يكتب الباحث المغربي المرموق عبر تأملاته النقدية لمقامات الزمخشري وقراءته المغايرة لما طرحه حولها النقد العربي الحديث عملا يقترب كثيرا من المنطقة التي انشغل بها إدوار سعيد في آخر كتبه (أسلوب المراحل المتأخرة) لدي الموسيقيين والكتاب، وكيف أنه يختلف عن أسلوبهم الذي رسخوه من قبل، عند الزمخشري.

مقامات الزمخشري بين الرحابة والقيد

محمد أنقار

ولد أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمي الزمخشري المعروف بـ"جار الله" سنة 467 للهجرة (1074م) وتوفي سنة 538 (1143م). وشاءت ظروف ذاتية وموضوعية أن يكتب مقاماته وهو شيخ. كان الرجل قد احتك وجرب، وخالط واستخلص، وانفتح واعتكف، ثم انتهى به المطاف إلى أن وقف عليه في المنام هاجس منذر أوحى إليه بكتابة المقامات فلبى النداء. والذي ندبه إلى إنشائها كما ورد في مقدمة شرحه للمقامات، أنه سمع من يقول له في بعض إغفاءات الفجر: «يا أبا القاسم أجلٌ مكتوب وأملٌ مكذوب» قال: «فهب من إغفاءته تلك مشخوصاً به مما هاله من ذلك وروّعه. ونفَّر طائرَه وفزَّعه. وضم إلى هذه الكلمات ما ارتفعت به مقامةً. وآنسها بأخواتٍ قلائل ثم قَطَع لمراجعة الغفلة عن الحقائق وعادةِ الذهول عن الجد بالهزل فلما أصيب في مستهل شهر الله الأصم [رجب] في سنة ثنيتي عشرة بعد الخمسمائة بالمرْضة الناهكة التي سماها "المنذرة" كانت سببَ إنابته وفيئته. وتغيرِ حاله وهيئته. وأخذِه على نفسه الميثاقَ لله إن منَّ الله عليه بالصحة أنْ لا يطأ بأخمصه عتبة السلطان ولا واصل بخدمة السلطان أذياله. وأن يربأ بنفسه ولسانه عن قرض الشعر فيهم». مقدمة شرح مقامات الزمخشري، ص8.

تتجلى دلالة ذلك التاريخ في كون الزمخشري كتب مقاماته وقد تجاوز الخمسين من عمره. كما تشير إلى أنه ألف مقاماته في حياة الحريري (446-516هـ) صاحب المقامات التي كان جارُ الله نفسه أشهر من قرظها في بيتيه الذائع الصيت:

 أقسم بالله وآياته  *  ومَشعَر الحج وميقاته

 إن الحريري حري  *  أن تكتب بالتبر مقاماته

ودلالة التاريخ كذلك أنه كتبها والدولة العباسية في قمة تمزقها، وقد تشتتت إلى دويلات كانت دويلة السلجوقيين إحداها. ويفهم من مقدمة الكتاب أنه أهداه إلى أمير مكة أثناء مجاورته للحرم الشريف. قال: «اسأل الله أن يفعم لك سجال النعم، ويعينك على إفادة أهل الحرم. وإفادة الوفاد من أقاصي البلاد. ويكتبك ببركة هذا البيت العتيق في زمرة العتقاء من النار». وأما شرح المقامات فيُرجح أنه ألفه بعدما فرغ من تأليف كتاب "الكشاف عن حقائق غوامض التنـزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل" سنة 528هـ.

 في تلك الأجواء المتشابكة نضحت مقاماتُ الزمخشري بما يمكن تسميته ببلاغة الشيوخ بالنظر إلى عمقها وهدوء إيقاعها. فقد وعظ جارُ الله وأمعن في الوعظ. بل إن الوعظ تضخم عنده إلى درجة كاد أن يصبح وحده غرضاً قائماً بذاته. لكن الزمخشري ليس في الأصل كاتباً مباشراً ضيق النظرة، كما يمكن أن نتوهم فندرجه إثر ذلك وبكل سهولة في سياق كُتاب الوعظ والإرشاد وكفى. إن مقاماته بقدر ما توسلت بالهدوء والسكينة كانت في عمقها مرجلاً يغلي. غير أن الزمخشري لم يسمح للمرجل بأن ينفجر، بل عمل جاهداً على التحكم في فورانه. إن أساليب الصياغة والتصوير في مقاماته توكد ذلك بالملموس. وأفترض أن الولوج النقدي إلى حقل تلك المقامات يتحقق من خلال تأمل ذلك التحكم.

 كان الزمخشري معتزلي المذهب، لم يتزوج قط. رحل مرة إلى بخارى فسقط عن دابته فانكسرت رجله ثم بترت، فاتخذ رِجلاً من خشب. ويظهر أن الرجل بعد أن حذق أفانين البلاغة تطلع إلى أن يختط لنفسه سبيلاً تعبيرياً متميزاً فشاء أن يكتب مقاماته ويقيمها على الوعظ ومحاسبة الذات، ومن خلالهما يكيف نظرته إلى أحوال الدنيا والآخرة والإبداع نفسه.

***

قال الروائي جون ماكسويل كويتزىJ.M. Coetzee :

«إن الابتعاد المتزايد عن العالم، هو بالفعل تجربة عديد من المؤلفين عندما يشيخون ويصبحون أكثر رزانة أو أكثر برودة. إن نسيجَ نثرهم يخف، ومعالجتَهم للشخصيات والحدثِ تغدو أكثر اختزالاً. وعادة ما تُرجَع بوادر هذا الداء إلى ضعف قدرة الإبداع. ومن دون شك فإن ذلك له علاقة بضعف القوى الجسدية، وبصورة خاصة القدرة على الرغبة. ومع ذلك فإن التطورَ [السلبيَّ] ذاته يمكن أن يُفسَّر في عمقه بطريقة مختلفة كل الاختلاف: [أي] بوصفه تحرراً، وتوفراً على ذهن أكثر صفاءاً من أجل إنجاز مهام أكثر أهمية».

حينما قرأت في المدة الأخيرة هذه الفكرة ذات الوجهين تذكرت حال الزمخشري والتمست شيئاً منها لديه. فقد زهد الرجل في الدنيا وابتعد عن الناس كما تدل على ذلك أخباره ومضامين مقاماته. أما عن قناعته فيكفي للتأكد منها الرجوع إلى مقامته التي تحمل ذات الاسم – القناعة-، مع مقامات أخرى تمضي في نفس الاتجاه المتقشف. ثم أضف إلى كل ذلك اللمسةَ الفنيةَ المتمثلة في قصر مقاماته.

وضرب كويتزى مثلاً على مواصفات بلاغة الشيوخ بأديب روسيا الشهير:

«إن الحالة الكلاسية [هي حالة] تولستوي. فلا أحد يملك حساسية أكبر من حساسية الشاب ليون تولستوي تجاه العالم الواقعي، تولستوي "الحرب والسلام". فبعد تلك الرواية، واتفاقاً مع النقد، سقط تولستوي في الهاوية السحيقة للنـزعة التعليمية التي عرفت درجتها القصوى في جفاف الحكايات القصيرة خلال مرحلته الأخيرة. ومع ذلك، فإن هذا التطور يجب أن يكون قد بدا للشيخ تولستوي مختلفاً جداً. يجب أن يكون قد أحس، بعيداً عن الانحدار، بأنه يتحرر من القيود التي كانت قد جعلته عبداً للمظاهر، تحرراً أتاح له أن يواجه بصورة مباشرة القضية الوحيدة التي كانت تـهز روحه: كيفية العيش».

وتطلع الزمخشري بدوره إلى نمط روحاني من العيش حتى اتُّـهم بالنـزعة الوعظية والغاية التعليمية حينما كتب مقاماته. ولكن ألا يمكن أن يكون ذلك الصنيعُ الأدبي يمثل الوجهَ الآخر للتحرر واستلهام الذات دونما قيود؟. قد يقول قائل إن ثمة في أدب الزمخشري "قيد الدين". ولكن هل يمكن أن يمثل الدين قيداً بالنسبة إلى الزاهد الذي نسي نفسه وغدا يتطلع إلى العالم الآخر بكل حرية؟ معلوم أن الزمخشري عندما كتب مقاماته كان قد زهد في الدنيا وراح يتطلع إلى الانعتاق. لذلك لا يمكن عد الوعظ قيداً، بل ألفيه اختياراً شخصياً وخطاباً منطلقاً نحو عوالم أخرى مبايِنة. عوالم الشفافية، وخفة الروح، والتحكم في القلق، والزهد في الماديات. وأفترض بعد كل ذلك أن الوعظ المستهجن هو ذاك الذي يأتي نتيجة تجربة حياتية غير صادقة، ثم يشير عليك بأقصر السبل إلى تحقيق المرام. في حين يدعوك الزمخشري، أو يدعو نفسه، إلى تجاوز كل شيء مع التطلع إلى نموذج الإنسان "الخامل، الصامت، المعتزل، المجاهد النفس". النموذج الذي يعي جيداً، لكنه يتحاشى من الوقوع ثانية في الخطإ. وارتأى الزمخشري أن يختار لهذه التجربة الإنسانية الفريدة قالباً تعبيرياً ضيقاً لكنه يملك في نفس الآن القدرة الذاتية على الانفتاح. لقد قيل ذات يوم "اجهدوا للدخول من الباب الضيق". وقيل أيضاً "كلما ضاقت البلاغة اتسعت العبارة"

 فلما لا يكون الباب الضيق منفذاً أدبياً نحو أكوان ودلالات غير محدودة؟.

***

رفع عبد الفتاح كيليطو مقامات الزمخشري رتبة واحدة عن درجة الصفر، وأشار إلى أنها لا تكاد تمت بصلة إلى ما نعرفه عند الهمذاني والحريري. ومن أجل أن يقرأها في ضوء مقاماتهما لخص خصائص النوع عندهما في: السند، والسفر، والنمطين الإنسانيين المتناقضين الأديب والمكدي، والفن الكتابي المتضمن المزجَ بين الشعر والنثر، ومزيج من الأنواع الأدبية، ومن الجد والهزل، والسجع والمحسنات. ونفى كيليطو وجود الخصائص الأربع الأولى في مقامات الزمخشري وأثبت خاصية حضور الفن الكتابي لديه حضوراً جزئياً: (السجع والمحسنات/ وجود الشعر لماماً/ لا وجود للأنواع إلا غرض الوعظ). وعلى الرغم من التنازل عن تلك الخصائص احتفظت كتابات الزمخشري باصطلاح مقامة من حيث إنها كانت تُعتبر قبل الهمذاني خطباً وعظية تُلقى في المساجد والمجامع، قبل أن تتشكل في صيغ حكائية. وحلل كيليطو "مقامة التقوى" وجزءاً من "مقامة اجتناب الظلمة" معتمداً في التحليل على مستويات الخطاب (الزمخشري يخاطب نفسه/ البنيات الإنشائية من نداء وأمر ونهي واستفهام وتحضيض/ الإطناب/ معجم الهداية والضلال/ الإقناع). وخلص من كل ذلك إلى أن «الزمخشري حبس نفسه في مسكنه وحبس كتابته في نوع واحد هو الوعظ. على الأقل أخذ على نفسه الوعد أن لا يتكلم إلا في الجد (...) هذا السكون الذي يسعى إليه يتعارض مع الحركة التي تميز الأدب. (...) الأديب يكره أن يمشي في طريق واحد فتراه يقفز من معنى إلى معنى ومن غرض إلى غرض ومن فن إلى فن. الأدب جولة تنقلك بلا سابق إنذار من منظر إلى منظر وتُسمعك أصواتاً متعددة ومتناقضة أحياناً. لم يحتفظ الزمخشري إلا بصوت واحد وأسكت سائر الأصوات الأخرى». الأدب والغرابة، ص 82- 83

واضح أن في هذا التخريج نزوعاً نحو تضييق الخناق على الزمخشري وحشره قسراً فيما أسماه جنيت G. Genette  البلاغة الضيقة أو المقيدة Rhétorique restreinte. ونفترض أن في مقامات الزمخشري "صوتاً" يتجاوز غرض الوعظ وسكون الدار إلى ما هو إنساني شامل. صوتاً يتجاوز حتى التجربة الشخصية والفردية للزمخشري نفسه إلى تجاربنا المعاصرة وتفاصيل حياتنا اليومية. ألا يمكن أن نعد هذا التجاوز حركة في الزمن وخرقاً للسكون؟. صحيح أن الاكتفاء باعتماد مستويات الخطاب "البنائية"، وكمشة من بلاغة الأبواب، وغرض أدبي واحد من شأنه أن يفضي بالنقد إلى مثل ذلك التخريج الضيق. (لا ننسى أن العنوان الفرعي لكتاب كيليطو هو: دراسات "بنيوية" في الأدب العربي). لكن البلاغة ليست منهجاً بنيويا أو أبواباً ومداخل فحسب؛ وإنما هي رحابة في الرؤية والتناول. حتى ولو كان النص جامداً لن نعدم فيه بعضاً من الحيوية والدفء. «وربما كان من الواجب، حسب مصطفى ناصف، أن نبحث عن دلالات إنسانية في كتابات لا تتملق رضانا. لقد غاب عنا شيء كثير في خضم تبرير الكراهة. وعز علينا أن نبذل الجهد في تفهم نمط من التفكير درجنا على إهماله والنظر إليه من أعلى. لا بد لنا من الاعتراف بأن فهم كثير من النماذج لا يزال يحبو. ولا بد لنا أن نعطف على مظاهر كانت أثيرة عند أصحابها. إن التحلي بالصبر والاندهاش آية احترام النصوص التي تبدو على الرغم من اختلافها من بعض النواحي متسقة متكاملة». محاورات مع النثر العربي، ص 259. ولنفرض جدلاً أننا لم نقتنع بكل ذلك؛ ألا يمكن العثور على نماذج أدبية مضى أصحابها في خط واحد ولو مضياً ظاهرياً؟. ما الذي يمكن قوله عن كتابات سان خوان دي لا كروثSan Juan de la Cruz ، والقديسة مارية طِرِسَا دي خِسوس Santa Teresa de Jesús وعديد من أدب المتصوفة؟. هل من الضروري أن يتكلم هؤلاء هزلاً لكي يصبحوا أدباء؟.

***

لي رأي آخر فيما يخص القول بأن الزمخشري اعتمد نوعاً أو غرضاً أدبياً واحداً هو الوعظ. فقد ذكر كيليطو نفسه أن الرجل «يلعب على الحبلين. فمن جهة يحتقر البرنامج التقليدي للأدب، ومن جهة أخرى يحقق بكتاباته هذا البرنامج (...) يترتب على هذا أن الزمخشري يتناول الأدب من وجهة نظر غريبة، أي أنه يعرض أغراض الأدب وأدواته من خلال نظرة واعظ متزهد.(...) هذه الغرابة في تقديم الأدب لا نجدها في الشرح المطول الذي وضعه الزمخشري لمقاماته». الأدب والغرابة، ص 84-85 . وفي هذا السياق يحق لنا أن نتساءل: ألا يمكن اعتبار تلك الغرابة تنويعاً آخر من تنويعات الأدب أو سمة من سماته التكوينية من شأنها أن تنضاف إلى الوعظ، أو على الأقل أن تكيفه تكييفاً نوعياً خاصاً؟. ثم إن كيليطو نفسه ذكر في موضع آخر من كتابه أن «التفكير في غرابة البلاغة يحيلنا على ما ألفناه اليوم. البلاغة إذن لا تبعدنا عن همومنا ومشاغلنا الحالية». ص 57. إذن باسم هذه الأفكار المنفتحة لن يظل الزمخشري حبيس داره ونوعِه الأدبي الوحيد ولا حتى عصرِه المحدود.

***

في المقدمة وفي نصوص المقامات عرَضَ الزمخشري من منظوره النقدي والإبداعي الخاص إلى أصناف شتى من الأنواع والأغراض الأدبية كانت سائدة في عصره. ويمكن أن نميز بعض تلك الأنواع والأغراض في "مقامة العمل" التي دبجها الزمخشري في سياق الفخر:

«ومن يغوص على معان كمعانيه. أو نقدِ الكلام فالنَّقَدَةُ إليه كأنهم النَّقَد. وقد عاثَ فيه الذئبُ الأعقدُ. أو العروضِ فابنُ بَجْدَتِها. وطَلاَّعُ أنْجِدتِها. أو القوافي فإبداعُه فيها يُلَقـِّّطُكَ ثمراتِ الغرابِ. وإغرابه فيها يـَحْثو الترابَ في وجوه أهل الأَغرابِ. أو الشعرِ فزيَّاده وحسَّانه. وإحسانُه كما دبَّـج الروضَ نِيسانهُ. أو النثرِ فلو راءَ ابنُ لسانِ الحُمرةِ حمرةَ لسانه لجهَشَ وما بَـهَشَ». ص110- 111

وورد في مقامة "اجتناب الظلمة" حديث رافض لغرضي الغزل والنسيب:

«يا أبا القاسم إن رأيتَ أن لا تَزورَ عاتكةً متغزلاً. وأن تَزْوَرَّ عن بيتها متعزلاً. وأن يشغلَك عن ذكرها وذكرِ أختِها لعوبُ. داوم الفكرَ في سكراتِ شَعُوب.(...) كم زرتَ أبياتهما وزوَّرتَ فيهما أبياتَك. وبعتَ بأدنى لقائهما وتحيتهما حياتَك.(...) إن صاحبَ الغزلِ والنسيب. ليس له عند الله من نصيب. سُحقاً لما يجري من القوافي على ألسنِ المنشدين. ومرحباً بالنفوس القوافي في آثار المرشدين» ص 131- 133

ومثل ذلك الحديث الرافض شمل التشبيب، والقافية، والمطلع، والمقطع، والاستهلال، والمدح، والإغراب في التخلص، والنشيد، والكلمة الشاعرة، وعموم الشعر:

«لقد أضللتَ همتكَ في وادي الشعر فأصخْ لمـُنشِدها. وإن أُنشدتَ نَفَاثاتِ الشعراء فلا تُصغِ إلى مُنشدها».

ألا يمكن اعتبار مثل هذه الوقفات نمطاً من النقد؟ لكنه نقد أدبي داخل دائرة الإبداع مما يجعله نوعاً أدبياً آخر يمكن نعته "بالنقد المبدع" وإضافته إلى غرضِ الوعظ، وخطةِ اعتماد الشعر، والخطابِ الجامع بين الشعر والنثر. لا يهم موقف الزمخشري الرافض لتلك الأنواع والأغراض ما دام المبدعون أحراراً في اختياراتهم ومواقفهم. إنما المهم ذلك السجال اللطيف الطريف مع مختلف الأغراض والأنواع الذي لا يخلو من تخييل وفكر مخالف.

***

الحقيقة أن ورود الشعر أو النظم في بعض مقامات الزمخشري (إحدى عشرة مقامة من أصل خمسين) لا بد أن يثير هو الآخر كلاماً نقدياً إضافياً من شأنه أن يوسع دائرة البلاغة المعتمدة من لدن الزمخشري: فهو، من ناحية، كلام ملتبس بين الشعر الخالص والنظم المرصوص، مثلما هو الشأن في "مقامة الخمول" التي يتكفل فيها الشعر بتلخيص جوانب من "صورة الزائر" وإعادة صياغتها نظماً. وهو، من ناحية ثانية، غير مطرد في كل المقامات مما يجعل من استراتيجية حضوره وغيابه التباساً آخر أو رتبة جمالية جديرة بأن تؤخذ نقدياً بعين الاعتبار. ولقد تعرضت الباحثة ناهد زين العابدين أحمد منصور إلى قضية تضمين الشعر في مقامات الزمخشري، وتحققت من أنَّ الأشعار الواردة في تسع من تلك المقامات هي من إنشاء الزمخشري نفسه، وأنه لم يستشهد بأشعار غيره إلا ببيتٍ واحدٍ لبشار بن برد. ويتخذ الشعر أو النظم، من ناحية ثالثة، صورة نقدية وإبداعية مغايرة حين يغيب عن المقامات. لكن حينذاك يصبح من الممكن ترتيب الجمل النثرية المسجوعة المموسقة بعناية كأنها كلام منظوم مقفى وإن لم يكن موزوناً. ثم إن النظم أو الشعر حينما يغيبان عن متن المقامات يحضران بقوة في شرحها. تلك إذن هي استراتيجية الحضور والغياب الشعرية الملتبسة التي ترقى إلى رتبة التنويع النقدي.

***

عندما كلم الزمخشري نفسه لم يفعل ذلك جموداً أو رغبة منه في إهمال المستمع الآخر وإنما على سبيل المناجاة أو على سبيل تجريد الذات. ذاك نهج مألوف في البديع كان من شأنه طلب التوسع في الكلام وفتح المقامات على خطط تعبيرية جديدة. وحتى إذا لم نعول كثيراً على هذا السبيل التعبيري أوَلا يمكن القول بمبدإ الاختيارات الديموقراطية في مجال الإبداع؟. فإذا كان الهمذاني والحريري قد بنيا مدخل مقامتهما على السند أو الإسناد وتميـزا بذلك؛ ألا يحق لأديب آخر أن يبنيه على نداء الذات ويلغي السند والكدية والحكاية؟

***

أضف إلى كل ما سبق أن المقامات الخمس الأخيرة في كتاب الزمخشري لم يكن موضوعها المباشر هو الوعظ وإنما النحو، والعروض، والقوافي، والديوان، وأيام العرب. أما الوعظ فقد قُدم خلالها في صور ممتزجة بالمجاز والتخييل الطريف. جاء في "مقامة النحو":

«يا أبا القاسم أَعَجزْتَ أن تكون مثلَ همزة الاستفهام إذ أخذَتْ على ضَعفها صدرَ الكلام. ليتك أشبهتَها متقدماً في الخير مع المتقدمين. ولم تُشبه في تأخُّركَ حرفَ التأنيثِ والتنوين». ص 195

وقوله في "مقامة العروض":

«ما أحوج مثلَك إلى الشغل بتعديل أفاعيله. عن تعديل وزن الشعر بتفاعيله». ص 201

وانظر إلى ما ورد في مقامة "أيام العرب" من قصص أعيدت صياغتها بكلام مسجوع كقصة الحارث بن ظالم وغيرها. ص 234 ومابعدها. إن كل تلك الأمثلة وغيرها كثير كفيل بأن يجعلنا نحتفي بعنصر التخييل في سياق البحث عن أنماط التنويعات التعبيرة المختلفة التي لم تُبق على الوعظ غرضاً أدبياً خالصاً في مقامات الزمخشري.

***

كما سمى الزمخشري مرة مقاماته في مقدمة شرحه لها بأنها "نصائح" تدعو إلى "التأمل". قال، ولعله خاطب أمير مكة المشار إليه آنفاً:

«لا تطالع هذه النصائح إلا ملقياً فكرك إلى معانيها (...)[و] أن لا تمر على شيء من تلك الأسجاع وغيرها من أبواب الصنعة إلا متأملاً وجه تمكنه وثبات قدمه» ص 3- 4

كأنه الغزالي يخاطب "ولده" في رسالته الشهيرة، أو ميكيافيلي يوجه نصائحه إلى "أميره".

***

عموماً يوحي ما قاله كيليطو في "الأدب والغرابة" بأن الزمخشري قد أخطأ الاختيار أو الإنجاز الكتابي: فقد اعتبر نصه أرستقراطياً غير ديمقراطي، يلغي كل أنواع الأدب إلا الوعظ، يكلم نفسه، وأدبه أدب الجد والسكون لا الحركة والهزل، يعتمد المكتوب عوض استلهام الشفاهي، لا يستعمل الشعر إلا لماماً، ومشروعه في مجمله متعذر. وفي رأيي أن كيليطو في منـزعه نحو التضييق قد انطلق من النصين (المقامة والشرح) إلى قضايا البناء (البنيوية)، هادفاً من وراء ذلك إلى ترسيخ "شذوذ" نص الزمخشري داخل النسق السائد بين المقامات العربية، وملبياً بذلك مقتضيات المنهج البنيوي. بذلك لم يكن النص هو المنطلق والغاية معاً، ولا أعطيت له الحرية لكي يُملي على الناقد منهج التعامل معه عوض استعارة المنهج من حقل آخر جاهز. كل ذلك يجعلنا نحتمل أن النقاد يكونون في أحسن أحوالهم عندما يبتعدون عن مقتضيات المنهج الذي يصدرون عنه، ويستلهمون عوض ذلك، في التقويم والتحليل والتأمل، رحابةَ البلاغة التي ليست شيئاً آخر غير رحابة الذات.

***

في مقال "مقامات الزمخشري: سطوة المؤلف وبطش القارئ" صرح هيثم سرحان منذ الجملة الأولى بأنه سيعتمد في قراءته لمقامات الزمخشري على نظرية التلقي. ثم أضاف في السياق ذاته أن قراءته عملية تحليلية لعناصر بنائية تنتمي إلى مكونات تلك المقامات. نتيجة لذلك ركز هذا الناقد على القارئ الضمني للمقامات واحتفى بصورته وأحواله. وانتهى إلى أن الزمخشري أقصى من نصه كل الرواة وأبقى على واحد هو "النفس اللوامة"، وقطع صلته بالواقع وربطها بالسماء. كما تابع كيليطو في قوله إن الزمخشري أقصى من مقاماته كل أنواع الأدب باستثناء غرض الوعظ. واحتفى سرحان ببنية الضمائر، ورأى أن الزمخشري حينما خاطب نفسه لم يشأ أساساً أن يوبخـها وإنما هو توبيخ لنا نحن القراء. ورصد لديه إطناباً دلاليا،ً ونزوعاً نحو الإقناع، وغياب الأحداث القصصية، مع الطباق، والثنائيات الضدية، والازدواجيات. ثم حلل مقامتي "التقوى" و"المنذرة"، وكان كيليطو قد حلل قبله المقامة الأولى في كتابه "الأدب والغرابة".

قلت إن هيثم سرحان كان صريحاً مع نفسه عندما حدد منذ البدء خطة عمله وحصرها في نظرية التلقي ورصدِ البنيات. بذلك كانت قراءته، من المنظور المنهجي، جزئية غير متسمة بالرحابة والشمول. ولعل الدليل الملموس على ذلك التطبيقان التحليليان. في هذا السياق ذكر أن دراسته ستعتمد «على النص وتنطلق من بنيته باعتبارها بنية لسانية مغلقة في إطارها الشكلي، ومنفتحة تسمح بتوالد دلالي، يتيح قراءات لامتاهية». مقامات الزمخشري: سطوة المؤلف وبطش القارىء، ص 93. من هذا المنظور راعى هيثم سرحان في "مقامة التقوى" الثنائيات الضدية، والعلاقات الضدية، والثنائيات الناقصة الأطراف، والثنائيات المكتملة الأطراف، والرمز. وراعى على المستوى الدلالي دلالات الحروف في إطار بناء الجملة بما في ذلك التوكيد، والخبر، والأمر، والنهي. في حين اعتمد في تحليله لـ"المقامة المنذرة" على دلالة العنوان، وبنية الحال من حيث هي مهيمن دلالي، وهوية المخاطب، مع تخريجات دلالية أوسع.

ولقد استشعرت أن صاحب المقال كان منشطراً في أثناء الكتابة بين مقتضيات المنهج الذي حبس فيه نفسه منذ البداية وبين رحابة التأويل الذي كان يلوذ به بين الحين والحين هروباً من قيود تلك المقتضيات. وكان من النتائج السلبية لهذا الانشطار الفصل بين الشكل والمضمون بطريقة متعسفة في الخاتمة التقويمية للمقال:

«لقد نسج الزمخشري مقاماته بشكل متماسك وفريد، فجاءت، على المستوى الشكلي، محكمة البناء، يدل على ذلك بنية الضمير. فأنت عندما تباشر القراءة تنهمك في التحليل معلناً اندراجك في الخطاب، وهي تقنية مذهلة تجعل القارئ على تماس حقيقي بالنص المقروء. (...) أما المستوى الدلالي، فقد أحدثت مقامات الزمخشري قطيعة معرفية مع سائر المضامين الأخرى للمقامات، فهي إمعان في التقوى وحض على تجنب طرق الضلال والغواية». ص 96

لكل ذلك تبقى الصورة العامة لمقال هيثم سرحان متسمة بالانشطار. إن الدلالة اللطيفة التي أنهى بها مقاله تناقض ما في عنوانه من "سلطة" و"بطش". وأفترض أن هذا المثل النقدي المنشطر كان نتيجة لتبني منهج جاهز منذ البداية. ذلك أن من مستلزمات نظرية التلقي إلقاء المزيد من الضوء على صورة المتلقي إلى درجة "التبئير" التي من شأنها أن تفضي إلى توظيف مصطلحات مفعمة بالقسوة والعنف من قبيل البطش والسلطة وما لف لفهما. وغالبا ما يتم هذا التبئير العنيف على حساب لطافة النص وطرافته. فمن أدرانا بأن الزمخشري كان عنيفاً سلطوياً في خطابه؟. إن سرحان نفسه اعترف قبل ذلك بأن «الزمخشري ينـزل نفسه منـزلة الأب المربي، فيوجه خطابه إلى "القارىء" بوصفه ابناً له، ولذلك يحرص على تعليمه وزجره». ص 92

أضف إلى كل ذلك أن النظر إلى البنيات ومستويات الخطاب بنوع من القداسة من شأنه أن يقزم الدلات اللامتناهية التي أشار الناقد إلى توافرها في مقامات الزمخشري. لذلك فإن أعمق تخريجات المقال، حسب رأيي، تلك التي استطاع فيها صاحبها أن يفلت من أسر قداسة النظرية وينطلق على سجيته كما هو شأن هذه الالتفاتة النقدية الكريمة:

«إن للغموض الذي يكتنف مقامات الزمخشري وظيفة دلالية، إذ يصور الصراع الداخلي للإنسان، وهشاشة النفس الأمارة. ومن هنا، فإن الغموض يعمل على تهذيب النفس، فالتذكير هو تحفيز للإنسان على المواظبة والمضي في دروب الطاعات، وحالما يصل القارئ إلى هذه النتائج "الوصول إلى معرفة الأشياء وحقائقها" تنبسط أمامه أسرار النص ويتلاشى غموضه». ص 93 إن رغبة هيثم سرحان في فتح أبواب بلاغة المقامات على مصراعيها تجلت في أكثر من موضع من مقاله. صحيح أن الإذعان المسبق لقدسية المنهج من شأنه أن يعكر صفو تلك الرغبة. لكن على الرغم من ذلك شتان بين هذا النـزوع الذي استشرف في مقامات الزمخشري دلالات إنسانية متعالية وبين نزوع كيليطو إلى تضييق الخناق عليها.

***

هل اختياري "مقامة الخمول" بريء وتلقائي أم ذو قصد مبيت؟ الحقيقة أن واقع الظواهر النقدية يثبت أنْ لا براءة ثمة وراء كل اختيار. وأعترف منذ البدء بأني خضت عوالم مقامات الزمخشري وفي يقيني "اقتناص" مقامة بعينها من أجل التأمل والتحليل. وفي أثناء القراءة الأولى تمكنت من عزل مقامات "العزلة"، و"الصمت"، و"القناعة"، و"الخمول"، و"الموت" عن غيرها نظراً إلى ما بينها من روابط موضوعية توحي بالاستسلام. لكن بعد أن أعدت القراءة احتفظت بـ"مقامة الخمول" دون سواها بحكم الدلالات العميقة التي أثارتها في نفسي. وأشير إلى أن القراءة الثانية للكتاب وما تلتها من قراءات أخرى جزئية لم تكن منتظمة ولا متسلسلة. فمقامات الزمخشري ليست مترابطة فيما بينها ولا متدرجة. ذلك يعني أنك تستطيع القراءة انطلاقاً من المقامة الأولى، أو الثانية، أو الوسطى، أو الأخيرة من دون أن تشعر بأي ارتباك على مستوى الدلالات أو الغايات أو الخلاصات التي تطلع إليها الكاتب. إن مقاماته جزر معزولة بعضها عن بعض، لكنها تشكل فيما بينها نسقاً يهيمن عليه الوعظ. وهذا النسق المتمايز تجلى منذ البدء مبايناً لنسق مقامات الهمذاني والحريري. بيد أن هذه الحقيقة النقدية لا يمكن أن تمثل عائقاً من شأنه أن يمنع متابعة القراءة أو الاحتفاء بنصوص ليس فيها سند وحكاية وكدية. لكن من حسن حظي أني كنت قد تمرست مع جلال الدين السيوطي بقراءة المقامة وهي في درجة الصفر، الخالية من تلك المكونات، والقائمة على غيرها.

***

جاء في "مقامة الخمول":

«يا أبا القاسم يا أسفي على ما أمضيْتَ من عُمُرِكْ فيِ طلبِ أن يُشادَ بذكركْ. وَيُشارَ إليْكَ بأصابعِ بَني عَصْرِكْ. عَنيتَ على ذلكَ طويلاً. فما أغَنيْتَ عنكَ فَتيلاً حَسبْتَ أنَّ مَنْ ظَفِرَ بذاكَ فَقَدِ استصفَى المجْدَ بأغْبارِهْ. واستوفَى الفَخْرَ بأصْبارِه. وَقَدّرْتَ أنَّ الشارَةَ البهيةَ هيَ الجمالْ. وأنَّ الشهْرَةَ في الدنيا هيَ الكَمالْ. وما أدرَاكَ يا غافِلُ ما الكامِلْ الكامِلُ هُوَ العامِلُ الخامِلْ. الذِي هُوَ عندَ الناسِ منكُورْ وهوَ عندَ اللّهِ مذكُورْ. مَجْفُوٌ في الأرْضِ لَيْسَ لهْ ظهيرٌ ولا ناصرْ ولا تُثْني بهِ أباهيمُ وَلا خنَاصِر. ما قُلْتَ لأحَدٍ هَلْ تَشْعُرُ بهِ إلا قالَ لا. لا يُدْعَى في النقَرَى ولا في الجَفَلَى. خَلا أنَّ لهُ السمَاءَ اسْمَاً لا يَخْفَى. وجانباً مَرْعياً لا يُجْفَى وسَبَبَاً قَوِياً لا تَسترْخي قُواهُ. ولا تَبْلُغُ هذهِ الأسبابُ قُوَّةً مِنْ قُواهُ. فَعَدِّ إذنْ عنْ هذهِ الأسامي والأصواتْ. وعُدَّ شَخْصَكَ في عِدَادِ الأمْوَاتِ. كَفِّنْهُ بِالخُمُولِ قَبْلَ أنْ يُكَفّنْ وَادْفِنْهُ في بَعْضِ الزَوَايَا قَبْلَ أنْ يُدْفَنْ. واجعَلْ لهُ قَعْرَ بَيْتِكَ قَبْراً. واصبِرْ على مُعانَاةِ الوحدَةِ صَبْرَا وطِبْ عن زيَاراتِ النّاسِ نَفْسا. ولا تَرْضَ سَوى الوحشَةِ أُنْسَا وَلا تَنْشَطْ إلا إلى زَاِئرٍ إنْ ضَلَلَتَ عَنِ المحَجّةِ أرْشَدْ. وَإنْ أضْلَلْتَ الحُجّةَ أنْشَدْ. وَإنْ خَفِيَ عَلَيْكَ الصَّوَابُ جَلىّ وَإن أصابَكَ هَمٌ في ديِنِكَ سَلّى. لا يَزُورُكَ إلا ليِوصيكَ بالحقِّ ويَنْصَحَكْ وَيَرْأبَ ثَأْيَكَ وَيُصْلِحَكْ. وَيُعالجَكَ منْ مَرَضِكَ وَشَكَاتِكْ. بما يَصِفُ مِنْ أمر مُبْكيِاتِكْ. لا أمْرِ مُضْحِكاتِكْ ذَاكَ لا يَتَنَفّسُ في جَنَابِكْ إلا عَبِقَ نَسيمُ الفِرْدَوْسِ بِثيابِكْ. وَلا يخْطِرُ في عَرْصَةِ دَارِكَ إلا أصبَحَتْ مُبارَكَهْ. وَبَسَطَتْ أجْنِحَتَها فيها الملائكة فلا تبْغِ بهِ بَدَلاً وَإنْ أفاءَ عَليْكَ بِيضَ النّعَمْ. وَسَاقَ إلَيْكَ حُمْرَ النّعَمْ.

        أطلُب أبا القاسمِ الخُمولَ وَدَعْ * غيرَك يطلبُ أسامِياً وَكُنى.

        شبِّه ببعضِ الأمواتِ شخصَك لا * تُبرِزهُ إن كنتَ عاقلاً فَطِنا

        ادفنهُ في البيتِ قبلَ ميتتهِ * واجعل له مِن خُمولهِ كَفنــا

        عسَاك تُطْفي ما أنْت موقُده * إذ أنت في الجهل تخلعُ الرَّسَنا»

 شرح مقامات الزمخشري، ص 185-189

***

واحدة من قراءات "مقامة الخمول" تمت وأنا في مدينة سبتة السليبة. كنت جالساً في مقهى سوق ممتاز وفسيح. عصري جداً وتجاري جداً. ومن سوء حظي أن المقهى كان قريباً من محل للعب الأطفال أو الترفيه عنهم. كان ثمة صخب وموسيقى تصم الآذان صادرة عن ذلك المحل. وفي خضم هذه التجربة الفريدة كنت أقرأ جملة الزمخشري فتكاد دلالاتها تضيع وسط الضجيج، لكنها لا تتلاشى بصورة نهائية. تطفو على السطح، تنأى، وتنأى، فتبدو لي ، أنا القارئ التراثي، كالتراث ذاته، وهي تبتعد في شدة وتحضر في ضعف. وتواردت على الخاطر أسئلة لم يقتضها المكان قدر ما اقتضتها المسئولية تجاه التراث:

 - ما موضع وعظ الزمخشري في خضم هذه المعاصرة الصاخبة المفعمة بأجواء البيع والشراء؟ ثم ما موقع الزمخشري نفسه في ذلك الخضم؛ وهو الرجل المصاب بعاهة، المعتكف، الأعزب الذي قال في عمق مقامته:

 "عُـدّ شخصك في عداد الأموات"؟.

ولم يسعفني الضجيج على الاهتداء إلى الجواب الشافي، لكن ظاهر التجربة أوحى إلي بأن دعوة الزمخشري إلى الصمت، والعزلة، وحتى الموت تحمل في عمقها البلسم القادر على أن يَضمَن لأفكاره القدرة على البقاء، بل حتى الخلود. لقد كان وعظ الزمخشري خلال تلك اللحظات، واقعاً في اختبار عسير. وشعرت وأنا في خضم "قوة" الصخب أنه وعظ يضعف من دون أن يتلاشى كما سبقت الإشارة. كذلك كان حاله بالنسبة إليّ، وإن كان بالنسبة إلى الآخرين قد لا يعني شيئاً. وعلى الرغم من أن تجربة القراءة كانت فردية فقد مكنتني من استشراف صدى الحقيقة الذي لا يمكن أن يضيع إلى الأبد. حقيقة رجلٍ اختار، فآمن بما اختار وأمّل أن يعثر فيه على سعادته. وحيث إن قراءتي كانت وراءها نفس بشرية، وحيث إن النفس، أية نفس، هي بمنـزلة البشر جميعاً كان "خمول" الزمخشري دعوة إلى تأمل الحياة ذاتها، ودعوة إلى التطلع إلى الصمود والخلود.

***

خصص الزمخشري طرفاً مهماً من "مقامة الخمول" لـ"صورة الزائر". وحيث إن ذلك الطرف كاد أن يمثل نصف النص النثري حق لنا أن نتساءل: لماذا هذا الاحتفاء الكبير؟ حينما تأملت الصورة ملياً تمثلت الزائر وقد استحالت صورته إلى صوت هتف في أعماقي وأنا بصدد قراءة المقامة في ظروف وفضاء غير عاديين. الزائر صوت وليس شخصاً. وأفترض أن الزمخشري بمثل هذه الإمكانة التصويرية قد تجاوز "حد الوعظ" بل حتى حدود الزمن ذاته. هو صوت الأنيس، والبركة، والحكمة الرصينة، واللحظة الأبدية. إنْ حضر "عبق نسيم الفردوس"، وبسطت الملائكةُ أجنحتها، واستطاع أن "يعالجك من مرضك وشكاتك". إن "الخمول" هو الخمول الباعث على الحياة الحقة والخلود السرمدي حتى وإن ورد في المقامة في صورة كفن. تلك هي مفارقة "وعظ" الزمخشري ومفارقة عموم مقاماته: فهي حتى وإن أبحرت بك عميقاً في خضم السلب والموت أوحت إليك في الوقت ذاته بإيحاءات الصمود والخلود. إنها باختصار مفارقة "العامل الخامل" كما سماها الزمخشري نفسه. أي ذاك الذي يجهد وفي نفس الآن لا ينبهر بـبريق الشهرة الخادع.

***

كانت "عقدة النظم" نتيجة حضارية لهيمنة الشعر في الثقافة العربية القديمة. كان الشعر ديوان العرب. لذا أضحى من الصعوبة بمكان الانتقال طفرة واحدة من تلك الهيمنة إلى المرحلة اللاحقة التي أتيحت فيها للنثر المساحات الكافية لكي يسهم بدوره في تشكيل تلك الثقافة. كان لابد من التدرج. في هذا المقام أنيطت بجمالية السجع أدوار حضارية مشهودة. حدث ذلك في زمن الزمخشري الذي أنشأ مقاماته في القرن السادس الهجري. ورد في المقدمة الأولى للكتاب «لا تمر على شيء من تلك الأسجاع وغيرها من أبواب الصنعة إلا متأملاً وجهَ تَمكُّنه وثباتَ قدمه والاستعدادَ له قبل مورده. (...) إن كلمات السجع موضوعة على ساكنة الأعجاز موقوفاً عليها لأن الغرض أن يجانس بين القراين ويزاوج بينها وما يتم ذلك إلا بالوقف».

 في ضوء تلك العقدة يمكن إعادة نظم المتن النثري لـ"مقامة الخمول" وفق هذين النموذجين:

1-     يا أبا القاسم يا أسفي على ما أمضيت من عمرك*في طلب أن يُشاد بذكرك* ويشار إليك بأصابع بني عصرك [ثلاثية السجع]

2-     عَنيتَ على ذلك طويلاً* فما أغنيتَ عنك فتيلاً [ثنائية السجع]

هو إيقاع كموج البحر الهادئ. أو على الأصح هو مويجات البحر وقد داعبتها الريح الغربية. كأن الزمخشري من خلاله تطلع إلى تصوير تجربة الوعظ تصويراً فريداً مشبعاً بروح العقدة الحائرة في نفس الآن بين الخنوع لمستلزمات "الديوان" والانسياب مع شساعة بحر الحياة المستقبلية وانسياحها.

***

تنـزع الذات الكاتبة في "مقامة الخمول" إلى تقريع نفسها بنفسها. تنـزع إلى القسوة عليها قسوة لا تصل إلى درجة البطش، لكنها تختلط بالفائدة وأسباب تحقيق النجاح في طلب العلم. أو قل إنها قسوة المتعة التي يطلبها الزهاد والمتصوفة. القسوة التي تحاصر الذات بالتقوى، والرضوان، والزهد، والقناعة، والإنابة، والعزلة، والحذر، والصمت، والطاعة، والندم، إلى آخر القائمة التي تطول بعدد مقامات الزمخشري. لكن الكاتب لا يريد أن يأتي هذا النـزوع مباشراً عن طريق الاعتماد على ضمير المتكلم. بل ود لو يتوارى أو يتخفى. من أجل ذلك ارتدى قناعاً وضرب صفحاً عن ذلك الضمير واستعار بدلاً منه ضمير المخاطب. وحيث إنه "ود" فحسب فقد ظلت عملية تقنُّعه ناقصة، بدليل احتفاظه بكنيته الشخصية "أبو القاسم" في أثناء تكوين المقامات.

النـزوع واضح إذن من لدن الكاتب لترك مسافة بينه وبين المعنيّ أساساً بالخطاب في المقامة. لكن لماذا تلك المسافة وما دلالتها؟. هي في ظني مسافة جمالية. أي هي إجراء بلاغي أملته الحالة غير العادية التي ألفى فيها الزمخشري نفسه. ذلك أن الإبقاء على المسافة يعني أيضاً إعطاء الفرصة الرحبة للمؤلف كي يتكلم على سجيته. وهو لذلك لن يكون مطالباً بأن يجعل إيقاع كلامه متسارعاً، وإنما اعتمد، عوض ذلك، أسلوب الحكمة الرزين والمتموج في نفس الآن. لكن عادة ما يقال إن أسلوب الحكمة يكون قصيراً مختزلاً ومكثفاً. بيد أن الأمر ليس كذلك دائماً. إن من البدهي أن جملة الحكمة قد تطول أو تقصر خاصة إذا لم تصغ شعراً، وتظل في الحالتين معاً جملة حكيمة. إن حوار الشياطين في رواية "ليالي ألف ليلة" لنجيب محفوظ ينحى منحى الجمل القصيرة الحكيمة، في حين قد تَترك جملُ "مقامة الخمول" القارئ حائراً بين الطول والقصر. وفي رأيي أنها تنحى هي الأخرى منحى القصر، وإنما يحصل انطباع الطول لدى القارئ حينما تأخذ الجمل برقاب بعضها بعض. بناءاً على كل ذلك أفترض أن الزمخشري قد أفلح في الجمع بين القصر والطول والحكمة والإيقاع المتموج في آن واحد، وهو بذلك تطلع إلى استثمار صنف آخر من الرحابة البلاغية ليس بالضرورة "كدية مسرودة". من أجلها ارتدى القناع، وشطر الذات إلى نصفين لكي يقول لنا في المحصلة: إن في التقنع نوعاً من العزاء وإيهام الذات بأنها منسجمة مع نفسها، وأنها بصدد تحقيق توازنها. بذلك شق الزمخشري لنفسه وللقراء في سائر الأزمان سبيلاً تعبيرياً متميزاً يصعب عليك أن تفصل في تميُّـزه بين ما هو من قبيل النـزوع الإنساني وما هو من ضرورات أساليب التصوير.

***

ثمة قول سائر يرى أن كل أديب هو ابن عصره. غير أننا لن نعدم من يقول أيضاً: إن كل أديب أصيل هو ابن عصره، وابن عصرنا، وابن كل العصور اللاحقة عليه حسب أشهر ترجمة لعنوان مسرحية روبرت بُولتْRobert Bolt  "رجل لكل العصور". وربما لذلك وُصف الزمخشري في المقدمة الأولى لشرح المقامات بأنه "أستاذ الدنيا"، مثلما وصفه صاحب كتاب الوشاح.

نقرأ اليوم الزمخشري كما لو كان معاصراً لنا وممثلاً لفئة مهمة منا. أوليس بيننا اليوم من يكره الشهرة الزائفة مثلما سبق أن كرهها الزمخشري في مقامة "الخمول"؟. ما الذي يمكن قوله في هذا المضمار عن أديب كبير في حجم كُويتزى الذي أفلح في أن يرسخ في أذهان قرائه صورته الشخصية القائمة على النفور من الشهرة، وطَلبَ عوضها العزلةَ مثلما طلبها الزمخشري؟ وما الذي يمكن أن نقوله أيضاً عن موريس بلانشو M. Blanchot، وج. د. سالنجير J.D. Salinger، وطوماس پِـنشون T. Pynchon، وحتى جوليان غراك  J. Grac، وصمويل بيكيت S. Beckett؟

***

يكفي الأدب أن يكون صادق الرؤيا لكي يغدو خالداً. أما كمُّ الأغراضِ والأنواعِ الأدبية الموظفَّةٍ فيه فليس معياراً نقدياً لتقويمه، ولا كافياً لتجنيسه.

 

المصدر والمراجع
-               شرح مقامات الزمخشري

-               محمد أنقار، المقامة في درجة الصفر، مجلة: الكلمة الإلكترونية، ع53، سبتمبر 2011

-               عبدالفتاح كيليطو، الأدب والغرابة. دراسات بنيوية في الأدب العربي، دار الطليعة للطباعة، بيروت، ط2، 1982

-               هيثم سرحان، مقامات الزمخشري. سطوة المؤلف وبطش القارىء، مجلة: ثقافات، شتاء 2004