مجلة الكلمة - تأثير التمدن الجديد في الشرق

نشـرت مجلة "اللطائف" في أحد أعدادها عام 1886 نص خطـاب كان قد ألقـاه نقولا شـحادة، "وكيل المقتطف العمومي" في مصر، من على منبر "جمعية الاعتدال". كما هو معروف أصدر الصحفي اللبناني شـاهين مكاريـوس (1853 - 1910) مجلة "اللطائف" في القاهرة بعد هجرته إليها عام 1884. وأسس رائدا النهضة العربية يعقـوب صروف (1852 - 1927) وفارس نمـر (1856 - 1951) "مجلة المقتطف" المذكورة أعلاه في بيروت عام 1876، ومن ثم نقلاها إلى مصر بعد خمس سنوات من تاريخ انطلاقها في عالم الصحافة الفكرية والعلمية والأدبية المميزة.

يبدو أن كاتب الخطاب يتوجه بكلمته إلى متلقي/متلقية في صالة ساوت بين جمع الحضور في "جمعية الاعتدال". لعل البعض ينحو للافتراض بأن قسم كبير من هذا الجمهور ينحدر من "الجالية الشامية" المهاجرة من "الديار السورية" إلى الديار المصرية. في كل الأحوال هو جمهور كونته العلاقات الاجتماعية المميزة للطبقة الوسطى ورصت صفوفه المؤسسة الثقافية الحداثية في مجتمع المدينة المنفتح على رياح التغيير القادمة من الغرب الأوربي.

يتناول نقولا شحادة في محاضرته تأثير احتكاك المدينة العربية بالفكر والعادات الغربية، قضية محورية كثيراً ما دارت حولها سجالات وجدالات مطولة في عصر النهضة العربية. إن وضع دعائم الإصلاح والعقلانية والتقدم في البنية الاجتماعية والفكرية العربية تدعو الخطيب للتفاؤل وإعادة التأمل في راهن يومه ومقارنته مع ماضي أبيه وجده، وكأنه يقف على مفترق طرق يقارن فيه بين الجديد والقديم.

يعلن الخطاب عن شعور مفارق بانقلاب الأزمنة ويشير إلى تغيّر ملموس في واقع المجتمع المديني العربي مع نهايات القرن التاسع عشر. من جهة أخرى يبوح نص نقولا شحادة بهموم طبقة وسطى هجست بأخلاق استمد "نبالتها" من معيار انضباطية الفرد في مشروع التمدن النهضوي، ورأت إلى أن "الفضيلة في الاعتدال"، واعتقدت بحرية فردية متوازنة لا تنحرف عن مقياس الدين والأسرة. ما يميز نص الخطاب هو محاولة تفنيد مظاهر الحداثة على المستوى اليومي والجزئي بالتجاور مع المستوى الكلي لخلاصة تجربة التحضر في زمنه.
فسلوك مراهقي الحداثة شباناً وشابات يختلف عن جيل الآباء، وانتشار "الموضة" وأسلوب الحياة الغربية لاقى من يقبل عليه ويستهلك بضائعه من بين أفراد العائلة نساء ورجالاً.

والمدينة جددت المواخير والملاهي القديمة المميزة للمجتمع القروسطي البطريركي، وتاجرت عبر البحار، وافتتحت ما يلائم زبائنها الجدد من مصانع، وعرضت البضائع القادمة من الغرب في الأسواق المحلية.

هكذا أشرعت المدينة نوافذها على الغرب/لنموذج والمثال الذي يجب أن يحتذا ويقلد. وبدأت عصراً حداثياً جديداً قوامه التنوير والتفكير الحر في جانب من جوانبه والاغتراب والتبعية في الجانب الآخر. وفيما يلي نص الخطاب المنشور في المجلد الأول لمجلة "اللطائف" عام 1886:

تأثير التمدن الجديد في الشرق

نقولا شحادة

الشرق هو الأسبق بالعمران والأقدم بالمدنية. فيه وجدت الشعوب القديمة كسكان سورية ومصر وفارس وغيرهم. وأهله هم الذين سنّوا الشرائع والنظامات والقوانين. وبينما كان الانكليز والألمانيون وغيرهم من سكان أوربا عراة الأبدان عائشين عيشة حيوان البر كانت بابل ترفل بأثواب عزها ومصر تتباهى بشامخ أبنيتها ودمشق بيانع رياضها. وبينما كانت أراضي أوربا عقيمة لا تأتي إلا بما منحتها إياه الطبيعة أصاب اسحق بن ابراهيم الخليل مئة ضعف بزراعته. وبينما كان لباس الأوربيين جلود النمر والثعلب كان لباس الشرقيين البز والبرفير. وهذه الأمور راهنة لا ينازعنا فيها أحد وكثيراً ما طنطن بها كتّابنا حتى صار ذكرها عادة لنا. وصرنا نتأسى به عن حالتنا الحاضرة. وعندي أن هذا سبب قوي من أسباب تأخرنا الحالي. لأننا صرنا إذا نظرنا إلى الأوربي ورأيناه قد سبقنا بمراحل، ورأينا أننا لا نلحقه إلا بالتعب الشديد، نحدّث النفس قائلين على مَ الكد والجد والسعي فالدنيا أدوار والدهر يومان يوم عليك ويوم لك. وهذا هو يوم الأوربي فليلعب دوره في يومه كما أننا نحن لعبنا دورنا في يومنا. وكأن لسان حالنا يقول اعلم أيها الغربي أنني أنا الشرقي كنت السابق فعش هنيئاً وتاجر براً وبحراً ووسع نطاق سطوتك وتسلط عليَّ تسلط السيد وكفاني شرفاً أنني أقدم منك في الحضارة. فيضحك ذاك مستهزئاً مسروراً بتقاعدنا عما فيه خيرنا واكتفائنا بالضروري الذي لاقيام لحياتنا بدونه. وهكذا مرّت علينا السنون ونحن نتأخر وأهل الغرب يتقدمون. إلا أنني أرى الشرق قد هبَّ من رقاده منذ خمسين سنة أو حواليها وكأنَّ صوتاً ينادي في جهاته الأربع ويقول "الإصلاح. العلوم. التقدم". فالأحداث اليوم لايشبهون الأحداث الذين كانوا منذ خمسين سنة والبنات اليوم ينكرون علينا أن نعاملهنَّ معاملة أمهاتهنَّ.
وما ذلك إلا لأن انقلاباً عظيماً فاجأ هذه البلاد وأكثر بلدان المشرق. ولما كان من طبع الإنسان الرغبة في معرفة مركزه الحالي بالنسبة إلى أبيه وجده ومعرفة حاله في يومه وما كان في أمسه اخترت أن أجعل موضوع خطبتي هذه تأثير التمدن الجديد في الشرق ناظراً إلى التغيرات الطارئة عليه حاصراً الكلام في ما عدا الدين والسياسة لأنهما ليسا من موضوع جمعية الاعتدال موجهاً كلامي إلى الذين تغيرت أحوالهم في مصر وسورية كأكثر سكان المدن تاركاً أهالي أرياف مصر وسهول سورية الداخلية لأن أحوالهم لم تتغير تغيراً يذكر. فمن هذه التغيُّرات:

أولاً تغير اللباس. إن الفريق الأكبر من الحضور في هذه القاعة مرتد بالثياب الإفرنجية وكثيرون من أهالي المدن رجالاً ونساءً قد ارتدوا بالثياب الإفرنجية بعد أن كانوا هم أو آباؤهم يلبسون ثياباً وطنية وسيعة متينة قليلة الثمن جداً بالنسبة إلى بساطتها وطول إقامتها. والواحد منا ينفق الآن على ثيابه أكثر مما ينفق والده بعشرة أضعاف أو أكثر. والنساء ولاسيما المتطرفات في اتباع الزي بلغت نفقات ثيابهن مبلغاً لا يصدق. فالمصيبة العظمى على من كان متوسط الحال أو متوقف الأشغال. وثالثة الأثافي وأشد المصائب شكل الثياب من الحذاء الضيق الرفيع الكعب إلى الكورست (المشد) الذي يضغط الصدر والأحشاء ويغير شكلهما الطبيعي. قال أحد وزراء الانكليز يجب أن يقاص الأساكفة بالقتل بلا محاكمة ولا شفقة كما يقاص القرصان. ولو سئل هذا الوزير عن حكمه على الذين اخترعوا الكورست ونحوه لما حكم عليهم بأقل من القتل. ومما زاد في الطنبور نغمةً أن كثيرين من الشبان لا ترضيهم الصفات التي يتجمل بها الرجل كالمروءة والفتوة وعزة النفس فتراهم يجدُّون ليتشبهوا بالنساء في استعمال الطيوب والبودرة وما أشبه.

ثانياً تغيير ترتيب البيوت وأثاثها. وهذا التغيير لا يقلُّ نفقة عن تغيير الثياب، لأن العائلة التي كانت تكتفي بخمس غرف في بيتها لم تعد تكتفي بعشر. ولو كانت زيادة المساكن بنسبة زيادة السكان لما كان في الأمر محلٌّ للوم ولكن أكبر غرف البيت وأحسنها موقعاً وأطيبها هواءً صارت تفرش بالأثاث الفاخر وتغلق أبوابها وكواها ولا تفتح إلا عند مجيء الزوار. أما الأثاث وأكثره من البضائع الافرنجية فأثمانه تفوق التقدير مع أن الإفرنج أنفسهم يفضلون الأثاث الشرقي على أثاثهم ويفرشون به بيوت ملوكهم وأغنيائهم وهو مع متانته جميل رخيص الثمن.

ثالثاً التفنن في الملاهي. وهذا ضرره عظيم جداً لأنك أينما جلت في أسواق المدن وشوارعها ترى القهاوي والمراسح وأماكن الرقص والخلاعة ولعب القمار. وعمر الإنسان كما لايخفى محدود وعليه أن يمضيه في أربعة أمور، العمل والنوم والأكل والرياضة، فإذا تعدّى على العمل افتقر أو على النوم ضعف ومرض أو على الأكل جاع وضعف أو على الرياضة فسدت صحته واضطرب عقله، وفي كلها يكون الإنسان لصاً بل شراً من اللص. لأن اللص يسرق ليستفيد وأما ذاك فيسرق النفع ليربح الضرر. ولهذه الملاهي أضرار أخرى منها أنها تفسد الآداب في نفسها وفي ما تقود إليه وإنها أكبر داعٍ إلى إنفاق الدراهم على غير فائدة. ولاسيما محلات القمار والسكر والفجور فإن أرضها من بلاط جهنم وجدرانها من بنيان الأبالسة وخدمها من مردة الشياطين وغايتها سلب أموال العباد والمتاجرة باسمهم وعرضهم وصحتهم وكل ما هو عزيز عليهم.

رابعاً انتشار الحرية أو ما يسمى بالحرية. لا أنكر أن لبعض أنواع الحرية التي انتشرت عندنا حديثاً شيئاً من النفع ولكن إذا أُريد بالحرية عدم التقيّد بالربط الدينية والعائلية كما هو مفهوم الحرية عند كثيرين فهي ضرر محض ولا يمكن أن تُمدح بوجه من الوجوه بل إن التغاضي عن ذمها وإظهار شرها تقصير في الواجب.
انظروا إلى أين أدت هذه الحرية فإنها هي التي بنت تلك البيوت الجهنمية وجمعت إليها العواهر ما بين إفرنجية وتركية وعربية ونصبت شراكها لتصيد الشبان وتسلب مالهم وشرفهم وصحبتهم وأدارت كؤوسها لتسكرهم بخمرة الجهل فتسرهم يوماً لتحزنهم سنةً وتضحكهم ساعةً لتبكيهم العمر كله. وهذه الحرية التي رفعت عن الناس قيود الدين والربط العائلية لحرَّية بأن تُعدَّ من موارد جهنم ومخترعات الأبالسة. انظر إلى ذاك الشاب تراه كئيباً أصفر الوجه فتظنه مريضاً أو متعباً من كثرة الشغل أو متكدّراً من فراق أهله ووطنه أو أن أحد أقاربه مات وهو حزين عليه والصحيح خلاف ذلك والواقع أنه سكير أو مقامر أو فاسق يشتغل الشهر كله ليصرف تعبه في ليلة واحدة ولا يستطيع أحد أن يعارضه لأن العصر عصر حرية وكل إنسان متروك إلى هواه. حبَّذا العبودية على هذه الحرية بل حبَّذا عصر الجاهلية الذين كانوا يدفنون بناتهم خوفاً من العار إن كانت هذه هي الحرية.
وإذا قابلنا بين أهالي المدن الذين تمذهبوا بمذهب الحرية الجديد وبين أهالي الأرياف أو الأماكن الأقرب إلى الفطرة رأينا هؤلاء أكثر بساطة وأحسن بنية وأسلم طوية وأحفظ للآداب الصحيحة وما ذلك إلا لأن لواء الحرية الجديدة لم ينتشر فوق رؤسهم حتى الآن. ولولا وجود فئة صغيرة تعتبرالدين أو تحافظ على مبادئ الشرف لكنا نرى أعظم مما رأينا. والحق أن الحرية أمر شريف واجب ولكن إذا تخطت قانون الحق والفضيلة بطل كونها حرية وصارت أسراً بل أشر من الأسر.

خامساً تنوّع المسكرات وشيوعها. وهذا مما كسبناه أيضاً من التمدن الجديد، فإن الخمر كانت معروفة في هذه البلاد من قديم الزمان ولكن كان منها نوع أو نوعان فقط وكلاهما قليل الضرر وكان السكر معيباً محظوراً على الجميع بنص ديني لايقبل التأويل ولا التحويل. أما الآن فقد تنوعت المسكرات وصارت تمزج بالمواد السامة وشاعت شيوعاً فاحشاً وكاد الخرق يتّسع على الراقع ولا نعلم إلى أين المصير. ولم يدخل الإفرنج بلاداً إلا وأدخلوا المسكرات معهم وسموا بها أبدان الأهالي واستعبدوا عقولهم وسلبوا أموالهم ونحن إن لم نقاوم المسكرات أشد المقاومة طمت علينا كالسيل الجارف ولم تبق ولم تذر.

سادساً اعتبار النساء. وهذا أمر حسن جداً إلا أننا نخاف أن يتجاوز حد النفع وتربو مضاره على منافعه فقد كانت المرأة في كثير من الجهات محتقرة مهانة تكلَّف أشق الأعمال أما الآن فمالت كفة الميزان وشرع النساء يأخذن بثأر أمهاتهن على ما أرى ولا يتخذن غير البطالة والإسراف لهنَّ ديدناً.

سابعاً تقدم المعارف. والتحسين في ذلك ظاهر حقيقي لأنه منذ خمسين سنة كان يندر وجود من يعرف القراءة والكتابة، أما الآن فقلما ترى رجلاُ أو امرأة يجهل القراءة ومبادئ بعض العلوم واللغات.

ثامناً تقدم الزراعة والصناعة. وهذا من التغيرات التي تغلّب فيها النفع إلا أن الصناعة اقتبست شيئاً يظهر لي أن ضرره يوازي ما اكتسبته من المنافع وهو التقليد فالمنسوجات المتينة التي كانت تنسج في دمشق وحمص وغيرهما من جهات سورية وكانت تفوق المنسوجات الإفرنجية في إتقانها ومتانتها صارت تحاك من مواد واهنة جداً حتى يمكن أن تضاهي منسوجات الإفرنج برخص ثمنها وقس على ذلك كثيراً من الصنائع.

تاسعاً تقدم التجارة. وهذا أيضاً ضرره يفوق نفعه لأنه قبل أن تقدمت التجارة كانت البلاد تكتفي بمحصولاتها ومصنوعاتها ولا تجلب من الخارج إلا بعض البضائع مما لا غنى لها عنه ولا وجود له فيها.

أما الآن فبتقدم التجارة انهالت مصنوعات أوربا وبضائعها علينا انهيال السيل فكسدت مصنوعاتنا واضطررنا إلى إهمال الصناعة وبيع محصولات أراضينا بما تقدمه لنا أوربا من الثمن مهما كان. ولذلك نرى حرير سورية يُطرح في أسواق مرسيليا سنة بعد أخرى تحت رحمة السوق والسماسرة والعملاء. وقطن مصر يطرح في أسواق ليفربول حتى يبتاعه الانكليز بأي ثمن أرادوا وهذا شان الصوف والزيت وبقية محصولات البلاد. هذه نظرة عامة إلى تأثير التمدن الجديد فينا وكل فرع من الفروع التي أشرت إليها يحتمل بحثاً دقيقاً وكلاماً طويلاً فأكتفي بما ذكر لضيق المقام.

نقولا شحادة

الأكثر قراءة