تناولت أكثر من مرة أهمية المسرح التونسي، وتميز مغامراته الدرامية الشيقة لدى عدد من المسرحيين والفرق المسرحية البارزة. وسوف أتوقف في هذا المقال عند آخر المسرحيات التونسية المتميزة التي شاهدتها في مهرجان آفينيون المسرحي في شهر يوليو الماضي، والتي جاءت بها إليه فرقة «فاميليا» المتميزة لجليلة بكار وفاضل الجعايبي. وقد عرضت هذه المسرحية لأول مرة في تونس في شهر أبريل عام 2010 ولاقت نجاحا كبيرا فيها، لكنها اكتسبت بعد الثورة بعدا آخر حيث اعتبرت من الأعمال الجريئة التي استشرفت الثورة قبل وقوعها. وتنبأت بالكثير مما حدث بعد وقوعها كذلك. والواقع أن هذا الأمر ليس غريبا على المسرح التونسي، وخاصة في إبداعات أعلامه الكبار من أمثال فاضل الجعايبي وتوفيق الجبالي ومحمد إدريس وعزالدين قنون وغيرهم. وقد شاهدت أثناء زيارتي الأخيرة لتونس، وكانت في مطلع شهر ديسمبر الماضي، والذي اندلعت الثورة في نصفه الثاني بعد عشرة أيام من مغادرتي لها، حينما حرق محمد بوعزيزي نفسه في سيدي بوزيد في 18 ديسمبر، آخر مسرحيات توفيق الجبالي (أشطح مع القرد) وهي مسرحية تهكمية مدهشة، تناقش في الظاهر وباء الإيدز، الذي انطلق في إحدى النظريات التي تفسر وجوده من القرود، ومن هنا عنوان المسرحية (أشطح، أي أرقص باللهجة التونسية، مع القرد)، ولكن مرض الإيدز يتحول في هذا العرض المسرحي المدهش، وهو عرض من المسرح الشامل يستخدم التمثيل والرقص والغناء فضلا عن كثير من أدوات العرض البصرية مثل شاشات التليفزيون، إلى استعارة لوباء أشمل، وباء اجتماعي وسياسي وثقافي وحضاري ينهش المجتمع التونسي، ويسد الأفق أمام شبابه، ويشطح أبناؤه شبه منومين أو محبطين مع قردة من كل شكل ونوع: قردة الفقر، وقردة الإحباط والفساد، وقردة الرقابة والانتهازية الثقافية، وقردة الأمن والقهر والاستبداد.
المسرح: نقد الواقع واستشراف الثورة:
أقول ليس غريبا على المسرح التونسي أن يستشرف الثورة، وهذا ما شعرت به بعد مشاهدتي لمسرحية توفيق الجبالي الأخيرة قبل اندلاع الثورة بأسابيع. كما تيقنت منه بعد مشاهدتي لمسرحية جليلة بكار وفاضل الجعايبي (يحيى يعيش) في أفينيون هذا العام. صحيح أن فاضل الجعايبي يؤكد في برنامج المسرحية المطبوع ما نعرفه جميعا، وهو أنه ما من أحد استطاع أن يتنبأ بوقوع الثورة التونسية أو المصرية بالطريقة التي حدثت بها. ولم يتصور أحد أن حرق البوعزيزي لنفسه، ورفضه للإهانة يمكن أن يفجر ثورة شعبية كاسحة بهذا الحجم. فقد استمرأ الشعب العربي الهوان لسنوات، ومرغ الساسة والحكام العرب على اختلاف مسمياتهم ومشاربهم المنطقة كلها في مباءات التبعية والهوان للمخططات الأمريكية والصهيونية. وانسد الأفق أمام شبابه، الذي يشكل الغالبية العظمى من سكانه، واتسعت الهوة، لا الفجوة، بين من يتمتعون بالثراء السفيه الفاحش، وهم قلة فاسدة، وبين غالبية كبيرة تعيش تحت خط الفقر، وتعاني من كل شرور الفاقة والمسغبة. كنا ندرك جميعا، وخاصة المثقفين أصحاب الرؤية والضمائر الذين لم يدخلوا حظائر الأنظمة ولم يضعفوا أمام آليات احتوائها الجهنمية، أن الوضع لا يطاق، ولا يمكن له الاستمرار. وأن الأنظمة العربية ليست فاقدة للرؤية والمشروع فحسب، ولكنها فاقدة للشرعية ووالغة في حضيض الفساد والتبعية التي تصل حد الخيانة الوطنية أيضا. لكن لم يتصور أحد، وقد دججت الأنظمة نفسها بآلة قمع جبارة وجهنمية، وغير مسبوقة من حيث الحجم والتمويل والإمكانات في التاريخ الحديث، أن هذه الأنظمة ضعيفة إلى هذا الحد. لذلك فاجأنا الشباب بإصراره، والشعب بحدوسه ورؤاه العبقرية، واجتراحه للحلول وردود الفعل على شراسة النظام وبلطجته، والنظام بهشاشته وتخبطه وتهاويه، وهي كلها مفاجآت جميلة، بدل معها الخوف مواقعه، وتحرر معها الشعب من مخاوفه ليصبح من جديد مصدر كل شرعية وكل السلطات، وارتعدت أوصال الانظمة التي لم تتهاو بعد، وأخذت في التخبط والعمل على احتواء الثورة والتآمر عليها. لكن هيهات! فقد تغيرت صورة المنطقة إلى غير رجعة، ولا سبيل للعودة بعقارب الساعة للوراء.
فقد كانت كل المؤشرات تنبئ بأن كل تلك السلطات والعروش الخاوية والعارية من كل شرعية إلى زوال. هذا ما تؤكده مسرحية جليلة بكار وفاضل الجعايبي (يحيى يعيش: أمنيسيا) الجميلة التي شاهدتها هنا في مسرح «مون فافيه» في إحدى ضواحي مدينة أفينيون ضمن مهرجان هذا العام. والمسرحية جزء من جهد مسرحي لفرقة الجعايبي وبكار «فرقة فاميليا المسرحية» لتأمل ما جرى لتونس بعد الاستقلال. بدأ في مشروع ثلاثية تتناول خمسين عاما من الاستقلال. بدأ جزأها الأول عام 2006، ذكرى خمسينية الاستقلال، بمسرحيته (خمسون) أو (جثث محاصرة) التي تأمل فيها المشهد التونسي، وأسباب تخثر أحلام الاستقلال التنويرية، وانزلاق المجتمع اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا إلى حضيض الإسلاموية والنزعة الماضوية. وقد تعرضت المسرحية لرقابة شرسة، ومنعت من العرض في تونس لأكثر من عامين. لذلك اقترح الكثيرون عليهم، كما يقول فاضل الجعايبي في برنامج المسرحية المطبوع، الاختفاء في الجزء الثاني خلف سوفوكليس أو شكسبير، وطرح ما تريد الفرقة طرحه. لكنهم رفضوا أي أقنعة، وأرادوا طرح الحقيقة على الجمهور بلا قناع في هذه المسرحية الجديدة، بالرغم من معرفتهم بالخطوط الحمراء التي عليهم ألا يتجاوزوها، في عالم يرسف في قيود الرقابة المرئية منها وغير المرئية. ومع ذلك ملأوا المسرحية بإشارات كثيرة للحاضر والماضي القريب، يستطيع الجمهور أن يلتقطها بسهولة. صحيح أن الرقابة المثلثة (وزارة الثقافة والداخلية والرئاسة) اضطرتهم لحذف الكثير، خلال جدل استغرق أكثر من ثلاثة أشهر، لكنهم استطاعوا التعويض عنه بأشكال مراوغة ملأت المسرحية بالإشارات والعلامات التي جعلتها قادرة على أيقاظ الشعب من تلك «الأمنيسيا: أي فقدان الذاكرة» التي غرق في فيافيها، ورد ذاكرته التاريخية والسياسية له كي ينجز ثورته، وأهم من ذلك كي يعي كيف يصل بقارب الثورة إلى بر تحقيق غاياتها الأساسية وسط أمواج الثورة المضادة وأنوائها.
بنية المسرحية الزمنية وعتبة التلقي الأولى:
فأهم ما مكن المسرحية من التأثير وأرهف في الوقت نفسه من قدرتها الاستشرافية هو هذا الجدل الخصب بين الشكل والموضوع فيها، لأن بنية الكابوس الذي لا يستغرق سوى دقيقة أو اثنتين، على صعيد الزمن الكرونومتري، ولكن ما يقرب من ساعتين على صعيد الزمن المسرحي، زمن العرض، هي البنية الزمنية التي انتقتها المسرحية، لأنها البنية الكاشفة عن واقع كابوسي، ولكنه بقوة الفن المراوغة عابر ومؤقت مهما كانت كابوسيته، وكما برهنت الثورة على حقيقة عرضيته. كما أن شكل الحد الأدنى المتقشف المولع بما أود دعوته بدرجة صفر المسرح، أو التمسرح، فنحن هنا بإزاء منهج يستقي الكثير من مسرح بريخت الملحمي، ويعتمد على درجة صفر اللون: الأسود، ودرجة صفر الحركة، المسرح الأسود الخالي تماما من كل حركة، ودرجة صفر الإشارات أو العلامات المسرحية من ديكور وإكسسوار، فالمسرح الذي أمامنا ليس إلا مساحة سوداء خالية تماما، ليست كمساحة بيتر بروك الخالية، ولكنها مساحة عامرة بالفراغ والخواء الذي يوشك ثقله أن يبهظ المشاهد مع بطء البداية المتعمد. وفراغ المسرح وتقشفه هذان هما أداة البداية، ومحتوى الشكل المسرحي الذي نبدأ به (يحيى يعيش)، أو بالأحرى (أمنيسيا) التي تنطوي في عنوانها الإضافي ذاك على الخواء أو الفراغ الناجم عن فقدان الذاكرة. تقشف يوشك أن يكون مطلقا، يعري الخشبة من كل شيء، حتى من الألوان نفسها ويصبغها كلها بالأسود، ويولع بتعرية كل الأحداث والشخصيات حتى النخاع، والاستغناء عن كل الديكور والإكسسوارات، وعن أي خدع بصرية أو سمعية أو حركية، والاعتماد فحسب على جسد الممثل والكلمة، هو الذي استدعى تلقيا يحتم فك شفراتها، وملء فجواتها، وإبلاغ الجمهور رسائلها المتعددة. بالصورة التي أصبح فيها الحدث الدرامي كله استعارة قوية لا لما كان قبل الثورة فحسب، بل لكثير مما دار بعدها أيضا.
أقول أن المسرحية استغنت كلية عن الألوان والديكور والإكسسوارات، عدا الكرسي بالطبع بتنويعة الكرسي العادي: بلونيه الأبيض والأسود، والكرسي المتحرك رمز السلطة القعيدة المرتبكة العاجزة عن القيام بأي مشروع، والفاقدة بالطبع لكل شرعية. لكن الكرسي، الواقعي والرمزي على السواء، لا يظهر على الخشبة العارية التي تبدأ بها المسرحية، ولكنه يفد إلى الفراغ بعد البداية الأولى. أقول بعد البداية الأولى، لأن المسرحية تنطوي على عدة بدايات. على مجموعة دالة من البدايات المؤطرة للعمل بأكثر من إطار: إطار التلقي والمنظور الذي يخرج بالعمل من بين الجمهور ويورطه فيه، وإطار السلطة حيث الاحتفال بعيد ميلاد سلطوي ترجع أصداءه أغنية مارلين مونرو التي غنتها في عيد ميلاد جون كينيدي، وإطار الكابوس الذي يحوّل العمل إلى مسرحية داخل مسرحية، قبل أن نعود من جديد إلى السؤال الأول عن الوقت أثناء حفلة عيد الميلاد، وقبيل توقيت إذاعة نشرة الأخبار المسائية الأساسية. وكل إطار/ بداية من هذه البدايات يطرح تأويله الخاص الذي يفتح المسرحية على مستويات متعددة من المعاني والدلالات، وبالتالي على عدد من التأويلات.
لكن قبل أن نتعرف على بدايات المسرحية المتراكبة والمتكاملة، بشيء من التفصيل، دعنا نتأمل عنوانها المزدوج (يحيى يعيش:Amnesia) باعتبار أن العنوان هو عتبة المسرحية الأولى. وهو عنوان مزدوج يكتبه أفيش المسرحية بلغتين: العربية والفرنسية، الأولى بخط كوفي كبير وتحتها بخط أصغر نجد العنوان الفرنسي، لجمهور يعرفهما معا هو الجمهور التونسي، ويعرف أن ثانيهما ليس بأي حال من الأحوال ترجمة للآخر. فيحيى يعيش عنوان مكون حقيقة من فعلين، ولكن أولهما يستخدم كثيرا كإسم علم، وهو بالفعل اسم البطل، وها هي المسرحية تستخدم الثاني كإسم علم أيضا، أو كإسم عائلي للبطل الذي استمرأ وهو في السلطة هتاف الهاتفين له، يعيش ... يعيش، حتى أصبح الهتاف جزءا من اسمه، بل الجزء الأهم من اسمه. فهو من مترادفات الأول. وكأننا بإزاء تكرار مقصود به أن يولد السخرية، ويالها من سخرية مرة من البداية. سخرية ستتجلى لنا طبيعتها حينما ندرك أن يحيى أقرب إلى الموت منه إلى الحياه، لأن الحياة والموت عنده لا يقاسان إلا بالسلطة التي ما أن تلفظه حتى يدفعه هذا الأمر إلى حافة الموت. فهو لم يعد يعرف حقيقة إن كانت حياته خارج السلطة هي حياة، أم موت أشد قسوة من الموت الفيزيقي، وهل يعيش فعلا، أم أنه بالكاد يحيى؟
فإذا انتقلنا إلى العنوان الثاني، والمكتوب بالفرنسية، فإنه يوشك أن يكون تأكيدا للموت المضمر في تكرار الإسم «يحيى يعيش»، لأن فقدان الذاكرة هو في حقيقة الأمر موت، حتى لو استمر فاقدها في الحياة التي ترتد به إلى مرتبة الحيوان، وتنزع عنه إنسانيته، فالإنسان حيوان ذو ذاكرة. وإذا فقدها فقد معها أهم شروط إنسانيته. والواقع أن لعبة فقدان الذاكرة هي واحدة من الألعاب الدالة التي تستخدمها المسرحية في توليد استعاراتها الدرامية من ناحية، وفي طرح موضوعها المزدوج هو أيضا من ناحية أخرى: ألا وهو أن السلطة العربية هي سلطة بلا ذاكرة، لا تتعلم من التاريخ وتكرر على الدوام أخطاءها، مما يجعلها تفقد بسرعة شرعيتها ومصداقيتها. لكن الموضوع الثاني والأهم هو أنها تتعامل مع شعوبها على أنها أيضا شعوب بلا ذاكرة تاريخية. وفقدان الذاكرة التاريخية ليس واحدا من موضوعات هذه المسرحية فحسب، ولكنه أحد أهم قضايا الواقع العربي المعاصر. وهو الموضوع الثاوي في قعر كل ما يدور في هذه المسرحية من أحداث في مستوى من مستويات التحليل والتأويل. لكن وحتى لا تستبق النتائج التحليل النقدي للمسرحية، دعنا أولا نتعرف على ما يدور في هذه المسرحية الشيقة من أحداث واستراتيجيات نصية، ولنبدأ بالتعرف على بدايات المسرحية المتراكبة والمتكاملة، بشيء من التفصيل.
البدايات المتراكبة والمتكررة والمتكاملة:
أول هذه البدايات بداية يمكن دعوتها بالبداية المنطلقية التي تحدد منطلق الرؤية والتلقي، وتؤطر العمل كله. حيث لا يخرج الممثلون من كواليس المسرح المضاء كالعادة، فقد كانت الصالة مضاءة والمسرح شبه مظلم، وإنما من بين الجمهور وانطلاقا من فضاء المشاهدة، الذي يريد العمل أن يكون فضاء المسؤولية عما سيدور، وفضاء الجدل العقلي معه. وشارة هذه البداية هي الصمت وحركية النظرة، أو ما يعرف اصطلاحيا باسم سياسات النظرة Politics of the Gaze التي تؤسس فيها التحديقات لغتها المصاحبة للغة المنطوقة، والمستغنية عنها في الوقت نفسه. وهي لغة تحدد بنية التراتبات من ناحية، وتكشف عن منظور الرؤية المسرحية من ناحية أخرى. حيث تبدأ المسرحية قبل أن تبدأ، أو في هذه البداية الأولى بالممثلين يظهرون وقد توشحوا كلهم بالسواد من بين الجمهور الذي كانت أنظاره مركزة على الخشبة الخالية، خاصة بعدما خفتت أضواء القاعة لتصبح في خفوت أضواء المسرح، فنحن هنا في تناظر بين فضاءين متكاملين. ولكن يطول الانتظار دون أن يحدث شيء على الخشبة الفارغة، وكأن المسرحية تريد من البداية أن تبلغ المتلقي رسالة مضمرة، تقول له أنت تنظر في الاتجاه الخطأ أو تتوقع الحدث في المكان الخطأ.
ويبدأ لغظ بين الجمهور من خلال تغير حركية النظرة، وتبدل مركزها من المسرح إلى الصالة. حيث بدأ الممثلون ينبثقون من وسط الجمهور ولا يستخدمون الممرات بين مقاعدة للدخول إلى الخشبة، كما يحدث كثيرا، ولكن لتأسيس علاقة تماثل مع الجمهور من خلال لغة التحديقات وسياسات النظرة، ولذلك يتمهلون كثيرا أمام كل صف، ويؤسس كل منهم علاقته تحديقيا مع بعض أفراده. وكأنه يخبره بأنه سيكون نظيره أو ممثله على الخشبة. فهذه البداية المنطلقية لا تتغيا تأكيد تقديم ما سنراه من وجهة نظر الجمهور فحسب، بل تريد أساسا توريط الجمهور فيما يدور، سلبا أو إيجابا على خشبة المسرح بعدها. فليس هناك سلطة يمكن التعامل معها أو تفكيكها، دون أن يكون هناك موضوع لها، وموضوع السلطة أو من يقع عليهم عبء تصرفاتها هو الجمهور.
وما أن يصل الممثلون إلى الخشبة بعد الدقائق الأولى الثقيلة للبداية المنطلقية حتى تأتي البداية الثانية: والتي أود دعوتها بالبداية التكريسية. وهي بداية رمزية تهكمية وهجائية معا، تعتمد على فن البانتومايم الإيمائي. لأن الوصول للخشبة يتم من خلال المشي للوراء، أي التراجع للخلف، فنحن في عالم مقلوب، كل شيء فيه يمضي للوراء، وليس للأمام، بينما وجوه الممثلين تواجهنا حتى يصل كل منهم للخشبة، ثم يغيب الممثلون كالسائرين نياما في الجدران السوداء واحدا وراء الآخر، ويعود كل منهم بكرسي أبيض، وتصطف الكراسي في مقدمة المسرح في صف مستقيم، ويجلس كل على كرسيه، ولكننا نكتشف في زحام الحركة أن أحدهم لابد قد جاء بكرسيين. لأنهم ما أن يجلسوا في صف واحد في مواجهة الجمهور حتى نكتشف أننا بإزاء 11 ممثل وممثلة، وكرسي فارغ. فرقم 12 الغائب هو رقم له دلالاته الميثولوجية التي قد تشير للحواري الغائب الذي سيخون المسيح في الأسطورة/ الحكاية الدينية، أم تراه يشير للقوة الغائبة التي ستتحكم في كل ما سيدور على المسرح بعد قليل، كما هو الحال مع بنية السلطة المطلقة التي تعتمد على الغياب شارة للحضور. ففراغ هذا المقعد لايقل دلالة عن امتلاء المقاعد الأحد عشر. وبينما ننشغل في تأمل الكرسي الفارغ، يستغرق الممثلون والممثلات في النعاس على كراسيهم. ولا تصدر عن أي منهم حركة أو نأمة، إلا حركات النيام غير المتسقة والعفوية والمضحكة، كي يتحولوا بحق، وبطريقة تهكمية ساخرة، إلى صورة الجمهور السلبي المنوّم في المرآة الدرامية للمسرحية، إلى صورة للجمهور العربي الذي استنام إلى دعة رجوعه المستمر للوراء، وغوصه الدائم في الظلمات الحالكة، فتعالى شخيره، لأن الشخير هو الصوت الوحيد المسموح له بأن يعلو على صوت المستبد/ الديكتاتور.
لكن النوم لا يطول، لأن أصوات طلقات وانفجارات تملأ فضاء المسرح فتوقظ النيام، لا ليواجهوا الواقع، ولكن ليواجهوا التاريخ في بداية ثالثة للمسرحية يمكن دعوتها بالبداية التذكيرية التي تجسدها رقصة الموت المتكررة التي تعقب الإفاقة الصادمة من النوم. حيث تتحول هذه الطلقات إلى تجسيد إيمائي لدوامات القهر والقمع التي تطيح بكل من تسول له نفسه أن يستيقظ، أن ينهض. فيترنح الممثلون، كل من يحاول منهم الهرب ترديه طلقات القناصة، فيسقط مجندلا بيقظته على المسرح، أو يترنح هاربا من على الخشبة. ومن يعود من جديد ترديه الطلقات من جديد، فنشعر بأننا في دورة من اليقظات والإجهاضات المستمرة لتلك اليقظات الصغيرة أو المباغتة. فاليقظة في تلك البداية المسرحية بنت الضجة الصارخة، أو الانتهاكات التي زادت عن الحد، فدفعت إلى ردة فعل سرعان ما أجهزت آلة القمع عليها. لأن الضجة التي أيقظت النيام، والتي يمكن تأويلها بأنها رمز لتصرفات سياسية زاعقة ومبتذلة، هي نفسها التي أودت بمن ايقظته، بصورة تتحول معها إلى رمز لصيغ القمع الوحشية التي تنفذها الآلة البوليسية.
إنها بداية زاعقة وملتبسة معا، ولكنها تريد أن تذكر الجمهور بتواريخ القمع والقهر التي عاشها في بلادنا العربية بالطبع. وقد رأي عدد من نقاد المسرحية التوانسة خاصة أنها تذكرهم بأحداث تاريخية محددة يعرفها المشاهد التونسي لأنه عاشها، من أحداث 26 يناير 1978 إلى انتفاضة الخبز في يناير 1984 إلى أحداث جفصة الأخيرة وغيرها من الانتفاضات، أو اليقظات الاحتجاجية القصيرة والمباغتة والتي سرعان ما تجهز عليها آلة القمع الجهنمية، وتصرع أصحابها. وأود أن أذكر القارئ هنا أنه بين عامي 2004، وهو عام انطلاق حركة «كفاية» في مصر وثورة 25 يناير المصرية كانت هناك ثلاثة آلاف انتفاضة أو وقفة احتجاجية مصرية طوال حكم مبارك المخلوع، والمسجون الآن في مستشفى لا تختلف كثيرا عن تلك التي سنراها في المسرحية، تم التعامل معها بنفس الطريقة التي جسدتها بداية المسرحية التذكيرية تلك.
غير أن هذه البداية الصاخبة سرعان ما تتفتق عن بداية رابعة أود دعوتها بالبداية التأطيرية، ألا وهي تلك التي تلي خروج آخر الممثلين المفزوعين بعد رقصة الموت، وعودتهم في زي جديد، زي السهرة وهم جاهزون للاحتفال بعيد ميلاد «درّة» ابنة المسؤول الكبير «يحيى يعيش». هذه البداية التأطيرية لا تبدأ كتلك البدايات السابقة بممثلين لا اسم لأي منهم أو شخصية، وإنما بشخصيات المسرحية الأساسية وهي مجتمعة في دار «يحيى يعيش» يتوسطهم هو وزوجته «لالة لطيفة» وابنتاه «درّة» و«عزّة» (لاحظ دلالات الأسماء) وزوجها «سامي»، و«الدكتور الصقلي» طبيبه الخاص، و«الأستاذ الدغني» محاميه الخاص، فضلا عن عشيق «درّة» وطاقم العاملين في البيت «كشكش» الطباخة، وابنها «إبراهيم» السائق، و«عرفات» الجنايني والعساس و«عفيفة» الخادمة. نحن إذن بإزاء أول تجسيد لمشهد واقعي على الخشبة، بداية واقعية تشكل الإطار، وتبدأ هذه البداية بأغنية عيد الميلاد. ولكن المسرحية تبث عبر الأغنية البريئة إحدى علاماتها المهمة التي تجعل هذه البداية بداية تأطيرية تؤطر المسرحية سياسيا لمن فاتته الدلالات السياسية لرقصة الموت، أو لحصد الرصاص لكل من سولت له نفسه اليقظة من سبات الشعب الخانع المستنيم للهوان، أو بتعبير مقال فرنسي شهير «لعبوديته الطوعية».
لأنها تذيع علينا أغنية عيد الميلاد أولا باللغة الانجليزية، وبصوت مارلين مونرو وهي تغنيها في عيد ميلاد الرئيس الأمريكي المغدور جون كينيدي. فتتحول الأغنية البريئة إلى علامة سياسية، تقول لنا إن الأسرة المكونة من «يحيى يعيش» وزوجته «لالة لطيفة» وابنتيه هي الأسرة الرئاسية لا غيرها. ثم سرعان ما تموه عليها بترديد الأغنية من جديد ولكن باللغة الفرنسية هذه المرة كي يبدو الأمر بريئا وطبيعيا. ولكنها لا تكتفي بذلك، بل تحرص على أن تخلق حالة من التوازي الدال بين رقصة الموت التي يعيشها الشعب، ورقصة الترف والسفه الذي يعيشها حكامه. إذ يدور الرقص في حفلة عيد الميلاد الصاخبة على وقع موسيقى، أو بالأحرى ضجة زاعقة لاتقل نشازا عن ضجة الانفجارات وطلقات الرصاص، كما يتساقط المحتفلون على الأرض بطريقة موازية لتساقط الشعب بالرصاص في البداية السابقة. فمقابل رقصة الموت المأساوية نجد على الجانب الآخر رقصة السفه والبذخ المخزية، حيث يترنح المحتفلون سكرا، ويتساقطون عربدة، في استقطاب واصح بين عالمين في بلد واحد.
ومع أولى كلمات المسرحية المنطوقة، وهي السؤال عن الوقت: الذي تسأله أولا «لالة لطيفة» فلا يجيبها أحد، وما أن يسأله «يحيى يعيش» حتى تجيئه الإجابة من الصقلي أولا، بأنها لم تبلغ الثامنة بعد «الثمانية ما حررش»، ثم من الدغني محاميه الخاص، بأنها السابعة وسبع وخمسون دقيقة. أقول مع أولى تلك الكلمات المنطوقة تجيء البداية الخامسة والأخيرة، والتي أحب أن أدعوها بالبداية الكابوسية التي ستحيل كل ما يليها إلى مسرحية داخل المسرحية. لأن المسرحية ستنتهي بنفس السؤال عن الوقت، يسأله «يحي يعيش» وبنفس الإجابة: فيجيب الصقلي «الثمانية ما حررش» بينما يجيب الدغني بأنها السابعة وتسع وخمسون دقيقة. بمعنى أن المسرحية كلها، من حيث الزمن الفعلي أو الواقعي لم تستغرق أكثر من دقيقة أو دقيقتين، وهو زمن الحلم الكابوسي الذي سنشهده على مد الساعتين التاليتين، لأن زمن الحلم لا يتجاوز عادة الدقيقة أو الدقيقتين. والواقع أن هذا الكابوس، أي جسم المسرحية نفسه، هو أداة العمل للتفكيك الدرامي لبذاءة السلطة، ولا أقول آلية السلطة. وهو تفكيك أقرب ما يكون إلى كشف حقيقة ما يدعوه بيرجسون بـ«قوة الزيف، أو سلطة الزائف Power of the False» التي تستمد قوتها من خارجها، وليس من أي قوة حقيقية أو شرعية داخلية. وهذا المفهوم البرجسوني هو الذي يوثق علاقة القسم الأساسي أو الكابوسي من المسرحية بالبداية المؤسسة لبعض العناصر الخارجية التي يستمد منها الزائف سلطته، وأهمها خنوع الجمهور وسباته واستسلامه لعبوديته الطوعية.
الكابوس المسرحي وفقدان الذاكرة المزدوج
لكن الكابوس المسرحي الذي ستتكشف فصوله حينما يعلم يحيى يعيش بخبر تنحيته من التليفزيون، ومن نشرة الساعة الثامنة الذي يبدو أنه كان يسأل عن الوقت تحسبا لها. وتركت «لالة لطيفة» المشهد لتشاهدها فيما يبدو، إذ سرعان ما تعود وهي تصرخ وباللغة الانجليزية Stop! أقالوه! وتبدأ احداث المسرحية بعد هذه البدايات المتعددة والمتكاملة والمتراكبة، تبدأ أحداث المسرحية، أو بالأحرى كابوسها الذي يجد الرجل الكبير نفسه فيه. والكابوس الذي أعنيه ليس هو الكابوس الذي يعيشه «يحيى يعيش» في المشهد الأول والذي يجسده صوته المذاع الذي يأتينا من خارج المشهد، حينما يجد نفسه عاريا حافيا في أرض قاحلة جرداء يدمي حصاها قدميه، ينادي نساء أسرته الثلاث ولا مجيب، ثم يجدهن وقد تحولن إلى جثث متداخلة، أو جثة واحدة متعددة الأطراف، ثم تفغر الأرض فاها وتبتلعه، وإن كان لهذا الكابوس دوره ودلالاته الاستشرافية، ولكنه الكابوس الآخر الأشد وقعا، وهو كابوس الحياة كرئيس مخلوع. سمع في نشرة الأخبار التليفزيونية نبأ تنحيته، في نوع من الانقلاب المباغت، الذي تصحبه قعقعات المدافع وضجة الانفجارات المصمية التي تثير الفزع بين الممثلين والجمهور على السواء.
وتتعاقب بعد ذلك الأحداث التي نراها أولا وقد انعكست على مرايا أسرة «يحيى يعيش»، وهي تتحدث مع المحامي والطبيب عما جرى: عمن جاءوا وفتشوا البيت وأخذوا كل الوثائق، وكيف أنه حينما طلب وزير الداخلية ليشكوا له لم يرد عليه. وعن القبض على نسيبه وتفتيش بيته ومكتبه، وعن أخذ كل الملفات المتعلقة به من مكتب محاميه، وعن نهش الصحف والتلفزة لسيرته صباح مساء، وامتلائهما بأخبار ما جرى لأنصاره من المخلوعين؛ وعن تدهور صحته وارتفاع السكر والضغط وتدهور صحة «لالة لطيفة» وتخثر دمها، ويقترح الصقلي الحريص على صحة العائلة، أن الحل الوحيد هو السفر للعلاج في الخارج، لكن الدغني، الحريص على وضع موكله القانوني، يرى أن السفر قد يفسر بأنه محاولة للهروب. لكن «درّة» سرعان ما تذكرهم وقد بدأ الجدل بينهما أن السفر ليس حلا مطروحا، لأن أول ما اخذوه من الدار هو جوازات السفر. وما أن يدخل «يحيى» إلى المشهد حتى نعرف أن عملية تجريده من كل مهامه الرسمية والشرفية قائمة على قدم وساق. وأنه مايزال يردد خطابه السياسي الخاوي من أنه قام بواجبه، وأنه حريص على مصلحة النظام، ولذلك يمنع كلا من طبيبه ومحاميه من الحديث باسمه، أو حتى الحديث عن حالته كي لا تستخدم المعارضة ما يصرحون به ضد النظام. وينهي حديثه بالدعاء «اللهم انصرني على من ظلمني، حتى تريني فيه ثأري. إن الله يمهل ولا يهمل». تماما كما يتردد عن مبارك المخلوع أن يردد كلما أفاق من سماديره.
ثم تتعاقب بعد ذلك المشاهد، من محاولة «يحيى» الحفاظ على صحته، برياضة الجري، إلى مشهد في المطار، حيث يخبرنا «يحيى» بأنه طلب من وزير الداخلية الجديد استعادة جواز سفره لأن بعض العارفين بقدره في الخارج دعوه لإلقاء محاضرة عن «مفهوم الحرية والديموقراطية في البلدان الفتية»، فأعادوا له جوازه هو وزوجته فقط. وفي قاعة الانتظار يتكأكأ عليه أفراد من الجمهور، من تسأل متى سنعرف سر إقالته، ومن تريد إجراء حديث صحفي معه، ومن تعرض عليه خدماتها، ومن تريد صورة معه، حتى يأتي أربعة من رجال الأمن يخبرونه بأنه ممنوع من مغادرة البلاد، ويقبضون عليه هو وزوجته. وعندما يحتج، تظهر له من القاعة من تقول له أنها طالما اشتكت له بأن جواز سفرها مسحوب، وأنها ممنوعه من السفر منذ ثلاث سنوات دون جدوى. ثم يتغير المشهد من المطار إلى المصحة حيث يأتي صوت «يحيى» ليخبرنا بما جرى بعد القبض عليه في المطار. فقد أعادوه للبيت، ووضعوه فيه تحت الإقامة الجبرية بعدما قطعوا عنه التليفون والانترنت. وقبضوا على ابنته «درّة» بتهمة تعاطي المخدرات، وعلى زوج ابنته الأخرى على الحدود الجزائرية بتهمة تهريب العملة، ومنعوهم من زيارة «درّة» ومنعوا «عزّة» من زيارة زوجها في السجن، كما منعوا المحامين من زيارتهما. ولم يعد له ملجأ إلا مكتبته، يقرأ ويكتب ويفكر. ثم يقع حريق في مكتبه لا نعرف إذا ما كان هو الذي اشعله كي يحرق الوثائق التي يريد ألا تقع في أيدي من عزلوه، أم أن الحريق كان بفعل فاعل يريد الإجهاز على حياته والتخلص منه. لأننا نراه في المصحة محترق اليدين، وتقول الطبيبة أنها حروق جلدية لا خطر منها، ويدور استجواب جديد له من الأطباء هذه المرة، وهو لا يفرق بينهم وبين «البوليسية» حول الحريق ومن أشعله، لكنه لا يستطيع الإجابة.
وتتوالي الأحداث عليه، تلفه في عاصفتها التي تنزل به من حضيض إلى آخر، فلا نعرف ما هو تلقائي منها، مما هو مدبر من قبل أجهزة السلطة والأمن الجهنمية. وبعض هذه الأحداث ساخر تهكمي، كما هو الحال مع شكوى خادمات المصحة، أو مع الصحافية التونسية التي تعمل في جريدة خليجية وتريد إعداد كتاب عنه، أو مع من يخبره بأن الصحف كفت عن الكتابة عنه، ما عدا صحيفة معارضة واحدة تتكلم عن فضائح ابنته وزوجها، أو مع مدير البنك الذي كانت شراهته هو ونظامه في الحصول على العمولات سببا في إفلاسه وجنونه، أو مع فريق من الأطباء الشباب الذين يديرون معه حوارا هو أقرب إلى المحاكمة منه إلى أي شيء آخر، عن كل ما جرى في عصره من مظالم. وبعدها يأتي فريق آخر من الأطباء الكبار ومعهم طبيبه الصقلي، فيشرع في الدفاع عن نفسه. وينكر أي تقولات عن محاولته الانتحار، فهو ليس مؤمنا فحسب، ولكنه راض عما فعله في الحكم لصالح البلاد والعباد. ويطالب بإخراجه من المصحة، ولكن أحدى الطبيبات تخبره بأنه لابد من الاحتفاظ به فيها حتى ينساه الجميع، وتنمحي صورته من الأذهان. ولما يستنجد بطبيه الخاص كي يخرجه، يكتشف أنه باعه كيهوذا بعشرين قطعة من الفضة، بعد أن عرض عليه من خلعوه منصب وزارة الصحة. فيصرخ طالبا محاميه «الدغني» الذي يخبره، بأنه ليس ثمة قضية حقيقية ضده، وأن التحفظ عليه هو لحمايته من أخطار محتملة.
ثم تنتقل المسرحية إلى مشهد لعائلة تمرجي بسيط في المصحة هو «محرز الفرملي» يتعاطف مع «يحيى يعيش» برغم أن هذا التعاطف قد يجلب عليه المشاكل، وأن ابنه قد انزلق بسبب معاناة الشباب إلى العمل مع المعارضة الإسلامية وميليشياتها. ثم نعود من جديد لصوت «يحيى يعيش» القادم من وراء المشهد يتحدث عما جرى له، ويتمنى أن يعود للسجن، وأن تتوفر له محاكمة كي يدافع عن نفسه. ثم يأتي مشهد آخر في «السبخة» حيث يلتقي الصقلي سرا بـ«درّة» فقد كانت بينهما علاقة غرامية استمرت لسبع سنوات، ترك زوجته أثناءها من أجلها، واستفاد من اسم ابيها وسطوته، ولكنه لم يحاول مع ذلك زيارتها مرة واحدة في سجنها، وما موعده معها الآن إلا محاولة منه لمعرفة ما إذا كانوا قد سألوها عنه أثناء التحقيقات معها في السجن، أم لا؟ ونكتشف من خلال حوارهما أنه كتب تقريرا يؤكد أن أباها مصاب بالاكتئاب وأنه مريض عقليا، وخطر على أمن الدولة، استخدموه في وضعه في المصحة العقلية. وتوبخه وتطلق عليه النار رمزيا، فقد انتهى كلية من حياتها. وفي المشهد التالي نجد الصقلي في نفس الموقع، في مواجهة كل من «لالة لطيفة» و«عزّة» يطلبان منه استخدام نفوذه كوزير للصحة في استرداد جوازات سفرهم، ولما يحاول التملص من ذلك، تهدده «لالة لطيفة» بفضحه، وتخبره بأن لديهم من الصور ما يرغمه على التعاون معهما. وأخيرا يتكرر المشهد ولكن هذه المرة مع «يحيى يعيش» الذي يريد الهرب عبر الحدود، والذي يكتشف خيانة «الصقلي» له، ويصوب له هو الآخر مسدس رمزي ويطلق عليه النار، فيسقط أو يختفي من المشهد.
فالمسرحية حريصة على الكشف عن انتهازية المثقف المهني، وتقلباته اللاأخلاقية، وتشبثه المريض بالسلطة، وتنكره لأي مبادئ أو أخلاق، وتعريته حتى من ورقة التوت التي يريد أن يستر بها عورته. فالمنافق للسلطة جبان يواصل نفاقها مهما تبدلت. ففي المشهد التالي تظهر ليحيى يعيش الصحفية من جديد، نفس الصحفية التي قابلته في المطار، وتنكرت في زي عاملة وحاولت أن تراه في المصحة، وها هي تظهر للمرة الثالثة، مصرّة على إجراء هذا الحوار. وهو لا يأبه بها، ويحتقرها لأنها صحفية صغيرة، وهو الذي كان يتهافت عليه كبار الصحفيين. لكنها تخبره بأنها ظلت صغيرة لأنها نتاج مرحلته السياسية التي احترفت فيها الصحافة الكذب والنفاق. وأنها حينما كتبت الحقيقة في بداية حياتها المهنية، نصحها رئيسها بأنها كي تعيش عليها أن تحترف الكذب والتزوير. وألا تكتب عن المواضيع الحساسة مثل قتل الشرطة لمتظاهر رأته يموت أمامها وهو في شرخ الشباب. ولما ذهبت بالمقال لرئيسها نصحها بأن تحتفظ به في درج مكتبها، فمثل تلك المقالات لا تنشر، حتى امتلأ المكتب بمقالات تعتبر سجلا للتاريخ الحقيقي للمدينة، ولحقيقة ما دار في عهده، بينما نشرت لها الصحف الكذب والتضليل.
وهي تريد أن تتيح له في هذا الحوار المطول، الذي تنوي نشره في كتاب، ليس الفرصة للدفاع عن نفسه وقول الحقيقة فحسب، وإنما تتيح لنفسها هي الأخرى أن تزيل عنها، وهي تكتب الحقيقة، أوشاب ماضيها الأليم. وأن تنشر مع حواره يوميات مواطنة عاشت أحداث 26 يناير، وتحوير الدستور، وأحداث الرّديف والتقلبات السياسية التي شاهدتها ودونت صفحاتها في مقالاتها الممنوعة. كتاب يروي الحقيقة من وجهتي نظر السلطة والناس معا، فتتكامل الروايتان. وتنقشع بهما «الأمنيسيا» التي تسيطر على واقع فقد ذاكرته على المستويين: مستوى الجمهور الذي تمثله الصحفية، ومستوى السلطة التي يجسدها يحيى يعيش.
ويبلغ هذا المشهد ذروته بحوار صحفي تتعدد فيه الأصوات، حيث يقبل مجموعة من الصحفيين يطرحون أسئلتهم المدببة علي «يحيى يعيش» بصورة تنتهي بالكشف عن أن عصره لم يكن إلا عصرا «كان السيف عند سفيهه، والمال عند جهوله، والرأي عند سخيفه، والعلم عند دخيله، وقد استبد قليله بكثيره ظلما، وذل كثيره بقليله». ويحاول «يحيى يعيش» أن يدافع عن نفسه، وينتهي هذا الاستجواب الصحفي الكاشف بانتهاء الكابوس، الكابوس المسرحي/ المسرحية داخل المسرحية، والكابوس الذي بدأ «يحيى» يحكيه لنا في بداية المسرحية، ومع انتهاء الكابوس يتصاعد من جديد لحن احتفال عيد الميلاد الذي بدأنا به. ويسأل «يحيى» من جديد «قداش الوقت» والجميع يتبادل الأنخاب، وكأننا في مشهد البداية من جديد، ويجيئه نفس الرد من «الصقلي» «الثامنة ما حررش» ومن «الدغني» «السابعة وتسع وخمسون دقيقة». وتنتهي المسرحية تلك النهاية الدائرية التي تعود بنا للبداية، وتطلب منا التفكير في كل ما دار أمامنا.
استراتيجيات التغريب والتجسيد التشخيصي
وبالإضافة إلى كل ما نعرفه، وما تكرر في النقد المسرحي العربي من حديث طويل عن استراتيجيات المسرح البريختي التغريبية الذي يتوجه عبرها العمل المسرحي للعقل لا للعاطفة، ويطرح عبرها الأسئلة على المشاهد، ويثير لديه الرغبة في التفكير، فإننا هنا بإزاء واحدة من المسرحيات القليلة التي تكشف عما يسميه جيل ديلوز بالقدرة التشخيصية للأدب، أو في هذه الحالة للمسرح. وهي قدرة تكشف عن المرض الجمعي أكثر مما تهتم بالحالات الفردية التي اهتم بها التحليل النفسي للأدب. إننا بإزاء كتابة ركحية تهتم بالطرح والتجسيد Performative rather than referential utterance أكثر من اهتمامها بالتمثيل والمحاكاة، في نوع مما يدعوه ديلوز بالذرائعية السياقية Contextual Pragmatics التي توظف الأصوات والوجوه كي تحقق الضرورة الأخلاقية لتفكيك البنى المتكلسة، وزعزعة القيود المتحجرة للعالم السياسي. وهذا ما تفعله المسرحية من خلال بنية فنية وجمالية قادرة على أن تجعل للشكل محتواه الذي يعضد عملية إرهاف العقل النقدي، ويحث المشاهد على التفكير في كل ما يجرى أمامه.
فهل هو حقا أمام كابوس سرعان ما يفيق منه الجميع، وأولهم السياسي؟ أم أننا بإزاء طرح ماكر لعرضية السلطة من ناحية، وهي مسألة تتجسد كثيرا على المسرح من خلال لعبة الكراسي التي تبدأ كلها بيضاء، ثم تنتهي إلى كراسي سوداء، لوثتها الممارسات السياسية الاستبدادية الفظة، من كثرة ما رأته؟ أم تراها عملية تفكيك معقدة لآليات السلطة من الداخل، وكيف أنها سلطة هشة يعمرها الخواء، في مرحلة فقدت فيها كل السلطات العربية شرعيتها ومصداقيتها، ولم يعد حكامها يجلسون إلا على عروش خاوية، بالرغم من وهم الجميع: الجالس على السلطة والمكتوي بنارها، بأنها عامرة. سلطة انتهت بمن كان في قمتها مقعدا وعلى كرسي متحرك في مصحة عقلية يتعرض فيها لاستجوابات فريق لانعرف إن كان فريقا من الأطباء أم من المحققين أم من رجال الأمن؟ حيث لا يبقى له إلا قراءاته، في استقصاءات أدونيس الساذجة في (الثابت والمتحول)، بمنطقها الشكلي، الذي لا يختلف كثيرا عن منطق السلطة ذاته. وحيث تختلط عليه الأمور، وتخرج عليه الحشرات من صفحات كتاب أدونيس ذاك، وتتحول إلى كوابيس جديدة يبتلعه فيها مقعده المريح.
فنحن بإزاء مسرح يستخدم أحلام «يحيى يعيش» ومرايا ذاكرته، لتفكيك رحلة عمر في خدمة الاستبداد، والإيمان بالحزب الواحد، الذي لايزال البطل مؤمنا به حتى وهو في محنته الكابوسية. فهدف المسرحية هو زعزعة هذا الإيمان الأرعن، وإتاحة الفرصة لوضع بطلها أمام ما يعانيه أبناء شعبه من صنوف القهر، والكشف عن مسؤولية السياسة عن تخليق الأفق الاجتماعي والاقتصادي المسدود، وعن دور الثقافة والصحافة والإعلام في تكريس خطاب الاستبداد وخدمته، وتمييع أي خطاب معارض أو تشويهه وتهميشه. بالصورة التي تتحول معها المسرحية إلى دراسة درامية لما يفعله الاستبداد لا لمن يُمارَس عليهم فحسب، وإنما لمن يمارسونه أنفسهم كذلك. حيث يتركهم مقعدين ضائعين لا يقلون ضياعا عن ضحاياهم. كما تكشف لنا ليس فقط حتمية انتهاء الاستبداد مهما طال، ولكن أيضا الكثير عما جرى بعد نهايته. فحديثها عن حريق الوثائق قد تحقق بعد سقوط الطاغية، ففي مصر نعرف جميعا كيف قضى زكريا عزمي، مدير ديوان مبارك المخلوع، أياما بل أسابيع يحرق الوثائق ويفرمها، وكيف يردد مبارك أنه مظلوم، رغم أن سيل مظالمه قد فاق كل تصور. وكشف المسرحية عن كثير مما دار بعد سقوط الطاغية الذي تنبأت به، حتى ولو لم تكن نهايته بالصورة التي جرت بها في حدود المتصوّر، هو الذي يؤكد دورها التشخيصي لحقيقة الداء الجمعي من ناحية، ودورها الاستشرافي لما سيجيئ من ناحية أخرى.