يواصل الناقد المغربي سلسلة مقارباته للقصة المغربية القصيرة الأخرى، محاولة في تلمس سمات وخصائص الكتابة عند هذا الجيل الجديد من كتاب القصة القصيرة اليوم، وفي ظل حراك لافت لهذا الجنس الإبداعي على مستوى المنجز. هنا يتوقف عند مجموعة هاجسها تيمة الهجرة.

ذكريات من منفى سحيق: أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام

عبدالرحيم مؤدن

 تتمحور هذه المجموعة القصصية حول الهجرة، سواء كانت هذه الأخيرة قهرية  اضطرارية، أو إرادية اختيارية. والهجرة، عبر هذه النصوص، تتخذ منحيين أساسيين:

1- هجرة من الداخل نحو الخارج لأسباب عديدة، تداخل فيها الذاتي بالموضوعي، والمادي بالرمزي..

2- هجرة من الداخل نحو الداخل، من داخل الذات نحو مجاهل الذات التي تصبح البداية والنهاية.

في المستويين معا،  تخضع الشخصية، ساردة، أحيانا، ومسرود ،عنها، أحيانا أخرى، ساردة وشخصية، بضمير المتكلم، حينا، شخصية مسرود عنها، بضمير الغائب. وسواء كان هذا، أو ذاك، فالشخصية تظل متأرجحة بين وضعتين، لاثالث لهما، في هذه النصوص:

&-  وضعية أزمة ما تعاني منها الشخصية، بطرق متعددة، وأبعاد مختلفة.

&- وضعية الخارج من الأزمة التي تظل ملازمة له في الحل والترحال.

وتأخذ الهجرة، في هذه المجموعة القصصية، أبعادا مادية ودلالية مختلفة.

ماديا: تعادل الموت، أو النهاية الحتمية، التي تأخذ طابعا مأساويا، بعيدا عن الأهل والوطن، بعيدا عن الذكرى والحلم والرغبة البسيطة الموؤودة بسبب تكالب ظروف عديدة أبعدت المهاجر عن موطنه، حيا وميتا، بعد أن  تعذر  على الأسرة توفير رسوم- على بساطتها- استرجاع الجثة.( قصة القبر المنسي).

في قصة ( الحريق) يعود المهاجر، من الغربة، مدججا بالرغبة في الإنتقام من حبيبته، بعد أن أخلفت الوعد، ليلة عرسها، هادما المعبد على من فيه، مخلفا وراءه نهاية  ملتبسة قابلة لكل التأويلات.( ص.11.)

وفي المستوى الثاني- مستوى الهجرة الداخلية-  تظل الشخصية أسيرة العجز الدائم- بعيدا عن الأهل والعشيرة- عن تحقيق " الشرط الإنساني" في فضاء يمتلئ بالغبار، وشظف العيش والكوابيس المتعاقبة، والأحلام الموؤودة. ولم تجد الشخصية عزاءها إلا في الكتابة، البلسم الشافي لكل الجروح.

تأتي قصة" ذكرى" لتطرح إشكالية تجاوز أعطاب الداخل، من خلال شخصية معتقل سياسي سابق، تحرر من السجن الصغير( المعتقل)،  دون السجن الكبير(المجتمع)،بعد أن عجز عن استرجاع علاقة حب سابقة حمّلها كل معانا ته. وفي الوقت الذي يحدث فيه الإتصال، يحدث الإنفصال، والأسئلة تتداخل مع صدى خطوات المرأة الأصم، بعد أن أغلق الرجل باب الشقة،مفسحا المجال لكل التأويلات. 

في قصة "هروب" – والإسم يدل على المسمى-  ينسحب السارد من أوج  لحظات العشق، مفضلا ركوب البحر، هوايته الأثيرة. فهو لم يخلق للحب، بعد أن تلوث الجسد والروح، من جهة، والعجز، من جهة ثانية، عن المواجهة، ميمّما وجهته نحو  البحر، آخر معقل للتطهر من أدران عالم مختل.

قصة "ليس عدلا"، تطبيق لعدالة الفرد نحو قانون ظالم، هذا الأخير الذي  لايطبق، عادة، على صانعه، و يعاني منه أصحاب الهفوات البسيطة.هكذا  يصبح الإنتقام من دعاة العدل الزائف إحقاقا للحق،  وفضحا، من ناحية ثانية، لدعاة الأخلاق الزائفة الذين ينهون عن فعل مشين، ويأتون بمثله أضعافا مضاعفة.

وتظل قصة" الضباب" نصا مجسدا لهجرة واعية، من خلال انتماء السارد إلى المقاومة الفلسطينية، بهدف إزالة الغشاوة (الضباب) عن الرؤية والرؤيا. فالإنتماء إلى المقاومة انحياز إلى عالم قيم تمنح معنى للإنسان، ضدا على  متاهات الضياع والقتل البطيئ و التشيؤ اليومي.يتذكر السارد/ الشخصية حواره مع " خالد"،أحد أطر المقاومة، الذي أكد على أن(- المهم أن تعرف لماذا تقاتل ولآجل من؟) ص44.

ثيمة الهجرة، بمستوياتها  المختلفة وأبعادها المتعددة، وسمت  قصص المجموعة بفضاء تفوح منه رائحة الدم، وتذرعه، من ناحية أخرى، شخصية قلقة لاتستقر على حال. فالخلل مصدره الآخر، سواء كان إنسانا، أو مكانا، فضلا عن تحولات  زمن لايرحم، زمن القتل اليومي بصيغ عديدة. وعلى هذا الأساس، مارست الشخصية خصامها الدائم مع عالم خانق، ومختنق، أيضا،  بممارسات معينة حولت الشخصية إلى كائن  في حالة حصار، يتوزع بين الرفض والعجز فى آن واحد: الرفض  نفي للعالم، والعجز ارتحال دائم نحو تخوم  توهم بالتحرر وإثبات الذات.

والقارئ لهذه المجموعة، يلمس، عن قرب، صياغة سردية تأرجحت بين الإيقاع البوليسي، أحيانا، وأحيانا أخرى،بعض مفردات عالم الرعب عند "إدجار ألان بو"، بين لحظات الإستبطان، أحيانا، ولحظات السجال، أحيانا أخرى. 

 

1-صخر المهيف: ذكريات من منفى سحيق.مجموعة قصصية.دار الوطن للصحافة والنشر. الرباط.2007.