتراب نتائجها من بعضها البعض. فقد غير هؤلاء اللغويين الثلاثة طبيعة دراسة اللغة، فتغير مع ذلك فهمنا لها، ولدورها في عملية التوصيل والفهم. إذ يعد بيرس المؤسس الأول لعلم الإشاريات أو دراسة العلامات وواضع حجر الأساس للبنية الثلاثية للعلامة (إشارة، مشار إليه، دلالة)، وهو الأمر الذي سيتوصل إليه السويسري دي سيسور بعد ذلك بسنوات دون معرفة بإنجازات بيرس الأمريكي. لأن بيرس بدأ دراسته للغة بهذا الجانب الإشاري فيها، وتنبأ عام 1867 بتأثير الإشارية المحتمل على دراسة الآداب والفنون والقانون، وهي كلها مجالات سرعان ما استفادت منها فيما بعد. واستطاع التمييز بين مجالات مختلفة للإشارة:
مجالها الإيقوني، ومجالها التصنيفي، ومجالها الرمزي مما ساهم في إرساء علم الإشاريات، أو السيميولوجيا كما يحلو للبعض تسميته، وتعميق مفاهيمه فيما بعد على يدي سوسير وهلمسليف. ولأن سوسور شبع عرضا في الدراسات العربية المختلفة، وخاصة فصله الشهير بين اللغة، أي البنية النحوية، والكلام أي التجليات المختلفة للغة والتي تتحكم فيها تلك الأجرومية أو البنية النحوية لها، فإنني سأتوقف قليلا عند هلمسليف ودوره المهم في تغيير تصورنا للغة، لأنه غير معروف في الخطاب النقدي العربي على نطاق واسع.

ويتفق هيلمسليف مع سوسور في أن اللغة نظام معرفي مستقل من الإشارات، ولذلك أولى الإشارة أهمية خاصة في دراساته التي اختلف فيها مع سوسور في أن للإشارة وظيفة تعتمد في تخليقها على الظروف التي يتم فيها تحليلها. أي على العبارات التي تتكون بها العلاقات المختلفة بين الإشارات، فالإشارة عنده لاوجود حقيقي مستقل لها خارج النظام النسقي الذي يحكم علاقاتها من ناحية، او خارج الظروف والسياقات التي تتخلق بها وظيفتها. وبذلك أجهز على الفصل المتعسف عند سوسور بين الإشارة والمشار إليه والدلالة. كما ترتب على هذا الجدل المستمر بين الإشارة والسياق والوظيفة في لغويات هيلمسليف ربط الإشارة بكل من المعنى والفكر، أو بما يدعوه بالفحوى وهي من العوامل المشتركة في كل اللغات. وهو الربط الذي ساهم في توفير القاعدة اللغوية التي ستنهض عليه عملية تقويض التبسيطات البنوية وبدايات التفكيك وما بعد البنيوية. فقد رفض هيلمسليف فصل الفحوى عن اللغة كما يفعل سوسور لأنه يرى اللغة كشيئين متزامنين ومتفاعلين: كنظام يتجلى في بنية العلاقات التي يتعامل معها النحو، وكصيرورة أو كنص يتسم ذائما الافتراضية. فبينما من المستحيل أن يوجد نص بلا لغة، فإن من المستحيل أيضا أن توجد لغة بلا نصوص. وهذا ما يقود إلى رفض فكرة أعتباطية الإشارة او أنها مجرد علامة على شيء موجود من قبل خارجها، وإلى رفض كل التقسيمات الشائعة قبله في الدراسات اللغوية التي تفصل بين النحو والصرف والتراكيب وعلم المعاني والمعاجم، وطرح علم جديد لدراسة اللغة كصيرورة ونظام في أن دعاه بالجلوسماتيكس Glossematics وهي صياغة من glossa اليونانية وتعني اللغة، و matics التي تستخدم في الرياضيات. وهو علم جديد يمكن دعةته بجبر اللغة أو تحويلها إلى فرع من فروع الرياضيات يستطيع التعامل مع تراكب العناصر الدلالية والإيحائية معا في التعبير اللغوي وتحديد العوامل التي تتخلق بها الحركة الداخلية للمعنى في تأرجحها بين قطبي الدلالة والإيحاء في عملية مستمرة يمكن توصيفها رياضيا وكميا. وليس هنا مجال التوسع في تفاصيل علمه الجديد الذي انفق في بلورته سنوات طويلة من عمله. لأن كل ما يهمنا هنا هو تأثير أفكاره وتصوراته اللغوية الجديدة على إكساب علم العلامات أو الإشارات الذي سيلعب دورا كبيرا في النقد الأدبي ـ سنتناوله بعد قليل ـ قدرا كبيرا من الحصافة والخصوبة والتعقيد، وإجهازه على الكثير من تبسيطات سوسور التي لعبت دورا كبيرا في تسطيح بعض الاستقصاءات البنيوية، وتأسيسه للأرضية اللغوية التي نهضت عليها فيما بعد استقصاءات ديريدا الفلسفية ومنهجه التفكيكي الذي لعب دورا ملحوظا في تطوير الخطاب النقدي، برغم مشاغله الفلسفية في المحل الأول.

(4) تراكب التيارات والمدارس النقدية الحديثة وتفاعلها:
وقبل الانتقال من هذه الاستقصاءات اللغوية إلى الحديث عن الإشارية التي أسستها ودورها في تطوير المنهج البنيوي في النقد الآدبي، لابد ألا ننسى أن إبراز هيلمسليف لمسألة الفحوى في مجال اللغة سيعود بنا إلى أحد المدارس النقدية المهمة التي لعبت دورا مرموقا في العقود الأولى من القرن العشرين في أوروبا ثم في العقدين التاليين لهما في أمريكا، وهي مدرسة النقد الجديد الأمريكية التي أسست كثيرا من كشوفها على استقصاءات علم المعاني، في حين أقامت البنيوية أسسها التحليلية على كشوف علم اللغويات البنيوي الجديد عند سوسير خاصة وهيلمسليف من بعده. فقد ترافق تأسيس هذه القاعدة اللغوية لعملية الاتصال في علم كامل هو علم الإشاريات مع بزوغ مدرسة النقد الأدبي الجديد في الولايات المتحدة والتي بدأت بإليوت وريتشاردز ووليام إيمبسون في بريطانيا واستمرت مع ألان تيت ورانسوم وحتى كلينيث بروكس وكينيث بيرك وويمزات في أمريكا ونورثروب فراي في كندا. فقد بدأ ريتشاردز ـ وهو من وضع الأسس النظرية لمدرسة النقد الجديد ـ بدراسته المهمة مع أوجدن عن (معنى المعنى Meaning of Meaning) عام 1923. وكان قد تعاون معه قبلها في دراسة ضافية عن (اسس علم الجمالFoundations of Aesthetics) عام 1921 قبل أن يشرع في تأليف كتابه الذي لخص عنوانه جوهر المشروع الجديد (مبادئ النقد الأدبيPrinciples of Literary Criticism ) عام 1925، باعتبار أن النقد علم له مبادؤه وقواعده المعيارية. وأتبعه بعد ذلك بكتاب (النقد التطبيقي Practical Criticism) عام 1929، الذي أصبح فيما بعد أساسا للقراءة الدقيقة أو المتفحصة Close Reading التي اتسمت بها مدرسة النقد الجديد الأمريكية.

صحيح أن مصطلح النقد الجديد لم يتبلور كأسم دال على مدرسة نقدية محددة إلا عام 1941 مع نشر كتاب جون كرو رانسوم (النقد الجديد The New Criticism) إلا أن الأعمال التي بلورت أسس هذا النقد الجديد، والممارسات التي تأسس عليها منهجه ظهرت جلها في عشرينات القرن. وقد دعا هذا النقد الجديد إلى تحليل النص الشعري تحليلا دقيقا متقصيا، وهو تحليل قد يأخذ في الاعتبار ما دار في عقل الشاعر، أو يتوقف عند شخصيته، أو يتقصى مصادر وحيه واستلهامته، أو يتعامل مع تاريخ الأفكار السياسية والاجتماعية التي عاصرها أو تأثر بها، ولكن اهتمامه التحليلي التفصيلي، أو بالأحرى النقدي، ينصب على النص وحده باعتباره في تعبير أصبح عنوانا لواحد من أهم كتب ويمزات W.K. Wimssat (أيقونة لفظية Verbal Icon). وقد سيطر هذا النقد بلا منازع، ولعقدين من الزمان ـ الأربعينات والخمسينات ـ على المشهد النقدي الأمريكي حتى أخذت البنيوية والإشارية تزعزعه عن عرشه مع مطالع الستينات. وإن انطلقت استقصاءاتهما من نفس الأسس التي انطلق منها النقد الجديد، وهي مركزية النص ومحوريته، وثانوية كل العناصر الخارجية عليه، مع اختلاف جوهري وهو التخلي عن مسألة المعنى التي كانت حجر الأساس في النقد الجديد، لأنه كما ذكرت مبني على علم المعاني وعلى الأسس الفلسفية التي يعتمد عليها، بدلا من اللغويات البنيوية كما هو الحال مع الإشارية والبنيوية.

وفي نفس هذا الوقت، كان هذا كله يدور بموازاة تبلور مدرسة نقدية أخرى تعتمد أطروحة المعنى والفحوى منطلقا فكريا وفلسفيا لها، ألا وهي مدرسة النقد الماركسي التي استلهمت نظرية ماركس المادية الجدلية في الاقتصاد السياسي والمجتمع. صحيح أن هذه المدرسة بدأت ـ لانطلاقها من آراء ماركس وانجلز المبتسرة، أو على الأقل الغامضة في الأدب والفن، أو من إساءة فهمها في نظر الكثيرين ـ بما دعاه هانز روبرت ياوس في مقالة شهيرة له بالورطة أو الربكة المثالية The Idealist Embarrassment، وبالفصل التبسيطي بين شكل العمل الأدبي ومضمونه؛ إلا أنها سرعان ما تجاوزت عثرات هذه البدايات. وأسست نظرية نقدية مادية جدلية تنهض على فهم أعمق لفلسفة ماركس وتحليله المادي للتاريخ ولبنية المجتمع الطبقية، وعلى جدلية العلاقة بين النص والواقع. ولكنها عانت في البداية من المفاهيم التبسيطية لما سمي في عشرينات القرن وثلاثيناته بل وحتى أربعيناته بالواقعية الاشتراكية، وضرورة التزام الكاتب أو الفنان بأيديولوجية الطبقة العاملة والانحياز لها في عملية الصراع الطبقي. لكن إسهامات الناقد المجري الكبير جورج لوكاتش (1885-1971) ساهمت في تحرير النقد الماركسي من تبسيطات الواقعية الاشتراكية، بالرغم من تبنيها لفكرة الانعكاس التي تنطوي هي الأخرى على تبسيطاتها المخلة ـ ولابد ألا ننسى هنا معاركه الشهيرة مع بريخت وأدورنو (9) ـ وإن اعترف لوكاتش بأن الواقع يتغير، ولابد أن تتغير تبعا لذلك طرق تمثيله وتقديمه بالرغم من مقاومته الاعتراف بطرق التعبير الجديدة التي كانت تلقى رواجا كبيرا بين مؤلفي الحداثة الأوروبيين في هذا الوقت.

لكن النقد الماركسي، حتى في تلك المرحلة من تاريخه في الثلاثينات والأربعينات، لم يتوقف عن لوكاتش، وإنما تلقى دفعة قوية في أعمال من عرفوا فيما بعد باسم مدرسة فرانكفورت التي طورت نظريتها النقدية الراديكالية في المجتمع والفن والتاريخ معا. وقد بدأت هذه المدرسة مع والتر بنيامين (1892-1940) وتيودور أدورنو (1903-1969) وهربرت ماركوز (1898-1979) وماكس هوركهايمر (1895-1973) في العشرينات، ثم اضطروا إلى الهجرة للولايات المتحدة مع صعود النازي، وإن عادوا إلى فرانكفورت من جديد بعد الحرب. وبعد أن اكتشف كثيرون منهم أن ثمة قواسم مشتركة كبيرة بين شمولية النازية التي فروا منها، والرأسمالية الاستهلاكية الأمريكية وثقافتها الشعبية الواحدة تتمثل فيما دعاه ماركوز بإنسان البعد الواحد، ومجتمع البعد الواحد. لكن أهم ما اسهمت به مدرسة فرانكفورت في النقد هو الإجهاز على توهم وجود علاقة مباشرة بين الفن أو الأدب والواقع، لأن الفن يخلق بفنيته ذاتها مسافة بينه وبين هذا الواقع، مما يرهف علاقته النقدية بهن ومما يسم هذه العلاقة بالالتباس والغموض وعدم المباشرة. أو كما عبر هو "فإن الفن هو معرفة سلبية negative knowledge أو معرفة بالتضاد بالعالم الواقعي". كما اهتم بالحداثيين والتجريبيين في الفن والأدب لرفضهم للأمر الواقع وتحديهم للسائد وللانصياع له، ولكل صيغ الأيديولوجيات القمعية أو القهرية. وقد أرفد والتر بنيامين هذه الاستقصاءات بأبعاد جديدة من خلال اهتمامه بالتقنيات الفنية والأدبية وبصيغ الثقافة الشعبية وبالعوامل الفنية المؤثرة في العمل الأدبي، وبتأثير التقدم التكنولوجي على صيغ التعبير الأدبي، بل وعلى فكرة الفن ذاته، بعدما أتاحت عملية إعادة انتاج العمل تكنولوجيا النص لجمور واسع وحررته من سجن دائرة النخبة الضيقة.

واستمرت الإضافات النقدية والنظرية للمقترب الماركسي في التنامي والتطور بعد مدرسة فرانكفورت في اتجاهين مختلفين: استفاد أولهما من البنيوية وزاوج بين معيارتها النصية الدقيقة واهتمام الماركسية بموضعة النص في العالم على أيدي لوي ألتوسير ولوسيان جولدمان وبيير ماشاري. وكان انجاز جولدمان في مجال مفهوم التناظر بين بنية الخطاب الأدبي والبنى الاجتماعية والفكرية والحضارية المختلفة من أبرز الإنجازات في هذا المجال. حيث كشف لنا عن أن الأعمال الأدبية ليست نتاج عبقرية فردية، وأنما نتاج بنى فكرية عابرة للأفراد تنتمي لجماعة بشرية معينة أو لطبقة اجتماعية محددة. وهي النظرية التي فصلها في كتابه الشهير (الإله الخفي ) عام 1964 و(نحو علم اجتماع للرواية) عام 1964. وقد واصل تلميذه بيير ماشاري في (نظرية الانتاج الأدبي) عام 1966 تطوير نظريته تلك إلى نظرية متكاملة في الانتاج الأدبي كاشفا عن بنى القيم والعلاقات والتراتبات التي ينطوي عليها العمل الفني ودور الواقع الاجتماعي خارجه في انتاجها، ومنحها مصداقية أو وزنا، او تجريدها منهما. وكشف ماشاري عن آليات خلق الأعمال الأدبية لمسافة بينها وبين الأيديولوجيا من ناحية، وإفصاحها من خلال المسكوت عنه والفجوات المضمرة من ناحية أخرى. لأن المسكوت عنه لا يخفي فحسب التناقضات الأيديولوجية، ولكنه يفصح أيضا بالصمت والحجب والقمع عما في لاوعي النص وفي ضميره، وعلى الناقد الماركسي أن يكشف عن هذا المسكوت عنه، وأن يجعله ينطق من خلال كشفه عن لاوعي النص نفسه، وعما تضمره بنيته ذاتها.

أما الاتجاه الثاني فقد انتهج طريقا مغايرا، يمكن دعوته بالطريق الانجليزي المراوغ. بدأ مع استقصاءات الناقد الانجليزي الذي اختطفه الموت في الحرل الأهلية الأسبانية وهو في ذروة العطاء، وأعني به كريستوفر كودويل (1907-37) الذي كتب (الوهم والواقع) عام 1936 و(دراسات في ثقافة تحضر) عام 1937، وحاول عبرهما صياغة نظرية ماركسية في الفن والأدب لم يقيض له ـ برغم استبصاراته اللامعة ـ أن يكمل مشروعها الكبير. لكن هذا المشروع سرعان ما وجد ضالته في ناقد انجليزي، أو بالأحري ويلشي آخر، هو رايموند وليامز (1921-88)، طالع بالفعل من قلب الطبقة العامل ومسلح بمخزونها الثقافي والحضاري الذي عاني من أوجاع الثورة الصناعية وإحباطات النظام الرأسمالي والطبقي. وقد أرسى وليامز بكتابه المؤسس (الثقافة والمجتمع) عام 1958 دعائم مدرسة نقدية جديدة تموضع العمل الأدبي في سياق حضاري أعرض يأخذ في اعتباره الكثير من ترسبات البنى الاجتماعية والثقافية المختلفة في وعي النص وحساسية الكاتب والمتلقي معا. أو ما يعرف في مصطلح وليامز ببنية المشاعر أو الحساسية، وهي البنية التي تأخذ في اعتبارها كثيرا من البنى الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية التي تترك ترسباتها في بنية المشاعر تلك. وقد تتابعت كتب وليامز بعد ذلك من (الثورة الطويلة) 1961 إلى (الرواية الانجليزية من ديكينز إلى لورانس) 1970 و(الريف والمدينة) 1973 و (الماركسية والآدب) 1977 و(الثقافة) 1981 و(كلمات مفتاحية) 1983 وغيرها لترسي دعائم ما أصبح يعرف الآن بمدرسة الدراسات الثقافية Cultural Studies وهي مدرسة يتنامى تأثيرها ونفوذهاالنقدي والفكري في العقدية الأخيرين.

وقبل الاسترسال في متابعة تراث وليامز على جانبي الأطلسي فيما تبلور بعده من إسهامات نقدية جديدة ومهمة في النظرية النقدية ـ وخاصة في النصف الثاني من القرن العشرين ـ يمكن دعوتها بالنقد الماركسي الجديد، بينما يدعوها البعض بمابعد النقد الماركسي على غرار ما بعد البنيوية ومابعد الحداثة إلخ، الذي يعود كثير منه إلى فكر أنطونيو جرامشي (1891-1937) المتميز، والذي لم يهتم به النقد الأدبي إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، وينهض بعضها الآخر على استقصاءات تيودور أدورنو وصولا إلى إضافات إدوار سعيد وبينيديكت أندرسون وهانز روبرت ياوس وستيفن جرينبلات، ناهيك عن تلميذ وليامز النجيب، بمعنى تلميذه الفعلي في قاعات الدرس بجامعة كيمبريدج، وأعني به تيري إيجيلتون. أو عن فريدريك جيمسون أبرز نقاد المنهج الماركسي في الولايات المتحدة الأمريكية، وأهم منظري مابعد الحداثة باعتبارها المنطق الثقافي للرأسمالية في مرحلتها المتأخرة، أو بالأحرى في شيخوختها. وقفزا على عدد من التيارات النقدية التي تنطلق من أطروحة المعنى أو الفحوى وأن بدا أن معظمها من التيارات الناضبة أو الطرق المسدودة التي لم تفض إلى شيء ذا بال. مثل التيار الذي يستلهم استقصاءات فرويد في التحليل النفسي وتطبيقها على الأدب من ناحية، أو ذلك الذي يستلهم الوجودية في تأويلاتها الجدلية مع سارتر وكامي أو الظاهراتية مع ميرلو بونتي من ناحية أخرى. والذي أفرز استثناءات قليلة مهمة مثل دراسات سارتر عن فلوبير أو جان جينيه، أو كتاب كامو عن الإنسان المتمرد، لابد لنا من التوقف قليلا عند الفريق الآخر الذي تجنب إطروحة الفحوى كلية، وكان يعمل بموازاة هذا الفريق الأول وفي نوع من رد الفعل عليه أو ضده، واهتم بالبنية والعلامة وأسس نقدا على أساس لغوي خالص، يتعامل مع النص بمعزل عن كل العناصر الخارجة عليه، بما في ذلك مؤلفه نفسه الذي أعلن رولان بارت في مقال شهير له موته بالمعنى المعنوي، وبمعنى انه موضوع للدرس.

وأهم أنجازات هذا الفريق الثاني هي البنيوية والإشارية التي رفدت كثيرا من استقصاءاتها. وقد كرست هذه الاستقصاءات النقدية جميعا، على اختلاف مقترباتها وتكامل هذه المقتربات معا مجموعة من الأدوات النقدية المرهفة للتعامل مع النصوص الأدبية باعتبارها منتجات لغوية في المحل الأول لابد من فك شفرات بنيتها نفسها وتراكيبها قبل الحديث عن أي شيء آخر خارج العمل الأدبي. وقد انطلقت البنيوية في الأدب وعلم الإنسان ـ الانثروبولوجيا ـ من الأرضية التي بلورتها اللغويات البنيوية من ناحية، وخاصة لغويات سوسور، ومن بعض استقصاءات مدرسة الشكليين الروس ومدرسة براغ اللغوية. ووجدت أبرز تعبير أدبي عنها في فرنسا في عقد الستينات من القرن الماضي على يدي الناقد الفرنسي الكبير رولان بارت (1915-80) وتلاميذه اللامعيين من تزفتيان تودوروف وجوليا كريستيفا وجيرار جينيت. كما رفدتها اجتهادات الباحث الليتواني الذي استقر بباريس بعد تدريسه في جامعة الأسكندرية في الأربعينات ألجريداس جريماس (1917-92) في علم الإشارات والعلامات، ومنهجيته الصارمة في بلورة بنيات النحو الإشاري.(10) وهي المنهجية التي رفدتها إضافات تشوميسكي وبينفنيست اللغوية المهمة، وتحليلات ليفي ستراوس الأنثروبولوجية، واستقصاءات لاكان النفسية، وكتابات بروديل التاريخية أو بالأحرى الحضارية الشاملة.

وتنهض تلك الاستقصاءات الإشارية المختلفة على افتراض أساسي بأن الظواهر الثقافية والاجتماعية ليس لها جوهر ثابت ولكن دلالاتها تعتمد على بنيتها الداخلية من ناحية، وعلى موقعها داخل البنى الأخرى المتصلة بالنظام الثقافي أو الاجتماعي الأوسع في مجالها النوعي من ناحية أخرى. كما أنها مجرد علامات أو إشارات داخل نظام إشاري أوسع تكتسب معناها من هذا النظام نفسه. وإذا كانت الإشارية صرفت اهتمامها إلى دراسة العلامات، فإن البنيوية انطلقت من تلك العلامات إلى دراسة البنى والأنساق التي تتخلق عبرها.

وقد بدأت البنيوية في دراسة الأدب كرد فعل على ركود الدراسات الأدبية الفرنسية تحت وطأة المناهج التاريخية أو البيئية السياقية أو اللانسونية اللغوية الجامدة، بعد رحيل أعلام هذه المناهج الكبار من تين وسانت بيف ولانسون، وتحولها إلى دراسات مدرسية عقيمة تتذرع ـ كما هو الحال في كثير من دراساتنا الجامعية الآن في مصر خاصة، وفي العالم العربي من ورائها ـ بالسفاسف والقشور، وتعتمد على معلومات مكرورة عن حياة الكاتب وعصره وبيئته. ولا تقدم للقارئ أو الباحث أي إضاءات مستبصرة عن العمل الأدبي نفسه. وسعت البنيوية ـ وخاصة في أعمال بارت اللامعة ـ إلى نقل مركز الثقل النقدي من المؤلف والسياق إلى النص نفسه. ولكنه ـ على العكس من مدرسة النقد الجديد الأمريكية ـ ورغم إعلانه الشهير عن "موت المؤلف" لم يفترض أنه يمكن دراسة النص الأدبي دون تصورات مسبقة، وأن هذا الافتراض التجريبي الساذج الذي انطلق منه كثير من نقد مدرسة النقد الجديد ينطوي على موقف نقدي مستحيل. لأن الباحث يحتاج إلى أنماط ونماذج منهجية حتى يستطيع استكناه البنى التي تنطوي عليها النصوص الأدبية. وميز بارت في هذا المجال بين النقد الأدبي وهو النشاط المعرفي الذي يموضع العمل الأدبي في سياقات محددة كي يتعرف على معناه أو دلالاته، وبين علم الأدب Poetics (يترجمه البعض بالشعرية) الذي يدرس ظروف المعنى والبنى التي تنظم النص وتتبدى عبرها تنويعة محتملة من الدلالات، تنبثق من الوعي بالعلاقات السياقية والعلاقات التبادلية لبنية العمل اللغوية والأدبية معا. فالبنيوية تعتقد بأنه بينما يستخدم الأدب اللغة، فإنه هو نفسه نظام إشاري ـ كاللغة ـ له قواعده الخاصة، لأن الأدب ليس مجرد جمل مصاغة من اللغة، ولكنه نظام إشاري خاص بنفسه، تكتسب فيه الجملة دلالات مغايرة لتلك التي تعنيها خارجه. حيث يناظر الأدب اللغة من حيث وجود بنية حاكمة أو أجرومية، ومجموعة مختلفة أو لانهائية من التبديات لها كما هي الحال مع الكلام في اللغة. ولذلك فإن معنى أي عمل أدبي يعتمد على طبيعة النظام المضمر التي يتخلق بعملية الكتابة وعقدها المضمر بين الكاتب والقارئ، وهو نظام من المواضعات والبنى التي تحكم علاقات المفردات بعضها بالبعض الآخر، وتنتج بذلك الدلالات والمعاني. وأن على الناقد أن يبلور هذا النظام كما يبلور عالم اللغويات أجرومية اللغة ونحوها. ومن خلال هذه الأنظمة أو البنى الأدبية المختلفة تتكون مؤسسة الأدب الأعرض، واستراتيجيات قراءاتها ومواضعاتها التي تجسد خصوصية هذا النظام الإشاري وتفرده. والواقع أن مشروع صياغة هذا النظام المعقد وبلورته والتعرف على ما تسميه التحليلات البنيوية بفوائض الإشارة، أي العناصر التي ينطوي عليها العمل الأدبي بخلاف دوال الإشارات المألوفة خارجه ـ كما هو الحال في القوافي أو بحور الشعر إلى آخره في القصيدة مثلا ـ هو جوهر عمل نقاد البنيوية الكبار الذين بذلوا جهدا كبيرا في فك شفرات هذا النظام والتعرف على أليات حركتها الداخلية. ليس فقط بالعلاقة بين هذه الأليات وغيرها من أنماط التوقع المستقاة من الواقع من حيث الحكم على الشخصيات او سلوكياتها أو طبيعة القيم المعروضة، ولكن أيضا من حيث تماسك البنية الداخلية للنص أو تفككها، ومن حيث نوعية الإحالة فيه أو طبيعة الترميز والتغريب وغير ذلك من العناصر التي تساهم في سبرنا لأغوار النص والتعرف على بنيته الداخلية. والواقع أن أهم انجازات البنيوية في هذا المجال، فضلا عن عودتها إلى النص ومنحه مكانا مركزيا في التحليل الأدبي والتركيز على النص كأيقونة لغوية، أو على ما هو موجود على الصفحة وحدها، هو نقدها اللامع لجماليات التمثيل Representational Aesthetics وهي الجماليات التي اكتسبت مكانة محورية في كل المناهج السابقة، باستثناء مدرسة الشكليين الروس، والتي منحت ما يمثل في النص ـ أي الواقع الخارجي ـ قيمة كبيرة، وجعلت مضاهاة العالم النصي للعالم الواقعي محكا أساسيا للأحكام المعيارية عليه.

لقد بلغت البنيوية الأدبية ـ كما ذكرت ـ ذروتها الأدبية في إبداع رولان بارت النقدي اللامع وأعمال تلاميذه الموهوبين الذين ذكرتهم، ويمكن أن نضيف أليهم ميايكل ريفاتيير في أمريكا وآخرين. وقد بدأت البنيوية بطموحات عريضة جامحة تسعى إلى تفسير كل شيء من خلال بنية كلية شاملة، حركية ومتحورة ولكنها كلية ومتكاملة في كل الوقت. (11) اعتمادا على التفرقة السوسورية الأساسية بين اللغة (أي البنية النحوية أو الأجرومية) والكلام أي مختلف التبديات التعبيرية التي نتفوه بها أو نكتبها، ولكنها تعتمد على هذه الأجرومية مهما اختلفت تبدياتها. وتعتمد هذه البنية الكلية عندهم على حزم الثنائيات المتضادة والفاعلة في مختلف التجليات أو الظواهر، وقد تجسدت من خلال عمليات تشفير معقدة تكتسب بها هذه التجليات صورها المختلفة، وتستطيع أن تفسر بها كل شيء، من الإنسان إلى التاريخ والطبيعة والعمل الأدبي والفني. فقد رفضت البنيوية كلية أي محاولة لتفسير الظواهر الاجتماعية منها أو الأدبية بشكل جزئي، زاعمة أن هناك بنية كلية شاملة تنطوي عليها كل هذه التجليات المتعددة كما تخضع كل التعبيرات اللغوية لنفس البنية النحوية التي تقوم عليها اللغة. وأن على الباحث ـ سواء في علم النفس أو الأنثروبولوجيا أو علم الأدب ـ أن يتعرف على هذا البنية ويتقصى أبعادها. وقد سعت إلى تحويل دراسة الأدب إلى علم له قواعده المعيارية، وأجهزت على كل التصورات التي سادت حول أسبقية الواقع على اللغة، وردت للغة اعتبارها حيث لا أمل في أي معرفة بالواقع أو حتى بالتجربة الإنسانية بدونها. واهتمت بالنظم الإشارية المختلفة ودورها في بلورة فهمنا للبنية. والواقع أن هذا التركيز على البنية، وعلى سطح النص اللغوي وحده فتح المجال أمام مبحث مهم للغاية لم ينل حظه من الاهتمام قبلها، برغم وعي الكثيرين به، ألا وهو مبحث التناص Intertextuality.(12) وهو مبحث أغنى الدراسات النقدية وأثرى عملية تحليل النصوص فيها بعيدا عن نظريات التحليل النفسي التي أقام عبرها أحد نقاد مدرسة ييل الأمريكية المشهورين علاقته الأوديبية بين النصوص.(13) كما أن وعي البنيوية بعلمية اللعب اللغوي فتح الباب أمام تمحيص العلاقة بين النص والتجربة الإنسانية، سواء تلك التي يصدر عنها أو يجسدها في عالمه، ومكنها من إعادة النظر في مقولات الشكليين الروس حول إجهاز اللغة الأدبية على الألفة وخلق مسافة بين القارئ والموضوع من مد نطاق هذه الفكرة للخطاب الأدبي ذاته، ولإبرازه لعناصره الأدبية والبلاغية بصورة يزعزع بها رغبة الثقافة في تثبيت المعنى، ويمكن القارئ من استشراف احتمالات جديدة لرؤية تجربته وفرز أولوياتها من جديد. هذا وقد تمكنت البنيوية ـ وخاصة في أعمال بارت وجينيت وتودوروف ـ من إحداث ثورة حقيقة في نقد الرواية، ساهمت مع انجاز باختين الكبير في هذا المجال في إحداث ثورة حقيقية في هذا المجال.

لكن البنيوية ـ خاصة بعد العقد الأول من انتشارها وتنامي ألقها ـ سرعان ما بدأت تتعرض لكثير من النقد من داخلها، وهو النقد الذي ينطلق من التسليم بالكثير من افتراضاتها حول البنية واللغة، ولكنه يعي أن لها سلبيات فكرية وفلسفية كثيرة لابد من تصحيحها. فقد أهملت التاريخ كلية في تركيزها على محورية النص، كما تجاوزت عن الخصوصية في سعيها للبرهنة على إطلاقية البنية، ناهيك عن تغاضيها الكلي عن السياقات الاجتماعية والثقافية للعمل الأدبي، وتركيزها على الحتمية وتجاهلها كلية للجدلية. أما أخطر سلبياتها فكانت الاهتمام بالموضوع على حساب الذات، ولإجهاز بذلك على النزعة الإنسانية التي اتسمت بها العلوم الأنسانية عبر قرنين من الزمان. مما أدى إلى زعزعتها للكثير من أسس التفكير العقلاني والتصور التجريبي للواقع، الذي أصبح مشروطا باللغة ومتبديا بها. هذا وقد خلقت كل هذه السلبيات إشكالية كبيرة عندما يتعلق الأمر بمسألة المعنى والتفسير والتأويل، حيث تدخل عند ذلك الكثير من العناصر الخارجية، وجلها غير نصية وغير لغوية من التاريخ إلى السياق الاجتماعي ومسائل الجنوسة والعرق والثقافة وغيرها. وقد أدى التعامل مع هذه العناصر غير النصية، دون التضحية بكشوف البنيوية النصية المهمة إلى تبلور مجموعة من التيارات النقدية التي عرفت باستقصاءات مابعد البنيوية، وهي تيارات متعددة بتعدد مفكريها الكبار من ميشيل فوكو (14) إلى جاك ديريدا،(15) وجاك لاكان، (16) ورولان بارت، (17) وحتى هيلين سيكسو (18) ولوس أريجاري، (19) وجوليا كريستيفا(20)، وجيل ديلوز (21) وصولا إلى أهم إضافات ما بعد البنيوية في نظري عند كل من بيير بورديو وإدوار سعيد. ولكن قبل التوقف عند أي من هؤلاء الأعلام الكبار، علينا التعرف أولا على المشترك في مشروع مابعد البنيوية النقدي. فكل تيارات هذا المشروع تتسم بالتخلى عن إطلاقية البنيوية وتبسيطاتها معا، وتسعى إلى الانطلاق إى ما وراء النظام أو البنية، وتنأى عن الواحدية معترفة بأهمية التعددية والاستقصاءات المتجاورة والمتكاملة. وتتسم كل هذه الاستقصاءات بتحديها لفكرة البنية الثابتة والمستقرة، واهتمامها بالذات إلى جانب الموضوع، واشتباكها مع قضايا المسألة التاريخية، واهتمامها بمسألة المعنى، وشغفها جميعا بالفلسفة النقدية التي بدأت مع نيتشة واستمرت في أعمال هايديجر.

وإذا ما بدأنا بموضوع البنية الثابتة المتكاملة المتحولة باستمرار ولكنها ذاتية التنظيم عند البنيويين، سنجد أن مابعد البنيويين ادخلوا القارئ كلاعب رئيسي مما خلق نوعا من الجدل والتفاعل بين النص والقارئ، وفتح الباب أمام تعدد القراءات، وبالتالي تغير البنى المفترضة فيها.(22) وأبرزوا في هذا المحال دور الفجوات والمسكوت عنه في النص في أي فهم للبنية، كما أنهم أدخلوا عدد من العناصر السياقية، غير النصية، في عملية التحليل. أما فيما يتعلق بالذات وجل العناصر الذاتية التي نفتها البنيوية كلية من ساحة الدرس مع إعلانها موت المؤلف، ومع تغاضيها عن النزعة الإنسانية، واهتمامها بما هو كوني ومطلق، فأن استقصاءات مابعد البنيوية طرحت مفهوما جديدا للذات، لايعتمد على العودة للذات الفردية التي انبنت عليها انجازات عصر النهضة ونزعتها الإنسانية، وأعنى بها الذات الديكارتية التي كانت قدرتها على التفكير تمنحها إحساسا متضخما بالوجود، وهو الوجود الذي نبهنا سارتر إلى أنه كثيرا ما يكون رديف العدم، حينما يصبح وجودا بلاماهية ـ كوجود العرب المعاصرين. لأن الذات الجديدة عند مابعد البنيويين ليست الفرد في فكر عصر النهضة، ولم تعد تؤمن مثله بمركزيتها وتتيه بقدرتها على التفكير وبأنها مركز الوجود لأنها خلقت على صورة الرب بعدما أعلن نيتشه الذي يدين لك جل فكر مابعد البنيوية موته. ولكنها ذات فاقدة للمركزية، محدودة بمحدودية ممارساتها، تتشكل من خلال اللغة ذاتها بكل مافيها من التباس ومراوغة، وهي في الوقت نفسه ذات مشروطة بثقافتها وعرقها وجنوستها. لذلك كله كان من الضروري أن تشتبك استقصاءات مابعد البنيوية بقضية المسألة التاريخية التي حسمتها البنيوية بنفي المادية التاريخية واهمالها، وبإنكار أي دور لفكرة التطور أو التاريخ. فما يهم البنيوية مثلا ليس كيف تطورت هذه اللغة وما هو تاريخها، ولكن كيف تعمل وما هو النظام الذي يتحكم فيها. لذلك عادت ما بعد البنيوية إلى فكرة التاريخ متحدية مفهوم السببية فيه، وطارحة ـ كما هو الحال عند فوكو ـ تاريخا مفرغا من فكرة التطور. وهو ما أعلنه ديريدا بشكل آخر من خلال تأكيده على أنه لانهاية للتاريخ، بينما أكد لاكان أن تبلور فكرة الذات ليست إلا صيرورة تاريخية مشتبكة مع الآخر، وهو الأمر الذي كشفت الدراسات النسوية تاريخيته واشتباكة بصيغ القوة الرمزية وتراتباتها.

فإذا ما انتقلنا إلى مسألة المعنى وانشغال مابعد البنيوية بها، سنجد أنه بينما كان هم البنيوية هو ابنى وانظم والأنماط والأنساق، وكان مدار هو اهتمامها هو البنى وحزم العلاقات الثنائة والانطلاق من اعتباطية العامة اللغوية مما جعلها تولى الإشارة عناية أكبر من الدلالة أو المشار إليه، فإن استقصاءات مابعد البنيوية تضع المعنى والقراءات والتأويل نصب أعينها، وتهتتم باللعب الحر بين الإشارات أو العلامات، وبما يدعوه ديريدا بالإشارات العائمة، أو ما يصر عليه لاكان من سقوط الأشارة تحت المشار إليه وانزلاقها تحته. وهذا ماولد عملية الانزياح المستمرة للمعنى وتحوله من ناحية، وإرجاء معرفة دلالاته التي تتغير مع تغير اختلافاتها من ناحية أخرى. أما آخر العناصر المشتركة فيما بعد البنيوية فهو عودتها إلى الفلسفة النقدية. فبينما كانت البنيوية معادية للفلسفة وتنحو إلى أن تكون علما تجريبيا، فأن استقصاءات مابعد البنيوية تعود مرة أخرى إلى الفلسفة الجدلية وإلى أفكار نيتشة وهايديجر، متحدية كل المزاعم العلمية للبنيوية، ومقدمة ـ عند كل من ديريدا وديلوز ـ نقدها للفلسفة الميتافيزيقة وتحديها لمفاهيم الهوية والحقيقة. ويوشك كل علم من أعلام مابعد البنيوية المتعددين أن يقدم استقصاءاته الفريدة فيها. ولكني سأتوقف هنا أمام ثلاث محاور مختلفة: أولها محور ميشيل فوكو وأركيولوجيا المعرفة عنده والتي يدين في الكثير منها إلى أستاذه جورج كانجوييم الأقل شهرة من تلميذه، ولكنه لايقل أهمية عنه بأي حال من الأحوال. حيث ينطلق من رفضه لإطلاقية البنيوية النظرية، ويتجنب كل صيغ التحليل التي تنحو نحو التعميم والكلية، وينتقد السيميترية التي تنهض عليها تبسيطات البنيوية الكثيرة. طارحا بدلا من ذلك كله رؤية للتاريخ تعتمد على جنيولوجيا نيتشة، وخاصة في كتابه المشهور عن جينيولوجيا الأخلاق. وهي رؤية ترفض النموذج الهيجيلي للتطور الذي يفترض أن نمط انتاج ما ينحدر من النمط السابق عليه بطريقة جدلية خالصة. فإذا كان التاريخ ينحو لأن يكون نظاما تفسيريا مستوعبا، فأن الجنيولوجيا تهتم بفرادة اللأحداث والتفاصيل، لا تهتم بالأحداث الكبرى وإنما تتجنبها، ولا تحتفي بالأفراد المتميزين كالتارخ، وإنما بالمهمشين والمهملين، ولاتسعى الجنيولوجيا لأن تقدم نظاما، وإنما لاكتشاف ما وراء ما يبدو أنه نظام. لذلك لايهمها أن تضفي على الوقائع نسقا خطيا كما يفعل التاريخ، بل ابراز غياب التساوق والخطية، وإظهار الممارسات الغريبة وغير الشرعية والكشف عن التشظي. بصورة تنزع بها عن الحاضر مشروعيته بفصله عن الماضي، ويدرس صيغ المعرفة المختلفة في ترسباتها الأركيولوجية وفي علاقاتها المتشابكة والمتحاورة مع غيرها من الصيغ. مبلورا مفهوم الحقول المعرفية المترابطة والمتكاملة التي مكنته من تقديم استبصارات باهرة فيما يتعلق بأطروحة القوة، وكيف أنها تتخلل كل الممارسات والحقول المعرفية المترابطة، لأن المعرفة نفسها هي القوة وقد تحولت إلى ممارسة.

وثانيها محور جاك ديريدا وإيمانيويل لافيناس ونظرية التفكيك التي أثرتها استقصاءات ديلوز الفلسفية الشيقة. فقد أجهز هذا المحور على تبسيطات الإشارية أو السميوطيقا، وأحدث ثورة جذرية في مجال التأويل والتفسير، وطرح مجموعة من المفاهيم الجديدة حول اللغة. أبرزها هو مفهوم الإرجاء والناجم عن غياب التمييز الواضح بين الإشارة والمشار إليه عنده، وكيف أن الإشارة تولد دلالاتها من خلال تعليق المعنى وإرجائه باستمرارن بصورة يتم فيها تحوله وتغيره. فالمعنى عنده موجود دوما تحت الممحاة، وهو مفهوم استقاه عن فلسفة مارتن هايديجر عن الموجود الممحي، والسبقي، والذي يتعالى على كل عمليات التشفير أو اقتناصه في بنية إشارية. وهناك إلى جانب الإرجاء عنده مفهوم الأثر وهو مفهوم مأخوذ عن الأسطورة العبرانية التي تعتبر كل كتابة هي نوع من تقصى الأثر المفقود، في الألواح الضائعة التي كتبها الله ولكن موسى ضيعها في تيهه في سيناء. فالعلامة ذائما عنده مربوطة بهذا الأثر الضائع، أو بالأحرى بالغياب. وثمة بالإضافة إلى هذا كله مفهوم الاختلاف عند ديريدا، لأن الاختلاف عنده جوهري في توليد أي معنى، من العلامة المفردة التي يتولد معناها باختلافها عن غيرها من العلامات، إلى النصوص والمتون السردية الكبري. وخاصة في الثقافات التي يدعوها بالثقافات الإبراهيمية التي تحتفي بمركزية الكلمة. ففي البدء كان الكلمة، وكان الكلمة الرب.

أما ثالث محاور مابعد البنيوية فهو محور جاك لاكان الذي انطلق من تحوير مفهوم اللغة البنيوي وربطها بالذاتية الفردية والفهم الجمعي من ناحية، وبالغياب الذي تتيح له العلامة اللغوية أن يتحول إلى حضور. وبهذه الطريقة دغم لاكان الفردي في الاجتماعي، وأجهز على الفجوة الفاصلة بين الذات والمجتمع، حيث برهن على أن المجتمع كامن داخل كل فرد فيه، وأن الفردي والجمعي ما هما إلا وجهان لعملة واحدة. إذ انطلق لاكان مما دعاه بمرحلة المرآة التي تنطوي على عملية ثلاثية الأبعاد للفهم، تبدأ بالتشوش، مرورا بحركية فصل الصورة عن الواقع، وتنتهي بالتمييز بين الذات والآخر. ويكشف لنا لاكان عن أن قدرة الإنسان الاستعارية هي التي مكنتنا من فصل اللغة عن المعنى، لأن العلاقة بين اي إشارة وأخرى تهدد العلاقة بين الإشارة ومعناها. فالعلامات تكتسب معانهيا بهذه الطريقة، وهي نفسها التي تمتسب بها إيحاءاتها وإيماءاتها ودلالاتها الفلسفية والميتافيزيقية معا حيث تثبت غيابا وتحيله إلى حضور. وكل عملية تخاطب تنطوي كذلك على تفاعل بين ذوات، لأن اللغة جزء من الذات نفسها. ولأن كل قوانين الأنسان هي قوانين لغوية، حيث لايوجد قانون لا يتجسد لغة. لكن اللغة عنده ليست كيانا ثابتا، أو مجموعة من العلاقات السياقية منها والتبادلية، ولكنها نظام رمزي متكامل. وهو النظام الذي يجعل التعايش الأنساني ممكنا. لأن أي تصور للهوية يرتبط عند لاكان بمرحلة المرآة التي تنطوي فيها العلاقة بين الصورة والذات على البذور الجنينية للنظام الرمزي. فاللغة نظام غير فردي غريب على الذات، ولكنه يحدد في الوقت نفسه قدرتها على الفهم ومجالاته ويساهم في صياغة هويتها في الوقت نفسه.

وقد شهدت العقود الأخيرة من القرن الماضي/ العشرين إثراء كثير من هذه الاستقصاءات للخطاب النقدي بصورة ساهمت في تكثيفه وتعقيده معا. فقد تتابعت عليه موجات من الاستقصاءات التفكيكية الأمريكية عرفت باسم مدرسة ييل التي كان أبرز نقادها بول دي مان وهارولد بلوم وهيليس ميلر. ورافقتها موجة من النقد النسوي الذي انحدرت أغلب استقصاءاته من عباءة سيمون دو بوفوار وجنسها الثاني الفكرية. وهي العباءة التي خرج منها الجيل الأول من منظري الفكر النسوي من الأسترالية جيرمين جرير، وحتى الأمريكيتين كيت ميليت وماري إلمان. ثم أخذت تلك النزعة النسوية في النقد الأدبي عدة مناحي تحليلية وفكرية مختلفة مع جوليا كريستسا وكاثرين كليما وهيلين سيكسوس ولوس إريجاري في فرنسا، وإيلين شووالتر وباربرا جونسون في الولايات المتحدة الأمريكية، وتوريل موي في النرويج، وساندرا جيلبرت وسوزان جوبار وكارول بيتمان في بريطانيا، وغيرهن.

ولايمكن أن يكتمل الحديث عن ثورة النقد الأدبي في القرن العشرين دون الإشارة إلى آخر الإنجازات النقدية الكبيرة في هذا القرن، والتي يعتبرها البعض من أهمها جميعا، وهي إنجازات كل من عالم الاجتماع الأدبي والمعرفي الكبير بيير بورديو والناقد الفلسطيني الأمريكي الكبير إدوار سعيد. وليس ممكنا أن نلم بعالمهما الواسع في نهاية مقال من هذا النوع، خاصة وأنني أعتزم كتابة كتاب كامل عن إدوار سعيد. لكن لايمكن ان يكتمل هذا المقال دون إشارة عاجلة، وإن كانت بالطبع مخلة إلى نظرية بورديو عن مجال الانتاج الثقافي المعرفي المترع بشبكة بالغة التعقيد من علاقات القوى الرمزية والعنف الرمزي. وإلى الطبيعة المعقدة لتوزيع رأسالمال الرمزي في مجالات الأدب والفن. لأن هذا الإنجاز المعرفي الضخم أكثر المدارس النقدية الجديدة استيعابا لأفضل ما في البنيوية ومزاوجته مع أفضل ما في الماركسية في مزيج فكري جديد بالغ العمق والحصافة. أما إضافات إدوار سعيد. وما نجم عنها من تشكل تيارين نقديين جديدين: أولهما هو تيار نقد مابعد الاستعمار، وهو التيار الذي يمد جذوره في كتابات فرانز فانون والذي أخذ ينتشر انتشارا واسعا في حقل الدراسات النقدية والأدبية في العالم الناطق بالإنجليزية خاصة، وأنجب حتى الآن عددا من الأعلام المرموقين من هومي بابا وجياتري سبيفاك إلى بينيتا باري ونيل لازاراس. وثانيهما هو تيار النقد الثقافي الذي يمزج إنجازات إدوار سعيد بإنجازات الناقد الانجليزي الشهير رايموند وليامز، والذي برز فيه عدد غير قليل من النقاد المعاصرين من ستيوارت هول وسايمون دورنج حتى فرانكو موريتي وإدوارد سوجا وبيتر بيرجر. وبالإضافة إلى إنجاز سعيد الكبير الذي أصبحت له الغلبة في حقل النقد الأدبي في الجامعات الغربية الآن، لابد ألا ننسى مدرسة القراءة والتلقي الألمانية والتي ركزت على استجابة القارئ، وعلى أفق التلقي وتوقعاته. وكان من أبرز أعلامها ومؤسسيها هانز روبرت ياويس وولفجانج إيسر في ألمانيا ثم أصبح لها مؤيدوها ومريدوها في الولايات المتحدة مثل ستانلي فيش ومايكل ريفاتير ونورمان هولاند، وسويسرا جورج بوليه وبريطانيا جين تومكينز وديفيد بليتش ووالتر ووكر. وتيار نقدي آخر يستمد مرجعيته الفلسفية من أعمال هانز جورج جادامر هو التيار التأويلي الهرمنيوطيقي وأبرز نقاده هما الفرنسيان جاستون باشلار وبول ريكور. هذا وثمة مدرسة نقدية جديدة تحتاج هي الأخرى إلى وقفة عندها هي مدرسة التاريخانية الجديدة عند ستيفن جرينبلات وما قدمته من إضاءات جديدة تثري عبرها ما قدمه إدوار سعيد من استقصاءات.

هذه الثورة النقدية الضخمة لايمكن الإحاطة بإنجازاتها في كتاب واحد، ناهيك عن مقال قصير مثل هذا، هي التي تؤسس السقف النقدي الغربي المتميز بطريقة لاتسمح بأن ينحدر القاع إلى ما يدور عندنا من إسفاف نقدي. وهي أيضا التي تكشف لنا عن أن القرن العشرين هو قرن النقد الأدبي الكبير، حيث قطع فيه فراسخ واسعة في عملية النضج والتكثيف والتعقيد. ومن الممكن أن نعود إلى تفاصيل هذه الثورة أو إلى جوانب من استقصاءاتها المهمة في مقالات قادمة حتى يستفيد النقد العربي معرفيا مما يدور فيها على الأقل.

___________________

1- وهي محاضرة ألقيت في 11 آذار (مارس) 8691 ضمن سلسلة محاضرات لمناقشة هزيمة 7691، ثم نشرت بعد أكثر من عشرين عاما في مجلة (الهدف) العدد 919 في 71 يوليو 8891، ص 64-94، والعدد 029 في 42 يوليو 8891، ص 34-54. ويود كاتب هذا المقال أن يشكر الصديقة الدكتورة فريال غزول التي لفتت نظره إلى هذا المقال المهم.
2- لعب إدوار سعيد دورا هاما في إعادة الاعتبار لفيكو في كتابه النظري المهم (البدايات: القصد والمنهج Beginnings: Intention and Method) والذي صدرت طبعته الأولى عام 1975.
3- للمريد من التفاصيل عن تاريخ هذه المدرسة راجع كتاب: Victor Erlich, Russian Formalism: History and Doctrine (New Haven, Yale University Press, 1981), وكذلك كتاب: Peter Steiner, Russian Formalism: A Metapoetics (Ithaca, Cornell University Press, 1984).
4- لمزيد من التفاصيل بشأن أسلاف الشكليين الروس في الحركة الثقافية والفكرية الروسية راجع الفصل الأول من كتاب فيكتور إيرليتش.
5- نص تولوستوي مقتطف من كتاب فيكتور إيرليتس أعلاه، ص 241.
6- ليس ممكنا أن نوفي باختين حقه في تلك العجالة، ولكن لابد أولا من العودة إلى أعماله الأساسية، وهي كلها متاحة الآن في اللغات الأوروبية المختلفة،
ويمكن مراجعة عدد من الكتب عنه مثل كتاب: Tzvetan Todorov, Mikhail Bakhtin: The Dialogical Principle (1984)أو كتاب: Gary Saul Morson and Caryl Emerson, Mikhail Bakhtin: Creation of a Prosaics (1990)أو كتاب: Simon Dentith, Bakhtinian Thought; An Introductory Reader (1994) أو كتاب: Michael Holquist, Dialogism: Bakhtin and his World (1990)
7- للمزيد من التفاصيل عن إضافات مدرسة براغ ودور ماكاروفسكي فيها راجع كتاب: F.W.Galan, Historic Structures: The Prague School Project, 1928-1946 (Austin, University of Texas Press, 1985).
8- للمزيد من التفاصيل راجع كتابه الذي جمع به أهم دراساته في هذا المجال: Roman Jakobson, Language in Literature (Cambridge, Mass, Harvard University Press, 1987).
9- ثمة دراسة تفصيلية عن تلك المعارك في كتاب مهم لأحد أبرز نقاد هذه المدرسة المعاصرين، ألا وهو فريدريك جيمسون. راجع كتابه: (London, Verso, 1977) Fredric Jameson, Aesthetics and Politics وهو كتاب يضم نصوص هذه المعارك بين Ernst Bloch, Georg Luckacs, Bertolt Brecht, Walter Benjamin, and Theodor Adorno وقد واصل جيمسون دراسة هذا الموضوع في كتاب لاحق له هو Marxism and Form.
10- للمزيد من التفاصيل عن علم الإشاريات أو السيمولوجيا راجع كتاب: Umberto Eco, A Theory of Semiotics (Bloomington, Indiana University Press, 1976)وكذلك كتاب: Marshall Blonsky, On the Sign (Baltimore, The Johns Hopkins University Press, 1985),
11- للتعرف على قوانين ابنيوية كما يبلورها أحد مؤسسيها البارزين، وهو العالم السويسري جان بياجيه راجع: Jean Piaget, Structuralism, trans. Chaninah Maschler (London, 1971)
12- سبق أن أفردت لهذا المبحث دراسة خاصة مفصلة: راجع عدد مجلة (ألف) عن التناص ودراستي التناص وإشاريات العمل الأدبي، وقد أعيد نشر هذه الدراسة في كتابي (أفق الخطاب النقدي).
13- للمزيد من التفاصيل حول هذه النظرية راجع كتابي هارولد بلوم: Harold Bloom, Anxiety of Influence and A Map of Misreading
14- وخاصة في أعماله المهمة مثل (أركيولوجيا المعرفة) عام 1969، و(نظام الأشياء أو الكلمات والأشياء) عام 1966 و(تاريخ العلاقات الجنسية) و(تاريخ العيادة) وتاريخ النظام العقابي إلخ.
15- وخاصة في كتابي المه عاممين (عن علم النحو Of Gramatology) و(الكتابة والاختلاف Writing and Difference) عام 1967.
16- وخاصة في سيميناراته التي جمعت في كتب حتى عام 1966 وفي مجموعة (كتابات Ecrits) المختلفة التي نشرت أيضا في نفس العام.
17- وخاصة في كتبه المهمة (لذة النص) 1970، و(خطاب العاشق) 1975، و(حفيف اللغة) عام 1984 وغيرها.
18- في دراساتها وكتبها الكثيرة مثل: (ضحكة الميدوزا) 1975، و(المرأة التي ولدت من جديد) 1970 وغيرها.
19- وخاصة في كتابيها (مرآة المرأة الأخرى) عام 1980، و(الجنوسة والجينيولوجيا) عام 1984.
20- وخاصة في كتابيها (ثورة اللغة الشعرية) عام 1974 و(الرغبة واللغة) عام 1977.
21- وخاصة في كتبه: (ألف هضبة) عام 1987 و(الاختلاف والتكرار) عام 1968 ، و(ضد النزعة الأوديبية) 1972، وكتابية المهمين عن السينما: السينما زمن، والسينما حركة.
22- فتحت عملية إدحال القارئ إلى ساحة الاستقصاء النقدي الياب أمام مدرسة نقدية متكاملة، هي مدرسة التلقي ودور القارئ واستجاباته. تبرعمت في ألمانيا مع فولفجانج إيسر وهانز روبرت ياوس ثم انتقلت استقصاءاتها إلى الولايات المتحدة مع ستانلي فيشر وآخرين. وهي مدرسة تستحق التوقف عندها وتأمل استقصاءاتها الذكية وخاصة فيما يتعلق بأفق التوقعات.