في سطور سابقة منذ أسابيع كنت قد عرضت لمحة سريعة لمستقبل النخب الدينية في مصر عقب الثورة وقبيل تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة الدكتور هشام قنديل، واختزالاً لهذه السطور أفدت أن الفصائل الدينية ذات الصبغة السياسية هي التي اقتنصت فرصة الغياب القصدي للمؤسسة الدينية في مصر وصعدت إلى ذروة الحضور في المشهد الاجتماعي، حتى بات المواطن يذكر فصائل دينية وقوى سياسية بعينها كالإخوان المسلمين والجمعية الشرعية وجبهة الإصلاح والبناء وغيرها كدليل يستند إليه وعليه وبات محظوراً عليه ذكر مؤسسات أخرى كالأزهر الشريف رغم مرجعيته الضاربة في الأزل ووزارة الأوقاف المصرية والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية وغير ذلك من المؤسسات والهيئات الدينية الرسمية في مصر.
ولكن بعد تشكيل حكومة جديدة يظن المصريون أنها قامت وتشكلت بعيداً عن حكم العسكر ومنطقه لابد وأن تقوم المؤسسات الدينية الرسمية في مصر بدورها المنشود، أو أن تحاول اللحاق بالتيارات الدينية التي تسيدت المشهد الدعوي عقب ثورة يناير وألا تكتفي هذه المؤسسات بما تفعله ولا تزال وهو إصدار كتيبات نافعة بالقطع ولكنها تخاطب فئة معينة نطلق عليها النخب المثقفة أو أن هذه المطبوعات تتناول قضايا بعيدة الصلة عن واقع المسلمين في مصر وأنها تتناول بالبحث والدراسة موضوعات تصلح لقاعات المحاضرات الأكاديمية فحسب.
وثمة عوامل تحدد دور المؤسسات الدينية الرسمية في مصر الفترة المقبلة، أو بصورة مماثلة استرداد الثقة بين المواطن وتلك المؤسسات، ولعل أبرز هذه العوامل مسألة العلاقة بين الدين والدولة؛ فطيلة عقود خمسة أو تزيد والمؤسسة الدينية بعيدة تماماً عن السلطة السياسية وهو ما جعلها تفقد الثقة مع المواطن الذي وجد مؤخراً أو وجد منذ عهد السادات التيارات الدينية كالجماعات الإسلامية وفصائلها المنبثقة منها وجماعة الإخوان المسلمين واليوم عشرات التيارات والأحزاب الدينية ملاذاً للباحثين عن يقين ومرفأ للهاربين من غياب رأي المؤسسة الدينية فيما كان يحدثه النظام السياسي الحاكم من أمور تمس المواطن وحياته ومجتمعه.
ولعل المؤسسات الدينية الرسمية تدرك ما حققته التيارات الدينية الأخرى حينما خرجت من نفق الاجتهاد الفقهي الضيق إلى مساحات مجتمعية جعلت المواطن شريكاً في صنع الحدث، وأنها رغم تشدد وتطرف بعضها إلى أنها مالت تدريجياً نحو الوسطية التي طالما نادى ورددها الأزهر الشريف في مؤتمراته ومساجلاته بالمساجد، إلا أن هذه التيارات سمحت بتعدد الأراء الناطقة حتى وإن كانت مغايرة بخلاف المؤسسات الرسمية الدينية التي أصابها بعض الاستعلاء في عدم قبول رأي من لا ينتمي إليها، فأصيبت بالاستبعاد الاجتماعي والانعزالية.
والعامل الثاني من العوامل التي ستحدد دور المؤسسات الدينية الرسمية المرحلة المقبلة هو موقفها إزاء الحاكمية أو تفصيل مبادئ الشريعة الحاكمة لمعاملات الناس اليومية، وموقفها إزاء مصطلحات تمثل إشكاليات في الخطاب الديني السياسي المعاصر مثل ولاية الفقيه أو المرشد حسب النسخة المصرية ومعادله في النسخة الإيرانية، وشروط الولاية أو الإمامة التي تمزج بين الديني والسياسي وهو ما لم ينسجم مع الطبيعة المصرية التي اعتادت الفصل بين السلطتين طيلة عقود طويلة مضت. كما أن هناك طرحاً جديداً على البيئة المصرية ألا وهو البيعة وهو طرح لدى البعض من الليبراليين غير المنتمين إلى فصائل وتيارات أبدية التكوين يورث النفاق وجمود الاجتهاد والافتراق.
ومن العوامل التي تحدد أيضاً خارطة مستقبل الدعوة الدينية في مصر القضايا الدينية التي تمس عقل وجسد المجتمع وأفراده، لاسيما وأن المؤسسة الدينية أصبحت تقف في موقف المعلِّق والشارح لما تحدثه بعض التيارات الدينية من لغط فكري أو ديني يتعلق بالمشاركات السياسية، فيكون موقف المؤسسة الدينية هو الاكتفاء بالرد على جديد هذه التيارات دون الاكتراث بالمبادأة أو المبادرة في تحريك المشهد السياسي والاجتماعي وهم بذلك يضربون مثلاً كاملاً للفصل بين الدين والسياسة رغم أنه منذ آخر عشر سنوات سابقة والمشهدين السياسي والديني أصبحا متلازمين بدرجة يصعب الفصل بينهما وهو الأمر الذي استثمرته بعض التيارات الدينية في التواجد سياسياً داخل نسيج المجتمع. في الوقت الذي راح فيه علماء المؤسسة الدينية يهرولون وراء تفنيد قضايا فقهية فرعية من باب ماذا يحدث لو؟ أو أرأيت وما شابه ذلك
وثمة دعوة عاجلة للمؤسسات الدينية الرسمية وهي تستشرف مستقبلاً جديداً في عهد جمهورية ثانية وهي زيادة الوعي الديني بواقع المواطن وليس الاقتصار على ماضيه، فمشكلة المؤسسات الدينية أنها تدعي امتلاك التراث ومن ثم مجادلته فحسب بينما استطاعت بعض التيارات الدينية غير الرسمية أن تعبر وتغادر هذه المرحلة. والمستقبل الدعوي أيضاً للمؤسسة الدينية الرسمية يحمل لها قدراً من الخطورة إذا ما التفتت إليه المنابر الحكومية، مثل ظاهرة الاستعلاء المعرفي التي أصابت عقول بعض الدعاة والمسئولين المنتسبين لتلك المنابر، فمنهم من اكتفى بمصادر المعرفة الموروثة التي وافق عليها الأزهر والأوقاف وكليات الشريعة بمصر ومن ثم أدى ذلك إلى قفل أجهزة الاستقبال المعرفية لأية أيديولوجيات جديدة وافدة أو طارئة على المشهد الديني. وهذا الاستكفاء المعرفي لازمه انفتاح على الجانب الآخر من التيارات الدينية الأخرى التي رأت ضرورة في التعرف على أية أفكار تقفز إلى داخل المجتمع ومن شأنها قد تؤثر على المشهد الديني في مصر.
وإذا كان البعض يصر على قدرة التيارات الدينية غير الرسمية في التواصل مع المجتمع بخلاف المؤسسة الرسمية التي أقامت حجاباً بينها وبين رجل الشارع البسيط، فإن مرجع ذلك يعود إلى قدرة تلك المنظمات والجمعيات والجماعات الدينية في إعادة ترتيب العالم أو المجتمع المحلي وفق موقع اليقين الخاص بالفرد في والوقت الذي عجزت فيه المؤسسة الرسمية الدينية فعل وتحقيق ذلك لما أصابها عقلها من استعلاء واستكفاء فكري وأنها دائماً تقف في موضع الملزم بالقرار والرأي دون الاستماع للآخر.
بصورة أخرى يذكرني موقف الاستعلاء الفكري هذا بالمدينة الفاضلة حيث توجد عبارة على باب المدينة تقول: لا يدخلها إلا الفلاسفة، فأصبح رجال المؤسسة الدينية الرسمية منغلقين على أفكارهم وطروحاتهم وهذا ما تأكد حينما أباح أحد علماء الأزهر الشريف دم المتظاهرين الذين دعوا لتظاهرة في يوم الرابع والعشرين من أغسطس في الوقت الذي رأت فيه التيارات الدينية الأخرى غير الرسمية ضرورة التعبير عن الرأي السياسي للفرد.
وفي أفق مستقبل الدعوة الدينية في مصر تلوح أيضاً ثمة علامات فارقة بين المؤسسة الدينية الرسمية وبين التيارات والجماعات الدينية الأخرى، من أبرزها أن التلقي المعرفي العميق في المؤسسة الدينية جعل أتباعها يكتفون بالتبليغ والدعوة أو بمعنى آخر الظهور القاصر حسب المناسبة وهم بذلك أصبحوا مجبورين على أن يمارسوا دوراً كهنوتياً احتكرت الحديث باسم الدين حسب المناسبة وما دورهم في أية مستجدات سوى التعليق على فتوى جديدة أو تبيان موقفهم إزاء إحداثية اجتماعية بدلاً من صنعها كما كانوا يفعلون ذلك منذ الثورة العرابية. وظنت المؤسسة الدينية أن ثباتها متعلق بثبات العلوم التي تدرس بها وأدى ذلك إلى عواقب خطيرة منها ما أثر على المؤسسة نفسها ومنها ما أثر على كنهها داخل المجتمع.
فما أثر عليها هو جمود العلوم ذاتها وعدم تجديدها أو إصلاحها وهو ما يعرف بالعزلة المعرفية، وما أثر على كنهها داخل المجتمع أنها ظلت بعيدة تماماً عن أية مشاركة حقيقية في حراك المشهدين السياسي والاجتماعي، وخير دليل على ذلك ما قامت بها المؤسسة الدينية الرسمية من التصاق قوي ووثيق بحادثة استشهاد الشيخ عماد عفت في أحداث مجلس الوزراء رغم أن الشهيد مارس حقه الثوري بصورة فردية بخلاف بعض الأئمة الذين خرجوا قبل ذلك مطالبين ببعض المطالب الفئوية وليس من باب المشاركة الدعوية السياسية.أي أن غياب الموقف الوطني بصورته الجماعية الشرعية أضعف المؤسسة كثيراً لدى المواطن وهو الذي دفع الأخير إلى اللحاق بركب التيارات والجماعات الدينية الأخرى كطوق نجاة له.
ملمح آخر أو علامة فارقة هي التي قد تحدد مستقبل الدعوة في مصر، وهو مدى ارتباط الديني بالسياسي في المجتمع، فعلى مر عقود طويلة نجحت النخب السياسية أو النظام السياسي الحاكم أن تخلق فجوة كبيرة في القيمة بينها وبين النخب الدينية، وهو ما جسدته ممارسات النظام الحالك وطريقة تعامله مع المؤسسة الدينية. فلقت نجحت الأنظمة والحكومات المتعاقبة في تهميش وإضعاف المؤسسة الدينية الرسمية، في الوقت الذي عمل فيه النظام السابق على محاباة بعض الأصوليين وجماعة الإخوان المسلمين وجماعات التطرف الديني المتشددة، ولعل هذا أمر متأصل في الوعي الجمعي لدى الأنظمة الحاكمة حيث إن للخليفة أو السلطان الكلمة العليا في الشأن الديني تماماً مثلما حدث في فتنة خلق القرآن أيام حكم الخليفة المأمون.
العجيب في الأمر أن المؤسسة الدينية الرسمية ظلت أيضاً لعقود بعيدة راغبة في عدم المشاركة السياسية ومستسلمة بعض الشئ للاستنعام بالاستقرار والابتعاد عن مغبة وفتنة السياسية ولغط الشارع وما قد تؤدي بها السياسية وفتنتها من استبعاد سلطوي كهنوتي. ورأينا على مر سنوات الجمهورية الأولى كيف كانت الدولة تسعى للتغول والاستيلاء على المجال الديني لخدمة مصالحها الدنيوية، ولقد فطن النظام السابق إلى امتلاك سلطان القوة والسيطرة الدينية الرسمية هو الطريق لتكريس وجوده وبقاءه، وعلمهم تاريخياً بما لهذه المؤسسات الدينية الرسمية من نفوذ للتحريض والضغط.
وتكفي نظرة سريعة لتصريحات بعض المسئولين ووزراء الحكومة الجديدة لتدرك ملامح خارطة الدعوة الدينية التي تقع على عاتق الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف وكليات الشريعة واللغة والدراسات الإسلامية، فمعظم هذه التصريحات إن لم تكن كلها خالية من أية إشارة صريحة إلى الدور المستقبلي للمؤسسة الدينية، وأن ثمة إشارات تفضح هذه التصريحات نحو دور جماعة الإخوان المسلمين أو الانتماء الضمني لحزب سياسي ذي مرجعية دينية، في الوقت الذي نرى فيه دستوراً غامضاً في مرحلة المخاض لا يرسم للمؤسسة الدينية دوراً واضحاً في التشريع، بل وجدنا بعض المزايدات السياسية على إبراز دور الأزهر في التشريع الديني والسياسي رغم أن الأزهر وبقية المؤسسات الدينية الرسمية لم تقتنص هذذه الفرصة وتركت الأمر كله وتفرغت لممارسة دورها الدعوي التقليدي والقديم بوسائطه ووسائله وآلياته التي لم يصبها التجديد.
وخارطة الدعوة الدينية تفرض على المؤسسات الدينية أن تكون أكثر وعياً بوظائفها السياسية وواجباتها المصاحبة لربيع الثورات العربية من تكوين مواطن قادر على المشاركة السياسية وإكساب المواطن الفلسفة الحقوقية الغائبة عنه لسنوات طويلة. وستظل جدلية الديني والسياسي هي العامل الفارق في استشراف مستقبل الدعوة الدينية سواء للمؤسسة الدينية الرسمية أو للجماعات والتيارات الدينية الضاربة والمتوغلة في المجتمع منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير، لاسيما وأن التيارات الدينية استطاعت أن تمزج مزجاً متيناً بين السياسة ومتغيراتها وبين الدين وثوابته وتحرك القضايا السياسية تحريكاً دينياً محضاً في الوقت الذي ظلت فيه المؤسسة الدينية الرسمية بمنأى عن المشهد السياسي مكتفية إما بالتعليق أو المواساة أو رأب الصدع.