يخلط الناس عن عمد في مجتمعاتنا المتخلفة بين التغيير والتغيّر، والمعلوم أن الأول هو فعل إرادة حرة، يخطط له ويتفق على أهدافه في مجتمع ما، تبرز فيه ضرورة ملحة تدفع لتكوين آلية مناسبة لإحداث هذا التغيير وتتراوح هذه الاليات بين الثورات والانقلابات العسكرية وفي الدول المتقدمة صناديق الانتخابات، هذا عن التغيير أما عن الثاني وهو التغيّر (بتشديد الياء) فهو انتقال قسري يتم بالقصور الذاتي من مرحلة إلى مرحلة جديدة وتلك يصيغ برامجها غيرنا ممن هم مؤهلون لذلك من المجتمعات الراشدة الراقية، فاستعمال التليفون أو ماء الصنبور أو الانترنت على سبيل المثال ليس تغييراً في مجتمعاتنا وانما هو انتقال بالازاحة لمرحلة (تغيّر) طبيعي حتمي قررها لنا آخرون باكتشافاتهم وعلمهم وبحثهم وتطبيقاتهم، أما نحن فالساسة مصلوبون عندنا على الشاشات لبث أرقام طويلة عن عدد خطوط التليفون وأطوال مواسير الصرف وكميات الميجاوات من الكهرباء التي تم إنتاجها، وكأن بلد كمصر تملك كل مصادر الغنى المتعارف عليها كان يمكن أن تكون خالية من هذه الضروريات في القرن الحادي والعشرين، وكأن مملكة كالسعودية وإمارة كالكويت تملكان تلالاً من الثروات ويمكن أن تظل تركب الابل حتى اليوم، إذن ما حدث لم يكن تغييراً، فإبعاد المخلفات الصلبة والسائلة من تحت الأسرة ليس تغييراً، وركوب الاغنياء لسيارات الدفع الرباعي في الصحراء ليس تغييراً، كما لم يكن تغييراً أن تتخلى مجتمعات عن نظام العبيد والإماء في القرن العشرين، لم يكن كل ذلك تغييراً، لكنه كان انتقال قسري فرضه علينا التطور الطبيعي الحتمي للمجتمع الانساني، وربما يقف الناس في وجهه حينا، لكن لا مفر في النهاية من الركض أمام عجلة الزمن وإلا.
وعلى الجانب الآخر يقف مايسمى بالمعارضين، رافعين شعارات عن تغيير مزعوم، مستغلين جهل العامة والدهماء بماهية التغيير، حاملين لافتات براقة عن برامج سحرية لإصلاح الاحوال، أقل ما توصف به أنها نصب واحتيال على ضحاياهم من المعدمين القابعين تحت خط الفقر، ليس الفقر في الثروة فقط ولكن في العلم والثقافة والعقيدة، هؤلاء يستغلهم مدلسون محترفون في ترديد قولات حق يريدون بها باطل، يدغدغون مشاعرهم بأضغاث الأحلام الناتجه عن نوم الجوعى العرايا المتعبين، هؤلاء الذين من المفترض انهم اللاعبون الاساسيون في عملية الاصلاح والتغيير المزعومة. هذه هي الصورة الشائعة في طول وعرض هذه المنطقة، أنظمة كاذبة تدعى فضل ليس لها، ومعارضون كاذبون يدعون فعل ما لايستطيعون، متجاهلين أن التغيير يجب أن يكون نابعاً من صاحب المصلحة نفسه،وهو لا يرغب ولا يستطيع ولا يفكر في ذلك ـ حتى الان على الاقل ــ وليس نابعاً من حفنة من المغامرين ذوي المصلحة كل منهم يعمل لاهداف خبيثة ليس من بينها على الإطلاق تغيير أو إصلاح أحوال هؤلاء البؤساء.
لقد بات شعار الاصلاح والتغيير مستهلكاً كقطعة العلكة المتعددة الاستعمال، يخرجونها من جيوبهم ويلوكونها مجرد ان ينادي مخرجي الميديا ببدء الارسال، وتبدأ المكلمة المضحكة المبكية الكاذبة الفاسدة عن الاصلاح والتغيير، في مجتمعات تقاوم تغيير المتغير (بالضرورة)، فكيف تقبل بتغيير الثابت (بالضرورة)، وربما يساعد سرد هذه الطرفة التراثية في ترطيب الاجواء ولو قليلا، فعندما تم إنشاء شبكة انابيب لتوزيع مياه الشرب على البيوت في بعض مناطق القاهرة اوائل القرن العشرين من خلال (صنابير)، اعترض (لوبي السقايين) في المحروسة على هذا الاجراء الذي يهدد مصدر رزقهم الوحيد، وهو توصيل الماء الى البيوت معبأ في قرب من جلد الماعزمقابل أجر، لذا انتفضوا بشراسة شاهرين كل الاسلحة المشروعة وغير المشروعة، وبالطبع في المقدمة أمضى سلاح وهو سلاح الدين، السلاح الذي يشل حركة أي مغامر قد يعن له تحريك الاشياء إلى غير مواضعها الاصلية، واستطاع السقاؤون نيل دعم أتباع ثلاثة من الفقهاء الاربعة في تحريم هذا الانقلاب (التقني)، ولولا معارضة (الحنفية) لهذا التحريم وأجازتهم للوضوء والشرب من الصنبور (الذي كني باسمهم تيمناً) ويستحق أبو حنيقة الشكر الجزيل قلولاه لكنا نقضي اليوم حاجتنا في الشارع ولظل الوضع على ما هو عليه في المحروسة، فاذا كان تغيير نظام (القلل والاباريق والازيار) احتاج لهذا الصدام، فما بالنا بما هو أكبر من ذلك بكثير، واذا كانت تلك المقولة توثيقها غير كاف فلدي ما رأيته وعايشته بنفسي، فقد توليت بعد التقاعد وظيفة تخطيط نظام للتخلص من المخلفات الصلبة في احد عواصم محافظات صعيد مصر، وتم وضع آليه لجمع المخلفات من المنازل، وتجميعها في حاويات صغيرة صحية مغطاه موزعة على أحياء المدينة، تمهيدا لتجميع محتوياتها في المساء ونقلها الى مدفن صحي، ولم يمر وقت حتى فوجئت الادارة بتدمير واختفاء حاويات جمع المخلفات من معظم أحياء المدينه، وخصوصاً الاحياء الشعبية، وبالبحث تكشفت الامور، فكما سخّر لوبي السقايين الفقهاء الحنابلة وغيرهم لتحريم مياه (الحنفية)، سخّر (لوبي رعاة) الدواب الهائمة في الشوارع خطباء المساجد لمقاطعة الشركة (الاجنبية)، والحقيقة أن السبب هو أن الحاويات الصحية المغلقة حرمت الدواب الهائمة من الارتزاق ببقايا الطعام والمخلفات التي كانت تنتشر في الشوارع، وهبّ أصحاب المصالح لاستعمال نفس السلاح الذي استعمل من مئة سنه، والنتائج معروفة فشلت الشركة (التي لم تكن اجنبية) وتهيم الان قطعان الماعز والضأن في الشوارع ويتعايش البشر والدواب آمنين فما حاجتنا الى تغيير؟
يكشف المثالان عن تساؤلات عديدة مثل: هل يرغب البشر في التغيير فعلا واذا رغبوا هل هم مؤهلين للولوج الى هذه المرحلة؟ وهل سيسمح بذلك أصحاب المصالح المستفيدين من بقاء الوضع على ماهو عليه؟ ثم أن المجتمعات التي احتاجت ربع القوة الفقهية لعقيدة يعتنقها مليار من البشر فقط لتجيز الوضوء والشرب من (بدعة)، ترى كم تحتاج لتجيز ما هو أبعد من ذلك من الضلالات الكبيرة؟
ان أمما تقاوم بشراسة تغيير (المتغير)، فكيف تقبل بتغير الثابت، وإلا فليقل لي من هو أعقل مني ما الفرق بين أن تركب إمرأة في المقعد الامامي الايسر، وبين أن تجلس في اي مقعد آخر بالسيارة، وعندما تصدر المكرمة التاريخية بجواز جلوسها في المقعد الامامي الايسر، ستصاغ المعلقات وتنشد الاناشيد ويرقص الناس بالسيوف، ويدخل متخذ قرار هذا (التغيير الجذري) التاريخ من أوسع الابواب، اننا نتحدث هنا عن أنظمة تراكمت عليها رواسب الكلس لقرون طويلة، مما أكسبها تدرعات تغييرها يحتاج لمذيبات قوية، ولان حكامنا هم انتاجنا، انتاج تعليمنا وثقافتنا وعقائدنا، لذا فهو ما نستحقه وحتى لو تغيرت الاسماء فسيظل الجميع ثابتون على العهد مكبلون بذات القيود الازلية.
ان الوهم المسيطر على أصحاب نظرية التغيير واختذالها في تغيير شخص او حتى نظام بكامله، هو ممالئة للغوغاء لأن التغيير يجب ان يطول طالب التغيير اولا، تغيير أمور حياته اليومية ليشعر بآدميته المهانه ،تغيير نظام ارسال دعم الفقراء إلى جيوب الاغنياء بطريقة السلعة ذات السعرين التي تحيل الملائكة الى شياطين، تغيير نظام تعليم فاشل بكل المقاييس أفرز كتائب من الجهلة والمتطرفين يمنحوا مؤهلات (عليا) ولا يعرفون القراءة والكتابة، تغييرا نظام تأمين صحة الانسان بدلا من هذا العبث المهين لآدمية البشر في نظام فاشل قتلناه بحثا ولا فائدة، تغييرا نظام العدل الذي عفا عليه الزمن وينخر السوس في عظام المجتمع بسبب الشعور بالظلم والعدالة البطيئة، تغيير نظام الاعلام العنصري الذي يرسخ لبث الفرقة والتمييز والفرز بين شركاء وطن واحد، على اساس اللون والعرق والدين والجنس، تغيير ثقافة الخرافة والغيبيات التي لم تستطع ملئ الفراغات الهائلة في عقول الشباب الذين أصبحوا ينفثون دخان المخدرات والخنوثة والعنف في الشارع، ناهيكم عن موجات الحاد مستترة ستنفجر في وجوه شيوخ الفضائيات عما قريب.
هذه هي الآلية التي يمكن بها احداث تغيير، دونما مشاهد دراماتيكية مثل ما حدث في مجتمعات تحولت فيها عملية التغيير الى عملية تدمير، ويتخيل البعض من ذوي الخيال المضطرب أنها الحل في مجتمعات مغيبة لاتكترث سوى بالانتقام والتشفي من جكام كانوا بالامس يصفقون لهم حتى تلتهب أكفهم ويهتفون لهم حتى تنزف حناجرهم، وفي النهاية لا يسعنا سوى تكرار الشكر لأبي حنيفة قفد ستر الرجل عوراتنا وأنقذتا من لوبي السقائين أما عن لوبي الرعاه فالله المستعان.