يواصل الباحث المغربي المرموق سعيد يقطين دراسته المتأنية التي بدأها في (الكلمة) قبل شهرين للتغيرات العميقة التي تنتاب بنية الكتابة ومصادراتها المضمرة بسبب التغيرات التي جلبتها التقنيات الرقمية الجديدة.

آفاق جديدة:

فن الكتابة الرقمية (3): خصائص الكتابة الرقمية

سعيد يقطين

1 . تقديم:
1 . 0 . عملنا مما تقدم من مقالات على تأكيد أن الكتابة لا يمكنها أن تتحقق إلا من خلال تقنيات خاصة تعتمدها بناء على الوسيط الذي يستعمل لإيصالها وإبلاغها إلى المتلقي . وتأكيد هذه الحقيقة البسيطة ، يأتي ، من منظورنا ، في سياق محاولة إبراز أن تعاملنا، نحن العرب ، مع الكتابة ظل يرتهن إلى تصور بسيط وعفوي ، وأنه لا يتم من خلال إدراك واع وتصور ملموس لتقنياتها وقواعدها . وأننا مطالبون ، بإعادة النظر والممارسة في تقنيات الكتابة والالتزام بقواعدها إذا أردنا فعلا تحقيق انتقال طبيعي إلى الكتابة الرقمية والارتقاء بمستوى كتابتنا إلى درجة عليا. إذا كانت اللغات الحية قد حسمت فيها تقنيات الكتابة ، تقعيدا وتنظيرا وتلقينا ، فإن الكتاب والمبدعين في تلك اللغات ينتقلون إلى مزاولة الكتابة الرقمية مستثمرين تقاليد الكتابة ما قبل الرقمية عاملين على تكييفها مع متطلبات الوسيط الجديد ومراغماته . أما بالنسبة إلينا نحن العرب فما زلنا مطالبين ، ونحن نروم الانتقال إلى الكتابة الرقمية، ب" تجديد " الكتابة العربية عن طريق ترهين وتفعيل مختلف تقنيات الكتابة وقواعدها كما انتهت إلينا من تراث العربية التليد ، ومن طرئق الكتابة الغربية التي وصلت إلينا عن طريق المطبعة التي فرضت متطلباتها الخاصة ، والحرص على تطبيقها بوعي وبصيرة ، كي يتسنى لنا الانتقال إلى الكتابة الرقمية ، وقد حللنا مشكلا بنيويا يعترض سبيل الكتابة العربية على وجه الإجمال.
1 . 2 . وبما أن المجال لا يسمح لنا بفتح هذه الزواية للإفاضة في الحديث عن تقنيات الكتابة العربية من حيث علامات الترقيم والتنظيم ، نكتفي بالإشارة إلى أن بعض الشعراء العرب المعاصرين كانوا أكفأ في كتابة النص العربي ومراعاة شروط التلقي، وهم يبنون أشطرهم ، أو يقطعون الجمل الشعرية ، أو وهم يوظفون تقنيات البياض والسواد في الصفحة . كما أن بعض الروائيين ، ولا سيما من خاض منهم مغامرة التجريب بوعي ومسؤولية ، نجح في رأيي في توزيع النص إلى شذراته توزيعا دقيقا، وتمكن من بناء نصه الروائي بناء متكاملا ومنسجما وبطريقة فنية عالية وهو يُعنوِن الشذرات ، أو يقطعها مستغلا تنضيد النص بشكل متفرد ومتواز. فما هي دواعي هذا التجديد في الكتابة العربية ؟ ولماذا لا يتم الانتقال إلى الكتابة الرقمية مباشرة كما هو جار ، الآن ، وكما نعاينه من خلال المواقع الشخصية والمدونات والمنتديات والمكتبات الرقمية العربية ؟ جوابا على هذه الأسئلة لا بد من تحديد خصائص الكتابة الرقمية لإبراز الحاجيات التي يفرضها علينا تجديد الكتابة العربية في هذا السياق .



إن النص ما قبل الرقمي بنيات وعلاقات . أما النص الرقمي فهو عقد وروابط . والكاتب " الحقيقي " هو من يحسن تقنيات استعمال البنيات وعلاقاتها ، كما أن الكاتب الرقمي " الحقيقي " هو من يمتلك القدرة على توظيف العقد ويحسن بناءها ويتقن تشييد الروابط بينها إتقانا يراعي خصوصياتها الجمالية والدلالية التي تعطي إمكانيات هامة للمستعمل أو القارئ الرقمي ليرتحل في جسد النص الرقمي بحيوية ودينامية مرنتين ومبدعتين . لكل هذه الاعتبارات أكدنا ، وما نزال وسنظل نؤكد ، على " البعد التقني " للكتابة الإبداعية ، وجعلنا وكدنا التركيز على تحليل تقنيات النص السردي العربي قديمه وحديثه ، لأننا نعتبر جمالية الإبداع الأدبي كامنة في عملية بنائه وتنظيمه بالدرجة الأولى لأنه محددة " أدبية " الأدب وخصوصيته الجمالية . أما القضايا الأخرى المتصلة بالدلالة والمعنى والتأويل فتأتي في مرتبة أساسية لاحقة . ولا يمكن في تقديري الاهتمام بها إلا بعد تملك الخصائص الفنية من وجهة شمولية ودقيقة .

2 . 2 . 2 . النص المعاين : استعرنا مفهوم " المعاين " (Observable ) من جماعة ALIRE ومُنظِّرها فيليب بوتس لما له من إيحاءات خاصة سنعود لتدقيقها في مناسبات أخرى . يختلف النص المعاين عن نظيره المقروء في أنه رقمي( Numérique/ Digital (. ومعنى ذلك أن النص الذي نعاين على الشاشة ليس هو النص المكتوب . لقد تمت عملية تحويله من خلال كتابة وسطى : الكتابة البرمجية ( الكتابة الغائبة ) . وفي عملية التحويل هذه نكون أمام حضور البعد الرقمي الذي تتحول بموجبه المادة المكتوبة إلى مادة قابلة للمعاينة . إننا لا نحس أننا أمام هذا التحول الرقمي إذا لم نكن ملمين بمختلف العمليات التي تمر من مرحلة كتابة النص من لدن المؤلف إلى مرحلة إعداده من قبل المبرمج أو المؤلف نفسه إلى المرحلة الأخيرة : تجليه على الشاشة . ( سنعود إلى تتبع مختلف هذه العمليات عندما نتحدث عن التأليف الرقمي ) . وبما أن النص المعاين لا يتحقق إلا من خلال شاشة الحاسوب، فإنه يخضع لمراغماتها ( Contraintes ) : إنها على خلاف مع الصفحة في الكتاب لا تقدم لنا من حجم النص أو كتلته إلا ما يتلاءم مع حجمها ، في حين تظل بقية النص محجوبة تماما ومختفية . ونحن مطالبون باستعمال مصعد الصفحة للوصول إلى أسفل الصفحة ، وبحسب طولها يمكننا التدرج بتوظيف المصعد للانتقال إلى فضاءاتها الأخرى .
3 . 2 . إن روح النص الرقمي تتمثل في القدرة على تنظيم جسد النص . وليست عملية التنظيم هذه غير إتقان " الربط " بين مختلف بنياته وعقده وأجزائه . ولهذا الاعتبار ارتأيت منذ البداية أن ألأم ترجمة ل (Hypertexte ) لا يمكن أن تتحدد إلا عبر ملامسة ملمحه الجوهري القائم على " الربط " . ولذلك اقترحت مصطلح " النص المترابط " بديلا عن المصطلح الذي اقترحه الدكتور حسام الخطيب " النص المفرع " والذي صار المتفرع أو المتشعب . إن هذه المصطلحات " التشعب " و" التفرع " دالة على العنصر البنيوي للنص : فالتفرع أوالتشعب سمة تتصل بالكتل النصية كيفما كان نوعها ورقية أو رقمية . أما الترابط فهو التقنية الأساس القائمة على نظم هذه البنيات المتشعبة أوالمتفرعة وربط العلاقات فيما بينها . ولما كان هذا الربط ذو طبيعة تقنية معلومياتية خاصة في الكتابة الرقمية كان السمة المميزة للنص الرقمي عما عداه من نصوص تشترك مجتمعة في تكونها من بنيات متعددة ومختلفة ومتشعبة ومتفرعة وحتى فائقة ؟ ...