يكتب القاص السوري مقاطع سردية قصيرة عن جريان الحياة اليومية برتابتها حيث يشعر الفرد بثقل العائلة حتى الشيخوخة، لكن المقاطع التالية تتحول فيها الحياة إلى جحيم حيث يجوب الموت في الشوارع، ويصبح زادا يوميا في الحرب شبه الأهلية في سوريا الآن.

أسلحة خفيفة جدا

قصص قصيرة

إسلام أبو شكيّر

أستيقظُ في الثامنة صباحاً. يستيقظُ نصفي في الحقيقة. أمّا النصف الآخر فلا أعرف عنه شيئاً.

تقترح عليّ وفاء كوباً من القهوة السوداء الثقيلة. طيّب. فكرةٌ حسنة. سأكون نصف كائن بيقظةٍ مضاعفة..

أنت أيّها الكائن المنحطّ السافل اللئيم الذي يسكنني. آن لك أن ترحل بعيداً. أنت وجميع أفراد عائلتك. الشجار الذي لا ينتهي بينك وبين زوجتك سمّم لي حياتي. قلْ لأطفالك أن يجدوا مكاناً آخر غير جمجمتي ليدقّوا مساميرهم، ويعلّقوا لوحاتهم السخيفة عليها. أخبرتُكَ مراراً أن تجعل الاغتسال مرّةً واحدةً في الأسبوع، فأنا أعاني من فقر دمٍ مزمن. ليس لديّ ما يكفي من الدم كي تشبع هوسك بالنظافة. لا تكسر الجوز هنا أرجوك. وإذا أردت إغلاق النافذة فبهدوء. أطفالك يدخّنون نوعاً رديئاً من السجائر. أكاد أختنق. آن لك أن ترحل الآن. روحي بالكاد تتّسع لي.

 

في السبعين من عمركِ.. أو أكثر.. ظهركِ المقوّس. رأسكِ الصغير الغائص بين كتفيك. ما تبقّى من خصلات شعركِ. حاجباكِ الكثيفان المقرونان. الشعيرات الخشنة النابتة وسط غضون وجهكِ. عيناكِ المفتوحتان كجرحين صغيرين. شفتاكِ المزمومتان. ارتجافة يديكِ. العروق النافرة. الرائحة القديمة. الهواء الجافّ...

كلّ هذا ليس مهمّاً..

تنامين يا جدّتي..

سريركِ واسع.. وبارد..

هنا الشيخوخة.. هنا الألم..

 

وعليّ أن أفهم أنّني لست سوى الآخرين يراكمون جثثهم فيّ

جثّةً

جثّةً

جثّةً

جثّةً

جثّةً

جثّةً

جثّةً

سبع طبقاتٍ كاملة..

إلى أن أطفح بهم تماماً..

وأتقيّأهم.. على شكل جثّةٍ جديدة تنتظرني في قبري..

 

الموتُ على فراشه يتمطّى. فنجانُ قهوته إلى جانبه. عينا الموت حمراوان، فسهرة الأمس كانت طويلة. سهرة ماجنة. أجسادٌ من حوله كانت تتلوّى. رؤوسٌ تتدحرج. صرخاتٌ. وكؤوسُ دم. وفي الخارج مسيرةُ دبّابات حاشدةٌ تجوب الشوارع. ترفعُ أعلام الوطن. تنادي بالخلود للإله الهالك. وبالهلاك للشعب الخالد.

 

الموت متأهّب للخروج. يرتدي بزّته العسكريّة، ويقفُ أمام الباب. عملٌ شاقّ بانتظاره. قائمة الضحايا في جيبه طويلةٌ اليوم. مدنٌ جديدة تفتحُ ذراعيها لاستقباله. أطفالٌ جدد. أراملُ وثكالى وأيتامٌ ينتظرون.

 

يودّعُ الموتُ زوجتَه الحسناء الشابّة. يطبعُ على شفتيها قبلةً صغيرة. يعدُها بالعودة باكراً هذا المساء. يعدُها أيضاً بمضاجعةٍ تاريخيّة. تبتسم. تذكّره أن ينتبه إلى نفسه. وقبل أن يخرج تصلحُ له ياقة قميصه. تسأله عمّا إذا كان قد اصطحب عُدّته كلّها. خُطّافَه، وقنابلَه المسماريّة، وأنشوطةَ المشنقة.

 

يخرج الموتُ سعيداً.. يخرج.. وعلى فمه ظلّ ابتسامة..

 

على مائدة الدم نلتقي..

جثّتي التي أحبّها كثيراً. جثّتي التي تشبهني. عمرها من عمري. عشنا لحظة الولادة سويّاً. وعلى سرير التراب نفسه متنا سويّاً.

أُجلس جثّتي قبالتي. أنظر إلى الثقوب التي أحدثتْها الرصاصات فيها.. أحد عشر ثقباً. أنصت إلى الهواء يصفر وهو يمرّ عبرها.

العينان اقتلعهما القاتل بالملعقة. فراغ عميق مظلم.

رائحة الحذاء العسكريّ للقاتل لا تزال عالقةً عند حافة الأنف المهشّم.

شفتا جثّتي منفرجتان قليلاً.

الأسنان اللبنيّة المتداعية داخل الفم تحتجزان كلماتٍ لم يتح لجثّتي أن تقذف بهما في وجه القاتل. كلمات بلون دمي قبل أن يتخثّر..

جثّتي لم تكن تشبهني في الحقيقة. فيداها باردتان على غير العادة. والبطن منفوخ كبالون.

ومع ذلك، فأنا أحبّها. ما زلت أحبّها.

جثّتي الجميلة. الهامدة. ذات الرائحة الواخزة.

أجيل نظري في المكان. وعندما أطمئنّ إلى أنّ عين الكاميرا ليست مسلّطةً علينا، أرتديها (جثّتي)، وأخرج.

المقبرة ليست بعيدةً على أيّ حال..

 

متنكّراً بزيّ رصاصةٍ أدخل بلادي.

أجالس جنوداً متنكّرين بزيّ بنادق يتحلّقون حول شمسٍ متنكّرةٍ بزيّ مدفأة.

تخطفني إحدى البنادق، لتدسّني في فمها. ثمّ سرعان ما تبصقني لأسقط في قلب شهيدٍ متنكّرٍ بزيّ فراشة.

أثقلُ من الفراشة أنا.

وهكذا تغوص معي في قلب هذه الأرض الموحلة التي لم تعرف كيف تتنكّر أبداً..

 

قاسيون..

برأسه الأصلع، ووجهه المجدور..

ومن تحته بردى خيطُ دموعه الناحل..

 

بندقيّةٌ بفوهةٍ واحدة. ولا تقذف أكثر من رصاصةٍ واحدةٍ في وقتٍ واحد. والرصاصة الواحدة لا تتسبّب بأكثر من موتٍ واحدٍ للضحيّة الواحدة..

 

أسلحةٌ خفيفة جدّاً.