إن هذا الحراك/ الربيع الذي عرفه العالم العربي، بدايةَ العقد الثاني من الألفية الحالية، "ملحمة" جماهيرية بامتياز، قادها الشباب، بالأساس، بعيداً عن أي تأطير سياسي أو حزبي أو إيديولوجي، وحار في وصْفها المراقبون والدارسون ومحلِّلو الشأن السياسي. وقد فاجأت الجميع، في الداخل والخارج معاً، وكان منطلقها شعبياً وسلمياً؛ مما صبَغها بلون التميُّز، لأن عنصر المفاجأة، وَحْدَه، يكاد يكون سمة الثورات جميعها؛ لأنها إذا لم تكن مفاجئة للأنظمة وللمتحكِّمين في زمام القيادة، وإذا علموا بها قَبْلاً، فإن هؤلاء سيتحركون، بأقصى سرعتهم، مستعينين بكل ما يمكنهم الاستعانة به، لإجهاضها في مهْدها قبل خروجها إلى العلن. ولذا، تكون السرية والمفاجأة أمْريْن لازميْن لأي تحرك احتجاجي يُراد له النجاح. وبالنظر إلى خصوصية الربيع العربي وزَخَمه، فقد شكّل "مدرسة" بلغ تأثيرها الآفاق، فضلاً عن تأثيرها في عموم الوطن العربي، وألهمت الشبان الغاضبين من سياسات بلدانهم الاقتصادية والاجتماعية، في أوربا وأمريكا وغيرهما؛ كما حصل في إسبانيا مؤخراً حين خرج مواطنوها للاعتصام في بعض الساحات رافعين لائحةً مطلبية على رأس نقطها إيجاد حلول عاجلة لمعضلة التشغيل التي تسببت فيها الأزمة التي عصَفت باقتصادات جل دول المعمورة. وكما حصل في الولايات المتحدة الأمريكية مع حركة "احتلوا وول ستريت".
ويرى أحد النشطاء السياسيين أن مفاجأة الربيع العربي لا تشبه مفاجآت غيره من الديناميات الثورية، بل إنه جاء أكثر فجائية، وهذا هو ملمَح الجِدّة في ثورات الشارع العربي. و"ليس ذلك بسببٍ كامن فيها، وإنما هو كامن في تغير مفهوم الزمن في عصرنا الحالي؛ إذ أصبحت الدقيقة تتمتع بقوة السحر الخارق في قلْب الموازين بفضل تطور وسائط الاتصال، وتطور تثمين الزمن بقدْره المالي والنفعي"(محمد العوني)
ولا يستسيغ بعضُهم مثل هذه المفاجأة في ثورات الربيع الجاري عندنا، مؤكِّداً أن هذه الاحتجاجات جاءت كنتيجة طبيعية لمقدمات أو لمجموعة عوامل ذاتية وموضوعية اتحدت لتفعل فِعْلها في زعزعة أركان عدد من أنظمة الاستبداد العربية. يقول عبد الحسين شعبان: "لا يمكن الحديث عن مفاجأة، كما لا يمكن الحديث عن نُبوءة، لاندلاع الثورات العربية. فقد كان الأمر تراكُماً طويلَ الأمد لحراك سياسي واجتماعي ونقابي ومِهْني، يتمظهر ثم يخبو، حتى يكاد يقترب من الانطفاء، لكنه لا ينقطع. وظل مستمراً ومتواصلاً على الرغم من الصعود والنزول، إلى أنْ حانت لحظة الانفجار المُثيرة للدهشة حَدَّ "المفاجأة"، يومَ أحرق الشاب التونسي محمد البوعزيزي نفسه في تلك المدينة النائية "سيدي بوزيد"؛ فانتقلت الشرارة، وسَرَت مثل النار في الهشيم. وكما يقول ماوتسي تونغ: يكفي شرارة واحدة لكي يشتعل السهل كله. حصلت اللحظة الثورية باتحادٍ بين العوامل الموضوعية والعوامل الذاتية، حين انتقل الخوف من المحكومين إلى الحاكم؛ فلم يعد هناك ما يُخيف الشعب بعد أن عملت آلة القتل ما عملته، بالشعب الأعزل، وعندها لم يعد الموت مُرْعِباً. في حين أصبح هذا الموت يخيف الحاكم الذي أخذ بالتراجُع خطوة بعد أخرى. وهنا اختلّت موازين القُوى لصالح المحكومين، في حين ظل الحاكم يبحث عن "ملاذ" عسى أن ينفذ بجلده".
وأيّاً كان الأمر، فإن "ما يقع اليوم (أو وقع فعلاً) في العديد من الأقطار العربية سابقٌ على كل الجهاز النظري الذي تنتظم حوله منظومة الفكر العربي، التي كانت – حتى الأمس القريب جدا – غارقة في تحليلاتها الفوقية لمسارات الشعوب، وتمفصُلات بنياتها الذهنية"؛ على حدّ تعبير عبد الحقّ لبيض .. إنه "إعصار" زَلزل عُروشاً عُمِّرت طويلاً، وعملت على تحويل كل ما تحت أيديها إلى حسابها الخاص ومَنْ يحيط بها من سَدَنة و"أزلام". وقد ذكر برنامج وثائقي أعدّته هيأة الإذاعة البريطانية، مؤخراً، لتعقُّب الأموال المنهوبة من عدد من البلدان العربية (ونشرت صحيفة "الگارديان" تقريراً عنه) أن قادة ستّةٍ من تلك البلدان، وهي مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا والعراق أيام حُكم صدام حسين، نهبوا نحو 300 بليون دولار من ثروات بلادهم على مدى الأربعة عقود الماضية! وكان بالإمكان أن تزيد هذه الأموال لتبلغ أكثر من تريليُون دولار لو استُثمِرَت بعقلانية... ولم يكن السياق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لتلك الأقطار، غداة داهمها ذلك الإعصار، بالمستقرّ ولا بالهادئ ألبتة، بل كان يغلي كما يغلي الماء في المِرْجل عند درجة حرارة مرتفعة جدّا. وهذا ما سرَّع وتيرة ذلك الإعصار، وعجّلت به قبل ذلك!
لقد خرج مواطنو بلدان الربيع العربي (وأقصد بها، تحديداً، تونس ومصر وليبيا واليَمَن وسوريا)، إلى الشوارع والساحات والفضاءات العمومية، بعدما أعْياهم الصبر والتحمُّل، للتعبير سلمياً عن مطالبهم المشروعة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً. بيد أن أنظمة الحكم في تلك الأقطار، التي كانت قد استطابت العيش الرغيد، وضمنت الاستقرار "المظهري" على الأقل، استشعرت بعضَ الغرابة في هكذا سلوك احتجاجي، في وقت لم تكن تتوانى فيه عن تنويم شعوبها، وإغراقها في الوعود، ونحو ذلك من الأحلام المخملية، التي خالت – ربما – أن شعوبها تلك قد صدّقتها تصديقاً لا يقبل الشك! وأمام تمادي المحتجّين في حَرَاكهم، الذي اتضح أن إيقاعه وزخمه يتزايدان يوماً بعد يوم، اضطر حُكامهم إلى الإطلالة عليهم، عبر بوّابة الإعلام الرسمي المدجّن بالأساس، ومنهم من اصطنع الجرأة فخرج إلى الساحات العامة، كما المحتجون، لمخاطبة الشعب، أو الأنصار بالأحرى، وتوجيه الوعيد إلى الشباب الثائر، الذي لم يسلم من تهم ثقيلة؛ من قبيل الإدمان على تعاطي العقاقير وحبوب الهلوسة وغيرها من المخدرات السامة. لقد حملت تلك الإطلالات، في بداية الأمر، تهديدات كثيرة مُرْفقة بأوصاف غاية في الإذاية لأولئك المحتجين الشرفاء، الذين اضطرهم اكتواؤهم المستمر بلفحات الفساد المستشري إلى التظاهر؛ من مثل "الإرهابيين"، و"الجُرذان". ولكن تلك التهديدات، بدل أن تتوالى وتتحول إلى أفعال عقابية، سارت في الاتجاه المعاكس وَفق سيناريو مثير فعلاً؛ إذ مع استمرار الثورة، لم تجد رؤوس النظام، في بلدان الربيع العربي، بُدّا من تلطيف لهجتها، والتعامل بواقعية أكثر مع الحراك الماثل أمامهم؛ فانتقلوا من التهديد والتعنيف إلى التعبير عن تفهّمهم لمطالب المحتجين المشروعة، وإلى تقديم تنازلات تلو التنازلات، ولكن ذلك لم يُجْدِ نفعاً لمجيئه في وقت متأخر لم يعُد فيه الشعب الثائر يطالب بالإصلاحات، بل رفع سقف مطالبه إلى إسقاط النظام بتمامه. ولم يشذ عن هذا السيناربو التنازلي سوى معمر القذافي الذي كان – مدفوعاً بجُنون العظمة – أشذّ تعنتاً وإصراراً على قمع ثورة أبناء ليبيا التوّاقين إلى التحرر من قبضته الحديدية، التي عانوا من ويلاتها مدةً تنيف عن الأربعين سنة. وفي الوقت الذي اختار زين العابدين بنعلي – أو أجبِر (الأمْران سيان) – الفرار من تونس – أيام فورة ثورتها – إلى العربية السعودية، أرغم محمد حسني مبارك على التخلي عن كرسي رئاسة مصر منصّباً نائبَه الراحل عمر سليمان لتولِّيه إلى حين عودة الهدوء إلى أرض الكنانة، وإجراء انتخابات رئاسية، ولكن الشعب الثائر عبّر عن رفضه ذلك التنصيب مطلقاً، ليتحول زمام الأمور، وإدارة شؤون الدولة، التي أمسَت تمر بمرحلة فراغ في هذا الجانب، إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بقيادة المشير محمد حسين طنطاوي، في انتظار اختيار رئيس مدني لمصر بانتخابات حُرّة نزيهة. وقدِّم مبارك ونجْلاه ومسؤولون كبار في نظامه إلى المحاكمة، فقال القضاء فيهم كلمته كما تابعْنا ذلك، في وقت سابق، على شاشات التلفزيون. على حين اضطر الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، بعد مدة غير يسيرة من التلكؤ والمراوغات، إلى قبول المبادرة الخليجية التي قدّمت، وحظيت بتأييد غربي وعربي، لحلّ الأزمة الدائرة في اليمن؛ فتخلى – هو الآخر – عن كرسي الرئاسة. ويبدو أن بشار الأسد ما يزال متمسكاً بخيط من "حبل أمل" واهٍ، في معركته الخاسرة أمام الشعب السوري الثائر في كل مكان من هذا القطر الشامي، معوّلا – في ذلك – على دعم بعض القُوى العالمية الكبرى وعلى حليفه الاستراتيجي في المنطقة (إيران)، ومرحّباً بأي مبادرة من شأنها إنهاء الأزمة السورية، ولكن دون إبداء أي استعداد، فيما يظهر، لترْك السلطة؛ وآخرها تلك التي تقدمت بها طهران بمناسبة استضافتها القمة الأخيرة لدول عدم الانحياز، والتي تزامنت مع تكليف بان كي مون السيد الأخضر الإبراهيمي، خلفاً لكوفي عنان؛ الأمين العام السابق للأمم المتحدة، بالتدخل، باسم المنتظَم الأممي، لإيجاد تسوية سلمية للأزمة الدائرة رَحَاها، بعنف، في سوريا، ولتقريب وجهات نظر الأطراف المتقاتلة؛ إيماناً منه بجدوى إرجاع حل تلك الأزمة إلى الحضن العربي، في وقتٍ تفكر فيه بعض الجهات بالتوجه إلى الجمعية العامة لاستصدار قرار أممي، تحت البند السابع لميثاق الأمم المتحدة، بشأن إقامة منطقة حظْر جوي فوق الأراضي السورية، خصوصاً بعد أن انتقل الجيش السوري النظامي إلى استخدام الطيران الحربي لقصْف المدن والأرياف في كثير من المناطق، ولاسيما في الشمال، قرب الحدود التركية، لتأمين وصول الإمدادات إلى الثوار المسلحين، المُنْضَوين تحت لواء "الجيش السوري الحر"، بقيادة العقيد رياض الأسْعَد.
تكاد تنحصر الأسباب الرئيسة لاندلاع ثورات الربيع العربي في سيادة الاستبداد والقهر والظلم، وغياب العدالة الاجتماعية والتوزيع المُنْصِف للثروات الوطنية، واستشراء الفساد والبيروقراطية والزبونية في الإدارة والقضاء وغيرهما من القطاعات، وتعاظُم معدلات البطالة في أوساط الشباب خرّيجي المعاهد والجامعات، والتطاول على حقوق المواطنين وحرياتهم وكرامتهم. ولا يمكن، بأي حال، إغفال أثر الأزمة الاقتصادية العالمية، التي انطلقت من الغرب أوائلَ 2008، على الدول بأسْرها تقريباً، بما في ذلك بلدان الربيع العربي؛ بحيث أسهمت في تفاقم مشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية، من بطالة وفقر وهشاشة وغيرها. الأمر الذي رشّح الوضع في تلك البلدان للانفجار في صورة غليان جماهيري خطير، مطلبُه الأساس كان – وما يزال – الديمقراطية والحرية والكرامة والعدل والشغل.
ولم تستبعد بعض الأبحاث الاستراتيجية أن تكون الشرارة التي أشْعلت فتيل الربيع العربي هي تسريبات موقع ويكيليكس (Wikileaks) – وهو موقعٌ ذو شهرة عالمية أسسه جوليان أسانج (J. Assange) الذي تطالب بريطانيا، اليوم، بتسليمه لسطاتها قصد محاكمته – التي كشفت للعلن جملة من خبايا الأنظمة العربية الشمولية، ومن مناوراتها، ومن الفساد المستحْكم فيها، ومن سلوكيات قادة هذه الأنظمة وكبار مسؤوليها. وممّا نُسِب إلى هذا الشابّ ما يلي: "أنا الذي أعطى إشارة إطلاق الثورات العربية"! فهذه هي البواعث التي أفضت إلى قيام تلك الدينامية الاحتجاجية الشعبية في بلدان الربيع العربي، التي لم يكن لدى أبنائها خيارٌ سوى الثورة على الاستبداد والفساد وغيرهما ممّا كان ينخر أجساد أوطانهم، في ظل أنظمة حكمٍ ديكتاتورية سعت إلى تحويل تلك البلدان إلى "جمهوملكيات" بمختلِف الطرق؛ بما في ذلك التطاول على نصوص دساتيرها لتحوير بعض بنودها بما يضْمَن لهم "الخلود" في منصب الحاكم، وتوريثه – بعد مماتهم – لأبنائهم!
ولمّا كان هذا شأن تلك الأنظمة، التي لم تبْنِ شرعيتها على قواعد صلبة، تستمدّ قوتها من الإرادة الشعبية الحرة، ولم تولِ شعوبها ما تستحقه من اعتبار واهتمام، بقدر ما أحاطت بها شرذمة من الانتهازيين والوصوليين، جعلتها حليفتها في اقتسام مقدّرات البلاد وخيراتها... كان بنيانها أشدّ هشاشة، في العمق، رغم ما كان يتبدّى عليه، ظاهراً، من منَعة وتماسك، بل كان أوْهى من بيت العنكبوت! وينمّ عن ذلك السرعة "الغريبة" التي انهارت بها رؤوس تلك الأنظمة؛ مثلما رأينا – مثلاً – في تونس مهْد الثورات العربية الحالية.
وليست هذه الهشاشة وليدة اليوم، بل سبقتها مقدمات وأزمات تعود إلى عقود مضت، وهي أزمات واختلالات جوهرية لم تفلح أنظمة الاستبداد العربي في تجاوزها، رغم محاولاتها الجبّارة. يقول برهان غليون موضحاً هذه الفكرة: "ليس هناك شكّ في أن التسلطية العربية دخلت في أزمة عميقة منذ الثمانينيات من القرن الماضي، وليس لديها أي أمل في الخروج منها. ولم يقدّمْ لها تخصيص الاقتصاد، ولا التقارب مع إسرائيل، أو الالتصاق بسياسات الدول الصناعية الكبرى، أي فرص فعلية لتجاوزها. ولا تزال نتائج استمرار هذه الأزمة البنيوية تنعكس على شكل عجز وطني، وإفقار متزايد للمجتمعات، وتفاوت مُطّرد في توزيع الثروة، ونموّ متواتر في مشاعر الإحباط والضيق واليأس عند عامة الناس. ولا تزال تكاليف إعادة إنتاج النظم التسلطية، المادية والمعنوية، في تزايد مستمرّ يمتصّ جزءاً كبيراً من الثروة الوطنية، على حساب تأهيل الأفراد وضمان مستقبلهم".
إن الربيع العربي الجاري لم يجعل هدفه الأسمى، ومنتهى ثوراته، إسقاط رؤوس الأنظمة الحاكمة فقط، بل نادى بإسقاط هذه الأنظمة كلها؛ لإدراكه اليقيني بأن من شأن الإبقاء على هذه الأخيرة، بكامل أجهزتها وكوادرها، أن تُنبت في المستقبل، القريب أو البعيد، قادة مُفسدين آخرين قد يكونون أشدّ من سابقيهم! وجعل الربيع العربي، كذلك، من القضاء على الأنظمة التسلطية نقطة البدْء في مسلسل طويل من الإصلاحات البنيوية العميقة، وفي مجابَهة التحديات المُلحّة المفروضة من الداخل ومن الخارج معاً، وفي إقامة صُروح الديمقراطية بكل ما تقتضيه من إجراءات. يقول عامر صالح: "إن الثورات العربية اليومَ ليست مَعْنية فقط بإسقاط النُّظُم الاستبدادية. فتلك خطوة في مسيرة الألف ميل كما يُقال، ولكنه ليس هدفاً لذاته. وبالتالي، تشكل التحديات والمهمّات الداخلية والخارجية، والقدرة على إيجاد الحُلول لها من أبرز المُعْضلات التي تقف أمام الثورة ونُظمها الجديدة القادمة، ووضْعها على طريق المستقبل الذي ينشده الجميع. ولعل أبرز هذه المهامّ والتحديات هي: تحديد الهُوية والانتماء فيما يتعلق بالدولة وطبيعتها ومرجعيتها (دولة مَدَنية – المرجعية الإسلامية – النظام العَلْماني...). ويشكل بناء نظم تؤمن بالتعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة، من خلال ممارسة الديمقراطية الحقّ عبر صناديق الاقتراع، إلى جانب الإيمان بحرية التعددية الدينية والمذهبية والقومية والثقافية والاجتماعية للأقلّيات وحمايتها، هاجساً مشروعاً في تأمين دولة المواطَنَة والوطن للجميع".
ولعل أهمّ دلالة يمكن استقاؤها من حراك الربيع العربي أنّ إرادة الشعوب التوّاقة إلى الحرية، والرافضة للاستبداد والظلم، لا تُقهَر، وإنْ وُوجهت بأعْتى أصناف السلاح، وكُبّدت خسائر بالغة في الأرواح والممتلكات؛ لأنها تدرك أن الحرية والكرامة لا شيء يعْدلهما، وأنهما كنْزان عزيزان حقيقٌ أن تُبذل لأجلهما الأنفُس، وأنهما زينة الحياة الحقيقية. وكشف ذلك الحراك، أيضاً، أن الثورة نَتاج حتمي لواقعٍ سمتُه الأبرز الضغط والفساد والقهر والركود وغياب المساواة؛ كذاك الذي كانت تعيشه بلدان الربيع المتحدَّث عنها في هذه المَقالة. وتنضاف إلى الدلالتيْن المتقدمتين دلالة ثالثة يمكننا اسْتشفافها من هذا الربيع، وهي نجاعة التحرك السلمي، الذي ميّز أغلب الثورات العربية (وفي مقدمتها الثورة التونسية التي وُصفت، لسِلْميتها التامة، بـ"ثورة الياسمين")، وجماليته المُبْهرة كذلك. فبهذه الميزة حازت تلك الثوراتُ تأييداً واسعاً، داخلياً وخارجياً، ونالت إعجاب العالم كلِّه، وضمنت خسائر وضحايا أقل مقارنةً بثورتيْ ليبيا وسوريا، اللتين استَعمل فيهما الثوار العنف المضادّ والسلاح، فجاءت الحصيلة ثقيلة جدا في البشر كما في البنى التحتية؛ لأن الثورة، باستخدامها السلاح، تجعل النظام يسوِّغ عنفَه وتقتيله بمواجَهة حَمَلَة السلاح الذين لا يتورّع في رمْيهم بأوصاف الإرهاب والتخريب والاعتداء و"القاعديين" (نسبة إلى التنظيم الأفغاني المعروف)! وبهذا، تعدّ سِلمية الربيع العربي من أبرز أسباب نجاح الثورة، بسرعة وبكُلفة أقل، في البلاد التي لم تلجأ إلى حمْل السلاح في وجْه النظام وأجهزته الأمنية، وإنْ توفر في بعضها للثوار؛ كما في اليمن الذي تصنَّف الثورة التي جرت فيه ضمن الثورات المتفرِّدة من نوعها، لذلك السبب تحديداً. يقول عبد الإله بلقزيز عن سلمية الحراك العربي بوصْفها أحدَ العوامل المُساعِدة على نجاح التغيير في البلاد المُشار إليها آنفاً: "لم تفرض الثورات العربية نفسَها، في بداية أمرها، بقوة شرعيتها وشرعية مطلبها في تغيير نظام الاستبداد والفساد فحسْب، وإنما هي فرضت نفسها – أيضاً – ببلاغة أدائها المَدَني المتحضِّر، ورأسمالها الأخلاقي السلمي. فهي ما استُدْرجت إلى العنف على الرغم من سعْي نظاميْ مبارك وبنعلي لتوريط جمهورها في عنف يبرِّر للسلطة عنفها. ذُهل الجميع بقدرة ملايين الناس على إلحاق هزيمة نكراء بنظامين عريقيْن في القمع، من دون إراقة قطرة دم. الدم الوحيدُ الذي أهرِقَ كان دماً متظاهراً لشباب أعْزل، إلاّ من سلاح الإرادة والعزم والتصميم على بُلوغ هدف التغيير".
إن المنْحى المدني السلمي الذي تَخِذتْه أكثر انتفاضات الشارع العربي، اليوم، مؤشِّر واضح على تغلغل التيار الحَداثي في نسيجنا المجتمعي سواء على مستوى البنيات المادية أو الذهنية؛ كما يؤكد الباحث عصام العدوني، وإنْ كانت تلك الحداثة الوافدة أكثر تأثيراً في الحياة السياسية من خلال تركيزها على دمقرطة الأنظمة الحاكمة، وإدخال تعديلات على دساتيرها القائمة، ومحاربة الفساد واقتصاد الريع والظلم الاجتماعي. مقارنة بالجانب الفكري الذي يظل في حاجة إلى رجّات تؤهّله لأنْ يكون في مستوى الحدث (تغيير العقليات والسلوكات). ويُرْجع بعضهم هذه الأولوية المُعْطاة لما هو سياسي في سياق هذه الصيرورة التحديثية إلى كونه المدخلَ الأكثر مِلْحاحية واستعجالية، والأحْوَج إلى الإصلاح والتغيير من غيره من المجالات، وإلى كونه الأساسَ الصلب لأي عملية تغييرية منشودة. ويعزو بعضهم الآخر تلك الأسبقية إلى أن وتيرة التحديث السياسي والاقتصادي تكون أسْرع من تغيير البنيات الذهنية للمجتمع (مجال التعليم – منظومة القيم...). إلا أن العدوني، وأمثاله، يلحّون على أن الحداثة المطلوبة، والقادرة على ضمان نجاح الحراك العربي الجاري، ينبغي أن تكون شاملة، تمَسُّ الجوانبَ السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية كلها، في الآن نفسِه. يقول: "من جهتنا، دون التقليل من قيمة الطرْح الذي يعطي الأولوية للسياسي، فإننا نرى أن الحداثة، باعتبارها البنية الفكرية لعملية التحول الديمقراطي، لا يمكن أن تكون جُزئية. فهي لا تخضع لمنطق التقطيع والانتقاء، ومنطق ترتيب الأولويات. فإما أن تكون أو لا تكون. ينتجُ عن هذا القول أن الحداثة التي تُنشد، من خلال العمل السياسي والاقتصادي والثقافي والفكري، يجب أن تكون شاملة، وتمس كافة المجالات في دفعة واحدة".
إن الحَرَاك الشعبي الحالي، الذي أطاح بعدد من أنظمة الاستبداد العربية مؤخراً، ليس بالأمر الغريب في تاريخ الأمم والشعوب، بقدْر ما هو حلْقة أخرى جاءت امتداداً لتحركات ثورية عرفتها مختلِف جهات المعمورة. إنه، إذاً، جزءٌ من قانون عامّ للتطور التاريخي العالمي. فقد شهدت أوربا ديناميات ثورية، سالت خلالها أنهار من الدم، أسْفرت عن إسقاط جملة من الديكتاتوريات، والانتقال بشعوبها إلى طور الديمقراطية والحرية. ومن نموذجات ذلك القضاء على نظام سالازار المُستبِدّ في البرتغال، في أواسط السبعينيات، والتخلص من ديكتاتورية فرانكو في الجارة الشمالية، وكذلك في اليونان خلالَ السبعينيات. وقد وُصف هذا الحراك السياسي في أوربا الغربية بـ"موجة الديمقراطية الأولى"، في العصر الحديث. وحصلت الموجة الثانية للتغيير، في الثمانينيات، في أوربا الشرقية التي شهدت تحولاً سلمياً للسلطة في بولونيا والمَجَر، وانتقالاً سَلِساً إلى الديمقراطية وقيمها. وحققت ألمانيا وحدتها الفيدرالية، نهائياً، مع سقوط جدار برلين. وقد امتدّت رياح التغيير الديمقراطي هذه إلى دول أمريكا الجنوبية التي باشرت عدة إصلاحات جوهرية، مدعومةً بالكنيسة، في إطار ما عُرف بـ"لاهوت التحرير". وذلك قبل أن تقتحم بلاد الربيع العربي التي تفاعلت مع نسماتها، فنفضت عنها غبار الخُنُوع والذلّ والاستكانة، فاتحةً أفقاً جديداً في تاريخها المعاصر يَعِدُ بالكثير والكثير.
لقد وضع الربيع العربي نُصْب عينيْه رهانات وأهدافاً، سعى، بكل وسائله المُتاحة، إلى تحقيقها عَمَلياً. وفي طليعتها إسقاطُ أنظمة الفساد والاستبداد، واجتثاثها من جذورها، من مُنطلق أنها مصدرُ كل مآسي الشعب العربي وانكساراته، وكل ما يكابده من فقر وبؤس وهشاشة وإهانات. والعملُ على بناء أنظمة ديمقراطية تعددية حديثة تحترم الإنسان وحقوقه وحرياته، وتستجيب لمتطلباته وانتظاراته الحياتية، وتخلق وضعيات جديدة، سياسياً واقتصادياً وثقافياً، تضْمَنُ تحقيق مبدإ المساواة بين جميع مكوّنات المجتمع الواحد. وقد أجْمَل الأستاذ امحمد طلاّبي، في محاضرة ألقاها مؤخراً بالمركب الثقافي لاكورنيش بالناظور، مقاصد الربيع العربي الكبرى في أربعة، هي: إنتاج السلطة وإعادة توزيعها – إنتاج الثروة وإعادة توزيعها – إنتاج القيم المركزية وإعادة توزيعها – إنتاج المفاهيم الفكرية وإعادة توزيعها.
ومن بين رهانات التجارب الثورية في العالم كله يلوح مطلب التطهير بإلحاحٍ، بوصفه إجراءً ناجعاً في نجاح أي تجربة احتجاجية، ومسلكاً ضرورياً لمُباشَرَة عملية الانتقال نحو الديمقراطية. فقد ثبت، تاريخياً، أن "الثورات التي تعجز عن ممارسة التطهير هي ثورات فاشلة، تتلاشى آثارها سريعاً بالتزامُن مع إعادة بناء النظام القديم. وهذا يعني أن التطهير ليس ممارسة انتقامية أو تَرَفاً ثورياً، بل هو ضرورة لازمة لإنْجاح الثورة، بل هو الثورة نفسها. وإنما يأتي الخللُ عندما تسود القناعة – لدى الثوار – وبالتبعية لدى جُموع الشعب – بأنّ العمل الثوري ينتهي مع سُقوط رأس النظام." (أحمد فهمي) وتمر عملية التطهير؛ تطهيرِ البلد المَعْنيّ بالثورة من رأس النظام وحاشيته، عبر ثلاث مراحل. فأما الأولى فهي مرحلة إسقاط ذلك الرأس ووضْع حدٍّ له بقتله أو بإيداعه السجن أو بأي إجراء آخر يُنهي حُكمه وتحكُّمه في دواليب الدولة. وأما الثانية فتتجلى في التخلص من بقايا النظام السابق وأزلامه ومُعاوِنيه الذين تورّطوا في أعمال فساد واستغلال أو إساءة إلى الثورة بأي صورة من صُور الإساءة والإذاية. وأما آخرُ مراحل ذلك التطهير فهي المتعلقة بترسيخ النظام الجديد، المُنتخَب ديمقراطياً، لإدارة أمور الدولة وَفق رؤية حداثية تشارُكية مُغايرة. ولتنفيذ سياسةِ تطهيرٍ فاعلة طريقان حسب الباحث المصري أحمد فهمي، هما: استخدام صلاحية العَزل والتعيين المخوّلة للرئيس المنتخب دُستورياً، وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة (التغيير الهيكلي). وأكّد الباحث، في أعقاب ذلك، أن "المكاسب السياسية التي تتحقق إثر النجاح الأولي للثورة هي مَكاسب معلّقة، مؤقتة، لا يمكن لها أن تصبح ثابتة وراسخة إلا بعد إتمام عملية التطهير. فإذا تعرقل التطهير، أو تأخر، فإن الثورة تعود إلى الخلْف، والمكاسب تتآكل، وتعود القوى الثورية إلى المربَّع الأول".