من منطق المراقب الداخلي يقدم الباحث نصه النقدي حول مؤسسة الأزهر، التي يرى فيها ترهلاً أكاديمياً وإدارياً ينصر القرار الديني الذي يخدم المصلحة السياسية، مما يستدعي ضرورة توحيد الجهود الوطنية لإصلاحها بإعداد متعلم واع يتسلح بفكر ديني وسطي مستنير.

التَّعْلِيْمُ الدِّيْنِي فِي مِصْرَ

هَلْ الأَزْهَرُ الشَّرِيفُ تَحتَ السَّيْطَرَةِ أَمْ رَهْن الحِرَاسَةِ؟

بليغ حمدي إسماعيل

رجال الأزهر الشريف يقولون الآن: هناك عدة محاولات خبيثة شريرة ماكرة لقلب نظام الفكر الديني في مصر، وأن هناك عدداً من الجهات الخليجية تدبر محاولة بالتعاون مع نشطاء الإسلام السياسي بالداخل لزعزعة استقرار مؤسسة الأزهر وتقويض أركانه المتينة القوية المنيعة، وربما كلما ذهبت لقضاء بعض الأمور الشخصية بأية جهة تعليمية أو إدارة تابعة للأزهر الشريف لكان الحديث الدائم هناك هو سعي البعض من السياسيين الإسلاميين المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين أو تيارات الإسلام السياسي لشيوع الفوضى في المؤسسة الدينية أو للتشكيك في قدرة المؤسسة التعليمية على مواظبة النهوض الذي يسعى النظام الحاكم لتحقيقه.

بل إن السمة المميزة للعاملين ببعض المعاهد الأزهرية الآن والتي تكاد تفصلنا عن الوطن الآن هي سمة الوطنية وحل صفة الخيانة بدلاً منها، فإذا كنت من المؤيدين لصيحات دعاة الفضائيات بإصلاح الأزهر فأنت خائن، ولو قررت عدم الانصياع لدعوات التطوير التي تقوم بها مؤسسة الأزهر الشريف داخل المعاهد الأزهرية فأنت خائن أيضاً، أما إذا جن عقلك وأعلنت عدم تأييدك لرموز المشيخة وكبار القيادات بالأزهر فأنت متهم لا محالة بالخيانة والعمالة.

وعلى الشاطئ الآخر من الذين ينادون بضرورة فرض السيطرة الفكرية والأيديولوجية على الأزهر يرون أن هذه المؤسسة العريقة تاريخياً ظلت طوال الحقبة المباركية نسبة إلى الرئيس السابق حسني مبارك تبارك وتساند وتشجع الرئيس على كل قراراته وتوجيهاته مادامت بعيدة عن مقصلة الدولة البوليسية آنذاك. وبين الشاطئين بحر واسع وعميق به ملايين المواطنين الذين يذهبون للعمل صباحاً ويعودون مساءاً وهم في لهفة لمتابعة أخبار السلطان سليمان وحريمه الحسناوات الجميلات ولا مانع من متابعة أخبار البلاد والعباد من خلال مشاهدة سريعة لبعض برامج الفضائيات المملة والرتيبة والمكرورة، وهؤلاء يمثلون الشريحة الأكبر من الذين يعانون مرض فقدان الوعي بالوطن وما يحدث تجاه الأزهر الشريف.

وأصبح السؤال الأكثر وجوداً بعناوين المانشيتات الصحفية وموضوعات البرامج الحوارية الفضائية هو: هل هناك مؤامرة بالفعل على مؤسسة الأزهر الجامع والجامعة؟ هذا هو السؤال الذي احتل موقع الصدارة في جميع الصفحات الولي بالصحف المصرية وكذلك جميع البرامج الفضائية التي لم تجد في السياسة ملاذاً وملجأ لتفريغ الطاقة الإعلامية أو ما يصح توصيفه بالهوس الإعلامي، ومفاد الخبر أن ثمة مؤمرات وليست مؤامرة واحدة تدبر لمؤسسة الأزهر بوصفه المؤسسة الدينية الرسمية للبلاد والمسلمين من العباد وهذه المؤمرات بدأت في الإعلان عن نفسها نتيجة عوامل متعددة، أبرزها تصدع الكيان الوظيفي للأزهر والغياب القصدي والعمدي للأئمة والشيوخ المنتمين للمؤسسة العريقة الشاهدة على تاريخ مصر.

ولعلي لم أفاجأ بالثورة على مؤسسة الأزهر لاسيما وأنني قضيت عدة سنوات متقطعة أعمل بها وكنت بحق خير شاهد على هذا التصدع والترهل الأكاديمي والعلمي والإداري بل سأتجاوز الخط الأحمر حينما أشير إلى أن معظم القيادات الإدارية بهذه المؤسسة والمباني الخرسانية والكتل العمرانيّة التابعة لها يفتقدون إلى أبجدية الإدارة ومن أفلح واجتهد فأصاب أحياناً وأخطأ أحياناً أخرى فهو قاصر في إدارة الأزمات وما أكثرها في ظل ثقافة قديمة تسيطر على القرار العلمي بالأزهر الشريف.

وربما الأصوات التي تنادي الآن بعزل فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر أو فرض سيطرتها على المؤسسة بكاملها قصورا نظرتهم فقط على شخوص بأعينهم وموافقهم السابقة والمؤيدة بالقطع للنظام السابق ولتوجهات الرئيس السابق حسني مبارك، وهم في ذلك يشاركون بعض القيادات الأزهرية في داء غياب الوعي عن الوطن ومشكلاته وجل همهم اقتناص أجزائه أو التمتع بما حرموا منه سابقاً. لكن الأمر أخطر من هذا وذاك، فمؤسسة الأزهر وإن كانت المؤسسة الدينيّة الرسميّة التي كتبت عنها في نفس المساحة والمكان عدة مقالات متحدثاً عن الخطاب الديني ومشكلاته التي أصبحت بائنة وشاهدة على التوجه الثقافي للأئمة والدعاة.

وباختزال شديد يمكن تحديد الاتهامات الموجهة لهذه المؤسسة العريقة والتي يستغلها المعارضون لقياداتها والمنادون بضرورة فرض الحراسة والسيطرة على الأزهر ومعاهده وجهاته التابعة في نقاط محددة منها تفاقم حالة الجمود في الخطاب الديني المعاصر، ونكوص وارتداد مجتمعي في الفتاوى والطروحات الفقهية التي رصدها الشارع المصري وغابت عنها المؤسسة العريقة، وتجنب الولوج في مسائل خلافية لاسيما وأن الاهتمام كان ولايزال منصباً على أحداث وإحداثيات المشهد السياسي فقط، وهذا الخطاب رغم ثورة المعرفة والاتصال وتطور نظريات اللغة والحصول على المعلومات ومقارنتها لا يزال أسيراً لجمود اللغة القديمة البيانية التي ترفض المجاز بل وأحياناً تكفر مستخدميه، وكذلك كون الخطاب فريسة لشَرَك (بفتح الشين) الأساليب الخطابيّة المنبريّة التي تصلح لمواجهة جموع غفيرة وهي بطبيعتها أساليب تستهدف الأذن واستلابها قبل العقل وتطويقه، والعين قبل الفكر.

هذا ما رأه المعارضون لمؤسسة الأزهر والمعادون لفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب والذين رأوا أنه لا يساند مؤسسة الرئاسة بدليل امتعاضه عن مكان جلوسه بالصف الأول أثناء الخطاب الافتتاحي لرئيس الجمهورية الثانية قبيل تسلمه مفاتيح حكم البلاد والعباد معاً، أو بالأدق الهجوم الذي شنه مساعدو فضيلة الإمام الأكبر على هذا التصرف غير المرتبط بالرئيس نفسه بل بالقائمين على إقامة الاحتفال وتدشين الحدث التاريخي.

لكن هناك أمور غفل عنها هؤلاء وهي أدعى بفرض الحراسة على المؤسسة وحظر التجوال بداخل معاهدها لا بالمعنى الجسدي بل بالمدلول العقلي المعنوي، فلقد وصل التعليم الديني في المعاهد الأزهرية إلى مراحل أكثر دهشة وأدعى لليأس وعدم التفاؤل ولقد شاهدت بعيني هذا التدهور التعليمي بدءاً من المعلم والطالب وإدارة المعاهد نفسها، بل قد يغضب المؤهلون للغضب بالفطرة والتطبع أيضاً حينما نقول بأن مستوى التعليم الديني في مصر وصل إلى حد التفاهة، بدليل جمود الاجتهاد الديني الذي كان سمة مميزة لمصر وأهلها وفقهائها، بل يمكن أن نغالي القول بإن أنصار هذا الجمود قد تعاظم دورهه بعد استقرار الثورة دونما نجاح ودونما فشل. وللحق يمكننا أن نلتمس العذر لهذا الخطاب الديني الذي صار يعاني جموداً عظيماً، نظراً لانشغال البلاد والعباد أيضاً بأحداث المشهد السياسي، حيث إن الوطن وأهله ما إن يستفيقوا من حدث جلل يعصف بأرجائه حتى يصطدم بحدث آخر، وما إن يدخل في مرحلة سياسية ديموقراطية جديدة حتى يلج في أخرى دون يتم الأولى بنجاح.

والحق أقول إن مكانة الأزهر تتأرجح داخل البلاد الأيام الراهنة لا بسبب الهجوم الضاري عليها وعلى رموزها فحسب، بل إن السبب الحقيقي هو الممارسات التعليمية داخل معاهدها الأزهرية وأنا لا أدعي فساد هذه الممارسات نظراً لاحتفاظي بما يؤكد هذا، فطرائق التدريس كفيلة بجعل الطالب ينتمي للعصور الوسطى، والمعلم وتأهيله حاله كحال وطنه مجرد تدريبات وهميّة ورقيّة ومنابر تعج بالحاضرين والمتدربين دون أدنى فاعلية تذكر، أما المناهج الدراسية ذاتها فجميع المسئولين عن العملية التعليمية بالأزهر يؤكدون ضرورة مراجعتها وتعديلها وتغييرها من عشرات السنين لكن الأذان في مصر لا تسمع ولا تعي صوتاً ينادي.

ومأساة المؤسسة الدينية الرسمية في مصر، الأزهر أقصد أنها تعاني الازدواجية في التخطيط والتنفيذ، فهناك مشيخة للأزهر تقوم بإصدار تعليمات وتوجيهات وإعداد مؤتمرات فاخرة لتطوير الخطاب الديني والتعليم بالمعاهد التعليمية التابعة له، وأيضاً يوجد قطاع المعاهد الأزهرية المنوط له الالتزام بمتابعة العملية التعليمية وتدريبات المعلم وتطوير المناهج التي لم تطور منذ عقود، لذا فإننا نجد أن هناك تبايناً صارخاً بين الكيانين وهو ما يعكر في النهاية صفو عقل الطالب المسكين الذي هو في الأساس مهمل ومهمش عن حياته وواقعه.

وهذا الهجوم المستمر على مؤسسة الأزهر يساعده عزلة الأزهر نفسه عن واقعه السياسي والاجتماعي، وغيابه غير القصدي عن تطورات الحياة المجتمعية وأسوأ ما نعتقده ونؤمن به ظناً أن نصدق الاحتفالات والمهرجانات والاحتفاءات الدينية التي يقيمها الأزهر بمناسبة جائزة أو مناسبة أو خطاب رسمي فنرى جمعاً من المشايخ الأفاضل، وعدداً لا بأس به من الطلاب المتميزين علماً ومظهراً، لأن وراء هذا كله معاهد أزهرية نائية بفعل فاعل مجهول تعاني حصاراً معرفياً وتقنياً وتربوياً وربما إنسانياً أيضاً.

وحينما حدثت فاجعة أتوبيس الطلاب الأزهريين الذين راحوا ضحية إهمال وفوضى اكتشف الجميع بعد المعهد الديني عن الكتلة السكانية العمرانية، ولهم أقول إن جميع المعاهد الأزهرية في مصر لا تقع في كتلة العمران، ولا أجد سبباً واحداً منطقياً يجعل إنشاء المعاهد تلك بعيدة عن مظاهر الإنسانية، ويكفي أن أشير إلى زياراتي لبعض المعاهد الأزهرية بمحافظة المنيا والتي جعلتني أستقل أكثر من أربع وسائل مواصلات منها وسيلة مواصلات مائية نهرية للوصول إلى معهد أزهري محشور بين المقابر والمدافن.

وبالتأكيد كل هذه العلامات المجتمعية إضافة إلى المظاهر التعليمية غير الإنسانية كفيلة بإسقاط مكانة الأزهر الشريف ومطالبة تيارات إسلامية كثيرة التحفظ عليه بل وفرض الحراسة الجبرية على قراراته والإدعاء بتطوير التعليم به لأن بالفعل لم يصل قطار التطوير إلى التعليم الديني في مصر، وأذكر أنني في توصيات أطروحتي لرسالة الماجستير في تدريس التربية الدينية الإسلامية أحد عشر عاماً قد أشرت إلى ضرورة الأخذ بالتطبيقات التربوية الحديثة وتطوير الموضوعات الدينية التي تقدم للطلاب والتعرف على الآراء المتباينة في الموضوع الواحد ومعاصرة المناهج الدراسية لمتغيرات المجتمع التي تتسارع بصورة محمومة لكن الأمر لم يتعد سوى حدود الإشادة اللفظية بهذه التوصيات دون العمل عليها.

ولأن الوطن يفرض علينا واجبات حتمية تتعدى إظهار العيب والنقيصة أو تقديم الحذر والحيطة تجاه الأزهر من سعي بعض تيارات الإسلام السياسي باقتناصه والقفز على كرسي السيدة الدينية الرسمية ومن ثم التحكم في صنع القرار الديني الذي عادة ما يخدم المصلحة السياسية، فالواجب يقتضي التنبيه على قيادات الأزهر الشريف بترك الدفاع عن الاتهامات التي تكيل لهم ليل نهار بالصحف والفضائيات والعمل على تطوير التعليم الديني بالمعاهد الأزهرية، والأخذ بكل المعطيات الحديثة تربوياً وتعليمياً والتي تخدم وتتوافق مع طبيعة الدراسة الأزهرية، مع توحيد الجهود الوطنية لإعداد متعلم واع يخدم دينه أولاً ثم وطنه، وأن يتسلح بفكر ديني وسطي مستنير وهذا لن يتحقق إلا بدراسة جادة واعية، ومتابعة مستمرة وتوجيه مخلص مفيد والنظر بدقة إلى الكفاءات المهملة داخل الأزهر الشريف والتي لا تجيد الظهور أو المجاملة، وإذا كانت هناك أصوات من داخل الأزهر الشريف نفسه تطالب بالإصلاح والتطوير فعليها أن تدرك خطورة استجداء النجاة من خارج المؤسسة لأن أهل مكة أدرى بشعابها، وهؤلاء هم أحق الناس بمعرفة أوجه القصور التي تحتاج إلى علاج أو تعديل.

ولقد طالعت مكانة الأزهر الشريف بالمملكة العربية السعودية وكم كان الأخوة السعوديون يرون في الأزهر ملاذاً ولجأ للمعرفة الدينية وأن المعاهد الأزهرية هي النموذج الأمثل للتعليم الديني، ولهذا أخشى أن يتحول هذا الإعجاب في المستقبل القريب إلى قصة تاريخيّة تبدأ بسؤال: ويسألونك عن الأزهر؟