المقدّمة:
يُعتبر «القناعُ» مكوِّنا من مكوّنات النّصّ الشّعريّ العربيّ الحديث، أي أحد مظاهر حداثته.
مفهوم القناع لغةً:
جاء في مادّة (قَنَعَ) من "لسان العرب": «الْمِقْنَعَةُ والْمِقْنَعُ: ما تُغطّي به المرأةُ رأسَها. والقِناعُ أوسَعُ من الْمِقْنَعَةِ [...] وقدْ تَقَنّعَتْ به وقَنّعَتْ رأسَها. وقَنّعْتُها: ألْبَسْتُها القِنَاعَ، فَتَقَنّعَتْ به. قال عنترةُ: "إنْ تُغْدِفِي دُونِي القِنَاعَ فَإنّنِي* * *طَبٌّ بِأخْذِ الفَارِسِ الْمُسْتَلْئِمِ". والقِناعُ والْمِقْنَعَةُ ما تُغطّي به المرأةُ رأسَها ومَحاسِنَها من ثوبٍ. "ألقَى علَى وجْهِه قِنَاعَ الحيَاءِ": على المثَل، وقَنّعَهُ الشّيْبُ خِمَارَه: إذا عَلاهُ الشّيْبُ. وربّما سَمُّوا الشّيْبَ قِناعًا لِكوْنِه مَوضِعَ القِنَاعِ من الرّأسِ .. أتاهُ "رَجلٌ مُقَنّعٌ بِالحدِيد" أيْ علَى رأسِه بَيْضَةٌ، وهي الْخَوْذَةُ، لأنّ الرّأسَ مَوضِعُ القِناعِ. "زَارَ قَبْرَ أُمّه في ألْفِ مُقَنّعٍ"، أي في ألْفِ فارِسٍ مُغَطّى بالسِّلاحِ .. الْمُقَنّعُ: هو المغَطّى رأسُه».
اِنتَقيْنا من المعانِي اللّغويّة لكلمة "قِناع" ما رأيْنا أنّ له صلةً مباشرة بالمعنى الاصطلاحيّ الشّعريّ. وانطلاقاً من هذه التّعريفات المعجميّة يبدو "القناعُ" كِنايةً عمّا يُغطّي الصّورةَ الطّبيعيّة أو يعلُو اللّونَ الأصليّ أو يحجبُ الوجهَ الحقيقيّ حجْباً مؤقّتاً.
مفهوم القناع اصْطلاحاً:
يُعرّف عليّ جعفر العلاّق: «القناعُ تقنية عُنِي باستخدامِها شعراءُ هامّون في العالم مثل "ييتس" و"إزرا باوند" و"إليوت" (...). إنّ القناعَ رمزٌ يأخذُ شكلَ الشّخصيّة التّاريخيّة غالباً الّتي تُنجِز حديثَها بضمير المتكلّم»(1).
ويقول جابر عصفور في الشّأن التّعريفيّ نفسِه: «غالباً ما يتمثّل رمزُ القناعِ في شخصيّة من الشّخصيّات تنطِق القصيدةُ صوتَها، وتُقدّمها تقديماً متميّزاً يكشفُ عالمَ هذه الشّخصيّة في مواقفها أو هواجسِها أو تأمّلاتِها أو علاقاتِها. فتُسيطِر هذه الشّخصيّةُ على "قصيدة القناع" وتَتحدّث بضمير المتكلّم، إلى درجة يُخيّل إلينا معها أنّنا نستمِعُ إلى صوتِ الشّخصيّة. ولكنّنا نُدرك شيئاً فشيئاً، أنّها ليستْ سوى قناعٍ يَنطق الشّاعرُ من خلاله. فيتجاوب صوتُ الشّخصيّةِ المباشرُ مع صوتِ الشّاعر الضّمنيّ تجاوُباً يصل بنا إلى معنى القناع في القصيدة»(2).
أمّا عبد الوهاب البيّاتي فيُعرّف المصطلحَ قائلاً: «القناعُ هو الاسمُ الّذي يتحدّث من خلاله الشّاعرُ نفسُه، مُتجرِّداً من ذاتيّته، أيْ أنّ الشّاعرَ يعمدُ إلى خلقِ وجودٍ مستقلّ عن ذاته (...). إنّ القصيدةَ في مثل هذه الحالة عالمٌ مستقلّ عن الشّاعر، وإنْ كان هو خالقَها»(3).
نستنتجُ من التّعريفات السّابقة أنّ "القناعَ" أسلوبٌ شعريّ يتمثّل في أنْ يخاطبَنا الشّاعرُ وقد تقمّصَ شخصيّةً مّا، فتمَاهَى معها. والقرينةُ اللّفظيّة الدّالّة على وجود القناع هي ضميرُ المتكلّم الّذي ينوبُ الشّاعرَ والشّخصيّةَ معاً. أمّا القرينةُ المعنويّة الدّالّة على أنّ القصيدةَ مقنّعة فهي وجودُ تفاعل بين ذاتيّةِ الشّاعر ولوازمِه وبين خصائصِ الشّخصيّة الْمُستدعاة وشروطها المرجعيّة.
نشأة القناع في الشّعر العربيّ المعاصر:
يَضبط محمّد الغزّي هذه النّشأةَ الحديثة نسبيّاً مُبيّناً أنّ القناعَ: «واحدٌ من بين العديدِ من المصطلحات الّتي استعارها النّقّادُ العرب من مصطلحات غربيّة. وقد جاء ترجمةً للمصطلح الإنقليزيّ:Mask الّذي تردّد في دراسات "إليوت" وبحوثِه النّقديّة [...]. لم يَبرزْ مصطلحُ القناع بإجماع العديد من النّقّاد إلاّ مع الشّاعر عبد الوهاب البيّاتي الّذي وقف عنده طويلاً في كتابه "تجربتي الشّعريّة" ليُثبتَ أنّه ملمحٌ هامّ من ملامح القصيدة الحديثة»(4). فقبلَ هذا أُشيرَ إلى أسلوب القناع بمصطلح "الرّمز".
نلحظُ ارتباطَ نشأة القناع، غرْباً وشرْقاً، بالثّورة على الرّومنطقيّة لأنّه يسمح للشّاعر بأنْ: «يُضفِيَ على صوته نبْرةً موضوعيّة، شِبهَ مُحايدة، تَنأى به عن التّدفّق المباشر للذّات»(5). أمّا الرّومنطقيّةُ فكانت عادة غوْصاً في الذّاتِ الشّاعرةِ حدّ الذّوبان فيها والانقطاع عمّا حوْلها.
والقناعُ أنواعٌ، منها: الأسطوريُّ الضّارب في أعماق التّاريخ الإنسانيّ، ومنها الْخُرافيّ الْمُسْتلّ من التّراث الشّعبيّ، ومنها الدّينيّ الّذي يعود بأصله إلى الدّيانات السّماويّة الثّلاث اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام، ومنها التّاريخيّ الّذي يتفرّع إلى أدبيّ وحربيّ وسياسيّ، ومنها الْمُبتدَعُ الّذي اجتهد الشّاعرُ العربيّ الحديثُ في نحتِ كيانه وتشكيلِ ملامحه بنفسه. فهذا ما فعل الشّاعرُ العراقيّ سعدي يوسف لَمّا اخترع شخصيّةَ "الأخضر بن يوسف" وما صنع الشّاعرُ السّوريّ أدونيس عندما خلق شخصيّةَ "مِهيار الدّمشقيّ".
أمّا الأسئلةُ الّتي سنحاول الإجابةَ عنها في متنِ البحث فهي:
ما الأقنعةُ الّتي ارتداها "عبد الوهاب البيّاتي" و"خليل حاوي" و"بدر شاكر السّيّاب" في مجموعاتِهم الشّعريّة: «سِفرُ الفقرِ والثّورة» و«نهرُ الرّمادِ» و«أنشودةُ المطرِ»؟
في أيِّ السّياقات الشّعريّة تَقنّع ثلاثتُهم؟
لِمَ عمدُوا إلى الكلام من خلفِ قناعٍ؟
ماذا وهبَهم الصّوتُ المستدعَى مِن عوالِم أخرى؟
أنواعُ القناع ومواطنُ استعماله
عبد الوهاب البيّاتي: «سِفرُ الفقرِ والثّورة»:
[ملاحظة: قسّم البيّاتي قصائدَه المطوّلة إلى أجزاء يسمِّيها عناقيدَ: «كلُّ عنقود منها يمكن أنْ يُقرأ وحده. ولكنّ محصّلَ عناقيد القصيدة النّهائيّ يشكِّل وحدةً جديدة لهذه العناقيد، بالرّغم من وحدة كلّ عنقودٍ منها على انفراد»(6). وسأستعمل الاسمَ نفسَه وأنا أتقصّى الأقنعةَ ومواضعَها في مجموعته].
"عذابُ الحلاّج": تقنّع البيّاتي في هذه المطوّلة بالحلاّج المتصوّفِ الثّائر الّذي وُلد في الطّور من مقاطعة فارس سنةَ 244ﻫ/858م، أَعدمه الوزيرُ العبّاسيّ حامد بن العبّاس بتهمة الزّندقة وادّعاء الألوهيّة في 309ﻫ/922م.
في العنقود1 "الْمُريدُ": تقنّعَ الشّاعرُ بالحلاّج وهو يخاطب أحدَ مُريديه. إذْ يقول:
«وها أنَا أراكَ عاكِفاً على رَمَادِ هذِي النّار».
ونُرجّح أنّها النّار الّتي أُحرِقت فيها جثّةُ الحلاّج الّتي قُطِع الرّأسُ عنها أُلقيَ رمادُها في نهر دجلةَ. وقد كان أغلبُ مُريدِيه حاضرين لحظةَ قتله شرّ قتْلة. ويعلُو في القصيدة صوتُ الحلاّج الشّيخ الّذي تقول الأخبارُ إنّه بقي إلى آخرِ ساعة يُعلّم ويُرشِد مَن استطاع إليه وصولاً:
«مَوعدُنا الحشْرُ فلا تفُضّ ختْمَ كلِماتِ الرّيحِ فوقَ الماء».
كأنّما يُذكِّر بأحدِ مبادئ المتصوّفة «السّرُّ القُدُسيّ، أي الحقيقة، أمانةٌ عند المتّصلِ بالحقّ لا يُسمَحُ له بالبوْحِ به إلاّ لمنْ تَهيّأ لِتقبّلِه، وذلك وِقايةً لغيرِ المتهيّئِ مِن أنْ يُدركَه سطوعُ الحقيقة فلا يَقْوَى على تحمّلِه .. فالبائحُ بهذا السّرّ يكونُ قد أصابه ظلمُ نفسِه وظلمُ غيره وظلمُ الحقيقة الّتي لم يُراعِ اتّصالَه بها، بل انتهكَ قُدُسيّتَها وفرّط فيها»(7). إنّ كاشفَ السّرّ لغير أهله هو بمثابة «الخائن» عند المتصوّفة.
العنقود2 "رِحلةٌ حول الكلمات": تقنّع البيّاتي بهذا الشّهيد الصّوفيّ وهو يناجي ربّه طالِباً الإسراعَ بقتلِه لأنّه يشتهي لقاءَ حبيبه. وأخبارُ الحلاّج تُلحّ على هذا المعنَى الموغِل في عشقِ الخالق. فقد نُسب إليه قولُه:
«اُقتلُونِي يا ثِقاتِي* * *إنّ في قتْلِي حَياتِي
ومَماتِي في حياتِي* * *وحياتِي في مَماتِي»(8)
العنقودُ4 "المحاكمةُ": يستدعِي الشّاعرُ المحاكمةَ الظّالمة الّتي أُخضِع إليها الحلاّجُ لتبرير تصفيته المقرّرة سلفاً.
العنقودُ5 "الصّلبُ": يُحيل العنوانُ على صلبِ الحلاّج بعد إدانتِه إمْعاناً في التّنكيل به والتّشفّي منه باعتباره عدوّا سافِراً للدّولة العبّاسيّة. لكنّ حلاّجَ التّاريخ كحلاّجِ القصيدة يَريان في الصّلب «رمزا للفَناءِ الّذي هو شرطٌ للتّجدّد»(9). في هذا يقول الشّاعرُ بصوتِ حلاّجه:
«وها أنَا أنامْ
مُنتظِرا فجرَ خلاصِي ساعةَ الإعْدامْ».
العنقودُ6 "رمادٌ في الرّيح": يقول البيّاتي مُستحضِرا إلقاءَ رماد جثّةِ الحلاّج/ جثّتِه في دجلةَ مُستبشِرا بانبعاث الخصب في "الأرضِ المواتِ":
«أوصَالُ جسْمِي أصبَحتْ سَمادْ
فِي غابَةِ الرّمادْ».
"محنةُ أبي العلاء": لبس البيّاتي قناعَ أبي العلاء المعرّي الشّاعرِ المتفلسفِ الّذي عاش في مدينة المعرّة زاهِداً مُعتزِلاً العالَمَ بين عامي 973م و1057م، كان لاذِعَ النّقد مُتبرّماً بالدّنياً والنّاس كثيرَ التّشاؤم رقيقَ الشّعور رقّةً أرهقتْه بقدر ما أوْهنَتْه عاهةُ العمَى. جاء هذا القناعُ صريحَ الحضور في عناقيد ثلاثة.
العنقودُ1 "فارسُ النّحّاس": تقنّع الشّاعرُ بالمعرّي الّذي يُعاتب أباه عتاباً دامِياً على اقْترافِه ذنبَ إنجابه ضريراً مَتْرُوكاً مُعذّباً. كان ذلك جليّاً في قوله الشّهير:
«هذا مَا جَنَاهُ علَيّ أبِي* * *وَلَمْ أجْنِهِ علَى أحَدٍ».
بينما يقول البيّاتي مُتفجِّعا عبر قناعِه كاشِفاً محنةَ الفقْدِ والحرمان والغربة الّتي تسكنُه:
«حَرَمْتَنِي مِن نِعْمةِ الضّياء
عَلّمْتَنِي ثِقْلَ غِيابِ الكلِماتِ وعَذَابَ الصّمْتِ والبُكَاء».
العنقودُ2 "العباءةُ والخنجر": يرتدِي شاعرُنا قناعَ أبي العلاء الّذي تقرّب من صاحبِ السّلطان مدّةً، ثمّ سرعان ما قاطعه بعدما أهِينَ في مجلسه علناً بأنْ أُخرِج مجروراً لأنّه خالفَ موقفَ الرّاعِي وليِّ النّعمة الحاكمِ بأمره في الرّقابِ وفي العقول. بعدَها عاد "رهِينُ المحبِسيْن" (العمَى والبيتُ) إلى عزلتِه أعمقَ تشاؤماً وأنْأى عن الجماعة مِمّا كان قبْلاً. كذا بدتْ تجربةُ البيّاتي "صاحبِ القلم" مع "صاحب السّيف" المعاصر، تجربةٌ تُذِلّ وتُدمِّر وتكسِر أجنحةَ شياطين الشّعر. فيُنشِد واصِفاً إيّاها:
«شَرِبتُ منْ خَمْرِ الأمِيرِ، ورأيْتُ في نهارِ ليْلِهِ النّجُومْ
أكلْتُ منْ طعامِهِ المسْمُومْ
أُصِبْتُ بِالتّخْمَةِ والْحُمّى وبِالضّجَرْ
أصْبَحتُ في بلاطِهِ حَجَرْ».
العنقودُ5 "حسرةٌ في بغداد": يحضرُ أبو العلاء قناعاً في سياقِ مناجاة الوطن بل رثائه. فالعراق هو "معرّةُ النّعمان" نأياً وإيلاماً وغِياباً في الذّاكرة. يقول:
«مَعرّةَ النّعْمانِ يَا حَدِيقةَ الذّهَبْ* * *لَمْ يَبْقَ إلاّ الشّعرُ في ذَاكِرَةِ الأحْقَابِ».
نستنتج أنّ عبد الوهاب البيّاتي قد عوّل في «سِفرُ الفقر والثّورة» على قناعيْن تاريخيّيْن تمتّعا بوجود حقيقيّ قرونا خَلَتْ: الحلاّجُ متصوّفٌ فيلسوف ثائر على الظّلم توّاق إلى الحرّيّة، وأبو العلاء المعرّي شاعرٌ متفلسف ثائر على جفْوة المقادير متألّم من تجربة الحياة. هما قناعان يختزلان الألَمَ الفرديّ والجماعيّ بقدر ما يستبطنان الغضبَ الثّوريّ. لذا كان صوتاهما مُدوّيا في «سِفر» أراده صاحبُه صرخةً ضدّ الفقر ونداءً صاخبا للثّورة.
خليل حاوي: «نهرُ الرّماد»:
في أقسامٍ عدّة من المجموعة الشّعريّة، الّتي هي قصيدةٌ مطوّلة، لبِس حاوي أقنعةً متنوّعة. وهي:
القسمُ IV "جحيمٌ بارد": ارتدَى قناعَ غانية تتندّمُ على توبتها الفاشلة. فلا هي ظلّتْ كما كانتْ، ولا استطاعتْ أنْ تجدَ راحتَها في وضعها الجديد. وإذا بها تتقطّع بين النّدم واليأس. يقولُ الشّاعرُ - الغانيةُ:
«ليتَنِي ما زِلتُ دَرْبًا للذّئَابْ
وعَلَى حَشْرجَةِ الأنْقاضِ فِي صَدْرِي
علَى الكَهْفِ الخرَابْ
يَلْهَثُ الوغْدُ بِحُمَّى رِئَتيْهِ
بِدُعَاباتِ السّكَارَى، بِالسِّبابْ».
القسمُ V "بلا عنوانٍ": تقنّع حاوي بامرأة كانتْ قد هربتْ عن زوجِها هرُوبَ الإنسانِ من قدرهِ البائس نحوَ السّعادةِ المأمُولة. وها هي في النّصّ تُكابِدُ لحظاتِ الوداع الأخيرة مع حبيبها. كأنّما هربتْ من ثِقل "المصير الزّوجيّ" إلى جحيمِ الإحباطِ العاطفيّ. يقولُ حاوي بصوتِها الحائر المعاتِب هَدَرا:
«ليلةٌ تَمْضِي، وماذا بعدَها؟ قُلْ لِي..
جَبانٌ أنتَ، قُلْ: "آخِرُ ليلَهْ"».
القسمُ VII "ضحكاتُ الصّغار": هنا يحضُرُ قناعُ سجينٍ يرفضُ العفوَ الّذي جاءه بعد فواتِ الأوانِ وانقضاء العمر سُدًى. تمتزجُ في هذا الرّفض مشاعرُ الكبرياء والغضب المكتُوم والأسَى على الذّات. فَـ "ما ضَرّ الشّاةَ سَلْخُها بعدَ ذَبْحِها". وقد ذُبِح الشّاعرُ - السّجينُ شرّ ذبحةٍ:
«رُدّ بابَ السّجْنِ فِي وَجْهِ النّهارْ
كَانَ قبْلَ اليَوْمِ
يُغِرِي العَفوُ أوْ يُغْرِي الفِرارْ».
القسمُ IX "حُبٌّ وجَلْجلةٌ": يُشفِق السّيّدُ المسيحُ على قومِه، فيَطلبُ من ربّه أنْ يُعيدَه إلى الحياة كيْ يُرشِدَهم ويهدِيهم رغم ما عانَى من ظلمِهم. بهذا تقنّع الشّاعرُ - رسولُ الحقّ والخير والعدل الّذي مهما عاش من صَلبٍ مجازيّ، لا ينْثنِي ولا يَرتدّ عن تنوِير قومِه الضّالّين:
«رُدّنِي رَبِّي إلى أرضِي،
أعِدْنِي للحَيَاةْ
وَلْيَكُنْ ما كانَ ما عانَيْتُ مِنْها:
طَعنَةَ الْحِربةِ، أحْقَادَ الْجُناةْ
وصَلِيبِي، والدّمَ النّازِفَ مِنهُ
لَيْلَ مأسَاتِي وأعْيادَ الطُّغاةْ».
نُلاحظُ أنّ خليل حاوي قد مالَ غالبا إلى ابتِداع أقنِعته بنفسه وإلى تشْكيل ملامِحها انطلاقا من واقعه الاجتماعيّ الّذي تَمرّس به. فليسَ للغانيةِ أو الزّوجة الخائنة أو السّجين أيُّ مرجعيّة تاريخيّة. لقد استلهَم حاوي مُعاناتِها الإقصاءَ والنّفُورَ والإدانةَ الأخلاقيّةَ من معاناتِه الوعيَ الشّقيّ. اخترعها كما شاء ليتقنّع بها كيفما أرادَ. نستثنِي من ذلك القناعَ الدّينِيّ (المسيح) الّذي صار بمثابة اللاّزمة في شعرنا المعاصر لكثرةِ ما ارتداه الشّعراءُ وتكلّموا بصوتِه وتلبّسوا بمحنتِه الدّامية.
بدر شاكر السّيّاب: «أنشودةُ المطرِ»:
- قصيدة "الْمُخبِرُ": تقنّع السّيّابُ بِمُخبِر (جاسوس) يعيشُ لحظةَ اعترافٍ بانحرافِ رغائبه وشُرورِ نفسه. كأنّما تضعُ الضّحيّةُ نفسَها موضِعَ الجانِي كي تفهَم ما يُبطِن من ألمِ احتقار الذّات وإدراكِ وَضاعةِ فِعلِه. فيحُلّ الإشفاقُ محلّ الحقدِ:
«أنا ما تشاءُ: أنا الحقِيرْ
صَبّاغُ أحذِيةِ الغُزاةِ، وبَائِعُ الدّمِ والضّمِيرْ
للظّالِمِينَ. أنا الغُرابْ
يَقْتَاتُ منْ جُثَثِ الفِراخْ. أنا الدّمارُ، أنا الخرابْ!».
قصيدة "تَمّوزُ جِيكور": يحضرُ قِناعُ "تَمّوز" إلهِ الخصْب عند البابليّين، وهو الّذي قتله خنزيرٌ برّيّ، فطلعتْ من دمِه شقائقُ النّعمانِ. ويُعتبَر معادِلا لِـ "أدونيس" الإغريقيّ. تقنّع به السّيّابُ لحظةَ النّزْفِ حتّى الموتِ، لكنْ نزْفَ المواتِ لا الخصوبةِ. هكذا يحترقُ الشّاعرُ في تضحيةٍ عبثيّةٍ بالنّفسِ:
«نَابُ الخنْزيرِ يَشُقّ يَدِي
ويَغُوصُ لَظَاهُ إلى كبِدِي،
ودَمِي يَتَدفّقُ، يَنْسَابُ:
لَمْ يَغْدُ شَقائقَ أو قَمْحا
لكنْ مِلْحا».
قصيدة "العودةُ إلى جِيكور": لبِس السّيّابُ قِناعيْ محمّدٍ والمسيحِ معا. فاستعادَ شعريّا قصّةَ إسراءِ رسول المسلمين إلى بيت المقدس وعُرُوجه إلى السّماء والتّنقّل بين أفلاكها. ومن المسيح استحضرَ قصّةَ صلْبه وعشائه الأخير مع حواريه. تجاورَ الصّوتان تجاوُرَ الحالاتِ الأضدادِ الّتي تنتابُ الشّاعرَ. فهو يُحلّقُ في السّماء بقدرِ ما تلفظُه الأرضُ بمنْ فيها. كلّما نَزفتْ رُوحُه من أجلِ قومِه قالوا "هلْ مِن مزِيد؟!":
«علَى جَوادِ الحلُمِ الأشْهبِ
أسريْتُ عبْرَ التّلالْ».
«مَنْ يُنزِلُ المصلُوبَ عن لوْحِهِ؟
مَنْ يُطرِدُ العُقْبانَ عن جُرْحِهِ؟».
«هذا طعامِي أيّها الجائعونْ
هذي دُمُوعِي أيّها البائسُونْ».
قصيدة "المسيحُ بعد الصّلْبِ": يعودُ السّيّابُ إلى ارتداء قناع يسوع المسيح وقد انبعث ثانيةً يسعَى في الأرض. فلم يُرفَعْ إلى السّماء كما تقول الأناجيلُ والقرآنُ. هو حيّ في القصيدة رغمَ جراحِه النّازفة، أو حيّ بجراحِه تلك:
«بَعدَما أنْزَلُونِي سمِعتُ الرّياحْ
في نُواحٍ طوِيلٍ تَسُفّ النّخِيلْ،
والْخُطَى وهي تَنْأى. إذَنْ فالجراحْ
والصّلِيبُ الّذي سَمّرُونِي عليْه طوالَ الأصِيلْ
لَمْ تُمِتْنِي...».
قصيدة "قارِئُ الدّمِ": تَقنّع الشّاعرُ بعرّاف أو كاهن أو "قارئ فنجان" عسى أن يستطلعَ مستقبلَ سلاطين الجوْر والطّغيان والاستبداد. كأنّما يُبشّر نفسَه وأمثالَه بنهاية الكابوس الثّقيل. وكثيرا ما يكون الشّعراءُ من ذوِي النّبوءات. فيقول العرّافُ العارفُ بالمصائر البائسة:
«أنا أيّهَا الطّاغُوتُ مُقتَحِمُ الرّتَاجِ علَى الغُيُوبْ
أبْصَرْتُ يوْمَكَ وهْوَ يَأزَفُ* * *هذه سُحُبُ الغُرُوبْ».
لقد نوّع بدر شاكر السّيّابُ أقنعةَ «أنشودةُ المطر». إذِ انتقل من القناع الأسطوريّ (تمّوز) إلى القناع الدّينِيّ (محمّد وعيسى) إلى القناع الاجتماعيّ والسّياسيّ المبتَدَع (العرّاف والمخبِر). بهذا التّنويع الّذي يميّزه نسبيّا عن حاوي والبيّاتي يكون قد انْفتح على مرجِعيّات عدّة أوّلا، ومنحَ خيالَه الشّعريّ فرصَ اختراع ما يحتاج من أقنعة جديدة ثانيا، وجعلَ جميعَ ذلك، ثالثا، يتكاتفُ لتشكيل الصّورة الشّعريّة ولإنتاج المعنى حقيقةً ومجازا.
نختمُ هذا القسمَ من البحث بطرْح الأسئلة التّالية: لِمَ كان استدعاءُ هذه الشّخصيّات من عُمقِ الأسطورة أو من بطونِ المقدّس أو من محض الخيال الشّعريّ؟ لِمَ يتخفّى الشّاعرُ العربيّ المعاصر، وهو يكتبُ نصّه، متقنّعا بوجوهِ غيره مُتكلّما بأصواتها؟ كيف تَحالف صوتَا الشّاعر والقناع لإنشاء القصيدة؟
وظائفُ القناع ودواعي ارتدائه:
يتقنّع الشّاعرُ المعاصر بشخصيّة مّا مُحافِظا على سِماتها الأصليّة أحيانا ومُحوّرا إيّاها غالبا. وذلك حتّى تصيرَ الشّخصيّةُ المستدعاةُ طيِّعةً يسهُل تماهِي الشّاعرِ المستدعِي معها. فيؤدّي القناعُ آنذاك ما أُريد له من وظائفَ أو أكثرَ مِمّا فكّر به صاحبُ النّصّ.
الوظيفة الإيديولوجيّة
عبد الوهاب البيّاتي:
يُعبّر اختيارُ القناع أوّلا عن موقفٍ من القناع نفسِه وثانيا عن موقفٍ من العالَم الّذي يتقنّع الشّاعرُ ليخاطبه. فقد اعترف البيّاتي بأنّ "سفرُ الفقر والثّورة" هو إحدى المجموعات الشّعريّة الّتي استحضرَ فيها شخصيّةَ «الثّوريّ في الثّورة المستمرّة»(10). وكذلك كان الحلاّجُ والمعريّ. فكلاهما ثائرٌ بفكره وسلوكه ولغته الإبداعيّة. ورغم أنّ البيّاتي حافظ دوما على انتمائه إلى الفكر الاشتراكيّ فقد تقنّع بالصّوفيّ (الحلاّج) الّذي ذَوّب أناه في نورانيّة اللاّهوت حتّى تحرّر من عالم الحسّ والشّهادة. فالقناعُ والمتقنّعُ كلاهما ثائران على الظّلم أيّا كان مأتاه وضحاياه، طامحان إلى الخير المطلَق لعموم الخلْق، لا يعرف اليأسُ من أنْسنَةِ هذا الوجود البشريّ المختلّ طريقا إلى قلبيْهما. غايتُهما الثّوريّة واحدةٌ رغم بُعد المسافة بين مثاليّةِ الشّاعر ولاهوتيّةِ المتصوّف وبين زمنَيْ كلّ منهما. وكذا نقرأ تقنّعَ البيّاتي بـ "رهِين المحبسيْن" الّذي امتحنَه عمَى البصر حتّى أوقدَ بصيرتَه جاعِلا إيّاه فيلسوفَ الشّعراء أو شاعرَ الفلاسفة. إنّ الظّلمَ قديمٌ قِدمَ الثّورة عليه، مُجدّدٌ العهدَ لا يُخلِف ميعادا مع بني آدم.
اختيارُ البيّاتي للحلاّج والمعريّ عائدٌ إلى ما في القناعيْن من زَخمٍ ثوريّ عارِم شامل على فساد واقعِ بنِي آدم مُذْ كانُوا. فالحلاّجُ قاطعَ التّصوّفَ السّلبيّ المكتفِيَ بمناجاة الخالِق النّاسيَ عذابَ المخلوق. وأسّس تصوّفا "إصلاحيّا" (إن صحّ التّعبيرُ) جعل الدّولةَ العبّاسيّة تقفُ منه موقفَ الرِّيبَة والخِشْية والإنكار. في هذا يقول سامي مكارم: «وكانَ كلّما أمْعنَ الحكّامُ بالجوْرِ وجمْعِ المال ومنْعِه، زادَ إصْرارا على موقِفه ومُعارَضةً للوضعِ القائم وتقرُّبا من المستَضْعَفين وتَمرّدا على محبّةِ الدّنيا واستِعلاءً على مُحِبِّيها وتحذِيرا للنّاسِ منها وإنْذارا لهم من تَقلُّباتِها وتَهكُّما على أهلِها من حُكّامٍ ومُقرّبِين إلى حكّامٍ»(11). كانتْ هذه السّمةُ الثّوريّة الاستثنائيّة هي ما سهّل على خصومِه اتّهامَه بالانتماء إلى دعوةِ "القرامطة"(12) وإلى حركةِ الزّنج المتطرّفة، وكلاهُما شيعيّتان ثائرتان في عصر الحلاّج. أمّا المعرّي فقد كان ثابتَ الغضبِ من الدّنيا بأسرها خيرِها وشرِّها مُعبِّرا عن موقفِه ذاك بالاعتزالِ الكئيب سُلوكا وبالنّقدِ العنيف إنتاجا أدبيّا (شعرا ونثرا). إنّ حزنَه الغاضبَ الآتِيَ من رحِمِ القرن العاشر لَيجدُ صدًى في نفسِ ابن القرنِ العشرين. كأنّما الزّمنُ ثابتٌ لا يُراوح مكانَه.
لذا نرى في تقنُّعِ البيّاتي بالحلاّج والمعرّي شكلا من أشكال التّبنّي للجانب الثّوريّ في كلّ منهما مذهبا وقولا وسيرة. بِهما يُدِين البيّاتي التّاريخَ الرّسميّ الّذي هَمّش المتصوّفةَ غيرَ الْمُنبتِّين عن واقعهم وقدّم الشّعراءَ الغزِلِين والمدّاحِين على حساب الشّعراء المفكّرين.
خليل حاوي:
تجرّأ حاوي على التّقنّعِ بغانية ثمّ بزوجة خائنة في مجتمع عربيّ إسلاميّ يعتبرُ العِرضَ (بمعناه الجسديّ الأنثويّ) معيارا أخلاقيّا لا يُتَجاوز. قد يكون في تماهِي الشّاعرِ الرّجلِ مع هذه النّماذجِ النّسائيّة المنبوذة الْمُدانَة المغضوب عليها رغبةٌ في الاعتراف بالمهمّشات ودعوةٌ إلى أنْ يُراجعَ سلّمُ الأخلاق مقاييسَه المنافقة الّتي تكيلُ بمكاييل عدّة. فالغانيةُ الّتي يُدِينها الجميعُ ويتبرّؤون منها، لا يلتفتُ أحدٌ إلى شُركائِها في الفعل الفاضح من الرّجالِ. وخيانةُ الزّوج لا تكادُ تُجرّم، بينما تُوضع خيانةُ الزّوجة، أيّا تكنْ دواعِيها، موضعَ الجريمةِ النّكراء غيرِ المغتفَرة. يفعل حماةُ الأخلاق هذا دون أن يُكلِّفُوا أنفسَهم مشقّةَ مُساءلة شريكها في الخيانة. فالذّكورةُ في هذا الباب من الذّنوب، بريئة طاهرة لا يلحق بها عارٌ.
ثمّ إنّ هذه الفئةَ "الضّالّة" ليستْ وحدَها المسؤولةَ عن انحراف السّبُل بها. إنّها صنيعةُ واقعِها الجارف المأفُون. وكثيرا ما تُكرَه على إتيان ما تأتي من فِعال. فلِم تكتفي المؤسّسةُ الاجتماعيّة بوضعِ هؤلاء في قفص الاتّهام؟ ألأنّه الحلّ الأسهلُ والأقلّ تكلفةً والأحْفظُ لبُنيانها المتهالك؟ أم هو هروبٌ من المسؤوليّة على ازدواج المعايير الأخلاقيّة وعلى الزّجِّ بالمهمّشين في خانة المذنبين سواءٌ ثبتتْ براءتُهم أم انتفتْ.
نرى في ارتداء حاوي هذه الأقنعةَ المبتدَعة صرخةً في وجه النّفاق الأخلاقيّ والظّلم الاجتماعيّ. وهو أيضا إعلانُ تعاطفٍ مع هؤلاء الطّرِيدات من "مملكة الغفران البشريّة" وإدانةٌ للعدالة "الذّكوريّة" الّتي تُحِقّ للذّكور ما تُحرّم على النّساء. وما المظالمُ المسقَطة على المرأة إلاّ صورةٌ مِمّا يلقاه الْمُهمّشون من غبْن وإبعاد وتجريم.
بدر شاكر السّيّاب:
مثّل السّيّابُ رائدَ الشّعراء العرب المعاصرين في استثمار الأساطير المتنوّعة لاسيّما كرموز شعريّة. فقد عُدّتِ الأسطورةُ «زمنَ البدايات الرّائعَ» (بعبارة مارسيا إلياد: Marcia Eliade). في ذلك يقول السّيّابُ: «نحن نعيشُ في عالمٍ لا شعرَ فيه. أعنِي أنّ القيمَ الّتي تسودُه قِيمٌ لاشعريّة... فماذا يفعل الشّاعرُ إذنْ؟ يلجأ إلى الخرافات والأساطير الّتي لا تزالُ تحتفظ بحرارتِها لأنّها ليستْ جُزءًا من هذا العالَم»(13).
على هذا الأساس يحضرُ قناعُ تمّوز كي يُعيدَ لعالمنا المهْترِئ طفولتَه وشعريّتَه، وكيْ يمنحَ لابسَ القناع قدْرا أوسعَ من حرّيّة اقتحام مملكة اللاّهوت. فالشّاعرُ كالإله الوثنِيّ، بنصّه يُحيِي ويُميتُ، يَزرعُ الخصبَ كما ينشرُ الجدبَ. هو نبِيُّ قومه الّذي يستدعِي الماضيَ ويستحضرُ الآتيَ. ميزةُ الأقنعة الأسطوريّة أنّها تشْحذُ مَلَكةَ التّخيِيل وتُكثّف الدّلالاتِ الرّمزيّة في النّصّ.
وتجدرُ الإشارة إلى أنّ السّيّابَ هو ثالثُ الشّعراء الّذين تَجرّؤُوا على التّقنّعِ بمحمّدٍ رسولِ المسلمين (مع أدونيس وصلاح عبد الصّبور)، رغم أنّ انتحالَ هذه الشّخصيّة عُدّ دوما كبيرةً من الكبائر. ألا يكون ذلك إقرارا بحقّ الشّعر في ارتِياد التّراث الدّينِيّ بأسطُوريِّه وسماويِّه؟ أم تكون الجرأةُ هذه إعلانَ عصيانٍ في وجهِ الفقهاء الّذين انفردوا بقراءة القرآن وتأويله وضيّقوا غَيْضَ التّحليل بفَيْضِ التّحريم؟ أم تُرى الشّاعرَ المهمومَ بمحَنِ قومه يتوقُ إلى أن يُقرّبَ السّماءَ من الأرض، عسى الرّحمةَ تنزلُ أسرعَ وأشملَ؟
أيّا تكُنِ الأجوبةُ نرى من الثّابتِ أنّ تقنّعَ السّيّابِ بالإله الأسطوريّ كما بالرّسول الإسلاميّ تجسيدٌ لانفتاح نصّه الشّعريّ المعاصر على شتّى التّجارب الإنسانيّة مهما تنوّعتْ زمانا ومكانا أو تفرّعتْ جنسا ومضمونا انفتاحا حرّا لا حظْرَ فيه ولا عُقد.
الوظيفةُ الفنّيّة:
هي ألصقُ الوظائف بالقناع لأنّ هذا الأخيرَ تقنيةٌ وأسلوب أوّلا وقبل كلّ شيء. وكلُّ قناع يَحُلّ بالقصيدة المعاصرة يحمِل أغلبَ دلالاته الأصليّة معه إلى بيته الجديد حيث يُعاد إنتاجُ المعنى الوافد بآلاتِ النّصّ الحاضن. ويمكن حصرُ الوظائف الفنّيّة في ثلاثٍ:
إضفاءُ الطّابع الدّراميّ على النّصّ الشّعريّ:
يكون ذلك نتيجةَ التّوتّر الحاصل جرّاءَ تفاعُل صوتيْن مختلفين زمانا ومكانا وهُويّة: هما صوتُ الشّاعر وصوتُ الشّخصيّة المستَدعاة (القناع). وقد يصلُ التّفاعلُ حدّ الصّراع. في هذا يقول جابر عصفور: «إنّ الصّوتيْن اللّذيْن يتشكّلُ القناعُ من تفاعُلهما لا يظَلاّن في حالة سُكون. بل يُجاذِب أحدُهما الآخرَ مُحاوِلا أن يفرضَ سيطرتَه. ويبدُو الأمرُ كما لو كانت الشّخصيّةُ التّاريخيّة تفرضُ سياقَها الخاصّ على الشّاعر، في نفس الوقت الّذي يُريد فيه الشّاعرُ تطويعَ هذه الشّخصيّة وإدخالَها في سياقٍ جديد»(14).
شاهدُنا على ذلك العنقودُ (1) الّذي بِعنوان "فارس النّحّاس" من "محنة أبي العلاء" للبيّاتي: إذْ يبدأ النّصُّ مُعدِّدا مظاهرَ خَواء الحضارة وعُقْمها وجمودها في النّقطةِ الصّفرِ. وهو ما ينسحبُ تقريبا على عصريْ الشّاعريْن (المستدعِي والمستدعَى). لكن سرعان ما يعمدُ البيّاتي إلى الاستشهاد بأعلامٍ من معاصريه كشهيد الحرب الأهليّة الإسبانيّة "فديريكو غارسيا لوركا"(15). ثمّ تتوقّف سيطرةُ سياق الشّاعر على النّصّ ليفرضَ سياقُ الشّخصيّة المستدعاة نفسَه. فيحضرُ العمَى والاعتزالُ وعتابُ الابن للأبِ الجاني عليه. هكذا يقوَى الحسُّ الدّراميّ عندما يصيرُ للمأساة وجهان: وجهٌ عاجزٌ متروك مُتبرّم من لعنة الوجود وآخرُ غريبٌ مُثقَل بالهموم الذّاتيّة والجماعيّة. ينتهِي هذا التّجاذبُ إلى تَماهٍ تامّ في الأسطر الأخيرة من العنقود:
«ثلاثةٌ مِنها أطِلّ في غدٍ عليْكَ
مُقبِّلا يديْكَ:
لُزومُ بيتِي، وعمَايَ واشتِعالُ الرّوحِ في الجسدْ».
فإذا كان العمَى الجسديّ والاعتزالُ عن النّاس من لوازم المعريّ فإنّ «اشتِعالُ الرّوحِ في الجسدْ» هو مِمّا يشترك فيه مع البيّاتي: كلاهما كابدَ بؤسَ الحياة وجورَ السّلطان وتنكّرَ النّاس دون الاستسلام بالانخراط في الرّداءة الشّعريّة والاجتماعيّة. رُوحاهما في توقٍ مزمِن إلى الحياةِ الحقِّ.
تجنّبُ الخطابِ المباشر الّذي يجعل النّصّ مكشوفا:
بهذا المعنى يصبحُ القناع من قبيل الكلام على المجاز. لكنّه مجازٌ من نوعٍ جديد تجاوزَ وسائلَ التّرميز الشّعريّة التّراثيّة ليُنشئَ صورةً ذاتَ وجهين وخطابا ذا صوتيْن ممّا يُكثّفُ المعنَى وقد يُغمِّضهُ (أي يجعله غامضا).
مثالُنا على هذه الوظيفة القسمُ IV بعنوان "جحيمٌ باردٌ" من "نهرُ الرّماد" لخليل حاوي: هنا يرتدي الشّاعرُ قناعَ غانية ليتمثّلَ وضْعَ أمّةٍ الجهالةُ سِمتُها والخذلانُ ديدنُها والمذلّةُ داؤُها. ولو عمدَ إلى التّصريح المباشر بهذا الموقف لانقلبَ النّصُّ تشهيرا أو دعايةً سياسيّة. ثمّ إنّ قناعَ الغانية المبتدعَ فيه من المعاني المصاحِبة ما يُجنّب الشّاعرَ مشقّةَ التّوضيح والتّفصيل. ففي هذه "المهنة" إحالةٌ على المهانة والرّذيلة والذّلّ... أي كلِّ ما يناقضَ كرامةَ الإنسان بل إنسانيّتَه. وكذا يرى حاوي بلادَه العربيّة الّتي تبرّأ منها بالانتحار بعد أن سكتتْ سكتةً مُهينة على الغزو "الإسرائيليّ" للبنان عامَ 1982. أمّا ذاك الّذي تناجِيه البغِيُّ مُتندّمةً على اتّباعِها إيّاه إلى حياة العزّة والمناعة والكرامة الّتي لم تدمْ إلاّ قليلا لأنّ العجزَ أهلكَ مُنقِذَها من طريق الضّلال، فنظنّه رمزا للعلامات المضيئة من تاريخنا، تلك الّتي أخذتْ شيئا فشيئا تفقِد صلاتِها بواقع الشّاعر لتغدُوَ ماضيا قد لا يصلح إلاّ لمجرّد الذّكرى، أو هي أضغاثُ حُلم قصير بنُصرة "الأشقّاء العرب" سرعان ما استفاق منه الشّاعرُ على كابوس الصّمت المتواطئ الخوّان خيانةَ الموت للأرواح المتّقِدة حياةً:
«وَنَعِمْنا بعضَ لَيْلاتٍ .. تَلاها:
هَذَيانٌ، سَأمٌ، رُعْبٌ، سُكوتْ.
الرُّؤَى السّوْداءُ، رَبِّي، صَرَعَتْهُ
خَلّفَتْهُ بارِدا مُرّا مَقِيتْ».
كيف يُستَطاعُ الرّجوعُ إلى حياة القذارة والتّيه بعد تجربة النّعيم والكرامة؟! كيف الرّضا بالعجزِ والضّياع الحضاريّيْن بعد أن طعِمْنا المجدَ والمنْعةَ والقدرةَ على الفعل في الوجود؟! ولِمَ يستمرّ القحطُ كأنّه الدّهرُ؟!
وعندما تتمنّى البغِيُّ لمخلّصها حياةً حقّة أو موتا رحيما فإنّها إذّاك تنطقُ على لسان الشّاعر الّذي لا يرى من الحلول الممكنة لمأساة قومه إلاّ إثنيْن لا ثالثَ لهما: إمّا انبعاثُ المجد الحضاريّ أو الانسحابُ النّهائيّ بموتٍ (أو انتحار) جماعيّ شامل لا يُبقِي ولا يَذَرُ. مع هذا، لم يَكُفّ عن التّحسّرِ عمّا كان والتّفجّعِ على ما هو كائنٌ:
«ليْتَ هذا الباردَ المشلُولَ يَحْيا أو يموتْ
ليْتَهُ!
يا ليْتَ ما سَلّفَنِي دِفئا وقُوتْ».
جعلُ النّصّ قابلا لتعدّدِ القراءة بتعدّد القرّاء:
تقبلُ القصيدةُ المقنّعة أشكالا عدّة من الفهم والتّفسير والتّأويل. ويصْدُق هذا الأمرُ على الشّعر العربيّ المعاصر الّذي يحضُر فيه صوتٌ واحدٌ. فكيف بالّذي يتداخلُ فيه صوتان مُختلفان ليُنتِجا صوتا ثالثا من صراعهما أو تحالفهما؟! إنّ القناعَ يمنحُ الشّاعرَ القدرةَ على أنْ يقولَ ما يريد بقدر ما يمنحُ القارئَ الحقّ في أن يفهمَ كيفما شاء، كُلّ حسْب معرفته بأصُول القناع وحسْب طاقته على تقصِّي أبعاده. لذا عادةً ما يكون حضورُه في النّصّ مُعدِّدا للقراءات ومُخصِبا للتّأويلات. وهذا ممّا يُخرِج القرّاءَ من موقعِ التّقبّل السّلبيّ الانفعاليّ للنّصّ الشّعريّ إلى مَحلِّ المشاركة في إنتاجه. في السّياق نفسِه يرى جابر عصفور القناعَ: «وسِيطا يفرضُ على القارئ تأنِّيا في الفهْم وتأمُّلا في العلاقةِ بين الدّلالاتِ المباشِرة وغيرِ المباشرة، على نَحوٍ يجعلُ القارئَ طرَفا فاعِلا في إنتاجِ الدّلالةِ الكُلّيّة للقناع، وليسَ مُجرّدَ مُستهلِكٍ سلبيّ للمعنَى»(16).
نستشهدُ لهذه الوظيفة بقصيدة "الْمُخْبِرُ" لبدر شاكر السّيّاب: فيها يأتِي تماهِي الشّاعر مع الشّخصيّة المخترَعة قابِلا لنماذجَ مختلفة من الفهم:
هو محاولةٌ لِتفهّم نفسيّة هذا الشّخص المنبوذ الّذي يغفل النّاسُ عن معاناته ولا يروْن إلاّ سوْءاته. فالسّيّابُ، إذ يتساءلُ بصوتِ المخبر حائرا مُتحسّرا، يسعَى إلى كشْف الباطن الممزّق بين احتقارِ دناءة الذّات وبين التّفاخُرِ بالانتصارات السّاحقة، بين عذابِ الشّعور بالذّنب وبين التّشفّي السّاديّ من الضّحايا. حتّى إنّ هذه القصيدةَ صارتْ أبعدَ ما يكون عن الإدانة الأخلاقيّة وأدنَى ما يكون من التّحليل النّفسيّ:
«رَبّاهُ. إنّ الموْتَ أهْوَنُ مِنْ تَرَقّبِهِ المرِيرْ
سَاءَ المصِيرْ:
لِمَ كُنْتُ أحْقَرَ ما يَكُونُ عليْهِ إنْسَانٌ حَقِيرْ؟!».
يُمكِن أن نرَى في هذا القناع تصريحا شعريّا بموقفِ السّيّاب من فئة المخبِرين ومن السّلطة "البوليسيّة" الّتي تضمنُ استمرارَها بنشاط هؤلاء المجنّدِين المدفوعِين دفْعا إلى التّخلّص من إنسانيّتهم كيْ يضمنُوا القوتَ والأمانَ. إنّهم أدواتُ تنفيذ لا فواعلُ. تَسْلُبهم "المهنةُ" الضّميرَ وحرّيّةَ اختيار الأفعال والتّعاطفَ مع الآخر الحميم أو الضّديد. يصير الآخرُ إمّا سيّدا مُطاعا وإمّا عدوّا مُلاحَقا. فينخرطُ القناعُ في الاعتراف عبرَ حوارٍ مزدوج: خارجيّ يقدّمُ "وصْفةَ" النّجاح المهنِيّ للمُرِيدِين المبتدئِين، وباطنيّ به يُثبّتُ خطاه المرتعشةَ ويَذبَح ضمِيرَه المتماوِت. إنّه يحدّث "التّلاميذَ" بما لم يستطعْ أن يحدّثَ به النّفسَ لفرطِ انفصامه عنها:
«أَثْقِلْ ضمِيرَكَ بالآثَامِ. فلاَ يُحاسِبْكَ الضّمِيرْ
وَانْسَ الجرِيمةَ بِالجرِيمةِ والضّحيّةَ بالضّحَايَا
لاَ تَمْسَحِ الدّمَ عنْ يَديْكَ. فلاَ تَرَاهُ وتَسْتطِيرْ
لِفرْطِ رُعْبِكَ أو لِفرْطِ أسَاكَ .. وَاحْتَضِنِ الخَطَايَا
بِأشدّ ما وَسِعَ احْتِضانٌ، تَنْجُ مِنْ وَخْزِ الضّمِيرْ».
قد يُعبّر تماهِي السّيّاب مع شخصيّةٍ مرذُولة عن تعاطفه معها. فلا يرضَى بمصير المخبر إلاّ مَنْ امتحنه الدّهرُ وغالَبه الحرمانُ حتّى أضحَى يرى الآخرَ خصْما عنيفا وعدوّا لدُودا إنْ لم يَكنْ بالفعلِ فبالقُوّة. إذنْ، لا حياةَ للمخبر إلاّ بتدميرِ الضّحيّة. بهذا الفهمِ تصيرُ القصيدةُ محاسبةً لمنْ تسبّبوا في نشأة هذه الفئةِ المجرمةِ الضّحيّةِ مِن سلطة مستبدّة ومن مجتمعٍ غيرِ عادل. إنّ الخرابَ العامّ الّذي تنسدُّ فيه الآفاقُ يجعلُ المهنةَ المهِينةَ ضرورةً لا مفرّ منها أو ثأرا للنّفسِ من ظلم العالم. فاقِدُ الإنسانيّة لا يُعطيها:
«سُحْقا لِهذَا الكَوْنِ أجْمعَ وَلْيَحُلّ بِهِ الدّمَارْ!
مَا لِي ومَا لِلنّاسِ؟ لَسْتُ أبًا لِكُلّ الجائِعِينْ
وَأُرِيدُ أنْ أَرْوَى وَأشْبَعَ مِنْ طَوًى كَالآخَرِينْ
فَلْيُنْزِلُوا بِي مَا اسْتَطَاعُوا مِنْ سِبابٍ وَاحْتِقارْ».
[ملاحظة: لا تنفِي الاختياراتُ الّتي اعتمدناها وجودَ بقيّة الوظائف الفنّيّة لدَى الشّعراء الثّلاثة. وما تعويلُنا على مثالٍ من كلّ شاعر منهم لكلّ وظيفة إلاّ ضمانٌ للحدّ الأدنَى من العدالة والموضوعيّة].
الوظيفةُ النّفسيّة:
يجوزُ أن يؤدّيَ القناعُ وظائفَ نفسيّة أيضا إذا وضعنا في الاعتبار أنّ المعاصرةَ الشّعريّة كانتْ في بعض وجوهها ثورةً على الرّومانسيّة الكئيبة والغنائيّة المنفلِتة. في هذا يقول عليّ جعفر العلاّق: «حاول شعراءُ الحداثة العربُ تحريرَ نصوصهم من سطْوة المشاعر الرّومانسيّة والمواقف الغنائيّة السّائبة. ولتحقيق ذلك وجدُوا أنّ أكثرَ الوسائل مُلاءمةً، إن لم تكنْ أكثرَها فاعليّة، هو معالجةُ عَنائهم الرّوحيّ والتّعبيرُ عنه عن طريق الاستخدام النّاضج للشّخصيّات التّاريخيّة كأقنعة»(17). بذا تصيرُ القصيدةُ المقنّعة حسْب عبارة البيّاتي: «لا تحمِل آثارَ التّشويهات والصّرخات والأمراض النّفسيّة الّتي يَحفِل بها الشّعرُ الذّاتيّ الغنائيّ»(18).
يُضحي القناعُ بهذا المعنَى كبْحا لجماحِ النّفس المنفعِلة. والشّاعرُ الفردُ، إذ يتماهَى مع رموز تاريخيّة أو دينيّة أو أسطوريّة أو خرافيّة أو غيرِها، يتحرّرُ إلى حدّ كبير من أناهُ ليعانقَ الإنسانِيّ والكُلّيّ. ويحصل للمتصوّف أن يبلُغَ الذّوبانَ في الذّات الإلهيّة والتّوحّدَ بها سعيا إلى التّحرّر من أغلال الأنا، فينطقُ الحلاّجُ وقد امتلأ بعشق اللّه وانعتقَ من حدوده الزّمانيّة والمكانيّة ومن القصُور البشريّ المزمِن:
«أنا مَن أهْوَى ومَن أهْوَى أنا .. نحنُ رُوحانِ حَلَلْنَا بَدَنا
فإذا أبْصَـرْتَنِي أبْـصرْتَـهُ .. وإذا أبْصَرْتَـهُ أبْصَرْتَنَا»(19).
وهذا ما يمكن أن يحدثَ للشّاعر المتقنّع. ففي "حُبٌّ وجلجلة" يفارقُ خليل حاوي ذاتَه الفرديّةَ المحدّدة بأطُر طبيعيّة واجتماعيّة كيْ يعانقَ المطلقَ متّحِدا بقناع السّيّد المسيح. فيطلب من ربّه إحياءَه كي يُخلّص قومَه الضّالّين. وبدلَ أن تكونَ خاضعةً للنّفس الشّكّاءة الثّائرة على وجود عربيّ مُهين، صارت بالقناع مجالا رحبا لصوت الضّمير الإنسانيّ الّذي يهفُو إلى خلاص البشر أجمعين:
«وأنا في حُبّكمْ، في حُبّكنّ
وفِدَى الزّنبقِ في تلك الْجِباهْ
أتحدّى مِحْنةَ الصّلْبِ
أُعانِي الموتَ في حُبّ الحياهْ».
ربّما يمثّل اعترافُ حاوي بِـ "حبّ الحياهْ" حجّةً شعريّة على أنّ المنتحرين هم، حسْب علم النّفس، أكثر النّاس شغفا بالحياة. لكن يفارقونها فراقا عنيفا فاجعا ثأرا من ظلمِها واختلال أوزانها وتلبّد سمائها في وجوههم. هم يُلفِتون انتباهَها إلى أنّهم غاضِبون عليها.
الخاتمة:
صحيحٌ أنّ القناعَ تقنيةٌ شاعتْ في الشّعر الغربيّ الّذي منه استلهمها شعراؤنا. بيد أنّهم اجتهدوا في "تعريب" القناع حتّى ترسخَ قدمُه في قصائدهم، فلا هي تلفظُه، ولا هو يُجافِيها، ولا هم يَقعُون في عبثِ الإسقاط. ولذا نعتقد أنّ أسلوبَ القناع قد ساهم بنَجاعة وفاعليّة في أن يجعلَ الشّعرَ العربيّ المعاصر يكُفّ نسبيّا عن:
- أنْ يكونَ نصّا أحاديّ المعنَى، فجعَله رحِما خصِيبا لتوالُد الدّلالات،
- أنْ يكونَ دِعايةً مفضوحة لرؤية أو لفكر أو لمذهب، فصيّره يقولُ مُراوِغا دون تصريح،
- أنْ يكونَ تداعِيا حُرّا لِذات المبدع، فحوّله مجالا لا يكشفُ فيه الشّاعرُ من نفسه إلاّ القليلَ الّذي يظلّ مع ذلك مسألةً خِلافيّة يتجادل بشأنها القرّاءُ،
- أن يكون صوتا يتيما منفردا، فمنَحه أصواتا صاخبةً ضاجّة تحاكي الصّخبَ البُركانيّ للعالم الّذي لا ينفكّ يمورُ من حوله،
- أنْ يكون كيانا إبداعيّا مستقلاّ، فأشرعَ أبوابَه على الدّين والتّاريخ والأساطير والمجتمع لتساهمَ هذه الفروعُ المعرفيّة في إنتاج النّصّ.
هكذا يكون القناعُ الحديثُ النّشأة عندنا، واحدًا من الأساليب الّتي حاولتْ بواسطتها أشعارُ عبد الوهاب البيّاتي وخليل حاوي وبدر شاكر السّيّاب أن تَفِيَ بما وعدتْ به على مستوى التّنظير من تجديدٍ وتميّز وقطْع مع السّلفيّة والغنائيّة. وفضلُ الأقنعة الشّعريّة أنّها تجعل الأزمنةَ يخترق بعضُها بعضا. كأنّما الإنسانُ، من الأزل وربّما إلى الأبد، يدورُ في الحلقةِ المفرَغة نفسِها: وجودٌ مأزوم ومصيرٌ ضبابيّ وأرواحٌ متمرّدة.
اِخترنا لختام البحثِ أن نطرحَ سؤاليْن أوّلُهما كمِّيّ وثانيهما نوعيّ:
- إلى أيِّ مدًى تعكسُ مجموعاتُ "سِفرُ الفقر والثّورة" و"نهرُ الرّماد" و"أنشودةُ المطر" مكانةَ القناعِ في الإنتاج الشّعريّ لأصحابها أوّلا ومكانةَ القناع في مدوّنة الشّعر العربيّ المعاصر ثانيا:
- إلى أيِّ مدًى يمكن أنْ نعتبرَ الأقنعةَ المستعمَلة في هذه المجموعات ممثّلا أمينا للأقنعةِ السّائدة في المدوّنة الشّعريّة العربيّة المعاصرة؟
(أستاذة عربيّة مبرّزة وباحثة في الفكر السّياسيّ العربيّ المعاصر)
الهوامش
(1) بنيةُ القناع، علامات، جزء 25، مجلّد 7، سبتمبر، 1997.
(2) أقنعة الشّعر المعاصر، فصول، مجلّد 1، عدد 3، أفريل 1981.
(3) تجربتي الشّعريّة، ص 40.
(4) الأقنعة في الشّعر العربيّ المعاصر، ص 62.
(5) قضايا الشّعر العربيّ، جابر عصفور، ص 123.
(6) تجربتي الشّعريّة، ص 9.
(7) الحلاّج في ما وراء المعنى والخطّ واللّون، ص 95.
(8) نفس المصدر، ص 129.
(9) نفس المصدر، ص 58.
(10) تجربتي الشّعريّة، ص 39.
(11) الحلاّج في ما وراء المعنى والخطّ واللّون، ص 41.
(12) القرامطة: حركة دينيّة سياسيّة تُنسب إلى حمدان قُرمط من دُعاة الإسماعيليّة، ظهر في العراق نحو 258ﻫ/871م. انتشر القرامطة في البحرين واليمن واستولوا على مكّة في 317ﻫ/930م. ونقلوا منها الحجرَ الأسود، ثمّ ردّوه بعد إثنتين وعشرين سنة. انتزعوا دمشق من الفاطميّين 970م. وزحفوا على مصر، فهزمهم المعزّ الفاطميّ 362ﻫ/972م. قضى عليهم الأمراء العُيونيّون في البحرين 1027م. فانقرضوا وانتهى أمرُهم.
(13) الأقنعةُ في الشّعر العربيّ المعاصر، ص 84.
(14) أقنعةُ الشّعر المعاصر، 124.
(15) أعدمتْه القوّاتُ الموالية لليمينيّين المتمرّدين على الجمهوريّة الإسبانيّة الثّانية، كان ذلك في 19 أغسطس 1936.
(16) قضايا الشّعر العربيّ، ص 123.
(17) بنيةُ القناع، ص 76.
(18) تجربتي الشّعريّة، ص 40.
(19) الحلاّج في ما وراء المعنى والخطّ واللّون، ص 115.
المصادر:
- حاوي (خليل): نهر الرّماد، دار الطّليعة، طبعة 2، 1961، بيروت.
- البيّاتي (عبد الوهاب): سفرُ الفقر والثّورة، دار العودة، بيروت.
- السّيّاب (بدر شاكر): أنشودةُ المطر، الدّيوان، مجلّد 1، دار العودة، 1995، بيروت.
المراجع:
- البيّاتي (عبد الوهاب): تجربتي الشّعريّة، المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر، طبعة 3، 1993.
- عصفور (جابر): أقنعة الشّعر المعاصر، مجلّة فصول، مجلّد 1، عدد 3، أفريل 1981.
- العلاّق (عليّ جعفر): بنيةُ القناع، مجلّة علامات، جزء 25، مجلّد 7، سبتمبر 1997.
- الغزّي (محمّد): الأقنعةُ في الشّعر العربيّ المعاصر، شهادة تعمّق في البحث، (مرقون).
- مكارم (سامي): الحلاّجُ في ما وراء المعنى والخطّ واللّون، دار رياض الرّيّس للكتب والنّشر، لندن، 1989.
المعاجم:
- لسان العرب، أبو الفضل جمال الدّين محمّد بن مكرم بن منظور، دار صادر، بيروت.
- المنجدُ في اللّغة والأعلام، دار المشرق، الطّبعة 35، 1996، بيروت.