كمقدمة:
تعالج الناقدة آمنة بلعلى في كتابها (المتخيل في الرواية الجزائرية: من المتماثل إلى المختلف) عدة إشكاليات وقضايا تتمحور في معظمها حول موضوع التخيّل وتنوع مرجعيات المُتخيل وآليات تباينه وتشابهه في الرواية الجزائرية من خلال عدة نصوص روائية، تباين المتخيل في بعضها، فيما ائتلف في أخرى، وقد جاءت هذه النماذج الروائية موزعة على فترات زمنية مختلفة، اذ نلفي الناقدة تتناول روايات من السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات وصولا إلى القرن الحالي. لعل أهم هذه الروايات: "الحمار الذهبي" لأبوليوس(1)، و"زمن النمرود" و" ذلك الحنين" للحبيب السائح، و"فتاوى زمن الموت" لإبراهيم سعدي، و"مرايا متشظية " لعبد المالك مرتاض، و"سيدة المقام" لواسيني الأعرج . كما تناولت روايات أخرى، سنتطرق إليها لاحقا ولم يأت اختيار الناقدة لهذه الروايات بطريقة عبثية أو اعتباطية، وإنما جاء لأسباب منهجية وعلمية، تتناسب مع طبيعة الموضوع الذي هي بصدد تدارسه، فحاولت قدر المستطاع ان تنتقي نصوصا سردية من فترات مختلفة في الأدب الجزائري تختلف فيما بينها في موضوع المُتخيل، إلاّ أنّ الناقدة، ورغم هذا، فهي لا تنكر" احتمالية الانتقاء وكذلك الإقصاء التي تغدو واردة كلما حاول الدارس أن يحصر دراسته في موضوع المتخيـل"(2) .
1. قراءة سيميائية في لون غلاف الكتاب:
إذا كان عنوان الكتاب يشكل عتبة من عتبات النص بشكله ومضمونه، فإن اللون الخارجي لغلاف الكتاب يلعب دورا هاما في فهم ما هو محتوى داخل الكتاب من أفكار وآراء ومضامين. لا يمكن لأي قارئ كان أن يتجاهل الشكل الخارجي للكتاب، فهو أول ما تتلقاه العين بعد العنوان أو قبله في كثير من الأحيان، فالصور والرموز، وحتى الألوان المنسجمة وغير المنسجمة تلعب دورا مهما ي العملية التواصلية والإبداعية التي يرومها أي كتاب مهما كان نوعه وجنس متنه.
يظهر لنا الكتاب الذي نحن بصدد دراسته خاليا من أي رسم أو صورة تشد انتباه متلقيه أو قارئه، لكن هناك مظهرا خارجيا للكتاب عوض غياب الرسومات والصور، خصوصا إذا حاول المتلقي أن يعقد علاقة سيميائية بين اللونين الأبيض والأسود بالعنوان، وبما هو مبثوث داخل الكتاب والهدف الذي يروم تحقيقه. وهذا ما نحاول القيام عبر تفكيك دلالة اللونين؛ الأبيض والأسود من منظور السيميائيات العامة والثقافية على وجه الدقة.
إن للون أدوارا وتأثيرات تتعدد وتختلف بتنوع ثقافة المجتمعات والشعوب، إضافة إلى دوره المهم "في منطقة البصر، وكذلك دوره في المنطقة الذهنية وعلى هذا الأساس يمكن تقسيمه إلى قسم فيزيائي بالإمكان قياسه، وقسم فيزيولوجي يبحث أثر اللون في حالة الرؤية، وآخر نفسي ينشأ من ارتباط كل لون ارتباطا نفسيا عند المتلقي أو من السطوة الذهنية التي اكتسبها اللون في العقل الجمعي للشعوب"(3). لا يمكن أن ننكر أن تفسير دلالة الألوان وتأويلها يخضع لظروف المتلقي وآلياته الاسترتيجية في التأويل وصناعة المعنى وهندسته في إطاره الجمعي الذي لا ينفك يخضع له في مطلقه، فالمجتمع في كثير من الأحيان يعين لكل لون دلالة معينة. يمكن القول أنه إذا كان لكل لون دلالة تختلف بحسب المجتمعات والإثنيات المختلفة، فإن للونين الأبيض والأسود دلالتين تتشابهان باختلاف الخصوصيات المجتمعية والطبقية، فطالما مثّل اللون الأبيض تعبيرا عن الحزن لعدم ميل النفس إليه لدى الإنسان، ومثّل اللون الأبيض رمزا للصفاء ونقاء السريرة والهدوء والأمل"(4) .
في تحليله السيميائي للخطاب الشعري يتعرض عبد المالك مرتاض لدلالة اللونين الأبيض والأسود في النصوص الشعرية، فيرى بتلازم البياض أو اللون الأبيض للنور الذي ينتشر أثناء الظلام إلى أقصى الحدود الممكنة من أجل تبديد وإفساح الحيز ليسهل انتشاره"(5)، فيما كانت دلالة الأسود على الدوام مناقضة للأبيض في عمومياتها وخصوصياتها، فهي تحيل في أغلب استعمالاتها إلى الليل الذي هو مقوّم دال على زمن مظلم(6) تكثر فيه الصعاب والمخاطر والشرور وتقل فيه الثقة والأمان إلى درجة الانعدام. إذن العلاقة من خلال تحليل مرتاض هي مبنية على الصراع الدائم وعدم الاستقرار في موضع واحد، إذ النور على الدوام يحاول الانتشار في الظلام حتى يبيده ويغزوه، والغاية نفسها يرومها الظلام في انتشاره في الليل الحالك، منه هنا أذا كان يمثل السواد عنصر الليل غير الآمن، فأن البيض يمثل النهار بكل ما فيه من أمان.
إذا كان التحليل الذي قدّمه مرتاض للونين الأبيض والأسود مصدره النصوص الشعرية، فما هي مدلولاتهما في عتبات النصوص النقدية والسردية ومتونهما، باعتبار الكتاب المدروس نقديا تناول نصوصا سردية في قضية المتخيل؟ وما جدوى دراسة لون الغلاف (باعتباره عتبة نصية) في المؤلفات النقدية(7)؟ يطرح عبد الفتاح الحجمري في كتابه "عتبات النص، البنية والدلالة" تساؤلا مهما ومركزيا وهو يتعلق بجدوى دراسة العتبات النصية (لون الغلاف والعنوان) في النصوص أو الكتب النقدية. وها نحن نطرح تساؤلا قد تتشابه إجابته مع الإجابة التي قدمها الحجمري في تحليلاته لعتبات النصوص النقدية- خصوص المقدمات- التي كتبها عبد الفتاح كليطيو. وقد كانت إجابته ترتبط في عمومها بـ(8):
1. الاعتبـار التصديـري والافتتاحي الذي تمتلكه المقدمة، وهو اعتبـار يمنحها سلطـة توجيـه القـراءة.
2. احتواء المقدمة على تصور المؤلف للكتابة وغايته من التأليف، وهي سمة تميز الأطروحات الأكاديمية خصوصا. فكثيرا ما تحتوي على منهج المؤلف وأداواته الإجرائية وأهدافه التي يرومها.
إنّ دور المقـدّمة وأهميتها، كعتبة نصية، لا تختلف كثيرا عن عتبة لون الغلاف وصورته ماعدا في نوعية العلامة التواصلية التي يعتمدانها، فالمقدمة تعتمد على اللغة المكتوبة في توجيه المتلقي والتأثير فيه، في حين يعتمد غلاف الكتاب على التواصل العلاماتي من خلال الصور أو الألوان التي لها طبيعة خاصة ومميزة، فهي الأولى من المقدمة في درجة الاعتبار التصديري والافتتاحي كما أن الألوان تعكس أفكارا ومعتقدات تنبثق من النسيج الإبداعي لغلاف الكتاب الذي يمكن اعتباره مولجا لعالم الكتاب وأسراره، ولـهذه الأسـباب استهوانا تحليل اللونين الأبيض والأسود سيميائيا، ومحـاولة مقارنة مدلولاتـهما بما ورد في متـن الكتـاب.
لقد انطلقنا في تحليلنا من فرضية مفادها أنّ اللون الأسود جاء ليعبر عن الأزمة التي عاشتها الجزائر على جميع مستوياتها: السياسية، والاقتصادية، والأدبية أيضا. وافترضنا، أيضا أن اللون الأبيض يعبّر عن السلام الذي عاشته الجزائر قبل أزمة العشرية السوداء، وما بعدها. كذلك افترضنا أن المُتخيل التسعيني، إن صح التحديد الزمني، يعالج من ناحية المضمون موضوعات مؤلمة، تحكي المعاناة التي عاشها الشعب الجزائري جراء انعدام الامن والثقة في الغير، أما اللون الأبيض، فقد افترضنا، أنه يمثل السلام الذي تعيشه الجزائر حاليا بعد انقضاء العشرية السوداء. وبالتالي افترضنا أن الآليات الأسلوبية، والميكانيزمات السردية التي استعملها الروائيون في التسعينات من أجل خلق متخيل سردي، تختلف إلى حد كبير مع الميكانيزمات السردية المستعملة في الأزمنة الأخرى، والأمر قد يتشابه لدى القارئ التسعيني، باعتباره عنصرا مهما في صنع متخيل ذي طبيعة، عن طريق الآليات التأولية التي يملكها، سواء متلقي السبعينيات أو الثمانينيات أو الألفية الجديدة. باعتبار أن المتلقي يعدّ "عنصرا مهما، ليس فقط في إدراك المتخيل، وإنّما في عملية بنائه، لما للعملية القصديّة من دور في هذا المجال، حيث لا يمكن تصوّر نجاح الفعل التخييلي ما لم يتلاق قصدا المبدع والمتلقي، فمتى تقبّل المتلقي الإيهام تحقّق قصد الإثارة والتأثّر"(9) . إذن يمكننا القول أن موضوع المتخيل وآليات بنائه وتأويله لا تنتج كما كانت تعتقد النظريات البنيوية عند الناص أو الكاتب وإنما هي في الأساس محصورة لدى المتلقي، وثقافة ذلك العصر.
تبقى التحليلات السيميائية التي قدمناها للونين الأسود والأبيض في أن الأول يمثل لأزمة العشرية السوداء، وفي أن الثاني يمثل لباقي الأزمة التي عاشتها الجزائر على عدة مستويات مجرد تحليلات لا تتجاوز مستوى الفرضيات ما لم يتم التأكد منها عن طريق مقارنتها بمضمون النص النقدي الذي يحمله متن الكتاب. وهذا ما سنعود إليه بعد معاينة مضمون الكتاب كاملا ومقارنته بتحليلاتنا وفرضياتنا التي انطلقنا منها.
2. قراءة سيميائية في عنوان الكتاب:
يعد عنوان الكتاب عتبة من أهم عتبات النص التي تهيئ القارئ لولوج النص واستكناهه، فهو عبارة عن" قاعدة تواصلية تمكن النص من الانفتاح على أبعاد دلالية تعني التركيب العام للحكاية وأشكال كتابتها"،(10) بحيث تساهم هذه القاعدة التواصلية في استقطاب" فضول القراءة من أجل العمل على حلّ مشكلات النص، لذا بدأت إشكالية عتبة العنوان تشغل حيزا استثنائيا في الدرس النقدي الحديث، إذ تكشف عن إمكانيات خطيرة في فهم النص وتأويله، وأظهرته الدراسات الحديثة مفتاحا تأويليا كاشفا، تبقى أيّة دراسة نقدية للنص الإبداعي ناقصة من دون معاينته والنظر إليه بجديّة توازي النظر إلى النـص"،(11) ولهذا من المهم للباحث أن يعقد مقارنة للعنوان بعد تحليله مع ما هو مبثوث في متن النص من آراء ومضامين، إذ قد تتوافق تحليلاته مع ما هو موجود في النص فيكون العنوان مجسدا لتطلعات المتلقي، وقد يكون العنوان غير معبر لما يحويه المتن فيخيب تطلع المتلقي.
يتشكّل عنوان الكتاب الذي نتناوله بالدراسة من جملتين، هما: "المتخيل في الرواية الجزائرية"، وهي بمثابة عنوان رئيس، وجملة ثانية هي: "من المتماثل إلى المختلف" وهي بمثابة عنوان فرعي أو ثانوي. فالمدلولات التي ينسجها المتلقي عبر آلياته المتنوعة هي في الأصل تنبثق عن طريق العنوان الرئيس تكتمل تحديداتها عبر العنوان الثانوي الفرعي الذي يعتبر بمثابة قرينة مصاحبة للعنوان الأول الرئيس. إن أهم المدلولات التي تتهاوى علينا نحن كقراء لهذا العنوان أن الباحثة تروم البحث في موضوع المتخيل، هذا الموضوع الذي اختلفت الكثير من الدراسات النقدية في التعاطي معه، فكثيرا ما كانت تلجأ إلى المناهج السياقية في البحث عن المُتخيل من خلال مضامين النصوص السردية، فيما تعصبت المناهج المحايثة إلى محاصرة المُتخيل عبر نسيج الكلمات داخل النص السردي. ثاني شيء يشدنا في العنوان الرئيس هما لفظتا "الرواية" والمضافة إليها "الجزائرية" في تأكيد على ضرورة حصر موضوع المتخيل في الرواية الجزائرية فقط، وعدم الخوض في روايات غير جزائرية، وهنا ربما تُطرح إشكالية مهمة شئنا ذلك أم أبينا، وهذه القضية هي إشكالية تصنيف الرواية المكتوبة باللغة الفرنسية ضمن الأدب الجزائري أم الفرنسي؟
قد لا تكمن أية إشكالية في الحقيقة على مستوى العنوان الرئيس بقدر ما تكمن إشكالية الفهم في العنوان الفرعي؛ "من المتماثل إلى المختلف" فالقارئ لهذا العنوان يتبين له أن الناقدة آمنة بلعلى قد استخلصت واستنتجت أنّ المُتخيل مرّ بمرحلتين، هما: مرحلة التشابه والتماثل من جهة، ومرحلة الاختلاف والتباين من جهة ثانية. إذا أخذنا بعين الاعتبار كل من الحرفين "من" الذي يفيد الانطلاق، و"إلى" الذي يفيد الوصول إلى غاية معينة. يتبادر إل الأذهان تساؤل ملح عن الطريقة التي انتهجتها للوصول إلى هذه النتيجة العامة، علما بأن هذه النتائج المطلقة ترتبط في الغالب بالمناهج السياقية التي تحصر نفسها في المضامين فنقول أن الرواية الجزائرية على سبيل المثال مرت في ناحية المتخيل عبر زمنين مختلفين اختلف فيهما نوعية المتخيل سواء من ناحية متلقيه أو من ناحية الناص الذي أنتج توليفات النص الروائي (هذا الأخير من منظور بنيوي). لكن إذا رجعنا إلى قول الكاتبة في كتابها هذا عندما تنفي اعتمادها على المناهج التي تهتم فقط بالمضامين في تساؤلها عن كيفية قراءة الرواية الجزائرية. تقول: "لا بد أن نشير أولا إلى أن هناك قراءتين للرواية الجزائرية الأولى ساذجة تركز على الموضوع المباشر وعرض أحداث الرواية ومحاولة ربط موضوعها بالواقع، وتهتم بالقصة المحكية وهي القراءة الصحفية أو القريبة منها، والثانية القراءة التي تعاين البنية السردية وتقنيات السرد والبنية الزمنية، وهي إلى حد ما مغلقة على الرغم من أهميتها التي تنظر إلى الرواية بنظرة محايثة معزولة عن السياق" .(12)
إذن، ما هي المنهجية أو القراءة التي اعتمدتها الناقدة في مقاربته لموضوع المتخيل في النصوص الروائية الجزائرية، خصوصا إذا كنا نعرف بأن نتائج كمثل هذه النتيجة التي توصل إليها لا يمكن إثباتها إلا عن طريق منهجين اللذين انتقدتهما وانتفتهما عنها في قراءاتـها وتحليلاتها. لعل هذا التساؤل الملح ستظهر له إجابة مقنعة في قراءة دقيقة لكل من فصول الكتاب وللمنهجية التي طبقتها في دراستها ورأي الناقد عبد الله العشي فيها.
3. قراءة في المنهج النقدي:
يصف الدكتور عبد الله العشي المنهجية النقدية والآليات الإجرائية التي استعانت بها الناقدة في قراءتها للرواية الجزائرية، وبالخصوص تحديد المتخيل فيها، بأنّها واعية، خصوصا في كونها تتبع وتتبنى "قراءة جدلية، فتقرأ النص من خلال الواقع، وتؤول الواقع من خلال النص، وتحول المحايثة إلى وسيط متواضع يقع داخل الوظيفة النقدية،لا نموذجا قبليا متكبرا موجها لها وغير قابل للمحاورة"،(13) كون الناقدة لم تلتزم، إلى حد كبير، بالمناهج النقدية التي تعتمد على تحديد طرائق السرد وأنماط الوصف، وتقف عند هذه الأمور دون أي ربط لها بما هو كائن خارج النص، بل إنها تعدّت هذه المناهج إلى ربط كل ما هو خارجي سياقي بما هو داخل في بنية النص، وتكوينه النسيجي والنسقي، مثلما تقتضيه مناهج ما بعد البنيوية. يؤكد عبد الله العشي، في مقام آخر، ويثني عند اعتماد الناقدة في معالجة الرواية الجزائرية، وبالخصوص رواية التسعينيات، على ذلك "المنظور النقدي المتوازن الموضوعي الذي برر الصيغ الأسلوبية المتعددة ولم يلغ أي واحدة منها".(14) كذلك، لم تقتنع الناقدة بما تقدمه المناهج التاريخية والسياقية من آليات وإجراءات لمقاربة النصوص الروائية، كمبدأ الانعكاس عند الماركسيين والنقاد الاجتماعيين، أو الانعكاسات النفسية عند النقاد النفسيين، على الرغم مما قد يؤثره المجتمع، والنفس البشرية وخباياه الداخلية في تشكيل المُتخيل السردي. كما لم تستسلم للمناهج البنيوية النصية الموغلة في المحايثة والتي توصل الباحث في كثير من الأحيان إلى إسقاطات ونتائج متشابهة على الرغم من أن مدوناته أو نصوصه الروائية قد تختلف، فتجعلنا نتائجها نصفها بالساذجة والإسقاطية .
اعتمدت الناقدة على مجموعة كبيرة من الآليات والمناهج ما بعد البنيوية، كالسيميائيات السردية والتداولية النصية ونظريات التلقي والنقد الثقافي للأنساق النصية، كل هذه المناهج المذكورة ينم عن اقتدار، وعي نقدي لديها في تحيين واستعمال إجراءات هذه المناهج(15)، التي هي في الأساس غربية المنشأ والتطور، فيما يتناسب مع غاية الدراسة، دون أن تجعلها تفرض على المتن الروائي نماذج ونتائج معينة، كما نجد الموروث النقدي القديم حاضرا بدرجة معينة خصوصا القرطاجني بكتابه منهاج البلغاء وسراج الأدباء التي استنارت به في تحديدها لمفهوم التخييل لديه خصوصا انه خالف سابقيه في هذه النقطة بالذات، كما نعثر لابن رشيق حضورا في شرحها لعلاقة المكان بشحذ قريحة الانسان عند الإبداع، وبالخصوص عند قرض الشعر .
كخاتمة:
إن قراءة العتبات النصية للخطاب النقدي قضية ترتبط بالأساس بمكونات شخصية الناقد - وموسوعته التأويلية، السيميوزيس بتعبير إيكو- في رؤيته للقضايا النقدية على أساس أنها أيقونات وعلامات تحيل إليها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، فيكون المرور على هذه العتبات أمرا أساسا في أي قراءة نقدية أو حتى وصفية وتحليلية. إن ما تكشفه لنا هذه القراءة النقدية – المتواضعة- لمجموعة العلامات النصية الخارجية الخاصة بالخطاب النقدي أنه يمكن التأسيس لقراءة تساندية – لا نقصد هنا بها ما يرومه محمد البازي في مشروعه النقدي؛ أي ربط البنية اللغوية/ الخطابية بما يلائمها من سياقات واستعمالات مختلفة- وإنما نؤكد على أهمية ربط وسند الخارج أي العتبة النصية إلى المضمون الإجرائي والمفهومي، عبر المقارنة المتفحصة والدقيقة لاكتشاف أوجه العلاقة بينهما، وكشف الواحد منها للآخر. وهو بالأساس يمثل قيمة القراءة النقدية الواعية والمنهجية المضبوطة.
باحث أكاديمي من جامعة تيزي وزو، الجزائر
هوامش:
(1) تعتبرها الناقدة أول رواية جزائرية، وأول رواية في التاريخ.
(2) آمنة بلعلى، المُتخيل في الرواية الجزائرية من المتماثل إلى المختلف، ط2، دار الأمل، تيزي وزو، الجزائر، 2011، ص8.
(3) طراد الكبيسي، الشعر والرسم، رؤية طوبولوجية، من بحوث مهرجان مهرجلن المربد الحادي عشر، ص171. نقلا عن: زمن عبد زين، دلالة اللون عند الجواهري، مركز النور للدراسات، من موقع: http://www.alnoor.se/article.asp?id=40145، 20/20/2009.
(4) ينظر: عبو فرج، علم عناصر الفن،د.ط، دار دلفين للنشر، ميلانو، إيطاليا، 1982، ج1، ص137.
(5) ينظر عبد المالك مرتاض، التحليل السيميائي للخطاب الشعري، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2005، ص 28، 51، 52،53.
(6) ينظر المرجع نفسه، ص 29،31.
(7) هذه أسئلة قد تتبادر إلى ذهن قارئ هذا البحث، لهذا جاءت قراءتنا للون الكتاب من منظور سيميائي لتجيب عن هذه الأسئلة، ولهذا، أيضا، وبالضبط جاء تركيزنا إلى درجة الإسهاب في تقديم أهمية اللون كعتبة أساسية في فهم العمل النقدي، ما جعلنا لا نشرع مباشرة في تحليل اللونين الأبيض والأسود في غلاف مدوّنتنا ( كتاب المتخيل في الرواية الجزائرية) إلا بعد تقديم بعض الحجج المقنعة لهذه العملية النقدية.
(8) ينظر: عبد الفتـاح الحجمـري، عتبـات النـص، البنية والدلالة، ط1،شركـة الرابطـة، الـدار البيـضاء،1996، ص16.
(9) آمنة بلعلى، المتخيل في الرواية الجزائرية، ص27.
(10) عبد الفتاح الحجمري، عتبات النص، البنية والدلالة، ص16.
(11) محمد صابر عبيد، سحر النص، من أجنحة الشعر إلى أفق السرد، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2008، ص55.
(12) آمنة بلعلى، المتخيل في الرواية الجزائرية، ص ص32،33.
(13) آمنة بلعلى، المتخيل في الرواية الجزائرية،ص5.
(14) المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
(15) سبق للناقدة أن عالجت الخطاب الصوفي وفق هذه المناهج المذكورة بمهارة، وهذا في كتابها " تحليل الخطاب الصوفي في ضوء المناهج النقدية المعاصرة"، كما يلاحظ أن الناقدة تتعامل في معالجتها النصوص التراثية على وجه الخصوص بطريقة مميزة في فهم المناهج، وعدم الأخذ فقط ببعض جزئياتها التي تحيل في غالب الأحيان إلى النتائج نفسها، رغم اختلاف المتن المدروس.