إن التناقض بين كوننا شكلا في العالم الحديث، وبين كوننا جوهرا في خارجه، يضطرنا إلى معاناة قضايا مجتمع قديم في عالم حديث، ومعاناة قضايا عالم حديث في مجتمع قديم، ففي التعبير عن معاناتنا تلك نعرّض أنفسنا لإنتاج أدب يجده القارئ الحديث بعيدا عن قضاياه ومشكلاته، وفي التعبير عن معاناتنا الأخرى نعرّض أنفسنا لإنتاج أدب يجده القارئ العربي مستوردا غريبا(1).
كما أن من طبيعة الشعر الذي هو نبوءة ورؤيا وخلق ان لا يقبل اي عالم مغلق نهائي وان لاينحصر فيه، بل يفجره ويتخطاه، فالشعر هو هذا البحث الذي لا نهاية له(2)، لقد تمرد الشاعر موسى حوامدة على مثلث التابوهات الأشهر (التابو الاجتماعي) و(التابو السياسي) و(التابو الديني)، لقد أحدثت ثقافة الشاعر حوامدة ووعيه العالي شرخا كبيرا بين قناعاته الخاصة وبين ماهو سائد من افكار ومرجعيات (تاريخية/ تراثية/ عقائدية ..الخ) في مجتمعه، وكان من نتائج هذا الشرخ الثقافي الكبير ان انطلقت ثورة نفسية كبرى من أعماق الشاعر تؤسس للتمرد الواعي، وهذا التمرد يُعد من أهم علامات الشعر العربي على نحو خاص، ان النص الإشكالي الاختلافي) الذي تبتكره قصيدة حوامدة يشكل مشهدا شعريا خصبا ومتنوعا الى حد كبير بفضائه وعطائه وخصوصيته، لقد تمرد الشاعر بما معروف عنه من جرأة وشجاعة على طرح عتبة عنوان توحي بكارثة شخصانية كما يقول سارتر، (أستحق اللعنة) هذا هو العنوان الأصلي للمجموعة، ويستمر بالتمرد من العنوان الى التصدير الذي يقول فيه:
«ملعون
مدعوسٌ كالخرقة
مَنْ لم يرفع رأسه
موسى..»(3)
ولكي يظهر مزيدا من التمرد في النص، صدّر المجموعة بشتيمة مشهورة للشاعر الناقد المعروف (عزرا باوند)، وقد ذكرها بالانجليزية كما هي ولم يترجمها وهي: "اللعنة على كل شيء(4) وشيء من تمرد الشاعر هو تلك الصور الفنطازية التي تشتغل على مفارقة اللامنطقي واللاواقعي:
أمشي الحيط الحيطا
وأقول:
ياربّ السترا
أمشي السترا السترا
وأقول:
يارب الحيط تحول جاسوسا
للأجهزة الأمنية!(5)
يعرف المعجم الادبي المفارقة بأنها: «رأي غريب مفاجئ يعبر عن رغبة صاحبه في الظهور وذلك بمخالفة موقف الاخرين وصدمهم في ما يسلمون به»(6) ويبدو هذا الرأي واضحا، عندما يتحول (الحيط =الأمان) الى (جاسوس للأجهزة الامنية!) وهنا يشير الشاعر بأصابع الاتهام الى الاجهزة (الامنية ـ القمعية) التي حولت (الحيط : براءة الانسان) الى (جشع الانسان) من خلال تحوّله كرها او طمعا الى جاسوس!.
من هنا يبدأ التمرد الحقيقي للشاعر عندما يبدأ الشك بكثير من الثوابت والقوانين والمرجعيات ومن ثم يرفض الاعتراف بها:
لم يسقط يوسف في الجب
لم يأكله الذئب
ولم تنقص من خزنة مصر الغلة
لم تكذب تلك الملكة
وزليخة لم ترَ يوسف أصلا
مَنْ يوسف هذا؟؟
ولد مطرود يعمل خبازا أوناطورا
يتخيل أن تصدفه الملكة
يتوهم أن تعشقه الملكة
ويغالي في السرد فيوهم إخوانه
أن المصريات يضاجعن الإسرائيليين
ويعشقن رجال الموساد(7)
وواضح أن الشعر عند حوامدة ـ كما يقول الدكتور فيصل القصيري ـ قد أصبح أداة كشف وإنارة وتعرية لكل ما في داخله وما حوله أو خارجه أي الداخل النفسي والخارجي الموضوعي(8)، وكانت تقف وراء ذلك: ((رغبة حادة في المجابهة والتمرد على «أعز» ما يملكه الآخرون من «فضائل»(9) ان الجرأة الكبيرة التي امتلكها حوامدة جعلته قادرا على كشف الحقيقة الداخلية للإنسان/ الحيوان الذي يدعي الفضيلة والأخلاق الحميدة والشرف الرفيع وهي جميعا أكاذيب في رأي الشاعر الذي قرر أن يفضح المسكوت عنه ويدينه:
اي سبيل للجنة؟
تربية الأولاد
تطبيق السنّة؟
أم طاعة أولي الأمر
رضا الأبوين
اسلام السياح
تبخير الاشباح
اكرام السائل
تنظيف العنَّة؟!
أي سبيل للجنة؟
جلد الحموات
أم ضرب الكنة!
أي سبيل للجنة
تكحيل العينين
مصّ المسواك
أم تقديس الحشرات
وتفخيم الغُنَّة؟(10)
اذا كان بالإمكان ان يقال ان الشاعر الفلاني نسيج وحده، فإن الشاعر موسى حوامدة هو بالفعل نسيج وحده، على الرغم من طروحات (جوليا كرستيفا) و(جيرار جينيت) وغيرهما، ممن قال بأن النص لا يمكن ان يكون نسيج وحده، والشاعر كذلك، وسواء آمن حوامدة بالفكر الوجودي أم لم يؤمن، إلا أن له فكره الوجودي الخاص به بعيدا عن طروحات الوجوديين جميعا، فهو من شعراء الاختلاف والتمرد والثورة والاحتجاج ضد الفقر والجوع والحرمان والقمع السياسي، والخرافات المعشوشبة حول عقائدنا الدينية، وتخلف المجتمع، وكل ما من شأنه أن يقيد إنسانية الانسان ويحد من حرياته الفكرية والثقافية والسياسية وغيرها.
ان قصائد حوامدة فيها الكثير من العلامات التي أراد بها كسر اللياقة الأدبية، ولفت الانتباه الى صوته الحر وتجربته الفذة واطاريحه الانسانية في الحياة، متبينا مقولة (رينيه شار) وهي: «أن من يأتي الى الدنيا دون ترك فيها أثرا لا هو بمن يطاق ولا بمن يستحق ان يلتفت اليه»(11).
ان الشاعر موسى حوامدة يعيش دائما في حالة طوارئ واستنفار الحواس ورفض لكل ما هو غير منطقي ومقبول في رؤيته النفّاذة النافذة، وهو (يحلم بالحياة اعظم من ان يعيشها)(12):
«يتلفت قلبي للحرية
فيضج الصدر المتعب
ويغني بالاسبانية:
فلامنكو
فلامنكو حرب بين الماضي والحاضر
تتلاحق دقات الاقدام
تتسارع ايقاعات الأكعب
فأرى غرناطة تهتز
وأرى عبد الرحمن الداخل
يهوي..(13)
ويمارس شاعرنا الاصرار على تحوّل صوته الشعري الى بركان دائم الانفجار والتوقد، ومتى توقف عن الرفض والتمرد، فسيصبح جثة هامدة لا حراك فيها «لأنني اشعر اني سأموت اذا لم اوصل الانفجار»(14)، يقول ادونيس:
«من اسباب هذا العنف تغليب السياسي على الثقافي، وللسياسي صلة بالدين أشد من صلة الثقافي به، ليس لما يربط بينهما على مستوى الحياة المؤسسية وحسب، بل كذلك لما يربط بينهما على مستوى العلاقات الاجتماعية والقيم والقرارات الحاسمة، فالديني، من هذه الناحية، هو بمثابة قاعدة خفية أو قاعٍ مضمر للسياسي.»(15) وهكذا يخرج غاضبا موسى حوامدة من عباءة القبيلة الكونية وأردانها المتسخة بالجهل والتخلف، يعاقر الحرية بجميع اشكالها وأنواعها الفكرية والثقافية والسياسية، رافعا لواء القصيدة على أسنّة اللهب وجمر الغضب، صارخا بببغاوات العصر وبنفسه أيضا:
حين أموت
يجب أن تخرسوا جميعا
وان تكفوا عن النظر في جمجمتي
وأنت أيتها الموغلة في الكفر
ينبغي أن تكفي عن الثرثرة والحوار
**
حين أموت
ينبغي أن ينتهي العالم
في نظري على الاقل(16)
ان شعر التمرد لا ينبغي ان يُبنى بشكل عشوائي لكي يُقال ان الشاعر الفلاني متمرد، بل ان التمرد يُبنى على الوعي العالي لمفردات (الحياة الاجتماعية) مثلا، ورصدها بدقة، ومن ثم رفضها باعتبارها سُبّة في تاريخ المجتمع وإساءة لإنسانية الإنسان:
لم تنجح رغدة في التعليم
لم تتقن قطف الزيتون
أو تنظيف المنزل
أو عصر الليمون
لم تفلح في حلب البقرات
أو فن التجميل
أو حتى تعسيف الصالون
أو فن التطريز
فلم تعرف دربا للمأذون
لم تنجح في شيء أبدا
لم تفلح إلا في هز الخصر
وغمز العين
وتحريك الردفين
فأتاها ألف زبون(17)
ولا يتوقف هذا الشاعر المغوار عن مدّ يد العون لشجاعته الشعرية الفائقة، متجاوزا مرحلة (أضعف الايمان)، فهو لا يرفض بقلبه، بل بلسانه الشعري، متمردا على أي عُرف يراه خطأ وأية مظلمة تقع جورا وبهتانا على الأبرياء مهما كانت الاعراف والشرائع سياسية، ثقافية، أو دينية، وبخاصة تلك الثغرات التي يَعْبُُرُ من خلالها الدجال والساحر والكاذب وغيرهم:
يا عبد الله
من ملكك العربية
من اهداك القرآن
وأعطاك الكعبة؟
يا عبد الله
ان الله
لم يخترك لتحصيل الجزية
أو سفك دم الصوفية
واستئصال الحرية
**********
عبد الله الآن سجين
سجنته البلدية
اذ كان يبيع الناس
حصى الجنة
وعصا موسى السحرية!!(18)
ولا يتعب ولا يكل أو يمل حوامدة من اقتراف الصبر وسيلة، والشجاعة عنوانا، والشعر سلاحا ماضيا في حربه الخاصة مع السياسات العربية الفاسدة حد العظم، والتقاليد الثقيلة الشّائكة التي لا يحتملها منطق ولا يقبلها عقل، حرب الكلمات التي لا تشبهها كلمات، ثورة من طراز خاص نادرا ما نجد لها مثيلا حتى في ثورات نزار قباني الشعرية، ولا رفض(أمل دنقل)، أو تمرد الشاعر العراقي المعروف حسين مردان وغير هؤلاء من الشعراء المعاصرين المشهرين بثوراتهم الشعرية الكبرى:
وطنٌ منفيٌ في الحانات ومسلوب الروعة
وطن يعبده التجار وتحرسه السمعة
وطن حر حتى تعويم السكان
وتحرير السلعة
وطن..لا بل جرعة
اشربْ واسكرْ
بل شقفة ماريجوانا أو قطعة
حششْ يا ماجد
واخمرْ يا سمعة
هذا وطنٌ للحشاشين فقط
والمشتغلين بتهريب الفوسفات وتحريم الجعة
وطن لو نعطيه السبت..
لأقسم أن اليوم الجمعة(19)
وختاما لا بد من القول اذا كان هناك ثمة من يغني من الشعراء خارج السرب، فان موسى حوامدة امتلك مقومات التغريد خارج السرب مشكلا ظاهرة شعرية جديدة وان كان قد اشتغل عليها شعراء كثيرون قبله، ولكنه جاء متمما لذلك المشروع الشعري الذي رفع لواء الرفض لكل ما هو سلبي وشائن وظلامي ومتعسف، وأثبت صحة المقولة الشهيرة (الشعراء مشرعو العصر)، فأن حوامدة كان مشرّعا حقيقيا لعصرنا هذا الظالم والمظلوم والظلامي، صوت شاعرنا مجروح بالآلام الفلسطينية الازلية، منذ الأزل، من قبل آدم وحواء وفلسطين تنزف، وشيئا فشيئا يتحول هذا النزف الى اشعار غاضبة وقصائد ثائرة تتفجر قنابل وصواريخ كلامية من شدة ألألم..ألألم الذي بدأ قبل آدم..ولن يتوقف حتى بعد يوم القيامة ..فكيف لا يثور ولا يتمرد ولا يُجَن أو يموت موسى حوامدة!!
ناقد من العراق
الهوامش والمصادر والمراجع
1.الحداثة في الشعر، يوسف الخال، دار الطليعة للطباعة والنشر ، بيروت، ط1، كانون الاول/ديسمبر، 1978، :6
2.زمن الشعر ، أدونيس، دار العودة، ط1، بيروت، 1972، :50
3.شجري أعلى، شعر، موسى حوامدة، المؤسسة العربية للدراسات، بيروت، ط1 ـ 1999، :5
4.م.ن:5
5.م.ن:19
6.المعجم الادبي، جبور عبد النور، دار العلم للملايين، ط1 ـ 1977، :258
7.المجموعة:37
8.جماليات النص الادبي ، د.فيصل صالح القصيري، دار الحوار ، سورية، ط1 ـ2011، :102
9.ديوان محمود درويش، مج1، دار العودة، بيروت، ط7 ـ1981، :127
10.المجموعة:61
11.مجلة الاداب ، فيصل دراج، ع(10 ـ11)، بيروت، 2008
12.تشبيهات حسين مردان في(قصائد عارية)، عبد الرضا علي ، مجلة الاقلام، بغداد، العدد(11)، 1984، :137
13.المجموعة:33
14.ويكون التجاوز:دراسات نقدية معاصرة في الشعر العراقي الحديث، محمد الجزائري، وزارة الاعلام، بغداد ـ1994، :50
15.ها أنت ايها الوقت ـ سيرة شعرية ثقافية ـ أدونيس، دار الاداب، ط1 ، بيروت ـ 1993، :11 ـ12
16.المجموعة:89
17.م.ن:76
18.م.ن:65
19.م.ن:48