«فيهِما فاكِهَةٌ و نَخْلٌ و رُمّانْ»
سورة الرحمن
«ما من رمّانة إلا وفيها حبّة من رمّان الجنّة»
حديث
١
كانت تنام عارية على دكّة مرمر في مكان مكشوف بلا جدران أو سقف.لم يكن هناك أحد حولنا ولاشيء على مد البصر سوى الرمل الذي ينتهي عند الأفق الذي كانت تسرع نحوه، وتختفي فيه، غيوم احتشدت بها السماء تناوبت على حجب أشعة الشمس. كنتُ عارياً وحافياً ومندهشاً من كل شيء. أحسستُ بالرمل تحت قدميّ وبريح باردة بعض الشيء. اقتربتُ ببطء من الدكّة لأتأكد من أنّها هي. متى ولماذا عادت من الغربة بعد كل هذه السنين؟ كان شعرها الأسود الطويل مكوّماً إلى جانب رأسها وقد غطت بعض خصلاته خدها الأيمن، كأنه يحرس وجهها الذي لم تغيّره السنين. الحاجبان مشذّبان بعناية والجفنان مسبلان ينتهيان برمشيها الكثيفين. كان أنفها ساهراً على شفتيها المليئتين المصبوغتين بلون ورديّ كأنها مازالت على قيد الحياة أو أنها ماتت للتو. كانت الحلمتان منتفضتين فوق النهدين الكمثريين ولم يكن هناك أثر للعمليّة. كانت يداها مشبوكتين فوق سرّتها والأظافر طويلة مصبوغة بلون شفتيها الوردي. عانتها حليقة وأظافر قدميها مصبوغة بالورديّ هي الأخرى. تساءلتُ في سرّي هل هي نائمة أم ميّتة؟ خفتُ من أن ألمسها. تفرّستُ في وجهها وهمستُ باسمها: ريم. فابتسمتْ دون أن تفتح عينيها في البداية، ثم فتحتهما وابتسم السواد في بؤبؤيهما أيضاً. لم أفهم ما كان يحدث. سألتها بصوت عال:
- ريم! شتسوّين هنا؟
كنتُ على وشك أن أحتضنها وأقبّلها، لكنها حذّرتني:
- لا تبوسني. غسّلني أوّل حتى نكون سويّة وبعدين. . .
- شنو؟ بسْ بَعْدِچ طيَْبة. ليش أغسْلچ؟
- غسّلني حتى نكون سوية. اشتاقيتلك هْواية.
- بس إنتي مو ميتة.
- غسّلني حبيبي. غسّلني حتى نصير سويّة.
- إِبّيش؟ ماكو شي هنا؟
- غسّلني حبيبي.
بدأ المطر يتساقط. أغمضتْ عينيها. مسحتُ قطرة عن أنفها بسبابتي. كانت بشرتها ساخنة مما يعني بأنها حيّة. بدأت أمسّد شعرها. سأغسلها بالمطر! ابتسمتْ كأنها سمعتْ ما فكرتُ به. مسحتُ قطرة أخرى استقرّت فوق حاجبها الأيسر. خيّل إلى بأنّي سمعت صوت سيارة تقترب. التفتّ فرأيت همڤي تقترب بسرعة جنونية وتخلّف وراءها ذيلاً من الرمل المتطاير. استدارت فجأة وبعنف نحو اليمين وتوقفت على بعد أمتار منّا. فُتِحَت أبوابها. خرج أربعة أو خمسة رجال ملثمين يرتدون الخاكي ويحملون رشاشات وركضوا باتجاهنا. حاولت أن أحميها بيدي اليمنى، لكن أحدهم كان قد وصل إلى وسدّد ضربة قوية بأخمص رشاشته إلى وجهي وأسقطني أرضاً ثم ركلني في بطني وخصري وظهري عدّة مرات.أخذ واحد آخر يجرني من ذراعي بعيداً عن الدكّة. لم يقل أي منهم شيئاً. كنت أصرخ وأشتمهم لكنّي لم أسمع صراخي. أجبراني على أن أركع على ركبتيّ وقيّدا معصميّ بسلك ثم وضع أحدهما سكيناً على عنقي بينما عصّب الآخر عينيّ. تداخلت ضحكاتهم مع صرخات ريم وحشرجاتها التي سمعتها بوضوح. حاولتُ الإفلات منهما لكنهما كانا يمسكان بي بإحكام. صرختُ ثانية لكني لم أسمع صراخي. فقط صراخ ريم وضحكات الرجال وآهاتهم وصوت زخات المطر. أحسست بألم حاد و بالسكين الباردة تخترق عنقي. سال الدم الحار على صدري وظهري. سقط رأسي على الأرض وتدحرج على الرمل ككرة. سمعتُ وقع خطى تقترب. نزع أحدهم العصّابة عن عينيّ ووضعها في جيبه وابتعد بعد أن بصق عليّ. رأيت جسدي إلى اليسار من الدكّة راكعاً وسط بركة من الدم. كان الثلاثة الأخرون يعودون إلى الهمڤي وإثنان منهم يسحلان ريم من ذراعيها. حاولتْ أن تدير رأسها إلى الوراء نحوي لكن أحدهم صفعها. صرختُ باسمها لكني لم أسمع صوتي. وضعوها في المقعد الخلفي وأغلقوا الأبواب. سمعت صوت المحرك. ابتعدت الهمڤي بسرعة واختفت في الأفق. وظل المطر يزخ على الدكة الخالية.
استيقظتُ لاهثاً ومبللا بالعرق. مسحتُ جبهتي ووجهي. نفس الكابوس يتكرر منذ أسابيع مع بعض التغييرات الطفيفة. أحياناً أرى رأسها المقطوع على الدكّة وأسمع صوتها يقول: غسّلني حبيبي. لكن هذه أول مرّة يكون فيها مطر. أعرف مصدره الآن، فقد تسلل من الخارج هذه الليلة. سمعت صوتَ تساقطه على زجاج النافذة بجانب سريري. نظرت إلى ساعتي وكانت الثالثة والنصف صباحاً. لم أنم أكثر من ثلاث ساعات بعد يوم طويل ومرهق. ممزّق بين الأرق وبين هذا الكابوس الذي لم أحاول تفسيره أو فهم دلالاته. لكنه يلح علي. لعلّه الموت يضحك علىّ ويقول لي: ظننتَ أنّك تستطيع أن تهرب منّي أيها الأحمق؟
لا يكتفي الموت مني في اليقظة ويصرّ على أن يلاحقني حتى في منامي. ألا يكفيه أنني أكدّ طول النهار معتنياً بضيوفه الأبديين وبتحضيرهم للنوم في أحضانه؟ هل يعاقبني لأنني ظننت بأنّي كنت قادراً على الهرب من براثنه؟ لو كان أبي حيّاً لسخر منّي ومن أفكاري وما كان سيسميه دلعاً لا يليق بالرجال. ألم يمض هو عقوداً طويلة في مهنته يوماً بعد يوم دون أن يشتكي مرّة من الموت؟ ولكن الموت في تلك السنين كان مُقِلّاً وخفراً بالمقارنة مع موت هذه الأيام الذي أدمن علينا حتى كأنّ هوساً قد أصابه. لكن قد يكون البشر - والرجال بالذات طبعاً- هم الذين أدمنوه حين تسنّى لهم أن ينادموه بلا رقيب ليل نهار؟ أكاد أسمع الموت يقول: أنا أنا، لم أتغيّر أبداً. لستُ إلا ساعي بريد.
إذا كان الموت ساعي بريد فأنا واحد من الذين يتسلّمون رسائله كل يوم. أنا من يخرجها برفق من ظروفها الممزقة المدماة. وأنا الذي يغسلها ويزيل منها طوابع الموت ويجفّفها ويعطّرها متمتماً بما لا يؤمن به تماماً ثم يلفّها بعناية بالأبيض كي تصل بسلام إلى قارئها الأخير: القبر.
لكن الرسائل تتراكم كل يوم يا أبي! أضعاف ما كان يمر عليك حتى في أسبوع كامل يمر علي في يوم أو إثنين. هل كنتَ ستقول إنها إرادة الله وإنه القدر لو كنت حيّاً؟ ليتك كنت هنا كي أترك الوالدة معك وأهرب بدون أن يلاحقني شعور بالذنب. أنت كنت مسلّحاً ، لا بل مدججاً ، بالإيمان الذي كان يحمي قلبك ويجعله قلعة منيعة على قمة جبل. أما أنا، فقلبي بيت مهجور، شبابيكه مكسورة وأبوابه مخلوعة تعبث به الأشباح وتتنزّه فيه الريح.
بحثتُ عن الوسادة الثانية التي تعوّدت أن أضعها فوق رأسي منذ صغري كي لا أسمع أي صوت. كانت قد سقطت على الأرض بجانب السرير بالقرب من نعليّ. حملتها ودفنت رأسي تحتها وحاولت أن أسترجع حصّتي من الليل. لكنّ صورة ريم وهي تُسْحب من شعرها ظلت تعاودني. ما الذي تفعله هي في هذا السيناريو؟ هل هي الأمل الكاذب أم الذنب أم أنها الماضي الذي سيُقطَع رأسه هو الآخر بعد أن مات الحاضر؟ أو قد تكون النساء اللواتي قرأت عن أخبار اغتصابهن وقتلهن ويحرّم على شرعاً أن أغسلهن؟
لم تكن ريم تلعب أي دور رئيسي في كوابيسي حتى قبل اسبوعين. تُرى أين هي الآن؟ آخر ما سمعته عنها قبل سنين كان إنها في أمستردام. ربما أبحث عنها في الغوغل من جديد بعد العمل غداً في مقهى الإنترنت. سأجرّب تهجئة مختلفة لحروف اسمها بالانكليزية علّني أجد شيئاً. لكن هل لي أن أنام ساعة أو ساعتين؟
٢
وقفتُ بجانب أمي عند عتبة الباب الخشبي الكبير. كانت يدها اليمنى تقبض على يدي بقوة كعادتها، وكأنّي سأهرب أو أطير بعيداً عنها. أما يدها اليسرى فكانت تحمل الصُّفُرْطاس الذي كانت قد وضعت فيه حصة أبي من طعام الغداء. ثلاث قدور نحاسية صُفَّت فوق بعضها البعض في هيكل معدني كأنها عمارة معدنية صغيرة.كان القدر العلوي مليئاً بالرز والأوسط بمرق البامياء وقطعتي لحم صغيرتين. أما السفلي فكانت عادة تضع فيه قليلاً من الفواكه. ويومها كانت قد وضعت عنقوداً صغيراً من العنب الأبيض من نوع “ديس العنز” الـذي كان يحبه أبي. أما معصم يدها اليسرى فتدلى منه كيس من النايلون وضعت فيه رغيف خبز ساخن. وضعت قدمها اليسرى على عتبة الباب وأطلقت سراح يدي مؤقّتاً لكي تطرق بيمينها أربع طرقات قوية على الباب الخشبي الذي انفتح ببطء على مصراعيه بتأثيرها. تظاهرت أمي بأنها لم تر الرجل المتقرفص على بعد خطوات من الباب متكئا على الجدار. كان شابّا يرتدي ملابس سوداء وقد دفن رأسه بين يديه وبدا وكأنه يئنّ. تصاعد دخان السيجارة من يده اليسرى. كانت تلك أول مرة أرى فيها رجلاً بالغاً يبكي. حتى تلك اللحظة كنت أظن بأن البكاء من اختصاص النساء والأطفال وحدهم.
سألتُ أمي بصوت خافت وأنا أنظر إلي عينيها القهوائيتين:
- يمّه ليش يبچي هذا الرجّال؟
فوضعت سبّابتها على فمها لتسكتني وهمست: “عيب.” أمسكتْ بيدي من جديد. مِلْتُ إلى اليسار بعض الشيء كي أشبع فضولي وأرى ما يحدث في الداخل. كانت أول مرة تصطحبني فيها أمي إلى محل عمل أبي الذي كان عادة يأخذ الصُّفُرطاس معه في الصباح لكنه نسيه ذلك اليوم عند خروجه.
كان الممر الضيّق يفضي إلى غرفة واسعة بسقفٍ عال وقد وقف ثلاثة أو أربعة رجال عند مدخلها. كانت ظهورهم تحجب المشهد. هل كانوا يراقبون أبي وهو يعمل؟ كان الشارع هادئاً وبالرغم من طول الممر خيّل إلي أنّي سمعت صوت مياه تدلق باستمرار يرافقها صوت أبي وهو يتمتم عبارات لم أفهمها يتخللها اسم ”الله“.
طرقتْ أمي الباب المفتوح بقوة وعزم أكبر هـذه المرة ثم نادت “حمّودي”. لكن لم يلتفت أحد من الرجال الواقفين. تنحّى الرجل الذي كان يقف إلى أقصى اليسار ليبرز وجه حمّودي الـذي كان يعاون أبي في عمله. أسرع يعرج نحو الباب. كان أطول من عمره، أسود الشعر والعينين برموش كثيفة كأنها فرشاة رسم. كان يرتدي سروالاً رياضياً أزرق وفانيلة بيضاء بدت عليها بقع من البلل في أكثر من موضع. بعد تبادل تحية سريعة أعطته أمّي الصُفُرْطاس وكيس الخبز قائلة:
- هاك حمّودي. هذا الغدا مال أبو أمّوري نِساه بالبيتْ.
شكرها وأسرع عائداً إلى الداخل بعد أن أغلق الباب وراءه. أمسكتْ بيدي ثانية واستدرنا كي نقفل عائدين نحو البيت. التفتّ إلى الخلف لألقي نظرة على الرجل المتقرفص. كان رأسه ما يزال بين يديه. وبّختني أمي ثانية وأمرتني بأن أنظر إلى الأمام كي لا أتعثّر وأسقط.
لم أكن في ذلك السن أفقه طبيعة مهنة أبي أو تفاصيلها. كل ما كنت أعرفه هو أنه “مْغَسِّلْچي.“ لكن هـذه الكلمة كانت غامضة بالنسبة لي ولا تعدو كونها مجموعة أصوات تشبه المهن والحرف الأخرى التي تنتهي أغلبها بـ “چي.“ خفت يومها بعض الشيء وسألت أمي:
- بابا يِئذي الناس؟
- لا إبني. بالعكس. ليش هيچي تگول؟
- مو هذا الرجّال هناك چان گاعد يبچي؟
- إي، بس مو من ورا أبوك. هـذا مقهور.
- ليش مقهور؟ شيسوّون جَوّة؟
قالت لي إنّ أبي كان يغسل أجساد الموتى وبأنه عمل شريف ويصيب من يقوم به أجر عظيم. سألتها ونحن نعود إلى البيت لماذا يغسل أبي أجساد الموتى؟ هل هي وسخة؟ فقالت لا، لكنها يجب أن تُطَهَّر من النجاسة. عندما سألتها أين يذهب الموتى. قالت: ”يم االله”. قالت إن أبي يعتني بهم قبل أن يتم دفنهم. سألتها كيف يذهبون إلى الله إذا كانوا يُدفنون في التراب. فقالت إن الروح تصعد إلى السماء لكن الجسد يبقى في الأرض التي جاء منها. ”كلّكم لآدم وآدم من تراب.” نظرتُ إلى السماء. كانت هناك خمس غيوم تتكيء على بعضها البعض وتساءلت: ترى أي منها ستحمل روح الميّت وإلى أين ستأخذها؟
٣
المرّة الوحيدة التي بكى فيها أبي كانت عندما سمع بخبر موت أخي، أمير، الذي كان يكبرني بخمس سنوات، والذي تحوّل من يومها من ”الدكتور“ إلى ”الشهيد“. احتلّت صورته (بالأبيض والأسود) المؤطّرة قلب الجدار في غرفة المعيشة فوق التلفزيون ومساحة أكبر من قلب أبي الذي كان أمّوري أصلاً يحتكّر الكثير منه. فأمير كان ابناً مثالياً طالما افتخر به أبي، دائم التفوّق والأوّل في صفوفه. في امتحانات البكالوريا حصل على معدّل ٩٥٪ ودخل الكلية الطبيّة كي يصير جرّاحا ويحقّق حلمه بفتح عيادة ويحمل العبء عن أبي ويحيله على التقاعد كما كان يقول له بالرغم من أن أبي كان يصر بأنه سيواصل مهنته حتى يموت. كان يصرّ على مساعدة أبي في عملِهِ حتى أثناء إجازاته القصيرة في سنيّ الحرب مع إيران قبل أن يقتل في معارك الفاو.
كنت في غرفتي في الطابق الثاني أقرأ عندما سمعت صوت سيارة تقف أمام البيت وأبواب تغلق ثم، بعد ثوان من ذلك، رنين الجرس الجديد الذي كان أمير قد اشتراه وركّبه بنفسه عندما خرب الجرس القديم وتلكّأتُ أنا في تصليحه. أزحتُ الستارة فرأيت سيارة أجرة وفوقها تابوت لُّف بعلم. سقط قلبي في هاوية سحيقة. ثم اخترقه كرمح، وهو يسقط، عويل أمّي وأنا أسرع نحو الدرج حافياً. كنت أشاهد في كثير من الأحيان تابوتاً ملفوفاً بالعلم فوق سيارة أجرة تسير في الشارع وأفكر لثوان باحتمال ألا يعود أمّوري إلى البيت على قدميه بل جاثما فوق سيّارة، لكني كنت أطرد الفكرة من رأسي بسرعة. عندما وصلت إلى باب البيت كانت أمّي قد خرجت بالدشداشة دون أن ترتدي عباءتها ووقفت بجانب سيارة الأجرة تلطم وهي تنظر إلى التابوت وتصرخ: ”يبووو أمّوري. . . أمّوري. . . راح أمّوري.. . راح وليدي.“
”االله يرحمه والبقية بحياتك“ هو كل ما قاله العسكري الذي وقف يراقب المشهد بجانب الباب ثم طلب منّي أن أوّقع على وثيقة استلام الرفاة. وقّعت، دون أن أنظر أو أقرأ، نسختين بقلم جاف ناولني إياه هو ثم أعاده إلى جيب بزّته العسكرية وأعطاني نسخة طويتها ووضعتها في جيب قميصي. بدأ الجيران بالخروج بعد سماعهم ولولة أمّي وتحلّق بعضهم حول سيارة الأجرة وهرعت نساء الشارع ليعزّين أمي ويخفّفن عنها ويشاركنها البكاء. كان سائق سيارة الأجرة الأصلع قد أتمّ فك الحبال التي كانت تثبّت التابوت فوق الهيكل الحديدي ووضعها في صندوق السيارة وأغلقه ووقف ينتظر. اتجهتُ نحو أمّي لأعانقها لكنها كانت بحالة هستيرية ومحاطة بالنسوة اللواتي بدأن باللطم.فكّرت بوقع الخبر على أبي وقلبه الضعيف. بدأ السائق بزحزحة التابوت وكأنّه يعطيني إشارة بضرورة انزاله. بدأنا، السائق وأنا وبعض الفتية من الجيران، بإنزال التابوت لإدخاله إلى البيت. سمعت صوتاً يقول ”روحوا على أبو أمّوري بالمحل گولوله.“ فصرخت بألّا يذهب أحد وأنّي أنا الذي سأخبره بنفسي بعد أن ننزل التابوت.أنزلنا التابوت ووضعناه في غرفة المعيشة.
هطلت دمعة صامتة على خديّ وأنا أسرع إلى المحل لأنقل لأبي خبر موت أمّوري. أمّوري الذي كان يلعب كرة القدم معي في الشارع. أمّوري الذي علّمني كيف أصنع طائرة ورقيّة باستخدام قطع من سعف النخيل ذات صيف والذي تسلّق نخلة الجيران لينزلها منها حين علقت بالسعف. أمّوري الذي نمت وإياه في نفس الغرفة لعشرين سنة والذي كان يشخر أحياناً لكنه يتهمني بتلفيق تهمة الشخير. أمّوري الذي ”كبسني“ وأنا أمارس العادة السرية في الحمام ذات يوم لأني نسيت أن أقفل الباب واعتذر وابتسم ثم أغلقه بسرعة. ثم قال لي بعدها بأنها رغبة طبيعية لكن يجب ألا أدعها تتحكم بكل وقتي وألا أسرف في ممارستها. أمّوري الذي أعطاني دراجته ال ٢٤ الزرقاء عندما طالت قامته واشترى درّاجة ٢٦ وكنّا نتسابق دائماً ويدعني أغلبه في النهاية. أمّوري الذي حفظ سرّي ووافق أن ينوب عن أبى لإقناع مدير المدرسة الثانوية بالسماح لي بالعودة إلى الدوام بعد ازدياد غياباتي. أمّوري الذي حاول بصدق أن يتفهّم نزعاتي الفنية واختياري النحت كموضوع دراسة ومهنة وكان يحترم الفن مع أنه، في آخر الأمر، لم يكن يحتل المراتب العليا في سلم قيمه. أمّوري الذي كان يريدني أن أكون مهندساً أو طبيباً مثله ولم يستطع أن يخفي خيبة أمله حينما حصلت على معدل ٨٢٪ في امتحانات البكالوريا والذي كان يكفي لدخول أكاديمية الفنون الجميلة لكنه لم يكن بمستوى طموحه لأخيه الصغير وما كان ليدخلني كلية الهندسة لا في بغداد أو المحافظات حتى لو كنت قد وضعتها على رأس اختياراتي. أمّوري الذي كان يدافع عنّي في البيت ويقف معي شارحاً وجهة نظري إزاء انتقادات أبي وأمّي ويقول لهما بأنني موهوب ويجب أن أختار طريقي بنفسي وأن أتحمّل تبعات قراراتي. أمّوري الذي زار المعرض الذي أقمناه في السنة الثانية في الأكاديمية خلال واحدة من إجازاته كي يشجّعني وطلب مني أن أشرح فكرة عملي له وأبدى إعجابه واستمع بصدق. أمّوري الذي كان يمزح معي ظانّا أنّه يشجعني لكنه كان يزعجني عندما كان يقول إن تماثيلي ستملأ ساحات بغداد. الدكتور أمّوري الوسيم والخجول، خصوصاً مع البنات، لكنه نجح في إيقاع وسن، ابنة الجيران، في غرامه بصمته ووقاره منذ سنين وسارعت أمّي لتخطبها له قبيل تخرجه. وسَنْ ذات الشعر الأسود الطويل والسيقان الجميلة التي كانت تدرس الهندسة المعمارية في الجامعة التكنولوجية والتي كنت أشعر بالذنب عندما لا أفلح في إبعاد صورتها أكثر من مرة عن أحلامي ورغباتي الجنسية. أمّوري الذي كنت أغار منه كثيراً لأنه المدلّل المفضّل المتفوّق والمثال الذي أخفق في الاقتراب منه. شعرت بالذنب لأنني لم أستطع منع نفسي، حتى في هذه اللحظة، من التفكير بكل أنانية: ترُى هل كان موتي في هذه الحرب، التي لا يبدو أنها ستنتهي، سيترك رُبع الفجيعة والحزن اللذان سيخلفها غياب أمّوري؟ مسحت دموعي ووبّخت نفسي على هذه النرجسية.
كان باب المغيسل مفتوحاً. عبرت الممر وطالعتني إلي اليسار ”وكل نفس ذائقة الموت“ بالخط الديواني الجميل ومعلّقة فوق الباب على الحائط الأبيض المصفرّ الذي فعلت فيه الرطوبة فعلها وسلخت قشوره في أكثر من موضع. كان أبي يجلس في الغرفة الجانبيّة على الكرسي الخشبي في الزاوية اليسرى يستمع إلى الراديو كعادته في فسحة من الوقت ينتظر فيها ما سيقذفه الموت نحوه بحسب مزاجه. الموت الذي كان أثره حاضراً في كل شبر من ذلك المكان بروائحه وذكرياته وتفاصيله حتى لكأنه كان صاحب المكان وكأن أبي محض موظّف يعمل لحسابه، كما كنت أفكر أحياناً، وليس لحساب االله كما كان هو يظن.
الموت، الدائم الحضور في محل عمل أبي وفي أيّامه، كان على وشك أن يعلن حضوره من جديد لكن بقسوة وضراوة سيترك بهما وشماً على قلبه وما تبقى من سنينه. كانت دكّة الغسل خالية ويابسة وكانت مسبحة أبى الكهرب بيده اليمنى تطقطق. كان حمّودي قد خرج لشراء شيء ما وكان أبي لوحده استقبلتني نظراته بعد أن سمع وقع خطواتي.
- االله يساعدك يابه.
- هلا. ها ابني خير انشالله؟ شْعَجَب هنا؟
لم تكن قدماي قد وطأتا أرض المحل منذ أكثر من سنة. حاولتُ أن أبتعد عن الموت وتصدّعت علاقتي بأبي. استشعر هو شيئاً ما في نبرة صوتي و من الوجوم الذي غطى محياي، فبان القلق في صوته:
- شكو؟ أمّك بيهه شي؟
- لا يابه.
- شنو لعد؟
اقتربتُ منهُ و انحنيتُ لأعانقه وهو جالس في كرسيه. فسألني:
- شنو لعد؟ أمّوري صارله شي؟
كانت الأخبار في اليومين الماضيين قد تحدّثت عن معارك دامية في الفاو، حيث كانت وحدة أمّوري قد نُقِلت قبل شهرين من القاطع الشمالي، وعن خسائر جسيمة تكبّدها الجيش. ترددتُ لثوان طويلة كأنّي أريد أن أؤجل الخبر الجلل. ثم قلت له وأنا أعانقه وأقبّله على خده الأيسر دون أن أتمكن من حبس دموعي: البقيّة بحياتك يابه، هسّه جابوه للبيت.
وضع ذراعيه حولي وردّد بصوت متهدّج: لا حول ولا قوّة إلا باالله. لاحول ولا قوّة إلا باالله. لا إله إلا االله. له وحده البقاء. ثم أجهش كطفل صغير.عانقته بقوة أكبر وشعرت بأننا تبادلنا أدوار الإبن والأب لدقائق. بللت دموعه الحارة خدي. أحسست بأنه يريد الوقوف فخفّفت ذراعيّ ووقف هو ومسح دموعه بظاهر يده اليمنى دون أن تفلت المسبحة منها. أطفأ الراديو وارتدى سترته وأقفلنا باب المحل وعدنا سوية إلى البيت دون أن نقول شيئا في الطريق.
لم أر أبي يبكي بعدها أمامي أبداً لكن الانكسار الذي لمحته يتغلغل في عينيه وفي صوته ذلك اليوم كان يطفو بين الحين والآخر على وجهه وبالذات كلما نظر إلى صورة أمّوري المعلقّة على الحائط كأنّه يحاوره بصمت.
ذات النظرة التي لمحتها على وجه أبي حين كان التراب يهال على قبر أمّوري والدفّان يردد: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم جاف الأرض عن جنبيه واصعد إليك بروحه ولقّه منك رضواناً وسكّن قبره من رحمتك ما تغنيه به عن رحمة سواك. إيماناً بك وتصديقاً ببعثك، هذا ما وعدنا االله ورسوله وصدق االله ورسوله، اللهم زدنا إيماناً وتسليما.
بعد انقضاء مجلس الفاتحة ظلّت اللافتة السوداء لأشهر على جدار بيت في بداية شارعنا:”لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل االله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون“، الشهيد البطل الدكتور أمير كاظم حسن، استشهد في معركة تحرير الفاو بتاريخ١٩٨٨/٤/١٧.
لم يكن أبي ثرثاراً أو ضحوكاً لكن رحيل أمّوري زاد من صمته وإطراقه وأصبح أكثر مزاجية وتقلّباً. وكانت أمّي هي التي تتلقى موجات غضبه بدمدمة أو شكوى تهمسها لنفسها عندما يصرخ هو ”كافي“ أو ”نصّي التلفزيون.“ التلفزيون الذي كان سلوتها الوحيدة. لم أكن أمضّي الكثير من الوقت في البيت أساساً قبل موت أمّوري، لكنّ اصطداماتي بأبي ازدادت بعد ذلك وكنت أحاول أن أتفاداه لأتفاداها. قال لي أكثر من مرة وأنا أعود ليلاً بأنّني أتعامل مع البيت كأنّه فندق.
بعد سنتين ونصف من موت أمّوري، عام ١٩٩٠، حين وافق صدّام على كل شروط الإيرانيين وتخلّى عن مطالبه التي شنّ الحرب بسببها بعد احتلال الكويت كي يضمن ”الجبهة الشرقية“ ويسحب الجيش منها إلى الكويت، ضرب أبي كفّا بكفّ وصرخ: لعد خاطر شنو حاربنا ثْمَنّ سنين ولوّيش راح أمّوري؟ أمّا أمي فكانت تكتفي بوضع راحتيها على وجهها وتنتحب كلما تذكّرته. وكانت أختي تواسيها وتعانقها فتغرقان في حزن بعضهما البعض.
٤
كنت، ككل الأطفال، شديد الفضول وألحّ على أبي بالسؤال عن تفاصيل عمله، لكنه كان يكتفي بالقول إنّه سيقول لي كل شيء وإنّي سأرافقه إلى عمله عندما أكبر ويحين الوقت ”بَعَدْ وَكِت. .. ركّز على دراستك هسّه.“ كان كل هذا الغموض الذي يكتنف مهنته والمحل يزيد من رغبتي في معرفة ما يدور داخله. أمّوري كان قد بدأ الذهاب إلى المحل عندما كان في الخامسة عشرة ليعاونه وبدأ بالغسل في الثامنة عشرة، لكن أبي لم يكن يسمح لي بالدخول إلى محله أثناء عمله وكان يحب أن يظل الشغل في محل الشغل والبيت للعائلة. عندما كنت أسأل أمّوري عن تفاصيل العمل لم يكن يستفيض في إجاباته وكان يقول لي إنها ليست لعبة وإن هذه أمور تخص الكبار وأنني ما زلت طفلاً.
في عطلة الصيف التي أعقبت امتحانات الصف الثالث المتوسط قال لي أبي ذات يوم إنّ بأمكاني أن أرافقه إلى العمل لأراقب وأتعلم أصول المهنة وقواعدها. فرحت يومها كثيراً. شعرتُ بشيء من الرهبة و أنا أقف خلف أبي أمام عتبة المحل. حوّل الصفرطاس الذي كان يحمله من يده اليمنى إلى اليسرى و أدخل يده اليمنى في جيب بنطلونه ليبحث عن المفتاح. كانت السماء صافية بلا غيوم. لفت انتباهي عدم وجود قطعة تشير إلى المكان أو تدل عليه وعندما سألت أبي عن ذلك قال لي ألّا حاجة لقطعة لأنه ليس دكاناً أو محلّا تجاريّاً. وأضاف وهو يضع المفتاح في القفل ويديره إن الكل يعرفون أين المغيسل، فهو الوحيد للشيعة في بغداد، والأغلبية الساحقة موجودة في النجف. قالها بفخر وأضاف إن الكاظميّة كلها تعرفه.كان المكان أصغر بعض الشيء مما تخيلته منذ وقوفي أمام بابه مع أمي قبل ذلك بسنين طويلة. فاحت رائحة السدر والكافور وأحسست برطوبة الهواء تتسلل إلى جلدي. سدّ أبي الباب وراءنا وتقدّمني إلى الداخل. أول ما وقعت عليه عيناي بعد أن قطعنا الممر ودخلنا الغرفة الرئيسية كانت دكة المرمر التي يُغْسل عليها الموتى والتي يرتفع طرفها الشمالي قليلاً، حيث يوضع الرأس، كي يسيل الماء وكيلا يتجمّع. كان عمر المكان أكثر من ستة عقود وعملتْ فيه أجيال من عائلتنا وعمل فيه جدي الذي مات قبل أو أولد. كانت الجدران والسقف مطلية بلون أبيض مائل إلى الصفرة، لكن الزمن والرطوبة كانا قد جعلا بعض المواضع، خصوصاً في السقف، تتقشّر وتبدو كأوراق خريفيّة على وشك السقوط. توسطت السقف مروحة بدأت تدور بعد أن فتح أبي الزر على الجدار. نظرت إلى اليمين وكانت هناك التوابيت التي يؤتى بها من الوقف وقد صفّت في الزاوية. وفوقها بمسافة نافذة متوسطة الحجم أعلى الجدار تسمح لأشعة الشمس بإضاءة المكان. كانت حزمة ضوء مائلة قد تسلّلت وتركت بقعة على الأرض فالتمع الكاشي المشجّر الذي رصفت به الأرضيّة. لكن النافذة لم تكن بمستوى الناظر وكانت تترك الزوايا معتمة بعض الشيء لكنها تسمح برؤية كِسرة من السماء. كانت المروحة السقفية القديمة في منتصف السقف ترسم، في ساعات معينة واعتمادا علي الزاوية وأشعة الشمس، أجنحة ترفرف على الحائط المقابل. تحت النافذة كان هناك باب يؤدي إلى حديقة صغيرة فيها شجرة الرمّان التي كان يحبّها أبي كثيراً وبجانبه مصطبة يجلس عليها أحياناً أقرباء الميت وهم ينتظرون ويراقبون. في الجهة الشمالية على بعد مترين من الدكة كان هناك حوض أبيض كبير تعلوه حنفية ماء نحاسية اللون اصطفّت تحتها طاسات نحاسية وسرّاحية ودلاء وأجّانات معدنية. كان أبي يرفض رفضا قاطعاً استخدام البلاستيك الذي أصبح شائعاً. إلى أسفل يسار الحوض كانت هناك حنفية أخرى وأمامها تخت خشبي صغير مثل الذي كنّا نستخدمه في الحمام للجلوس أثناء الاستحمام. إلى يمين الحوض كان هناك دولاب كبير بأبواب زجاجية عرفت فيما بعد أنه كان يحوي أكياس السدر والكافور والقَمْحة والأكفان والليَف والقطن والصابون.
كانت الدكّة مستطيلة و الأرض حولها محاطة بحفيرة هي ساقية صغيرة مبطنة بالكاشي الأبيض تتحول إلى مجرى صغير يأخذ الماء إلى الحديقة الصغيرة التي تجاور المكان لا إلى البالوعة كي لا يختلط ماء الغسل مع مياه المجاري. في الزاوية اليسرى يتفرّع ممر قصير يؤدى إلى الحمام و إلى مخزن صغير. على الجدار الغربي لوحة بإطار خشبي سميك خُطّ عليها ”وكل نفس ذائقة الموت“ بالخط الديواني وتحتها باب خشبي يفضي إلى غرفة صغيرة مجاورة كان أبي يجلس فيها معظم الوقت. كان كرسيان خشبيان قديمان يتوسطان الغرفة بينهما طاولة صغيرة. لم يكن في الغرفة إلا شباك واحد علّقت بجانبه صورة للإمام علي.
دخل أبي وعلّق سترته في المخزن ثم عاد ودلف إلى الغرفة وجلس على الكرسي الخشبي وأدار الراديو الصغير الذي كان على الطاولة واستقرّ على محطته المفضّلة. تبعته فأشار إليّ بأن أستريح. جلتُ بنظري في المكان ثانية. لا أدري لماذا تخيلت أننا سنباشر العمل حالاً. قال لي إن عليّ في البداية أن أراقب ما يقوم به وما يقوله هو وحمّودي لأسابيع كي أتعلم ويمكن فيما بعد أن أبدأ بمعاونته و بمناولة ما قد يطلبه مني ولن أغسل إلا بعد أن أتقن العمل وأستوعب معانيه. هززت رأسي بطاعة. بعد نصف ساعة وصل حمّودي الذي كان يعاون أبي منذ صغره وسأله إن كان هناك ما يمكن أن يفعله، فطلب منه أبي أن يكنس المكان ويفحص الدواليب ليتأكّد من توفّر كل المواد وإن كانت هناك نواقص وحاجة لشراء المزيد من أي شيء. قال لي أبي أن أذهب معه ففعلت. راقبته وهو يكنس الأرض حول الدكّة وفي الزوايا ولم يكن هناك حاجة للكنس. بعد أن أعاد المكنسة إلى المخزن، بدا متحمّساً وهو يشرح لي الأشياء وأماكنها. ارتسمت السعادة على وجهه وهو يستعرض معرفته بكل زاوية من زوايا المكان وبمعرفته بأسرار المهنة. فهو لم يكن الوحيد في عائلته الذي يمتهنها. فأمّه كانت مغسّلچيّة للنساء، تشرف على مغيسل للنساء في ظهر محلنا بابه الأمامي في الشارع الموازي.. كان حمّودي أكبر منّي بخمس سنوات. مات أبوه عندما كان في الثالثة من عمره وتزوّجت أمّه من رجل ثان بعد سنتين، لكنّه أُسِر في حرب إيران حيث كان من ضمن قواطع الجيش الشعبي واعتبر مفقوداً لأنه لم يعد بعد نهاية الحرب. ولم يتزوّجها أحد بعد ذلك إذ كان الناس يقولون إن كل من يتزوّجها سيموت. طلبت أم حمّودي من أبي أن يعمل ابنها معه ووافق. كان حمّودي قد ترك الدراسة بعد الصف الرابع الثانوي ليساعد أمّه وكان قد أعفي من الخدمة العسكرية بسبب العرج الذي في رجله اليمنى والذي أصيب به بعد أن صدمته سيارة مسرعة وهو على دراجته في أحد شوارع الكاظمية. أعطاني حمّودي جولة سريعة أطلعني فيها على كل الدواليب وأشار إلى السدر والكافور والقطن والأكفان وبقية المواد. ثم ذهبنا إلى المخزن حيث توضع المناشف وكرتونات الأكفان وكميّات احتياطيّة من السدر والكافور والصابون وفرن صغير بعين واحدة لعمل الشاي وتسخين الطعام.
عدنا إلى الغرفة المجاورة وجاء حمّودي بكرسي ثالث من الحديقة ووضعه في الغرفة.طلب أبّي منه أن يعد لنا الشاي. جلست أنا على الكرسي أتصفّح جرائد من اليوم السابق كانت على الطاولة. عاد حمّودي بصينيّة الشاي ووضعها على الطاولة. فاح عطر الهال. كان أبي طرباً لصوت زهور حسين القادم من الراديو ومن الماضي. تداخلت أصوات ملاعقنا الصغيرة وهي تحرّك الشاي في الأقداح الصغيرة وتسرع في ذوبان السكر فيها. ارتشفنا الشاي ووضعنا الأقداح على الطاولة واحداً بعد الآخر. أخذ حمّودي صفحة الأخبار الرياضيّة من الثورة وخيّم هدوء نسبي أنهاه بعد نصف ساعة صوت ضجيج أعقبته طرقات قويّة على الباب. هبّ حمّودي نحو الممر الذي يؤدي إلى الباب وسمعت صوتته يفتح. سأل صوت ذكوري عمّا إذا كان هذا هو المغيسل فقال له حمودي ”بلي“ وطلب منه أن يتفضّل. قال له الصوت إنهم سيذهبون إلى السيارة لجلب الميت. أغلق أبي الراديو الذي كان يبث أغنية قديمة لزهور حسين ووقف وأخذ يسير نحو الباب. وضعت أنا الجريدة على الطاولة ونظرت إلى أبي لكنه بدا وكأنّه غير آبه لوجودي. بعد خمس دقائق عاد حمودي وتبعه رجلان يحملان شرشفاً أبيض كبيراً بدا أن الميت كان ملفوفاً به. أشار لهما حمودي بأن يضعاه على الدكّة ففعلا.
كان الناس يجيئون بالموتى بعد استصدار شهادة الوفاة من الطب العدلي والتي كان أبي حريصاً على قراءتها قبل الشروع بعمله.كان الرجل الأوّل بعمر أبي في بدايات الخمسينيّات وقد بدأ الشيب يلوح على شعره الأسود وطرفي شاربه. بدا على بياض عينيه البنيتين احمرار من بكاء أو تعب. الثاني كان يشبهه في الملامح ولون الشعر ولكنه كان أصغر، بشارب ولحية خفيفة. كانا يرتديان السواد.سأل الرجل الأول أبي عن الأجر فأجاب: إكرامية، هلّي تگدرون عليه وكلفة الكفن، بس بعدين. وسأل: منو المرحوم؟ فقال الرجل إنّه الأخ الثالث وقدتوفّي بالجلطة.
- لا حول ولا قوة إلا بالله. االله يرحمه والبقاء في حياتكم.
فأجاب الكبير:
- ويرحم والديك.
لم يقل الصغير شيئاً. طلب منهما أبي أن يجلسا على المصطبة أو أن يقفا إن أحبّا وأعلن بأن الغسل والتكفين سيستغرقان حوالي ثلاثة أرباع الساعة. لم يقل الرجل شيئاً وظل واقفاً بجنب أخيه على بعد ثلاثة أمتار من الدكّة. إتّكأت أنا على الحائط من الجهة المقابلة بقرب غرفة الجلوس.
اقترب أبي من يمين الدكة وأزاح الشرشف عن الجثة فبرز وجه ممتقع وعينان مسبلتان لرجل بدا في نهايات الخمسينيات. شعرت بضيق في صدري وبخوف. كانت هذه أول مرة أرى فيها إنساناً ميتاً عن كثب. مات جدي عندما كنت في الخامسة لكنهم لم يسمحوا لي بأن أري وجهه أو جثته. هذا هو ما يفعله الموت إذاً. كان أشيب الشعر والشارب، الذي كان ناعماً بعكس ذقنه التي بدا أنها لم تحلق لأيام. اقترب حمّودي من الجهة اليسرى للدكّة ورفع أبي الجزء العلوي من الجثة ليسحب حمودي الشرشف من تحتها وكذا الشيء ذاته مع الجزء السفلي وأعطى الشرشف للأخ الأكبر الذي ظل واقفاً. كان على جسد الرجل فانيلة بيضاء وبنطلون رمادي و كانت القدمان حافيتين. وكانت قبضتا يديه منكمشتين بعض الشيء. أمسك أبي باليمني ليفتحها بلين وفعل حمّودي الشيء ذاته باليسرى. جرداه من ثيابه حتى بقي السروال الداخلي الأبيض الذي غطاه أبي بقطعة قماش بيضاء ناوله إيّاها حمّودي ثم أزال السروال الداخلي مع إبقاء القماشة فوق الميت من السرّة وحتى أعلى الفخذين. ونزعه عن قدميه وناوله لحمّودي. طوى حمّودي الملابس ووضعها في كيس وسأل الأخ الواقف إن كان يريدها فأخذها. كان أبي يعطي الملابس التي لا يريدها الأقارب للفقراء. ذهب أبي نحو الحوض ونزع نعليه وتناول صدرية، من المشمّع، بيضاء كانت معلّقة على مسمار إلى يساره وارتداها فغطت صدره وجسمه حتى ركبتيه. وربط الشريط خلف ظهره وأخذ قطعة الصابون المكعبة، ثم شمّر عن ساعديه وفتح حنفية الماء وأخذ يُصوبن يديه وذراعيه حتّى المرفقين ثم غسلهما بالماء وكرر ذلك مرّتين أخريين. وبينما كان يجفف يديه وذراعيه بمنشفة كان حمودي قد وضع أحد الطشوت تحت الحنفية الثانية وأدارها فنزل الماء بقوة. أخرج كيسين من الدولاب وضع أحدهما على طاولة الدولاب و أخذ الثاني ونثر بعضاً مما فيه في الماء الذي أخذ يتجمع في الطشت. فاحت رائحة السدر التي كنت أشمها على أبي عند عودته إلى البيت.
اقترب أبي من الدكة من جهتها اليمنى وقال بصوت خفيض: ”بسم الله الرحمن الرحيم. يارب عفوكَ عفوكَ. هذا بدن عبدك المؤمن قد أخرجتَ روحه وفرّقتَ بينهما، فعفوك عفوك.“ وبدأ يمسح بطن الميت برفق براحته لكي يتأكّد من خروج كل شيء. وضع حمودي تختاً على مقربة من الدكّة ليكي يكون الطشت الذي سيضعه عليه في متناول يد أبي ووضع الطشت الذي امتلأ بالماء عليه ثم وضع قليلاً من السدر فيه. وضع طاسة معدنية فيه سمعتُ صوت ارتطامها بسطح الماء. أخذ أبي الطاسة وملأها بالماء ثم أشار إلى حمّودي الذي وضع قليلاً من السدر المطحون على رأس الميّت وبدأ يغسل شعر الرجل ويفرك رأسه برغوة السدر. بعد أن غسل الرأس ساعده حمودي في قلب الرجل على جانبه وهو يقول ”عفوك عفوك” وبدأ يغسل الجانب الأيمن. بدأ بالرأس ثم غسل الجانب الأيمن من وجهه، ثم رقبته وكتفه وذراعه وكفه. ثم صدره وبطنه. وكان يواصل صب الماء ويمرر يده على جسد الميّت ويردّد ”عفوك عفوك“. عندما وصل إلى أسفل بطنه غسل عورته دون أن يزيل الخرقة التي فوقها، ثم باشر بالفخذ ونزل حتى وصل إلى أصابع قدمه اليمنى. كان أبي يغسل براحته المفتوحة بنعومة. بعدها أعادا الميت على ظهره ودار أبي إلى الجانب الآخر و قلباه إلى الجانب المعاكس لغسل الجانب الأيسر.كرر أبي العملية بنفس الدقة من الرأس وحتى وصل إلى أخمص قدمه اليسرى. كان حمّودي قد أعاد ملأ طشت آخر ووقف ينتظر أن يفرغ الأول كي يضعه محله. اتجّه أبي إلى الحوض وغسّل يديه وذراعيه حتى المرفقين بعد أن أنتهي من غسل الميت للمرة الأولى. تبللت الأرض حول الدكّة لكن معظم الماء المدلوق كان يتجمّع في الحفيْرة ويسيل نحو الحديقة الصغيرة. أخرج حمّودي كيس الكافور من الدولاب وفرك بأصابعه مكعبين ثم أضاف المسحوق إلى طشت كان قد ملأه بالماء. مسح أبي مرة أخرى برفق بطن الميت ثم بدأ يغسّل الجانب الأيمن من رأسه بالماء المخلوط بالكافور وكرّر رحلته حتى أخمص قدمه اليمنى ثم انتقل إلى الجانب الأيسر من الرأس. غسّل أبي يديه ثانية حتى المرفقين بعد أن انتهي من الغسلة الثانية. الغسلة الثالثة والأخيرة لم يسبقها مسح البطن وكانت بالماء وحده بلا سدر أو كافور.كان أبي يخفض عينيه وهو يغسّل حتّى يبدو أحياناً وكأنّه هو الآخر نائم، لكن يديه كانتا تفركان بنشاط وبقوّة ولكن بلا قسوة. اتجه أبي بهدوء بعدها إلى الحنفيّة السفلى وغسل يديه إلى المنكبين و رجليه إلى الركبتين ثلاث مرّات ثم جفّف نفسه بمنشفة ناوله إياها حمّودي. ثم أخذ منشفة بيضاء من الدولاب وجفّف بها جسد الرجل بعناية وتلقّفها حمّودي بعد أن انتهى ليأخذها إلى المخزن.
أخذ أبي علبة الكافور وقاس مقداراً بملعقة صغيرة ووضع المسحوق في إناء ثم اقترب من الدكّة ومسح المساجد السبعة: جبين الرجل وطرف الأنف والخدين والذقن، ثم باطن يديه، ثم ركبتيه وإبهامي الرجلين. غسّل أبي يديه ورجليه مرة أخرى وكذلك فعل حمّودي بعده. أخذ أبي بعض القطن من الدولاب وملأ منخري الرجل ثم وضع بعضاً منه بين فخذيه وقلَبَهُ ووضع القطن بين إليتيه. علمت فيما بعد أنه يفعل هذا كي لا يخرج الدم من الميّت.أخذ أبي نفساً عميقاً. جاء حمّودي بقطعة قماش ومقص ناولهما لأبي الذي قص منها قطعة طويلة وأعاد المقص وما تبقّي من القطعة إلى حمّودي. شد فخذي الرجل إلى بعضهما البعض ولف القطعة حولهما مرّتين. ناوله حمّودي ما تبقّى من القماش فلفّه حول رأس الميّت وعممه من فوق وربط القطعة تحت حنكه. ثم جاء حمّودي بقطع الكفن الثلاث وناول أبي أولاها ففرشها فوق جسد الميّت وغطّاه من السرّة إلى الركبتين ونثر عليها بعض الكافور. ثم ناوله حمّودي قطعة ثانيّة أكبر، فرشها وغطّى بها من المنكبين إلى ما فوق القدمين. تعاونا على لفّها حول جسده من تحت. القطعة الثالثة كانت الأكبر وغطّت جسد الميّت بأكمله حتّى بقيت فضلة منها من الجهتين وكانت هناك أدعية مكتوبة بالأسود على حافتيها. أخرج حمّودي ثلاثة شرائط من القماش وناول أبي واحداً منها، فأخذه ولفه حول أسفل الساقين وعقده. ثم تعاونا على رفع جسد الميت من كتفيه ومرّر أبي الشريط الثاني بيده اليمنى من تحت ظهره فأمسك حمّودي بطرفه الثاني. ثم أعادا الميت وعقد أبي الشريط وكذلك فعل بالشريط الثالث الذي ربط به حافة الكفن من جهة الرأس. سحب أبي نفساً عميقاً وقال بصوتٍ عال: “لا حول ولا قوة إلّا بالله” وهو ينظر إلى الجثة المكفّنة. بدا الميّت كالطفل المقمّط ولكن بلا حراك أو بكاء. كان أبّي يتمتم الأدعية أثناء الغسل لكنه نادراً ما كان يقول شيئاً لحمّودي. كانا قد عملا معاً لسنين طويلة وكانا يتفاهمان بالنظرات والإيماءات ويعملان على إيقاع شبه ثابت. طلب حمّودي من أحد الرجلين أن يساعده في جلب التابوت بالقرب من الدكّة واتّجه إلى الزاوية اليمنى حيث كان هناك عدد منها. ساعده الأخ الأصغر في حمل التابوت وجلباه ووضعاه بالقرب من الدكّة. وقف أبي عند رأس الميت ليحمله من كتفيه برفق وقابله حمّودي من الجهة الأخرى واستعد لحمل الميّت من تحت ركبتيه. قال أبي ” يا الله” وكانت تلك الإشارة لكي يحملاه. وضعاه في التابوت برفق. ثم ذهب حمّودي إلى الحديقة الصغيرة وجلب منها جريدة من النخل أعطاها لأبي الذي كسرها إلى قطعتين ووضع واحدة منها إلى يمين الميت على طول الذراع بين عظم الترقوة واليد والأخرى إلى يساره في نفس المكان، كي ترفع عن الميت عذاب القبر، كما قال لي فيما بعد. كان أحيانا يضع غصنيْ سدر أو رمّان بدلاً من السعف. غطّى أبي التابوت وقال للرجلين “ الله يرحمه.” وكانت هذه العبارة إشارة إلى نهاية طقوس الغسل. دفع الأخ الأكبر ثمن الأكفان والأكراميّة وشكر أبي. بعدها بدأ الأخوان يستعدّان لحمل التابوت وساعدهما حمّودي. قال لي أبي أنّ أفتح الباب لهم ففعلت وأغلقته وراءهم. عندما عدت إلى الداخل كان يرتّب الطشوت والأجّانات ويصفّها، لكنّه أبقى واحدة منها قرب الدكّة. عندما عاد حمّودي بعد عشر دقائق ملأها بالماء الساخن وأخرج قليلاً من السدر وأخذ يغسل الدكّة ويفركها بأسفنجة. ذهب أبي إلى الغرفة المجاورة وجلس على كرسيه. ثم سمعت صوت مسبحته تطقطق قبل أن تغمر صوتها أغنية من الراديو الذي فتحه. بدت الأغنية كأنّها قادمة من عالم بعيد لم يغرق بعد كليّاً في الموت كما غرقت هذه الغرفة لساعة أو أقل. تعجّبت من قدرة أبي على العودة إلى إيقاع الحياة العاديّة بسهولة بعد كل مرّة يغسل فيها أو بعد كل يوم يقضيه هنا كأن شيئاً لم يكن. كأنّّه ينتقل من غرفة إلى أخرى ويترك الموت وراءه وكأنّ الموت خرج مع التابوت وذهب إلى المقبرة وعادت الحياة إلى المكان. أمّا أنا فكنت أشعر بحضور الموت في المكان كله حتّى بعد أن رحلت الجثة وخيّل لي بأن الموت كان يلاحقني إلى البيت. استحوذت على حقيقة أن ما يشتريه لنا أبي كان بفضل الموت وحتى ما نأكله كان الموت هو الذي يشتريه لنا.
عندما عدنا إلى البيت مساء ذلك اليوم سألتني أمّي عن يومي الأوّل مع أبي فقلتُ لها: زين. ففرحتْ وقالت: عفية بالسبع! لكن وجه الرجل الميّت كان يتفرّس فيّ تلك الليلة لكن بلا عينين، فقط بمحجريه الخاويين. لم أقل لها أو لأبي شيئاً عن الكابوس الذي ظلّ يعاودني ذلك الصيف في فترات متفرّقة. كان وجه ذلك الرجل يغيب أحياناً لتحل محله وجوه موتى آخرين، محاجرهم خاوية أيضاً، لكنه كان دائماً يعود ويظل صامتاً يتفرّس دون أن يغمض عينيه. وجه بلا جسد. عندما تناولنا العشاء ليلتها بقيت أراقب أبي وأصابع يديه وهي تقطّع الخبز وتضع الطعام في فمه. كان من الصعب أن أصدّق بأنها ذات الأصابع التي فركت جسداً ميتا قبل ساعات.
تغيّرت وجوه الموتى وقاماتهم وعلاماتهم الفارقة، لكن إيقاع الغسل كان ثابتاً لا يتغيّر ولا تتغيّر تفاصيله إلّا في حالات نادرة. قبيّل نهاية ذلك الصيف جيء برجل مات محترقاً في حادثة في مصنع للكيمياويّات وكان جسده مغطى بحروق شديدة التهمت بشرته وغيّرت لونها في كل موضع. لم يتحمّل أقرباؤه المنظر فانتظروا في الخارج. أزال أبي الملابس عن جسده بصعوبة واكتفى بصب الماء عليه ووضع القطن وتكفينه بدون أن يستعمل السدر أو الكافور ودون أن يفرك أي بقعة منه.تقيّأت يومها وتوعّكت لأيّام لم أذهب فيها مع أبي الذي لم يقلقه الأمر وقال لي: لا تخاف، راح تتعوّد على هالأشياء. ولم أعد للعمل مع أبي حتى الصيف التالي.
٥
“شْدَتِكْتِب” سألني أبي مستغرباً عندما رآني أدوّن بعض الملاحظات في دفتر صغير كنت قد حملته معي. فقلت له إنني أدوّن ملاحظات عن تفاصيل الغسل، كي لا أنساها، فضحك وقال: شنو رايح عالمدرسة؟ لا تخاف ماكو امتحانات! قال لي إنّه أتقن صنعته بالممارسة دون أن يكتب حرفاً واحداً وكذلك فعل حمّودي ومن عمل معه قبله. لكنه كان صبوراً معي في الإجابة على أسئلتي الكثيرة وأعتقد بأنّه فرح يومها لأنني كنت جادّاً في رغبتي لأن أعرف كل شيء عن تفاصيل وطقوس المهنة التي كان يريدني أن أرثها. كنت أريد أن أنال رضاه وأن يعرف أنّني أريد أن أساعده مثل أمّوري وبأنّني قادر على مواجهة الموت كرجل. أمّا هو فكان دفتره أو دفاتره كلها في رأسه كتبتها السنين الطويلة.
كنت قد سألته مرّة وأنا طفل لماذا نغسل الميّت، كما سألت أمّي، فقال لي يومها لأنّ كل ميّت سيلتقي بالملائكة وأهل الآخرة والله سبحانه وتعالى ويجب أن يكون طاهراً نقيّاً. وسألته في ذلك الصيف مرّة ثانية فأجاب بذات الجواب لكنّّه أضاف أنه لا يجوز أن يظهر فساد الجسد وأن تتغير رائحته ويجب أن يكون مستوراً كي لا تقسو قلوب الأحياء. سألته عن الفرق بيننا وبين السنّة في الغسل، فقال إن الفروق بسيطة جدّاً في بعض التفاصيل الصغيرة وذكر الأئمة وكتابة دعاء الجوشن، لكنها ليست كبيرة. قال لي إنّه يمكن حتّى لأهل الكتاب أن يغسلوا المسلم إن لم يكن هناك من يغسله من المسلمين. لكن أهم شيء هو النيّة وقال بعدها “الأعمال بالنيّات”. لكن المماثلة مهمة. فالرجل يغسل الرجل والمرأة تغسل المرأة. سألته وإن لم يكن هناك رجل، فقال يمكن للزوج أن يغسل زوجته والمحارم كذلك. ويمكن للأم أن تغسل ابنها. سألته وماذا إذا لم يكن هناك لا كافور ولا سدر، فقال يمكن أن يغسل الميت بالماء وحده. بعد أن كتبت ما قاله، سألته: وإذا لم يكن هناك ماء، فهز رأسه وابتسم قائلاً: هاي شجابها ببالك؟ ثم قال: التيمّم. سألته عن سبب ذلك، فقال إنّ أصل الحياة هو الماء والتراب وعند عدم وجود الماء للوضوء أو الغسل يمكن استخدام التراب الطاهر. أراني يومها كيف نقوم بالتيمّم. ضم كفّيه وقال بأنّه يجب ضرب التراب بباطن اليدين ونفضهما. ضرب الهواء وكأنّه يضرب التراب. بدا وكأنّه يقوم بالتمثيل الصامت وكنت على وشك أن أضحك، لكنّني منعت نفسي. ثم مسح جبهته من منبت الشعر إلى أعلى الأنف بيده اليمنى. وضع كفيه المضمومتين إلى جانب بعضهما البعض ومسح الجبين والحاجبين وأعلى الأنف. ثم مسح ظاهر الكف اليمنى بباطن الكف اليسرى من أعلى المفصل بقليل وإلى أطراف الأصابع ومسح ظاهر الإبهام.ثم مسح ظاهر الكف اليسرى بباطن اليمنى. سألته هل اضطر مرّ إلى أن ييمّم في المغيسلب، فأجاب بالنفي وقال إنّ المغيسل فيه ثلاثة خزّانات ماء على السطح يضخ إليها الماء من مضخّة تحسّباً لانقطاعه في حالات الطواريء.
كانت الغالبية العظمى من الأجساد التي رأيت أبي يغسّلها سليمة وغير مشوهّة باستثناء شاب دهسته سيّارة مسرعة وهو يعبر الشارع فجيء بجثته. جاءوا به ملفوفاً بالنايلون الملطّخ بالدماء. قال أبّي لحمّودي أن يضع القفازات على يديه وكذلك فعل هو قبل أن يحملا جثة الرجل إلى الدكّة. اقشعر جلدي حين أبصرت الجسد الذي بدا كأن قطيع ذئاب هجم عليه ونهشه وانتزع الكثير من جلده ولحمه. كان أبي قد قال لي مرّة إنّه مادام هناك جزء فيه قلب، فلا بد من الغسل والتكفين. خيّل لي بأنّ الرجل سيشعر بالألم إذا لمس أحد جسده حتى وهو ميّت. اكتفى أبي بدلق الماء دون أن يدلّك أو يغسل بالكافور أو السدر، لكن الدم ظل يسيل بين الحين والآخر بالرغم من كل الماء الذي دلق عليه لثلاث مرّات. واستخدم أبّي يومها كميّات كبيرة من القطن كي يوقف النزف وحتّى بعد التكفين برزت بقعة من الدم في الجانب الأيمن، لكن أبي طمأن أهله بأن ذلك لا ينقض صحة التكفين.
٦
أيقظني من النوم شيخ هرم بشعر ولحية طويلة اشتعلا شيبا وقال لي بصوت بدا كأنه قادم من بعيد: قمْ يا جواد واكْتُب الأسماءَ كلّها! استغربت أنّه يعرف اسمي. نظرت إلى عينيه الغائرتين وكانتا بلون سماويّ غريب. كان وجهه يزدحم بالتجاعيد كأن عمره مئات السنين. سألته: من أنت وأسماء من؟ فابتسم وأجابني بسؤال: ألم تعرفني بعد؟ هاتِ ورقة وقلماً واكتب الأسماء كلّها يا جواد وإياك أن تنس اسماً! إنها أسماء الذين سأقطف أرواحهم غداًَ وأترك لك أجسادهم كي تطهّرها. قمت من سريري وجئت بدفتر وقلم و ركعت على الأرض أمامه وقلتُ له: أنا مستعد. أغمض عينيه وأخذ يقرأ مئات الأسماء المختلفة فكتبت كلّ واحدٍ منها. لا أذكر كم بقينا على هذه الحال، لكنّه فتح عينيه بعد أن قرأ آخر اسمٍ وأخذ نفساً عميقاً ثم قال بصوت خفيض: سأعود غداً. ثم اختفى. عندما نظرت إلى الدفتر الذي كان بين يديّ لم أر سوى جملة واحدة كنت قد كتبتها مئات المرّات على كل ورقة: ”كلُّ نَفْسٍ ذائِقَة الموْتْ.“
٧
بالرغم من شعوري بشيء من الملل في نهاية الصيف الأوّل إلّا أنني لم أقل شيئاً عن ذلك لوالديّ. أخبرت أمّوري الذّي قال لي إنّي يجب ألّا أظلّ طفلاً أبحث عن المتعة في كل شيء وخصوصاً في عمل كهذا:“ خومو هذا لعب؟” قال لي إنّني لم أكن من النضج بمكان بعد كي أفهم أهميّة ما يقوم به أبي وأهميّة أن نساعده.
كنت قد تعوّدتُ على رؤية الموتى عن كثب، لكنّني لم أكن قد لمست جسد أيٍّ منهم طوال الصيف الأول. في بداية الصيف التالي عدت ثانية إلى المغيسل لأساعد أبي واضطررت بعد شهر لأن آخذ دورا أكثر فعالية حين مرض حمّودي ولم يتمكن من العمل لأسبوعين كاملين في تمّوز. مرت تلك الأيام ببطء و أحياناً بدون أي غسل. زاد الحرّ الجهنميّ من رتابة أيقاعها ومن زخّات العرق الذي كان يتصبّب من جبيني. لم تفلح المبرّدة في الغرفة التي كنّا نجلس فيها في محاربة الحر.
مازلت أذكر برودة وملمس ذلك الجسد الذي ساعدتُ أبّي في غسله وتكفينه تلك الظهيرة. كان لكهل في العقد السادس من عمره. كانت بشرته مليئة بالتجاعيد وقد اصفرّت بشكل غريب. فاحت منه رائحة نتنة وأدركت يومها حكمة استخدام السدر والكافور. ذكّرني منظره بالسمك الذي كانت أمّي تضعه على الطاولة في المطبخ قبل أن تنظّفه استعداداً لطبخه. كان الفضول وجلد السمك الغريب يدفعني للمسه فأشعر بمزيج من الدهشة والتقزّز. كنت أمضي وقتاً طويلاً أنظر إلى السمكة وهي مستلقية على جانبها. رأسها يشبه رأس الإنسان بفمها المفتوح وبشفاهها الغليظة كأنها تصرخ وتطالب العودة إلى الماء. العين، هي الأخرى كانت دائماً مفتوحة تبحلق في أعيننا نحن الذين كنّا على وشك أن نفترسها. أمّا عين الميت فمغلقة وكذلك فمه. سبات لن يستيقظ منه أبداً.
لاحظ أبي يومها ارتباكي وتسرّعي في دلق الماء كأنّني أريد أن أنهي العمليّة بسرعة، فاضطرّ لأن يقول لي مرّتين “على كيفك إبني! يَواش يَواش.” عندما انتهينا أسرعت بالخروج إلى الشارع كي أستنشق الهواء النقيّ وساورتني الشكوك حول العمل بهذه المهنة لسنين طويلة مثل أبّي. كيف لي أن أستحمل كل ما يلقيه الموت؟
٨
دخل إلى الصف واثق الخطى يحمل حقيبة جلدية أخرج منها رزمة من دفاتر الرسم وكيساً مليئاً بأقلام الرصاص وضعهما على الطاولة. توجّه إلى السبورة وكتب بخطٍّ جميل وبحروف كبيرة: “فَنْ ” ثم كتب اسمه بحروف أصغر تحتها: “رائد إسماعيل.” لم يوح شعره الأسود المجعّد ولحيته الكثيفة بأنه ما زال في العشرينيات من عمره. أضفى قميصه الأخضر الفاتح شيئاً من النضارة على وجهه الأسمر. أما بنظلونه الأسود فكان بلون حذاءه. أدار وجهه وابتنسم لأن أغلب الطلاب كانوا في أجواء الفرصة ولم يلاحظ الكثير منهم دخوله. صفّق لكي يسترعي انتباه الطلّاب وقال: يالله يا شباب! أرجوكم. كل واحد يرجع لمكانه حتّى نبدي. اسمي رائد، وأشار إلى السبّورة التي كان يقف أمامها.
كان موضوعا الرياضة والفن مهمليْن وكثيراً ما كنّا نمضي الوقت المخصص لهما، وخصوصاً درس “الفنيّة”، ونحن نلعب كرة القدم في ساحة المدرسة أو نحاول أن نخرج ونتسكّع في الجوار. لكن في بعض السنين كان يتم تنسيب مدرّسين لتدريسنا. كان التعامل مع درس الرياضة أسهل لأن كل ما يحتاجه المدرّس هو بضع كرات وتمارين أو مباراة. لكن درس “الفنيّة” كان أصعب بعض الشيء خصوصاً لعدم وجود مرسم أو ورشة ولأن المدرسة لم تكن توفّر المواد اللازمة للمدرّسين، فقد كان التركيز ينصب على المواد “الجديّة”. وهكذا كان الكثير من المدرّسين، إن حضروا، يقتلون الوقت بالدردشة معنا أو كانوا يطلبون منّا أن نعمل على واجباتنا للدروس الأخرى بينما يقرأون الجريدة أو ينظرون عبر الشبّاك ويطلبون منّا أن نسكت حين يعلو اللغط.
كنت مولعاً بالرسم وأخذت أمارسه بكثرة في طلك الصيف الطث عملت به مع أبي. كانت ساعات انتظار الموت الذي لم أكن أحبه طويلج ومملة. ولم تعد قراتءة الصحف والثرثرة مع حمّودي تكفي. وكان الرسم ملاذا ومهرباً من الاختناق الذي كنت أشعر به ليس بسبب الموت فحسب، بل بسبب ملل المراهقة الذي كنا نحاول محاربته بمشاهدة التلفزيون ولعب كرة القدم. أدخلني الرسم إلى عوالم جديدة فعكفت، بعد أن انتهت أسئلتي وملاحظاتي عن الغسل والتي كلأت بها أكثر من دفتر، على رسم وجه أبي من زوايا متعدّدة في المغيسل وكذلك في البيت وهو يشاهد التلفزيون. لم يزعجه ذلك وكان أحياناً يمازحني قائلاً: مو كافي ؟ شنو آني صدّام حسين؟ كانت صور صدّام تملأ كل زاوية في البلد تلك السنين. كانت تقاطيع وجه أبي تستهويني كثيراً. التجاعيد التي تمتد على الجبين كشروخ والحاجبان الرماديان الكثيفان، ثم الأنف الكبير الذي كانت تبرز من فتحتيه بعض الشعيرات البيضاء على عكس شاربه المشذّب والذي كان أقل شيباً من شعر رأسه في تلك الأيّام، ثم الخدان المليئان.
رسمت حمّودي كثيراً أيضاً. شعره القصير المنفوش وعيناه الواسعتان ورمشاه الجميلان. أعجب حمودي بصورته لدرجة أنّه طلب أن يأخذ الورقة منّي ليحتفظ بها، فعرضت عليه أن أرسم وجهه على ورقة أكبر في اليومك التالي فوافق بفرح. كان أبي وحمودي الوحيدَيْن من النماذج الحية التي يمكنني أن أرسمها. ملأت الدفتر بتخطيطات كثيرة للدكّة والظلال التي تحوم حولها في ساعات مختلفة. رسمت صنبور الماء الذي كان يغتسل منه أبي وحاولت أن أظهر قطرة الماء وكأنّها على وشك السقوط من فم الصنبور، لكنني لم أنجح كثيراً. رسمتُ وجه الإمام علي الذي كانت صورته معلّقة في الغرفة. كنت أتدرّب أيضاً على رسم الوجوه التي تحفل بها صور الجرائد.
غضب أبي ذات مرّة حين اكتشف بأنّني كنت أخطط وجه وجسد ميّت كان قد غسله في ذلك الصباح. نهرني قائلاً: عيب إبني، الأموات إلْهُم حُرْمَة! إرسم أبوك، إرسم حمّودي شگد متريد، بس عوف الأموات بحالهم! ارتبكت فكذبت وقلت له بأنني أرسم وجه قريب الميّت الذي جاء معه، وليس الميّت نفسه. فأخذ الدفتر منّي وأشار إلى الرسم وقال: لا تچذّب! هيّانة نايم على الدچّة! ثم نزع الورقة من الدفتر ومزّقها. فاعتذرت منه ولم أكرّرها. شعرت بمزيج من الخجل والمهانة وخرجتُ إلى الحديقة الصغيرة وجلست بالقرب من شجرة الرمّان أداوي جراحي. فتحتُ صفحة جديدة ورسمت تخطيطاً للشجرة وللرمّانات التي كانت تحملها وبدت قبّة مسجد الكاظم في الأفق كأنها هي الأخرى رمّانة ذهبيّة أزليّة.
كان الأستاذ رائد قد قال لنا ذات مرة إن الحياة هي موضوع الفن الأزلي وإن العالم، وكل ما فيه، ينادي: ارسموني. لم يقل إنّ الموت والأموات كانا خارج حدود الفن.كان يجب أن أسأل أبي ما الضير في أن أرسم الموتى؟ هل كان ذلك سيغيّر شيئاً أم أنّه سيقلق نومهم الأبدي؟
بالإضافة إلى حماس الأستاذ رائد وجديته في التعامل مع موضوع الفن، فإن ما ميزه عن أغلب أساتذتنا هو طريقة تعامله معنا وكأنّنا أصدقاء. فلم يكن يستخف برأينا أو يقلل من أهميته عندما كنا نختلف معه حول أي شيء.
مشى بين صفوف الرحلات يوزْع دفاتر الرسم والأقلام والرؤوس تحملق به غير مصدّقة طريقة تعامله معنا. طلب من الذين يحبّون الرسم أن يرفعوا أيديهم، فرفعت يدي عالياً كي يراني. نظرتُ حولي فوجدت أن الكثيرين قد رفعوا أيديهم أيضاً. ابتسم الأستاذ وقال: رائع! ثم أضاف: بيكاسو، واحد من أعظم الفنانين في القرن العشرين، يقول: كل طفل هو فنان، المشكلة هي كيف يبقى الفنان طفلاً عندما يكبر؟ قال أحد الطلاب في الخلف: بس إحنه مو أطفال أستاذ! تعالت الضحكات. ضحك هو أيضاً ثم قال:
- أنتم شباب، مو أطفال، بس أرجوكم كل واحد يريد يحچي يرفع إيده بالأول خاطر متصير هوسة.
قال إنّ الفكرة هي أنّ الفن يسمح للطفل الذي يظل محبوساً في داخل الإنسان البالغ أن يخرج ويلعب ويحتفل بالدنيا وبجمالها. كانت الطريقة التي يتحدّث بها عن الفن وعن أي موضوع جميلة ومليئة بالصور حتّى وإن لم نفهم بعض الكلمات الغريبة التي استخدمها. أعطانا محاضرة قصيرة مرتجلة عن الفن وتاريخه مازلت أذكرها بوضوح لأنّها سقت بذرة الفن التي كانت في داخلي.
سحرتني كلماته حين قال إن أجدادنا كانوا ينقشون على جدران الكهوف رموزاً وصوراً عن عالمهم وحياتهم بحلوها ومرها. فالفن هو مرآة للحياة والإنسان يرى نفسه وعالمه فيها. كوابيسه وأحلامه وخياله وحقيقته وحتّى أوهامه كلها تنصهر فيه. قاطعه هادي، الذي كان المشاغب الرسمي في الصف، قائلا: “ يعني ميخالف أجيب مراية الدرس الجاي بمكان الرسم؟” ضحكنا جميعاً. فوجئنا بأنّ الأستاذ لم يغضب. ابتسم وسأل هادي عن اسمه وذكّره بأنّه طلب منّا أن نرفع أيدينا قبل أن نتكلّم. ثم قال له إنّّه إذا صبغ المرآة بالألوان وكأنّها لوحة، فسيقبلها!
واصل حديثه عن الفن بشغف فقال إنه مرتبط بالخلود لأن الخلود هاجس أساسي عند الإنسان لأنه زائل ولذلك يريد أن يترك أثراً في هذا العالم قبل الموت. فالفن هو تحدّي الموت والزمن واحتفال بالحياة. قال إن أجدادنا في وادي الرافدين هم أوّل من طرح كل هذا الأسئلة في أساطيرهم وفي ملحمة گلكامش وبأن العراق كان أوّل وأكبر ورشة فنيّة في العالم. فبالإضافة إلى اختراع الكتابة وبناء أولى المدن والمعابد، فإن أوّل الأعمال الفنيّة والمنحوتات والتماثيل ظهرت في العراق القديم في عهد السومريين وهي الآن تملأ متاحف العالم وقد يكون الكثير منها ما يزال مدفوناً تحت الأرض.
قال إنّنا جميعاً ورثة هذا الكنز الحضاري الهائل الذي يُغني حاضرنا ومستقبلنا ويجعل الفن العراقي الحديث خصباً. سألنا إن كنا نعرف جميعاً نصب الحريّة في ساحة التحرير، فأجاب معظمنا “نعم أستاذ”. قال “رائع” التي كان يكثر من استخدامها. ثم سألنا إن كنا نعرف اسم الفنّان الذي أنجزه، لكننا لم نعرف. قال: احفظوا اسم هذا الرجل: جواد سليم. ردد البعض “جواد سليم” وكأن اسمه شعار أو هتاف. نظر البعض الآخر إليّ وضحكوا للتطابق في الاسم. فضحك الأستاذ وقال: لا مو هذا الجواد اللي بالصف. قال إنّ جواد سليم من أهم فناني العراق وحتّى العالم العربي في العصر الحديث وبأن أعماله في الرسم والنحت تصهر الماضي والحاضر، والشرق والغرب، وتستلهم كل أساطير العراق القديمة وحتى الشعبيّة. فرحتُ لأن اسمي يطابق الاسم الأوّل لأعظم فنّاني العراق وبدأت من يومها أحلم بأن أنتج أشياء جميلة في المستقبل تعلّق في المتاحف أو تزيّن الساحات العامّة مثل جواد سليم. سأله أحد الطلاب: أستاذ، شنو يعني “تستلهم”؟ فأجاب: يعني تشوف إلهام بفد شي أو تاخذ فكرة مِنّه. مثلاً آني أكون گاعد أقرا قصّة أو أسمع أغنيّة تعجبني كلّش وتؤثّر بيّ فأرسم لوحة مستلهمة منها. صفّق الأستاذ مرة أخرى بعد هذه الإجابة وقال: يالله، نبدي إذاً.
كانت الدفاتر كبيرة وذات ورق خاص للرسم له رائحة مميّزة وكان غلافها أخضر فاتح كتب عليه بالانگليزيّة “Drawing Pad” وكان هناك مربع خاص لكتابة الإسم فكتبت اسمي بجانب Name: جواد كاظم. وانتابني شعور غريب وجميل وأنا أخطّ الحروف كأنّ اسمي اكتسب بريقاً أو أهميّة لم يكن يمتلكها من قبل.
أخرج تفّاحة من حقيبته ووضعها هي والحقيبة على الطاولة وطلب منّا أن نرسمهما وأعطانا ربع ساعة لنكمل. كان الصف صغيراً ويمكن للجميع أن يرى الطاولة. خيّم الصمت ولم نسمع سوى احتكاك رؤوس الأقلام بسطح الورق وصوت رحلة يبالغ صاحبها في محو ما رسمه للتو. بدأ الأستاذ يمر على الطلاب ليراقب ما يرسمه كل واحد ويعطي ملاحظاته. بدأت أخطّط كعادتي وكنت قريباً من الطاولة في الصف الثالث. أمّا الذين كانوا في الصف الأخير فكانوا يضطرّون للوقوف بين حين وآخر. حين وصل الأستاذ إلى رحلتي وقف ينظر ولم يقل شيئاً لنصف دقيقة. كنتُ قد أكملت رسم الطاولة والحقيبة والتفّاحة وبدأت أظلل بعض الزوايا والتفاصيل الصغيرة، خصوصاً أنّ أشعة الشمس كانت تدخل في تلك الساعة من الشباك الذي كان بجانب الطاولة فحجبت الحقيبة شيئاً منها تاركة التفاحة في الظل. توقّعت أن ينتقدني لكنّه قال”عفية جواد. . . رائع. رائع.” فرحت كثيراً برضاه ومديحه لي. واصل مروره على الطلّاب وذكّر الصف بصوت عال بانقضاء عشر دقائق. وبعد خمس دقائق طلب منّا جميعاً أن نتوقّف ونضع الأقلام على الرحلة. ثم طلب منّا جميعاً أن نقف وأن نمر على كل الرحلات ونشاهد ما رسمه البقيّة ولكن بدون إحداث ضوضاء. ازداد اللغو وبدأ البعض يمثّل دور الناقد ويشير بأصابعه ويعلّق تعليقات سخيفة. شاهدت تخطيطاً واحداً ينافسني من حيث الجودة، أمّا البقيّة فكانت عاديّة وضعيفة وبعضها لم يكتمل. بعد عشر دقائق أخرى طلب منّا الأستاذ أن نعود إلي رحلاتنا. سألنا إن كنّا لاحظنا شيئاً. رفع هادي المشاغب يده، فقال الأستاذ: نعم هادي ، إتفضّل. فقال هادي: محّد يعرف يرسم. ضحك البعض لكن الغالبية احتجّوا على هذا النقد الهدّام بصوت عالٍ. أسكت الأستاذ الصف بالتصفيق وصرخ: خلص! ووبّخ هادي قائلاً: كل شي إله وكته بس ما أسمح بعدم الاحترام والتهريج. ثم قال لنا إن كل واحد رسم المنظر من مكانه ومن زاوية مختلفة يبدو فيها المنظر الواحد مختلفاً بعض الشيء. لذلك فالمنظار مهم جدّاً في الرسم وطلب منّا أن ننتبه إلى النسبة بين الأشياء في أحجامها. وألّا نرسم، مثلاً، الحقيبة صغيرة جدّا بينما التفاحة كبيرة جدّا بالمقارنة. قال إنّه سيرينا أحسن رسم شاهده هو وجاء نحوي وأخذ دفتري وعاد ووقف في وسط الصف أمام اللوحة ورفع الدفتر وقال: لاحظوا رسم زميلكم جواد. هناك اعتناء بالتناسب في حجم كل شيء وهناك الدقّة في التفاصيل. عفيه. رائع يا جواد. غمرني الفرح ونظر الجميع إليّ وهو يعيد الدفتر إليّ. قال إنّه سيحدّثنا في الأسبوع القادم عن الضوء والظل والعلاقة بينهما.وكان الواجب هو أن نرسم جهاز التلفزيون الذي عندنا في البيت. بعد نهاية الدرس ذهبتُ إلى الأستاذ لأشكره على الدفتر. فقال لي “أهلاً وسهلاً.” وسألني إن كنت درست الرسم، فقلت له: لا ولكنها هواية وعندي دفاتر كثيرة مليئة بالرسوم. قال: إيدك قويّة وعندك موهبة.” فرحتُ وشكرته.
أصبح درس الأستاذ رائد درسي المفضّل تلك السنة والساعة التي أنتظرها طوال الأسبوع بفارغ الصبر. كان يختار أفضل رسم أو رسمين في كل صف ويستخدمهما لتوضيح نقاط القوة والضعف، وكانت حصة الأسد لي. وبالرغم من عدالته واعتناءه بالكل وتشجيعه لهم إلّا أنني أحسست بأنّه كان يعاملني معاملة خاصة ويمتدحني كثيراً ممّا أثار غيرة البعض.كان صالح يعيّرني بمعاملة الأستاذ الخاصّة وقال لي ذات مرة أمام بعض الطلاب في الساحة: هذا رائد فَرِخْچي يريد ينيچَك! غضبت وقلت له إنّه غبي ويغار منّي، لكنّه قال: لَعَدْ ليش دائماً يحچي ويّاك بعد الصف؟ وظلّ يردّد: جواد فَرِخْ، جواد فَرِخْ، جواد فرِخْ. فاستشطت غضباً واشتبكنا بالأيادي قبل أن يفرّقنا زملاؤنا ويباعدوا بيننا. زاعلته وصمّمت على ألّا أكلّمه أبداً وقلت لأصدقائي إن عليهم أن يختاروا صداقتي أو صداقته. كان يقول بصوت عال أحياناً قبل بدء درس الفنيّة ودون أن ينظر إليّ: إجه نيّاچك، إجه نياچك. لاحظ الأستاذ رائد حزني ذلك اليوم وسألني عن السبب لكنّني ترددت في أن أخبره بالأمر. أخبرت أمّوري بالموضوع فقال لي إن هادي يغار منّي ويجب أن أتجاهله، لكنّه بعد أن سمع الجمل التي كان يردّدها هادي وعدني أن يأتي إلى المدرسة ويشتكي عند المدير. بعد يومين جاء فرّاش المدير، أبو محمد، الذي كانت سيجارته لا تفارق فمه أبداً، إلى الصف وقال لأستاذ اللغة العربية الذي كان يشرح لنا نائب الفاعل، إن المدير يريد جواد كاظم وهادي صالح في غرفته حالاً. عندما وصلنا إلى غرفة المدير كان أمّوري يجلس على الكنبة أمام المدير. عنّف المدير هادي، الذي كان لديه سجل حافل من المشاكل مع الطلاب والأساتذة، وقال له إنّ حبله قصير جدّا وعلى وشك أن ينقطع وإن هذا آخر إنذار وسيُفْصَل من المدرسة إذا سمع المدير أنه تنفّس بكلمة واحدة نابية. ثم أمره أن يعود إلى الصف. طلب مني المدير أن أتحاشى هادي وأتجاهله. شكر أمّوري المدير على تفهّمه الموقف ثم رافقني إلى باب الصف. فرحتُ لأنّه أوفى بوعده وجاء إلى المدرسة بالرغم من انشغاله بدراسة الطب. ارعوى هادي بعدها ولم يفتح فمه أو يشاكسني أبداً.
نظّم الأستاذ رائد بعض النشاطات الفنيّة على مستوى الصف والمدرسة فكان علينا أن نتعاون في مجموعات لتصميم نشرات جداريّة فيها نصوص أدبيّة ورسومات. كما نظّم معرضاً تحت عنوان “إبداع” تضمّن أفضل الرسوم للسنة كلها واختار رسمين من رسومي، واحد مستوحى من قصيدة “أنشودة المطر” للسياب والثاني ليد أبّي والمسبحة بين أصابعه. تم تعليق الرسوم المختارة على جدار بالقرب من غرفة المدير وكتبت أسماء الطلّاب وصفوفهم وشعبهم تحت اللوحات. استمر المعرض شهرا كاملاً وفرحت كثيراً عندما رأيتُ اسمي بحروف كبيرة ورسومي معروضة والطلاب وبعض الأساتذة يقفون أمامها ولمدة شهر كامل.
سألني الأستاذ بعد واحد من الدروس: شتريد تصير من تكبر؟ فقلت له بدون تردّد: جواد سليم. فضحك وطبطب على ظهري قائلاً: يعني فنّان. إي ليش لا؟ ممكن تدرس للأكاديميّة، بس لازم تستمرّ بالرسم ومتبطّل. فقلت له: طبعاً أستاذ.
في نهاية السنة طلب منّي أن أذهب إلى غرفة المدرسين بعد الصف وأن أجلب حقيبتي معي فاستغربت الجزء الأخير. طلب منّي أن أجلس على الكرسي أمام المكتب وجلس هو خلفه. كرّر على مسامعي بعض ما كان قد قاله لي طوال السنة عن موهبتي وعن عيني المتميّزة. قال إنّي أحسن طالب في كل صفوفه في المدرسة كلها، حتى أولئك الذين هم أكبر منّي بكثير. ثم أضاف إنّ الموهبة مهمّة لكنها لا تكفي لوحدها ويجب أن أقوّها بالتمرين المستمر والممارسة وبالدراسة في المستقبل إن سنحت الفرصة. فتح الجارور وأخرج دفترين من نفس نوع الدفاتر التي أعطانا إيّاها في بداية السنة ثم أخرج من حقيبته الجلدية كيس نايلون وضعه على المكتب وطلب مني أن أخرج ما بداخله. كان هناك علبة ألوان مائية متوسطة الحجم مع فرشاتين بداخلها وطقم ألوان باستيل. أفرحتني المفاجأة وشعرت بالخجل ولم أعرف ماذا أقول غير “شكراً” بصوت خافت. قال إنّها هديّة لتشجعني على تطوير قابليّاتي وأسلوبي. شكرته ثانية وقلت له إن درسه كان درسي المفضّل وبأنّي تعلّمت الكثير منه. قال لي “تستاهل أكثر جواد” ثم أضاف: ” ما راح تكون جواد سليم، بس ممكن تكون فنان عراقي رائع بيوم من الأيّام.” نظر إلى ساعته وقال إنّه يجب أن يذهب إلى صفّ آخر . تصافحنا بحرارة ووضعت هديتي الثمينة في حقيبتي. شكرته ثانيّة وتوادعنا.
بعد نهاية الدرس الأخير قبل العطلة الصيفيّة، انتظرت خروج معظم الطلّاب، خصوصاً هادي قبل أن أعطي الأستاذ رائد لوحة “بروفيل” لوجهه كنت قد عملت على مسوّدات منها لأسابيع في البيت إلى أن توصّلت إلى أفضل نتيجة ممكنة. وكتبت على ظهر الورقة “إلى أحسن أستاذ، من تلميذك جواد كاظم.” فرح كثيراً وهو ينظر إليها وقال إنّه سيؤطرها ويعتزّ بها. صافحني بحرارة ثم طبطب على ظهري وذكّرني بأن أظل أرسم وبأنّه يتطلع إلى ما سأرسمه في الصيف.
في الصيف ملأت الدفترين بالرسوم بعد أن تدرّبت كثيراً على الرسم بالألوان المائية على أوراق عاديّة. أعجبني الرسم بالباستيل أيضاً لكنّني ركّزت على تقوية يدي بالفرشاة. وجدتني أستعجل نهاية العطلة لأوّل مرة كي أطلع الأستاذ رائد على رسومي الجديدة. في أول يوم من الدوام عندما نظرتُ إلى قوائم الصفوف وأسماء الأساتذة والطلبة في الجدول المعلّق على الجدار قرب الإدارة لم يكن اسم الأستاذ رائد موجوداً في أي مكان وكان هناك علامة X بدلاً من اسمه بعد مادة الفنيّة. افترس الحزن قلبي. سألتُ الفرّاش عنه فقال إنّّه استدعي إلى الخدمة العسكرية وبأنّهم سيعيّنون أستاذا جديداً. عندما حان موعد درس الفنّية يوم الخميس، دخل معاون المدير إلى الصف وقال: ماكو فنيّة، إطلعوا للساحة. سألته عن الأستاذ الجديد، فقال: ماكو أستاذ جديد. استعلمت عن السبب، فقال: ما ندري إبني. أصبح درس الفنيّة فراغا يستمتع به الطلاب باللعب والجري. أما بالنسبة لي فكان فراغاً يصعب سده بأي شيء. لم أدرس الفن بعدها مع أي أستاذ ولم أتعلّم شيئاً بصورة رسميّة حتى دخلت الأكاديمية بعد خمس سنوات. بعد شهر من بداية تلك السنة الدراسية بدأت الحرب مع إيران. كنت دائماً أتساءل عن مصير الأستاذ رائد وأنا أشاهد صور المعارك الضارية على شاشة التلفزيون. استفسرت من بعض الأساتذة لكن لا أحد كان قد سمع عنه شيئاً أو يعرف ما حل به.
٩
أوّل مرة رأيتها فيها كانت ترتدي السواد.
كنت قد تأخرتُ على محاضرة تاريخ الفن ذلك الصباح لأنني نمت ربع ساعة إضافية بعد أن رنّ المنبّه أوّل مرّة. كان الأستاذ صارماً في عدم السماح لمن يتأخر أكثر من عشر دقائق بالدخول. كان الطلاب يسمّونه ”الإنكليزي“ لأنه كان دقيقاً في مواعيده ولأنّه كان يلفظ بعض المصطلحات بالإنكليزية بإتقان وبدقّة مبالغ بهما. فتحتُ باب القاعة بهدوء وأنا ألهث. قلتُ لنفسي لربما يسامحني، لكنّه هزّ سبابته وأشار إلى ساعة يده ثم إلى بأن أغلق الباب. أغلقتُ الباب و ذهبتُ إلى الكشك خارج الأكاديمية واشتريت جريدة الجمهورية وقرأت عناوين الصفحة الأولى في طريقي إلى الكافيتريا. لا جديد غير البيانات العسكرية والانتصارات مستمرة. طويتها ووضعتها مع كتبي. ذهبت إلى الكافيتريا لأنّي لم أتناول الفطور في البيت. اشتريت سندويشة جبنة بيضاء وكوب شاي. لم أجد مقاعد فارغة في الكافيتريا وكان الجو دافئاً فخرجتُ ووجدت مصطبة خالية بالقرب من بناية قسم المسرح بالقرب منها مجموعة من طلبة المسرح يرتدون ملابس سوداء ويجلسون تحت نخلة. جلستُ ألتهم السندويشة وأنا أقرأ وبدأت كعادتي بالصفحة الرياضية. كان فريقي المفضّل، الزوراء، قد فقد إثنين من نجومه للمنتخب الوطني الذي بدأ يستعد لدورة آسيا ولذلك أخذ أداؤه يتدهور وخسر مباراة اليوم السابق التي خاضها أمام نادي النجف، الذي يحتل قعر القائمة، على أرض الأخير. انتقلتُ إلى الصفحة الثقافية وكانت هناك قصيدة باهتة عن الحرب وتحتها حوار مع ناقد تشكيلي و مقالة طويلة عن تأثّر كتاب أمريكا اللاتينية بألف ليلة وليلة وبالتراث العربي. سمعتُ أحدهم يصفّق. كان أحد أساتذة قسم المسرح وهو مخرج تجريبي بشعر أشيب منفوش يرتدي نظارات شمسيّة وبنطلون جينز مع قميص أبيض يطلب من الطلاب المتجمّعين تحت النخلة أن ينتبهوا إليه. عدتُ إلى المقال الذي بدأ يتحدّث عن بورخيس وقصة له عن إبن رشد لكني لم أستطع التركيز. سمعت صوت الأستاذ ثانية يشرح لطلابه التمرين الذي سيقومون به. طلب أن يقوم ثلاثة منهم بالجلوس على الأرض وبأن يتخيلوا بأنهم في قارب يغرق وأن يمثلوا ذلك الموقف بحرية ولكن بدون كلمات وطلب من الآخرين أن يراقبوهم. سأله أحد الطلاب عن نوع القارب، فقال الأستاذ: ”اللي يعجبك، المهم يغرگ“ فضحك معظم الطلاب. أثار التمرين فضولي فقمتُ من مكاني وجلستُ على مصطبة أقرب كي أراقبهم بوضوح وأتبين تعابير الوجوه لكنّي تركتُ مسافة كي لا يكون تطفّلي مزعجاً. نادى الأستاذ على ثلاثة طلاب بأسمائهم كي يكونوا أول من يؤدي و كانت ريم واحدة منهم. تربّعتْ على الأرض واحتضنت ركبتيها بذراعيها ونظرت باتجاه الأستاذ بانتظار إشارته. كانت ترتدي بنطلوناً هفهافاً أسود وقميصاً قطنيّاً أسود بياقة مفتوحة وبأردان طويلة كانت قد طوتها طيتين أو ثلاث فكشفت عن معصميها. كان شعرها الفاحم الطويل معقوصاً خلف رأسها.كنت قد لمحت وجهها من قبل في الكافيتريا وفي أروقة الأكاديمية، لكنها بدت لي كائناً شعريا ذلك الصباح، خصوصاً عندما بدأت تمثّل غرقها. كانت هناك طالبة أخرى جلست خلفها وكان الثالث طالباً فارع الطول بدا وهو يحاول الجلوس في المؤخرة وكأنه جمل يبرك، لكن عيناي تسمّرتا على ريم. أشار الأستاذ لهم بأن يبدأوا. بدأت ريم تنظر إلى الأسفل بين قدميها ثم إلى الأرض حولها، ثم وقفت و ركعت على ركبتيها وبدا هلع حقيقي على وجهها. تظاهرت بأنها كانت تحمل الماء الذي تسلل إلى القارب براحتيها وتدلقه خارج القارب. تسارعت وتيرة هذه الحركة لحوالي دقيقتين ثم توقفت ونظرت حولها ودارت حول نفسها ثم ركعت ثانية قبل أن تتشبّث بشراع القارب اللامرئي وتنظر حولها بهلع متزايد. ثم بدأ رأسها يرتفع شيئاً فشيئاً وأخذت تنظر إلى الأعلى. شكرهم الأستاذ وطلب من مجموعة ثانية أن تعيد الكرّة. عادت هي إلى الوراء وعدتُ أنا إلى بورخيس.
بعد التمرين رأيتها في الكافيتيريا لوحدها تقف في الطابور وكانت قد غيّرت ملابسها وارتدت تنورة رماديّة وقميصاً أبيض فاقتربت منها وقلت لها:
- چنت أريد أخلصچ من الغرگ بس ما أْعرف أعوم.
التفتت وقطبّت حاجبيها و سألتني بجديّة: - العفو. شنو؟
فأوضحت لها: “التمرين، اليوم الصبح. الغرگ. چِنِتْ گاعد وشِفْتِچ تغرگين.”
فضحكت واستدركت: ها. أي. شكراً على شهامتك. بس شنو الفائدة إذا متعرف تسبح؟
- النيّة مو مهمّة؟
ابتسمت وقالت:
- طبعاً، إنّما الأعمال بالنيّات.
بادرتْ إلى تعريفي باسمها ”ريم. . . مسرح.“ فقلت: ”تشرّفنا، جواد. . . تشكيليّة.“ كانت عيناها واسعتين: بسوادٍ ليليّ يغوي بالسهر فيهما، تنظران بثقة حين تتكلم وكانت تتكلم بشيء من البطء. الرمشان كانا كثيفين والحاجبان مشذبان بعناية. وكانت قد وضعت حمرة خفيفة وكحلاً. جاء دورها في الطابور الذي كان، للأسف، قصيراً، فاشترت قطعة بسكويت وقدح شاي بالحليب. عرضتْ أن تشتري لي شيئاً لتشكرني على نيّتي الصافية، كما قالت، فشكرتها واعتذرت لأنه كان عندي محاضرة بعد دقائق. لاحظتُ الخاتم الذهبي في يدها اليسرى وهي تعطي البائع النقود، فشعرتُ بوخزة في قلبي. يا لخيبتي! متزوّجة إذاً. وكل هذا الجمال من حصة رجل آخر ينتظرها أو تنتظره في نهاية اليوم! دعتني بلطف أحسسته حقيقيّاً لأن أنضم إليها وصديقتها التي كانت تنتظرها على إحدى الطاولات في زاوية الكافيتريا. لكنّي شكرتها وقلت لها إنّي سأتأخّر على المحاضرة وكنت قد غبت عن واحدة في الصباح. ”خيرها بغيرها لعد.“ توادعنا واتجهتُ نحو باب الكافيتيريا وقبل أن أخرج التفتّ ،نظرتُ نحو الطاولة التي جلست إليها فرأيتها تنظر نحوي أيضاً وتبادلنا ابتسامة. داريت خيبة أملي بفكرة أن نكون زميلين أو صديقين. ما المشكلة في ذلك؟ يمكن أن أروّض نفسي على الإعجاب بجمال إمرأة دون أن تكون هناك علاقة، أو حتى الأمل في علاقة من أي نوع سوى الصداقة. وجدتني أغنّي مع ناظم الغزالي ” يا أمّ العيون السود ما أجوزَن أنا“ وأنا أتجّه نحو المحاضرة كأنّي أفنّد، بلا وعي، ما أقنعت نفسي به للتو!
رأيتها مرة أخرى بعد ذلك بأسبوع على الرصيف أمام الأكاديمية وهي تركب سيارة زرقاء جميلة يسوقها رجل - بالتأكيد زوجها- يرتدي نظارات شمسيّة. لم أتبيّن من ملامحه سوى شاربه الأسود. ثم اختفت كليّاً ولم أرها طوال العام الدراسي. ذات يوم لمحتُ صديقتها التي كانت برفقتها في الكافتريا يومَ تعارفنا فقررتُ أن أستفسر منها عن سر اختفاء ريم. فقالت بأنها تركت الدراسة ”لأسباب شخصيّة“ ورفضت أن تضيف أية تفاصيل أخرى عندما سألتها عن طبيعة الأسباب وادّعت بأنها لا تعرف بالضبط. خمّنت بأنها ربما تكون مريضة. سألت آخرين في قسم المسرح فأخبروني إنّ الإشاعات تقول بأن زوجها منعها من مواصلة الدراسة. شعرت بالحزن عليها وتذكرت جديّتها أثناء ذلك التمرين ورشاقة حركاتها. بدا لي أنها كانت فعلاً تعشق ما تدرسهُ وليست من الذين ألقى بهم الدهر في الأكاديميّة وأُجبروا على دراسة الفن لأن درجاتهم في امتحانات الإعداديّة أو المنافسة لم تؤهلهم للحصول على اختيارات أخرى كانوا قد وضعوها على قائمتهم وكانوا يفضلونها على الفن وعلى دراسة لن تضمن لهم الكثير ماديّا.
١٠
تذكّرت أبي وهو يهزّ رأسه حينما تأكّد من جديّتي في وضع أكاديميّة الفنون الجميلة بأقسامها المختلفة على رأس قائمة اختياراتي بالرغم من أن معدّل الدرجات الذي حصلت عليه كان ٨٧،٨ ٪ وكان سيضمن لي قبولاً في عدد من أقسام الهندسة في الجامعة المستنصرية وفي جامعات المحافظات أو في اختصاصات أخرى كالحقوق والآداب والعلوم لو أنّي وضعتها على رأس اختياراتي.
سألني يومها بشيء من الاستهزاء:
- شتِطْلَع يعني بعد ما تخلّص؟ مدرّس رسم؟
فأجبته:
- يمكن مدرّس فنّيّة. شكو بيهه؟ ليش التدريس عيب؟ بس أكو وظائف أخرى ممكن الواحد يتعيّن بيهه.
ناولني قائمة الاختيارات وأجاب بالجملة التي كان يردّدها كثيراً:
- الواحد لازم يداري خُبُزْتَه إبني!
ثم أضاف بعد صمت ثقيل:
- إذا ما تريد تشتغل ويّايّه، على الأقلّ إدْرسلكْ شي ينفع الناس وينفعك! شي بيه خير!
أحزنني الموقف يومها مع أنّه لم يفاجئني أبداً فقد كان هذا هو رأيه الذي لم يتغيّر قط بالفن، إن كان يمكن أن يسمّى رأياً، ولم أكن أتوقّع أن يغيّره. لكنّي ربما كنت أفرط في تفاؤلي بتوقّع شيء من الاحترام لأنني لم أعد طفلاً أو مراهقاً. لكنه لم يغفر لي أبداً خروجي عن المسار وتفضيلي الفن على مهنة ورثها هو عن أجداده وكان يرى بأنها أكثر منفعة للبشر من الفن. طويت الورقة دون أن أقول شيئاً. حاولت أمّي، الّتي كانت تجلس على الطرف الآخر من الكنبة، أن تلطّف الموقف كعادتها قائلة:
- جواد بيه كل الخير. مُوفّق يُمّه وشايف كل خير.
رمقها أبي بنظرة صاحبها صمت خادع، ثم عاد إلى استكان الشاي الذي كان يحتسيه. تركتهما يشربان الشاي ويشاهدان التلفزيون وصعدت إلى غرفتي أحلمُ بالأكاديميّة وبالآفاق التي ستفتحها لي. تذكّرت الأستاذ رائد وتشجيعه لي في تلك السنة الاستثنائيّة. ترى أين هو الآن؟ حي يرزق أم مدفون في مقبرة ما؟
١١
“يقول فيثاغورس بأن هناك موسيقى في الحجر.” كانت هذه أوّل جملة ابتدأ بها الأستاذ عصام الجنابي محاضرته الأولى عن تاريخ النحت والتي مازلت أذكر تفاصيلها بوضوح. ثم أضاف إنّ غوته سرق هذه الفكرة واستخدمها في مقولة له عن المعمار وكيف أنّ المعمار موسيقى مجمّدّة. اجتذبني منذ أوّل يوم بشعريّته في الحديث عن الفن وعن الحياة بشكل عام. كان بارعاً في انتقاء المقولات الّتي تبلور مواضيع محاضراته أو توضّح الأفكار التي كان يشرحها لنا. وكان يستخدم الصور والشرائح التي يعرضها في الصف والّتي كانت تعطي محاضراته بعداً آخر وتميزّها عن أساليب التدريس الجافّة والمملّة للآخرين.
كان يومها على وشك أن يدخل عقده الخامس وكان قد عاد من إيطاليا قبل عدّة سنوات بعد أن أكمل دراساته العليا فيها. كان فنّاناً معروفاً تخطت شهرته الحدود إلى البلاد العربيّة وحظيت لوحاته التجريديّة بتقدير النقاد وله معارض فرديّة ومشتركة عديدة. كما كان يكتب بعض المقالات النقديّة في المجلّات والجرائد بين حين وآخر عن الفن وتاريخه. ما زلت أذكر بريق عينيه السوداوين حين كان يردّد واحدة من تلك المقولات ويكتبها على السبّورة. كان مظهره يطابق الصورة التفليديّة للفنّانين البوهيميّين بشعره الأسود المجعّد الأطول من بين كل الأساتذة وحتّى الطلّاب وبشاربه الكثّ ولحيته الطويلة التي كان يلعب بنهاياتها التي غزاها الشيب.
كانت القاعة شبه معتمة بعد أن طلب الأستاذ من الطلاب أن يساعدوه في إغلاق الستائر كي نرى الصور والشرائح التي كان سيعرضها بوضوح.كان هناك أكثر من ثلاثين طالباً وطالبة امتلأت بهم المدرجات. كنت أجلس في الخلف وأخرجت دفتري وكنت مستعدّا لأخذ الملاحظات.
كنت مشدوداً إلى كلامه ومعجباً بالصور والأعمال الرائعة. ولم ندرك بأن الوقت قد انتهى إلّا بعد أن بدأ بعض الطلاب الذين كانوا ينتظرون خروجنا ليدخلوا إلى محاضرتهم يطلون برؤوسهم من الباب ثم يعودون ليغلقوه عندما يروننا في الداخل. كان يجمع أوراقه ويضعها في حقيبته عندما اقتربت وسألته عن جياكوميتي. كان قد عرض صوراً لعمل من أعماله بعنوان “رجل يمشي” أثناء المحاضرة لفت انتباهي وأثار إعجابي. ابتسم وهو يضع حزام حقيبته حول كتفه وقال لي: ليش عجبَك؟ شنو اللي عجبك بيه؟ ارتبكتُ قليلاً لأنّني لم أكُن أفكّر كثيراً بالأسباب التي تدعوني لأن أحب عملا فنيّاً. كان الجمال يضربني في الصميم بتلقائيّة. تردّدتُ ثم قلتُ له: ما أدري بالضبط، بس حسّيت الإنسان اللي نِحَتَه معزول وحزين. ابتسم ولمعت عيناه وقال لي: عَفْيه عفْيَه. هواية نقّاد يگولون بأنّه أعماله تعبّر عن الرؤية الوجودية لحياة خاوية بلا معنى. قال الجملة الأخيرة بالفصحى بنبرة مختلفة. ثم قال لي: ذكّرني باسمك. فقلت له: جواد. قال لي: جواد. طبعاً حبّيته لجياكوميتي. شلون ما تحبّه؟ واصلنا حديثنا عن جياكوميتي والنحت التجريدي ونحن نخرج من القاعة حتّى وصلنا إلى مكتبه فدعاني للدخول. كانت الأوراق والكتب والقصاصات تتكدّس على مكتبه وكانت الرفوف المتخمة بالكتب تملأ الحيطان. وضع حقيبته على المكتب ثم جاء ليرفع أكوام الأوراق والجرائد من الكرسي كي أجلس عليه. وضع الأكوام على الأرض وطلب منّي بأن أجلس. نظرت إلى عناوين الكتب. كان معظمها بالعربيّة والإنكليزية، لكنني لاحظت بعض العناوين بالإيطاليّة. احتلت صورة كبيرة لجياكوميتي، بالأبيض والأسود، ما تبقى من الجدار. كان يحما إحدى منحوتاته الصغيرة ويمشي بين فمثالين كبيرين نحيفين أحدهما الذي رأينا صورته في المحاضرة. شدهني الصورة ولاحظ ذلك الأستاذ، فنظر إليها مطوّلاً هو الآخر كأنّه يراها لأوّل مرّة وقال: هذا هو صاحبك جياكوميتي بالاستوديو مالته. سألني عن خلفيتي وعن اهتماماتي واستمع بصدق إلى كل ما قلته. قال لي إنّه من خلفيّة فقيرة لا علاقة لها بالفن وأنّ والده كان عاملاً بسيطاً في معمل ورق وكان يريده أن يكون مهندساً لا فنّاناً. سألته إن كان قد التقى جياكوميتي في إيطاليا، فقال لي كلّا لأنّه مات عام ١٩٦٦ وبأنّه كان يعيش في سويسرا. قام من كرسيه وجاء إلى وسط المكتب ونظر إلى الرفوف باحثاً عن شيء ما وبعد أن جالت عيناه لنصف دقيقة مد يده وسحب أحد الكتب من الرفوف العلوية. كان كتاباً من الحجم الكبير وعلى غلافه اسم جياكوميتي بحروف كبيرة. نفض التراب عنه وأعطاني إيّاه قائلاً بأنّ كل أعمال جياكوميتي فيه ويمكنّني أن أستعيره على شرط أن أعتني بنظافته. فرحت كثيراً وقلت له بأنّني سأدرسه. نظر إلى ساعته وقال لي بأنّ محاضرته التالية ستبدأ بعد دقائق فاعتذرت منه وصافحته بحرارة وشكرته وودّعته.
انطلقت من مكتبه إلى المكتبة لأستعين بقاموس يساعدني في فهم النصوص المرفقة بالصور والشروح التي كانت بالإنكليزية. جلست أتصفّح الكتاب بشغف وأقرأ عن حياة جياكوميتي ومحطاتها المختلفة. كنت أنظر إلى صوره العائلية كأنه أصبح أحد أقربائي بعدما فتنتني أعماله وأردت أن أعرف الأسرار التي تكمن فيها. عرفت أنّه ولد عام ١٩٠١ في سويسرا ومات عام ١٩٦٦ وبأنه عاصر الحربين العالميتين ولعل هذا يفسر الحزن الذي يكتنف أعماله. درس في باريس مع بورديل الذي كان قد عمل مع رودان وتأثّر بالتكعيبيّة والسورياليّة وأدرج اسمه مع نجومها لكن عمله كان من الاختلاف والتميز بحيث يصعب وضعه في خانة واحدة. كان هناك صفحة في الكتاب جمعت فيها مقولاته وظلّت واحدة منها عالقة في ذاكرتي قال فيها بأن ما يريد أن ينحته هو ليس الإنسان بل الظل الذي يتركه خلفه.
كانت تماثيله نحيفة بشكل غريب كأنّها خيوط أو كأنّها مومياءات نحيفة تم نبشها وإخراجها من القبور. كان الجسد دائماً عاريّا وبأقلّ ما يمكن من التفاصيل. كما أنّ بعض الأعمال كانت ليد دون جسد تلوّح لوحدها. بدا لي الإنسان في عالم جياكوميتي، سواء كان رجلاً أو إمرأة، وحيداً وحزيناً، بلا معالم واضحة، يأتي من المجهول ويمضي نحوه.
١٢
في أول أسبوع من سنتي الدراسيّة الرابعة رأيتها تجلس لوحدها على مصطبة قرب بناية قسم المسرح وكانت ترتدي ملابس سوداء وتضع نظارات شمسية. اقتربت منها وألقيت عليها التحيّة. أجابت بلطف لكنها اعتذرت لأنها لا تعرفني أو تتذكرني. ذكرتها بإسمي وبنكتتي السمجة عن محاولة انقاذها من الغرق في التمرين وعن حديثنا القصير في الكافيتيريا، فتذكّرت واعتذرت قائلة بأن ذلك كان قبل أكثر من سنتين. سألتها عن السواد الذي كانت ترتديه، فقالت إن زوجها توفّي قبل شهرين. عزّيتها بمصابها فشكرتني وابتسمت. قالت إنّه كان ضابطاً استشهد في الجبهة. ذكرت لها أن أخي شهيد أيضاً. لم أشأ أن أثقل عليها فلم أسألها عن سرّ غيبتها، لكنّني سألتها إن كانت قد عادت إلى مقاعد الدراسة فأومأتْ بالإيجاب وبابتسامة. وهكذا أعادها الموت إلى دراسة الفن وإلى حياتي ثانية.
١٣
فاجأتُها ذات صباح بسؤال كان يدور بذهني لكنّني تردّدت كثيراً في طرحه:
- چنتي تحبّيه هواية؟
- منو؟
استغربت بأنّها لم تدرك أنّني أقصد زوجها.
- المرحوم.
أدارت وجهها ونظرت إلىّ بعينيها الساحرتين وكنا نجلس جنباً إلى جنب تحت النخلة التي كانت تحبّها، ثم نظرت إلى الأمام دون أن تقول شيئاً. فخفت أن أكون قد خدشت مشاعرها أو أيقظت جراحها التي لم تندمل بعد وقلت:
- إلعفو، مو قصدي.
ابتسمت وقالت:
- لا مو مشكلة. بس هذا موضوع حسّاس. لمّن أوثق بيكْ أكثر أجاوبك.
- وشوكت راح توثقين بيَّ أكثر؟
- لا تستعجل.
كنت حريصا بعد ذلك اليوم ألّا أسألها عن أى شيء له علاقة بزواجها وألّا أفتح الموضوع البتّة. بعد شهرين كنا نجلس في كافيتريا المعهد البريطاني القريبة من الأكاديميّة. سألتْني ريم عن علاقتي بأبي فذكرتُ لها صداماتي معه وخيبة أمله فيّ لأنّي قررت ألّا أواصل النهج بالعمل معه وإصراري على دراسة الفن الذي يعتبره إضاعة للوقت. فقالت إن أباها لم يهتمّ يوماً بما كانت تفعله أو تريد فعله أو دراسته.
ليته أصرّ على أن أدرس شيئا ما أو رفض أن أقدّم على الأكاديميّة. كنت سأفسر ذلك علامة على اهتمامه أو حبّه. لكنّه كان دائماً مشغولاً بتجارته وقلّما كنت أراه أو أجلس معه. ولم ينافس تجارته وأمواله أحد غير زوجته التي أضافها إلى صفقاته الرابحة بعد وفاة أمّي والتي حوّلت حياتي إلى جحيم عندما انتقلت للعيش معنا وحاربتني بشتى الوسائل. وكان خلاصي الوحيد هو الزواج. لم أحب زوجي وظنننت أن العيش معه سيوّلد حبّاً من نوع آخر. كنت قد أحببت شابّا يسكن في شارعنا عندما كنت في الثانويّة لكني أدركت فيما بعد بأنّها لم تكن علاقة جديّة أو عميقة. كلام مراهقين على الهاتف وهمس في الليل ولقاءات متباعدة كلما سنحت الفرصة. وبهتت العلاقة عندما انتقلت عائلته إلى منطقة السيديّة البعيدة ولم تكن لديه سيّارة. قلّت المحادثات الليليّة وانطفأ كل شيء. في العطلة الصيفيّة التي سبقت دخولي الأكاديميّة تقدّم لخطبتي أحد أقربائي. كنت قد رأيتهُ مرتين أو ثلاث في الأعراس. كان قد درس الهندسة (سيطرة ونظم) ثمّ أصبح ضابطاً في الحرس الجمهوري برتبة ملازم أوّل وحصل على نوطيْ شجاعة. كان قد رآني ذات مرة أخرج من المدرسة وعرض أن يوصّلني لكنّني شكرته ورفضت بأدب. واعترف لي فيما بعد بأنها لم تكن صدفة أبداً، بل محاولة منه للتقرّب وجسّ النبض. وبالرغم من أنّني لم أكن أؤمن بالزواج التقليدي، إلّا أنّ هدفي الوحيد كان التحرّر من زوجة أبي وقرّرت أنه لا مفر من أن أساوم. كان أياد وسيماً ومؤدبّاً أثناء الزيارات الأولى ومرحلة الخطوبة أثناء إجازاته الدوريّة كل ثلاثة أسابيع. وكان في غاية الرقّة والتفهّم ووعدني بأن أكمل دراستي وأكون مستقلّة. أعجبني نضجه، خصوصاً حين فاتحتهُ برغبتي في ألّا أنجب إلّا بعد إكمال الدراسة فوافق وقال لي بأنّه يريد أن يكون في بغداد لا في الجبهة عندما يولد أولاده كي يربّيهم بنفسه ويبدو بأن الحرب ستستمرّ لسنتين أو ثلاث. قررت أنّ الزواج هو أفضل خيار من بين خيارات كلها سيئة بما أن العيش وحيدة مستحيل ماديّاً واجتماعيّاً. لم يبال أبي كثيراً وكل ما قاله لي إنّه إنسان ناجح ومستقرّ مادياً وسيضمن مستقبلي. شعرت بأنّه يتحدث عن صفقة رابحة من صفقات الجُمْلة التي كان بارعاً في إبرامها. أما زوجة أبي فلم تبذل جهداً كي تخفي فرحها للتخلّص مني. كان الزفاف في فندق الشيراتون وشهر العسل أسبوعاً واحداً في بحيرة الحبّانيّة عاد بعده هو إلى الجبهة وأنا إلى عش الزوجيّة الصغير الذي اشتراه في زيّونة قرب بناية دار الأزياء. كان راتبه ممتازاً إلّا أنه كان قد ورث أموالاً من أبيه الذي كان قد توفيّ قبل سنتين في حادث سيارة. بدأت المشاكل منذ ثاني إجازة حين اكتشفت بأن أيّاد اللطيف الباسم كان مثل جبل يخفي في باطنه بركاناً من السهل أن يصبّ حممه على كل ما و من حوله. ولم يكن من السهل التنبّؤ بما قد يقلق البركان. الانفجار الأوّل كان بسبب إخفاقي في أن أرتقي بطبخي إلى ما يليق بذائقته. لم أكن ماهرة جدّا في الطبخ لكنّني حاولت بجدّ واستعنت بخالتي ونسخت وصفات جدّتي الشهيرة بيدي لكي أنال رضاه. قال لي إنّ قصعة الجيش أفضل بكثير من طبخي. اعتذرت منه ووعدته أن أتحسّن بالممارسة. كنت قد حذّرته أثناء الخطوبة من أنّني لا أتقن الطبخ لكنه قال لي يومها إنّه متعوّد على أكل الجيش وبأنّنا سنطبخ سويّة. لكن كلام الخطوبة المعسول كان كلاماً مثل كلام الأحزاب قبل الوصول إلى سدة الحكم.
كان يعتذر مني بعد أن يضربني ويمطرني بالقبل، خصوصاً على يدي، ويشتري لي هدايا ويعدني بأنّه لن يرفع يده وبأنها آخر مرة. لكن كل مرّة كانت آخر مرّة. كلفتني إحدى نوبات غضبه كسراً في ذراعي. كان الألم شديداً فأخذني إلى مستشفى الطواريء في الليل وقال لهم إنّني زللت وسقطت من على الدرج. ظللت صامتة ودموعي تنهمر. شعرت بأن الطبيب المناوب كان يشكّك في رواية زوجي، لكنه اكتفى بنظرات شكّاكة. فكرت بأن أصرخ قائلة إنه ضربني، لكن من سيصدّق أنّ الضابط الشجاع الذي قلّده الرئيس نوطي شجاعة يمكن أن يؤذي زوجته. قرّرت أن أعود إلى بيت أبي بعد تلك الحادثة. ألح هو واعتذر لكنّني كنت مصمّمة على أن أعود إلى بيت أبي. جاء أياد بعد يومين لزيارتي واقناعي بالعودة. كان قد تحدّث مع أبي وأقنعه بأنه كان سوء تفاهم بسيط.
حاولت أن أبحث عن حزن ما عند موته لكني لم أفلح. شعرت بالذنب لأنّني شعرت براحة، وكانت دموعي في العزاء حارّة وصادقة لأنّني كنت أبكي نفسي والسنين التي ماتت من عمري. أزور أمّه أحيانا لأطمئن عليها، فهي طيّبة وكانت تعرف قسوته وتقدّر معاناتي. مازالت صورته وهو يتقلّد نوط الشجاعة من القائد العام للقوّات المسلحة، صدام حسين، مؤطّرة وموضوعة فوق التلفزيون في بيتهم. وكلّما رأيتها تذكّرت وحشيّته.مسحت ريم دمعة خانت صلابتها وهي تسرد لي كل هذا الألم.
١٤
كنتُ أتسكّع في الإنترنت كما تعوّدت أن أفعل مؤخراً للهروب من عالمي إلى عوالم أخرى فعثرت على موقع لمظفّر النوّاب وتسجيلات لقصائده بصوته العذب. أعادني بيت من إحداها “شگد رازقي ونيّمته؟” إلى صباحاتي مع ريم قبل أكثر من عشر سنوات. والرازقي الذي كانت تجيء به من حديقتهم وتعطيني إيّاه. وعاد عطره الذي كان يتسلل إلى كل خليّة في جسدي، مثل صوتها الذي كان نديّا وفوّاحاً وهي تقول: هاي إلَك!
كنت قد مررت بعلاقتين قبل ريم، لكن علاقتي بها كانت الأكثر اكتمالاً ونضجاً من كل النواحي. كانت علاقتها العنيفة مع زوجها وطلاقها وما عانته قد جرحها، لكنّ كل هذا جعلها أيضاً أكثر ثقة وعمقاً من بقيّة النساء. كانت حذرة في السماح للآخرين بدخول عالمها ولم تكن تسمح للكثيرين بعبور تلك الحدود اللامرئية التي رسمتها لتدافع بها عن حيزّها الخاصّ. وكان حذرها يزداد بالذات مع الرجال، خصوصاً وأنّ الكثيرين منهم كانوا يظنّون بأنّ شابّة مطلّقة مثلها ستكون فريسة أسهل من غيرها.
كانت حذرة معي في بداية صداقتنا وأشعرتني أكثر من مرّة بأنّني أحاول حرق المراحل وبأنّني يجب أن أتمهّل. تعلّمت فيما بعد أن أصبر وأن أتسلّل إلى قلبها رويداً رويداً بدلاً من أن أحاول اقتحامه بطيش. وكانت خفة الدم والروح سلاحي الرئيسي في الوصول إليها. اقتنعت بأنّني سأظل أراقبها وأشتهيها وأدور في مدارها إلى أن نلتحم. تحوّلت الصداقة بمرور الوقت إلى شيء آخر، أكثر حميميّة. وبالرغم من أنّنا لم نتحدث عمّا كنّا نشعر به بالتحديد إلّا أنّ التقاء النظرات الصامتة للحظات كان يكشف الكثير ممّا يفوق التسميات. كما أنني كنت أشعر عندما كنّا نمشي أو نجلس لوحدنا كما لو أنّ الهواء بيننا يتبلل بنّا. كنت أُكْثر من رسمها وأهديها معظم تلك الرسومات والتخطيطات. كانت تشكرني بخجل وتقول لي: شنو، ماكو أحد غيري ترسمه؟ ماكو غير موضوع؟ فكنت أقول لها:
- لا، ماكو غيرِچ.
قلتُ لها ذات مرّة إنّني أحب أن أنحتها ذات يوم.
- والثمن؟
- ببلاش. هديّة. بس لازم. . . يعني، علمود يكون النحت دقيق. وأشرت لها بيدي أنّها يجب أن تكون عارية.
ضحكت ضحكة طويلة وقالت:
- لا بالله؟ هذي قديمة. جرّبها على وحدة غيري. لو تطلع نخلة براسك ما أرضى!
- مع الأسف، لو گلتي: لمّن تطلع نخلة براسك، چان على الأقل حاولت أزرع نخلة براسي.
- اذا چان أسلوبك تجريدي مثل ما تدّعي، شلّك بالـ ”موديل“؟
- إلهام يا زميلة.
- ماشاء الله على الزمالة!
بعدها بثلاثة أشهر دعتني، بدون مقدّمات، إلى تناول الغداء في بيتها. فسألتها عمّن سيكون هناك فقالت: ليش؟ خايف؟ ضحكتُ وقلت لها: لا، بس ممنوع السؤال؟ قالت: زوجة أبويه مسافرة للموصل وبابا بالشغل. تريد تعزم أحد؟ فضحكت وقلت لها: لا، يكفي آني وإنتي.
لم تكن المرّة الأولى التي أكون فيها معها في سيارتها لوحدنا. كنّا أحياناً نلتقي لمشاهدة عروض مسرحيّة ثم كانت توصلني إلى البيت. لكنّها كانت المرّة الأولى التي أذهب فيها إلى بيتها أو إلى أي مكان أْعرف بأنّنا سنكون فيه لوحدنا.
كان البيت جميلاً وكبيراً في منطقة الجادريّة. أدخلتني من باب المطبخ ثم تبعتها داخل ممر يؤدّي إلى غرفة الضيوف. طلبت منّي أن آخذ راحتي ريثما تسخّن هي الطعام. سألتها إن كانت تحتاج مساعدتي، فقالت: لا، إنت ضيفي. وسألتني إن كنت أرغب بشيء أشربه، فأجبتها بالنفي. ابتسمت وتركتني أتمعّن في أثاث الغرفة الباذخ و السجاد الإيراني النفيس. فكّرت وأنا أنتظرها بأنّ هذه فرصتي الذهبيّة، لكنّني تذكّرت أيضاً ما كانت قد قالته عن الصبر والثقة. هل هي مجرّد صدفة أن تدعوني إلى بيتها في اليوم الذي تكون فيه زوجة أبيها خارج المدينة؟
عادت بعد عشر دقائق تحمل شرشفاً تحت إبطها و الصحون بين يديها وفوقها الشوك والملاعق والفوط. وضعتها في زاوية الطاولة، ثم فرشت الشرشف الأبيض على الطاولة ورتّبت الصحون أمام كرسيين من الكراسي الثمانية، أحدهما على رأس الطاولة والآخر الذي كان بجانبه، بحيث نحتل زاوية من زوايا الطاولة الكبيرة. لم أكن متعوّداً على كل هذه التحضيرات من أجل وجبة. تبعتها إلى المطبخ فقالت ضاحكة:
- وين جاي؟
- ميصير. لازم أساعدِچ شويّة.
وضعت الرز الأصفر الذي كانت قد سخّنته في صحن كبير وطلبت منّي أن أحمله. كان مخلوطاً باللوز والزبيب وقطع الدجاج وتفوح منه رائحة الزعفران. أخذت الصحن ووضعته على الطاولة. عندما عدت إلى المطبخ أشارت إلى صحن سلطة كبير أخرجته من الثلّاجة وقالت: هذا هَمْ، عفيه. تبعتني وهي تحمل صينيّة فيها زجاجتا بيبسي وقدحان وبعض الخبز وجلسنا لنأكل.
كنت أحب أن أراقبها وهي تفعل أي شيء مهما كان عابراً أو عاديّاً. لأن العابر والعادي معها كان مختلفاً تلوّنه بلمساتها و تبلّله بوجودها. وكنت أحبّ أن أراقبها تأكل. كانت تحب الأكل وتستمتع به، لكنّها كانت تمضغ لقمتها بهدوء. أعجبني الأكل كثيراً فسألتُها عمّن يجب أن يمتدح لذلك فقالت بأنها الخادمة التي تأتي ثلاث مرّات في الأسبوع وهي طبّاخة ماهرة. سألتها عن معاركها مع زوجة أبيها فقالت إنّ السلام مسْتَتِب وإنّ أبيها حوّر البيت قليلاً بعد عودتها للسكن معهما وبنى غرفة إضافيّة بحيث أصبح الطابق العلوي كله لها. بجانب غرفتها هناك غرفة جلوس تستخدمها كمكتب وفيها تلفزيون وهناك حمّام وبذلك فهي تنزل إلى الطابق الأرضي للأكل فقط وقلّما تضطر للتعامل مع زوجة أبيها. قالت إنّّها ستريني ما سمّته جناحها الخاص بعد الغداء وابتسمت بخجل. ففسّرت ذلك على أنّه إشارة إيجابيّة تشجّعني على أن أخطو الخطوة التالية نحوها. بعد أن انتهينا من الأكل شكرتها وحملنا الصحون إلى المطبخ. قالت لي إنّني يمكن أن أغسل يدي في الحمام الذي في الطابق العلوي. صعدنا الدرج الذي كان من المرمر إلى باب خشبي فتحته هي وأقفلته وراءنا. كان أوّل باب على اليسار هو للحمّام. فتحتْ بابه وأشارت لي بالدخول. وقالت إنّها ستجيء بمنشفة جديدة. كان الحمام أكبر من غرفة نومي، وكانت حيطانه وأرضه من الكاشي الأزرق الفاتح غطته سجادّات صغيرة بلون أزرق غامق. وكان فيه حوض للاستحمام استلقى خلف ستارة شفّافة. كانت المغسلة سماويّة اللون بيضويّة الشكل. فتحت صنبور الماء ووازنت بين الماء الحار والبارد. التقطت الصابونة الصفراء وصوبنت يدي وفمّي. أعجبتني رائحتها الّتي كنت أشمّ ما يشبهها من بشرة ريم حين تقترب منّي. تمضمضتُ وغسلتُ فمي ويديّ ثم أغلقت الصنبور. جاءت تحمل منشفة بيضاء ومدّت يدها نحوي قائلة: تفضّل. أمسكتُ المنشفة بيدي اليسرى لكنّني وضعت يدي اليمنى على يدها اليسرى. لم تسحب يدها. قلتُ لها: أريد أَغسّلّچ إيديچ. فضحكت متفاجئة وقالت: شنو؟ ليش؟ سحبتها إلى المغسلة برفق وفتحت الماء من جديد. وضعتُ المنشفة الجديدة على فوق المنشفة التي كانت على المحجّل الذي كان إلى يمين المغسلة. أمسكت يديها ووضعتهما تحت الماء وبللتُهما. لم تقل شيئاً. ثم أخذت الصابونة وفركتها بيدي وصوبنت اليد اليمنى بعناية: ظاهرها وباطنها، ثم وضعت كل إصبع بين إبهامي وسبّابتي وصوبنته. كرّرت ذلك مع يدها اليسرى، ثم بللتهما بالماء وأغلقت الصنبور. كانت تنظر إلىّ وتبتسم طوال الوقت. أخذت المنشفة وفتحتها وأمسكت بيديها لأجففهما. بعد أن أعدت المنشفة أمسكت بيديها ونظرت إلى عينيها. ابتسمت وقالت بصوت خافت: شكراً. شعرتُ بأنّ جسدها كان مستعدّاً لاستقبالي. سحبتها نحوي وقرّبتُ وجهي إلى وجهها، لكنّها ابتعدت. شعرت بخيبة أمل للحظة، لكنّها أعادت لي الأمل عندما قالت: خلّيني أغسّل حلگي أوّل. وضحكت وأضافت: ما غسّلتليّاه. روح انتظرني هسّه أجي. وقفتُ خارج باب الحمّام أراقبها وهي تغسل فمها. نظرتْ إلى في المرآة وابتسمت. جفّفته بالمنشفة ثم أعادتها إلى مكانها. فتحت الدولاب الّذي كان فوق المغسلة وأخرجت قلم حمرة لوّنت به شفتيها باللون الوردي الذي كانت تحبّه. أعادت أحمر الشفاه إلى الدولاب وأغلقته ثم جاءت إلى باب الحمّام وأغلقته وراءها واتّكأت على الحائط بجانبه على بعد خطوتين منّي. اقتربتُ منها ووقفت أمامها. تبادلنا نظرة تأوّه عبرها البؤبؤان. ملت نحوها وأنا أنظر إلي شفتيها. أغلقت عينيها، فطبعت قبلة خفيفة على شفتيها وأردفتها بأخرى، ثم قبّلت زاوية فمها اليمنى وزحف فمي نحو خدها الأيمن يطبع قبلات خفيفة ثمّ عرّج نحو رقبتها وأنا أضع يدي حول خصرها. تأوّهت ومالت برأسها قليلاً. أحسست بيديها علي ظهري. قبّلت رقبتها واستنشقت عطرها الياسميني الذّي ظله يدوّخني لأشهر. طوّقت رقبتها بقبلاتي ثم تسلّق فمي رقبتها قبلة قبلة نحو حنكها. أسرت شفتها العليا بين شفتيّ قبل أن أنتقل إلى السفلى. فتحت فمها وبدأنا نتلاسن. قرّبت فخذيها منّي وأحسّت بانتصابي. وضعت يدي اليمنى على نهدها ثم حاولت أن أفكك أزرار قميصها فأمسكت بيدي وأنزلتها. أبعدتني برفق دون أن تقول شيئاً، ثم مشت نحو باب كان في نهاية الممر فتبعتها. كانت غرفة نومها واسعة ومفروشة بسجّادة إيرانيّة جميلة وجدرانها مطليّة بالأبيض. في الجانب الأيمن منها سرير متوسّط الحجم أغطيته بيضاء و على الحائط فوقه صورة فوتوغرافيّة كبيرة بالأبيض والأسود مؤطّرة بإطار معدني لطاولة عليها كتاب مغلق وبجنبه قدح قهوة فارغ في مقهى يبدو أنّه في مدينة أورپيّة. في الجانب الأيسر كان هناك مرآة كبيرة وأمامها طاولة وكرسي وبجانبها خزانة ثياب من الخشب الصاج. وقفت عند السرير واستدارت نحوي. كانت ترتدي قميصاً أبيض بأزرار وتنّورة رماديّة تصل إلى ركبتها مع حذاء أسود. اقتربت منها وقبّلتها بثقة أكبر هذه المرّة. طوّقتني بذراعيها. بدأت أفك أزرار قميصها الأبيض فبدت حمّالة صدرها البيضاء تخبّئ نهديها الممتلئين. أزحت القميص كي أقبّل كتفها الأيسر ثم قبّلت أعلى ذراعها وأحسست بشفتيها على رقبتي فسرت حرارة في عظامي. عدت إلى كتفها وأزحت شريط حمّالة الصدر وقبّلته ثانية ثم نزلت بلساني نحو سفح نهدها الأيسر وشممت عطرها عند ملتقى النهدين. خلعت عنها قميصها وألقيت به على السرير. عانقتها وقبّلت رقبتها ثانية وحاولت أن أحل حمّالة صدرها لكنّني فشلت. ضحكت وفتحتها هي وألقتها على الأرض وبدأت تفك أزرار قميصي وأنا أقبّل نهديها الكمثريّين وألثم حلمتيها المستنفرتين. نزعته عنّي فسقط على الأرض. خلعت حذاءها ففعلت ذات الشيء ودفعته جانباً وانحنيتُ لأخلع جوربيّ بسرعة، فوجدت فمي قريباً من سرّتها فقبلتها. تدغدغت وضحكت وغطتها بيديها. قشّرنا بعضنا البعض قطعة قطعة حتّى بقي سروالها الداخلي الأسود الذي أنزلته أنا ثم أمسكت هي به من الجانبين وأنزلته إلى قدميها. كانت عانتها حليقة. أمّا أنا فكنت ما أزال بسروالي الأبيض، فنزعته وكنت منتصباً. لم يبق إلّا السلسلة الذهبية التي تحمل اسمها والتي كانت ترتديها حول عنقها.استلقت على سريرها بالعرض. انحنيت وقبّلت ركبتيها ثمّ تسلّقت فخذها الأيسر بشفتي إلى وركها ثم بطنها وسرتها مرّة أخرى لتتدغدغ فتتدغدغت وضحكت ووضعت يدها على رأسي تداعب شعري. أصبحت فوقها. أخذت حلمتها اليسرى بين شفتيّ ومصصتها ودار لساني حولها عدّة مرّات ثم انتقلت إلى الحلمة اليمنى وكرّرت دوران لساني. كانت هي تتأوّه وتتموّج تحتي. صعدت إلى رقبتها ثم إلى فمها من جديد. بادرت هي إلى تقبيلي هذه المرة. عضضت شفتها السفلى برفق وجاس فمّي داخل فمها. ثم هبطت بفمي نحو نهديها وحلمتيها، ثم سرّتها وقبّلت ما تحتها. كانت قد فتحت فخذيها بعض الشيء. حوطتهما بذراعيّ وطبعت قبلات رقيقة على باطنيهما الناعمين فازدادت تأوّهاتها قوة. قبّلت ما بينهما. كان طعمها كطعم البحر. ظللت أحرث بلساني وهي تتموّج إلى أن فاض جسدها برجّات وآهات انتهت بصرخة مكتومة خمد كل شيء بعدها لدقيقة ظل فيها رأسي متّكئا على فخذها. سحبتني من يدي حتى أصبحت فوقها .عانقتني وقبّلتها قبل أن تطوّق ظهري بساقيها. دخلت فيها وأنا أنظر في عينيها الواسعتين. ظلّ جسدي يدخل جسدها بإيقاع تسارع حتّى أحسست بأنّني سأفيض فانسحبت وأمطرت خارجه وأنا أصهل كحصان بريّ أسقطني منهكا بجانبها. خيّم صمت لذيذ بيننا ولم نقل شيئاً عمّا حدث كأنّه شيء عادي.
أعجبتني ثقتها بنفسها والطريقة التي وقفت بها ووضعت يديها على خصرها وقالت:
- يلله تريد تنحتني هسّه؟
وضعتُ يدي على رأسي وقلت لها:
- بس ما طلعت النخلة بعد.
- ميخالف، نمشّيلكياها؟
فوضعت يدي على خدها.
أكاد أسمع صوتها الآن وهي تغنّي لي كما كانت تحب:
”جواد جواد مسَيّبي/ إنتَ سبيت أهل الهوى/عَجَب انت ما تنسبي/ ولا أحلفك بموسى النبي/محمد جواد مسيّبي/يُمّه لزمتني الخوفة/أخاف أحچي من الطوفة/تجي أمك وتشوفك/فايت على قنبر علي/ محمد جواد مسيبي”
لو كانت هنا في بغداد لما تمكّنت من رؤيتها أصلاً، فهي في الخندق المعادي وبغداد التي كانت سجنا كبيراً يمكن التجول داخله بحرية صارت الآن سجوناً متلاصقة تحرسها المليشيات، سجّان يحضن سجّان وبأسوار كونكريتيّة عالية.
١٥
كنت أشاهد التلفزيون لوحدي وأقلب القنوات لكنّها كانت جميعاً بلا صوت أو صورة. كان البياض يغطّي كل شيء. البياض الصامت. ضربت التلفزيون بيدي عدة مرّات بلا جدوي. ظللت أقلب القنوات بحثاً عمّا قد يداوي أرقي ويسلّيني ، فوجدت قناة واحدة تعمل ظهر فيها خمسة من الملثمين يقفون حول رجل يركع على الأرض يرتدي بدلة برتقالية وعلى رأسه كيس أسود. كان أربعة منهم يمسكون بأسلحتهم وكان زعيمهم يقرأ حكم الإعدام على الأسير الراكع. توقّف الزعيم عن القراءة ونظر إلىّ وقال محذّراً: من الأفضل لك أن تغيّر القناة فسيرعبك ما ستراه فلست رجلاً. عاد إلى الورقة وبعد أن أنهى كلمته طوى الورقة ووضعها في جيبه وناوله أحد الملثمين الذين كانوا يقفون خلفه سيفاً. رفع الزعيم الكيس الأسود عن رأس الرجل الراكع الذي بدأ ينتحب كطفل وأمسك بشعره الأشقر . أمال رأسه إلى اليسار ورفع سيفه وهوى به عليه فقطعه بضربة واحدة وهو يتمتم: االله أكبر، االله أكبر. شعرت بالتقزز وأطفأت التلفزيون لكن الدم بدأ يسيل من الشاشة ويكسو كل شيء بالأحمر.
١٦
صعقتُ أمس وأنا أكشف وجه أحد الذين غسلتهم. كان شديد الشبه بصديق عزيز لي مات قبل سنين. نفس الوجه المستطيل والخدود البارزة والأنف الطويل. أما البشرة فكانت بلون القهوة وهو لون العينين .كانت العينان مسبلتين طبعاً في محجرين غارا بعض الشيء وفوقهما حاجبان كثيفان كانا على وشك أن يصافحا بعضهما البعض. لكنّي رأيته ميتاً بين يدي مرّة من قبل، قلت في سرّي، والاسم المكتوب على الورقة كان ”محسن.“ كانت العلامة الفارقة التي اكتسبها شبيه صديقي ثقباً في وسط الجبين من جرّاء رصاصة كانت بمثابة النقطة التي أنهت سطور حياته. قال أحد الرجال الذين أحضروه بأنه صاحب محل قُتِلَ في عمليّة سطو. قلت في سرّي: حمداً لله، ليس قتلاً طائفيّاً. لكن هل يهم الميّت كيف ولماذا يموت؟ سرقة، طمع، كره، طائفية؟ نحن الذين لم يصلنا الدور نظل نقلّب أمور الموت بينما الميّت يموت ولا يأبه. سألتهم إن كانوا من أهل السماوة فلعلّه يكون أحد أقرباء باسم؟ لكنهم قالوا بأنهم من العمارة. سألني أحدهم ” خير انشالله؟“ فأجبته ” ماكوشي، بس المرحوم يشبه واحد چان صديق عزيز من السماوة، گِلِتْ يجوز گرابة.“ فأجاب بالكليشة المعتادة. ”يخلق من الشبه أربعين.“
أصبح باسم قريبا منّي أيام الخدمة العسكريّة. بغياب الواسطة التي يمكن أن تبقي المرء قريباً من أهله، كان مصير الجندي في سنين الخدمة العسكرية كرمية النرد. ورمتني يد العبث أو الصدفة، بعد شهرين من التدريب القاسي، في جنوب العراق. تم تكليفي بالالتحاق بوحدة عسكرية صغيرة في السماوة. بعيداً عن بغداد وعن كل شيء عرفته في حياتي. كلفت بالالتحاق ببطارية صواريخ مضادة للطائرات مركزها، المؤقت، معمل اسمنت السماوة. كانت الوحدة على بعد ٢٧٠ كيلومتراً جنوب بغداد، في منتصف الطريق إلى البصرة. كانت الرحلة تستغرق حوالي ثلاث ساعات. أضحيت بعيداً عن كل شيء وكان هذا البعد، على عكس ما توقّعت، إيجابيّاً. كنت أشتاق إلى ريم طبعاً ولم يكن هناك أية وسيلة للاتّصال بها. لم تكن حياة الجيش سهلة، لكن الآمر كان إنساناً طيّبا ومتساهلاً ولم تكن لدينا واجبات كثيرة. كان معمل الأسمنت قد نهب بُعيْد حرب ١٩٩١. بعد إجازتي الأولى عدت إلى الوحدة محمّلاً بالكتب لكي أسلّي نفسي واشتريت ورق تخطيط.كان عندي راديو صغير استمع فيه إلى الأخبار والأغاني في الليل. كان هناك جهاز تلفزيون في الوحدة وكان يمكننا أن نشاهد برامج بغداد و التلفزيون الكويتي أحياناً لكن الإرسال كان ضعيفاً وكنت أفضّل الراديو. لم افتقد الكثير من بغداد لأنّي أحببت الهدوء والطبيعة الحانيّة.أمضيت وقت فراغي بالقراءة والتخطيط والتأمّل. ومن يومها أطلق عليّ باسم صفة المثقّف وبدأ يناديني “أستاذ جواد.”
أعدت اكتشاف جمال النجوم في الليل. لم أكن أدرك من قبل أن السماء تحتشد بهذا العدد الهائل من النجوم. كنت أحب النظر إليها في الليل حين كنا ننام على السطح في الصيف أيام الطفولة. لكن هذا ما يحدث لنا نحن أبناء المدن حين نبتعد عن بريق المدن المزيّف. فوجدتني أرعى النجوم كل ليلة.
هناك تعرّفت عليه. لم أعرف ذلك في البداية لكنه كان نجمتي التي أضاءت لي ليل المكان. كان من أبناء السماوة وكان أحياناً يستأذن الآمر، الملازم أحمد، بالنزول إلى مدينته مساء الخميس والعودة مساء الجمعة وكان الآمر يوافق، خصوصاً أن باسم كان يجلب بعض الحاجيات التي كنا نحتاجها في الوحدة أحياناً من سكائر وشاي وسكر وأن تموين الجيش لم يكن منتظمّاً مثل قبل. كان والد باسم، الحاج محمد السوداني، ميسور الحال ويمتلك محلات تجارية في سوق السماوة وكان باسم قد درس التاريخ في جامعة البصرة. وكان صاحب نكتة ومليئاً بالفضول وبحب الحياة والآخرين. تجلجل ضحكته في كل مكان. كان يشاكسني كثيراً ويسخر مني على أساس أني ابن المدينة الكبيرة الذي لا يعرف الصحراء ولا يعرف من بلده غير العاصمة. دعاني أكثر من مرة في الأسابيع الأولى لأن أرافقه وأنزل ضيفاً على عائلته في المدينة، لكنّي كنت أشكره وأعتذر. كرّر الدعوة أكثر من مرة وتأكدت من صدقه وبأنها لم تكن مجرّد مجاملة فوافقت، خصوصاً أنه وعدني بأن يعرّفني على السماوة وبأن نزور مدينة الوركاء الأثريّة التي كانت قريبة منها. كان باسم مولعاً بتاريخ المنطقة وبطبيعتها وفخّوراً بها. هو الذي دلّني على بحيرة ساوة حين أخذني إليها بسيارته في أول شهر من الخدمة. كنت قد قرأت اسمها في دروس الجغرافيا، لكن دون أن أعرف التفاصيل المثيرة والغريبة التي أخبرني عنها باسم والتي جعلتها من الأماكن المحببة إلى نفسي. ظننت بأننا ضعنا لأول وهلة فلم أبصر الأزرق ولم أصدّق أن بحيرة بهذا الحجم يمكن أن تزهر في خضم هذه الصحراء. لم أر شيئاًِ في الأفق، لكنه قال لي بأنه من الصعب رؤيتها عن بعد لأنهاترتفع خمسة أمتار عن كل ماحولها وبأنّها محاطة بجدار كلسي طبيعي. ولم يكن هناك نهر يغذّيها بل كان مصدر مياهها باطن الأرض وكانت تغذي الفرات عبر نهر العطشان الذي يصرف مياهها. قال لي باسم بأنها العين التي تفجّرت منها المياه حين غمر الأرض الطوفان في عهد نوح ثم تراجعت المياه وما بقي منها آنذاك إلا ساوة. سألته يومها ممازحاً إن كان قد قرأ هذا في كتب التاريخ في جامعة البصرة، فقال بأنه التاريخ الشعبي وبأنني أغار لأنّ بغداد بلا بحيرات. أجبته يكفي بغداد دجلة. قال بأنها البحيرة الوحيدة في العالم التي تتغذى كليّاً على المياه الجوفية. وأضاف بأنّها مذكورة في معجم البلدان للحموي وأنّ تاريخها يعود لعصر ما قبل الإسلام حيث كانت هناك مدينة إسمها أليس كانت معسكراً للفرس ودارت فيها رحى معركة بين القبائل العربية والفرس أيام الفتوحات. كما أنها مذكورة في وثائق العثمانيين وكانت أيامها قرية تقع على نهر العطشان قبل أن يغيّر مجراه بعد فيضان كبير عام ١٧٠٠! فكّرت في نفسي: حتى الأنهار تغيّر مجراها وحياتها! وشعرت بأنني نهر يحاول، ربما عبثاً، ألا يصبّ حيث تريد له الخارطة أن يصب.
خرج عن الطريق المعبّد باتجاه اليمين وساق على طريق مغطى بالحصى والرمل لخمس دقائق ثم أوقف السيارة وقال وهو يفتح بابها: تعال يا مثقّف وستظل تشكرني لأنّني عرفتك على ساوة. خرجت ودرت حول السيارة ومشيت بجانبه. كانت الشمس على وشك السقوط في الأفق وقد اتّشحت بالبرتقاليّ كعادتها أحيانا. بدأت ألحظ أن السماء قرب الأُفق أصبحت أكثر زرقة. بدأ الطريق الذي كنا عليه يعلو ولاح سطح البحيرة الهاديء. وقف باسم عند الحافة ووقفت بجانبه. “عمرك شفت هيچ شي؟” كان جمال البحيرة خلاباً ووقع زرقتها بلسماً للروح التي تعطش تحت قسوة الصحراء التي كانت تحيط بنا ليل نهار. كان جرفها غريبا تغطيه تكلّسات تشبه نبات القرنابيط وتجاويف تحفرها الأملاح التي تملأ ماء البحيرة تكوّن ما يشبه سياجاً يحيط بها من كل مكان بفعل الأمواج. سألته عن الأسماك في البحيرة فقال إن هناك نوعا واحدا فقط لكنه لا يؤكل. تقرفصنا ومددت يدي لألمس ماء البحيرة وكان بارداً جداً مثل هذا الماء البارد ومثل جسد هذا الرجل الذي يشبه باسم كأنه توأم. شعرت بالذنب فهاأنذا أغسل جسد رجل ميت وأفكاري تسرح في تجاويف ذاكرتي. هل كان أبي يفعل ذلك أيضاً أم أنه كان يركّز على طقوس عمله طوال الوقت؟ هل هذا ممكن؟ هاأنذا أقوم بالطقوس بطريقة شبه ميكانيكيّة.
كنّا نهرب إلى البحيرة كلما سنحت الفرصة ونجلس على ساحلها وندردش. لمحت ذات مرة ونحن نتجوّل بسيارته هياكل بناء بالقرب من البحيرة فسألته عنها. قال إنها “أطلال سياحيّة.” كانت وزارة السياحة قد شيدت في أواخر الثمانينيات عدداً من الشقق السياحية ومطعماً كمحاولة لتشجيع السياحة إلى البحيرة وأصبح الموقع قبلة لسفرات،عائلية وطلابية، لكن المكان نهب واندثر بعد حرب ١٩٩١. طلبت منه أن يأخذني هناك. كان المنظر حزيناً. لم يبق سوى الهياكل الكونكريتية للشقق التي كانت قد بنيت على ارتفاع كأنها معلقة، ربما لكي يمكن النظر إلى البحيرة من داخلها. بدت كأنها هياكل عظمية لحيوانات خرافية جاثمة عند أقدام البحيرة.
كانت الطائرات الأمريكية تحوم في السماء وبالقرب من وحدتنا طوال الوقت وكنّا نسمع عن قصف مواضع مقاومات الطائرات بعد فرض منطقة الحظر الجوي في جنوب وشمال العراق منذعام ١٩٩٢ والتي كان يفترض أن تمنع النظام من قمع المواطنين لكن الطائرات الأمريكيّة كانت تقتل الأبرياء وحتى الرعيان أحياناً. لا أدري هل كان ذلك غباءً أم أنّ الطيارين كانوا يستخدمون العراقيين كأهداف للتمرين واللهو. شدّد آمرنا على ألا نأبه للطائرات وألا نحاول استفزاز العدو وألا يقفل الجنود في البطارية على الصاروخ ويعطوا للطيار ذريعة لمهاجمتهم وأن نظل دائماً في وضع دفاعي وأن نرد فقط إن هوجمنا. وهكذا مرت شهور طويلة بسلام.
ذات فجر صحونا على دوي انفجارٍ قويٍّ هزّ االمعمل، كما كنا نسمّي الوحدة. تبعه انفجاران آخران هزّا الأرض ثم صوت تساقط حجارة وحصى على السقوف والنوافذ وأزيز طائرة تبتعد. نهضتُ بسرعة وارتديت ملابسي والبسطال والخوذة على عجل وهرعت مع الآخرين إلى الخارج. تذكرت أن باسماً كان في واجب مناوبة الليلة البارحة خارج البناية الجنوبية التي تموضعت خلفها بطارية الصواريخ وشعرت بغصّة خوف من أن يكون قد مسّه ضرر. كان القصف قد أثار زوبعة من الغبار الذي بدأ يدخل في فمي وعيني وكانت بعض الشظايا قد تناثرت في الساحة الفاصلة بين البنايتين وفاحت رائحة البارود. كان الكل يركض نحو البناية الجنوبية التي كانت على بعد حوالي مئة متر من المبنى الرئيسي. كانت قد تحطمت وانخسفت الأرض بها ولم يبق منها سوى واحد من أعمدة الأركان الأربعة، خصوصاً أن سقفها كان من المصفح المعدني. عمّت الفوضى وتجمّع بعض الجنود محاولين رفع القطع المعدنية وكتل البلوك الرمادي للبحث عمّن قد يكون تحت الأنقاض. درت حول ركام البناية لأبحث عن باسم أو أسأل عن مصيره. كنت أستهزئ بالذين يقولون إن “قلبي علمني” قُبَيْل حدوث مصاب أليم، لكنني، وأنا أهرول نحو خلفية البناية، أحسست أن قلبي أصبح بئراً عميقة تمطر عليها الأحجار من كل صوب. كانت أغصان الأشجار المحيطة بقاعدة الصواريخ تحترق. تبيّنت الشاحنة التي تحمل الصواريخ المضادة للطائرات وكانت قد أصبحت كتلة من ألسنة اللهب المتصاعدة و كان بعض الجنود قد أخذوا يحاولون إخمادها بالطفّاية وبالتراب. كانت القطع المعدنية والشظايا متناثرة في كل مكان. لمحت على بعد عشرين متراً إلى اليمين جسداً مكوماً فركضت نحوه. كان جاثماً على بطنه لكنّني عرفته من شعره.كان سلاحه ملقى على بعد ثلاثة أو أربعة أمتار . صرخت بأسمه وأنا أركض نحوه، لكنّه لم يتحرّك. كانت ذراعه اليسرى ملوية إلى الخلف بشكل غريب وبدا أنها مكسورة. ركعتُ عنده وأمسكت به من كتفيه وقلبته إلى اليسار. بدا ثقيلاً و لم يبد أي رد فعل. كانت عيناه القهوائيتان مفتوحتيْن تنظران إلى الأعلى. وكان الدم يسيل من أنفه ومن زاوية فمه ويغطّي شاربه. ناديته ثم وضعت أذني على صدره لأصغي لكنّي لم أسمع سوى أنفاسي وصراخ الآخرين. رفعت رأسي وأمسكت بيده ووضعت إبهام يدي اليمنى على باطن رسغه الأيمن بحثاً عن نبض، لكن دون جدوى. أسبلت جفنيه. قبّلت جبينه وعانقته ولا أذكر كم بقيت بجانبه أبكي.
كان باسم واحداً من ستة جنود قضوا في ذلك اليوم. في المساء رافقتُ جثمانه في سيارة عسكرية من الوحدة وكان الآمر قد كلّفني بأن أبلّغ أهله رسميّاً. لم يقل أبوه الذي كنت قد قابلته قبلها مرتين ، شيئاً سوى “ لا حول ولا قوة إلّا بالله” إلا أنه سألني: “خوما تعذّب؟” فأجبته بالنفي مع أنّي لم أكن متأكدّا من ذلك. كان بين لحظة الانفجار وعثوري عليه ست أو سبع دقائق لا أكثر. لا أحد يعرف الألم الجسدي الذي ربما كان قد كابده فيها. طلبت الإذن من الآمر بالنزول إلى السماوة لحضور اليوم الأول من مجلس العزاء ووافق.
لم يتم إصلاح أو إعادة بناء البناية الجنوبية. تم تكويم الركام كلّه في تلة صغيرة وظلت هي وما تبقّى من هيكلها طللا يذكّرني بباسم كل صباح. شعرت بغربة مضاعفة بعد موته. فقد كان صديقي الوحيد ولم أكن قريباً من أي من الجنود الآخرين. لم أذهب إلى البحيرة بعد موته إلّا مرة واحدة قبل تسريحي بأسبوع. أردت أن أودع ذكراه هناك.
وضعت قليلا من القطن في الثقب الذي خلّفته الرصاصة على جبهته وفي منخريه، بعد أن كنت قد وضعت الكثير منه بين فخديه وفي مخرجه، وبدأت استعد لتكفينه.
١٧
في شتاء ٢٠٠٣ بدا أنّ الحرب قادمّة لا محالة، مرة أخرى.سألتْ أمّي أبي عمّا سنفعله: شنسوي حجّي؟ نظلّ ببغداد؟ فقال لها: أي لعد وين نروح؟ إذا الله يريد ياخذ أمانته ياخذهه هنا. هاي مو أوّل حرب، بس إنشالله آخر وحدة. كافي عاد زهگنه.
سألتني أنا أيضا أكثر من مرّة وكأنّني أعرف الجواب: شلون جودي شراح نسوّي؟ فكنت أقول لها: نگعد وننتظر. لكنّنا كنّا نستقبل الحروب كمّن يستضيف زائراً يعرفه تمام المعرفة فيهيئ له كل ما يمكن لتكون إقامته خفيفة. في الأسابيع الأخيرة قبل بداية الحرب اشترينا الكثير من الشموع وكميّات إضافية من المعلّبات تحسباً لما سيحدث. وذهبت أمّي إلى النجف لأنّها أرادت أن تزور قبر أمّوري مرّة أخيرة قبل الموت.
تذكّرت كيف استعددنا لحرب ١٩٩١ وغلّفنا شبّاك الحمّام بالورق وبالشريط اللاصق من الخارج والداخل، كما نصحونا على التلفزيون، على أساس أن ذلك سيحمينا من هجوم كيمياوي. وتركنا ما يكفي من قناني الماء البلاستيكيّة داخل الحمّام لعدة ساعات. كانت تساعدني في وضع الشريط اللاصق عندما سألتها عمّا سنفعله إذا اضطر أحدنا لأن يذهب إلى الحمّام ونحن الثلاثة فيه، فضربتني على كتفي وأغلقت عينيها متقزّزة من الفكرة وقالت: شنو هاللعبان النفس هذا جودي؟ كافي! بعد أسابيع من القصف استيقظنا ذات صباح لنجد السماء سوداء. كان دخان آبار الكويت المحترقة يغطّي السماء. سقط مطر أسود بعدها بلل كل شيء بالسخام كأنّه كان ينبئنا بما سيأتي.
١٨
كان أبي يصلّي كعادته في غرفة الضيوف الصغيرة المجاورة لغرفة المعيشة ولم يكن يصلّي في غرفة النوم. كان عمر الحرب عشرة أيّام وكنت في صراعي المزمن مع الأرق وسمعت وقع أقدام أبي بعد دقيقتين من صوت الأذان وهو ينزل الدرج من الطابق العلوي ليصلّي الفجر. سمعت بعدها خرير الماء في الحمام وهو يتوضّأ. وبعد دقائق بدأ قصف شديد ودوّى صوت انفجار هائل هز البيت كله وكاد يقتلعه، ثم خيّم السكون لدقيقتين وأعقبه أزيز الطائرات ومزيد من القصف لكن في أماكن بعيدة. استيقظت أمي ونادته لكنه لم يجب. صحت بصوت عالٍ: نِزَل يصلّي يمّه. ظننت أنه مازال يصلّي ولهذا لم يجب. لكني لم أسمع أي صوت حتى بعد ربع ساعة أخرى سوى “االله أكبر” يتردد صداها من المآذن كما جرت العادة أثناء القصف.
قمت من سريري ونزلت الدرج إلي الطابق الأرضي. كان باب غرفة الضيوف موارباً ينسل إليه قليل من ضوء الشمعة الخافت في الممر . وقفت خارج الغرفة وتبيّنته راكعاً وجبينه على التربة يقبلها. كان يحب أن يصلّي في الظلمة. حين سألته أمّي مرة عن ذلك قال لها إن نور االله في كل مكان. كنت عطشاناً فذهبت إلى المطبخ وشربت قليلاً من الماء من الحنفية بعد أن ملأت راحة يدي كما كان يحلو لي. عدت مرّة أخرى إلى الممر ووقفت ثانية عند باب غرفة الضيوف. كان ما يزال راكعاً. لم أسمعه يتمتم بأي شيء. كان يكره أن يقطع أحد صلاته، وكان يعلّي من صوته وهو يصلّي إذا ما نادته أمي كي يعطيها إشارة بأن تبتعد وتنتظر أن يتم صلاته. ناديته بصوت خافت، فلم أسمع أي شيء. دخلت إلى الغرفة وخطوت خطوتين وناديته ثانية: يابا، يمّه ظل بالهه عليك. لكنه لم يتحرّك. أيعقل أن يكون قد نام في ذلك الوضع وهو يصلّي؟ اقتربت أكثر ووضعت يدي برفق على ظهره وسألته إن كان بخير، فلم يتحرّك. استدرت وعدت وأشعلت ضوء الغرفة من الزر الذي كان على الجدار بجانب الباب، فلم يشتعل، فتذكّرت بأن الكهرباء كانت مقطوعة. ذهبت إلى الممر وأخذت الشمعة التي كانت على صحن على حافة إحدى الدرجات. ذهبت وركعت بجانبه. وضعت الصحن والشمعة على الطاولة. وضعت يديّ على كتفيه منادياً “يابه، شبيك يابه؟” حاولت إنهاضه فبدا كتلة هامدة. ثم مال جسده نحو اليسار و استقر على جانبه الأيسر. كانت عيناه مغمضتين. أسرعت إلي المطبخ وجئت بقنينة ماء من الثلاجة ورششت بعض الماء على وجهه علّه يستيقظ، لكن بلا جدوى. وضعت أذني على موضع قلبه فلم أسمع أي شيء.
سمعت خطوات أمي تنزل الدرج مسرعة وصاحت بصوت عال: “وين الحجّي؟” ثم وقفتْ مشدوهة بباب الغرفة وبيدها شمعة حين رأتني جاثياً بجانبه أناديه وهو في تلك السجدة الأزلية الأخيرة أو كجنين في رحم أمه، لكن مستلقياً على الجانب الأيسر من جسده. سقطت الشمعة من يدها وبدأت تلطم وتصرخ “ يَبووو؟” كانت قد عرفت بأنه لن يستيقظ أبداً وبأن قلبه الواهن تعب من رحلته الطويلة ومن كل هذا القصف، كما قال تقرير الطبيب العدلي فيما بعد. ركعت هي الأخرى بالقرب منّا تولول وهي تأخذ وجهه بين كفيها وتناديه وكأنه يسمعها. ثم أخذّت تقبّل جبينه ثم يديه وتقول: “لتروح حجّي. لتخلّيني بوحدي. لتروح الله يخلّيك. حجيييي. سوده عليّه.”
داهمني شعور حزين بأنني لم أعرف أبي حقّاً. لماذا كنت أكذب حين يسألني البعض عن مهنته فأقول صاحب محل فقط؟ هل كنت أشعر بالعار أو الخجل؟ ظلّت أمّي تردد بعد وفاته إن االله يحبه وإنه أخذه وهو قريب منه يصلّي له. كان قد حج إلى مكّة قبل ثلاث سنوات كي يضمن أنه سيكون مع أمّوري في الجنّة وكان يريد أن يدفن إلى جانبه في النجف كما كان يردّد.
قال لي حين أعلمته بقراري في المضي في طريق الفن وعدم رغبتي في أن أرث مهنته: منو يغسّلني لعد؟ ألحّت أمي بأن أكون أنا الذي يغسل جثمان أبي. كانت تظن بأنها ستكون المصالحة التي كان يجب أن تتم معه وهو على قيد الحياة. “ترتاح روحه إذا غسّلته إنت إبني. فدوة لعينك. الله يخلّيك.“ كيف كان يمكن أن أقول لها إنني لست متأكداً من وجود شيء إسمه الروح أصلاً. كان عندي شعور خفي بالذنب أيضاً و بأننّي خيبت آماله بهجري مهنة الأجداد وفشلي في مسعاي. رفضتُ بشكل قاطع وقلت لها بأنني لا أستطيع. غسّله حمّودي الذي كان بمثابة ابن ثالث له والذي أجهش حين أخبرته بوفاته في صباح اليوم التالي.
بعد استصدار شهادة الوفاة من الطب العدلي أخذناه إلى المغيسل. كانت بغداد حزينة وشوارعها خالية. كانت المفاتيح مع حمّودي. فتحنا الباب الرئيسي ودخلنا ووضعنا جثمانه على الدكّة سوية، لكنني قلت له بأنني سأنتظر في الخارج وطلبت منه أن يناديني حين يحتاجني. استغرب حمّودي وسألني: متريد تظلّ؟ فهززت رأسي بالنفي وقلت له: ما أگدر. فقال: زين.
كان المغيسل معتماً كقبر كبير ما عدا بصيص من النور كان يدخل من الشباك الصغير. خرجت إلى الحديقة الصغيرة الخلفيّة وتقرفصت أمام شجرة الرمّان التي كان أبي يحبّها كثيراً والتي شربت مياه الموت لعقود وها هي الآن تستعد لشرب الماء المنساب من جسده هو عبر المجرى الذي يمتد من الحفيرة التي تحيط بالدكّة. غريبان كنّا ولم أدرك هذا حتّى الآن. كانت أزهار الرّمان ذات الحمرة القانية قد بدأت تتفتّح. في صغري كنت آكل ثمار هذه الشجرة حين يقطفها أبي ويعود بها إلي بيتنا بنهم، لكنني توقفت عن ذلك بعد أن أدركت بأنها تشرب من مياه الموت. سمعت صوت الماء يدلق في الداخل وبعد ثوان بدت طلائعه في الساقية التي تصب عند جذع الشجرة.
كان الأمريكان قد احتلّوا النجف كما سمعت على الراديو الليلة الماضية. فكّرت بمصاعب الطريق والمخاطر التي سنلاقيها. ناداني حمّودي بعد أكثر من أربعين دقيقة، فدخلت إلى المغيسل. فاحت رائحة الكافور الذي كان ينثره على الكفن الذي كان قد غطى جسد أبي بأكمله ولم يبق إلا الوجه. طلب منّي حمّودي أن نحمله إلى التابوت الذي كان قد هيّأه ووضَعَه على الأرض على مبعدة ثلاثة أمتار ففعلت. بعدها ذهب حمّودي إلى أحد الدواليب وجاء منه بواحدة من الأكفان التي يُكْتَبُ عليها دعاء الجوشن الصغير والكبير ووضعه على صدر أبي تحت حنكه. ثم خرج إلى الحديقة الخلفية وسمعت صوت أغصان تُكسَر. عاد بغصن من شجرة الرمّان كسره إلى قطعتين ووضعهما بجانب الذراعين داخل التابوت. تذكّرتُ كيف كنت قد سألت أبي عن سبب وضع جريدة النخل أو الرمّان مع الميّت فقال إنّها ترفع عن الميت عذاب القبر وردّد يومها آية من القرآن: “فيهما فاكهة ونخل ورمّان.”
لم يتمكّن الأقارب من مرافقة النعش. كانت العادة تقتضي الإسراع بالدفن وكانت الحرب والقصف و قد صعّبا إبلاغ الأقارب فالهواتف ميّتة. وحتّى لو علموا فإن المخاطرة الكبرى بركوب السيارة على طريق النجف والحرب مستعرّة كانت ستثنيهم وستكون عذراً مقبولا يخلصهم من العتب والزعل. فمجنون من يريد أن يكون في سيّارة والطائرات تحوم في السماء وتلقي حممها على كل ما يتحرّك. لذلك لم يرافق تابوت أبي في رحلته الأخيرة سوى حمّودي، الذي كان يسوق سيارة أخيه، وأبو ليث، جارنا الذي كانت تربطه صداقة بأبي والذي أصرّ على أن يرافقنا، وأنا طبعاً. حمّلنا التابوت فوق المشبّك الحديدي وربطناه بالحبال بإحكام. كانت الرحلة إلى النجف تستغرق عادة حوالي ساعتين. كانت شوارع بغداد شبه فارغة ذلك الصباح إلّا من بضع سيارات كانت تهرب مسرعة. كانت طوابير من الدخان الأسود تخترق السماء الصافية في أكثر من مكان. جلست في المقعد الخلفي. لم نتبادل أية أحاديث. كان الراديو مثقلاً بالأغاني الحماسية. تحدّثت نشرة الأخبار عن القصف المستمر وعن معارك في البصرة والناصريّة وعن وصول الأمريكان إلى أطراف النجف لكنّ الناطق العسكريّ أكّد أن “جنودنا الأشاوس والأبطال من فدائيي صدّام كانوا يكبّدون العدو خسائر ثقيلة وبأن النصر حليفنا لا محالة في أم الحواسم وبأن العدو سيهزم على أسوار بغداد.” فعلّْق أبو ليث قائلاً: نظلّ نِنْتِصِر ونرجع ليوره.
كان الطريق مقفراً إلا من سيارة مسرعة كل عشر دقائق وغالباً على الجانب الثاني باتجاه بغداد. عند حدود الحلّة أوقفتنا مجموعة من الرجال المسلّحين باللباس المدني بدا أنهم من فدائيي صدّام. اقترب أحدهم من حمّودي يسأله عن وجهتنا وعندما قال له بأنّنا نحمل نعشاً إلى النجف، قال: ما راح تگدرون تدخلون. عالگة. الطريق كلّش خطر. قال له حمّودي: لازم نْدِفْنَه بالنجف. فقال: بكيفكم والله وياكم. ثم ضرب سقف السيارة براحة يده.
قبل النجف بنصف ساعة رأينا من بعيد طلائع فوج أمريكيّ يتّجه نحو بغداد. أبطأ حمّودي السيّارة وخرج قليلاً عن الطريق المعبّد إلى كتفه الترابي. نصحه أبو ليث بأن يوقف السيّارة فأوقفها وأطفأ المحرّك وقال: الله يستر.
توقّف الفوج باستثناء عجلة همڤى ظلّت تقترب. عندما أصبحت على بعد مئة متر أبطأت وكان على قمتها جندي يوجّه مدفعه الرشّاش نحونا. سأل حمّودي بشيء من الخوف: شنسوي هسّه؟ قلت له: إذا نتحرّك يضربونا. منْسوّي شي. ننتظر. اقتربت الهمڤي ببطء وبدت كأنها حيوان خرافي يفكّر بافتراسنا. خيّم الصمت وكان هناك أزيز طائرات بعيدة. عندما أصبحت الهمڤي على بعد ثلاثين أو أربعين متراً توقّفت وأخذ الجندي الذي كان على قمتها يصرخ عدة مرّات: گيت آوت أوف ذا كار ناو!
سأل حمّودي: شديگول؟ فقلت له: يريدنا نطلع من السيّارة. فتحنا الأبواب وخرجنا من السيّارة ببطء دون أن نقفل أبوابها. وقفنا أنا وأبو ليث إلى يمين السيّارة ودار حمّودي حولها ووقف أمامنا. ثم صرخ الجندي: پوت يور هاندز أپ ناو! پُت يور هاندز أپ ناو! رفعت يديّ وقلت لهما: شيلو إيديكم. صرخ الجندي ثانية وهو يشير بيده إلى أن نبتعد عن السيّارة:ستيپ أوي فروم ذا كار!
فهم أبو ليث فقال: خلّي نوخّر من السيّارة. فابتعدنا أكثر عن السيّارة وأيادينا ما تزال مرفوعة. خرج ثلاثة جنود من الهمڤي وبدأوا بالركض نحونا وهم يصرخون ويشيرون بأيديهم إلى الأسفل:داون، داون، غيت داون أون ذا گراوند! انحنينا وركعنا على التراب. توجّه إثنان منهما نحونا موجّهين مواسير رشّاشاتهم نحو رؤوسنا ووقفا على بعد حوالي خمسة أمتار. أمّا الثالث فذهب يحوم حول السيّارة ويتفحّصها. صرخ أحدّهم وهو يشير إلى التابوت: واتس أون ذا كار؟ فأجابه حمّودي: ديد مان، نجف. وتداخل جوابي مع ما قاله حمّودي فكرّرت: ماي فاذر. ديد. ديد مان. أزال الجندي الثالث غطاء التابوت برشاشته وصعد من باب السائق لينظر ثم صرخ: إتس أفَكِن كوفِن. كلير. كلير. نزل الثالث ثم أخذ يدور حول السيّارة وينظر تحتها ثم جاء نحونا من الخلف. صرخ أحد الجنديّيْن: دونت موڤ! فتّشنا الجندي الثالث واحداً بعد الآخر وماسورتيّ الجنديّين الآخرين موجّهة نحونا. بعد أن فتّش الجندي الثالث حمّودي هزّ المفاتيح أمام وجهه فخرخشت و صرخ به وأشار إلى صندوق السيّارة: يو! أوپن ذا ترنك. قلت لحمّودي: يريدك تفتح الصندوگ. فصرخ أحد الجندييْن بي: شَت أپ. نهض حمّودي ببطء واتّجه إلى الصندوق الخلفي وفتحه ورشاشة الجندي الثالث تتبعه. أمره الجندي أن يعود إلى موضعه: گو باك. ففعل وركع من جديد. فتّش الجندي الثالث صندوق السيّارة وقلّب بعض ما فيه، فلم يجد شيئاً وصرخ: آل كلير، لَتْس گِت آوت أوڤ هير. اقتربت الهمڤي ثم خرجت عن الشارع ووقفت أمام سيّارتنا وماسورة الجندي الذي على قمتها مصوّبة نحونا. ركب الجندي الثالث وتراجع الجنديّان نحوها مبقيّين ماسورتيهما مصوّبتين نحونا أيضاً ثم ركبا. ظلّت الهمڤي واقفة وبدأ الفوج يمر بسرعة وبعد أن مرّت آخر عجلة فيه تحركّت الهمڤي التي كانت تراقبنا والتحقت به بسرعة مخلّفة وراءها زوبعة من التراب.
وقفنا وأخذنا ننفض التراب عن ملابسنا. أدركت بأنّنا نجونا من موت محقّق وأنّ أقلّ حركة كانت ستعني زخّة رصاص تنهي كلّ شيء. قال حمّودي: الله خلّصنه. چان رِحْنَه بيهه. فوافقه أبو ليث الذي مازحني قائلاً: هاي شنو إنگليزيتك؟ ماشاء الله بلبل. لازم تشتغل مترجم ويّاهم. فقلت له: هي چم جملة من الأفلام والتلفزيون. قال حمّودي ونحن نتحرّك من جديد: هذولة المحرّرين راح يبهدلونه؟
لم نتعرّض لمشاكل بعدها وبعد ساعة أنزلنا جثمان أبي في المقبرة ووضعناه بالقرب من إبنه المفضّل أمّوري. نزل الدفّان حافياً حاسر الرأس إلى القبر وقال وهو يطأ القبر بصوت عال: اللهم اجعلها روضة من رياض الجنّة ولا تجعلها حفرة من حفر النار. ثم أضاف: بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك هذه ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله اللهم زدنا إيماناً وتسليم. تعاونّا على حمل أبي وأنزلناه فحمله ووضعه في القبر وأضجعه على جانبه الأيمن كي يستقبل القبلة بوجهه. ثم حل عقد الكفن ووضع خد أبى على التراب وقال: “اللهم عبدك وابن عبدك وابن أَمَتك نزل بك وأنت خير منزول به. اللهم افسح له في قبره ولقّنه حجته وألحقه بنبيه وقِهِ شرّ منكر ونكيْر.” ثم وضع يده اليمنى تحت منكب أبي الأيمن واليسرى على منكبه الأيسر وهزّه قائلاً:
“يا كاظم بن حسن، الله ربك ومحمد نبيّك والإسلام دينك وعليّ وليك وإمامك” ثم سمّى الأئمة كلهم “أئمة هدى أبرار”. بدأ الدفّان يهيل التراب عليه واختفى شيئاً فشيئاً تحته. أجهش حمّودي بالبكاء وغطّى عينيه بيديه. أيقظت دموعه حزني الكامن فسقطت دموعي أنا أيضاً. بعد التراب بدأ الدفّان يضع الطين. عندها قال المصلّي بعد الشهادة والتكبير: اللهم عبدك وابن عبدك وابن أمتك ونزل بك وأنت خير منزول به. اللهم إنّا لا نعلم منه إلا خيراً وأنت أعلم به منّا. اللهم إن كان محسناً فزد في إحسانه وإن كان مسيئاً فتجاوز عنه واغفر له. اللهم اجعله عندك في أعلى عليّين واخلف على أهله في الغابرين، وارحمه برحمتك يا أرحم الراحمين. الله أكبر. اللهم ارحمْ غربته وصِل وحدته وآنس وحشته وآمن روعته وأسكن إليه من رحمتك رحمة يستغني بها عن رحمة من سواك واحشره مع من كان يتولّاه. ثم بدأنا نهيل التراب عليه وردّدنا مع المصلّي: “إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم جاف الأرض عن جنبيه واصعد إليك بروحه ولقّه منك رضواناً وسكّن قبره من رحمتك ما تغنيه به عن رحمة سواك. إيماناً بك وتصديقاً ببعثك، هذا ما وعدنا االله ورسوله وصدق االله ورسوله، اللهم زدنا إيماناً وتسليما.”
عانقني حمّودي وقبّلني معزّيّاً فعزّيته وقلت له: إنت چنت مثِل إبنه. ثم عانقنا أبا ليث وقال لي: راح وارتاح. چان خوش رجّال.
اضطررنا للنوم في النجف وفي اليوم التالي قيل لنا أن نرفع راية بيضاء على السيّارة ففعلنا. عندما اقتربنا من بغداد من جهة الجنوب مررنا بما يشبه مقبرة للعجلات والدبّابات المحترقة والمدمّرة على جانبي الطريق قرب معسكر الرشيد. وكان البعض يحفرون القبور ويدفنون الجثث المتروكة.
١٩
بعد سقوط بغداد ودخول الأمريكان عمّت الفوضى وساد الهياج لأيّام. كانت الكهرباء مقطوعة فلم نشاهد شيئاً على التلفزيون الذي كان جاثماً وشاشته عمياء لا ترى شيئاً ممّا يحدث. لكن نشرات الأخبار على الراديو، كانت تتحدّث عن نهب الكثير من الممتلكات العامة والوزارات والمكتبة الوطنيّة والمتحف وعن اختفاء صدّام عن الأنظار. كانت الحكومة قد أطلقت سراح الآلاف من المجرمين واللصوص قبل أسابيع من بداية الحرب، لكنّني استغربت بأنّ الأمريكان لم يحموا المنشآت العامة كما يفترض حتى بالمحتلّين.
خرجت لأستنشق بعض الهواء النقي، فرأيت جارنا أبو ليث. تبادلنا التحيّة ثم سألني:
- مو إنت چنت بالأكاديميّة مال فنون؟
- إي، ليش؟
- قُصْفوهَه الأمريكان؟
- الأكاديميّة؟ معقولة؟ شنو السالفة؟
- والله ما أدري. هيچ سمعت.
استغربت أن تكون الأكاديميّة هدفاً استراتيجيّاً. قرّرت أن أذهب لأتأكّد من الأمر بنفسي. ارتديت ملابسي على عجل. حاولت أمّي أن تقنعني بالبقاء في البيت لخوفها من خطورة الأوضاع، مع العلم أن الأيّام الأخيرة كانت هادئة، لكنّني لم أرضخ لطلبها وقلتُ لها يجب أن أذهب إلى الأكاديميّة ولن أتعطّل أكثر من ساعتين. طلبت منّي أن أتوخّى الحذر. وودّعتني بدعواتها لي بالسلامة. ركبت سيّارة كيّا إلى باب المعظّم. كانت تلال الأزبال قد تكوّمت في الشوارع تاركة رائحة نتنة. كانت إشارات المرور لا تعمل والسوّاق يتفاوضون بالإشارات، لكن لم يكن هناك ازدحام شديد. عندما اقتربنا من جسر الصرّافيّة مال السائق بسيارته إلى يسار الشارع وأبطأ السير كبقيّة السيّارات. نظرت إلى الخلف فرأيتُ مجموعة من ناقلات الجنود الأمريكيّة تسرع نحو الجسر لتعبر إلى الرصافة. كان الجندي الواقف على قمة آخر واحدة منها يرتدي نظارات سوداء ويوجّه ماسورة رشّاشته نحونا متأهّباً للإطلاق. تبرّم السائق بالمنظر وقال “شدعوة عيني؟على كيفك” فقال رجل مسنّ كان يجلس خلفي بصوت عال: راح التلميذ وإجه الأستاذ، راح التلميذ وإجه الأستاذ! لم أفهم أبعاد الجملة كاملةً يومها، لكن عبقريّتها زادتها أهميّة بمرور الوقت وتسارع الأحداث وتكدّس المآسي على صدورنا. فوجدتني أردّدها مع نفسي كثيراً كلما صفعتنا الأحداث.
كانت جداريّة صدّام في باب المعظّم قد لُطّخت بالصبغ فغابت تقاطيع وجهه ولم يبق سوى جزء من شاربه ونصف ابتسامة. تساءلتُ ترى أين هو الآن؟ ولكن هل يهم ذلك؟
بالرغم من تخرجي منذ سنين طويلة إلا أنّني بقيت أتردّد على الأكاديميّة للالتقاء بريم طوال سنين دراستها العليا وبعد أن أصبحت معيدة. كما ظللت ألتقي بالأستاذ عصام في الأكاديميّة حتّى بعد رحيل ريم المفاجيء. عندما اقتربتُ من الأكاديميّة ذلك الصباح شاهدت جزءاً من جدار قسم الفنون السمعية والمرئيّة مهدّماً. إذاً فالخبر صحيح. عبرت الشارع واقتربتُ من البوّابة الرئيسيّة. كانت البوابة الحديديّة مفتوحة.كانت بناية الإدارة سالمة. رأيتُ الفرّاش“أبو سمير” يجلس على الدكّة يدخّن سيجارة كعادته. ألقيت عليه التحيّة وذكّرته باسمي. سألته عن قسم السمعية والمرئيّة فقال:
- قصفوه الأمريكان بصاروخ.
- شوكت.
- إجه الصحّاف و بث خطاب من الاستديو وبعد ساعة انضربت البناية.
- وماصار شي بالبنايات الباقية؟
- لا بس حرگو المكتبة. والإيركندشنات كلهَه انباگَت من الأقسام.
- منو باگهَه؟ منو حرگ المكتبة؟
- والله ما أدري يا إبني. محّد يدري. آني أيّام القصف ما گدَرِت أجي. صعبة. بس مًن إجيت أّول مرّة شفتهه على هالحالة. الغُرَف چان بيهه أقفال والأقفال ما مكسورة. يعني اللي باگ يعرف. بسْ خُلْف الله عليهُم أكو طلّاب صارلهم چم يوم ديجون ينظفون ويشيلون الحجار ويرتبون البنايات.
- أكو أحد من الأساتذة؟
- لا اليوم ماكو أحد.
- عن إذنك أروح أشوف جوّة.
- إي إي. تفَضَّل.
مشيت إلى المكتبة.كان الباب الخارجي الحديدي مخلوعاً وجاثماً على بعد أمتار وقد تناثرت الأحجار وقطع المعدن حوله. وقفت عند عتبة المدخل الرئيسي واخترقت أنفي رائحة غريبة. شاهدت المكتب الذي كانت تجلس عليه أمينة المكتبة في مكانه لكن كرسيها كان قد اختفى. كانت أغلب قطع الجدار الخلفي والذي كان من الزجّاج السميك الملوّن بالزخارف قد تقعّرت بفعل الحرارة وذاب بعضها فتغيّر شكله. كان السقف قد اصطبغ بالسخام. خطوت خطوتين إلى الداخل واتجهت إلى اليسار حيث كانت رفوف الكتب فأحسست بنار تكوي ضلوعي عندما رأيت تلالاً من الرماد تجثم في كل مكان. تذكّرت الساعات التي كنت أقضيها في القراءة هنا. وفي تصفّح الكتب الفنيّة ذات الورق الصقيل منبهراً بأعمال ديغا ورينوار ورامبرانت وكاندنسكي وميرو وموديلياني وشاغال ودي كوننغ وبيكون ومونيه وبيكاسو وصور تماثيل رودان وهنري مور وبيكاسو وجياكوميتي. حبيبي جياكوميتي. تذكّرت كيف اغتنمت، ذات ظهيرة بطيئة، عدم وجود أي طالب، لأطبع قبلة مفاجئة على شفتيْ ريم عندما كنّا ندرس سويّة. وكيف فوجئت هي لكنّها استجابت بلسانها لثلاث دقائق ظننتها دامت ثلاث سنوات، قبل أن تدفعني وتقول لي: ولَك!
ترى هل صارت أطروحتها عن آرتو ومسرح القسوة رماداً هي الأخرى؟ وقفت لعشر دقائق أجول بصري ثم خرجت ومشيت باتّجاه قسم السمعية والمرئيّة. مررتُ بالمصطبة التي جلسنا عليها، ريم وأنا، لأوّل مرّة. كان يجلس عليها شابّان، ألقيت التحيّة عليهما فردّا بود. طالعني وجه بيكاسو الذي كان مرسوماً على جدار قسم الفنون التشكيليّة إلى اليمين. لكن تقاطيعه بدت أكثر قسوة ذلك اليوم كأنّه غاضب مما حدث.
كان الجدار الأمامي لقسم السمعيّة والمرئيّة قد انهار كليّاً بفعل القصف وتكوّمت أنقاضه أمام البناية مغطيّة واجهة الطابق الأوّل. تسلّقت الأكوام بصعوبة ووصلت إلى علوٍ يسمح لي بأن أطلّ على داخل البناية التي بدت كأنّها جثة سلخ جلدها من جهة ثم أحرقت تجاويفها وتركت بعض أضلاعها بارزة. كان الأستديو قد تفحّم كليّاً وانهار سقفه وأرضيته. أما القاعة المجاورة له فتناثرت على أرضها بكرات عشرات الأفلام المحترقة. قفزت فوق الأنقاض واتّجهت نحو اليسار فبانت قاعة السينما.كانت أرضيّتها قد احترقت وتناثرت عليها أجزاء من السقف المنهار و قطع الزجاج المكسور الذي كان يلمع تحت الشمس. بينما اسودّت مقاعدها الخاوية وحيطانها التي كانت قد شهدت الكثير قبل أن يعميها السواد.
نزلت عن تل الأنقاض وأحسست بالركام الّذي أحمله في دواخلي يزداد ارتفاعاً ليخنق قلبي. مرّرت بقسم الفنون التشكيليّة. كانت بنايته سالمة باستثناء الشبابيك التي تهشّمت والمكيّفات التي نزعت من هياكلها الحديديّة. قبل أن أخرجت ودّعت الفرّاش وطلبت منه أن يبلغ الأستاذ عصام بأنّني سألتُ عنه.
٢٠
كنت أقف إلى جانب الدكّة، لكنها لم تكن في المغيسل، بل في مكان آخر لا أعرفه بلا نوافذ وبسقف عال وبأضواء نيون، بعضها يرمش. كانت الدكّة طويلة جداً تمتد لعشرات الأمتار و عليها حزام أبيض متحرّك اصطفّت عليه الجثث ،كان الحزام يدور باتجاه اليمين وينتهي عند فتحة كبيرة تؤدي إلى الخارج حيث وقف رجال يرتدون بزات عمل زرقاء وقفّازات طبيّة وكانوا يرفعون الجثث ويلقون بها في شاحنة كبيرة. كانت هناك عشرات الصنابير ممتدة من الجدران وتحتها طشوت خاوية وبها طاسات. سمعتُ صوتا يصرخ: ماذا تنتظر؟ نظرت باتجاه الصوت فرأيت أبي يجلس في الزاوية على كرسي ومسبحته بيده. تكرر السؤال: ماذا تنتظر، لكنه كان يجيء من اتجاه آخر. التفتّ فرأيت أبي في الزاوية الأخرى أيضاً وفي الثالثة والرابعة؟ هرعت إلى أقرب صنبور لأفتحه لكن لم يكن هناك ماء. وتكرر الأمر مع كل الصنابير . نظرت إلى الزاوية بحثاً عن أبي لكنّه كان قد اختفى منها ومن الثلاث الأخرى . لكن الجثث ظلّت تسير نحو الفتحة.
٢١
كانت بداية العطلة الصيفيّة في السنة الأولى من دراستي في الأكاديمية النقطة المفصلية في مواجهتي مع أبي وإعلاني بأنّ مجراي سيختلف. كنت قد اقتنعت بشكل نهائي أثناء تلك السنة الدراسيّة بأنّي يجب أن أركّز كل جهودي المستقبليّة على الفن وألّا أعود إلى جو المغيسل الخانق مهما كلّف الأمر. كنت قد سمعت من أحد زملائي عن إمكانية العمل في صبغ البيوت بأجر جيّد وكان ذلك سيمكنني من شراء المستلزمات والمواد و حتى المساعدة في مصاريف البيت قليلاً. كان الاتّفاق بيني وبين أبي حتى ذاك الوقت هو ألّا أعمل معه في أيام الدراسة لكي أركّز عليها بشكل كامل على أن أكون معه أثناء العطلة .بعد أسبوع من الامتحانات النهائية وبداية العطلة سألني بعد عودته ذات مساء من العمل وكنتُ أشاهد التلفزيون: يلله شوكت تبلّش بالمحل ما كافي عطلة؟ فأجبته بأنّني كنت أريد أن أتحدّث معه عن الموضوع. وقف بباب غرفة المعيشة وكانت مسبحته بيده وقال:
- خير إن شاء الله؟
- أكو واحد من أصدقائي أبوه مقاول صبغ بيوت وعنده شغل هالصيف ويدفع زين.
عبس وجهه ونظر إلى الأرض ثم سمّر عينيه عليّ وقال:
- هاي شِلَكْ بيهه؟ مو شغلك ويّايه موجود؟
- گلت أروح أجرّب شچم يوم ويّاه.
- وشِمْعَرْفَك بهالشغلة؟
- ماينرادِلْهه هواية يابا. هو راح يعلّمني.
بدت خيبة الأمل واضحة على وجهه:
- هاي تاليتهه؟ تصير صبّاغ؟ وآني أريد واحد يساعدني ويشيل الحمل عنّي بعد كل هالسنين.
- يابه هاي شغلة للصيف بس وراح أساعد بمصاريف البيت.
فكرّر “صبّاغ” ثانية كأنها عار أو كأنها ستكون مهنتي الأزلية.
- شكو بيهه يعني. شغلة شريفة؟
- ليش شغلتنا موشريفة؟ ما خاشّة بعينك؟ أبويه وجدّي وجد جدّي اشتغلوها. وهسّه إنت تريد تترقّى علينا؟ خلف الله عليك.
دخل إلى الممر في طريقه إلى الدرج. كان الحوار قد وصل أسماع أمّي فجاءت من المطبخ تستعلم. فقال لها وهو يرتقي الدرج: “إبْنِچ يريد يصير صبّاغ ولايشتغل شغلتي.”
فسألتني:
- صدگ هالحچي جودي؟
- إي صدگ.
- ليش هيچي إبني مو أبوك يريدك وَيّاه؟
- شنو عيب الواحد يشتغل صبّاغ؟
قمت من الكرسي وأطفأت جهاز التلفزيون وخرجت أتمشّى لأتفادي الجو المكهرب الذي كان سيتسيّد المساء بوجودي وأبي في نفس الغرفة. لم أكن أتوقّع أن يفرح بقراري، بالطبع، ولا أظن أنه فوجيء كليّاً. لابد أنه كان يعرف بأن هذا اليوم سيأتي، فلا يمكن ألا يكون قد لاحظ فتور الحماس الذي كان عندي في صغري. كنت قد سألته ذات مرة في صغري إذا كان قد فكّر في أن يغلق المحل أو يبيعه بعد أن تنتهي الحرب مع إيران ويتسرّح أموري ويعمل طبيباً. فقال لي إنه لن يتقاعد أبداً وإن عمله ليس مجرّد مهنة بل تقرّب إلى الله، وأنّي سأرثها عنه كما ورثها هو عن أبيه وكما ورثها أبوه عن جده. رفض أبي أن أشارك في مصاريف البيت لكنه قطع عني المصروف. كانت أمّي قد نبهتني إلى أنني يجب أن أعطي أبي أوّل راتب أحصل عليه وهذا ما جرت عليه العادة وفعلت ذلك، لكنه دفع يدي وقال: إنطيه لأمّك. رفضت أمّي أن تأخذ الراتب وأعادته لي. فأعطيتها خمسين ديناراً يومها كهديّة. وكنت أعطيها مبلغاً لابأس به كل شهر وقلت لها أن تنفقه على ما يحلو لها. لم تكن الظروف الإقتصادية جيدة لكن البيت كان ملك أبي وبذلك كانت المصاريف الشهرية أقل عبئاً بالنسبة لنا من غيرنا. قالت أمّي بأنها ستدّخر ما أعطيه إياها لزواجي، فضحكت وقلت لها: منو گالچ ناوي أتزوّج؟
- يعني مو اليوم باچر، مو باچر عگبه!
بعد عودة أمّوري في إجازته الدوريّة من الجبهة أخبرته بما حدث، فوبّخني لأنني لم أنتظر عودته كي يفاتح أبي ويُقنِعه بالموضوع بطريقته الخاصة أو على الأقل كي يخفف من وقع الخبر عليه. كان أمّوري يعرف أنّي لم أعد أطيق أجواء المغيسل والجثث كما أنني صارحته بحقيقة أن أجور الصبغ هي ضِعْفيْ ما كان أبي سيعطيني إياه. قال أمّوري لأبي بأنه من الأفضل ألّا أعمل في مهنة ليس قلبي فيها ولا ضير في الصباغة كمهنة مادامت شريفة. وذكّره بأنّه كان يقول بأن النيّة ضرورية وأذا لم يكن عندي نيّة فكيف أعمل. كان أمّوري ينجح دائماً في إقناع أبي وكان أبّي يستمع إلى كل ما يقوله. لكنّه لم يغفر لي أبداً خروجي عن السراط.
كان الصديق، فراس، صاحب نكتة وكانت ساعات العمل، بالرغم من طولها، تمر بسرعة. كان والده يشرف على العملية وينسّق بين أصحاب البيوت وبين العمال ويزودنا بالمواد والأصباغ والتعليمات والمواصفات. لم يكن الموضوع معقدّاً، إلّا إذا كان البيت مسكوناً ومؤثثّاً مما كان يقتضي حرصاً زائداً وفرش الجرائد والنايلون ونقل الأثاث لكي لا يتلطخ أو تتلطّخ الأرضيّة بببقع الصبغ. لكن معظم البيوت التي عملنا عليها كانت جديدة لم تطأها أقدام ساكنيها بعد. كان هناك عامل ثالث أكبر منّا سنّاً وأعرف بأسرار المهنة التي لم تكن أسراراً. فهو الذي كان يخفف الأصباغ ويمزجها. كنا نبدأ بالتبييض وكشط وتسوية السطوح أو ملء الشروخ إن وجدت قبل أن نشرع بالصبغ. طبقة أولى ثم طبقة ثانية. كنت استمتع بالمراحل المختلفة من العمليّة وبجمال وصفاء الجدران والسقوف بعد أن ننتهي منها. الجزء الوحيد الذي كنت أمقته هو رائحة النفط الأبيض الذي كنا نزيل به بقع الصبغ بعد الانتهاء من العمل كل يوم وننظف به الفرش والذي كانت رائحته تخترق الأنف وتستعمر تجاويف الرأس. ربّما كنت أستمتع بالصبغ في الأصياف لأني لم أكن أظنّ بأنها ستصبح مهنتي الوحيدة وبأنّي سأعود إلى ممارستها ثانيّة بعد إنهاء الخدمة العسكرية طوال سنوات الحصار لأنها كانت الوسيلة الوحيدة للحصول على دخل. تم تعييني مدرّس فنية في بعقوبة وكان الراتب لا يكفي تكاليف المواصلات لأسبوع واحد.لماذا كنت بكل تلك السذاجة كي أتوههم بأنني يمكن أن أعيش من الفن أو النحت وخصوصاً في سنين الحصار؟ كان هناك من يبيع بعض لوحاته للأجانب الذين كان عددهم قد قلّ لكنه لم ينعدم كليّاً ، خصوصاً الصحفيين والدبلوماسيين والناشطين الذين كانوا يزورون بغداد ويترددون على مقهى قاعة “حوار” ولبعض العراقيين المغتربين العائدين في زيارات، لكن أغلب هؤلاء لم يكونوا مهتمين بالنحت التجريدي وكانوا يفضلون اللوحات التقليدية نسبيّاً والمناظر الطبيعيّة. وهكذا أخذت أشعر بالملل والمرارة في أواخر التسعينيّات، خصوصاً ونحن نصبغ بيوت حديثي النعمة الذين أثروا ثراء فاحشاً في سنين الحصار وبفضله.
بدلاً من سطوح بيضاء ألوّنها على هواي وأفرش عليها كوابيسي أو فضاء تلد في حضنه مخيلتي أجسادا أنا خالقها، وجدتني ولسنين طويلة لا أستخدم أكثر من لونين أو ثلاثة. ألوان باهتة على سطوح باردة رتيبة. لا تتخللها تفاصيل أو مفاجآت، ما عدا نقطة الكهرباء ولوحة الأزرار أو التعليقة المعدنية الخاصة لتعليق الثريّا. أحياناً كانت ذبابة غبيّة ترتطم بالسطح اللزج وتحتضر لثوان قبل أن تموت. كنت أظن أن هذه الفرش الضخمة الثقيلة ذات الشعر الخشن مرحلة مؤقتة أعود بعدها إلى الفرش الصغيرة الدقيقة والأكثر نعومة وحساسية والتي أشعر معها بحميميّة.كنت أحياناً أسمح لنفسي بأن أسرح بخيالي عندما كنا نصبغ بيتاً جميلاً وفيه غرف بنوافذ كبيرة تطل على حدائق كبيرة، بأن أتخيّل نفسي في ستوديو خاص بي أعمل على مشاريعي. وبالرغم من أحلام اليقظة هذه وهي ضروريّة لي كما هي ضرورية لملاييين البشر كل يوم لتزجية الوقت، فهي المجاذيف التي تعيننا على عبور اليوم. بالرغم من كل هذا فإن أحلامي الواقعية، إن صح التعبير، لم تكن فاحشة في نهاية الأمر. لم أكن آبه حقاً بالبيوت الكبيرة ذات الغرف المتعدّدة وبالسيارات والكماليات الأخرى. كنت سأقنع بغرفة لي وحدي مادام يمكننني أن أمارس فيها عزلتي وفنّي.
كانت رائحة الصبغ أحياناً تعيدني إلى سويعات لذة وجنون لن يتكرّرا أو من الصعب أن يتكرّرا. بعد تسريحي من الخدمة العسكرية بفترة قصيرة كنت مع ريم في الأكاديميّة وكانت شهوتي لها تسري في عظامي وفي عمودي الفقري حتّى أنها سألتني أكثر من مرّة يومها: شبيك، ليش تباوِع عليَّ بهالطريقة، فقلت لها: أريدچ! فكانت تبتسم وتقول: آني هم أريدك! لم نكن قد اختلينا ببعض لأشهر وخطرت لي فكرة جهنميّة.كنّا نصبغ بيتاً في منطقتها في الجادريّة كان مالكه قد هدّم أحد جدرانه لتوسيعه ومضاعفة حجمه تقريباً ليعيش بجانبه ابنه وزوجته التي تزوجها حديثاً، باستغلال أرض الحديقة الواسعة. كانت العائلة قد تركت البيت مؤقتاً إلى بيت أخر يملكونه في السيّديّة. وكان أبو فراس قد كلّفني بالإشراف عليه وأعطاني المفاتيح، لكن العمل كان قد توّقف مؤقتاً لأنّ زبوناً آخر كان مستعجلاً ودفع عربونا كبيراً كي نباشر في صبغ بيته. كان أصحاب البيت قد أقفلوا كل الأبواب المؤديّة إلى الجزء الأصلي ما عدا الباب الرئيسي المؤدي إلى غرفة الضيوف التي تقع في مقدّمة البيت والتي كان قد هدّم أحد أضلاعها لتنفتح على الجزء الإضافي الجديد. سألتها: أريد أكون بوحدي ويّاچ؟ فأجابت بسؤال: إي، بس وين؟ فقلت لها: بمكتبي؟ فضحكت بصوت عال. لكنّني قلت لها إن عندي مكان في الجادريّة. ظنّت بأنّني أمزح.
٢٢
لم يكن أبي يتحدّث كثيراً عن عمّي صبري، الذي كان يصغره بثماني سنوات. في المرات القليلة التي كان يأتي فيها ذكر الشيوعيّين أو صراعاتهم مع البعثيّين، كان أبي يقول “هذولة جماعة صبري.“ عندما كنت طفلاً كان عمّو صبري يزورنا بين الحين والآخر وينام في غرف الضيوف على الأرض. كان مرحاً وبشوشاً وكان دائماً يملأ جيوبي بالحلوى ويحب أن يلعب كرة القدم معي ومع أمّوري في الشارع أمام بيتنا. كان مهووساً بتشجيع نادي الزوراء وأوّل مرة ذهبتُ فيها إلى مباراة لكرة القدم كانت مباراة افتتاح الدوري العراقي معه. قال لي إنّني سأصبح زورائيّاً مثله. وكان على حق إذ ورثت منه ذلك الهوس. لا أذكر لماذا لم يأتِ أمّوري معنا يومها. كان الجو حاراً وعندما نزلنا من السيّارة التي أخذتنا إلى الملعب كانت هناك أعداد هائلة من الناس. بعد أن وقفنا في طابور طويل إشترى بطاقتيْ دخول كان لونهما ورديّاً وقفنا في طابور آخر تدافعنا فيه لندخل إلى الملعب. مزّق الرجل الواقف عند الباب البطاقتين من النصف. دخلنا ثم صعدنا إلى المدرجات التي كانت قد بدأت تمتليء بالمشجعين. كان البعض منهم يغنّي ويدق الطبول. اختار هو مكاناً عاليا قرب مشجّعين يحملون رايات الزوراء البيضاء. بدت ساحة الملعب من تلك البقعة مستطيلاً أخضر جميل. فرش عمّي الجريدة التي كان يحملها على المقاعد الكونكريتيّة وجلسنا بانتظار بداية المباراة. كان يرتدي نظارات شمسية سوداء لأنّنا جلسنا في القسم الجنوبي المكشوف من ملعب الشعب. أمّا القسم المقابل فكان مغطى لا تصله الشمس القويّة. كان شعره طويلاً يلمع سواده يومها. كان قد ارتدى قميصاً أبيض (لأنّه لون الزوراء) وبنطلون جينز وحذاء رياضي. قبل أن تبدأ المباراة مرّ أبو السميط يحمل الصينيّة على رأسه وقطع السميط مصفوفة فوقها كأنها قطع حجر في بناء قديم. سألني عمّي إن كنت أريد واحدة، فهززت رأسي فاشترى واحدة لي وأخرى له. عندما خرج لاعبو الزوراء بملابسهم البيضاء من غرف التبديل التي كانت تحت الأرض إلى الملعب وقف الجميع وبدأ التصفيق والهتافات. حملني عالياً كي أتمكّن من رؤية المنظر. وقف الفريق بأكمله في الدائرة الوسطيّة ورفع اللاعبون أياديهم ليحيوا الجمهور في القسم المقابل، فارتفعت الهتافات. ثم استداروا وواجهوا جانبنا فازدادت حدّة التصفيق. ثم انطلق اللاعبون يركضون في الساحة للإحماء ويمررون الكرات لبعضهم البعض أو يسددون على الهدف الذي وقف فيه حارس المرمى. رأيت جمعاً من المصوّرين حول لاعب أصلع يرتدي الرقم ثمانية ، فسألت عمّي عنه، فقال: هذا فلاح حسن بابا، أبو تيسير، ثعلب الكرة العراقية. فجأة سمعت الكثير من الذين حولنا يصدرون صوتاً غريبا: هوووو وصرخ أحدهم: چيس طيران. وفهمت بأنّهم يثبطون من عزيمة الفريق الخصم، الطيران، والذي كان لاعبوه يرتدون الأزرق. لكنّني لم أفْهَم ”چيس.” استفسرت من عمّي فقال لي: يعني راح يسجلون عليهم گوالة هواية فيصيرون مثالالچيس معبّى.” فبدأت أهتف أنا أيضاً: چيس طيران. چيس طيران. لكن تصفيق وهتاف مشجعي الطيران كان قويّاً هو الآخر ولا أعتقد بأن أحداً منهم سمعني. وضع عمي يده على رأسي وداعب شعري قائلاً: زورائي أصيل.
كانت المباراة نديّة وحافلة بالهجمات والهجمات المضادة وكاد فلاح حسن أن يسجّل هدفاً إلا أن الكرة اصطدمت بالعمود. قفز عمّي ثم عاد وجلس وضرب فخذه بكفه. انتهى الشوط الأوّل بالتعادل وشعرت بالعطش أثناء الاستراحة فاشترى لي عمّي قنينة بيبسي أخرجها البائع من جردل مليء بالثلج وفتح غطاءها وأعطاها لي واشترى واحدة له أيضاً وضعها على خدّه الأيمن ثم الأيسر كي تنعشه برودتها، ففعلت ذات الشيء وتبلّل وجهي. في الشوط الثاني تمكّن فلاح حسن من تسجيل هدف بضربة رأس في الدقائق الأولى وطار عمّي من الفرح وحملني مرة أخرى كي أرى اللاعبين يقبلون بعضهم البعض. لكن الفرحة لم تدم وسجّل الطيّران هدف التعادل من ضربة جزاء وانتهت المباراة بالتعادل وباتّهام الحكم بالتحيّز. قال عمّي عنه بأنّه أعمى لأن لم ير بأنّ مهاجم الطيران تعثّر وتظاهر بأنّه أسقط عمداً. صفّقنا كثيراً للزوراء وظل المشجّعون يهتفون ”زوراء زوراء” حتّى ونحن نخرج. ظلّ الكثير منهم بالقرب من الباب الذي يخرج منه اللاعبون بعد الاستحمام وتغيير ملابسهم كي يحيّوهم، لكنّنا مشينا إلى ساحة الأندلس كي نجد سيّارات تعيدنا إلى الكاظميّة.
فرحتُ كثيراً بعد المباراة وأخبرت أمّي وأبّي بكل تفاصيلها وأجواء الملعب حتّى عيل صبر أبّي وقال: كافي إبني مو دوّختنه بالزوراء. هاي شلون ورطة؟ أخذني بعدها عمّي مرات عديدة إلى مباريات الزوراء وأخذني مرة إلى مدينة الألعاب. كانت علاقته بأبّي وديّة إلّا أنهما كانا أحيانا يتجادلان بحدّة في أمّور لم أكن أفهمها. كنت في العاشرة من عمري عندما زارنا آخر مرة، كان دائما يعانقني ويقبّلني بحرارة عندما يراني وكذلك عندما يودّعني. لكن تلك المرّة لمحت حزناً وغيوماً في عينيه وهو يقبّلني وقال “ مو تنسى عمّك.” سألته: لا ما أنساك، بس إنت هم لا تنساني.” ضحك وقبّلني ثانية على جبيني. عانق الكل بحرارة وخصوصا أبي.
سألتُ أبي بعدها عنه فقال إنّه سافر إلى بيروت.افتقدته كثيراً وكلما كنتُ أسأل عن موعد عودته كانت أمّي تقول: ميگدر يرجع، مشغول هناك. كنت أسألها عن طبيعة عمله ومتى ينتهي، فلم تكن تجيب إجابات واضحة وكانت تقول لي: إسأل أبوك. لكن أبّي كان يراوغ هو الآخر. بعد عدة أشهر كنتُ أكتب واجباتي المدرسيّة وكان هناك خبر في التلفزيون عن إعدام ضباط شيوعيّين من الجيش، فسمعتُ أبي يقول لأمّي: “هاي مصير جماعة صبري. ماراح يخلّون ولا واحد منهم. همزين طلع.” فهمتُ بأنّه كان شيوعيّا. لكنّي كنت أْعرف بأنّّه لم يكن ضابطاً. سألتُ أبي: بابا شنو يعني شيوعي؟ فقال لي: موشغلك هذا إبني. فسألته: عمّو صبري شيوعي. مو؟ فنهرني قائلاً: كافي إسئلة. گتلك مو شغلك. عندما عاد أمّوري إلى البيت سألته عن عمّي صبري وعن معنى الشيوعيّة، فقال لي إن الشيوعيّين و البعثيّين أعداء ألدّاء وأنّ عمّي صبري هرب لأنه كان مطارداً. بعد سنتين عندما وزّعَتْ علينا استمارات الانتماء إلى حزب البعث في المدرسة المتوسطة كان يجب أن نملأ الجزء المتعلّق بوجود أقارب خارج القطر وكان هناك جزء آخر يطلب ذكر أسماء الأقارب المنتمين إلى الحزب الشيوعي أو حزب الدعوة، فكتبت أسم عمّي الثلاثي: صبري حسن جاسم- شيوعي.
كانت تصلنا منه رسائل في فترات متباعدة، مرّة كل سنة أو سنتين، وكان دائماً يخصّني بالتحيّة بسطر خاص لي وحدي، يقول فيه:” قبلاتي إلى جواد الوردة. هل ما زال على العهد الزورائي ويشجّع بالنيابة عنّي؟” كتبتُ له رسالة وضعتها مع رسالة العائلة الّتي تولّى أمّوري كتابتها. أخبرته في رسالتي عن دراستي وعن أداء الزوراء في الدوري ونجومه الجدد وقلت له بأنّني أشتاق إليه وأنتظر عودته. اتّصل بالهاتف مرة ليطمأننا عليه، لكن أبّي استُدعِىَ إلى الأمن العامة واستجوب لثلاث ساعات بسبب تلك المكالمة، فكتب إلى عمّي بعدها يطلب منه ألا يتّصل بالهاتف. كنت أفكّر به كثيراً خصوصاً عندما كنت أسمع في الأخبار عن الحرب الأهلية في بيروت وكنت أعرف بأنّه هناك. بعد بيروت وصلتنا رسالتان من قبرص، ثم سمعنا أنّه ذهب إلى عدن ووصلتنا عدّة رسائل عليها طوابع يمنيّة. بدأ يعمل مدرّساً هناك. ثمّ نشبت الحرب الأهليّة هناك فرحل إلى ألمانيا حيث قبلوه كلاجيء. كان يبعث لنا مساعدات بين حين وآخر في التسعينيّات عندما خنقنا الحصار.
بعد وفاة الوالد بعثُت له برسالة إلى آخر عنوان كان قد أعطانا إيّاه في برلين أخبره فيها بوفاة أخيه. أخبرته بأنّ خطوط الهاتف عاطلة بسبب القصف ولا نعرف متى سيتم إصلاحها، لكنّني طلبت منه إرسال رقم هاتفه كي أحاولَ الإتّصال به. بدلاً من الرسالة جاء هو بنفسه إلى بغداد بعد ثلاثة أشهر من وفاة أبّي.
كانت الكهرباء مقطوعة وكانت أمّي تهزّ المهفّة وتقول: لعد عبالْنَه الأمريكان راح يصَلْحون الكهرباء ويرجعوهه؟ أشو عِموهه علينه بالأزيد؟ كانت عبثيّة الموقف كله لا تفسّر إلّا بعبثية مقابلة. سمعنا طرقاً على الباب، فقلتُ لها: يِمْكِن هذا الكهرباء إجَه، بس يريد يستأذن مِنِّچ قبل ما يدخل. فضحكت من قلبها لأول مرّة منذ أسابيع. نظرتُ من الشبّاك فرأيتُ رجُلاً أبيض الشعر يرتدي نظارات شمسيّة يقف أمام الباب الخشبي وكانت هناك سيارة أجرة تنتظر في الشارع. كان مستديراً نحو الجانب الآخر ينظر فلم أر سوى كتفه وظهره. ذهبت إلى الباب وقلتُ: منو؟ فقال: صبري، صبري، إفتح. فتحت الباب وكان هو، لكن السنين كانت قد صبغت شعر رأسه كلّه بالأبيض ولم تترك إلا بعض الرماد على فوديه وحاجبيه. صرختُ غير مصدّقٍ: عمّو صبري؟ عانقني بقوّة وهو يضحك قائلاً: ولك جودي، صِرِتْ أطول منّي! اغرورقت عيناي بالدموع. قبّلنا بعضنا البعض سبع أو ثماني مرّات وأدمعتْ عيناه. أمسك بوجهي بين راحتيه كما كان يفعل قبل أكثر من عقدين وردّد اسمي “جودي، جودي” كأنّه هو أيضاً لا يصدّق. جاءت أمّي إلى الباب وقالت: لا مو معقولة. ما أصدّگ عيوني! فمازحها كما كان يفعل وقال: ليش مو معقولة عيني؟ تعانقا وحمدت أمّي الله على سلامته وعاتبته: ليش ما گلتلنا يا صبري علمود نتحضّرلك؟ فأجابها: شتتحضرين عيني؟ قابل آني غريب؟ جاي أشوفكم. فقالت له: لا إنت أهل البيت، بس يعني. أنزلنا حقيبته من السيّارة وأدخلناها إلى البيت وتحاسب هو مع السائق واتّفق معه على أن يعود بعد ثمانية أيّام في السادسة فجراً. ثم أخرج حقيبة أخرى صغيرة كانت في المقعد الخلفي وحملها على كتفه. دخلنا وأرادت أمي أن تجلسه في غرفة الضيوف فقال لها: شنو آني خطّار؟ أريد أگعد وين ما چِنّه نگْعُد. فجلسنا في غرفة المعيشة. سألته أمّي إن كان جائعاً فقال لا ولكنّه عطشان، فذهبت إلى المطبخ لتأتيه بالماء. نزع نظارته الشمسية ووضعها على الطاولة أمامه وأخرج من جيب قميصه نظاّرة طبيّة وضعها على عينيه. قال إنّه تأخّر لأنه ضاع ولم يتمكّن من العثور على الشارع بسهولة “هاي شگد متغيْرة بغداد!” قال إنّه حاول أن يتّصل من عمّان لكن الهاتف كان ميّتاً، فقلت له إنّه مازال ميّتاً ينتظر البعث. فقال لي وهو يضحك: ماكو بعث بعد. وضحكنا. وقعت عيناه على صور أبّي وأمّوري على الجدار، فقال لي” البقيّة بحياتك عيني جودي.” جاءت أمّي بصينيّة عليها قدح ماء وسرّاحية واعتذرت لأنّه قد لايكون بارداً بما فيه الكفاية واشتكت من انقطاعات الكهرباء. كانت قد غيّرت ملابسها وارتدت فستاناً بدلاً من الدشداشة التي كانت ترتديها. شكرها وشرب الكأس بأكمله ثم وضعه على الصينيّة التي وضعتها على الطاولة. عزّاها هي أيضاً بوفاة أبّى فبدأت تبكي ثم قالت: “راح وخلّاني بوحدي.” فقال لها: “هذا شلون حچي. شلون بوَحْدِچ؟ العوض والخير بجودي الوردة.” لم أنزعج ممّا قالته البتّة، لكنّها كانت لفتة طيّبة من جانب عمّي. سألنا عن ظروف وفاته فأسرعتْ هي لتعيد سرد القصّة التي كانت قد سردتها عشرات المرّات من قبل. عندما انتهت منها قال عمّي: الله يرحمه. راح وارتاح. أّهم شي إنّّه ما تعذّب.” سألتُه أنا عن رحلته ومتى سيعود، فقال لي ممازحاً: شنو ضجت منّي بهالسرعة وتريدني أروح؟” فضحكت وقلت له: بالعكس، ياريتك تْظَل هنا وما ترجع! فقال إنّه لن يتمكن من البقاء أكثر من أسبوع فقط للأسف وعليه أن يعود إلى العمل بعدها. سألته عن عمله فقال إنّه واظب على تعلّم اللغة الألمانيّة لأربع سنوات وبدأ يعمل في السنين الأخيرة مترجماً مع محطّة التلفزيون الألمانية الناطقة بالعربيّة.
قال إنّه جاء بالطيّارة من برلين، عبر فرانكفورت، إلى عمّان وبقي فيها ليلة واحدة ثم استأجر السيّارة التي انطلقت من عمّان في الرابعة صباحاً لكي يضمن السائق أن يدخل حدود العراق فجراً وأن يكون على طريق الصحراء أثناء ساعات النهار، لأن الظلام يعني خطر السرقة من قبل العصابات والسلّابة.
“دخلنا العراق الفجر وچان منظر يحرگ الگلب. اللي رحّب بيّه ببلدي بعد كل هالسنين من الغربة والنفي چان جندي أمريكي يگُلّي: “ولكم تو إراك”. تصوّر! قال إنّه كان قد كتب اسمه بالعربية على خوذته “ويليام.” گِتْله: “ذس إز ماي كنتري.” هز رأسه ثم قال بأنّه كان ضد الحرب وبأنّه تظاهر ضدّها مثل الملايين في ألمانيا والعالم لكنّّه لم يكن يظن بأن الأمريكان سيكونون بهذا الاستهتار وهذه الفوضى. فنقطة الدخول من الأردن إلى العراق كان عليها ثلاثة جنود فقط وكان هناك موظّف عراقي واحد فقط يرتدي نعلاً وملابس رياضة ويدمغ جوازات السفر. سأله من يقرر من يدخل ومن لا يدخل، فقال بأنّ الضابط الأمريكي هو الذي يقرّر وأنا الذي أدمغ. “لا أكو تفتيش ولا هم يحزنون. ياهو الْيريد يدخل العراق، يدخل، بكل سهولة. يعني هذا إذا نقطة الحدود هيچي، فتصّور الحدود هاي كلهه شگد سهلة تخترقها؟ أي واحد هسّة ييجي من سوريا من السعودية لو إيران ويطب.” قال إن أحد الموظّفين العراقيّين على الحدود طلب منه مبلغاً وعندما سأله ليش؟ كان رده: ليش لا؟ لكن السائق قال له أن يتجاهله.
قلت له إن الرشوة انتشرت بشكل فظيع أثناء سنين الحصار وصارت جزءا لا يتجزّأ من أيّ تعامل. فقال إن هذه عمليّة محو. الدكتاتورية والحصار دمّرا البلد والآن تأتي مرحلة التدمير الشامل ومحو العراق كلياً ومسخه. أظهر جوازه وقال إنّ اسم الدولة غير موجود بتاتاً وأن كل ما تقوله الدمغة هو “دخول- مركز حدود طريبيل.” كأن العراق غير موجود. فقالت أمّي إذا كان العراقيين أنفسهم غير حريصين على البلد ويدمّروه وينهبوه فلا عتب على الغريب. قال لها إن العراقيين ما كانوا دائما ينهبون ويحرقون الممتلكات العامّة وحتى الأوربيين في غياب الشرطة والقوانين ينهبون ويدمّرون. فقلت له: لكن الأورپيين لا يدمّرون المتاحف والمكتبات الوطنيّة. فقال: صحيح ولكن الأورپيين ما مرّوا بحصار أجاعم وأعادهم إلى الوراء مئة سنة وما كان عندهم دكتاتور كتب اسمه على كل شيء حتّى ضاع الفرق بين الممتلكات العامة وبينه. فقلتُ له وهتلر؟ قال إن الأمريكان لم يساندوا هتلر وبأنّهم ساعدوا في إعمار ألمانيا بعد الحرب من خلال شيء اسمه مشروع مارشال وإن الموضوع معقّد. قالت له أمّي إننا لا نريد أن نمضي الوقت كلّّه في السياسة ووجع الراس وبأنّه لم يتغيّر من هذه الناحية حتّى بعد أن غزا الشيب رأسه؟ فقال إنّ هذا ثلج ألمانيا الّذي لا يخرج من الشعر وليس شيباً. ضحكنا وسألته إن كان يشتهي أكلات معيّنة لم يذقها منذ سنين. فقال لها” كل شي من إيدچ حلو؟ بس الكبّة أحلى.” فضحكت وضحك هو. ثم أخرج علب حلويات كان قد جاء بها من عمّان وقال: هذي إلكُم.
سألته إن كانت هناك أشياء معينة يريد أن يقوم بها، فقال لي إنّه يريد أن يقضي معظم الوقت معنا ويريد أن يزور أختي وأولادها وأن يتجوّل في بغداد قليلاً ويزور بعض الأماكن المحبّبة ويبحث عن بعض الأصدقاء القدامى. سألني إن كنّا نعرف سائقاً يمكن أن نتّفق معه كي نستأجر سيارته لمدة أسبوع فقلت له إن أحد الجيران يمتلك سيارة أجرة ويمكن أن أسأله وذكّرته بمنع التجوّل بعد الغروب، فقال إنّه يعرف ذلك. قلتُ له إنّه سينام في غرفتي وحملتُ حقيبته إليها.
في الصباح التالي سمعته يغنّي وهو يحلق ذقنه: هذا مو إنصافْ مِنَّك/غيبتك هَلْگد تطول/ الناس لو تسألني عَنّك/شرْد أجاوبهم شأگول؟/گلبي خلّيته يتِچَوّى/بْنار هجرانك تِلَوّى/هذي مو منّك مروّة/لا، ولا منّك أصول/الناس لو تسألني عنّك/شَرْد أجاوبْهُم شَگول؟/ ألفْ حيفْ وألفْ وَسْفَة/مثلك يخون وِلْفَه/لا تظن گليبي يِشفى/ والألم عنّه يزول/والناس لو تسألني عنّك/ شَرْد أجاوبهم شَگول؟ قلت له إنّنا نحن الذين كان يجب أن نغنّي هذه الأغنيّة ونعاتبه بها بعد هذه الغيبة. فقال: شنّو يعني آني خاين؟ فقلت له: لا بذّات. فضحك وقال: الله يسامحك يا جودي. هسّة أحچيلك شصار بيّه. قلت له إنّي أمزح.
بعد الفطور تركته يدردش مع أمّي وذهبت إلى بيت حميد، سائق سيارة الأجرة الّذي كان في شارعنا. كان قد خرج فأخبرت زوجته بالموضوع. قالت إنّّه يعود عادة بعد الظهر للاستراحة والأكل قبل أن يخرج ثانية. عدت بعد الظهر واتّفقت معه على أن يمرّ علينا في صباح اليوم التالي. قال إنّه يعمل في يوم الجمعة وليس لديه مانع لكن شرطه الوحيد ألّآ يسوق خارج بغداد لأن الطرق كانت خطرة.
كانت أولى محطّاتنا شارع المتنبّي. أنزلنا حميد في بدايته وطلبنا منهُ أن يجيئنا بعد ثلاث ساعات. كان عمّي يطيل النظر إلى العناوين وبعد حوار مع أحد الباعة عمّا يبحث عنه قال له بأنّ لديه الكثير من الدواوين وكتب التاريخ في المخزن القريب عبر الشارع. قال لي إنّه سيذهب معه. تجوّلت أنا لوحدي في الشارع الذي كنت أحبّه كثيراً لأنّه كان دائماً يعد بمفاجآت في خضم العناوين التي كانت توضع دون نظام معيّن له علاقة بالموضوع أو الحقل. كان هناك ريح خجولة صباح ذلك اليوم ازدادات ثقتها بنفسها بعد الظهر فأصبحت قويّة. كانت تتصفّح الكتب والمجلّات وتقلّب أوراقها بغضب كأنّها غير راضية عمّا تقرأه ولا يعجبها شيء. وضع الكثير من الباعة أحجاراً إضافيّْة وقطع طابوق على المجلّات كي لا تطير. البعض الآخر كان يضع قطع خشب طويلة تكفي لإبقاء صف من الكتب تحت قبضتها دون أن تخفي العناوين. كان لكتب الفقه الشيعي التي كانت ممنوعة فيما مضى حصة الأسد. كان عدد الجرائد الجديدة في تناسل مستمر حتى ضاع الحساب. كان عدم وجود قانون للمطبوعات معناه أن كل من لديه إمكانية للطبع ورغبة في ذلك أن يبدأ جريدة. بالإضافة إى الجرائد كانت هناك بعض المجلّات الأجنبيّة القديمة والكثير من المجلّات العربيّة الجديدة ذات الأغلفة الصقيلة وعلى أغلفة الكثير منها مطربّات وممثّلات يسيل الإغراء من عيونهن وأجسادهن. كنّ على بعد سنتمترات من ملصقات صقيلة لرجال دين معمّمين وجوههم متجهّمة وغاضبة ربّما لأنهم كانوا يودّون لو أنّ بإمكانهم أن يستروا عري جاراتهم والنبيّ أوصى بسابع جار لكنّ.
عاد عمّي وقطع تأمّلاتي. كان قد اشترى نسخاً قديمة من الطبعة الأولى لبعض من دواوين الجواهري “بريد الغربة” و “مرحبا أيّها الأرق” وديواناً لسعدي يوسف وبعض روايات جرجي زيدان، ومذكّرات نيرودا “ أشهد بأنّني قد عشت.” في طريقنا إلى مقهى الشهبندر شاهدنا شابّاً يقف أمام مطبوعات وكتيّبات صغيرة وضعها على صندوق على الأرض. اقتربنا منه وكانت المطبوعات تحمل شعار واسم الحزب الشيوعي العمّالي الذي لم أكن قد سمعت به من قبل وكانت بعض العناوين لتروتسكي ولينين وغرامشي. سلّم عليه عمّي وبدأ يسأله عن الحزب وعن علاقتهم بالحزب الشيوعي فكان للشاب موقف نقدي من الحزب الشيوعي لأسباب عديدة لكنّه لخصها بآخر ما اقترفه الحزب بالانضمام إلى مجلس الحكم الذي كان قد أعلن عن تشكيله وأعضائه قبل أيّام باعتباره خطأ فادحا واعترافاً بالاحتلال وبمشروعه. كان في بدايات الثلاثينيّات طويل القامة بشعر بنّي مجعّد، حليق الذقن يرتدي قميصاً أبيض وبنطلوناً رصّاصيّاً. كان يتكلّم بحماسة وبثقة لكن دون إفراط فيهما وبدا بأنّه قد قرأ الكثير عن التاريخ والسياسة. كان يكرّر كلمتي “عزيزي” و “أخي” قبل كل جملة ويستخدم يده اليمنى لتسانده في بعض النقاط المهمّة. قال له عمّي إنّه نفسه كان قد ترك الحزب منذ ثماني سنوات لرفضه لممارساته وتحالفاته وتوجهاته. ثم سأل الشاب من أين هو، فأجابه بأنّّه من مدينة الثورة. فقلتُ له مشاكساً تقصد مدينة الصدر؟ فقال: لا، عزيزي، مدينة الثورة. سأله عمّي عن شعبيّة الأفكار الماركسيّة في منطقة مثل مدينة الثورة بعد كل هذه السنين، فبدا متفائلاً وقال له إن الحزب كان عنده خلايا عاملة وبأعداد لا بأس بها، لكن الحصار كان ضربة قاصمة للحراك السياسي لأنّه حطّم المجتمع والنسيج الاجتماعي وبأنّه لولا الحصار لما ظل النظام. تذكّرتُ بأنّ أحد الزملاء في السنة الثانية بالأكاديميّة والذي كان دائماً يستشهد بمقولات ماركس كان قد لمّح لي أكثر من مرّة، بعد ان شكوت من الحياة والحرب والاختناق الذي نعيشه، عن مجموعة من أصدقاءه يجتمعون ليتناقشوا بأفكار مشتركة “حتّى نخفّف من غربتنا” كما قال لي يومها، لكنّني خفت من أن يكون طعماً أو شركاً للإيقاع بي، فتعلّلت بانشغالي بالدراسة والعمل. بدا أنّ عمّي لم يكن بتفاؤل هذا الشاب المتحمّس، فسأله عن رأيه في صعود الخطاب الطائفي وتجذّر الفكر الديني في سنين الحصار، فقال الشاب بأن تاريخ العلمانية في العراق عريق مقارنة بدول المنطقة وبأن الأحزاب الدينيّة لا تقدّم حلولاً بل غيبيّات كما أن الحركات الإسلاميّة فشلت في العالم العربي. دخل أحد المتديّنين على الخط ليحاجج الشاب. أخذ عمّي بعض الكتيّبات وأعطى الشاب مبلغاً من المال كتبرّع، فشكره ودعانا لأن نزورهم في مقرهم المؤقت. سأله عمّي عن المكان فقال بأنّه بنك الرافدين في بداية شارع الرشيد. سأله عمّي إن كانوا هم الّذين نهبوا البنك، فضحك الشاب وقال له بأنّهم وصلوا متأخرّين. ضحك عمّي وودّعه.
سألته عن رأيه بما قاله الشاب فقال إنّّه متفائل أكثر من اللازم بخصوص العلمانيّة ولكن ربما كان هذا ضروريّا. ثم أضاف إنّه تذكّر واحدة من مقولاته المفضّلة لغرامشي عن تشاؤم الفكر وتفاؤل الإرادة وأشار إلى الكتيّب الذي كان مقتطفات من نظريته عن المثقّف العضوي. وقال إنّه متشائم بخصوص الخطاب الطائفي وقال إن ما حدث ليس مجرد احتلال، بل تدميراً لدولة عمرها أكثر من ثمانين سنة وبأن الحرب والاحتلال هذا هو الضربة القاضية، لكن العملية، برأيه، بدأت منذ حرب ٩١ التي دمّرت فيها البنية التحتيّة ثم الحصار الذي خرّب النسيج الاجتماعي والآن الفراغ الذي خلقه الاحتلال ستملأه الأحزاب الطائفيّة لأنّها تمتلك مؤسساتها وخطابها الذي يدغدغ العمق النفسي ولأنّها عرفت كيف تستغل المناخ السائد. لكنه استدرك قائلاً إن تاريخ العلمانية في العراق عريق. فحزب الدعوة، مثلاً، تأسّس في النجف لأنّ المدّ الشيوعي كان من القوة حتّى في النجف وكربلاء بحيث أنّه استقطب الكثير من الشباب وأخاف المراجع لأن البعض صار لا يفرّق بين الشيعي والشيوعي. كنّا قد وصلنا إلى باب مقهى الشهبندر. قلت له: هل رأيت كل ملصقات المراجع ورجال الدين والكتب الفقهية التي تباع؟ فقال بالطبع بعد كل هذا الكبت لسنين طويلة لابد أن يكون هناك تعطّش، لكن ربما يخبو. دخلنا و وجدنا مقعدين فارغين فجلسنا وطلبنا شاياً. كان هناك فريق من محطّة تلفزيون فرنسيّة يجري حوارات مع بعض المثقّفين. شاهدت المخرج المسرحي صلاح القصب يجلس على بعد بضعة أمتار. اقتربوا منه وسمعته يعتذر عن الإجابة عن أي أسئلة لأكثر من مرّة. ألح مقدّم البرنامج وسأله المترجم: ماذا تقول عن كل ما حدث؟ فقال له: صوّر شوارع بغداد. هذا رأيي. بعد عشر دقائق لمح عمّي وجهاً يعرفه فقام واتجه نحوه. كان الرجل يوزّع جريدة “طريق الشعب” تعانقا بحرارة وقبّلا بعضهما البعض. كان في الخمسينيّات بشعر أبيض ويرتدّي نظارات وقميصاً أزرق بجيوب كبيرة وقد تأبّط الجرائد. تحادثا لربع ساعة قبل أن يعود عمّي ومعه نسخة من الجريدة ليقول لي إنّه كان معه في الحزب وكانت آخر مرّة رآه فيها في بيروت عام ١٩٨٢. بحثت عن وجه أعرفه لكنّني لم أر أحداً من الذين أراهم عادة. أخذ عمّي يتصفّح الجريدة. كانت هناك إعلانات عن مجالس تأبين وعزاء لشهداء من الحزب كانوا قد أعدموا قبل سنين وكان هناك إعلان كبير عن مسيرة جماهيريّة بمناسبة ذكرى ثورة ١٤ تموز بعد ثلاثة أيّام يطلب من أصدقاء الحزب التجمّع في ساحة الحريّة ثم التوجّه إلى ساحة الفردوس. قرأ عمّي الإعلان وسألني عن رأيي بأن نشترك في الاحتفاليّة، فوافقت وقلت له سآتي لأنني أريد أن أكون معه ولكن يجب أيضاً أن أخرج في مظاهرة واحدة في حياتي بدون أن أجبر على ذلك وبدون أن تكون تأييداً لحزب البعث، لأجل التنويع فقط! فضحك.
نظرت إلى ساعتي وذكّرته بأنّ موعدنا مع السائق كان قد حان. مررنا ثانيّة بالشاب الشيوعي فحيّانا من بعيد وتبادلنا الابتسامات. بعدها طلب عمّي من حميد أن نذهب إلى ساحة الأندلس. كان قد سمع بأنّ مقر الحزب الشيوعي الجديد كان في بناية التأمين في ساحة الأندلس. قلت له إنّي ظننتُ بأنّه قد طلّق الحزب، فقال: إي، بس أريد أشوف أخبار رفاقي اللي چانو، أسأل عنهم أشوف منو راجع منو موجود. ما راح أطوّل. كنت نعساناً فقلت له بأنّني سأغفو في المقعد الخلفي لحين عودته. حين عاد كانت ابتسامته قد اختفت، فسألته عن السبب، فقال: ماكو شي.
في اليوم التالي شاهدنا إعلان تشكيل مجلس الحكم الانتقالي بإشراف بريمر على شاشة التلفزيون. كان المجلس خليطاً عجيباً من أسماء لم نسمع بأغلبيتها من قبل، يفترض بأنّها تمثل “أطياف” الشعب العراقي. ما كان يجمعها هو أن كل اسم كان مسبوقاً بالانتماء الطائفي لصاحبه، فهذا “سنّي” وذاك “شيعي” والآخر “مسيحي” وهو ما لم نكن نعهده من قبل. استشاط عمّي غضباً حين شاهد سكرتير الحزب الشيوعي العراقي يجلس مع البقيّة. قال إنّه سمع عندما زار مقرّ الحزب بالأمس بأنّ الحزب استشار كوادره و صوّت على أن يكون في المجلس، لكنّه لم يصدّق عينيه. ضرب كفّاِ بكف وقال: شوف شوف بشرفك، حاطّيه على أساس هو شيعي مو على أساس إنّه يمثّل تيار أيديولوجي أو حزب إله تاريخ نضالي. حرامات هاي تصير تاليتهه. هسّة كل تاريخ النضال ضد الدكتاتوريّة ورفض الحرب كلّه يروح بالزبل ويصير حال الشيوعيّين مثل كل هذوله اللگامة والحراميّة الباقيين كل واحد كرشه طن.
ومع ذلك، ذهبنا إلى ساحة التحرير في صباح اليوم التالي الذي كان الرابع عشر من تمّوز. قال عمّي إنّه يريد أن يحتفل بذكرى الثورة وبتضحيات الشيوعيّين بغض النظر عمّا آل إليه الحزب في السنين الأخيرة. كان المئات قد تجمّعوا تحت نصب الحرية. لم أكن قد وقفت تحت النصب أو مررت به منذ فترة طويلة. كان متّسخاً بعض الشيء من التلوّث والإهمال وبحاجة ماسّة إلى صيانة وترميم، لكنه كان يحتفظ برونقه. تذكّرت الأستاذ رائد وأحلامي الّتي تبخّرت.
كان هناك الكثير من الشيوعيّين بالطبع وكان المنظّمون يضعون شارات حمراء حول سواعدهم، لكن كان هناك أيضاً الكثير مّمن بدا أنّهم متعاطفون أو ممّن قد يجد نفسه أقرب إلى الحزب الشيوعي من غيره من الأحزاب الطائفيّة. كان هناك بعض المحجّبات. ربما اجتذب الكثيرين شعار “لا للاحتلال/نعم للديمقراطيّة” الذي كان يحتل الكثير من اللافتات التي كان البعض يحملها. كانت هناك لافتات أخرى والكثير من الأعلام الحمراء وصور عبد الكريم قاسم. كنت متعوّداً أن أقرأ اسمه في سياق التنديد به لأنّه “انفرد بالحكم وأصبح طاغية” وكان اشتراك صدّام في محاولة اغتياله واحدة من سلسلة القصص البطوليّة التي أعيدت علينا مئات المرّات، لذا كان شعوراً غريباً أن أرى هذا العدد من صوره ترفع على الملأ لا للتنديد به، بل للاحتفال بذكراه.كان عمّي يؤمن بأنّه وبالرغم من كل الأخطاء كان أوّل عراقي وطني يحكم البلد في القرن العشرين وبأنّه قام بانجازات مهمّة. قال وهو ويشير إلى الجنود الأمريكان الّذين كانوا يراقبون المشهد من سيّارة همڤي بأنّ الأمريكان كانوا ضدّه وساعدوا البعثيّين من أجل الانقلاب ضدّه. كان الجو احتفاليّاً وجاءت فرقة موسيقى شعبيّة وبدأت تعزف واشترك الكثير بالرقص. أبصرت سيّدة في الستّين من عمرها تصفّق وترقص. قال عمّي بأنّها شيوعيّة قديمة عائدة من لندن يعرفها من صورتها لأنّها تكتب بعض المقالات. كانت بعض السيّارات المارّة تزمّر تحيّة للمظاهرة. بدا عمّي سعيداً ومتحمّساً بالرغم من انتقاده الشديد لدخول الحزب إلى مجلس الحكم. قلت له إنّ الّذي يرى المظاهرة يظنّ بأنّ الحزب الشيوعي سيكتسح الانتخابات ويحكم البلد.عندما هتف البعض “حِزْبَك فَهَدْ ما مات، باقي للأبد” سألته من يكون فهد هذا، فاستغرب وقال إنّه مؤسس الحزب الذي أعدم في العهد الملكي وقال قولته الشهيرة قبل إعدامه: الشيوعيّة أقوى من الموت وأعلى من المشانق.” نصحني بأن أقرأ كتاب حنّا بطاطو عن العراق لأنّه الأهم والأكثر موسوعيّة عن تاريخ العراق الحديث، فوعدته أن أبحث عنه، قال إنّه سيرسل لي نسخة إن لم أجده في بغداد. بعد ساعة بدأت الجموع بالسير نحو ساحة الفردوس. كانت المسيرة منظّمة وعندما كنّا نسير في شارع السعدون كان عمّي يلتفت إلى الوراء ليحاول أن يقدّر عدد المشتركين. عندما وصلنا إلى ساحة الفردوس كانت الأعداد كبيرة جدّاً. ظلّت المروحيّات الأمريكيّة تحوم فوق رؤوسنا.
كان التفاؤل بالعلمانية مفرطاً وفي غير محلّه لأن الأسابيع التي أعقبت تلك المظاهرة شهدت الكثير من المظاهرات التي نظمتها الأحزاب الأخرى وكانت مثقلة بالرموز الدينيّة والطائفيّة. كما أن الدمغات الطائفيّة أصبحت عادية وبدأت تكتسب زخماً غير عادي. وبمرور الزمن تخلّف الحزب الشيوعي وصار حضوره ضئيلاً وبائساً في الانتخابات لأن علمانيته كانت تعني أن حصانه سيكون دائماً الأخير في سباق الخيول الطائفي لا يراهن عليه أحد.
فاجأني عمّي برغبته في أن يذهب ويرى نصب الشهيد الذي صمّمه اسماعيل فتاح الترك. قال إنّه رآه في الصور طبعاً، لكنّه قرأ مقالة لناقد ألماني يقول فيها إنّه من أجمل النصب التي رآها في حياته. وكان يريد أن يراه بأبعاده الحقيقيّة. من ساحة الأندلس اتّجهنا نحو ملعب الشعب فسألته إن كان يذكر كيف أدخلني إلى “الطريقة الزورائية” فضحك وقال: طبعاً. نظر إلى القاعة المغلقة التي كانت بالقرب من ملعب الشعب وسألني عنها، فقلت له هذه قاعة صدّام المغلقة. فقال: وهسّة شراح يسمّوهه؟ قاعة بوش؟
لاحت قبّة نصب الشهيد المشطورة ذات اللون السماوي من بعيد وبدت كما لو أنّها تتحرّك وتغلق كلما اقتربنا. أخرج عمّي كاميرته وأخذ يلتقط الصور وقال إنّ النصب جميل جدّاً. على الجانب الآخر من الشارع كان هيكل بناية اللجنة الأولمپيّة التي تعرضت لقصف شديد هو كل ما بقي منها بعد أن احترق كل شيء وانهارت أجزاء كبيرة منها. سألني عنها فقلتُ له بأنّها كانت مقرّ عديْ. نظر إليها قليلاً والتقط صورتين ثم عاد بأنظاره إلى نصب الشهيد. كنّا أمام الباب الرئيسي وبدا أنّ الأمريكان كانوا قد احتلّوا المكان وقد جعلوا منه موقعاً عسكريّاً. كانت هناك مسنّنات على الأرض أمام الباب وجنود يحملون رشّاشات يقفون أمام البوّابة وكانت المدرّعات الأمريكيّة مصفوفة على يسار الشارع المؤدى إلى النصب. تذكّرت كيف زرنا، ريم وأنا، النصب بعد افتتاحه للجمهور عام ١٩٨٩ وأعجبنا بجماله بالرغم من كرهنا للحرب ومعانيها. أزعجني وأغضبني منظر الجنود الأمريكان والمدرّعات في مكان يرمز إلى ضحايا الحرب مثل أخي ومئات الآلاف غيره. قال عمّي إنّها إهانة مقصودة ومسألة تحمل دلالات رمزيّة وليست فقط لأسباب لوجستيّة.
بعد نصب الشهيد طلب من حميد أن يأخذنا إلى شارع الرشيد، فقال له إن كل المحال ستكون مغلقة ولن يمكنه شراء شيء، فقال له عمى بأنّه لا يريد التسوّق ولكنه لم ير الشارع منذ أكثر من عقدين. كانت الساعة حوالي الخامسة عصراً وبدا الشارع مقفراً. قال حميد إن الجرائم منتشرة وهناك قتل وتسليب لذلك لا يفتح الكثيرون محالهم ومن يفتح محله يغلقه مبكّراً. تأثّر عمّي لمنظره وقال: معقولة هذا شارع الرشيد هيچي يصير؟ چان دائماً مليان. هسّه منظره يگطّْع الگلب.
قال لي قبل يومين من سفره إنّه يشتهي أن يأكل وجبة مسگوف. فقلت له إن الوالدة ستكون سعيدة بأن تحقق له هذا المطلب وسنشتري السمك، فرفض وقال إنّه سيأخذني إلى مطعم. عندما استعلمت عن السبب قال لي إن سمك النهر ملوّث وخطر بسبب اليورانيوم المنضّب وإنه كان قد سمع وقرأ بأنّ المجاري والقاذورات تقذف في دجلة مباشرة بدون تصفيّة. أبهرني بمعلوماته وبمتابعته لكل ما يجري في العراق وهو هناك. استغربت وسألته ألن يكون سمك المطعم من النهر؟ فقال إنّهم يربّونه في بحيرات اصطناعيّة. كانت جلسة المطعم جميلة لأنّنا استعدنا بعض الذكريات المشتركة. سألته إن كان يمل أو يكتئب من متابعة الأخبار فقال لي إنّه يقرّر كل بضعة أشهر أن يبتعد عن الأخبار ويهجر السياسة وصداعها، لكنّّه يعود بعد يومين لأنّ الأمر مستحيل. “إدمان مرضي.”
سألني عن مخطّطاتي، فقلت له إنّ حلمي هو أن أكمل دراسة الفن في الخارج. في إيطاليا أو أي بلد آخر. شجّعني على ذلك وقال لي إنّّ إمكانياته الماديّة محدودة لكنّه سيساعدني في الحصول على معلومات عن منح ومساعدات وسيسأل صديقاً له يدرّس في أحد معاهد الفن في هولندا. قلت له إنّ ما يقلقني هو أمّي وخوفي من أن أتركها لوحدها في هذا الأوضاع. فقال لي: تمام. خلّينا نفكّر بالموضوع سويّة ونشوف حل.
سألته إن كان سيكرّر الزيارة قريباً. فقال لي: صعبة أحصّل إجازة من الشغل. وتريد الصراحة، كلّش فرحت إنّو شفتكم، وخصوصاً إنتَ. بس انكسر گلبي باللي شفته. آني چنِت أتابع أخبار العراق يوم بيوم بالراديو والجرائد والتلفزيون وبعدين بالإنترنت. ما أخلّي شي يفوتني. وچنت أعرف الحصار دمّر البلد، بس غير شكل لمّن الواحد يشوف بعينه. صدمة. البلد تعبان والناس تعبانه هلكانه. يعني حتّي هاي الكرّادة مو چانت أحلى منطقه شوفهه شلون صايرة؟ بعدين الزبل والطوز والأسلاك الشائكة والدبّابات. نسوان ماكو تمشي بالشارع. هاي مو بغداد اللي چنت أتصورهه. حتّى النخل المسكين تعبان ومحد مداريه. مو بس البشر! وهذوله الأمريكان، بعنصريتهم وغباءهم، ثِق، راح يخلّون الناس تتحسّر على أيّام صدّام.” وصدقت نبوءته.
مرّ الأسبوع بلمح البصر وفي الليلة الأخيرة قبل الرحيل اجتمعت العائلة عندنا لودّاع عمّي. جاءت شيماء أختي وزوجها ستّار وولداهما. سلّم ستّار على عمّي لكنّه غادر بعد نصف ساعة كعادته متعلّلاً بالأشغال. قالت شيماء إنّه يعمل مع أحد العائدين من الخارج في شركة مقاولات وبناء جديدة ستحصل على الكثير من العقود الثانويّة لإعادة الإعمار. فقالت لها أمّي عندما سمعت ذلك: ليش ميصلْحون الكهرباء؟ كانت الكهرباء مقطوعة وأكلنا على ضوء الشموع. قال عمّي إن الناس في ألمانيا يدفعون الكثير للتمتّع بأجواء رومانسيّة مثل هذه على ضوء الشموع. أصرّ في صباح يومه الأخير على شراء "دِش" كهديّة للبيت. قال إننا يجب أن نتنفّس ونشاهد ما فاتنا بعد كل تلك السنين من المعاناة والحصار وكنّا قد أوشكنا على تشغيله لكن الكهرباء انقطعت قبل أن ينتهي الرجل الذي جاء من المحل ليركبه ويبرمجه. أتفقنا أن أمر على محله الذي كان قريبا في اليوم التالي عندما تعود القوة. أصبح الدش نافذتنا التي تطل على العالم وعلى خرابنا الذي كان سيتفاقم يوماً فيوم.
في الصباح كان الوداع مبلّلاً بالدموع. عاتبته أمّي ونحن نشرب آخر شاي لأنّه زار الدنيا كلّها ولم يزر قبر أخيه وابن أخيه. فقال لها إنّه لا يزور القبور أبداً ولا يحتاج لأن يراها ليتذكّر. وضع يده على قلبه وقال لها: أمّوري وأبو أمّوري ضامهم هنا بگلبي.سلّمني ظرفاً فيه خمسمئة دولار قال إنّني يجب أن أقبّلها لتعيننا إلى أن تتحسّن الأمور. قال لي إنّه واثق من أنّنا سنرى بعضنا في المستقبل القريب. بكت أمّي وهي تعانقه وقالت له: مو تروح وما ترجع إلا بعد خمسة وعشرين سنة! ورشّت الماء وراء سيّارته كي تضمن عودته.
أرسل لي بعد شهر من رحيله مقالة حزينة متشائمة كتب فيها انطباعاته عن زيارته كان عنوانها “إطلال المشتاق على أطلال العراق” ونشرها في إحدى المواقع اليسارية. وكان أجمل مقاطعها عن العراقيّين والنخل. “العراقيّون والنخل: من يشبه من؟ ملايين العراقيين ومثلهم أو أقل من النخل. منهم من تفحمت سعفاته. منهم من قطعت رأسه. منهم من كسر ظهره الدهر، لكنه مازال يحاول الوقوف. منهم من يبست أعذاقه. منهم من اقتلع ومثّل به ونفي من بستانه. منهم من سمح للغازي أن يتكّئ على جذعه. منهم من يمشط الريح بسعفه. منهم من يقف بصمت. منهم من سقط. ومنهم من يشمخ ويرفع رأسه بالرغم من كل شيء في هذا البستان الكبير: العراق. ترى متى يعود البستان لأهله؟ لا للذين يحملون الفؤوس ولا للبستاني الذي يغتال النخل مهما كان لون سكينه.”
عندما تم اختيار الجعفري لرئاسة الوزراء كتب لي: يقول ماركس إن التاريخ يعيد نفسه مرتين، مرة على شكل مأساة، ومرّة على شكل مهزلة. وما نراه الآن هو المهزلة. فمن كان يصدّق بأن رئيس وزراء العراق سيكون من حزب الدعوة وعلى رأس قائمة طائفيّة رجعيّة؟ عندما تركت العراق كان حزب الدعوة ممنوعاً وفيما بعد وضعه الأمريكان على قائمة الإرهاب والآن الجعفري يصافح بوش؟ فسبحان مغير الأحوال.
٢٣
أدمنت الذهاب إلى مقهى الانترنت الذي فتح أبوابه في شارع الزهراء. كنت أجلس أمام شاشة الحاسوب لثلاث أو أربع ساعات كل مساء دون أن أشعر بمرور الوقت. كنت منبهراً بهذا العالم، أو الكون، الذي تأخّرنا عنه بسبب الحصار والتعتيم. مازالت أسعار الاشتراكات غالية للحصول على الانترنت في البيت. وليس عندي حاسوب. لكنّ أجرة مقهى الانترنت بسيطة. أبدأ عادة بجولة سريعة في بعض الجرائد المحليّة والعربية ومواقع الأخبار لأقرأ ما يقوله العالم عن خرابنا المستمر. اكتشفت موقعاً عراقياً اسمه “أوروك” وكان يشبه عراق اليوم بتضاريسه السياسيّة وبفوضاه، فكنت أجد فيه كتابات عميقة وثاقبة وأخرى ساخرة، جنباً إلي جنب مع أفكار طائفية وعنصرية ونظريّات لا تنتهي. كان ينشر للجميع بغض النظر عن خلفياتهم ومنطلقاتهم كما كان ينشر الكثير من الوثائق الحكومية والمعلومات التي تفضح السياسيين وفسادهم الذي أستشرى. بعد ذلك كنت أبدأ تسكّعي اليومي الذي ما كان يتقيّد بخارطة أو بهدف معيّن. كان تسكّعاً يقوده المزاج وكانت الصدفة والكلمات والأفكار التي تخطر برأسي هي التي تقودني إلى مواقع ومعلومات جديدة. فتحت حساباً بريديّاً (هوتمايل) للتواصل مع عمّي وللاتّصال بريم . فقد كنت متفائلاً بالعثور عليها وإعادة الاتصال بها.
كنت أشعر بالفخر والإعجاب حين أجد أن بعض زملائي من الذين هاجروا منذ سنين قد نجحوا وصار لديهم مواقع خاصة يعرضون فيها أعمالهم الفنية. لكنّني لا أنكر بأنني كنت أشعر بالغبن والمرارة والغيرة حين أرى أن البعض ممن لا يمتلكون ربع موهبتي قد نجحوا أيضاً ورسّخوا أسماءهم في عمّان وأماكن أخرى بفضل العلاقات العامة. بدأت أحلم بيوم يكون لي فيه موقعي الخاص، لكنّني تذكرتُ بأنّ علي أن أعود إلى الانتاج أولاً.
٢٤
طرق الباب بعد حوالي شهر من وفاة أبي. كان في نهايات الأربعينيّات، قصير القامة بعمامة بيضاء وبلحية رماديّة مقصوصة بعناية علا الشيب حافّاتها. كان يرتدي نظارات طبيّة مدّورة ذات إطار معدني فضّي، وقف الجسر الذي يربط بين العدستين على قمة أنفه الكبير تاركاً مسافة بين العدستين وبين عينيه العسليتين اللتين كان يعلوهما حاجبان كثيفان امتزج فيهما الأسود بالشيب. كان يرتدي عباءة سوداء هفهافة فوق جاكيتة سوداء، بعد السلام مدّ يده معزيّاً بوفاة الوالد “البقاء في حياتك إبني. آني السيّد جمال الفرطوسي. أعذرنا عن التقصير. بس ما سمعت إلّا البارحة.” شكرته وطلبت منه أن يتفضّل بالدخول ففعل بعد أن قال لشاب صغير كان يقود السيارة التي جاء بها بأن ينتظره في السيّارة. فتحت باب غرفة الضيوف وأشرت له بأن يتفضل بيدي وطلبت منه أن يجلس. ناديت على أمّي وطلبت منها أن تعد لنّا فنجاني قهوة. قال إنه كان يعرف الوالد منذ عدة سنوات وأحبّ أن يقوم بالواجب لكن الحرب ودخول الأمريكان عطّلا كل شيء. بعد دقائق طرقت أمي الباب المؤدّى إلى الممر فقمت لأفتحه وأخذتُ صينية القهوة من يدها. قدّمتُ الصينيّة فمد يده وأخذ فنجان القهوة ووضعه على الصحن وعلى الطاولة التي كانت إلى يمين الكرسي. وضعتُ الصينيّة على الطاولة الكبيرة في وسط الغرفة وأخذت فنجان القهوة الثاني. بعد أن ارتشف قليلاً من القهوة سألني عن ظروف وفاته فقلت له إنه مات في هذه الغرفة التي نجلس فيها وهو راكع يصلّي، فبدا عليه التأثّر وردد “سبحان الله” عدة مرّات ثم ردّد “أسكنه فسيح جنّاته” مرّتين. بعد صمت ثقيل قال لي: حضرتك ما چنت تشتغل ويّه الوالد؟ فأجبت بالنفي. فسأل: شعجب؟ آني إبني هذا اللي ينتظر بره بالسيارة يشتغل ويايّه وأخوته الاثنين همّاتين”. فقلت له: االله ما راد؟ فابتسم. سألته كيف يعرف المرحوم.قال بأنه يقوم منذ أكثر من عشر سنوات بالإشراف على جمع جثث مجهولي الهوية وأولئك الذين لا تقوم عوائلهم باستلامهم ودفنهم من المستشفيات والطب العدلي ويتولّي الإشراف على غسلها وتكفينها ودفنها. سألته إن كان يمثّل جهة حكوميّة أو مؤسسة خيريّة فقال إنّه يعمل كل ذلك بشكل غير رسمي وأنها مبادرة فرديّة واجتهاد منه لوجه الله ولكن كان لديه اتفّاق مع وزارة الصحّة والمستشفيات وبأنه كان يعرف المرحوم عن هذا الطريق حيث كان يغسل بعض الجثث عنده. سألته عن الوضع الآن، فقال إن البلد في حالة فوضى كما هو واضح ومعظم الوزارات نُهِبَت ودمّرت، لكن وزارة الصحة لم تنهب على حد علمه. وهو ينتظر أن تتوضّح بعض الأمّور لكي يتابع عمله وهو الآن يحاول استحصال الموافقات من الجيش الأمريكي لكي لا يتعرّضون لشاحنته وفريق عمله عند تجوالهم في العاصمة. “لكن حتّى الأمريكان مخربطين. واحد يدزني لِلّاخ. گالولي تروح للمنطقة الخضراء، وين چان القصر، بس ما خلّوني أدخل. اللي هناك گالولي لازم تروح لقصر المؤتمرات تجيب موافقة، بس ماكو نتيجة.” سألته عمن يدفع المصاريف التي يتكبّدها فقال إنها من فاعلي الخير الذين يتبرّعون شهرياً له. وجدت نفسي أقول له تلقائياً: بارك الله بيك وكثّر الله من أمثالك. فقال لي فجأة:
- يلله شد حيلَك وكمّل نهج المرحوم! تعرف تغسّل؟
- إي، تعلّمت من الوالد واشتغلت وياه بس هالحچي قبل سنين.
أخبرته إنّ حمّودي، مساعد المرحوم، هو الذي سيواصل النهج وهو الذي يعمل في المغيسل الآن ويمكنه الاتّفاق معه. فاستبشر خيراً وقال إنه يعرفه. كان حمّودي قد فاتحني بعد أسبوع من الوفاة برغبته في مواصلة العمل واقترح أن يدفع لنا نصف ما يحصل عليه كبدل إيجار. وافقت بدون أن أفكّر كثيراً في الأمر. فقد كنّا بحاجة إلي دخل خصوصاً وأن سوق صبغ البيوت كان جامداً ولم أفلح في الحصول على عمل آخر بالرغم من كل محاولاتي.بدلاً من الوعود بجعل العراق جنة تشبه هونغ كونغ تفاقمت البطالة وعمّت الفوضى. ودّعت الشيخ دون أن أظن أنه سيعود ويدخل حياتي من جديد.
٢٥
-“يعني تروح تُصْبُغ وتسوّي أصنام أحسن من شغل شريف يصيبكْ بيه أَجِر؟”
كان أبي قد جرحني بهذا السؤال أكثر من مرة حين أخبرته برغبتي في ممارسة النحت. إنهم يسرقون الأصنام هذه الأيام يا أبي. سرقوا عبد المحسن السعدون وصهروه وباعوه. والذين لا يسرقون التماثيل يسقطونها لأنهم يريدون إعادة كتابة التاريخ من جديد. المضحك المبكي أنهم يقلّدون عدوّهم الذي حاول أن يعيد كتابة التاريخ من منظار بعثي وهدّم ما هدّم من تماثيل و وضع مكانها تماثيل جديدة. التاريخ صراع تماثيل ونصب، يا أبي، ولن يكون لي نصيب فيه لأنني لم أنحت شيئاً مهمّاً بعد.
حتّى صنم صدّام الكبير في ساحة الفردوس سقط بعد موتك. كنت أظنّ بأنّني سأفرح لسقوطه أنا الذي كنت أمقته، لكنّني شعرت بأن الفرحة سرقت منّي. لم تكن هذه هي نهاية السيناريو الذي كنت أحلم به. فالذين أسقطوه كانوا هم أنفسهم الذين وضعوا صاحبه هناك في المقام الأول وهم الذين دججّوه بالسلاح في الحرب التي أزهقت روح أمّوري، إبنك المفضّل. والآن هناك من يريد أن يقطع رأس أبي جعفر المنصور ويسقط تمثال المتنبّي. التماثيل تخاف أن تنام في الليل لكيلا تستيقظ ركاماً.
٢٦
كنت قد ظننت بأنني نجحت في الابتعاد عن الموت وطقوسه في السنتين اللتين أعقبتا وفاة أبي. لكنني اكتشفت بأنني كنت قد ابتعدت عن التعامل معه بيديّ فقط، لكن أصابعه كانت تزحف في كل مكان من حولنا ولم أتمكن من طرد فكرة أنه يعيّشني؟ لكنني كنت أحاجج نفسي بالقول: وما الذي تغيّر؟ ألم يكن هذا هو الحال من قبل عندما كان أبي هو العائل؟ ألم أكن آكل وأشرب ممّا يوفّره لنا الموت بطريقة أو بأخرى. كنت أساهم في مصروف البيت قليلاً. الفرق الآن هو أنّ الموت أكثر سخاء بفضل الأمريكان. حمّودي كان يجيء مرّة في نهاية الشهر لتسليم نصف دخل المحل. وكل مرة كنت أسأله فيها عن أحواله و عن الشغل، كان يقول بأن الشغل يزداد وكنت أعرف ذلك لأن ما يسلّمني إياه كان يزداد كل شهر. سألته ذات مرّة عن الذين يغسلهم فقال إن الكثير منهم يموتون برصاص الأمريكان، لكن هناك الكثير من ضحايا الجرائم التي انتشرت بشكل لم يسبق له مثيل بالإضافة إلى التفجيرات والمفخّخات.
فشلت كل محاولاتي في إيجاد أي عمل. أخذت أقضي معظم وقتي في القراءة وفي التسكّع على شبكة الانترنت واكتشاف العوالم التي حرمنا منها لسنين بسبب الحصار. صار مقهى أفق في شارع الزهراء القريب من بيتنا محطة يوميّة. فتحت حساباً بريديّا هوتميل وكم كنت ساذجاً حين اخترت giacometti ليكون اسم المستخدم واتضّح أن المئات كانوا قد اختاروا هذا الاسم. كانت اختياراتي كلها ترفض، فاضطررت لاختيار جياكوميتي مع سنة ميلادي. بحثت عن ريم كثيراً في الأيام الأولى دون جدوى. بدأت أفكّر جديّاً بأن أكمل دراسة النحت في الخارج. كنت أدرك بأن الحصول على منحة ليس بالأمر الهيّن وبأن تكاليف السفر والدراسة ستكون باهظة وهناك أيضاً حاجز اللغة، خصوصاً وأن انكليزيتي ضعيفة ولا تتعدّي ما بقي من المدرسة وبعض الجمل من الأفلام. لكنّني بدأت أجمع المعلومات وحاولت مراسلة بعض كليّات ومعاهد الفنون وكانت الأجوبة غالبا كليشيهات تشكرني على اهتمامي وتنصحني بقراءة الشروط والمتطلبات وأصول التقديم وتذكر موضوع سمة الدخول. استشرت أستاذ عصام في الموضوع فشجّعني ووعدني بأن يساعدني ويكتب رسالة توصيّة وركّز على أهميّة البورتفوليو وأنه يجب أن يكون قويّاً لتزداد فرصي في القبول، خصوصاً بأنّي لم اشترك في معارض منذ تخرّجي. قال لي بصراحة بأنني يجب أن أعود بجديّة وبهمّة إلى الممارسة. اشتريت كاميرا رقميّة صغيرة كي أصوّر بها بعض أعمالي القديمة.
اتّصل بي الأستاذ عصام على المحمول الذي كنت قد اشتريته بعد ثلاثة أشهر من دخول الأمريكان وقال لي إن المركز الثقافي الفرنسي سينظّم معرضاً للفنانين الشباب وأولئك الذين لم يأخذوا فرصتهم في الماضي وشجّعني على أن أشترك. كان عليّ أن أختار عملاً واحداً فقط. فاخترت العمل الذي كان قد سبب لي مشاكل أيّام الأكاديمية وهو عبارة عن كرسيّ حديديّ غريب التصميم، كنت قد وجدته مرميّاً في الشارع ذات يوم وأنا أتسكّع مع ريم بالقرب من الأكاديميّة وقد علاه الصدأ فرماه أصحاب البيت. قررت أن أحمله معي. ضحكت ريم يومها وقالت بغنج: شنو راح تأثّث عش الزوجيّة من هسّة؟ قلت لها: تعرفين آني ضد الزوّاج، بس عندي فكرة لعمل فنّي.عندما أخذت الكرسي إلى الأكاديميّة لأضعه في ورشة القسم، سخر منّي مسؤول الأمن الذي كان يجلس في مدخل الأكاديميّة وقال: هاي شنّو دتبيع سكراب!
أضفتُ إلى ذراعيه و أرجله الأماميّة سلاسل حديديّة اشتريتها من سوق باب الأغا وقيوداً طوّعتها بنفسي بالمطرقة حتى بدأ يشبه كراسي التعذيب. كنت أنوي الاشتراك به في المعرض السنوي، لكن ريم نصحتني بألّا أفعل ذلك وأعرّض نفسي للخطر دون داع. استشرت الأستاذ عصام الذي وافقها الرأي. فكّرت أن أضيف إلى الكرسي قفصاً صغيرا وأضع فيه عصفوراً حقيقيّاً،قالت ريم إنّها فكرة جيدة ولكنها تفضل الكرسي بالسلاسل فقط وبدون عصفور، لكنها قالت إن هذا لا يغيّر من وضوح الفكرة الرئيسيّة وخطورة عرضه أمام الجميع. أُعجب الأستاذ عصام به كثيراً فأعطيته له كهديّة. رفض في البداية لكنني قلت له إن ذلك سيشّرفني وبأنه لا مكان عندي في غرفتي الصغيرة في البيت. وبقي الكرسي في مكتبه كل هذه السنوات. كان يحرص ألا يضع عليه أي شيء بالرغم من أكوام الأوراق والكتب التي كانت في مكتبه. عندما زرته في المكتب لآخذه إلى البيت لأنّني كنت أنوي أن أنظفه وأضيف صبغاً أحمر يشبه قطرات دم وربما أضعه على منصة، لاحظت أن الأستاذ بدا مهموماً بعض الشيء. استفسرت عن الأمر فقال لي إن هناك إشاعات عن النيّة من الانتقام من كل من كان منتميّا للبعث. فضحكت وقلت له بأن ٩٥٪ من الناس اضطرّوا للانتماء ولكن كان من الواضح أنه لم يكن بعثيّاً حقيقيّا وبأنّه اضطر للانتماء كي يوافقوا على منحته إلى إيطاليا. فقال لي إن البعض يحاول أن يصفّي حسابات أخرى. “الله كريم.”
قيل لنا أن نجلب أعمالنا قبل يومين من المعرض. أخذت سيّارة أجرة إلى فرع المركز الثقافي الفرنسي في شارع أبي نؤاس (الآنيكس). كان هناك ازدحام شديد وفوضى المرور التي عمّت منذ سقوط بغداد. بعد أربعين دقيقة وصلنا إلى بداية شارع أبي نؤاس. كان هناك الكثير من المطبّات والطسّات من جرّاء القصف وخفت أن يحدث شيء للكرسي الذي وضعته في الصندوق الخلفي بمساعدة السائق، لكنني تذكرت بأنه من حديد. كان أحد الممرّين في الشارع مغلقاً وكانت السيارات تسير باتجاهين متعاكسين في ممر واحد وقد تموضعت الدبّابات الأمريكيّة إلى الجانب الشرقي منه. عندما وصلنا بالقرب من ساحة الفردوس حيث الفنادق الكبيرة وتمثال صدّام كان هناك جنود أمريكان يشيرون إلى السيارات بالعودة. تأفف السائق واستدار وأخذ شارع السعدون إلى الكرّادة ومن ثم وصلنا إلى البناية. كنت قد مررت بقربها أكثر من مرّة قبل سنين حين أخذت ريم دورة في اللغة الفرنسية. كان هناك مقهى صغير جميل في الحديقة الخلفيّة كنا نجلس فيه أحياناً. آخر مرة كانت يوم تخرّجها من الدورة. كان طلاب صفها قد تجمّعوا في الباحة الخارجيّة ليلتقطوا بعض الصور التذكاريّة وبعد ربع ساعة توقفت سيارة جي أم سي مظللة النوافذ على الرصيف تحت علامة “ممنوع الوقوف ” بالضبط وأشعل السائق الغمّازات البرتقالية ونزل من المقعد الذي بجانب السائق رجل بثياب خاكية واقترب من الجمع الذي كان يتبادل التهاني وسأل عن صاحب الكاميرا قائلاً إن التصوير ممنوع. أخذ الكاميرا من إحدى الطالبات وأخرج الفيلم وقال لهم ألّا يكرّروها. ثم عاد إلى السيارة التي انطلقت بقوّة. فوجيء الكثير منّا لكننا أدركنا فيما بعد بأن منطقة القصور تقع على الضفة الأخرى من دجلة. أمّا الآن فكان الأمريكان قد احتلوا تلك المنطقة وأحاطوها بالحواجز ونقاط التفتيش ليعيش فيها الحكام الجدد بعيداً عنّا نحن.
طلبت من المنظّمين أن أضع العمل في زاوية بعيدة عن النوافذ وفي منطقة مظلمة، لكن بالقرب من نقطة كهرباء حيث كنت قد أضفت للعمل ضوءاً قويّاً مثل الذي يستعمل في الاستجواب والتعذيب. كان حفل الافتتاح الذي تمّ بعد الظهر، بسبب منع التجوّل وخطورة الأوضاع في الليل، مفرحاً تخللته كلمة قصيرة للملحق الثقافي الفرنسي وبعدها كلمة لأحد الأساتذة من الأكاديميّة وكانت مليئة بالأمل بمستقبل مليء بالحريّة. كان الكثير منّا متفاءلاً أيامها بأن تكون هناك بداية جديدة للناس يعثرون فيها على حياة أفضل بالرغم من كل الخراب والدمار وخصوصاً بأن الاحتلال لابد أن ينتهي عاجلاً أم آجلاً. استغربت بأن بعض الفنانين المشاركين كان يبالغ في مديح الأمريكان وكأنّهم جاءوا من أجل سواد عيوننا. كنت في غاية السعادة لأن سيرجيو دي ميللو، ممثل الأمم المتحدة في العراق، زار المعرض وكان يتوقّف أمام كل عمل ويتأمّله هو وثلاثة رجال كانوا برفقته ومعهم مجموعة من المرافقين للحماية. توقّف أمام عملي لمدة أطول من الأعمال الأخرى وهز رأسه ثم قال: ڤيري پاورفل. وردّد مترجمه: “مؤثر جدّا” ثم صافحني وغطّى كفّي اليمنى بكفّيه الإثنين وقال: ثانك يو، ثانك يو. كان المشتركون خليطاً من الطلاب ومن الذين تخرجوا منذ سنين ولكنهم ابتعدوا عن الأضواء لأسباب سياسية وأخلاقيّة لأنهم كانوا يرفضون تجيير فنّهم للمناخ السياسي السائد. استمر المعرض إسبوعاً واحداً وكانت ردود الفعل إيجابيّة. كان هناك فريق سينمائي يصوّر فلماً وثائقيّا عن الدكتاتورية والاحتلال وأجروا لقاءات مع الكثير منا. كان أحدهم عراقيّاً يعيش في نيويورك وأجرى معي حواراً عن العمل. طلبتُ منه أن يرسل لي الحوار على قرص ممغنط ووعدني بذلك، لكن لم يصلني شيء ولا أدري إن كان نسيني أم أن الطرد سُرِقَ في البريد. عُرِضَ الفلم الوثائقي بعد سنة على قناة العربيّة وبقيت أنتظر كي أشاهد ولو لحظات من اللقاء، لكن لم يظهر أي شيء منّي أو من المعرض بأكمله. كانت هناك لقطات للخراب الذي حل بالأكاديمية وكل النهب والتدمير وكانت هناك لقاءات مع بعض الشعراء في شارع المتنبي. كنت أشكّ كثيراً بهؤلاء القادمين من الخارج بعد سنين طويلة فالكثير منهم جاؤوا مع الدبّابات والميليشيّات أو جاءوا لجني الأرباح والفوز بسبق صحفي أو فني ثم ينسونا.
افترسني الحزن بعد شهر من المعرض حين شاهدتُ على شاشة التلفزيون رجال يبحثون عن جثة دي ميليو في ركام فندق القناة الذي كان مقر الأمم المتحدة في بغداد بعد أن هجمت عليه شاحنة مفخّخة قتلته مع أخرين كثر. بعدها بأيّام قتل محمد باقر الحكيم في النجف ثم توالت وتعدّدت التفجيرات، الواحد يلد الآخر! بدأت بقتل المهمّين والكبار ذوي الأسماء المعروفة وذوي الشأن، ثم أخذت تفتك بالمساكين الذي لا ناقة لهم ولا جمل في كل ما يحدث، لكن حيواتهم أصبحت عملة يمكن تداولها بسهولة. عملة كنّا ظننا بأن قيمتها قد وصلت الحضيض في عهد الدكتاتورية وبأنّها الآن ستستعيد شيئا من قيمتها، لكن العكس هو الذي حدث. تتكوّم الجثث وكأنها نقاط، أو أهداف، في لعبة لا تتوقّف أبداً، يسجّلها الموت للفرق المتكالبة. هذا ما فكّرت به وأنا أسمع “مفخّخة استهدفت. . . ” وبعد كل جولة تنتشل الأشلاء من بين مزيج الدم والطين ومحظوظ من يسلم جسده دون أن يفقد عينيه أو رأسه أو من يظل قطعة واحدة. الحَكَم الأمريكي قتل بما فيه الكفاية والآن يكتفي بالقتل بين حين وآخر ويسمح للاعبين المحلييّن بأن ينوبوا عنه لأنهم أكثر شراسة أحياناً. لكن حتّى الذين يلملمون الأشلاء ويرتّبون وينظّفون ما يخلّفه الموت على وجه المدينة لا يسلمون منه.
٢٧
ذهب حمّودي إلى سوق الشورجة ذات خميس في نهاية شهر آب ٢٠٠٥ لشراء المزيد من الكافور والسدر للمغيسل، فقد كانت المواد تنفذ بسرعة، كما قال لي، وكان ويحتاج لأن ينزل إلى الشورجة مرّة كل شهر بعدما كان ينزل مرّة كل ستة أشهر أو أكثر قبل الحرب. لم يعد حمّودي إلى البيت ذاك اليوم ولا اليوم الذي تلاه. كان المحمول مقفلاً ولم يجب على الرسائل التي بعثتها له زوجته وأخوه الذي كان يعمل في محل لبيع الإلكترونيّات. لم يكن هناك انفجار أو مفخّخة في سوق الشورجة في ذلك الشهر. بحثوا عنه في المستشفيات القريبة ومراكز الشرطة ليومين دون أن يعثروا على أثر. ثم نصحهم البعض بأن يذهبوا إلى الطب العدلي. بحث أخوه في الصور التي كانت قد التقطت لكل الجثث التي تكدّست في زوايا المكان الذي لم يعد يستوعب كل هذا الموت لكنه لم يجد أي شيء ولا علامة تدلّ عليه. بحث عن الخاتم الأخضر الذي كان يرتديه حمودي في إصبع يده اليسرى بين أكداس الجثث لكنّه لم يجد شيئاً. مازال أخوه يتردّد من يومها بين حين وآخر على الطب العدلي ويسأل ويبحث دون جدوى. أمّ حمّودي أكثرت من زياراتها للكاظم فهو باب الحوائج ولا يخيّب أمل من يتوسّل به. ونذرت أن تمشي إلى النجف على قدميها إن عاد حمّودي، لكنه لم يعد إلى اليوم. هل اختطفوه ظنّاً منهم بأنّه تاجر غني؟ لكن مظهره وعمره لا يوحيان بذلك أبداً والمختطفون يتّصلون بعوائل الرهينة للتفاوض على الفدية التي لا يسلمون الرهينة أو الجثة إلا بعد الحصول عليها. لم يتّصل أحد ولم يعد حمّودي حتى بعد أن مشت أمّه ثلاث مرّات إلى النجف.
٢٨
ريم أيضاً اختفت فجأة مثل حمّودي. كان ذلك قبل سبع سنوات. لكن الذي اختطفها لم يكن مجهولاً ولم يكن بشراً. في أحد صباحات آب اتصلتُ بها في البيت وظل الهاتف يرن دون جواب. لم يكن عندنا محمول آنذاك! عاودت الاتّصال في المساء ولم يرفع السمّاعة أحد فاستغربت. كانت علامتنا السريّة في الماضي أن أترك الهاتف يرن مرة واحدة وأغلق الخط كي تعاود الاتصال هي بي. لكن بعد الخطوبة أصبحنا نتكلم مع بعضنا البعض بصورة عاديّة أمام والدها وزوجته. كانت قد أقنعتني بأن أتقدّم رسميّاً لخطوبتها وتغلبّت على ترددي وعنادي الذي استمرّ لسنوات. كانت إمكانياتي الماديّة معدومة، فلم يكن لدي ما يكفي حتى لاستئجار شقة وكان من المستحيل أن تسكن هي في بيتنا. كما لم أكن أساساً أرغب في تأسيس عائلة. لكنها كانت تقول لي إن السنين تمر وهي بدأت تتعب ولا يمكن أن نظل هكذا إلى الأبد نلتقي في الخفاء والسر ونحارب لكي نكون معاً. أقنعتْ والدها بأن يوافق على تزويجها منّي. وكان قد تردّد في البداية بسبب مهنة أبي وانعدام إمكانياتي الماديّة، لكنها قالت له إنني أنوي السفر لإكمال دراستي في الخارج.تردد، لكنها أصرّت وكانت زوجة أبيها عاملاً قوياً بأن يسمح لنا بالسكن في أحد البيوت التي كان يملكها في السيديّة بعد الزواج. كانت زوجة والدها سعيدة بهذه التطوّرات لأنها ظنّت بأنّها ستتخلّص من ريم إلى الأبد. كان عليّ، أنا الآخر، أن أحصل على موافقة والديّ . كانت أمّي قد التقت بريم مرة واحدة عندما دعوتها على الغداء عندنا مع زميلة أخرى واستلطفتْها كثيراً، لكنني لم أقل لها أن هناك علاقة بيننا. لكنها سألتني عندما فاتحتها بالأمر: لماذا اخترت هذه المطلّقة بالذات من بين كل البنات؟ فقلت لها بأنّ القلب هو الذي اختار. اقتنعت على مضض وطلبتُ منها أن تفاتح أبي وتتولّى إقناعه. كل ما كان عليه أن يفعله هو أن يرافقني إلى بيت أبيها لخطبتها رسميّاً. ربما تأثّر كون زوجها كان شهيداً مثل ابنه. سألني عن عائلتها وطبيعة عمل والدها لكنه لم يكن مقتنعّاً بأنّ حالتي الماديّة تسمح لي بالزواج من إمرأة من عائلة غنيّة. سألني أسئلة مقتضبة ونحن في سيارة الأجرة في الطريق إلى بيت أهلها عن البيت الذي سنعيش فيه وعن المهر وتفاصيل أخرى ولم تكن لدي أجوبة واضحة عن الكثير من أسئلته.
كانت المسافة بين بيتنا وبيتهم في الجادريّة التي لم تكن قدما أبي قد وطأتها من قبل هي المسافة بين طبقتين وعالمين وفكّرت يومها بكل المشاكل والتوتّرات التي سنواجهها بسبب هذه الهوة بين هذين العالمين. ترى ما الذي كان يفكّر به وهو يتطلّع إلى البيوت الحديثة الكبيرة عبر زجاج سيارة الأجرة؟ هل كان يفكّر بأننّي كنت على وشك أن أقطع آخر وشيجة وبأنني نجحتُ أخيراً في أن أهجر محيطي؟ كانت هناك ثلاث سيارات تقف في الكاراج الطويل الممتد من الباب الخارجي حيث وقفنا وإلى اليمين حديقة كبيرة حشيشها مقصوص بعناية وعلى جوانبها ورود وأشجار وفي الزاوية نخلة سامقة وبالقرب منها ورود الرازقي التي كانت ريم تحرص على أن تقطف منها وتعطيني إياها أيام الأكاديميّة وبعدها. ضغطتُ على الجرس وانتظرنا أنا وأبي الذي نظر إلى واجهة البيت ذي الطابقين ثم نظر إلى البيوت المجاورة التي كانت ذات معمار مميز. نظرت إلى حذائي لأتأكّد من نظافته و ثبتّ ربطة عنقي. كانت أول مرّة أرتدي فيها ربطة عنق وجاكيتة منذ سنوات. أما أبي فلم يكن يمتلك ربطة عنق. كان يرتدي قميصا سماوي اللون تحت جاكيتة كحلية وكان العرقچين على رأسه الأصلع. خرج أبو ريم من الباب الخشبي وجاء إلى الباب الخارجي مرحّباً بنا. تصافحنا وقادنا إلى الباب الخشبي الذي أفضى إلى غرفة الضيوف حيث جلسنا على مقاعد وثيرة. كان أبوها مهذّباً لكن كانت هناك حواجز لامرئية لم يعبرها أو يحاول عبورها. تبادلنا التحايا وعبارات المجاملة التقليديّة وجرى السيناريو كالعادة حيث سألنا عمّا نحب أن نشربه: عصير، شاي، قهوة وكانت القهوة السادة هي اختيارنا فذهب أبوها إلى الباب الذي كان موارباً وطلب القهوة. كنت أعرف بأن لديهم خادمة، لكنّي توقّعت أن تكون ريم هي التي ستقدّم القهوة كما جرت العادة.
عرفت من وقع الخطوات بأنها كانت على وشك أن تدخل. كانت ترتدي حذاء أسود بكعب متوسط الطول أظهر رشاقتها وهي تمشي وتنورة سوداء تغطي الركبتين وقميصاً أزرق بأكمام طويلة تنفتح في نهايتها، كان شعرها معقوصاً خلف رأسها وكانت تضع حمرة خفيفة على شفتيها وقد لوّنت أجفانها بالأزرق الفاتح. قدّمت القهوة إلى أبي أوّلاً وطلبت منه أن يأخذ واحدة من قطع الشوكولاتة التي كانت في صحن على الصينيّة لكن أبي شكرها. ثم مالت نحوي وكنت أجلس إلى يمينه. تبادلنا ابتسامة وأنا آخذ فنجان القهوة و قطعة الشوكولاتة. لم أستطع أن أمنع نفسي من اختلاس نظرة سريعة إلى فتحة قميصها. كانت قد بخلت بها ذلك اليوم احتراماً لطقوس المناسبة فلم ألمح شيئاً. بدا عليها شيء من الخجل كأنها عرفت ما كنت أبحث عنه. كانت ترتدي الأساور الفضيّة التي تحبها في معصميها وكانت أظافرها مصبوغة بلون شفّاف.
كان هناك صمت ثقيل يحتل المكان ولم تفلح محاولاتي في فتح مواضيع يمكن أن يتحاورا فيها. اقتصد الإثنان في ما قالاه والتزما بالحد الأدنى المطلوب. لم يكن أبي ثرثاراً أساساً وبدا على أبيها بأنه اضطر لإبرام صفقة غير مربحة. في طريق العودة حذرني أبي من مغبّة أن أعتمد على ريم وأبيها في كل شيء. “لا تصير عالة عليهم!” جرحتني كلمة “عالة” لكنني لم أقل شيئاً. بعد كل تلك السنوات كنت قد تعلّمت بأن الجدال معه لا ينفع.
سمح لنا خاتم الخطوبة بحريّة لم نعهدها من قبل، فكنت أزورها في البيت ونجلس في غرفة الضيوف وبدأنا نخرج بحريّة ولساعات أكثر من ذي قبل. لكن شهور العسل هذه كانت ثلاثة فقط.
عاودت الأتّصال بلا جدوى. في المساء ذهبت إلى بيتها في الجادريّة وضغطت على الجرس، فلم يخرج أحد. لاحظت أن هناك سيارتين فقط، سيارتها وسيارة زوجة أبيها. كانت سيارة والدها الثالثة قد اختفت. كانت الستائر مسدلة والباب الخارجي مقفولاً. لم أفهم أي شيء؟ عدت إلى البيت واتّصلت بصديقتها “سهى” فقالت لي بأنهم سافروا صباح ذلك اليوم إلى الأردن ولا تعرف متى يعودون.
حاولت أن أفكّر بكل الاحتمالات، لكنني لم أجد تفسيراً مقنعاً. لو كان والدها قد أجبرها لاتّصلت بي وقالت لي أو طلبت منّي المساعدة. كنت أعرف بأن والدها كان يفكّر بترك البلد وكان قد بدأ يزيد من نشاطه في الأردن وتركيا، ولكن! ذهبت إلى مكتب شركة والدها في الكرادة لاستعلم فقال لي أحدهم إنهم لا يعرفون بالضبط لكن ربما تكون زوجته مريضة وذهبت لتتعالج في الأردن. قلت لنفسي لا بد من أنّها ستعود قريباً إذاً. ربما ذهبت لترافق زوجة أبيها. اقنعت نفسي بأنها ستبعث لي بخبر أو رسالة أو ستفاجئني بعودتها، لكنها لم تعد.
بعد شهر ونصف وصلت إلى البيت رسالة باليد سلّمها أحد السوّاق في شركة أبيها لكي يتأكّد من وصولها إليّ. عرفتُ من الخط على الظرف بأنها من ريم. كانت بالحبر الأزرق على ورق أنيق. فضضت الظرف بسرعة وبدأت أقرأها وأنا واقف.
حبيبي،
وستظل دائماً حبيبي بالرغم، ومن بعد،كل شيء.أرجو أن تغفر لي غيابي عنك وسفري المفاجيء وعدم إبلاغك بأي شيء. قد تغفر لي بعد أن تقرأ هذه الرسالة. وآمل أن تفهمني كما كنت تفهمني دائماً برحابة صدرك بعد أن تستمع إلىّ بصبر وحب.آخر ما كنت أريده في الدنيا هو أن أؤذيك أو أن أبتعد عنك لأنني أبتعد عن نفسي حين أبتعد عنك. لكن أرجو أن تصدّقني حين أقول بأن غلاوتك عندي أهمّ من كل شيء وحبّي لك هو الذي دفعني لأن أقوم بما قمت به.
قبل شهرين وأنا أستحم أحسست بحبّة تحت الجلد في جانب نهدي الأيسر. ذهبت إلى الطبيبة لإجراء الفحوصات. لم أقل لك شيئاً يومها لأنني لم أشأ أن أقلقك. وقررت الطبيبة أن من الضروري إجراء عملية لاستئصالها ولفحصها وكانت نتيجة الفحص بأنها خلايا سرطانيّة. أصرّ أبي على أن أسافر إلى الأردن للحصول على رأي ثانٍ وتم الأمر كله بسرعة. وكان رأي الطبيب الثاني والثالث مثل الأوّل. أظهرت الأشعّة والفحوصات بأن الخلايا السرطانية كانت قد انتشرت بشكل سريع ولم يكن هناك مفر من استئصاله. وأنا الآن أخضع للعلاج الكيمياوي الذي يعني أن أيّامي مليئة بالغثيان والصداع والتقيّؤ. تساقط شعري الطويل الذي كنت تداعبه ولم يبق منه شيء. يقولون بأنّه سينمو مرة أخرى بعد انتهاء العلاج لكن من الصعب أن أصدّق ذلك الآن. لم يلتئم الجرح في صدري بعد لأنني أصبت بالتهاب بعد العمليّة. استيقظت بعد العمليّة لأجد جرحاً كبيراً كأن أحدهم طعنني وسرق النهد الذي كنت تحبّه وتقدّسه وتسمّيه قبّة من قباب معبدك الوثنيّ. النهد الذي كنت تحتضنه براحتك وتمصّ حلمته كرضيع وتعضّه أحياناً كجرو شره. النهد الذي كنت تمزح قائلاً بأنك تريد أن تدافع عن حقوقه وتحرّره من الأقمشة والأسلاك المعدنية التي توضع في المشدّات لتخنقه. أخذوه مني ولم يعد في جسدي. لم تواتني الشجاعة لأن أقف أمام المرآة إلا مرّة واحدة انهرت بعدها وبكيت لساعات. تنتابني عواصف من المشاعر والأفكار اللاعقلانيّة التي تنتاب كل من يفترس المرض أجزاء من جسدهم. لماذا؟ ولماذا أنا بالذات؟ مازلت صغيرة على هذا المرض. لم أصل الأربعين بعد. قالت الطبيبة في بغداد بأن نسب السرطان تضاعفت في السنين الأخيرة وربما يكون السبب اليورانيوم المنضّب. صرت أكره جسدي وأود لو أهرب منه إلى جسد جديد. لا أظنّ بأنّني يمكن أن أعيش بسلام معه. عذراً فأنا أسترسل بأنانيّة في الكلام عن هواجسي ومخاوفي. لكن ما أريد قوله هو أنّني فكرتُ كثيراً وقرّرتُ ما قرّرته لأنّني أحبّك وأحبّ حبّك لي الذي لم أكن أريد له أن يتغيّر. أعرف بأنّك ستقول وأنت تقرأ هذه السطور بأنّك ستحب جسدي بلا نهد. لا تكذب! حتى أنا لا أحب جسدي ولا أظنّ بأنّني يمكن أن أحبّه أو أن أعيش معه بسلام. أعرف بأنّك ستحبّني دائماً. لكن صراعي مع السرطان قد لا ينتهي. قد أبدو قاسية بحقّنا لكن يجب أن أستأصلني من حياتك. لا أريد لك أن تعيش مع إمرأة في جسدها قنبلة موقوتة. أغفر لي بأنني رحلت دون أن أودّعك. لم أشأ أن أودّعك. لكنّني سأظّل أودّعك كل يوم.
سأحملك دائماً في ذاكرتي وسيحمل جسدي جسدك ورائحته ومساماته في ذاكرته.
سامحني. سأسهّل الأمور علينا بألّا أعطيك عنواني وأعطيك فرصة بداية جديدة مع إمرأة أخرى أغار منها من الآن بدون أن أعرف من هي. قد تكون هذه أصعب جملة أكتبها لكن أرجو ألا تحاول الإتّصال بي.
حبي وقبلاتي
ريم
قرأت الرسالة عشرات المرّات حتّى حفظتها عن ظهر قلب. في المرّات الأولى كنت أمسح دموعاً هطلت بالرغم مني. لكن الدموع التي تلتها هطلت في دواخلي وشعرت بأنّها تجمّعت واستقرّت في صدري تظله تذكّرني بين الحين والآخر بأنّها هناك، مقيمة إلى الأبد. حاولت أن أحصل على عنوانها وأن أتتبّع أخبارها بشتّى الطرق لكن دون جدوى. سمعت أن أباها عاد ليومين ووكّل محاميه ببيع كل ممتلكاتهم وأنهم استقرّوا في بريطانيا. سألت صديقتها سهى لكنّها قالت بأن أخبارها انقطعت.
ومرّت الشهور والسنين واندمل الجرح لكنّني كنت أتحسّسه بين الحين والآخر وأعيد قراءة الرسالة التي وضعتها في علبة صغيرة مع ظرف فيه بعض الرسائل التي كنا قد تبادلناها في بداياتنا وصورنا من أيّام الأكاديميّة.
٢٩
بعد اختفاء حمّودي ببضعة أيام زارني السيد الفرطوسي ثانيّة. قال إن قلبه هبط حين لم يرد حمّودي على المحمول لخمسة أيام وحين رأي بن المغيسل مقفل. كان قد مرّ على بيته وسمع الخبر من أهله. دعوته للدخول. بدا حزيناً ومهموماً وهو يشرب كأس الماء الذي جئت به إليه. قال إنه مستعد لدفع مبلغ الفدية، مهما يكون، إذا اتّضح أن حمّودي مختطف. لكن ماقاله بعد ذلك كان يشي بمخاوفه من المصير المحتوم. “االله يعلم شصار بيه. ما يستاهل. . . إنّ الله عنده علم الساعة وينزل الغيث وما في الأرحام وماتدري نفس ماذا تكسب غداً وماتدري نفسٌ بأي أرض تموت. إنّ الله عليم خبير.” كرّر الآية الآخيرة مرّتين ثم نظر إلى الأرض كأنّه يقرأ شيئاً ما مكتوباً عليها ثمّ هزّ رأسه وقال: لا حول ولا قوّة إلا به. قال إنه كلما قال لنفسه بأن البشر انحدروا إلى الدرك الأسفل يكتشف بأن هناك درك أوطأ. قال بأن عدد الجثث التي تُلقى في المزابل وفي أطراف بغداد والتي يصطادها الناس من النهر كالسمك الميّت تضاعف في الشهور الأخيرة. “ يا أخّي حتى الميّت ما يسلم منهم وگاموا يفخخّون الجثث همّاتين.” استوقفتني الـ”هم” الّتي استخدمها التي يستخدمها الجميع هذه الأيّام للإشارة إلى الطرف الآخر وكنت على وشك أن أسأله من يكون هؤلاء الـ”هم” بالنسبة له. لكنّني تذكرت بأنّه كان قد قال لي في المرة الأولى التي زار بيتنا فيها بأنّه يدفن الجميع ولا تهمّه الطائفة ولا حتّى الدين وقال بأن أشلاء بعض من يدفنهم لابد أن تكون للقتلة الذين فجرّوا أنفسهم. بدلا من أسأله عن الـ”هم” أردت أن أعرف بالتفصيل كيف ولماذا بدأ يقوم بما يقوم به. قال لي إنها قصة طويلة، فقلت له بألّا مانع لديّ.
لم يكن متديّنا أو ورعاً في شبابه إلّا أن ما رآه أثناء وبعد الانسحاب من الكويت عام ١٩٩١هو الذي غيّره كليّاً.“لم أكنْ أصلّي أو أصوم، بل كنت أشرب وكنت منشغلاً بلذائد الحياة الدنيا. بعد تخرّجي من كلية الإدارة والاقتصاد ساقوني إلى الخدمة العسكرية وقبل موعد التسريح المرتقب بأشهر غزا صدّام الكويت ونُقِلَت وحدتي إلى الكويت.عندما بدأت الحرب كان القصف شديداً ومتواصلاً ولا أدري كيف نجونا منه. لم يبق من وحدتي غيري أنا وجندي آخر من العمارة، اسمه موسى، كنا سويّة في الخندق. الكل ماتوا ودُفنوا تحت الرمال. عمّت الفوضى من البداية لأن كافة الاتّصالات والإمدادات انقطعت من الأيّام الأولى. حتى قرار الانسحاب سمعناه على الراديو. كان الكل يهرب نحو البصرة التي كانت قريبة جدّاً من وحدتنا على الطريق الرئيسي الذي أصبح كل ما يتحرّك عليه أثناء الانسحاب هدفاً للطائرات التي كانت تحوم وتصطاد البشر كالحشرات. قال موسى بأن نبتعد عن الطريق وعن العجلات والسيارات التي كان الكثير منها مليئاً بما نهبه الجنود، لكي تزداد فرصتنا بالنجاة لأن الأمريكان كانوا يستهدفون كل عجلة وسيارة. وركضنا كالكلاب أكثر من ساعتين دون أن ننظر وراءنا. فكرة موسى بالخروج عن الطريق الرئيسي هي التي أنقذت حياتنا وإلّا لكنّا تفحّمنا مثل كل أولئك الذين رأيتهم يحترقون في مقاعد السيارات والذين تناثرت أشلاؤهم حولها. رائحة اللحم والشعر المحترقين أصابتني بالغثيان وظلّت تعذّبني في كوابيسي لأشهر بعدها. لن أنسى أبداً تلك الرائحة ولا منظر الكلاب السائبة التي كانت تنهش جثث الجنود قرب البصرة. كنت أقف مصدوماً أحياناً وأرفع من الأرض حجراً لألقيه عليها، لكن موسى كان يسحبني بقوة وكان يقول بأنها ستعود وتنهشهم بعد أن نذهب فما الفائدة؟ لم يكن لدينا سوى الزمزميّات وبعض التمر في جيوبنا والراديو الصغير الذي حرصنا على ألّا نسرف في الاستماع إليه لكي لا تموت البطّارية. كان الهدف هو أن نصل إلى أقارب موسى في البصرة وننام عندهم إلى أن تهدأ الأمور قليلاً ويعود هو إلى العمارة وأنا إلى بغداد. تورّمت أرجلنا من المشي والركض ليوم كامل وكانت شوارع البصرة مقفرة عندما وصلناها.رأيت شعارات “يسقط صدّام” على الجدران وكانت بعض الجداريات التي تظهر صورته فيها قد شوّهت ولطّخت بالصبغ. الأخبار على الراديو تحدّثت عن انتفاضة بدأت شرارتها في البصرة وأخذت تعم مدن الجنوب بعد أن نادى بوش الشعب العراقي لأن يأخذ الأمور على عاتقه. أنت تعرف بقيّة القصّة. غيّروا النغمة بعد عدة أيام ولم يهب أحد لمساعدة الذين ثاروا، ثم جاء الحرس الجمهوري وبطش وذبح وصار الكل يسمّى غوغاء. اختبأنا عند أقارب موسى لأسبوع لأن العودة إلى بغداد كانت محفوفة بالمخاطر. سمعنا عمّا فعله البعض بالبعثيّين الكبار وكيف مثّلوا بجثثهم وعلّقوا بعضهم على الأعمدة. أنا لم أحب البعثييّن يوماً وهناك من عائلتي من أعدمهم صدّام لمجرد الشبهة والله العظيم،، لكن حرام أن تفعل هذا بأي إنسان حتى لو كان عدوّك؟ الله هو الذي سيختار العذاب الملائم لكل ظالم. . .” أولئك لهم عذاب أليم.”
ظننت، يا أخي، بأنّني كنت قد تركت كل تلك المناظر ورائي، لكن تلك الكلاب السائبة لحقت بي إلى بغداد بعد أسابيع من عودتي وبدأت الكوابيس. كنت أرى ستة أو سبعة كلاب تنهش الجثث و كلما انحنيت و التقطت حجراً لأرجمها به كان الحجر يتفتّت ويصير تراباً. في الكابوس الآخر كنت أرى أهلي كلهم يحترقون ويتفحّمون وأنا أحاول أن أدلق الماء من زمزميّتي عليهم كي أنقذهم لكن الزمزميّة كانت خاوية فأبدأ بنثر الرمل عليهم وكنت أشم تلك الرائحة المقزّزة من جديد ثم أصحو. أخبرتُ ابن عمّي بهذه الكوابيس والأرق الذي خرّب أيامي فنصحني بالذهاب إلى الجامع وبالصلاة وكان محقّاً فقد أنقذت الصلاة روحي وعقلي من الجنون الذي كان يزحف باتّجاهي.
لم تختف الكلاب والكوابيس كليّاً لكنها أصبحت لا تعاودني إلا مرة كل عدّة أشهر. أنت سألتني عن موضوع دفن الجثث ولكن هذه جذور الهاجس الذي ظل يؤرقني. تم تعييني في إحدى مديريّات وزارة الصحة و من خلال العمل سمعت عن مشكلة الجثث التي تقبع في الطب العدلي وفي أماكن أخرى والتي لا يوجد من يدفنها أو يسأل عنها لأسباب شتّى وأحزنني الأمر وأثارني. وأخبرت العديد من المعارف والزملاء عنه. وكنت أعلم بوجود مقبرة حكومية، مقبرة محمد سكران، في بغداد التي يمكن دفن الموتى المجهولين فيها. واجهتني عقبات في البداية لكن الكثير من أهل الخير ساعدوني بالتبرّعات وهكذا بدأت بشكل بسيط.
سألني إن كنت قد غيّرت رأيي في موضوع المغيسل والعمل فيه، فأجبت بالنفي. فقال: يصيبك أجر عظيم. فلم أقل شيئاً بل سألته عن الكلاب والكوابيس الآن وهل تركته بسلام. فضحك وقال إنها تركته لأنها خافت مما رأته في كوابيسه الأخرى. سألته عن الكوابيس الأخرى فضحك وقال: المرّة الجاية.
٣٠
كنت أمشي في حديقة عامة في بغداد خيّل إليّ بأنّني كنت فيها ذات مرّة منذ زمن بعيد. كنت أعرفها جيدّاً من الممرّ الذي يخترقها والذي يدور حول النافورة التي كانت تقف في قلبها كزهرة كبيرة بتلاتها من ماء كنت أسمع خريره. لكنّني لا أذكر أنّني رأيتُ يوما هذا العدد الهائل من التماثيل البيضاء على الحشيش الذي على الجانبين. كانت لرجال ونساء وأطفال بأوضاع مختلفة. منهم من كان يجلس ومنهم من كان واقفاً وكانت بعض التماثيل لأجساد مستلقية على الأرض. نظرتُ إلى السماء الحبريّة اللون. كان القمر يختبيء بين الحين والآخر خلف قطعان غيوم تقودها الريح إلى مصير مجهول. خيّل لي بأنّ الريح حرّكت أحد التماثيل الذي كان منحنيّا كأنه يبحث عن شيء ما أضاعه في الأرض وسمعت أنيناً ما. اقتربت من التمثال فازداد الأنين وضوحاً. اقتربتُ أكثر لأكتشف بأن التمثال كان مغطى بقماش أبيض. ظلّ يئن وعندما صرت أقرب سمعتُ صوتاً ذكوريّاً يتوسّل بي أن أبلّله بالماء. سألته من أنتَ و لماذا تنحني هكذا، فقال: هكذا كنت عندما متّ ولا أستطيع أن أتحرّك. بالله عليك، خذني إلي الماء لأنّني أتعذّب. أمسكت به من كتفيه وكان بارداً جدّاً. ظل محنيّاً حتّي وأنا أسحبه، وهو يئنّ، باتّجاه النافورة. وضعته على حافتها بحيث يتساقط رذاذها على رأسه. تأوّه وشكرني وطلب منّي أن أدفعه كي يسقط في مائها، ففعلت. قبل أن أستوعب ما فعلته، سمعت أنيناً آخر وصوتاً يقول لي: أنا أيضاً، أرجوك.
٣١
هل كان قدري أن أعود إلى غسل أجساد الموتى؟ هل كان قدري أن أعود إلى الطريق الذي أرادني أبي أن أظلّ عليه وأسير فيه على خطاه إلى نهايته. ولكن ما هو القدر؟ أنا لا أؤمن بالقدر. هناك تاريخ والناس يسمّون التاريخ قدراً. لكنّني لا أعرف ماهو التاريخ بالضبط. أكوام من الأحداث التي غالباً ما تخلّف وراءها أكواماً من الجثث. سمعت أحد المحلّلين على التلفزيون يستخدم قبل أيّام مصطلح “تراكمات التاريخ.” ولكن من يقرّر مسار التاريخ في نهاية المطاف وهل له منطق واضح؟ أم أنّ كل ما هناك هو تراكمات. تراكمات جثث وجماجم وأشلاء وخيبات أمل وحزن. تاريخي الصغير الذي أردت له أن يكون مختلفاً التهمَه تاريخ أكبر نهم لا يبقي شيئاً. نهري الصغير الذي أردت له أن يكون مليئاً بالألوان والحياة أجبرته الانحناءات والتعرّجات على أن يسلّم ألوانه لتذوب كلّها في النهر الكبير الذي يجرف كل شيء إلى الموت.
قبل اختفاء حمّودي بتسعة أشهر شعرت أمّي بألم شديد في بطنها وبدأت تتقيّأ بصورة مستمرة. كانت تظل تقول: عبالك سِچاچين ببطني. أخذتها إلى الطبيب الذي أمر بإجراء الكثير من التحاليل والفحوص ووصف لها بعض الأدوية. لم تتحسّن صحتها بل ساءت فأخذتها إلى طبيبة أمرت بفحوص أخرى ثم اقترحت إجراء فحص بالناظور للقولون. كشف الفحص عن وجود ورم زرعوا عيّنة منه مختبريّاًَ فتبيّن بأنّه غير خبيث، لكن كان لا بد من إزالته بعمليّة أخرى. أجرت العمليّْة بنجاح وكانت صحتها قد بدأت بالتحسّن عندما أصيبت بالتهاب شديد استوجب إدخالها إلى المستشفى مرّة أخرى لمدّة شهر. استنزفت فواتير الأطبّاء وتكاليف العمليّة والعلاج كل ما كنت قد ادّخرته مِمّا كان يعطيه لي حمّودي شهريّاً واضطررت أن أستدين الكثير من زوج أختي لتسديد الفواتير ولكي نغطّي مصاريف البيت. كانت كل محاولاتي للعثور على عمل قد باءت بالفشل. حتّى الخروج والبحث عن عمل في المدينة أصبح رحلة في متاهة من الحواجز والمناطق المغلقة.
ضاقت بي السبل وتراكمت الديون وأحسستُ بأنّني محاصر، خصوصاً بعد اختفاء حمّودي وعدم عودته وانقطاع المورد من المغيسل. جاء الفرطوسي ثانية لإقناعي وكأنّه قد عرف بأنّني محاصر في زاوية تضيق وتكاد تخنقني. قال إنّه من غير الصحيح أن يظل المغيسل مغلقاً وحثّني ثانية على أن أعيد فتحه وأعود للعمل فيه. ذكّرني بأنّ على الأحياء واجب تجاه الموتى. لم أجب بالنفي مباشرة ولعلّه شعر بأنّني بدأت أفكّر بالأمر جديّاً ووجد ثغرة في جداري يحفر فيها. قلت له إنّني لم أكن متديّناً. فقال إنّ هذا ليس مهمّاً في نهاية الأمر. ما يهم هو النيّة. ثم استشهد بآية: ليس البر أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب. قال لي: يا أخي جثث مشمّرة بالشوارع والثلاجات إذا تطهّرهه وتچَفِّنْهه طبعاً الله يحبّك ويغفر لك كل ذنوبك. بعدين، ثق، الوالد راح يفرح وترتاح روحه بالجنّة. تعلّلت بأنّني لم أغسل جثة منذ سنين طويلة وربما أكون نسيت. فابتسم وقال إنّه لا يصدّق هذا وإنّه سيعطيني أحد كتب الفقه التي تتضمّن أحكام الغسل والتكفين وبأدقّ التفاصيل.
لا أدري لماذا وافقتُ. كانت الحاجة الماسّة إلى النقود طبعاً. أقنعت نفسي بأن هذا حل مؤقّت إلى أن أجد حلا آخر أو مصدر دخل. لم أكن أظن بأنّ عودتي ستكون لشهور أو سنين. هل كانت هناك قوة خفيّة تعيدني إلى المغيسل؟ هل كان لك يد في هذا يا أبي؟ وهل أنت سعيد الآن؟ عانقني الفرطوسي وطبطب على كتفي قبل أن يودّعني وقال بأنّه سيتولّى الاتّصال بمهدي، الذي كان يساعد، حمّودي، كي يخبره بأن المغيسل سيفتح من جديد.
٣٢
أرى ريم تقف عارية في بستان مليء بأشجار رمّان قد تفتّحت أزهارها. تحرك الريح الأغصان فتبدو الأزهار الحمراء وكأنّها تلوّح لي من بعيد. تلوّح ريم وتقول يداها: إقترب! فأمشي نحوها. أصيح بإسمها لكنّني لا أسمع صوتي ولا أسمع صوت وقع خطواتي. كل ما أسمعه هو حفيف الريح. تبتسم ريم ولا تقول شيئاً. أقترب منها أكثر فأبصر رمانتين على صدرها بدلاً من نهديها. تلاحظ ريم بأنّني أنظر إلى الرمانتين فتبتسم وتحتضنهما براحتيها من تحت. أظافرها مصبوغة بلون أزهار الرمّان وشفتاها أيضاً.أسرع نحوها وحين أصل إليها أعانقها فتسقط الرمانة اليمنى وتتدحرج على الأرض. انحني لالتقطها فأرى بقعاً حمراء صغيرة تتكاثر على ذراعي. ألتفت إلى الوراء فأرى ريم تبكي وتحاول إيقاف شلال الدم من الموضع الذي كانت فيه الرمّانة.
٣٣
- لو المرحوم طيّب چان طار من الفرحة.
قالت أمّي بحماسة وهي تعدّ لي الصفرطاس الذّي أصرّت على أن آخذه معي بالرغم من أنّني قلت لها الليلة الماضية إنّني سأشتري طعام الغداء من إحدى المحلّات ولا داعي لأن تتعب نفسها.
- ليش تاكل أكل السوگ يا إبني؟ أكو أحسن من أكل أُمّك؟ حطّيتلك مرگة دجاج وپتيتة وتمّن.
كانت سعيدة بأنّني سأواصل مهنة المرحوم. لم أقل لها بأنّ السبب كان ماديّاً ليس إلّا ولدفع كل الديون والمصاريف. قبّلت جبيني وهي تودّعني قائلة: الله ومحمد وعلي وياك.
كان مهدي يتّكئ على باب المغيسل الخشبي وقد ثنى ركبته و رفع قدمه اليمنى ووضعها على الباب وضم يديه تحت صدره. كان في الخامسة عشرة من عمره. شعره بنّي بقصّة قصيرة جدّاً كأنّه في الجيش وعيناه العسليتان تحت حاجبين كثيفين. كان أنفه كبيراً وقد بدأ الزغب يظهر فوق شفتيه وخدّيه. كان نحيلاً لكن بأكتاف عريضة وعظام قوية تسمح له بأن يحمل الأجساد. كان يرتدي حذاء رياضة أسود وبنطلون جينز مع جاكيته سوداء أخفت تحتها قميص كرة قدم مخطّط بالعرض بالأحمر والأسود كُتب عليه بحروف كبيرة بالانكليزية: barcelona.
كنّا قد اتّفقنا على أن ألتقيه الساعة الثامنة صباحاً أمام المغيسل. استعدل في وقفته عندما اقتربت وانزاح عن الباب. حيّاني بشيء من الخجل وهو يبتسم. مددت يدي لأصافحه. فصافحني بقوّة ورحّب بي مستبقاً اسمي بـِ “أستاذ” جودي فقلت له بألّا حاجة لذلك. أخرجت المفتاح من جيبي ووضعته في القفل لأفتح الباب. بدا لي بأنّه يجب أن يكون في المدرسة بدلاً من أن يعمل معي أو مع غيري. سألته عن ذلك فقال بأنّه تركها منذ سنتين لكي يساعد أهله وكان يبيع المرطّبات والمأكولات في البداية، لكنّه بدأ يعمل مع خاله إلى أن اختفى. تهدّج صوته وهو يذكر ذلك.قلت له: إن شاء الله يرجع. مع أنّني كنت قد فقدت الأمل في ذلك. عاودني السؤال الذي لا جواب له وهو يخز القلب: ترى ما الذي حدث بجثة حمّودي وأين هي؟
لم أكن قد جئت إلى المغيسل منذ فترة طويلة. عندما فتحت الباب واجهتني الرائحة ذاتها. غريب كيف أن بعض الأماكن يحتفظ برائحته التي لا تتغيّر لعقود. كانت رائحة المكان المميزة مزيجاً من الرطوبة وعطر الكافور والسدر لكنّها كانت مغطاة ذلك الصباح برائحة هواء قديم محبوس. أشرت له بأن يدخل قبلي، لكنّه تردّد فدفعته برفق من كتفه. دخل ووقف إلى يمين الباب وانتظر دخولي ثم أغلقه ورائي فبدا كأن ضوء الصباح انسحب إلى الخارج. رأيت الدكّة من بعيد مبلّلة بالعتمة. كانت شمس الصباح خجولة لا تستطيع أن تهرّب إلا شعاعاً بسيطاً عبر الشبّاك العالي. مشيت إلى نهاية الممر ووقفت عند نهايته. شغّلت المروحة السقفية. ثم ذهبت إلى الباب الجانبي المؤدي إلى الحديقة الصغيرة حيث شجرة الرمّان وفتحته كي يدخل الهواء. طلبت من مهدي أن يفتح الشبّاك في الغرفة المحاذية كي يتنفّس المكان هواء نقياً. نظرت إلى الخارج. رأيت الرمانات تتدلّى من أغصان الشجرة. بدأ هواء تشرين البارد نسبيّاً يتسلّل إلى المكان ليغيّر رأيي بشأن خلع جاكيتتي. سألت مهدي إن كان يحب الرمّان فأومأ بالإيجاب. قلت له بأن بإمكانه أن يقطف الرمّانات فيما بعد ويأخذها للبيت. شكرني وسألني إن كنت لا أحب الرمّان. قلت له إنّني أحب الرمّان ولكن ليس من هذه الشجرة. ذهبت إلى الدواليب وفتحتها. كان كل شيء في مكانه حسب النظام الذي أرسى قواعده أبي. أكياس السدر المطحون بجنب أكياس الكافور التي لم يكن قد تبقّى منها الكثير ولهذا ذهب حمّودي إلى الشورجة ولم يعد. كان هناك ما يكفي للأيام القادمة. المناشف البيضاء وقطع القماش الأبيض والأكفان كانت في مكانها، لكن الأكفان هذه الأيّام كانت مغلّفة بالنايلون وقد نقشت عليها الأدعية. في الدولاب الثالث تكدّست مكعّبات من صابون الرگي الزيتوني اللون الذي فاح عطره وأكياس القطن. كانت الطشوت والأجّانات والجرادل والطاسات مرتبة بعناية فوق بعضها البعض. فتحت الصنبور لأتأكّد من وجود الماء فتحشرج صوته ثم انهمر بارداً بقوة فسددته. وقفت عند الدكّة ولمست حافّتها بأصابعي. كانت هي الأخرى باردة كالجثث التي تستلقي عليها. نظرت إلى أصابعي وكان هناك بعض الغبار عليها. طلبت مهدي بأن يقوم بكنس وتنظيف المكان فذهب إلى المخزن ليأت بالمكنسة. ذهبت إلى الغرفة المحاذية. كان كل شيء مثلما هو. الكراسي والطاولة وصورة الإمام علي فوق الشبّاك. كانت هناك هالة صفراء مشعّة حول رأسه تحيط بالكوفيّة الخضراء. ارتفع حاجباه من الوسط قليلاً واستقرّت عيناه البنيّتان الكحيلتان في محجرين كبيرين. شاربه ولحيته سرحة متموجة وقميصه أبيض. كانت جملة” لا فتى إلّا علي ولا سيف إلّا ذو الفقار” مكتوبة أسفل الصورة. عندما نظرت إلى اليمين كانت هناك صورة قديمة لأبي بالأبيض والأسود مؤطرة بإطار خشبي يبدو أن حمّودي علّقها في الغرفة. سألت أمّي فيما بعد من أين جاء بالصورة فقالت إنّه طلبها منها ليكبّرها لكنّها نسيت أن تقول لي. كان يبتسم فيها شبه ابتسامة ويرتدي قميصاً أبيض بياقة مفتوحة. قلت له: ها أنذا أعود إلى المكان الذي أردتني أن أرثه عنك. ها أنذا آخذ مكانك كما أخذت أنت مكان أبيك من قبل. لكنّني أحذّرك يا أبي بأنّني لن أظل هنا طويلاً.
سمعت صوت المكنسة تحتك بأرض المغيسل وبدأت دقائق الغبار تدخل أنفي. جلست على الكرسي ونظرت إلى صورة الإمام علي ثانية وجاء صوت مظفّر النوّاب مدويّاً من ذاكرتي وهو يخاطبه: “لو عدتَ الآن لحاربكَ الداعون إليكَ وسمّوكَ شيوعيّاً.” أخرجت من جيب جاكيتتي الدفتر الصغير الذي كنت قد دوّنت فيه ذات صيف كل التفاصيل المتعلقة بالغسل. كان ورقه قد اصفرّ، لكن غلافه كان سليماً. طالعتني بعض التخطيطيات والرسوم لوجه أبي مسبحته ووجه الإمام علي وغيرها التي كانت تملأ الصفحات وتؤطّر الملاحظات والتي كان عمرها أكبر من عمر مهدي. قرأت في إحداها جملة مكتوبة بخطّي قبل الغسل نقول:أغسل هذه الجثّة لهذا الميّت واجباً قربة إلى الله تعالى.” أثناء الغسل يجب أن نردّد “ربّ عفوك” أو: اللهم هذا بدن عبدك المؤمن قد أخرجت روحه من بدنه وفرّقت بينهما " فعفوك عفوك." كنت قد كتبت كل تفصيل في هذا الدفتر. لم يكن الغسل معقّداً أو صعباً في تفاصيله وكنت قد راقبت أبي يقوم به مئات المرّات ثم ساعدته.
أنهى مهدي كنس المكان وسألني إن كان بإمكانه أن يقوم بأي شيء آخر، فطلبت منه أن يغلق الأبواب والشبابيك لأن البرودة دخلت المكان وأن يذهب إلى مغيسل النساء ويطلب منهن بعض السدر والكافور. كان لدينا ما يكفي لعدة أيّام ولكن لا ضرر في التحوّط. عاد ووضع ما جاء به في الدواليب ثم جاء ووقف عند باب الغرفة. قلت له أن يأتي ويجلس معي. نزع جاكيتته ووضعها على ظهر الكرسي. حاولت أن أتعرّف عليه أكثر فسألته عن هواياته وما يفعله في وقت فراغه، فقال بأنّه يعشق كرة القدم ويلعبها كلّما سنحت الفرصة وبأنّه يريد أن يكون لاعباً محترفاً في المستقبل. ابتسمتُ وقلت له: لماذا لا؟ أشرت إلى قميصه الذي كان يحمل اسم وألوان برشلونة وسألته إن كان يريد أن يلعب في نادي برشلونة فتحمّس وقال: إي. سألته عن الفرق العراقيّة فقال بأنّه يشجع الطلبة. كنت قد ابتعدت عن متابعة كرة القدم لكنّني قلت له بأنّني زورائي حتّى العظم. سألته عن الموقع الذي يحب أن يلعب فيه فقال: الهجوم. قبل أن نتوغّل أكثر في صداقتنا هاجمنا الموت بطرقات على الباب. هب مهدي باتّجاه الباب ليفتحه. تسارعت دقّات قلبي وبقيت في الكرسي لنصف دقيقة. سمعت مهدي يقول للطارق: إي هنا. قمت من مكاني وخرجت من الغرفة ووقفت بالقرب من الدكّة ثم اتّجهت إلى الممر. عاد مهدي ووراءه ثلاثة رجال يحملون شرشفاً أبيض ملطّخاً بالدم يخفي في طيّاته الميت. أشار إليهم مهدي بأن يضعوه على الدكّة. قال مهدي لأحدهم وهو يشير إليّ: الأستاذ جودي هو المغسّلچي. كان وقع الجملة غريباً على مسامعي وكأنّ مهدي أعلن رسميّاً حقيقة ما كنت سأقومن به.
كان الرجل في بدايات الخمسينيّات. قصير القامة وممتلئاً بعض الشيء. كان الصلع قد غزا نصف رأسه الأمامي كاشفاً عن رأس حنطي اللون يلمع وعلى الجانبين شعر رمادي بلون الشارب الدقيق. نظرت إلى عينيه الكحليتين المتعبتين و قلت له تلقائيّاً: البقية بحياتك. شيصير منّك. فقال: تسلم. ابن أختي. ترحّمت على روحه وطلبت منه شهادة الوفاة. فطلب من أحد الذين كانا معه بأن يجيء بها من السيارة فخرج مسرعاً. بدأ مهدي يعد الطشوت ويملأها بالماء. سألني الرجل عن أجرة الغسل فوجدتني استخدم جملة أبي: هاللي تگدرون عليه. كلفة الكفن وإكراميّة، التابوت من الوقف ببلاش، بس بعد ما نخلّص. فقال: زين. طلبت منهما أن يجلسا على المصطبة إن أحبّا فذهب الثالث وجلس عليها، لكن عمّ الميّت ظل في مكانه. عاد الشاب الذي كان ممتلئاً بعض الشيء وبشعر بنّي ووجه منفوخ يحمل الورقة وسلّمها للعم الذي أعطاني إيّاها بشيء من التردّد. نظرت إلى الورقة: الاسم الثلاثي واللقب: جاسم محمد علوان. الجنس: ذكر. تاريخ الولادة: ٥-٨-١٩٨٢ سبب الوفاة: تسمّم/كبسولات. أعدتُ الورقة إليه دون أن أقول شيئا.
مات في الرابعة والعشرين حتّى قبل إن تبدأ حياته بالتفّتح. كانت الكبسلة والمخدّرات قد انتشرتا بين الشباب بشكل لا سابق له.ذهب الشاب الذي جاء بشهادة الوفاة وجلس على المصطبة بجنب الآخر.
اقتربت من الدكّة فتذكّرتُ بأنّني يجب أن أخلع حذائي وبأنّني لم أجلب نعلاً من البيت. ارتبكت بعض الشيء ثم ذهبت إلى الغرفة المجاورة. خلعت فردتي حذائي وجوربيّ ووضعتهما داخل فردتي الحذاء ووضعتهما تحت الكرسي. أحسست ببرودة الأرض تسري في قدميّ. طويت أردان قميصي حتى المرفق ثم عدت باتّجاه الدكّة. ذهبت نحو الحنفيّة وفتحتها فانهمر الماء بارداً. غسّلت يديّ وذراعيّ حتى المرفقين بالصابون ثم جفّفتهما بمنشفة كان مهدي قد هيّأها لي. وقفت إلى يمين الدكّة وأزحت الشرشف عن وجه الميت وجسده. كان عاريا إلا من سروال داخلي أبيض. كانت بشرته مائلة إلى الاصفرار. شعره بنيّ قصير. جبينه عريض وأنفه دقيق وطويل و كان يطرّز خده الأيمن خال بالقرب من طرف شاربه. شفتاه بدتا وكأنهما عطشانتان. كان هناك بعض الشعر المبعثر على صدره بين الحلمتين ثم يصبح خطّاً أسفل بطنه. كان نحيلاً وقد برزت أضلاعه وعظامه بشكل واضح. وضعت ذراعي تحت رقبته كي أحمله وأسحب، بيدي الأخرى، الشرشف من تحت الجزء العلوي من جثته. اقشعرّ بدني. أعدت رأسه إلى الدكة. وضع مهدي يديه تحت ركبتيه ليرفع بقية جسمه. سحبت ما تبقّى من الشرشف. أعطيته لمهدي الذي طواه وأعطاه للرجل الذي ظل واقفاً في مكانه. أخذه الرجل وظل ممسكا به. جاء مهدي بمنشفة بيضاء نظيفة وأعطاني إياها وكان يحمل مقصّاً باليد الأخرى. وضعت المنشفة على وسط الرجل. أخذت المقص من مهدي ورفعت المنشفة قليلاً بيدي اليسرى لكن دون أن أكشف شيئاً وبدأت أقص سرواله الداخلي من الجانب. درت إلى الجانب الآخر وفعلت نفس الشيء وأزلت السروال من تحته ومن فوقه وأعطيته لمهدي الذي أخذه ووضعه في كيس نايلون كان قد أخرجه من أحد الجوارير وأعطاه لعم الميّت. أخذ مهدي المقص منّي. وضعتُ راحتي على بطنه ومسحتها برفق فأحسستها كأنها من الپلاستيك الصلب. ملأت طاسة بالماء وصببته على وجهه قليلاً منه وأدخلت سبّابتي بين شفتيه وفركت أسنانه. كان مهدي قد بدأ يضيف السدر المطحون إلى الطشت ويخلطه فتكوّنت رغوة على سطحه وفاحت رائحته الزكيّة. صببت طاسة أخرى على شعره وفركته بيدي وغسّلت وجهه ثم صببت المزيد من الماء. عندما نظرت إلى مهدي عرف بأنّه قد حان الوقت لقلبه على جانبه. قلبناه وأنا أردّد: عفوك عفوك. غسّلت الجانب الأيمن من الرأس حتى أخمص القدم ثم فعلت ذات الشيء للجانب الأيسر. غسّلناه بالماء والكافور وثم في المرّة الثالثة بالماء الصافي. لأكثر من نصف ساعة كان صوت ارتطام الماء بجثته ثم سقوطه على الأرض يسود المكان تتخلله تمتماتي الدورية.نشفناه جيداً ثمّ كفنّاه ووضعنا جريدتي نخل جلبهما مهدي من المخزن.
كان مهدي، بفضل السنتين اللتين أمضاهما مع حمّودي، قد أتقن واجبات المساعد وإيقاع الغسل وكان دائماً يستبق الخطوة التالية ويستعد لها ممّا خفف من توجّسي من أن أخطئ. عندما ذهبنا إلى الزاوية لنجئ بالتابوت، نهض الشابان. وضعناه على الأرض قرب الدكّة ثم حملنا الجثة وسجّيناها فيه. سألني الرجل ثانيّة عن الأجرة فقلت له إنّه ليست هناك أجرة محدّدة. أعطاني عشرة آلاف دينار فشكرته وعزّيته مرّة أخيرة، حملوا النعش وخرجوا.
سألتُ مهدي عن المبلغ وأنا أضع الأوراق في جيبي فقال إنّه جيد جدّاً وقال إنّ حمّودي كان يطلب عشرين ألفاً إذا أراد أهل الميت أن تضاف الحبرة إلى الكفن. اقترحت عليه أن نغسل الدكّة ونرتّب الطشوت فقال إنّه سيفعل ذلك لوحده. جلست في الغرفة. بحثت عن الراديو فلم أجده. سألت مهدي عنه فقال إنّه لا يعرف أين هو. قرّرت أن أجئ بالراديو الصغير من البيت ليؤانسنا. فجأة تذكّرت بأنّني نسيت أن أقول: أغسل هذه الجثّة لهذا الميت واجباً قربة إلى الله تعالى. خلتُ الإمام علي ينظر إلى من الصورة لكنّني لم أرَ أي تأنيب أو غضب في عينيه.
رفق الموت بحالي في يومي الأوّل فأعطاني استراحة طويلة. لم يجئ أحد حتى الظهر. تذكّرت الصفرطاس. لم يكن مهدي قد جاء بكيس أو أي شيء معه. أعطيته قليلاً من النقود وطلبت منه أن يشتري لنا سندويشتي فلافل من محل أبو كريمة في نهاية الشارع وأن يأتي بعلبتي بيبسي أيضاً، فابتسم وبدا متحمسّاً للمهمة ولما سيحمله.
جلست أنتظر عودته فرأيت دفتري القديم وتصفّحته فوجدت بعض الصفحات الخالية. قرّرت أن أدون أسماء الموتى الذين سأغسلهم. فكتبت تاريخ اليوم و اسم "جاسم".
قرّبتنا وجبات الغداء المشتركة وجلساتنا بالقرب من الراديو الجديد الذي اشتريته من بعضنا البعض . لكنّ ما قرّبنا أكثر من أي شيء آخر هو ما كنّا نقوم به معاً في الغرفة المجاورة في الأشهر التي تلت ذلك اليوم والأجساد الّتي كنّا نغسّلها والتي ملأت دفتراً بعد دفتر. كان اليوم الأوّل بسيطاً بالمقارنة بما جاء في الأيام والشهور التي تلته.
٣٤
كانوا يشبهون البشر ببنية أجسادهم ووجوههم، ولكنهم لم يكونوا من لحم ودمّ بل من شيء يشبه الغيوم فكنت أراهم وأرى عبرهم بنفس الوقت. أحصيت أكثر من عشرة منهم. كل واحد له جناحان كبيران يصطفقان بقوّة. كانت وجوههم تتوهج في الظلام. تجمهروا حولي وأمسك إثنان منهم بكتفيِّ وأجلساني على غيمة. ثم جاء ثالث وأحكم قبضتيه حول عنقي وقال بصوت بدا كأنّه قادم من بعيد بالرغم من أنّه كان أمامي: كيف تغسل دون أن تنوي؟ قلت له وأنا أختنق: من أنتم؟ فقال: أأنت أحمق؟ ألا ترى بأنّنا ملائكة؟ فقلت له: ملائكة وتعاملونني بكل هذا العنف كأنّكم أمن أو مخابرات؟ صفعني وقال: أنت لست هنا لتستجوبنا. وكرّر سؤاله: كيف تغسل دون أن تنوي. فقلت له: قد نويت.
٣٥
أصعب لحظة هي لحظة الاصطدام باليقظة حين يرنّ المنبّه وأدرك بأنّ على أن أبدأ استعداداتي للعودة إلى الماراثون الإجباري. حتّى أسوأ الكوابيس بشاعة يظل فيه أمل اليقظة. لكن لا يمكنني أن أستيقظ من اليقظة نفسها ومن هذا الكابوس الأبدي. بعض الناس يذهبون ليجلسوا خلف مكتب تتكدّس عليه الأوراق أو ليشغّلوا آلة طوال اليوم. أمّا أنا فمكتبي دكّة الموتى وعزرائيل يعمل ساعات إضافيّة ويتفانى كأنّه يريد الحصول على ترقية ليصير إلهاً. كنت أمشي في الشارع وأنظر إلى وجوه المارّة وأفكّر ترى من منهم سيستلقي علي الدكّة لأغسله.
كان كل يوم من أيّام الأسبوع صعبا وله مآسيه الصغيرة الخاصة بتفاصيلها، لكن الخميس كان الأصعب والأطول لأنّه اليوم الذي تصل فيه ثلاجة الفرطوسي المحمّلة بحصاد الموت الأسبوعي. كل أولئك الّذين يُقْتَطعون من عوائلهم وحيواتهم ويلقى بهم في المزابل على أطراف بغداد أو في النهر أو يتعفّنون في الطب العدلي. كان معظمهم بلا أوراق أو هويّة ولا يعرف لهم اسم، فكنت أضع في دفتري سبب الموت، بدلاً من الإسم المجهول: رصاصة في الجبين، خطوط حمراء حول الرقبة، طعنات سكّين في الظهر، جسد مقطّع بمنشار كهربائي، جسد بلا رأس، تفتّت في انفجار و و و . وكان كل اسم يهوي إلى أعماقي ويظل صداه يتردد. ولا شيء يمحو الوجوه حتّي صارت ذاكرتي دفتراً لوجوه الموتى. أدركت ذات يوم وأنا أعود إلى البيت بأنّه، باستثناء مهدي وأمّي، فأنّني كنت أعيش أيّامي مع الموتى.
٣٦
في أحد صباحات شباط ٢٠٠٦ كنت أرتدي ملابسي وأتهيّأ للذهاب إلى العمل حين سمعت أمّي تصرخ وتنوح في الطابق الأرضي. نزلت الدرج راكضاً وكنت حافياً بالبنطلون فقط. رأيتها جالسة تشاهد التلفزيون تلطم وتبكي وتردّد “أويلي أويلي”. سألتها وأنا أمسك بيديها كي تتوقّف عن اللطم: هاي شبيچ يمّه؟ شصار؟” كان هناك مشهد على الشاشة لقبّة جامع مهدّمة. قالت من بين دموعها “ضربوا العسكري هالميخافون من الله. ياريت الله عماني ولا شفت هالشوفة.” حاولت تهدئتها بالرغم من أنّني أنا أيضاً شعرتُ بالحزن، لكن ربما لأسباب مختلفة. كنت قد زرت المرقد أكثر من مرّة فسرداب المهدي هناك. وشعرت برهبة وحزن عميق عندما كنت في داخله وأنا أرى أمّي تبكي وهي تمسك بالشباك بيديها. كنت صغيراً يومها ووقفتْ ورائي كي لا أضيع. كان ملمس الشباك بارداً جدّاً على خدّي بينما كنت أحس بدفء جسد أمّي وأنا أقف بين ساقيها وهي تتمتم أدعيتها. بكت وهي تذكر إسم أمّوري وتطلب من الإمام أن يحفظه. فبكيت أنا أيضاً. ولم ينفع ذاك الدعاء ولا الدموع التي ذُرِفَت. لكننا كنا نذهب أيضاً إلى سامراء في طفولتنا وفتوّتنا مرّات عديدة، وفي زمن كنّا فيه أكثر براءة، في سفرات مدرسيّة لزيارة الملوية والصعود إلى قمّتها. كان منظر القبّة الذهبيّة جميلاً و باهراً وهي تلمع تحت أشعة الشمس كأنّها نجمة سقطت من السماء واستقرّت على الأرض بعد أن استحمّت بماء الذهب.
كان الشريط الإخباري أسفل الشاشة يعلن بيانات الاستنكار والتهديد من كل صوب وحدب. أدركت أنّ الوضع سيزداد سوءاً وأن هذه الجريمة ستطلق العنان للغضب المكبوت وأن أكوام الجثث ستعلو في كل مكان. كانت أمّي تخاف من أن تفجّر قباب أخرى.“ منّو يوگفهم إذا رادوا يفجرون الكاظم، الله يستر.” قلت لها: إي الله يستر، بس عله كيفِچ. هدّي أعصابچ شويّة يوم. ماراحيفجرون الكاظم.” انزعجتْ من كلامي بطريقة لم أعهدها من قبل: “ماريد أهدّي أعصابي، أنت أعصابك هادية أكثر من اللازم، مو ضربوا قذائف يم الضريح گبُلْ چَمْ شهر؟ مو كل سنة تفجيرات بوكت عاشورا؟، بس إنته متهمّك الشيعة.” كنتّ على وشك أن أقول لها بأنّها على حق، نوعاً ما، لأنّني بدأتُ أكره الجميع بالتساوي، شيعة وسنّة. وأنّ كل هذه المفردات تخنقني كأنها مسامير صدئة في رئتيّ:شيعي، سنّي، مسيحي، صُبّي، يزيدي، كتابي، رافضي، ناصبي، كافر، يهودي. لو أنّ بإمكاني أن أمحوها كلها أو أُفخخ اللغة وأفجرها كي يستحيل استخدام هذه المفردات. لكن حتّى هذا لن يغيّر ما تحمله المفردات وترمز إليه. وها أنذا أيضاً أستخدم لغة التفخيخ والذبح. قلتُ لها: “خلف الله عليچ.” صعدتُ إلي غرفتي وأرتديت بقية ملابسي وخرجتُ من البيت. عندما سمعت وقع أقدامي وأنا أستعد للخروج قالت: “الله وياك إبني” لكنّني لم أرد عليها.
عندما عدتُ في المساء قبّلت جبيني واعتذرت منّي وطلبت أن أسامحها: “شأسوّي إبني، احترگ گلبي.” فقلت لها ” ماظل گلب ما محروگ بهالبلد.” جلسنا نحتسي الشاي أمام التلفزيون وكان حصاد اليوم التلفزيوني هو ما سمعته على الراديو طوال اليوم: مظاهرات احتجاجيّة غاضبة كان السيستاني قد دعا إليها، فانطلقت في بغداد والنجف والبصرة وكانت هناك هجمات على خمسة جوامع سنيّة في بغداد وأحرقت جوامع في مدن أخرى. تبادلنا أنا وأمّي نظرة فقالت: “غير من حرگة گلبهم؟ فقلت لها: يعني يحرگون جامع لأنه گلبهم محروگ؟” فتراجعتْ لأنّها ربما أدركت أن الجدال سيدفعني إلى الخروج والذهاب إلى مقهى الإنترنت كعادتي. وقالت: “هو صدگ البادي أظلم، بس ميصير واحد يحرگ بيت الله.” أعلنت الحكومة الحداد لثلاث أيّام. أمّا القتل الطائفي فبدأ يستشري بدون أي أعلان رسمي وبدون أن يتوقّف بعد ثلاثة أيّام.كانت الفضائيّات تضج بالضوضاء وبالسُعار الطائفي من الجانبين وتستضيف المعمّمين الذين تمرّس أغلبهم في إثارة النعرات وإلهاب مشاعر أبناء طائفتهم، خصوصاً من الملثمّين الذين ما كان ينقصهم الحماس أصلاً لترجمة ما يقال بأسلحتهم وخناجرهم البليغة. في اليوم التالي للتفجير تم العثور على أكثر من مئة جثة مجهولة في بغداد. لم يزدد معدّل الجثث في المغيسل. فكّرت برفاقي المغسلچية من السنّة على الجانب الأخر من هذا الوادي والذين تختنق ساعاتهم الآن بالموت والماء.
بعث عمّي برسالة إلكترونيّة يطمأن علينا فيها ويذكّرني بما قاله لي قبل ثلاث سنوات عن جحيم الطائفية القادم لا محالة وعن أنّ الخوذ والعمائم ستقطع الرؤوس وتحرق الأخضر واليابس. سألني إن كنت أنوي الهجرة فعلاً أو إكمال الدراسة في الخارج، كما أخبرته عندما كان في بغداد، وكرّر عرضه بالمساعدة، فكتبتُ له إنّني أفكّر بالموضوع ولكن مصير الوالدة يؤرقني.
٣٧
كنت معصوب العينين، لا أرى شيئا، لكنني أحسست بوهج قوي موجّه نحو عينيّ . لا أدري ولا أتذكّر من أجلسني على كرسي. لكنّني شعرت بألم شديد في ظهري. قال صوت عميق: شيل العصابّة من فوگ عينه. فأجاب أحدهم: نعم سيدي. وأحسست بيده تزيل العصّابة عن عينيّ. كان الوهج القوي من ضوء إلى يساري موجه نحو وجهي. كانت أمامي طاولة مكتب يجلس خلفها رجل لم أتبيّن معالم وجهه بشكل جيد بسبب الضوء المعمي. سألني: إسمك جواد كاظم؟ فأجبت: نعم.
نظر إلى الأوراق التي كانت أمامه وقرأ: خرّيج أكاديمية، نحّات فاشل. صبّاغ. إنت مؤمن؟
أربكني السؤال، فسألته: عفواً؟
فصرخ بوجهي: لك گوّاد، لتسوّي نفسك لوتي ومَگاعد تفتهم السؤال.
- إنت مؤمن؟
فقلت له: نعم والحمد لله. فأشار إلى الذي كان يقف بجانبي فلطمني هذا الأخير بقوة شعرت بها بأن رأسي سينخلع.
- ولك سرْسري. صارلك ميت سنة لاصايم ولامصلّي ولامعتّب عالجامع وتگول مؤمن؟ شلون تدنّس أجساد الشهداء وأنت واحد مُرتَد وَصِخ؟ شِلَك بهالشغْلة أساساً إذا إنتَ فنّان. (قال “فنّان” بنبرة مختلفة مستهزئاً بالفكرة). روح شَخْبُط ولَعْوِص بالطين لو بالخَره أحسنْلَك. وإسكر وعَرِْبِد ويّه هالفروخ الرسّامين والفنّانين جماعتك. بس لا تگيس أجساد الشرفاء يا هِتْلي. طيزَك أشُگّه.
رنّ هاتفه، فقال “آني أربّيك.” ثم ردّ عليه وبدأ يتحدّث مع أحد أصدقاءه بمودّة ويمزح معه ويتّفق على موعد للعشاء. أيقنتُ أنّهم سيعذّبونني أكثر هذه المرّة. هل سيبقون على حياتي أم أنّهم سيتلذذون بتعذيبي إلى أن أموت كما يفعلون مع الآخرين ثم يلقون بي في مزبلة ما أو في النهر؟ استغربت أنّه يواصل الحديث مع صديقه دون أن يتوقّف رنين الهاتف وكان أغنية لكاظم الساهر أعرفها جيّداً. استيقظتُ وكان هاتفي هو الذي يرن.
٣٨
بعد ثلاثة أشهر من التفجير عدت من المغيسل إلى البيت لأجد أمي مع بعض الأقارب في غرفة الضيوف. كنّا متعودّين على زيارات كثيرة لأن بيتنا قريب من الكاظم فكانوا يجيئون كلما زاروه وخصوصاً في المناسبات والأعياد. كنت مرهقاً فقرّرت أن ألقي تحيّة سريعة. أبصرت من الباب الموارب وجها مألوفاً لواحدة من قريبات أمّي كنت قد رأيتها قبل عدة سنوات في عرس و قد جلست بجانبها بنت جميلة أصغر بكثير تشبهها وصبي في العاشرة من عمره. طرقت الباب فغطّت المرأة شعر رأسها بغطاء أسود، بينما لم تضع ابنتها، الّتي ابتسمت لي، أي شيء على رأسها. تبادلنا التحيّة والسلام من بعيد ورحبت بهم. سألتني أمّي “تتذكّر أم غيداء؟“ فقلت لها: طبعاً. “وهاي، ماشالله، غيداء و هذا غيث”. رحبت بهم مرّة ثانية واعتذرت عن الجلوس معهم لتعبي وذهبتُ إلى المطبخ لآكل.جاءت أمّي وقالت لي بأنّها تريد أن تفاتحني بموضوع مهم. فسألتها “خير شكو؟.” قالت إنّ أم غيداء وأولادها في وضع صعب جدّاً لأنّهم لا يستطيعون البقاء في بيتهم في العامريّة بسبب التهديدات والقتل، وخصوصاً بأنّ أبو غيداء مات قبل خمسة أشهر وهي لوحدها. فهل يمكن أن يظلّوا معنا إلى أن يفرجها الله لأنّ منطقتنا آمن للشيعة؟ فأجبت بدون تفكير: “طبعاً، هلا بيهم.” فرحت وقبّلتني على خدّي قائلة: “عبالي راح تضوج”.
لم أكن أقضي الكثير من الوقت في البيت أساساً، خصوصاً بعد أنْ أدمنتُ التسكع على الإنترنت. كنت أدرك بأن البيت أصبح موحشاً لأمّي بعد وفاة أبّي فلربّما تخفف عنها رفقة أم غيداء قليلاً وتؤانسها. يمكن لثلاثتهم أن يناموا في غرفة الضيوف. اتّضح فيما بعد بأنّ أم غيداء كانت تشكو من آلام في فقراتها فدعتها أمّي لأن تنام معها في سريرها، بينما ظلّ غيث وغيداء ينامان في غرفة الضيوف على مرتبتين تفرشهما غيداء قبل النوم بقليل وتلمّهما في الصباح.
لاحظت أن مزاج أمّي تحسّن كثيراً بعد قدومهم وقلّت تحسّراتها وشكواها. وبالرغم من أنّني لم أكُن من أعداء العزلة فإنّ وجودهم في بيتنا أعاد الحياة إليه. خصوصاً في الجلسات الليليّة حول العشاء أمام التلفزيون. وقلّلت أمّي من الاستماع إلى شرائط النعي الّتي أخذت تكثر من الاستماع إليها في الفترة الأخيرة، خصوصاً بعد انتشارها في الأسواق و شهرة بعض الرواديد عبر القنوات الفضائيّة . لا أنكر أنّني كنت أتأثّر ببعضها وخصوصاً باسم الكربلائي الذّي كان صوته شجيّاً مليئاً بالحزن المعتّق وكان بارعاً في انتقاء القصائد وفي الأداء، لذلك كنت لا أمانع أن تستمع إليه، بينما كنت أطلب منها أن تخفض الصوت مع الآخرين. شرحت لها بأنّ الموت الذي أراه كل يوم من الصباح إلى المساء يكفيني ولا أريد العودة إلى مزيد من الندب، بل إلى شيء من راحة البال.
٣٩
كنت أغسل جثة رجل عجوز أبيض الشعر، هزيل، ملأت جبينه ووجهه التجاعيد، فسرح ذهني وأخذت أفكّر بأشياء أخرى، ففتح الرجل عينيه وهز رأسه ثم حاول أن ينهض. سقطت الطاسة من يدي وابتعدتُ عن الدكّة خائفاً. قال لي بصوت أجشّ: ما كنت أظنّ بأنّني سأضطر إلى أن أعمل هذا بنفسي، لكنك لا تركّز يا أخي ومشغول بتفاهاتك! انحنى ورفع الطاسة عن الأرض وملأها بالماء ثم أخذ يدلق الماء على رأسه. مد يده إلى السدر. حاولت أن أساعده لكنه رفض وطلب منّي أن أجلس على الكرسي بعيداً. بدأت عشرات الجثث تأتي من كل مكان. دخل بعضها من الباب الرئيسي والبعض الأخر جاء من الباب المفضي إلى الحديقة الصغيرة ومن المخزن أيضاً. كان بعضها عارياً إلا من خرقة حول وسطه. البعض الأخر كان مكفّناً ويحاول نزع الكفن من حول جسمه وهو يمشي نحو الدكّة. وبدأت الجثث تغسل بعضها البعض وتصطفّ في دوائر حول الدكّة تنتظر دورها. ازداد عدد الجثث وملأت المغيسل حتى أنه لم يعد هناك مكان لي، فخرجت من المغيسل إلى الشارع، لكنّني رأيت جموعاً حاشدة من الجثث الحيّة تحيط بالمكان كله تملأ الشوارع والأرصفة. شعرت بالاختناق، ثم استيقظت.
٤٠
كان أبو غيداء يمتلك مطعماً صغيراً مع شريك له على طريق معسكر التاجي قصفه الأمريكان في بداية الحرب. وكان يمزح قائلاً لابد أن العنبة والبهارات التي يستخدمها في الفلافل كانت على قائمة البنتاغون لأسلحة الدمار الشامل والغازات التي تهدّد العالم.رمّم أبو غيداء وشريكه المطعم وأعادا فتحه من جديد بعد أربعة أشهر لكن العمل لم يكن مربحاً أبداً لأن منطقته أصبحت خطرة جداً لكونها مسرحاً للاشتباكات بين دوريّات الأمريكان والمسلّحين. خسر كل شيء واضطر هو وشريكه لإقفال المطعم. بعد سنة ظلّ فيها عاطلاً عن العمل قرأ إعلاناً عن وظائف شاغرة في شرطة وزارة الداخلية براتب جيد، فذهب إلى ساحة النسور في صباح باكر كي يقف في الطابور ويسجّل اسمه. وفجّر انتحاري كان يقف في الطابور نفسه. كان أبو غيداء من بين الجرحى الذين نقلوا إلى مستشفى اليرموك ومات بعد ساعتين. عندما وصلت أم غيداء إلى المستشفى مع غسّان ابنهما البكر كان أبو غيداء قد أغمض عينيه إلى الأبد.
مسحت أم غيداء دموعها التي كانت تهطل كلّما ذكرت زوجها وأعادت سرد قصّة موته وقالت: “يعني مو جريمة يكُتْلوه هيچ؟ الرجّال واگف بالسرة خطيّة يريد يلَگّي شُغُل يستر أهله. هاي المقارمة الشريفة؟ يروحون يكتلون الأمريكان. إحنه شعلينه؟”
كانت دموع غيداء ترافق دموع أمّها كلّما مر ذكر أبيها. أمّا غيث فكان يغرق في الصمت ويتظاهر بأنّه يشاهد التلفزيون، لكن الحزن كان واضحاً في عينيه. كان يقلقني صمته شبه الدائم. ترى ما الذي كان يعتمل بداخله؟ كانت أمّه تحاول التعويض عن فقده الأب فتشتري له كل ما يريده من ألعاب وتضاعف من حبّها وقبلاتها، لكنّه كان يشعر بالإحراج إذا فعلت ذلك أمامنا، خصوصاً عندما تقرص خدّه “المتفّح” كما كانت تسمّيه. كان وجها غيداء وغيث تنويعين على وجه أمهما الذي مازال يحتفظ بشيء من جماله الذي كان عليه قبل أن تثقل كاهله السنين ويجثم عليه “الضيم” وهي الكلمة التي كانت ترددها أم غيداء كثيراً لتلخّص بحروفها كل ما مرّ بها. كانت في نهايات الأربعينيّات، أصغر بخمس سنوات من أبي غيداء. عيناها كانتا بلون العسل وكان أنفها كبيراً بعض الشيء، لكنه كان يلائم وجهها لو لم ينتفخ خداها ومحجراها. شفتاها كانتا مليئتين.
كانت غيداء في التاسعة عشرة من عمرها وباستثناء مسحة الحزن في عينيها العسليّتين ودموعها التي تظل تعاودها فإن وجهها كان مفعماً بالحياة وكانت ضحكاتها تضيء الجلسة. كل تفصيل في جسدها كان يفصح عن أن نيسان العمر قد حل فيه بقوّة.كان يعلن عن نفسه في نضارة الخدّين والبشرة الحنطيّة وبشفتين مكتنزتين وسعيدتين ببعضهما البعض. كانت تعض السفلى منهما حين تشعر بالخجل. كان شعرها قصيراً وسرحا بلون الكستناء، يظهر جمال جيدها. كان حاجباها ورمشاها كثيفين مثل حاجبي أمها، لكنها، على عكس أمّّها، كانت قد اعتنت بتشذيبهما. لم تكن نحيفة، لكن نيسان العمر كان قد غطّاها بما يكفي دون أن يفرط إلّا في تكوير النهدين حتّى برزا بوضوح. كنت أقطفهما بعينيّ كلما سنحت الفرصة، خصوصاً حين تقدّم لي الشاي الذي أخذت تعدّه هي دائماً.
كانت غيداء قد أكملت الدراسة الثانويّة بمعدل “جيد جدّاً” وقُبِلَت في قسم الآداب- اللغة الإنكليزيّة جامعة الموصل، لكن أبيها وأمّها رفضا أن تلتحق بالدراسة لأنّهما خافا أن تذهب إلى هناك لوحدها وتسكن في الأقسام الداخليّة في تلك الأوضاع الأمنيّة البائسة وخصوصاً أن الموصل كان لها حصتها من الانفجارات والمذابح وخطورة الطريق بينها وبين وبغداد. حاول أبوها أن ينقلها إلى جامعة بغداد أو المستنصرية، لكنه لم ينجح وضاعت عليها السنة.
أضفى وجودها في البيت مسحة من الجمال والأنوثة والحياة كنت أفتقدها في أيّامي الطويلة أنا الذّي كنت أغسل أجساد الذكور للحصول على لقمة العيش. وهكذا أصبح هناك حافز للعودة إلى البيت في المساء. ولاحظت بأنّني بدأت أعتني أكثر من قبل بمظهري وبملابسي.
٤١
حتّى تماثيل جياكوميتي بدأت هي الأخرى تتسلّل من ثقوب الليل إلى كوابيسي. قبل أيّام رأيتُ واحداً منها مستلقيا على دكّة الغسل وأنا أقف بجانبه. استغربت لكنّني افترضت بأنّني يجب أن أغسله بما أنّه هناك. وحين بدأت بصب الماء على الجانب الأيمن من رأسه الصغير أخذ يتفتّت إلى قطع صغيرة تذوب في الماء وتضمحل. كنت أضع الطاسة جانباً وأحاول أن التقط القطع الصغيرة بيدي الإثنتين من الأرض وأعيدها إلى الدكّة، لكن كل شيء كان يزداد تفتّتاً بين يدي.
٤٢
استيقظت ذات ليلة من واحد من كوابيسي الشنيعة حوالي الثالثة صباحاً وظللت أتقلّب في فراشي دون أن أتمكّن من العودة إلى النوم. أحسست بالعطش فنزلت لأشرب قدح ماء ثم ذهبت بهدوء إلى غرفة الجلوس لأشاهد التلفزيون لأنّ الكهرباء لم تكن مقطوعة. حاولت ألّا أصدر أي صوتٍ كي لا أوقظ أحداً. جلستُ أقلّب القنوات وأَبْقيْتُ الصوت واطئاً جدّا. بعد عشر دقائق سمعت صوت خطوات وجاءت غيداء وأطلّت بوجهها في الظلام وهمستْ: ميخالف أتفرّج ويّاك؟ فقلت لها: طبعاً، إتفضلي. اعتذرتُ لإيقاظها فقالت إنّها لم تكن نائمة وبأنّّها تعاني من الأرق. قلت لها: بَعْدِچْ صغَيْرة عالأرق، فابتسمت وسألتني: إنتَ همْ عندكْ أرق؟ فقلت لها: إي، مُزْمِن. كانت حافية ترتدي بنطلون رياضة سماوي اللون و”تيشرت” أبيض بدون حمّالة صدر فبرزت حلمتاها. جلست على الكنبة التي كانت إلى اليمين ووضعت قدميها على الكنبة واحتضنت ركبتيها بذراعيها فبان جزء بسيط من ما بين الإبط وسفح النهد.كان المذيع على إحدى الفضائيّات يعيد أخبار اليوم فقلبت القناة بعد نصف دقيقة صمت إلى فلم مصري قديم. قالت لي: شكراً على الاستضافة والكرم؟ فقلت لها: هذا أقل من الواجب. وأضفت: الوالدة كلّش فرحانة بيكم.. ففاجأتني بسؤالها:
- وإنتَ؟
فقلت لها مع ابتسامة: وآني هَمّ فرحان. سألتها:
- إن شاء الله مرتاحين؟
- كُلِّش. الفرق بين السما والگاع. لا صوت ضرب بالليل ولا تهديدات ولا دوخة راس. بس مقهورة لأنّه كتبي كلهه ظلّت هناك.
- يا كُتُب. مال الدراسة؟
- لا، قصص وروايات.
- آني عندي كتب هواية بغرفتي إذا تحبّين. وإذا تهدا الأمّور بلچن نروح نجيب الكتب من عدكم فد يوم.
- والله؟ ياريت عفْية.
- باچر أنَزّلّچ مجموعة أو إذا تريدين دُخلي إنتي وشوفي اللي يعجبچ.
- تسلم. شكراً.
- ممكن أسألك سؤال؟
- طبعاً.
- مرتاح بشغلك؟
فاجأتني بسؤالها. لم يكن هناك أحد من الذين حولي يعذّب نفسه ويسأل عن تفاصيل عملي أو إذا كنت مرتاحاً أم لا. كان عمّي يستفسر في رسائله والأستاذ عصام كذلك. أمّا أمّي فكانت تكتفي بأن تقول: الله يگَوّيك.
أجبتها بسؤال: ليش تسألين؟
فعضّت شفتها السفلى وابتسمت قائلة: هيچ. أسفة؟
- لا بالعكس.
- أشوفك من ترجع للبيت مهموم و ولو تضحك ويّانه بس مبيّن تعبان.
-هي، بصراحة، شغلة كلّش مُتْعِبة نفسيّاً.
كانت ابتسامتها قد غابت. قالت بصدق:
- آني آسفة.
شكرتُها على اهتمامها. لم تسأل أيّ سؤال اخر عن عملي تلك الليلة. تجاذبنا أطراف الحديث بصوت خفيض حتّى الفجر عن أشياء كثيرة أخرى. ثم بدأت تتثاءب، فتثاءبتُ أنا أيضاً واعتذرتُ منها بأنّني يجب أن أحاول النوم لساعتين كي أصمد في العمل.
- آسفة، سهّرتك.
- لا بالعكس، تونّست وياچ.
- آني همّينه.
- تصبحين على خير
- وإنت بخير.
فكّرت وأنا أصعد الدرج بهدوء أنّه على الرغم من براءة ما فعلناه إلا أنّ أمّي أو أمّها، خصوصاً أمّها، كانت ستفسّر ما حدّث بشكل يختلف كليّاً. كانت المسافة بيننا قد أصبحت أقصر من قبل.
٤٣
كان في بدايات الخمسينيّات و ممتلئاً بعض الشيء. أصلع الرأس لم يُبْقِ العمر إلا شعرات من الأبيض على جانبي رأسه، حليق الذقن، لكنّه أبقى على شارب أبيض. كانت هناك آثار حروق على رأسه وجبهته وخدّه الأيمن. كان يضع نظارات بإطار أسود على عينيه العسليتين ويرتدي قميصاً أصفر اللون طويل الأكمام وبنطلوناً أسود وشحّاطة. قال لي إنَّ جماعة الطب العدلي بعثوا به إلىّ لأنّ لديه جثّة لابد من غسلها ودفنها بسرعة. فعزّيته” الله يرحمه، گرايبك؟” قال: “لا. ولا أعرف منو هُوّ. الله يرحمه”. ربما لاحظ استغرابي من جوابه فقال لي ونحن نخرج لجلب الجثّة: ماراح تْصَدّّگ إذا أحچيلك شصار بِيّه.” فقلت له: خير؟ فقال: قصة طويلة. لم أسأله عن التفاصيل، فقد كنت قد سمعت ورأيت بأمّ عيني في السنتين الأخيرتين ما يفوق كلّ تصوّر. أعطاني شهادة الوفاة فقرأت ما كتب عليها: الاسم: مجهول. الجنس: ذكر. سبب الوفاة: حروق. أمّا بقية المعلومات فكانت كلها مجهولة وكان تاريخ الوفاة قبل حوالي شهرين. أشار إلى سيارة صغيرة بيضاء كانت تقف قرب المحل وبداخلها رجل يجلس في مقعد السائق وكان الصندوق الخلفي مفتوحاً. رأيتُ فيه كيساً من النايلون السميك مُكَلْبَساً من جوانبه، من النوع الذي توضع فيه الجثث مجهولة الهويّة. بالرغم من سمك النايلون والطبقات التي لُفّت بها الجثة كان يمكن أن أرى أنّها قد تفحّمت. قلت لّه بأنه إذا كانت الحروق شديدة فلا يمكن الغسل لأنها قد تتفتّت ويكفي التيمّم. فسألني: “هذا اللي إنتو تسوّو عادةً؟” لم أعرف إن كان يقصد بـ “إنتو” نحن الذين نغسل الموتى أم نحن الشيعة. فسألته: شنو قصدك؟ قال لي: “ أخي آني ما أعرف. بصراحة، آني مو شيعي.” فاستغربتُ وسألته: “ لعد ليش جايْبَه هنا؟” فقال: “هُوَّ شيعي. مو گِتْلَك قصّة عجيبة غريبة ماراح تصَدّّگهه.” بدا وكأنّه متعطّش لأن يرويها. قلت له: “عادةً، إذا جثة الميّت محروگة أو مشوّهة أو منفوخة أكثر من اللازم بحيث الغسل صعب أو مُؤذي أو تتفتفت فالغسل مو واجب.” وقررتُ أن أسمع تفاصيل قصّته لأن الموقف كان غريباً فِعْلاً فقلت له: مَتْگلّي شنو قصتك؟
“يا أخي آني سايق تكسي على باب الله. بيتي بالسيّديّة وطلع ويّايه هذا المسكين”. كان يستعمل يديه ويشير كثيراً وهو يروي القصة التي أضافت إلى صوته نبرة حزينة. ” إنسان طيّب محترم. گُمْنَه نِحْچي على هالوضع البائس والمذابح والسياسيين. وإجه موضوع السنّة والشيعة وگاللي إنّه هو شيعي. تجادلْنه شويّة بس چنّه متّفقين عموماً وكأنّه دَنْواسي بعضنا. تِكْرَم چنت محصور وأسترخصْتَه أوگّف السيّارة بس شويّة. وگَفِتْهَه على صفحة ورحت يم الأشجار بالقناة. چان أكو طيّارات هواية تحوم هذاك اليوم ما أدري شصاير بمدينة الصدر بين الأمريكان وجيش المهدي و بس فِتَحْت السحّاب سمعت إنفجار قوي عبالك إذني طگّت. التفتِتْ ليوره شِفْت السيارة صايرة قطعة نار. ركضِت دا أشوف شنو القصّة أشوفلك سمتيّة أمريكية فوگانا دتديور وترجع. ما عرفِت شَأسوّي گلت أخاف هَمْ تضربني آني. وفوگاها ماكو شي أطفّي بي السيّارة. گُمُت أشيل تراب من الگاع وأذبّه عالسيّارة بلچن تنطفي. وگَفتْ بنُصّ الطريق العام أأشِّر بثنين إيديّه أريد أوگِّف أحد يساعدني بس محّد يوگف. أصيّح بعلو صوتي: يا ناس يا عالم؟ ماكو أحّد. نِزَعِت قميصي گِلِت أحاول أفتح الباب وأطلّعه قبل ما تنفجر السيّارة. لفّيت القميص حول إيدي هاي وفتحت الباب. گَبَّت النار بوجهي وحِرْگَت راسي وگُصْتي وخدّي هاي شوف هنا. وأشار إلى وجهه. ما أدري شلون طلّعته وهو ديشتعل وسِحَبْتَه على صفحة بعيد وظلّيت أحاول أطَفّي النار بالقميص وأذِب تراب عليه، بس چان منتهي صاير فحمة وريحة الشعر المحروگ والجلد تعطّ. السيّارة انفجرت وطارت القطع بكل مكان. ما أدري شگد ظلّيت دايخ وگاعد. گُمِت أمشي وأأشّر بَسْ محّد يوگفلي يمكن عبالهم مخبّل لأنّه چنت مصلّخ بلا قميص. وين بعد ساعة يلله وگف واحد ابن حلّال وصّلني للبيت. جيرانّه أخذوني للمستشفى علمود هالحروقات هاي. بلّغت عن الحادث وماكو كل تفسير ليش الأمريكان ضربَوْ السيّارة. گالولي أروح أقدّم طلب تعويض وقدّمت بس كُلَّه حچي. ماكو نتيجة. بس وجه هذا الإنسان اللي بلحظة صار فحمة ظلّ ببالي. إتّصلت بالشرطة گلتلهم أكو بشر جثْتَه بالشارع لازم تجيبوه، لاتروح الچلاب تاكله. گالولي ماعدنه إمكانيّات نروح نجيبه.تصوّر؟ هو إحْنه العايش ما إله قيمة فشلون الميّت؟ رحِت ويّه أخويه هذا اللي دينتظرني واللي جابني هسّة دنشوف السيّارة إذا بُقى بيها شي ونشوف إذا شالوه، لگيناه بعده هناك مشمور بالگاع. گلبي ما إنطاني فخلّينا بصندوگ السيّارة وأخذناه على الطب العدلي. هناك أكداس مِتْكوّمة بالثلاجات محَّد يعرف وين أهلْهُم والثلاجات مَتْكَفّي. ياخذولهم صور، أكيد حضرتك تعرف هالشّي، ويحطّوهه بالكمبيوتر وينتظرون ييجي أحد يتعرّف عليهم وياخذهم ويدفنهم. زين هذا صارله شهرين محّد يسأل عليه. مو حرام ما يندفن؟ آني گِلْتِلْهُم يابه آني آخذه وأدِفْنه على حسابي لوجه الله. وقّعت ورقة استلام. ما أگدر آخذه للنجف، بس يگلون أكو مقبرة جديدة للمجهولين أودّي بيهه. وهاي جِبناه هنا.
أخذتُ نفساً عميقاً وقلت له: بارك الله بيك وكثّر الله من أمثالك وودّعته. في المساء أخبرتُ أمّي وأمْ غيداء بقصّته لعلها تغيّر آراءهما وأحكامهما المسبقة عن الـ “هُمّه” لكن دون جدوى.
٤٤
بدأت عيناي تكثران من اللقاء بعيني غيداء بمناسبة وبدونها وأصبحتا مثل عصافير تطير بين عينيّ وبين بساتين جسدها المليئة بكل ما يشتهى. كانت تغافلني أحياناً وتصيد بعينيها بعض عصافيري وهي قد حطّت للتوّ على جسدها تنقر منه أو تشرب من مياهه فتبتسم. وفّيت بالوعد الذي كنت قد قطعته لها واخترت لها مجموعة من الروايات العربية والمترجمة وأعطيتها لها، فشكرتني ومسّت يدها يدي وهي تأخذها منّي فأحسستُ بالدم يستيقظ في عروقي. كانت قد بدأت تساعد أمّي في تنظيف البيت وترتيبه ولاحظت بأنّ الطاولة التي في غرفتي والّتي كانت مغطاة بالجرائد القديمة والأوراق والكتب المبعثرة قد أصبحت جميلة ومرتّبة فأستنتجتُ بأنّها تدخل إلى غرفتي. سألتني ذات مرّة إن كنت أرسم، فسألتها كيف عرفت، فقالت بأنّها رأت اللوحة المعلقة في غرفتي وتوقيعي تحتها. كانت اللوحة تنويعاً على أسلوب جياكوميتي في تماثيله رسمتُ فيها إمرأة عارية نحيفة جدّاً تمشي باتّجاه الأفق الأبيض. قلت لها بأنّ ذلك كان فيما مضى وكان طيش الشباب. ضحكت وقالت بأن طيش الشباب جميل و سألتني لماذا توقّفت فقلت لها بأنّها قصّة طويلة سأخبرها بها في يوم ما.
وجدتُني فجأة أرسم وجهها وجسدها في دفتر الموتى كي أسلّي نفسي وأهرب من الموت إليهما. ثم أحسست بالذنب لأنّني حبست جسدها مع أسماء الموتى فخصّصت دفتراً جديداً لها وحدها بدأتُ آخذه معي كل يوم إلى المغيسل. رسمتها فيه وهي تصبغ أظافر قدميها كما رأيتها بالصدفة عندما كان باب غرفة الضيوف التي تنام فيها موارباً. كانت تضع ساقها اليمنى، وقد كشفت عنها إلى مافوق الركبة فبدا فخذها الصقيل، على ساقها اليسرى. تبادلنا نظرة خاطفة وابتسمتْ دون أن تتحرّك أو تغيّر من جلستها.
تكرّرت مسامراتنا الليليّة ثلاث أو أربع مرّات تبادلنا فيها حكاياتنا وهمومنا دون أن يحدث ما هو أكثر.كانت بعض أسئلتها جريئة، فسألتني، مثلاً، ذات مسامرة، عن علاقاتي العاطفيّة، فحدّثتها عن ريم وتاريخي معها. تأثّرتْ بنهاية القصّة لكنّني أحسستُ بأنّها شعرت بالغيرة أيضاً. سألتها عن علاقاتها هي، فقالت ضاحكة: آني خوش بنيّة ما أسوّي علاقات. ثم أضافت بأنّ الفرصة لم تسنح لأنّّها لم تدخل الجامعة وكان رصيدها علاقات مراهقة لا تتعدّى كلاماً عابراً. كان أخوها هو الوحيد الذي لاحظ حوار العيون بيننا، لكنّه لم يقل شيئاً.
أعجبني ذكاؤها ونضجها كثيراً وأعطتني بعض الأمل بأنها، بالرغم ممّا عانوه من الحرب الأهليّة والصراع الطائفي، لم تكن تنجرف مثل أمّها وأمّي في لوم السنّة على كل شيء وفي القفز فوق التاريخ. كانت تميل إلى الإتّفاق معي عندما كنت أحاججهما حتّى أنّها عارضت أمّّها ذات مرّة عندما قالت بأن الشيعة لم يحكموا منذ ألف وأربعمئة سنة وبأن النظام البائد كان سنيّاً. ذكّرتها غيداء بأنّ عدد المسؤولين الشيعة في دستة المطلوبين الّتي أطلقها الأمريكان كان يفوق عدد السنّة. كانت أم غيداء دائماً تردّد بأنّ السنّة هم الذين يريدون ذبح الشيعة ولا يطيقون أن يكونوا في الحكم. ذكّرتها أنا بدوري بالسنّة الذين قفزوا إلى النهر كي ينقذوا الشيعة الذين سقطوا فيه يوم حادثة جسر الأئمة وذكّرتها بالميليشيات التي أحرقت جوامع السنّة وبالسجون السريّة وقصص التعذيب بالثاقب الكهربائي وبكل البعثيّين الذين كانوا سنّة وكرداً ومسيحيّين وختمتها بمثالي المفضّل “الصحّاف شيعي لولا؟” فرفعت حاجبيها مستغربة وقالت:
- هاي شنو عيني جودي. إنت ويّانه لو ويّاهم؟
فقالت لها أمّي: ما تدرين عيني؟ مو جواد محامي دفاع مال السنّة.
قلت لها: آني بوحدي عيني. لاويّاكم ولا ويّاهم.
أخذت ألتزم الصمت بعدها وأحاول ألا أدخل في نقاشات عقيمة كهذه. سألني عمّي عن أحوالنا وأخبار التوتّر الطائفي في إحدى رسائله الإلكترونية فكتبتُ له بأنّني أفكّر أحياناً بما حدث ويبدو لي وكأنّنا ضربنا بزلزال غيّر كل شيء وسنظل نتخبّط في الركام الذي كوّمه لعقود. كانت هناك في الماضي خطوط أو بعض السواقي بين السنّة وبين الشيعة وبين هذه المجموعة وتلك، يسهل عبورها وقد لا نراها. والآن، بعد الزلزال، تشققت الأرض وأصبحت السواقي أخاديد. ثم أصبحت الأخاديد وديانا امتلأت بالدم يغرق فيها من يغامر بالعبور. وتضخّمت وتشوّهت صورة الذين هم على الجانب الآخر من الوادي. وظهرت من هذه الوديان مخلوقات كانت قد انقرضت أو ظننّا بأنها انقرضت. وعادت أساطير قديمة لتغطّي الشمس بظلامها ثم لتهشّمها حتى صار لكل فرقة وملّة شمسها وقمرها وعالمها الخاص. ثم ارتفعت الجدران الكونكريتيّة لتختم المأساة.
٤٥
كانت شهوتي لها تزداد كل يوم وكنت أشعر بأنّها أيضاً تنجذب نحوي، لكنّني لم أستجمع الشجاعة الكافية لأقوم بخطوة حاسمة نحوها. لم أكن أريد التورّط في تعقيدات ومشاكل عائليّة لا تحمد عقباها. كانت الشهوة العارمة تطلق العنان لمخيّلتي التي توّجت جسدها ملكاً على كل أقاليم الجسد في ساعات الليل الّتي لا تصادرها الكوابيس. فكان جسدي يعطش ويرتوي، ويفيض ويغرق، بها ولها، وأنا نائم لوحدي في فراشي الذي لم أتخيّل أنّها يمكن أن تنام فيه يوماً.
ذات ليلة استيقظت من أحد كوابيسي وشعرت بعطش شديد. أشعلت شمعة لأن الكهرباء كانت مقطوعة كعادتها. حملتها ونزلت لأشرب الماء من المطبخ. جاءت غيداء مسرعة نحوي وفوجئت بها تعانقني وتدفن وجهها في صدري وتهمس وهي تلهث: خايفة جودي، خايفة. سقطت الشمعة من يدي على الأرض وانطفأت. طوّقتها بذراعيّ وسألتها بصوت خفيض: من شنو؟ فقالت: كابوس. وضعت يدي اليمنى على رأسها ومسدت شعرها برفق وهمستُ: لا تخافين، خلص الكابوس. شعرت بليونة نهديها على صدري وبحرارة جسدها تسري في عروقي. قبّلت رأسها وأنا أعبّ من رائحة الحنّاء في شعرها. أحسستُ بانتصابي يطرق أبواب جسدها. شعرت بشفتيها تقبّلان رقبتي. رفعت رأسها ونظرت إلى. قبّلت جبينها برفق فرفعت رأسها أكثر وأحسست بها تقف على رؤوس أصابعها. وضعتُ يدي على خدّها ومسحت بقايا دموع كانت عليه بإبهامي. أحسست بأصابع يدها اليمنى على خدّي فقبّلت رسغها. شعرت بأنفاسها الحارّة على حنكي. طبعت قبلة خفيفة على فمها فردّت هي بمثلها. ثم تلاقت شفاهنا بقوّة أكبر. مصصت شفتها العليا ثم السفلى بنهم.كانت يداي تتحسسان ظهرها وضمّتني هي بقوّة أكبر. تسلّل لساني إلى فمها يستكشفه فعضّته برفق. طوّقت لسانها بشفتيّ ومصصته ثم عدت إلى شفتيها المليئتين أقبلهما وأعضّهما بين الحين والآخر وهي تستجيب بآهات تخنقها القبلات. بدأت أقبّل خدّها ثم شحمة أذنها التي أخذتها بين شفتيّ. تدغدغت قليلاً ومالت كغصن. هبطت إلى رقبتها أستكشفها بلساني وأخذت هي تحاول تقبيل رقبتي أيضاً. في خضم اللذة تذكّرت الكارثة التي يمكن أن تحلّ لو كشف أمرنا. فأخوها على بعد أمتار وأمّها فوقنا. كنت أريد أن أعرّيها وأشرب شبقها بعينيّ ثمّ أدع لساني وأصابعي تستكشف تضاريس جسدها قبل أن أصهر شهوتي كلها لتسيل في شرايينها. أمسكت بنهدها الأيسر وأخرجته من فتحة التيشرت الواسعة وأحنيت رأسي لأقبّل حلمتها. وضعت يدها حول رقبتي تسحبني إليها. كانت حلمتها منتفضة ومتأهّبة. أخذتها بين شفتيّ ثم أدرت لساني حولها. أدركت بأنّه لا بد لي من أن أتوقّف الآن قبل أن يفوت الأوان. أطلقت سراح النهد ووضعت راحتي على خدّها. قبّلتها مرّة أخيرة على فمها وهمستُ بأذنها: آني آسف. فأجابت بصوت خافت: آني مو أسفة. ووضعت رأسها على صدري. داعبتُ شعرها قليلاً ثم قلت لها: يلله، تصبحين على خير. لم ترد. خرجت من المطبخ وصعدتُ إلى غرفتي بهدوء في الظلام. استلقيت في فراشي تتناهبني مشاعر وأحاسيس مختلفة ومضطربة هي مزيج من النشوة والندم على أنّني كنت حازما مع نفسي ومعها. ثم أخذت أستعيد شريط قبلاتنا بالتصوير البطيء وأداعب انتصابي. سمعت صوت باب الغرفة يفتح ببطء وإذا بها في غرفتي. سدّت الباب وراءها. قمت من السرير واتجهت نحوها. همستْ: أريد أنام يمّك. احتضنتها وقبّلنا بعضنا البعض. قفلت الباب بالمفتاح وأخذتها إلى فراشي. نزعت عنها التيشرت وقبّلت مابين نهديها وحلمتيها. خلعت هي بنطلون الرياضة الذي كانت تنام فيه عادة فسقط عند قدميها. تحسّست سرواله الداخلي فوجدته مبلّلاً بالشهوة. دفعتها إلى السرير فاستلقت على ظهرها. قبّلت كل بقعة من جسدها عوّضت بها عن السنين التي ضاعت، كأنّها كانت كل نساء الأرض. استكشفت نعومتها بلساني وكانت تتلوّى وتتأوّه وفاجأتني بجرأتها. لم تكن تتردّد في أخذ زمام المبادرة أو في أن تستكشفني هي أيضاً بأصابعها وبفمها. عندما أنزلت سروالها الداخلي لم تمانع. كانت حليقة العانة. حاولت أن أقبّل ما بين فخذيها لكنّها أبعدت رأسي وهمست: مو اليوم. استمطرنا بعضنا البعض بالأصابع ولعل الترقّب وكتم الآهات زاد من لذتنا. وكان علي أن أكون حازماً وأذكّرها بضرورة عودتها إلى فراشها قبل الفجر. عضّت شفتي بشيء من القسوة وهي تودّعني.
أصبح لدينا عالمنا السرّي الخاص الذي عمره ساعتين أو أكثر كل ليلة بين الثانية والرابعة نفرّ به من كوابيسنا إلى جسدينا. عالم يتاخمه الخطر والخوف من الفضيحة. في الليلة التالية همست بأذني بغنج: سوّي بيّه شما تريد، بس مو من گدّام. كان من المنطقي أن تحافظ على رأسمالها الرمزي في مجتمع متخلّف مثل مجتمعنا. ضخت الجملة الأولى التي قالتها: “سوّي بيّه شما تريد” ببركان من الدم إلى جسدي. وفعلنا كل شيء دون أن أخترق المنطقة المحظورة كليّاً، فكنت أداعبها بأصبعي وأقدّم لها القرابين بلساني كي أستمطر جسدها الربيعي وذاك أضعف الإيمان.
حوّل جسدها وحضورها الليلي فراشي إلى بركان ملذّات ونبّهتني هي بأن الحياة يمكنك أن تكون سخيّة، حتّى ولو لساعتين في اليوم. فوجدتني أغنّي، لأوّل مرّة منذ سنين، وأنا أعود إلى البيت. وكم تمنّيت لو أن العالم كله يذوب فختفي أمهاتنا والمجتمع وقوانينه والبلد كلّه ولا يظلّ إلا جسدها وجسدي يحرثان بعضهما البعض.كانت تتشبّث بي بقوّة وتغرز أظافرها في ظهري وتعضّ رقبتي كقطّة جائعة. كنت أنظر إلى يدي التي تمس نهدها وأكاد لا أصدّق بأن هذه اليد ستمس جسد رجل ميت بعد ساعات. وأخذ جسدها يومض في رأسي وأنا أغسل، فكنت أشعر بالذنب إزاء الميت.
كانت تقول خذني. فأقول لها “وين” متظاهراً بأنّني لا أفهم ما تعنيه، فتقول “إلَكْ.” قلت لها ذات مرّة بعد أن قالت: “أريدك”. “شلچ بيّه؟ شتسوّين بيّه؟ آني عجوز بعد عشرين سنة أتْسَكْرَب ومافيدِچ بشي.” .فقالت: “لعد الڤياغرا ليش اخترعوهه”. وضحكت من قبلها.
كانت تحب أن نتحادث بعد أن ننتهي، أمّا أنا فكنت أشعر بلذة الخواء الّتي لا تستمر طويلا، تلك اللذّة الّتي يجب ألّا يعكّر صفوها أي شيء . وكنت أخاف أن يكشف أمرنا فأحثّها على أن تعود إلى غرفة الضيوف لئلا يستيقظ أخوها. لكنّها كانت تتشبّث بي وتقول بأنّ نومه ثقيل جدّاً وبأنّها وضعت وسادتين تحت البطانيّة لتبدو وكأنها نائمة.
أحسست بتحرّكات ومؤامرة لترتيب زواج يفرح أُمّي وأم غيداء حين سألتني أمّي التي لا بد وأنّها لاحظت الاستلطاف المتبادل بيني وبين ريم بعد شهرين من وجودهم معنا:
- شنو رأيك بغيداء جودي. حلوة مو؟
فأجبتها: إي حلوة. ليش؟
-عاجبتك؟
- ليش تسِئلين؟
- يعني إذا عاجبتك أخطبلك ياها!
- على كيفچ. منو گالّچ أريد أتزوّج؟
- ليش يا إبني، لعد تظلّ طول عمرك هيچ؟ خلّيني أفرح بيك گبل ما أموت.
- الله يطوّل عمرچ يُمّه.
كانت تهزّ رأسها وتضع يدها على خدّها بعد محادثات كهذه.
كان جسدي كلّه، باستثناء قلبي، مليئاً بغيداء وطرباً بها كأنّها ربيعه. وكان قلبها يطفح بيّ، أما قلبي أنا فكان ينبض بالموت أو باللاشيء. بدأت تقول لي: أحبّك. لكنّني لم أكن أجيب بأيّ شيء وكنت أكتفي بتقبيلها. كانت تعتقد بأنّني ما زلت أحب ريم، فسألتني أكثر من مرّة: بعدها ريم بگَلْبَك؟ كنت أجيبها بصدق: ما ظل عندي گلب.هل أقول لها بأنّ ذكرى ريم لم تكن العائق الذي تظنّ هي أنّه يحول بينها وبين قلبي. قلت لها بأنّها يجب ألّا تحبّني كي تحمي قلبها من الانكسار؟ هل كان يجب أن أقول لها الحقيقة. وهل أعرف ما هي الحقيقة بالضبط؟ كل ما أعرفه هو بأنّني تعبت من نفسي ومن كل شيء وبأنّ قلبي ثقب يمكن المرور عبره لكن يستحيل البقاء فيه. أشتهيها وأريدها وأريد أن أكون معها، لكنّني مستنزف ولا أصلح لأن أكون زوجا أو أكوّن عائلة. هل قلبي مجرّد قنبلة موقوتة أم أنّه ثقب يتسلّل منه الآخرون ويبتعدون.
ليتنا كنّا حيوانات، بلا لغة متطورة وبلا هويات وتواريخ. نأكل وننام ونتناسل ولا نفترس حيوانات أخرى إلا عند الحاجة وليس للهو فقط. هل من طريقة، غير الانتحار، لإخراج كل هذا القيح والدم المختنق في أعماقي. هل يمكن تفتيت وصهر الأحجار المتكوّمة في آبار الروح اليابسة وفتح جرح كبير كي تخرج كلها منه؟ هل يمكن هذا دون أن يطحن المرء عظامه ويهشّم أضلاعه؟
عندما تباطأ الحاسوب ثم جمد في مقهى الإنترنت ذات مرة أخبرت صاحب المقهى عن المشكلة فأطفأه ثم أعاد تشغيله من جديد. هذا ما أريده: أريد أن يطفئني أحدهم ويعيد تشغيلي من جديد أو ربما يبقيني نائماً كي أرتاح إلى أن ينتهي كل هذا. هل يمكن أن أنام بلا كوابيس.
بعد شهرين ونصف من لقاء جسدينا في الظلام اتّصل خال غيداء الذي كان مقيماً في السويد بأخته يطلب منها أن تأتي هي والأولاد إلى عمّان ليحاول ترتيب معاملة لجوءهم إلى السويد. قال لها بأنّ السويد أكثر استجابة للاجئين العراقيّين من غيرها من الدول وبأمكانه أن يكفلهم. كانت غيداء الأقل فرحاً بين الثلاثة بهذا الخبر. سألتني مرّة أخرى: ما تريدني؟ وكان هذا السؤال يؤلمني. قلت لها: بلي أريدچ، بس ما أگدر أتزوّج. انزعجت وكانت المرّة الوحيدة التي أهانتني فيها حين قالت: إنت جبان.
ظلّت رائحتها في فراشي وافتقدتها كثيراً في الأسابيع الأولى، ثم عدت إلى عزلتي وكأنّ غيداء كانت غيمة عابرة، ألقتها الريح في فراشي لتبلّله وتبلّلني، لكنّ الريح عادت وحملتها بعيداً عنّي. هل كان يجب أن أتشبّث بها؟ هل كان بإمكاني أن أتشبّث بها؟
تحادثنا عدة مرّات على السكايپ بعد سفرها. وكانت تبعث لي برسائل على المحمول بين الحين والآخر، وتحوّل لي الكثير من الرسائل الغزليّة التي يتناقلها الناس كثيراً. كان بعضها يحمل خفّة دمها: ما انساكْ لو الدنيا تصير سرابْ، وبوش يبيع كبابْ، ونانسي تلبس حجابْ. وتسلّلت مفردات الحرب الأهليّة إلى البعض الآخر فبعثت لي مرّة واحدة تقول: كون انْگُلُبْ طلْقات وأدخل بگَلُبْكُم/واكتبْ على الشريان: دَمّرني حُبْكُم.
بدا صوتها أكثر حزناً آخر مرّة تحادثنا فيها على السكايپ. أخبرتها بأنّني أفكّر في اتّخاذ قرار حاسم بالهجرة وقد أسافر إلى عمّان خلال شهر أو شهرين كي أحاول الحصول من هناك على لجوء أو منحة في أي بلد وبأنّ أمّي ستعيش مع أختي. توقّعت أن تكون سعيدة بهذا الخبر لأنّنا سنلتقي من جديد. لكنّها سكتت. سألته عن سبب سكوتها، فذكّرتني بصمتي وسكوتي عندما كنّا معاً وبأنّ من حقّها أن تلجأ إلى الصمت. ثم قالت بأنّهم سيسافرون إلى السويد بعد أسابيع للالتحاق بخالها لأنّ معاملة اللجوء اكتملت. وسألتني سؤالاً لم أجد له جواباً مناسباً: ليش ضيّعتني من إيدك جودي؟
٤٦
كنّا نجلس في الغرفة المجاورة للمغيسل حين سمعنا طرقات على الباب. قام مهدي وذهب ليفتح الباب. سأل صوت يتأكّد من أنّ المكان هو المغيسل. قمت ووقفت عند باب الغرفة. دخل رجل في بدايات الخمسينيّات يتبعه شابّان يشبهانه في الملامح. كان أشيب الرأس بأنف مدبّب وشارب أبيض وبعينين كبيرتين بلون القهوة تورمّت أجفانهما. كان يرتدي قميصاً أزرق وبنطلوناً أسود بدا عليه بأنّه ميسور الحال. رحبت بهم فقال الرجل بصوتُ متعب:
- عدنَه ميّت نريد نغسّله ونچفْنه.
- إي. وين الجثّة؟
أحنى أحد الشابّين رأسه، بينما نظر الآخر إلي بعينيه القهوائيّتين. مد الرجل يده اليمنى التي كانت تحمل كيساً أسود وقال بصوت متهدّج ماظلّ عدنه بس الرّاس.
وقفت دون أن أتحرّك أو أقول شيئاً لعشرين ثانية. كنت قد غسّلت جثّة مع رأسها المقطوع على حدة قبل شهرين، لكن هذه أوّل مرة يأتي فيها رأس لوحده.
قلت له من هول الصدمة: “لا حول ولا قوّة إلّا بالله. آني أسف. الله يساعدكم” وأخذت الكيس الأسود من يده ووضعته على الدكّة فأصدر ارتطام الرأس بها صوتاً غريباً. أشرت إلى المصطبة وقلت لهم: اتْفَضْلو استريحو هناك. لكنّ الرجل ظل واقفا. قال الشابّ الذي كان محني الرأس: يابَه آني راح انتظر برّه. فأجابه الرجل بصوت خافت: زين. أما الآخر فمشى ببطء نحو المصطبة وجلس عليها يراقبنا من بعيد. سألت الرجل: شيِگْربْلَك؟ فقال: إبني. قلت له: الله يرحمه. فأجاب: ويرحم موتاك. لم أطلب منه شهادة وفاة. فكّرت أن أسأله عن ظروف موته لكنّني عدلت عن ذلك وقلت لنفسي بأنّ السؤال والجواب سيضيف إلى آلامه. سألته عن اسمه فقال: حبيب.
ذهبت إلى الحنفيّة وغسّلتُ يديّ وذراعيّ حتى المرفقين. أخرجت كميّات كبيرة من القطن ومقصّاً ووضعتها على الدولاب. غسّل مهدي يديه وذراعيه وبدأ يملأ طشتا بالماء. بدأت أقصّ الكيس من الأعلى ونزلت إلى منتصفه فبرز الجانب الأيمن للرأس.كان الشعر الأسود مجعداً ومغبرّاً. أمّا بشرته فكانت صفراء باهتة وكان ذقنه غير محلوق. أدخلت يدي ببطء إلى الكيس. كان ملمسه غريباً وبشرته متصلّبة كأنّها پلاستيك سميك. شعرت بالتقزّز وحملت الرأس إلى الخارج. احترت كيف أضعه على الدكّة. حاولت أن أضعه كما أضع رأس أيّ ميّت آخر لكنّه مال جانباً بحيث أصبح خدّه الأيمن على الدكّة. تنهّد الرجل الواقف وحوقل. أمّا الشاب الجالس على المصطبة فغطّى عينيه ودفن رأسه بين يديه. وضع مهدي الطشت على التخت العالي بالقرب من الدكّة ثم أضاف السدر إلى الماء ومزجه فتكونت رغوة ثم وضع الطاسة على سطح الماء فطافت قليلاً. نظرت إلى مهدي فوجدته مصدوماً هو الآخر يحملق بالرأس.
كانت حواف رقبته صفراء مثل بقيّة الوجه وبرزت من تحتها الألياف وبقايا اللحم المتهرّيء ونهايات الشرايين التي كان لونها يتراوح بين الوردي الفاتح والرمادي. كان هناك أثر شق في خدّه وبقعة على جبهته. اضطررت لأن أقلب الرأس إلى الجانب الآخر كي نبدأ الغسل من الجانب الأيمن. تساءلتُ بيني وبين نفسي وأنا أصب الماء المخلوط بالسدر على رأسه عن العذاب الذي عاناه قبل لحظة قطع الرأس وعن آخر فكرة خطرت له. هل كان يرى شيئاً أمامه أم أنّهم حرموه من أن يرى وجوه قاتليه وكان يسمع ما قالوه له؟ ولماذا فصلوا رأسه عن جسده وبإسم ماذا ومن؟ أهو ضحيّة الحرب الطائفيّة أم عصابة مجرمين؟
كان الرأس سيتحرّك إن لم أثبّتْهُ بيدي. طلبت من مهدي أن يصب الماء بدلاً عنّي. ردّدت “عفوك عفوك” وثبتّ الرأس بيدي اليسرى وفركتُ، بيدي اليمنى، شعر الجانب الأيمن من الرأس بالماء وبرغوة السدر. غسلتُ براحتي الجبهة والصدغ ومحجر العين والأنف والفم والحنك ثم الخد والأذن وحافة الرقبة ومهدي يصب الماء. سقطت بعض قطع الدم اليابس من أسفل الرقبة. قلبت الرأس إلى الجهة الأخرى وغسلت الجانب الأيسر ومهدي يصب الماء. كرّرنا العملية بالماء المخلوط بالكافور وثم الماء لوحده في الغسلة الثالثة. ثم جفّفتُه بالمنشفة ووضعت القطن في منخريه وأكثرت منه على الجزء المكشوف من الرقبة، لكنّّه لم يثبت فقرّرت أن أشدّه بالكفن فيما بعد. جفّف مهدي الدكّة. وضعت الكافور على الجبين والأنفه والخدّين. جاء مهدي بالكفن فطويته مرّتين ووضعته في منتصف الدكّة ورششت عليه قليلاً من الكافور. ثم جئت بالرأس ووضعته في وسطه. طلبت من مهدي أن يقصه لي قطعة قماش طويلة كي نشدّه بها ففعل. ثبتّ الرأس بيدي ووضعت طرف القطعة عند قمة الرأس ووضعت يدي عليه. طلبت من مهدي أن يثبّت القطن على قاع الرقبة فوضع يده عليه بينما لففت القماش حول الرقبة والرأس مرّتين ثم مرّرته تحت الحنك فغطّي البياض معظم رأسه ووجهه ولم يبق سوى عينيه المسبلتين وأنفه وفمه وجزء من خدّيه. لم تكن هناك حاجة لقطع الكفن الثلاث فاكتفيت بالثانية التي غلّفناه بها ثم ربطنا طرف الكفن من جهة الرأس. كنت على وشك أن أسأل الرجل إن كانوا يريدون تابوتاً أم لا، ثم أدركت أن هذا سؤال سخيف. نظر مهدي إليّ فأشرتُ إلى التابوت الذي كان في الزاوية. ذهبنا وحملناه وجئنا به قرب الدكّة. كانت هذه هي واحدة من المرّات القليلة التي أحمل فيها الميت لوحدي دون مساعدة. كنت أحمل الأطفال الذين غسّلتهم في السنتين الماضيتين ووضعتهم في توابيتهم لوحدي ومهدي يراقبني. حملت الرأس المكفّن بيديّ ووضعته في التابوت. جاء مهدي بالغطاء وأعطاني إيّاه فغطيته وقلت للرجل: الله يرحمه. قام الشاب من المصطبة وجاء بالقرب من الرجل الذي شكرني على ما قمنا به. وبعد أن دفع الإكراميّة نظر في عينيّ وقال فجأة:
- تدري شسَوّو بينه يا أخي؟
فقلت له: منو؟
قال: ما أدري منو؟ ثم بدأ يسرد لي قصّة الرأس وصاحبه: هوّ چان يشتغل مهندس. خُطْفو أسبوعين ما نعرف عنّه أي شي. ما خلّينه مركز شرطة أو مستشفى ما سألنا بيهه. وبعدين گُمنَه الصبح فد يوم شِفْناهُم حاطّين هذا الچيس الأسود اللي جبته گِدّام الباب. أمّه للمرحوم هي اللي لگت الچيس. فِتْحَتَه وصار عِدْهَه إنهيار عصبي من هذاك اليوم. چانَوْ حاطّين ويّه الچيس رسالة تگول: إذا تريدون الباقي فإدفعوا دفترين، يعني عشرين ألف دولار، واتّصلوا بهذا الرقم. اتّصلنا بالرقم يومين ومحّد يجاوب. بعدين جاوبوا وسوّو موعد ويّانه وره مدينة الألعاب. تداينّه وبعنا ودبّرنه عشرة. راحوْ ولدي هذوله الثنين للموعد هدّدوهم بالسلاح. أخذَوْ الفلوس وگالولهم نذِبِّلْكُم البقيّة گدّام البيت وماشِفْنَه شي. ظلّينه بس على الرّاس. هاي بيا دين بيا ناموس؟ الله يقبلهه؟
قلت له: الله يساعدكم والله يرحمه. قال له الشاب: يالله يابه خلّي نروح. توادعنا وساعدهم مهدي في حمل التابوت إلى الخارج. لم نقل أي شيء عن الرأس عندما جلسنا سويّة بعد ذلك. أضفت إسم “حبيب” إلى دفتر الموتى الجديد الذي كنت قد بدأته مؤخراً بعد أن امتلأت صفحات آخر دفتر. وكتبت بجانب اسمه: رأس فقط.
٤٧
كنت أقف في طابور طويل في دائرة السفر. لم أصدّق بأنّني سأسافر أخيراً بعد كل تلك السنين التي حرمت فيها من السفر ومن حريّتي بسبب قرار المنع لأنّ عمّي كان شيوعيّاً. كنت قد أكملت كل الإجراءات ودفعت الرسوم ووقفت في طابور أمام شباك الاستلام. كان أمامي العشرات، لكنّ الطابور كان يسير بإيقاع جيّد. أحسست بالذنب لأنّني سأسافر وأترك أمّي لوحدها، لكنّني لم أعد أستحمل. لاحظت بأن الشاب الذي كان يقف أمامي في الطابور كان يرتدي معطفاً بالرغم من حرارة الجو وكان يتلفّت بين الحين والآخر وينظر إلى من وراءه في الطابور كأنّه يبحث عن شخص ما. نظر إلى ساعة يده عدة مرّات. بعد قليل خرج عن الطابور ومد يده إلى جيب معطفه الداخلي ليسحب شيئاً فدوّى انفجار رهيب وأحسست بدمه يرش على وجهي وبأشلائه ترتطم بي. تناثرت جثث الذين كانوا يقفون في الطابور و رأيت الناس يهربون ويصرخون لكنّني لم أعد أسمع أي شيء سوى صفير غريب. تحسّست جسدي وتعجّبت أن يكون سليماً. ركضت نحو البوابة الرئيسية إلى الشارع و ركضت إلى المغيسل وفتحت صنبور الماء وبدأت أغسّل نفسي ثم استلقيت على الدكّة لأموت، لكنّني استيقظت.
٤٨
كنت أستعد لإقفال المغيسل والعودة إلى البيت بعد يوم طويل مخضّبٍ بالدماء. استغربت بأنّ مهدي غادر دون أن يودّعني. اقتحم الباب خمسة رجال يحملون رشاشات أحاطوا بي من كل جهة. أمسك إثنان بي وقيّدا معصميّ وراء ظهري وظلا واقفين بجانبي. أما البقيّة فبدأوا يفتّشون كل شيء في المغيسل وبعثروا كل ما كان في الدواليب. ثم ظهر ضابط بنجوم على كتفيه وأمر المسلحين اللذين كانا يمسكان بي أن يُركِعاني على الأرض. وقف أمامي. كان ملثّماً و بسطاله الأسود يلمع وكان يمسك مسدسه بيده. لمعت عيناه عندما وضع فوّهة المسدّس على جبيني وسحب الزناد. سألني إن كنت صاحب المحل. فحِرتُ في الإجابة وتلكّأت. أأقول الحقيقة؟ دفع الفوّهة باتجاه جبيني فدفعتْ رأسي إلى الوراء. أجبت بنعم. سألني: هل لديك إجازة من الوزارة؟ فقلت: لا، لأنّ. . وقبل أن أُكْمِل جملتي وأقول له بأنّ المحل يعمل منذ عقود بدون إجازة، سحب مسدّسه وصفعني به، فسقطت. قال لهم الضابط: خُذوه. أمسكوا بي من ذراعى وبدأوا بسحبي فاستيقظت.
٤٩
كنْتُ في المغيسل أغتنم فسحة من الوقت بلا جثث وأقرأ في كتاب عن أساطير الخلق الرافدينيّة حين سمعت على الراديو بأنّ انتحاريّاً فجّر نفسه في شارع المتنبّي ودمّر الكثير من المحال والمكتبات ومقهى الشهبندر وقتل أكثر من ثلاثين شخصاً. شعرتُ بوخزة في قلبي. كنّا قد تعوّدنا على المفخّخات والانتحاريّين لكنّ المتنبي كان شارعاً محبّباً. أهرب إليه دائماً لاصطاد كتاباً هنا أو هناك كي يؤانسني في غربتي ووحشتي. كان الكتاب الذي بين يديّ حصيلة زيارة الجمعة الماضية. بعد أن قرّرت بأن أغلق المغيسل يوم الجمعة ولو كان أبي حيّا لظنّ بأنّها بدعة ترى هل مات الشابّ الذي باعني الكتاب. وتساءلت بسذاجة كما تعوّدتُ بعد هذه الأخبار: لماذا هذا الهدف بالذات؟ لماذا الكتب وأهلها الذين لا يجني معظمهم من الدنيا إلّا الخسارات؟ في المساء عرضت الفضائيات المشاهد التي اعتدناها بعد كل هجوم. برك من الدم، أشلاء، أحذيّة ونعل مبعثرة، أنقاض، دخان. بشر يقفون مصدومين يمسحون دموعهم أو يغطّون وجوههم. لكن هذه المرّة كانت أشلاء الكتب والأوراق الملطّخة بالدمّ والسخام هي الأخرى تتنظر من يحملها ويدفنها. اتّصل بي الأستاذ عصام ذلك المساء وأخبرني بصوت متهدّج بأنّ أحد زملائي من أيّام الأكاديميّة، عادل محيبس، قتل في الهجوم. قال بأنّه كان يجلس في الشهبندر عندما هجم الانتحاري. لم يكن عادل صديقاً قريباً لكنّني كنت أعرفه وكنّا نتحاور كثيراً في سنين الأكاديميّة ورأيته في السنين الأخيرة في بعض المناسبات، خصوصاً في غاليري حوار. كان ذكيّاً وطموحاً وأصبح من النقاد التشكيليّين المعروفين فيما بعد وكان يكتب مقالات ومراجعات في الصحف. سألته إن كان متزوّجاً، فقال: نعم، ولديه ثلاثة أطفال. عزّينا بعضنا البعض وسألته عن مجلس الفاتحة، فقال بأنّه سيستعلم من أهله وسيبلغني بالتفاصيل.
ذهبت إلى اليوم الأوّل من الفاتحة في المساء بعد انتهائي من المغيسل. كان أبوه وأخوته يتصدّرون الخيمة التي نصبت أمام البيت وأمامها صورة له ولافتة باسمه وتاريخ استشهاده “في الهجوم الإرهابي الجبّان على شارع المتنبّي”. عزّيتهم واحداً واحداً وجلست في إحدى الزوايا وقرأت الفاتحة على روحه. شربت فنجاني قهوة كانت رائحة الهال تفوح منها بقوّة. كان من المفروض أن يأتي الأستاذ عصام لكنّه كان قد اتّصل وقال بأنّه تأخّر بسبب الازدحام ونقاط التفتيش. نظرت حولي فلم ألمح وجهاً أعرفه. كان صوت المنشاوي قد انتهى من تجويد سورة يوسف وبدأ بسورة الرحمن التي كان أبي يحبّها كثيراً. أمواج صوته تلمس الروح بهدوء في البدء ثم تستدرجها إلى عرض البحر حتّى لا يظل شيء إلّا ريح الصوت وشراع الكلمات. استوقفتني “خلق الإنسان من صلصالٍ كالفخّار.” إذاً، نحن أيضاً تماثيل لكنّنا لا نفتأ نهشّم بعضنا البعض باسم الذي خلقنا. فلربّما آن له أن يهشّم ما خلق. تماثيل متحفها الدائمي التراب.“فبأيّ آلاء ربكما تكذبّان.” . . كل من عليها فانٍ. . .” “ فإذا انشقّت السماء فكانت وردةً كالدهّان.”فكّرت بهذا الذّي فجّر نفسه وأزهق أرواح عادل وكل هؤلاء. ترى من يكون؟ أحاول دائماً أن أبحث عن تفسير عقلانيّ لأعمال كهذه. أعرف بأنّ الإنسان قد يصل إلى مرحلة من الغضب واليأس لا تكون لحياته بعدها قيمة تذكر. وقد لا تظل قيمة تذكر لأي حياة أو نفس أخرى بالنسبة له. لكن الرجال يقتلون وينحرون أنفسهم من أجل الأفكار والرموز منذ الأزل. فما الجديد في ذلك؟ بالرغم من كل هذا يظل هناك شيء ما عصيٌّ على الفهم والاستيعاب. الجديد هو هذه الأعداد وهذا السيل الذّي لا يتوقّف من الأجساد الّتي تتحوّل إلى قنابل. “يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام.”أيكون هذا الانتحاري الآن هناك وقد جرّته الملائكة من شعره ومن قدميه إلى نار حاميّة؟ “يطوفون بينها وبين حميمٍ آنٍ.” “هذه جهنّم التي يكذب بها المجرمون.” هل سيفاجأ بمصيره ويعترض وهو الذي كان يسرع إلى الجنّان؟ “فيهما من كل فاكهة زوجان” “هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟” والمسكين عادل أيتفيّأ بنخلة أم يتّكيء “على فرشٍ بطائنها من استبرقٍ وجَنى الجنّتين دانِ”؟ هل يرى عادل قاتله وهو يُجَرْجَر إلى جهنم ويبصق عليه أم أنّه يكتفي بالنظَر إليه باحتقار؟ أيتحاوران؟ أيتجادلان في منطقة منزوعة السلاح بين الجحيم والجنّة؟ أم يتنازعان على دخول الجنّة. “فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان؟”
قبل أن أصل إلى جواب شاف عن مصير عادل شاهدت أحد الفنّانين الشباب الذين كنت قد تعرّفت عليهم في المعرض الفنّي في المركز الثقافي الفرنسي يدخل العزاء. لمحني بعد أن عزّى أهل عادل. لوّحت له فجاء وجلس بجانبي. بعد أن قرأ الفاتحة تبادلنا التحيّة والسؤال. تحاورنا وهو يشرب فنجان قهوة وشربتُ أنا فنجانا ثالثاً. بدا مهموماً وقلقاً، فسألته إن كان عادل صديقاً قريباً له. فأجاب بالنفي وقال إنّه كان من معارفه وإنّه يقوم بالواجب. سألته عن أوضاعه، فقال إنّها أسوأ ما تكون وإنّه سيرحل إلى سوريا خلال يومين لأنّه تلقّى تهديدات بالقتل. أعربت له عن أسفي وسألته عن السبب، فقال: يا أخي مسرح العبث، فعْلاً. آني شيعي، بس ابني اسمه عمر. سمّيته عمر لأنّه أعزّ صديق إلي إسمه عمر. حطّولي ورقة بالبيت يهدّدوني بيهه إنّه لازم أترك المنطقة، عبالْهم سنّي. سألته عن هويّتهم، فقال: ما أدري همّه اللي مسيطرين عالمنطقة ويكتلون يمنه يسره. يا أخي سألت، دوّرت، أريد أحّد يوصِّلِلْهم خبر إنّه أبو عمر مو سنّي، ماكو. بعدين إجَتْ رسالة تهديد ثانية تگول هذا آخر إنذار والرسالة القادمة مرحتكون ورق ورحتدخل براسك. وفعلاً بعد أسبوع طلقتين كِسْرَت الشِبّاچ مال غرفة النوم، هم زين ما چِنّه بالبيت. أكو هواية كتلوهم وجبروهم يشيلون. فرحْنا ببيت أهل مرتي حاليّا وقرّرنا نروح لسوريا إلى أن الله يفرجهه. تصَدّگ؟ يعني هالْتلَث حروف. أريد أواجِهْهم أگلْهُم يابه مو آني المفروض من جماعتكم. شتريدون أسَمّيه أسَمّيه بس فكّو ياخة.” عندما انتهى من قصّته كان المنشاوي يبحرُ في سورة إبراهيم “. . . إنّ الإنسان لظلومٌ كَفّار وإذ قال إبراهيم ربِّ إجعل هذا البلد آمناً واجنُبْني وبنيَّ أن نعبد الأصنام.” قلتُ لهُ: آني همْ دا أفكّر أسافر للأردُن لأنّّ الوضع لا يطاق.قال لي: تُعْذُرني بس عندي التزامات هواية ولازم أروح.فاغتنمت الفرصة لأخرج معه. ودّعته خارج الخيمة وتمنّيت له الموفّقيّة في سوريا.
٥٠
رأيتك يا أبي في المغيسل وكانت أوّل مرّة أذهب فيها للعمل معك. لم يكن حمّودي معنا وكان الظلام سيّد المكان. كنت تحمل شمعة بيدك. سألتك: لماذا لا ننتظر الصباح ثم نبدأ العمل؟ فابتسمت وقلت لي: ليس هناك إلا هذا الليل. استغربتُ وسألتك: لماذا يا أبي؟ فقلت لي: أنسيت يا ولدي بأنّنا في العالم السفلي وبأنّ الشمس لا تشرق هنا؟ شعرتُ بغصّة ونزلت دمعة على خدّي فمسحتَها بيدك وعانقتني قائلاً بحنوّ لم أعهده منك من قبل: لا عليك يا حبيبي، فالشموع تكفي كي نقوم بعملنا ونعيش عيشة شريفة وستألف نورها. كانت أوّل مرة تقول لي فيها “يا حبيبي”. طلبت منّي أن أتبعك وأريتني الدكّة وقلت لي: هاهنا نعيد تركيب الأجساد التي يجيء بها الفرطوسي كل يوم. استغربت بأنّ الفرطوسي كان هناك أيضاً. أشرتَ إلى الدواليب التي لم أتبيّنها بوضوح وقلت: الإبر والخيوط والصمغ هناك. ثم أشرت إلى صناديق خشبيّة مكدّسة على الأرض وقلت: الريش الذي نغطّي به أجساد الموتى في تلك الصناديق. سألتك: لماذا نغطّي أجسادهم بالريش؟ فابتسمت وقلت لي: أمازلت تكثر من الأسئلة يا ولدي؟ هذا ما فعله أجدادنا من قبلنا وما سيفعله أحفادنا من بعدنا. خطوت خطوتين إلى أحد الدواليب وأخرجت منه شمعة وأشعلتها بلهب شمعتك ثم ناولتني إيّاها. أمسكت بها فأضاء النور مساحة أكبر من المكان. شاهدتُ السيقان والأذرع المركونة في الزاوية فسألتك عنها. قلت لي بأنّها بقايا سنجد مكاناً لها في الأجساد التي تجيء كل يوم. سألتك عن أمّوري وحمّودي وباسم والبقيّة. هل هم هنا أيضاً؟ فلم تجب. شاهدتُ عيناً معلّقة بخيط على الحائط تذرف الدموع. سألتك عنها فقلت لي: إنّها تحن إلى عين أخرى أو ربما تبكي على الشمس. سألتك بصدق: هل نحن أحياء أم أموات يا أبي؟ لم تجبني. نفختَ على شمعتك فأطفأتها وانطفأتْ شمعتي معها. بقيت وحدي في الظلام أسمع صوت الدموع تسقط من العين المعلّقة إلى أن استيقظت ورأيت الشمعة التي كانت بجانب رأسي تتحشرج وهي على وشك الانطفاء.
٥١
ارتدت أمّي عباءتها وقالت:
- جودي. آنه رايحة للكاظم. اليوم الذكرى والملا باسم الكربلائي جاي راحينشد.
فقلت لها:
- انتظريني نروح سويّة.
- صِدُگْ؟
فوجئت وفرحت بقراري فتهلّلت أساريرها، فهي بالتأكيد لا تذكر، كما لا أذكر أنا، آخر مرة زرت الضريح فيها. كنت أذهب معها كثيراً عندما كنت طفلاً وأمسك بشبّاك الضريح كما يفعل الكل، ثم ذهبت مع أبي أكثر من مرّة ولكنّني توقّفتُ عن الزيارة منذ آخر سنين الثانويّة لأنّني ابتعدت عن كل هذا الأجواء والطقوس وفقدت إيماني بها.
جلستْ على الكنبة وقالت:
- زين رحأنتظرك لعد.
صعدتُ إلى غرفتي وغيّرت ملابسي وارتديت حذائي ثم نزلت الدرج. سألتني:
- هاي شعجب؟ تذكّرت الكاظم من صدگ؟ لو بس علمود الملّا باسم؟
- هيچ. ما أدري. ميصير الاثنين؟
- لا طبعاً ابني.كُل شي يصير والزيارة مقبولة.
كان يجب أن أقول لها إنّني كنت أفكر جديّاً بأن أترك المغيسل إلى الأبد وأن أسافر إلى الأردن ومن هناك إلى أي مكان آخر، لكنّني لم أجد الوقت المناسب أو الصيغة المناسبة إلى الان لأفاتحها بذلك. كنتُ أعرف بأنّني قد لا أعود لفترة طويلة، هذا إن عدت أصْلاً، ولربما تكون هذه آخر مرة لي أزور فيها الكاظم. كما أنّني كنت أريد أن أسمع صوت باسم الكربلائي الشجيّ الذي عوّدتني هي عليه بإفراطها في الاستماع إليه.
كانت شوارع الكاظميّة تعج بالزوّار من كل حدب وصوب وكانت الإجراءات الأمنيّة مشدّدة، أكثر من السنين السابقة، تخوّفاً من وقوع هجمات كما يحدث في مناسبات كهذه تجتمع فيها أعداد كبيرة من المدنيّين في بقعة واحدة. كانت بعض قذائف الهاون قد سقطت في السنين الماضية وانفجرت مفخّخة بالقرب من الحضرة أكثر من مرّة.
انتشرت محطّات سقاية الزوّار وإطعامهم وكثرت اللافتات التي تذكّر بالإمام السابع وبموته مسموماً في سجن الرشيد على يد السندي بن شاهك: “السلام على المعذّب في قعر السجون وظُلم المطامير.” اللهم صلّ على محمد وأهل بيته وصلّ على موسى بن جعفر، وصيّ الأبرار وإمام الأخيار، حليف السجدة الطويلة والدموع الغزيرة.” لمحتُ لافتة تحمل البيتين الشهيرين للشريف الرضيّ عن مرقدي موسى الكاظم ومحمد الجواد: لي قبرانِ بالزوراءِ أُشْفي/ بقربِهِما نزاعي واكتئابي/ أقود إليهما نفسي وأهدي/ سلاماً لا يحيدُ عن الجوابِ.
لمعت القبّتان والمنائر الأربع المذهّبة من بعيد بتأثير سلاسل الأضواء التي كانت تمتد حولها كجسور وملأ وهج الأنوار المنبعث من داخل المرقد السماء فوقه. افترقنا عند وصولنا إلى السور الحديدي المشبّك. وذهبت هي إلى بوّابة النساء واتّفقنا على أن أنتظرها خارج بوّابة النساء بعد ساعة ونصف. كان هناك طابور طويل للدخول أمام باب المراد في الجهة الشرقيّة. احتشد مسلّحو الأمن الوطني عند البوّابة. كانت أضواء النيون الخضراء تنير النقوش والآيات التي ترصّع الباب الذي علّقت على قمته لافتة كتب عليها “سلامٌ عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار.“ بعد تفتيش دقيق قام به ثلاثة رجال مرّروا فيه أيديهم على كل جزء من جسدي وتأكدّوا من أنّني لا أخفي شيئاً في جواربي أو جيوبي دخلت إلى الطارمة. نزعت حذائي في الكشوانيّة وسلمته لأحد الشباب. نظرت إلى جدران المرمر البيضاء ثم سقف الطارمة المليء بالزخارف والمقرنصات. عبرت الباب الذهبيّة إلى داخل الصحن. كان هناك المئات من الرجال والفتيان الذين يرتدون السواد. احتشد الكثير منهم حول بوّابات الأروقة المؤديّة إلى الضريح وكان يبدو بأنّ الدخول إلى الضريح نفسه سيكون شبه مستحيل وسيأخذ وقتاً طويلاً. كان الكثير من الزوار يحمل شرائط خضراء. تمشّيت في الصحن أفكّر. ترى ماذا الذي كان الكاظم سيقوله لكل هؤلاء لو كان حيّاً؟ هل كان يريد منهم أن يأتوا جميعاً إليه يفعلون ما يفعلونه ويقولون ما يقولونه؟ لو عاد اليوم ربما كان سيكون غريباً كما كان غريباً في زمانه وأكثر غربة.
نظرت إلى القبتين والمنائر الأربع ثمّ إلى السماء السوداء، ثم هبطت عيناي إلى القبّتين ثم إلى باب الضريح وبدأتُ حواراً صامتاً مع الكاظم لم أكن قد خططتُ له. قلت له فيه: عذراً، لم أزرك منذ سنين، فقد أخترت طريقاً آخر ترابه من شك ولا يفضي إلى الجوامع. طريق وعرٌ وصعبٌ لا تسلكه الجموع ورفاق السفر فيه قلّة. ومازلت عليه. وانتهى بي الأمر إلى أن أكون أنا أيضاًَ سجيناً مثلك يا مولاي. ولكنّني سجين أهلي وقومي. وسجين الموت الذي خيّم على هذه الأرض. وقد آن لي أنْ أهرب من هذا السجن. أمّي في الجانب الآخر تطلب منك أن أظلّ بقربها وبقربك، لكنّها قد لا تعرف بأنّ الموت اليومي سيسمّمني إن بقيت هنا.
قطع حواري صوت الرادود باسم الكربلائي وهو يقف أمام الميكرفون ويحيي مئات الزوّار الذين وقفوا بانتظاره. أخرج ورقة من جيبه وبدأ ينشد بصوته الذي يأسر القلب ويدخل في الصميم:
هذا الغريب منين؟/وين اهله راحَوْ وين؟/مات بسجن مظلوم/وبيا ذنب مسموم؟/ ويلي على المسموم/گِضى العمر مهموم/ عادة الميّت يا شيعة/ لمّن يسكن وِنينَه/ تحضر ولاده وخوْتَه /عن يِسارَه وعن يِمينَه/ هذا اليوسْدَه ويِجَبْلَه/ ذاك اللي يغَمُّضْ لَه عيْنَه. ثم طلب من الحشد أن يردّد معه: هذا الغريب منين/وين اهله راحو وين؟ وكان يحثّ الجميع بين الحين والآخر قائلاً: وِنْ لأمامك وِنْ، لا تِبْخَل على إمامك! احتشدت الصور والمشاعر في قبتيّ الداخليتين: رأسي وقلبي. احتشدت كل التماثيل التي لم أنحتها والرسوم التي ظلّت تخطيطات في رأسي. ريم ونهدها الذي استأصله الجرّاح واستأصل علاقتنا معه. غيداء وجسدها الذي طار بعيدا منّي كحمامة. أبي وأمّوري وحمّودي. وجوه الأجساد الّتي غسّلتها وكفّنتها في طريقها إلى القبر. وانهمرت الدموع وغطّيتُ وجهي. بقيت في تلك الفسحة التي يمكن أن أبكي فيها دون حاجة للتفسير ودون خجل. صار للألم وللجراح رئة تتنفس منها. عذراً يا موسى بن جعفر فأنا أبكي نفسي في حضرتك وفي يومك. أنا الغريب بين زوّارك. غريب مثلك وأبكي نفسي.
٥٢
- مع الأسف. فعلاً مع الأسف.
قالها الفرطوسي بنبرة حزن صادق حين أبلغته بقراري بالسفر إلى الأردن ثم أضاف:
- ليش يا معوّد؟ راحتروح وتعوفنا؟
- بعد ما أگدر سيّد. مِخْتِنِگ. هاي الشغلة مو إلي وماچِنِت ناوي أسوّيهه لسنتين. ما داأگدر أنام بالليل ورحأتْخَبّل من الكوابيس.
طبطب على ظهري وقال:
- يعني عبالك آني وضعي أحْسَن؟ آني صار عندي سكّر وضغط من اللي داأشوفه كل هالسنين. وهسّه أولاد الحرام يردون يورطوني بورطة جديدة.
- ليش؟ خير؟
- يا أخي يردون يلفّقولي تهمة متاجرة بالأعضاء البشريّة. تصوّر؟ أكو عصابات گاعد تتاجر بالأعضاء البشرية وعدهم شبكات وكتبوْ عنهم بالجرايد، بس هاي بالمستشفيات. إحنه مالنه علاقة بيها لأنّ الأْعضاء لازم ياخذوها من الجثّة خلال ساعتين. شوف منو دافعلهم رشوة حتّين يذبّوهه براسنه أو يريدون رشوة منّي حتى لا يضايقوني.
- الله يساعدك. إن شاء الله تصفى الأمور.
- “قل لن يصيبكم إلا ما كتب الله لكم.” هاي قسمتي وإذا الله قاسملك تسافر، تسافر. آني أتمنّالك كل خير. بس ليش ما تصلّي وتتعبّد حتّى تروح هالكوابيس؟
فقلت له:
- بعد ما هداني الله. بعدين آني كوابيسي غير شكل.
ضحك وهز رأسه. سلّمته مفاتيح المغيسل واتّفقنا على أن يرسل لي الإيجار إلى عمّان وأوصيته خيراً بمهدي. فأجاب ونحن نتعانق بحرارة:
- أخلّيه ببطن عيني.
٥٣
الأرض سجادة من الرمل النائم تمتد من الأفق إلى الأفق لا يعكر صفوها شيء سوى الشريط الأسفلتي الذي تسرع عليه سيارات هاربة من الجحيم إلى المجهول. كنا في قافلة من أربع سيارات “جي أم سي”. شددنا الرحال في الصباح الباكر كي لا نكون فريسة سهلة في ظلام الصحراء لعصابات السلّابة ولكي نضمن الوصول إلى الحدود الأردنيّة قبل الغروب. كان السائق “أبو هادي” في أواخر الثلاثينيات بشعر أسود قصير وشارب مقصوص بعناية. كان متأنّقاً ويرتدي نظارات شمسية منذ الصباح الباكر. وكان مسلّحاً مثل البقيّة ووضع مسدّسه تحت المقعد قبيل انطلاقنا. جلستُ في المقعد الأمامي بجانبه وكان بقية الركّاب في سيارتنا عائلة قوامها أب في الخمسينيّات وزوجته وبناته الثلاث اللواتي لم تتعدّ أكبرهن السابعة عشرة بينما كانت الصغرى في التاسعة أو العاشرة وكنّ جميعاً محجبّات. البنات أمضين الوقت نائمات والأب كان يتبادل حوارات قصيرة مع زوجته عن الفواكه والطعام الذي كانوا قد جلبوه معهم. كان الأب قد تردّد في البداية في أن تركب عائلته مع رجل غريب، لكنّّ السائق طمأنهم وقال لهم بأنّى كنت ابن عمه كي لا نتأخّر.كان السائق صامتاً معظم الوقت وتركني استغرق في أفكاري وهمومي وأنا أراجع نفسي وأفكر بتبعات هذه الخطوة وبما سيحدث في عمّان. كان يكتفي بجمل قصيرة يخبرنا بها عمّا تبقّي من ساعات الطريق.كنت أعرف بأن الحصول على إقامة أمر شبه مستحيل إلا لمن يضع مئة ألف دولار وديعة جامدة في البنك حسب آخر القوانين ولم أكن أمتلك عُشر هذا. أما الحصول على فيزا أو على لجوء فكان هو الآخر في غاية الصعوبة. وعدني الأستاذ صلاح في آخر رسالة إلكترونيّة بأن يساعدني في الأسابيع الأولى على تثبيت أقدامي وكنت أحمل عنوانه ورقم هاتفه معي.
كان من الخطر أن نحمل الكثير من النقود، لذلك اتفقت مع شقيقتي أن تحوّل لي ما كنت قد ادّخرته في السنتين الأخيرتين بحوالة مصرفيّة إلى عمّان بعد أن أصل هناك وأعلمها بأوضاعي. لم يكن الدخول إلى الأردن مضموناً دائماً.
شعرت بشيء من الجوع فمددت يدي إلى الحقيبة الصغيرة التي وضعتها بين قدمي وفتحت كيس الكعك. كانت أمّي قد أصرّت على أن تعمل لي الكليچة بالجوز و بالتمر التي كنت أحبها وملأتْ كيساً كبيرا وضعته في الحقيبة الصغيرة التي كنت قد وضعت فيها كتاب أساطير الخلق الرافدينيّة وبعض الحاجيات. حزمت حقيبة واحدة كبيرة وكان من الصعب أن أختار ما سأحمله وما سأتركه ورائي. أخذت ما يكفي من الملابس الشتوية لأنّني كنت أسمع بأن شتاء عمّان قارص البرد. كما أخذت ألبومي صور كانا يحتضنان الكثير من صور أيام الدراسة في الأكاديميّة وصور بعض أعمالي وكذلك علبة أوراق وتخطيطات أعمال إضافة إلى بعض الدفاتر القديمة ولم أنس كتاب جياكوميتي الكبير الذي كنت أحب أن أتصفحه بين حين وآخر.
عندما نزلت درجات السلم وأنا أحمل الحقيبة كي أضعها قرب الباب جاءت أمّي من غرفة الجلوس تسألني إن كنت بحاجة إلى مساعدة، فشكرتها. إتّكأتْ على الجدار ووضعتْ يدها اليمنى على خدها ونظرت إلى قائلة: آني ليهسّة ممصدگة إنت راح تسافر. ترقرقت دموعها فعانقتها وقبّلت رأسها وقلت لها إنها يمكن أن تزورني في عمّان أو حيثما سأكون وإنّي سأعود لزيارتها، لكنها قالت: ما أصدّگ، شِكْلك ما تريد ترجع أبد. كانت قد حاولت إقناعي بالعدول عن قرار السفر في الأّيام التي سبقت رحيلي لكنّي كنت مصرّاً وأخبرتها أنّي لم أعد قادراً على الاستمرار في العمل وبأنّي أختنق وأموت ببطء.
تركتُ الحقيبة قرب الباب لآخذها في الصباح التالي قبل الرحيل. أعطيت أمّي من النقود ما يكفيها لسنة على الأقل وخرجنا كي أوصلها إلى بيت شقيقتي الجديد في الكرّادة فلم يكن من الممكن أن تظلّ وحدها في هذه الظروف وبهذا العمر. في تلك الرحلة من بيتنا إلى بيت شقيقتي شعرت، للمرة الألف، كم كنت غريباً في مدينتي وكم ازدادات غربتي في السنين الأخيرة. حضرني بيت شعر رددته طويلاً: ليس الغريب غريب الشام واليمن/إن الغريب غريب اللحد والكفن. لكن الغريب غريب الكرخ والرصافة. غريب بغداد، حيث يشعر كل واحد بأنّه غريب في بلده! الناس معظمهم متعبون يرتسم تعبهم بوضوح على وجوههم وتساءلت كيف يستمرّون بالرغم من كل شيء. كيف يستيقظون كل صباح ويحاولون. لكن هل هناك خيار آخر؟ وتساءلت في سرّي: هل أنا ضعيف؟ لكن الآلاف غيري يهربون من هذا الجحيم ومن هذه الحرب الأهليّة التي لا يعلم أحد متى ستتعب من الذبح وتقف. وقد تقف لتلتقط أنفاسها وتواصل نهش هذا البلد من جديد. كنت دائماً أقول لنفسي إن بغداد كانت سجناً خرافي الأبعاد أيام صدام ولكن هذا السجن الآن انشطر إلى زنزانات كثيرة، طائفية الأبعاد، تفصلها جدران كونكريتيّة عالية وتدمي جسدها الأشواك المعدنية. اقتربنا من ساحة الفردوس حيث كان تمثاله الضخم وتذكّرت كيف أنّنى رأيتهم بأمّ عيني يحطّمون نصب الجندي المجهول القديم في نهايات الثمانينيّات والذي كان أجمل بكثير من النصب الجديد قرب القصر الجمهوري. وهاهم الصدّامون الجدد اليوم يحطّمون التماثيل يقودهم وهم محو الماضي ومسخ الحاضر بالقوة. كأنما هناك معول ضخم يختطفه كل نظام جديد من الذي سبقه ليواصل الهدم وليعمّق القبر. سألت نفسي ما فائدة كل هذه الاستعارات؟
كانت شقيقتي قد انتقلت مع زوجها إلى بيت كبير اشتراه في الكرّادة- خارج كان أحد ثمار ركوبه الموجة الجديدة ببراعة مثلما كان قد فعل من قبل أيّام صدّام. كان زوجها من “الرفاق” فيما مضى وظلّ يدافع عن النظام وسياساته بعنجهيّة حتى السنين الأخيرة مما أغضب أبي ذات مرة وأدّى إلى صِدام عنيف بينهما خرج بعده ستّار زوج شقيقتي بعد أن أقسم بألا يعتّب بيتنا ولم يعد إلّا بعد أن توفي أبي. ابتعدت شقيقتي عن مدار العائلة مُجْبرة لكنها كانت تزورنا بين الحين والآخر . لم أرتح يوماً لستّار منذ أيام خطوبتهما، لكنّها كانت تحبّه ولم يكن يسيء معاملتها. رأبتْ وفاة أبي الصدع الذي كان قد أحدثه الصدِام.
تهنا في شوارع بيوتها كبيرة وجميلة فاتّصلت بشقيقتي بالجوّال كي تدلّنا على البيت. بعد نقل ماقالته بحذافيره للسائق قالت بأنّها ستقف خارج البيت وتلوّح لنا. شاهدتها بعد عشر دقاق ونحن نمر بشارع فرعي فأشرت للسائق بأن يعود أدراجه ويدخل فيه.طلبت من السائق أن ينتظرني ريثما أودّعهما. استغربت أمّي قائلة: علويش مستعجل يا إبني؟ انضمّت إليها شقيقتي مُعاتِبَة لأنّني لم أزر بيتها الجديد ولا مرّة ولم أر أولادها منذ شهور طويلة. كنت متردّداً ونظرت إلى مدخل البيت. لم تكن سيارة زوجها هناك وقالت هي كأنها عرفت ما كنت أحاول تفاديه: يلله عيني انزل حتى نشبع منّك شويّة. أبو الولد مو بالبيت وميرجع لليل والجهال بالمدرسة. دفعتُ الأجرة ودخلنا جميعاً. كانت الحديقة واسعة وحشيشها مقصوص بعناية تؤطره من كل الجوانب شتلات ورد تفتّح بعضها وفي زاوية الحديقة نخلة وارفة بعض سعفاتها تمس شبّاكاً على الطابق الثاني. كانت أغاريضها ناضجة. تحت النخلة كانت هناك أرجوحة بيضاء وكراس معدنية حولها مستقرّة بهدوء على طارمة أرضيتها من المرمر الأبيض والأصفر . مشينا باتّجاه باب المطبخ الذي كان مفتوحاً قرب بابه نباتات الصبّار الذي كانت أختي تحبّه. كان البيت حديثاً وفارهاً بطابقين وخمس غرف نوم وثلاثة حمّامات مع غرفة كبيرة للضيوف. كانت شقيقتي قد أعدّت غرفة في الطابق الأرضي بالقرب من الحمام لتنام فيها أمّي ولكي لا ترهق ركبتيها في صعود ونزول الدرج. قالت لها بفخر لكنها كانت توجّه الكلام إليّ أيضاً: شوفي غرفتچ شلون حلوة يمّه؟ قبّلتها أمّي على خدّها وشكرتها. وضعتُ حقيبتها على الأرض بالقرب من سريرها الجديد. كان في الغرفة خزانة ثياب متوسطة الحجم ومرآة كبيرة أمامها كرسي مغطّى بقماش أحمر وآخر مطابق له في الشكل على بعد عدة أمتار بالقرب من طاولة صغيرة عليها تلفزيون فوقه شباك يطل على حديقة بيت الجيران.
قالت أختى إنّها تطبخ تشريب البامياء الذي أحبه كثيراً وإن الطعام يمكن أن يكون جاهزاً خلال ساعة.لكنّني قلت لها إنّ عندي مواعيد وأناس يجب أن أودّعهم وسأكتفي بالشاي. فقالت تتدلّل. أدخلتني إلى غرفة المعيشة. جلستُ أمام التلفزيون الذي كان مفتوحاً على إحدى الفضائيّات المحليّة التي كانت تنقل صور آثار انفجار سيارة مفخخة في الكرخ وقع قبل نصف ساعة. كنّا قد تركنا أمّي في غرفتها الجديدة تخرج ملابسها من الحقيبة وتضعها في الخزانة، لكنّها جاءت بعد دقائق وجلست على الكنبة بجانبي وقالت إنها سترتب ثيابها وحاجياتها فيما بعد. قالت: “أريد أشبع منّك.” عادت أختي بصينيّة عليها صحون وشوك وبعض الكعك ووضعتها على الطاولة الكبيرة في وسط الغرفة ثم سحبت من تحت الطاولة واحدة أصغر وضعتها أمامي. ملأتْ صحناً بقطعتيْ كعك ووضعته أمامي ثم نظرت إلى الشاشة وقالت معلّقة: ميفكّون ياخة من عدنا هذولة الانتحاريين؟ كافي عاد! وضعت أمّي يدها على خدها وحوقلت. ذكّرتْني صور الأشلاء المتناثرة وبرك الدم بكل ما كنت أهرب منه. لم أستطع منع نفسي من التفكير بمصير الجثث وبالّذي سيغسلها ويكفّنها؟ طلبت من أختي أن تغيّر القناة فأعطتني جهاز التحكّم ثم ذهبت إلى المطبخ. ظللت أقلّب القنوات حتى وجدت واحدة تعرض فلماً عن الطيور والطبيعة. بدأت آكل إحدى الكعكتين. كان التلفزيون في الرف الأوسط والأكبر لمجموعة رفوف من الخشب الصاج في بعضها أقداح وصحون وفي البعض الآخر تحف زجاجيّة، كان هناك رف عليه بعض الكتب لكنني لم أتبيّن عناوينها. الخانة التي كانت فوق التلفزيون مباشرة كان عليها صور مؤطّرة لأولاد أختي، ميسم ومثنّي، وصورة للعائلة بأكملها ثم صورة واحدة لربّ العائلة، ستّار، ببدلة وربطة عنق مع أحد الوزراء وهو يصافحه ويبتسم. تذكّرت أن التلفزيون في بيت أختي القديم والذي كانت شاشته أصغر بكثير من خَلَفِه هذا كانت تتربّع عليه صورة مؤطّرة لستّار وبعض الرفاق مع صدّام الذي كرّمه قبل سنين لتفانيه في خدمة الحزب. ترى ما الذي فعله ستّار بتلك الصورة؟ هل أكلتها النار أم أنها تختبيء في صندوق في مكان ما من هذا البيت تحسّباً للحاجة إلى تحوّل استراتيجي جديد؟ كنت على وشك أن أسأل أختي التي عادت بصينيّة الشاي وأشير إلى الصور والولاءات الجديدة لكنّني قررت ألّا أودّعها بمشادّة كلاميّة. غريب أن قانون الاجتثاث لا ينطبق على ستّار ولكنه يحصد الآخرين. صبّت أختي الشاي الذي فاح عطر الهال منه ووضعت لي ملعقة من السكّر ووضعت الاستكان أمامي فشكرتها. سألتها أمّي عن ستّار وصحّته فأجابتها إنّه بخير لكنّه مشغول جدّاً وغالباً ما يعود من عمله في ساعة متأخّرة، كما أنّه يسافر أحياناً لإنجاز أعماله إلى تركيا فتضطر هي والأولاد للنوم في بيت أهله للأمان، مع العلم أن هذه المنطقة هادئة نسبيّاً. سألتني عن المغيسل وإن كنت قد قررت عمّا سأفعله به. كانت قد سألتني قبل أسبوع على الهاتف ولم أكن حينها قد قرّرت. قلت لها إنّي سأؤجره للسيّد الفرطوسي الذي سيوظّف من يعمل فيه. وضعت أمّي قدح شايها وأخذت تمسح دموعها وكرّرت ما كانت قد قالته عشرات المرّات في الأسابيع الأخيرة: وين تروح وتتبهدل يا إبني؟
حين أجهشت أمّي بالبكاء قرّرت بأنّ وقت الرحيل قد حان. كاد قلبي ينخلع من مكانه وهي تتشبّث بي كأنّها آمنت فعلاً بأنّها آخر مرة ستراني فيها وقالت وصوتُها مبلل بالبكاء: رحتو كلكم وخلّيتوني بوحدي. راح أموت وماشوفك! زعلت شقيقتي وعاتبتها قائلة: شنو آني ممحسوبة يُمّة؟ خُلْفَ الله عليچ! قبلتني شقيقتي وعانقتني وبكت هي الأخرى وقالت: لا تخاف عليهه جودي!
أصرّت أمّي على أن ترش الماء عند وداعي، كما جرت العادة، كي تضمن عودتي وظلّت تردد: خابرنا أوّل ما توصل. لوّحت لها وأنا أبتعد وخامرني شعور بأنّها قد تكون على حق وبأنّني قد لا أراها لمدة طويلة وربما أبداً.
لم أتمكن من تحديد المشاعر التي عصفت بي. بعد الحزن الذي انتابني وأنا أودّع أمّي وشقيقتي افترستني موجة من الشعور بالذنب تجاهها وفكرت بالسيّد وبالموتى. تُرى من سيغسلهم؟ ثم تراكمت صور الأجساد الممزّقة وأحسست باختناق في صدري كأن جسدي هو الآخر يريد أن يذكّرني بما كنت أهرب منه وبألّا يغالبني الحنين من الآن!
عند وصولنا إلى طريبيل كان هناك طابور طويل من السيارات الواقفة وقد خرج الكثير من ركابها ووقفوا أو تقرفصوا بالقرب منها. أخذت قافلتنا مكانها فيه. سألت السائق عن الطابور فقال إن التأخير عادي على الحدود وقد يستغرق الموضوع عدة ساعات خصوصا بعد التفجيرات الأخيرة. نزل من السيارة واتجّه إلى زملائه الآخرين الذين كانوا قد تجمّعوا بالقرب من إحدى السيارات. فتحتُ الباب وخرجت لأحرّك قدميّ. كانت آخر مرّة توقّفنا فيها هي قبل خمس ساعات. نزل الرجل من الجانب الأيمن وأخذ يتمشّى على كتف الطريق الترابي وبيده المسبحة التي ظلّت تطقطق طوال الرحلة ولم تتوقّف إلا عندما كان نائماً. ذكرتني بمسبحة أبي. لاحظت أن بعض السيارات كانت تعود بالاتّجاه المعاكس بين الحين والأخر. بعد حوالي نصف ساعة من الانتظار بدأ الطابور يتحرك وانفتح فراغ أمام سيارتنا فركب السائق وحرّك السيارة إلى الأمام. أشار لي بالصعود فقلت لهُ بأنّني سأمشي. تحرّك الطابور لكنه وقف من جديد. قلت للسائق إنّي سأواصل المشي، فأخذ نفساً من سيجارته وقال لي: إي بس لتضيّعنا يمعود. فقلت له: وين أضيع؟ كلها صحراء!
مشيت لربع ساعة. طلب منّي أحد الرجال الواقفين ناراً لسيجارته فاعتذرت وقلتّ له إنّي لا أدخّن. فضحك متعجّباً وكأنّني الوحيد في العالم الذي لا يدخّن وسألني: “شلون تتحمّل العيشة بلا تدخين؟” فقلت لهُ “والله ما أدري.” ثم أكملْتُ “شلون أتحمّل العيشة.” فابتسم وسألني:
- وحدك طالع؟
- إي.
- يگولون مَديْدخلون زگورتيّة، بسْ عوائل.
- ليش؟
- ما أدري والله. يگُلّك خايفين من الميليشيات الشيعيّة. هو إحْنه اللي مهزومين من الإرهاب.
كنت قد وضعت في قائمة الاحتمالات ألّا يسمح لي بالدخول لكنّي كنت قد سمحت لنفسي بأن أتخيّل هروبي من الجحيم الذي كنت قد كبّلت به. ذكّرتني كلمات هذا الرجل الغريب بأن خطّتي قد تفشل.
عدت إلى السيّارة وركبت. بعد ساعتين أنهينا إجراءات الخروج وعبرنا طريبيل. قبل أن نصل الرويشد لاحت على جانب الطريق عشرات الخيم تمتد بينها حبال نُشِرَت عليها ملابس و رفرف علم الأمم المتحدّة السماوي اللون بالقرب منها. لاحظ السائق بأنّني استدرت أنظر إلى الخيم ونحن نعبرها فقال إنه مخيّم للفلسطينيين الذين هجّروا من بيوتهم في منطقة البلديّات وتم قتل الكثير منهم في بغداد وإنهم يقبعون هنا منذ أكثر من سنتين. قالت المرأة في المقعد الخلفي بأنّهم نعموا كثيراً في زمن صدّام والآن سيذوقون العذاب الذي ذقناه نحن طويلاً. أخرج تعليقها زوجها من غفوته فحوقل ووبّخها قائلاً إنّهم لم يحصلوا على أكثر مما حصل عليه كثيرون غيرهم. “خطيّة. خلّي شويّة رحمة بگَلْبِچ يا مرة” فردّت بمرارة: “ليش آني ظلْ عندي گَلُب؟” وفكّرت بما قالته. لقد تعبت معظم القلوب فهربت من أجساد أصحابها وتركت خلفها كهوفاً تنام فيها الوحوش.
بعد ساعة انتظار في الرويشد وطابور طويل نظر الضابط الأردني بعينين متعبتين إلى جوازي وسألني بشيء من الحديّة: معك حدا؟ فأجبته: لا، بس آني بوحدي. فألقى بالجواز أمامي قائلاً: ممنوع زلام، بس عوائل. سألته: ليش عيني؟ فقال: هيك الأوامر. أشار إلىّ بأن أخرج وقال بصوت عال: اللي وراه.
أنزل أبو هادي حقيبتي وأعاد لي نصف أجرة السفرة. طبطب على ظهري وقال لي: جرّب تطلع على سوريا أسهل. أو انتظر إلى أن تهدا الأمور شويّة وحاول مرّة لاخ. توادعنا ولوّح لي الرجل الذي كان ينتظر هو وعائلته في السيارة فلوّحت له. ركب أبو هادي وابتعدت السيّارة. حاولت أن أبعث رسالة نصيّة إلي الأستاذ عصام على المحمول لكن لم تكن هناك شبكة. يجب أن أكتب لعمّي أيضاً.
كان عدد الذين منعوا من الدخول كافياً لاستحداث خط جديد يعيد كل من فشل في الهروب من الحدود إلى قلب بغداد المطعون. شاهدت سائقاً يصيح من شبّاك سيارته: واحد بغداد، واحد بغداد، واحد بغداد. فمشيت نحو السيّارة أحمل حقيبتي وخيبتي الثقيلة. يجب أن أكتب لعمّي وللأستاذ عصام عمّا حدث. هل ستصدّقني غيداء؟
٥٥
تقول إحدى أساطير الخلق الرافدينيّة إنّ الآلهة كانت، ولزمن طويل، تقوم بعملها وتؤدّي واجباتها فمنها من يزرع ومنها من يحصد ومنها من يصنع. لكنّها تعبت فاشتكت إلى إله الماء والحكمة آنكي كي يخفّف عنها، لكنّه، لم يسمع شكواها لأنّه كان في أعماق المياه. التجأت الآلهة إلى أمّه، نمّو، التي ذهبت ونادته قائلة: أي بنيّ؛ انهض من مضجعك واجعل للآلهة عبيداً. فتأمّل آنكي ثم دعا الحرفيّين الإلهيين ليصنعوا البشر من عجينة من الطين وقال لأمّه: إن الكائنات التي ارتأيت خلقها ستوجد وسوف نصنعها على شكل الآلهة. اغرفي حفنة من طين من فوق مياه الأعماق وأعطها للحرفيّين ليعجنوا الطين ويكثّفوه وبعد ذلك قومي أنت بتشكيل الأعضاء بمعونة الأم الأرض. وهكذا خلق الإنسان ليحمل العبء ويأخذ عن الآلهة عناء العمل.
قال آنكي للآلهة العظام: سوف أجهّز مكانا طهوراً، وسيذبح هناك أحد الآلهة. فليتعمد بقية الآلهة بدمه، وسوف نعجن بلحمه ودمائه طيناً، فيكون إله وإنسان معاً، سيتحدان في الطين إلى الأبد.
٥٦
بعد أن انتهينا من غسل وتكفين طفل في التاسعة من عمره، يشبه ملاكاً صغيراً لا تنقصه إلا الأجنحة، وأبيه الذي مات معه في انفجار مفخخّة قرب المسرح الوطني أحسست بضلوعي تطعنني من الداخل وتخنقني مع كل نفس آخذه. فقلت لمهدي إنّني سأخرج “يم الرمّانة.” تعوّدت في الأشهر الأخيرة أن أجلس على الكرسي الذي وضعته أمامها لأحاورها، فهي أضحت أنيسي الوحيد في هذا العالم. كانت أزهارها الحمراء قد تفتّحت على الأغصان كجراح تتنفّس وتنادي. كنتُ أدندن كلّما جلست أمامها أغنية قديمة سكنتني منذ أن سمعتها على الراديو قبل أسابيع. كنت قد غرست، دون قصد، في كلماتها “شجرة الرمّان” بدلاً من “نبعة الريحان”: يا شجرة الرمّان، حنّي على الولهان، جسمي نِحَلْ والرّوح، ذابَتْ والعظُم بانْ، من علّتي الْبِحْشايْ، ما ظل عندي رايْ، دائي صعب ودوايْ، ما يعرفه إنسانْ، يوم الّذي حبّيتْ، يا منيتي جنيتْ،حاير أنا ظلّيتْ، ما أدري ذنبي شچانْ؟ ما عندي كل ذنوب، إلّا هوى المحبوب، لا هو ذنب داتوب، متصبّر الرحمن، متصبّر الرحمن. يا شجرة الرمّان، حنّي على الولهان!
نظرت إلى تربتها الغامقة المبللة بماء الغسل الذي كانت قد شربته للتوّ. عجيبة هذه الشجرة. تشرب ماء الموت منذ عقود لكنّها تظل تورق كل ربيع وتزهر وتثمر. ألهذا كان أبي يحبها كثيراً؟ كان يقول إن في كل رمّانة حبّة من حبّات الجنّة. لكنّ الجنّة، لا بل الجنّات كلها، دائماً هناك في مكان آخر. والجحيم كلّه هنا ويكبر يوما بعد يوم. جذور شجرة الرمّان هذه، مثلي، هنا في أعماق الجحيم. يا ترى هل تبوح الجذور بكل شيء للأغصان أم أنّها تخبّيء عنها ما يوجع ؟ ترتفع أغصانها وتبدو، حين تداعبها الريح، كأنّها تحاول أن ترفرف لتطير، لكنّها شجرة. قدرها أن تكون شجرة وأن تكون هنا. لكنّني أردّد إنّي لا أؤمن بالقدر. فلماذا أقول هذا؟ يجب أن أقول تاريخها. فالتاريخ هو ما يسمّيه الناس القدر. والتاريخ عشوائي وعنيف، يعصف بكل ما في طريقه ويقتلع ما يقتلعه دون أن ينظر إلى الوراء.
حطّ بلبل جميل على أحد أغصانها العالية فهبط الغصن قليلاً. نظر البلبل إليّ بعينيه السوداوين وهو يدير رأسه الأسود الذي يعلوه تاج ريشيّ مثلّث الشكل. دار رأسه ثانية فبان خدّه الأبيض الذي كان بلون نهاية ذيله. بدأ يغرّد بعذوبة كأنّه عرف بأنّني شكوت من بُعْدِ الجنة فجاء بصوتٍ منها. هل تفكّر ببناء عشّ هنا؟ هل يقلقك وجودي؟ لا تخف. لست عدوّاً. تذكّرت البلبل الذي كان عندنا في قفص في البيت عندما كنت صغيراً وكيف كان أبّي يضع له قطع التمر و وشرائح التفّاح وحبّات العنب والرمّان.
فتح الباب مهدي وقال:
- جودي. جابَوْ واحد لاخ.
هرب البلبل بعيداً.
تنهّدت وقلت له:
- إي هسّه جاي. فَدْ دقيقة.
الأحياء يموتون أو يسافرون والموتى دائماً يجيئون. كنت أظنّ بأنّ الحياة والموت عالمان منفصلان بينهما حدود واضحة، لكنّني الآن أعرف بأنّهما متلاحمان. ينحتان بعضهما البعض. الواحد يسقي الآخر كأسه. أبي كان يعرف هذا وشجرة الرمّان تعرف هذا جيّداً. أنا مثل شجرة الرمّان. لكنّ كلّ أغصاني قُطِعَت وكُسرت ودُفِنَت مع جثث الموتى.
أمّا قلبي فقد صار رمّانة يابسة تنبض بالموت وتسقط منّي كل لحظة في هاوية بلا قرار.
لكن لا أحد يعرف. لا أحد.
وحدها شجرة الرمّان. . . تعرف.
النهاية
للمؤلّف:
بالعربيّة:
موشورٌ مبلّلٌ بالحروب (شعر). دار ميريت، القاهرة، ٢٠٠٤.
إعجام (رواية). دار الآداب، بيروت، ٢٠٠٤.
ليلٌ واحدٌ في كلّ المدن (شعر). دار الجمل، بغداد- بيروت، ٢٠١٠.
* ترجمت رواية إعجام ونشرت بالإنگليزيّة والألمانيّة والإيطاليّة والپرتغاليّة والنرويجيّة.
بالانكليزيّة:
The Baghdad Blues (Brownsville, VT: Harbor Mountain Press, 2006). (شعر)
ترجمة إلى الإنكليزيّة:
محمود درويش، في حضرة الغياب
Mahmoud Darwish, In the Presence of Absence. tr. Sinan Antoon (New York: Archipelago, 2011)
أفلام:
شارك في إنتاج وإخراج فلم وثائقيّ عن العراق تحت الاحتلال صوّر في بغداد في تمّوز عام ٢٠٠٣ و تم انتاجه وتوزيعه عام ٢٠٠٤ بعنوان حول بغداد/ About Baghdad.
للتواصل:
sinan.antoon@gmail.com