لا يكتب القاص العراقي عن أحد عميان لوحة بيتر بروغل الشهيرة «أعمى يقود العميان»، وإنما عن العمى الطوعي في المقهى العراقي، أم تراه في الواقع العراقي الذي يبدد فيه الإنسان طاقته بنفسه، ويستمرئ الحياة في وهدة العمى التي تفتح له خيالاته عوالم بديلة غضة نضرة، لم يعد لها وجود في واقعه العراقي.

أعمى بروغل

لؤي حمزة عباس

على الرغم من كونه يملك نظراً ثاقباً قاده للفوز بكأس الرماية مرتين متتاليتين، فكان الثاني بين أبطال الرماية المتوّجين على اعداديات البصرة ـ صورته بين طلبة اعدادية المعقل الفائزين للعام 1978، يرفع مداليته، كانت ما تزال معلّقة في غرفة الرياضة حتى وقت قريب ـ إلا أن حكايته انتهت إلى حمله صورة مختلفة في محفظة نقوده، دقيقة التفاصيل، بحجم عملة ورقيّة مثنية من المنتصف.

ـ إنه أنا، أعمى بروغل.

كان يُشير إلى الصورة، يقرّب اصبعه من الأعمى الرابع بين صف العميان المتعثرين وهو يحدّث أقرب جلسائه في مقهى أم البروم.

قبل أكثر من ثلاث سنوات رأى بروغل في حلمه، بلحيته الكثة وشعره الأشعث الطويل تحت طاقية مدوّرة، كان يشبه تخطيطه الشخصي: فلاّحاً سئماً من الأراضي المنخفضة، يبتهج بإفزاع سامعيه بقصص الأشباح والأرواح، كما قرأ عنه يوما. سمعه، في الحلم، يحدّثه بلغة هولندية فهمها على الفور: ستكون أحد عمياني!

كانت الجملة واضحة، فهمها فور سماعها، على الرغم من أنه لم يكن يعرف حرفاً واحداً من الهولندية ولا يتذكّر أنه سمع أحداً ينطقها من قبل، خشي لشدة وضوحها أن تكون نبوءة لعمى قريب حتى أغمض عينيه وأخذ يتجوّل في المنزل بيدين مرفوعتين وخطوات بطيئة متعثرة. تذكّر في تمرين عماه أنه رأى عميان بروغل من قبل، ربما في واحدة من المجلات القديمة، عندها فتح عينيه وتوجّه إلى المخزن أسفل السلّم. عندما عثر على المجلة ورأى الصورة، بعد بحث طويل، عرف أيَّ أعمى كان يقصد الصوت أن يكون بين الستة عميان، القبيحين، بثيابهم الفلمنكية الغريبة وعيونهم الذابلة. ليس الأعمى الأول الواقع في الحفرة، ولا الثاني، المنحني، الذي يتلقط بأذنه مأزق صاحبه، ربما كان في طريقه للحفرة هو الآخر، ولا الثالث، بل الرابع برأس الجرذ المرفوع، مفتوح الفم. قرّب الصورة لعينيه وأخذ يحدّق في العميان، يتأملهم واحداً واحداً، ويتوقف عند الأعمى الرابع. نسي نفسه وهو يتأملهم في ضوء المخزن، بين متروكات المنزل.

لم يحدّث أحداً في موضوع الحلم أول مرّة، حاول نسيانه، لكن صورة الفلاّح صاحب القصص المفزعة أخذت تعاوده في صحوه، في الشارع وهو يسير، أو في المقهى حيث يفضّل أن يقضي نهاراته بين الوجوه الغريبة العابرة. غمامة رمادية تتحرّك أمام عينيه، قبل أن تستقر في صورة بشريّة واضحة، إنه بروغل، أصبح يعرفه الآن، وربما يترقبه، تتجسد ملامحه لحظات ثم تغيب، لكنها كافية لتعثّره على الرصيف، وانطفاء ما حوله من مشاهد ووجوه، الأمر الذي زاد يقينه بكلمات الرجل فعاد ليواصل تمرينه، مفكّرا بالشوارع التي سيعبرها في عماه، والأيام التي سيعيشها. كان يقضي نهاراته مغمض العينين، تقوده يداه في البيت، والشارع، والمقهى، لم يكن يفتح عينيه إلا عندما يُسلم نفسه للنوم، يرى حقولاً واسعة، خضرتها بنيّة ذابلة وأناسها بعيدون، لا يتذكر أنه رأى مثلها في صحوه يوما. كلما تواصل حلمه تصبح الحقول أكثر وضوحاً، تتغيّر خضرتها، تبدو لامعة، ويغدو الناس أقرب، بملامحهم الشاحبة. قبل أن يصحو بوقت قصير يعرف أنهم عميان الصورة يواصلون سيرهم الغريب من حقل إلى حقل، وأنه بينهم، يده على كتف الأعمى أمامه ويد الأعمى خلفه على كتفه.

ـ إنه أنا، أعمى بروغل.

أخذ يحدّث كلَّ من يجلس إلى جواره وهو يُشير إلى الصورة.