المكان شفرة الوجود، والسر العميق الذي يؤنسن الجسد واللغة، ويطيح بخطيئة العري الاولي للكائن ووحشته، مثلما هو السيرورة الاولى لمعنى التحول الذي اصاب الكائن بلعنة اكتشاف عورته آدميته وارضيته وانغماره في صيانة وجوده واكتشاف حريته، اذ كرس هذا الاكتشاف شرط الانسنة في هذا المكان، وضمن سياقا وجوديا لرمزياته ودلالاته. فالتحول الذي صنعه الانسان لذاته داخل الامكنة كان عملية تاريخية شرسة، ولعبة استيهام لامتناهية، انشدّ اليها بحثا عن معنى حسي لوجوده، وبحثا عن سرائر كينونته المؤنسنة، اذ هو الكائن الهابط من الفردوس اللامرئي الى الارض المرئية، والذي اصطنع لهذا التحول/ الهبوط مسارات سرية وصراعات دامية، كانت فيها فكرة المكان هي الفكرة التعويضية الصيانية الخالدة، تلك التي اجترح من خلالها الكائن لذة الحماية والسيطرة والامتلاك واكتشاف الوجود والموت، مثلما هو اكتشاف الاشياء التي بات يبادلها شفرات المعرفة والقوة والخصب، والتي تحولت في سياق السفر الانساني- من الجنة الى الارض- الى لذة اكتشاف الجسد ذاته، اذ يصاب المكان المؤنسن بكل استيهامات الجسد والتي لا يمكن صيانتها الاّ من خلال صيانة المكان، وصناعة الوعي البعدي للكائن ازاء ذلك المكان الذي يتعرض مثل الانسان ايضا الى ثنائية الوجود والمحو. لكن المكان يبحث عن فكرة الخلود من البحث عن الأنسنة من خلال الاخر والعمل والجنس، حدّ تجوهره في الكينونة بوصفه حاملا لفرادة هذا الكائن الذي يكتشف ويرى ويتجاوز وسط عمليات تاريخية طاردة مايمكن ان تصنعه الكثير من الحشود التي تنهار مع انهيار امكنتها/ مدنها/ قلاعها. هذا الانهيار الذي ينتهي مع انهيار الوعي بها.
محمد خضير يضعنا عند سرائر مكان الاثير، او جنته التعويضية/ الاشباعية بوصف هذا المكان وعيا بالوجود، واكتشافا للذة كائنه السردي الذي يمنحه احساسا متعاليا، احساسا ينخرط في لعبة متوالية من التمثلات الشعورية، التمثلات التي تمنح الكائن قوة وضعفا، صيانة وتخريبا، اثرا ومحوا، واحسب ان هذه التمثلات هي التي وسمت مكان محمد خضير وجودا متخيلا، وجودا يستعيده من التاريخ والاثر والنصوص والكشوفات، هو قد يشبه امكنة كالفينو، او امكنة بورخس المسكونة بالتفاصيل، لكنه ايضا مكسو بنصوص ذات شفرات وحيوات قد لاتصلح للقراءة العمومية، اذ تبدو وكأنها بعيدة، ومكنوزة ومشحونة ايضا بشفرات وطلاسم يعرف الكثير من سرائرها الكائن محمد خضير، الكائن المأخوذ بلعبة الكشف والبحث والسفر الداخلي في امكنته الغائبة والمطرودة، لكنها المؤنسنة.
المكان البصري الذي يخص محمد خضير، ليس بالضرورة هو المكان التاريخي الذي يعرفه الكثيرون، هو ايضا المكان اللاتاريخي، المثيولوجي/ السحري وغير المباح للمدونات وحكايات الرحالة والعسكر والغزاة، وهذا التوصيف يمنحه نوعا من الخصوصية التي تهبه توصيفا داخليا، اذ هو المكان الذي يضج كثيرا بحيوات الهامش، حيوات اليوميات الغائبة عن التدوين، حيث المكان الذي لاينتمي الاّ لكائنه الرائي، الكائن الذي يقتفي عبره استعاراته العالية سيرة المدينة بوصفها نصا ووجودا، ووعيا بالتحول الذي يصيب المكان، اذ يمارس كائن هذه المدينة/ المكان شغف اسفاره في تفاصيلها المخبوءة تحت جلد سميك من السرديات الكبرى، وحتى الابواب التي لاتفضي الى مدينة اخرى.
اقتفاء اثر المدينة/ المكان هو اقتفاء قدري، اقتفاء لسيرة باذخة يرويها الكائن الرائي، مثلما يرويها رواة مدهشون واقعيون وفنطازيون وسحرة- الجاحظ، الاصمعي، الحسن بن الهيثم الحسن البصري، واصل بن عطاء، السندباد، وحتى شهرزاد التي تبحث عن صيانة سحرية لجسدها الايروسي من خلال ماتصنعه من لغة مضادة للسلطة والسياف، والتدوين والسجن .. هذا الاقتفاء يتحول عند «بصرياثا» محمد خضير الى لعبة استيهام باذخة وعميقة لمدينة اشباعية، مدينة ايروسية تنقذ كائنها من موته الرمزي، عبر ماتصنعه من حياة ومدونات، وعبر ماتستعيده من قوة مسكونة بالتدوين. لذا يجد محمد خضير نفسه امام مدينة مفتوحة، مدينة تخصه، لايمكن احتيازها من كل القوى الغامضة والجماعات التي تلوذ دائما بشهوة التاريخ السلطة والمنبر والبطل والمقدس.
بصرياثا ليس مدينة متخفية خلف اثرها، او اثرا يبحث عن وجود ايقوني مثل الكهوف او القلاع او الكنائس او المساجد، انها مدينة سردية، مدينة بدء دائما، مدينة، اسفار حاشدة بالحضور الغياب والهروب، تصطنع لنفسها متخيلا مفتوحا قابلا للتحول كلما يجسّه سرائره المدونون، اذ هي مدينة نصوص مفتوحة، مدينة لها رواتها من كائنات الهامش، اكثر من رواتها الذين يساكنون السلطة والعسكر والفقهاء. واحسب ان قراءة محمد خضير وكشوفاته لهذه المدينة/ المكان تنطلق من تلصصه على حيوات اولئك الرواة، ومن رصده لمدوناتهم التي لاتحفظ في الخزائن، بل تحفظ في شقوق الامكنة السرية، ويوميات الناس الذي يراقبون رعب الطغاة والفقهاء والعسكر والغزاة وهم يصنعون لهم روايات ومتاحف ورواة معروفين.
النوع الكتابي:
ثيمة المكان تعبر في كتابات محمد خضير فكرة النوع الكتابي المعروف، اذ لم تعد قرينة بشرطيّ المألوف والمختلف في كتابة الرواية او القصة، اللذين يضعان المكان في مركّب سردي تتابعي او تزامني او تداخلي، يمكن يمنح تلك الثيمة دلالات استعادية بالكامل على طريقة جيمس جويس في عوليس او فرجينيا وولف في تداعياتها، او قد يمنحها تكرارا موحيا بدلالاته التي تنظر للمكان بوصفه اثرا كما عند وليم فوكنر في الصخب والعنف، وهذه الكتابة عند محمد خضير تنطلق من مستوى الرؤية، هذا المستوى الذي يتجاوز فيه الكاتب (الارض الميرية(التي تطوّق المدوّن والموظف والكاتب القديم، باتجاه السكنى في ارض مفتوحة، تشتبك فيها الاجناسات النصوصية مع بعضها، وتصبح الكتابة فيها الاقرب الى رؤية الكاتب القلقة، الكاتب الذي يضيق بالاسيجة والاقنعة والتاريخ، والذي ينفتح على فكرة الابصار البورخسي، الابصار العميق الشره لمكنونات الوجود وسرائره في الامكنة الغائبة والحاضرةـ لكنها المؤنسنة، والباعثة على وجود متعال، وجود يمنح المكان وعلائقه سمات اكثر فاعلية واكثر تعبيرية في السياق السردي، والسرد هنا مادة نصوصية مفتوحة ومتخيلة بات محمد خضير يضعها في اشكال ومستويات بنائية تتزاوج فيها البنية الروائية مع البنية التشكيلية، والحكي مع السيرة، وبقصدية ظاهراتية يكشف من خلالها عن تشكلات المكان، المكان اللامركزي واللابوي، انه المكان الانساني المقصي، والهامشي، المكان البسيط واليومي، والعابر احيانا في ذاكرة الاخرين، لكنه الساقط عن مدوناتهم. هذا التلصص على تلك الامكنة، يضعها الكاتب ايضا ضمن لعبة قراءته القاسية، اللعبة التي تتحول الى شهوة دافقة، مثلما تتحول الى (كراسة) ايضا، كراسة او كشكولا سريا لتدوين الاشياء العابرة، بدءا من القراءات وما يتساقط عنها، وصولا الى الكشوفات التي يصمم لها الكاتب اشتغالاته الواعية، تلك التي تشيء بمهارته وخصوصيته في البحث عن معنى اخر للكتابة، وربما عن توصيف اخر للكتابة.. ولعل كتابته عن فضاء (الرؤيا) وتوظيفه لدلالاتها في اعادة قراءة المكان (البرج، المكتبة، المدينة، الساحة، اليوميات) وكذلك كتابته في (كراسة كانون) وما تمثله اشتغالاته فيها من توصيفات، ومستويات بنائية اثارت حولها جدلا وشكوكا، خاصة توصيفات النوع الكتابي، النوع الذي تكرس في الذاكرة وفي المشهد والاستعمال.
محمد خضير في هذا السياق أخضع وظيفة الكاتب الى توصيف اخر، وأخضع فكرة المكان الى معنى اخر، اذ اعطى لهذا الخضوع- الخضوع الاستعادي- معنى مضادا وعميقا في استكناه التجاوز في النوع الكتابي، خاصة في تجاوز التوصيف بوصفه جغرافيا، الى التوصيف بوصفه كشوفا للذات المؤنسنة، تلك التي تبيح التجاوز على المعنى ومحمولاته، بدءا من محمول الالفة الى النقائض، ومحمول التدوين الى التمثّل، وانتهاء بمحمول التتابع الى محمول التوازي، حيث التماهي مع محمول المكان الواهب، والمكان الذي يتحول، والمكان الذي يؤنسنه الكاتب عبر استمراء لعبة الكشف اللامتناهي..