يقرأ الكاتب المغربي هنا آخر كتب الناقد المغربي الأشهر، كاشفا عن تناوله لمواضيع نقدية مهمة مثل اللغة والهوية والأدب، وعن محاولته الدائمة الربط والوصل، بدينامية خلاقة، بين نصوص حديثة ومعاصرة من جهة، وأخرى ضاربة في القدم من جهة أخرى. وعن علاقات تواشج واتصال دالة بين الزمنين القديم والمعاصر.

أسفار عبدالفتاح كيليطو

الناقد المترحل: الهوية، اللغة، الأدب

خالد العارف

إذا كان إدوارد سعيد قد جذب الانتباه إلى مفهوم النظريات والأفكار المترحلة، وجسَّد هو نفسُه صورة الناقد المتواجد على الحدود بين أطراف الهويات والنصوص، فإن الناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو يكاد يكون مشابها لهُ من حيث كونُه يرتحل عبر نصوص متعددة، رابطاً بينها، دون أن يثير أدنى تساؤل حول الأزمنة/ القرون التي تفصل بينها. هناك، مع ذلك، فرق جوهري بين الناقدين يتلخص في أن الأول يركز على مرحلة بعينها (مرحلة الاستعمار ومقدماته)، محاولا كشفَ النقاب عن التواشجات والترابطات الداخلية في نصوص المستعمِر، انطلاقاً من تموقع سياسي محدد وصارم. أما بالنسبة لعبد الفتاح كيليطو، فإن قرونا عديدة قد تفصل بين نصين. أضف إلى ذلك أن النقد، بالنسبة لعبد الفتاح كيليطو، يكاد يكون، من وجهة نظر منهجية، لا سياسياً لكي يصل في النهاية إلى موقف سياسي. حيث ينطلق الأول، يصل الثاني.

أتكلم جميع اللغات، لكن بالعربية.

يتكون هذا الكتاب، الصادر عن دارتوبقال في السنة الجارية (2013)، في ترجمة لعبد السلام بنعبد العالي، من إحدى وعشرين مقالة مركزة قسّمها الكاتب إلى ثلاثة فصول هي كالتالي: كيف يمكن للمرء أن يكون أحادي اللسان، لن تترجمني، اللغة-مع. يضم الفصل الأول سبع مقالات (السور؛ وجه شاحب؛ الجمل وطائر البجع؛ آداب الفردوس؛ المتربصة؛ بْوارو ضد نوطومب؛ بعيداً عن القريب، قريباً من البعيد)، ويتشكل الفصل الثاني من خمس مقالات (أصول، الديك المنخدع، المعري ودانتي، ضون كيخوط، هل هو نسيج خيوط عربية؟، في الأدب الاستعماري)، أما الفصل الأخير فيتكون من تسع مقالات (هروب، كوميديا الخطأ، الرجل ذو نعال الريح، تلميح، "وجوه ملساء كالحصاة"، المؤدب وبدائله، نسيان اللعبة، في صفحة العروي، الساحر).

بنظرته الهادئة المعتادة، يتفحص عبد الفتاح كيليطو في هذا الكتاب مواضيع نقدية مهمة للغاية، مثل اللغة والهوية والأدب. لكنه لا يتفحصها في راهنيتها فقط (كيف له ذلك؟)، بل تقريباً دائماً انطلاقاً من نظرة مرهفة تروم مساءلة نصوص معاصرة على ضوء نصوص ضاربة في القدم. ففي المقالة الأولى، "السور"، يستحضر الناقد موضوع لغة الإنسان الأولى، لغة آدم، باعتبار ارتباطها بالمكان، وكذا ثنائية اللغة كمدخل لمناقشة التعدد اللغوي في المغرب، فيكتب أن "آدم كان يتكلم اللغة العربية في الجنة" قبل أن ينساها لحظة هبوطه إلى الأرض، ليبدأ بتكلم "السريانية". وهكذا، فإن "تغيير المكان،" يكتب كيليطو، يعني "فقدان لغة واكتساب أخرى." (ص.9) يفحص عبد الفتاح كيليطو التعدد اللغوي في المغرب من خلال اللغة الأم، التي تتمظهر لا محالة في اللغات المكتسبة الأخرى (ومن هنا عنوان الكتاب). في الواقع اللغوي المغاربي عموما، والمغربي خصوصاً، 'تتعايش' لغات متعددة: الدارجة المغربية، الأمازيغية، العربية الفصحى والفرنسية، لكن اللغة الأم، التي تمنح "ذلك الشعور بالأمن والطمأنينة،" تتسرب إلى نسيج اللغات الأخرى في حديث المتكلم أو كتابته. (ص. 12) بيد أن العربية الفصحى والفرنسية هما لغتا القراءة، اللتان تمكنان من "الاستمتاع بلذة قراءة النصوص الأدبية." (ص. 11) ومع ذلك، أو ربما بسبب ذلك، تصبحان "لغتا لذة" و"لغتا الخطأ." (ص. 12) بالإضافة إلى ذلك، هناك فرق جوهري بين اللغة الأم من جهة واللغات المكتسبة عن طريق المؤسسة من جهة أخرى. يتعلق الأمر بطريقة التعلم في كلتا الحالتين؛ تُكتسب اللغة الأم "دفعة واحدة"، بخلاف العربية الفصحى والفرنسية (في حالة الناقد)، حيث لا تتوقف سيرورة التعلُّم. يستأنف الناقد القول في هذه الفكرة في المقال الخامس، إمعاناً في التأكيد على أن اللغة الأم "متربصة" دائماً بالمتحدثين بأكثر من لغة.

المقال الثاني، "وجهٌ شاحب"، يستأنف النقاش حول الازدواجية اللغوية، لكن من وجهه نظر اللسان المفلوق هذه المرة، حيث يتفحص الناقد هذا المفهوم اعتماداً على تأويل الهنود الحمر لـ"اللسان المفلوق" باعتباره كذباً ونفاقاً وازدواجية في اللسان. غير أن الناقد يخلص إلى أن أحاديي اللسان لهم، هم أيضاً، لسان مفلوق بالنظر إلى كم المفردات الهائل الذي تستعيره اللغات من بعضها البعض. ويتساءل الناقد في هذا الباب حول الأدب المغربي، معيداً طرح سؤال اللغة والأدب، خاصة فيما يتعلق بما يسمى الأدب المغاربي المكتوب بالفرنسية حيث الـ"جمهور المضاعف" و"تجاوز الذات" اللذان يؤديان بالكاتب في النهاية إلى الاقتراب من "ذاته." ليست الحال كذلك بالنسبة للكُتَّاب المغاربة/ المغاربيين الذين يكتبون بالعربية، حسب ما يبدو. يخلص الناقد إلى غياب البعد الاختياري في الكتابة بهاته اللغة أو تلك، فيتساءل : "هل يختار المرء اللغة التي يكتب بها؟" (ص. 17) في المحصلة، فإن للمغرب/ للمغارب أدبين ولغتين، إنه بلد مفلوق اللسان على مستوى الأدب كذلك. يستخلص الكاتب في النهاية أنه "ربما يمثل المشكل الأساس للازدواجية اللغوية في المغرب في هذا الاتفاق المكتوم، في هذا التقبل للفصل بين عالمين [استعارة السور مجدداً]، وفي هذا التواطؤ السلبي الذي يحول دون الاعتراف المتبادل." ليس هذا بالازدواج اللغوي، إذن، وإنما يتعلق الأمر بـ"وضعية يتساكن فيها شكلان للأحادية اللغوية." (ص 17)

 يروم مقال "الجملُ وطائر البجع" المقارنة بين عالمين، بين لغتين، بين تصورين هما الشرق والغرب، انطلاقاً من صورتين معينيتين هما صورة الجمل السائب وطائر البجع، سجين الثلج، الذي يتوق إلى التخلص من عقاله دون جدوى. ترمز كلا الصورتين إلى تصور الناقد للفوارق بين الأدب العربي والأدب الفرنسي، لكن أهم شيء يلاحظه الناقد هو العلاقة 'التّرجمية' بين الأدب العربي الحديث (الرواية على وجه الخصوص) والأدبين الفرنسي والإنجليزي، مؤكداً أن "الترجمة قد أنقذت الأدب العربي، وواكبته باستمرار، وساهمت في تجديده، وذلك بالانفتاح على أجناس أخرى جديدة." (ص. 23) تظهر عملية الترجمة، ليس فقط في المحاولات الفردية لكتاب عرب بعينهم (المنفلوطي مثلا) لتحويل نصوص أوروبية إلى اللغة العربية، ولكن أيضاً في تملك جنس الرواية، التي ساهمت "في بعث روح جديدة في اللغة الأدبية، تلك اللغة التي عرفت تطوراً هائلاً، وهذا بالضبط، لأننا وراء ما يكتب نلمس لغة أوروبية." (ص. 23) بالإضافة إلى ذلك، فإن الأدب العربي المعاصر مع جيل الرواد يبدو، من وجهة نظر عبد الفتاح كيليطو، منقسماً على ذاته بالنظر إلى اللغة الأجنبية التي تشكلت فيها وبها لغة الأديب، في الفرق، مثلا، بين لغة "الفرونكفونيين (طه حسين، توفيق الحكيم) ولغة الأنغلوفونيين (العقاد، المازني). تنتهي هذه المناقشة بالرجوع إلى فكرة قديمة كان غوته قد تحدث عنها في سنة 1827، وهي فكرة "الأدب العالمي" (Weltliteratur)، حيث يمكن للأدب العربي أن يفيد منها. ومع ذلك، فإن "الأدب العربي الحديث، بمختلف مكوناته من رواية وشعر ومسرح ونقد، هو بمعنى ما ترجمة "كاملة أمينة" للأدب الأوروبي، إنه مرآة، وانعكاس يزداد دقة أو يقل، لما يتمّ خارجاً في باريس ولندن." (ص. 24)

أما في "آداب الفردوس" فنلفي نقاشاً حول العلاقة بين النسخ والتأليف، بين المعرفة المُكتسبة وبين الإبداع الأدبي. يسوق عبد الفتاح كيليطو أربعة أمثلة: يتعلق المثال الأول برواية فلوبير الأخيرة غير المكتملة، بوفار وبيكوشي، اللذان يعملان ناسخان، ثم يرحلان إلى الريف حيث يعقدان العزم على تعلم "المعارف العلمية والأدبية" لكن أملهما يخيب، فيعودان إلى فكرة النسخ. النسخ يلاحقهما ويكاد يحقق لهما السعادة. أما المثال الثاني، فيتعلق بروبير وأندرياس، شخصيتان في أقصوصة لبارتوليمي موريس، "كاتبا الضبط"، أمضيا حياتهما "يعملان من السادسة صباحاً حتى الثانية عشرة ليلا، فلا تشغل بالهما إلا فكرة واحدة، أن يأتي اليوم الذي يبلغان فيه سن التقاعد، فيتوقفان عن النسخ." (ص. 26) إن التوقف عن النسخ، هو بمعنى ما، فردوس متخيل. لكن الفردوس، يتحول إلى جحيم، فيسترجع البطلان عادة النسخ القديمة. المثال الرابع هو مثال ضون كيخوطي، الذي يشكل تجسيداً لسرية الكتابة. يخرج إلى المغامرة من "باب سري لفناء الدواجن." (ص.27)

المقال السادس، بوارو ضدَّ نوطومب، يثير مسألة "علاقة الآخر بلغتنا." (ص. 32) بالاعتماد على فرضية "أننا لا نحب حقا أن يتكلم أجنبي لغتنا: لا نحب أن يتكلمها بكيفية سيئة، لكننا لا نحب على الأخص أن يتكلمها بإتقان." (نفس الصفحة). يسوق الناقد مثالين: مثال المخبر الشهير هركول بوارو (Hercule Poirot)، وهو بلجيكي نفى نفسه إلى إنجلترا، والذي يتكلم الإنجليزية بشكل سيء عنوة، أو على الأقل يوحي بذلك، لأن هدفه هو أن يجعل محاوريه يتحدثون من دون حذر، لأنهم في تلك الحالة سينظرون إليه بترفع.

أما المثال الثاني فمأخوذ من رواية رعب وخفقان، حيث البطلة البلجيكية التي تعمل في مقاولة كبرى في اليابان، وهي تتقن اليابانية إلى درجة أن حديثها بيابانية متينة دون أخطاء يؤدي بها إلى الطرد، ذلك أن "إتقان التكلم بلغة أجنبية خطأ كبير لا يغتفر." (ص. 33). في النهاية، يُطلب منها نسيان اليابانية، أو على الأقل التظاهر بنسيانها، مثل هركول بوارو تماماً.

في آخر مقال في هذا الفصل، يناقش الناقد مسألة العامية (خصوصاً العامية المصرية) في إحدى الروايات المصرية التي "ظهرت خلال الستينات، يذكر منها الناقد "جزئية واحدة" هي أن "أفعال الشخصيات وتصرفاتها مروية بالفصحى، بينما حواراتها بالعامية المصرية." (ص. 36)، لكن رب الأسرة في الرواية يشذ عن هذه القاعدة، فهو "لا ينطق إلا بالفصحى." (ص. 36). تتعارض هذه الصورة مع صورة سيبويه و الخليل الفراهيدي اللذان لم يكونا "يتمسكان بقواعد الإعراب الصارمة" في حديثهما اليومي. ورغم وضعيته الشاذة هذه، فإن الناقد (كان شابا حين قرأ الرواية) يتعاطف معه لأن حديثه بالفصحى كان، خلافاً لأحاديث الشخوص الآخرين، مفهوماً. وضعية هذا الأب عجيبة، "فبقدر ما كان بعيداً عن أهله وذويه، كان قريباً مني. أليس من أجلي تخلى عن لهجة قومه؟" (ص. 37). إن إقحام العامية في الرواية في ذلك الوقت، كان بمثابة إقصاء لقراء الرواية من غير المصريين. انطلاقاً من هذا المثال، يناقش الناقد فكرة الأدب المغربي، ذي اللسان المفلوق مشيراً إلى أنه "لا يمكن إطلاقاً خلط كتابة مغربي "قرنكفوني" بكتابة فرنسي من باريس، كما لا يمكن خلط كتابة مغربي يكتب بالعربية بكتابة مصري من القاهرة. مهما فعل، فلابد أن يفتضح أصله." (ص. 40) في قلب الأدب المغربي، هناك دائماً جدلية لغة الكتابة. إن لغة الكتابة هي محدد مهم، إذ أن الكتابة بالفرنسية (حالة الإيديولوجيا العربية المعاصرة لعبد الله العروي، مثلا)، قد تخلق صدى عند الفرنسيين أولا، ومن تم يمكن أن تترجم إلى العربية، لنصل إلى مقولة الناقد الأثيرة: "أنا مترجم، فأنا إذن موجود." (ص. 43) وهكذا، يبدو أن الآداب العربية تبتعد عن 'لغتها' لكي تصل إلى قرائها العرب في النهاية.

الفصل الثاني من الكتاب يناقش مسألة الترجمة في الأدب العربي، حديثه وقديمه، مشيراً من طرف خفي إلى الترابط بين هيمنة ثقافة معينة ورفضها، أو إعراضها عن ترجمة الآداب الأخرى (موقف الجاحظ من ترجمة الشعر العربي قديماً، واستغناء الأدب الأوروبي عن ترجمة الأدب العربي حديثاً). لكن الناقد يؤكد على أن الترجمة هي ما يعطي الزخم لأدب من الآداب، إذ أن الترجمة، سواء في العصر الكلاسيكي أو في العصر الحديث، هي "محرك التجديد والانفتاح." (ص. 52). في المقال الثاني من الفصل الثاني، يعود الناقد إلى فجر الرواية العربية وإلى العلاقة بين المقامة والرواية، بين الشعر والنثر، بين حديث عيسى بن هشام للمويلحي والساق على الساق للشدياق. ويرى الناقد أن الرواية الأولى فريدة، إذ هي في نفس الوقت "الأولى والأخيرة" (ص. 57)، أولى الروايات وآخر المقامات. هذا الوضع يجعلها في وضعية بين-بين، وهو ما يحاول الناقد تبيانه عن طريق عملية إسقاط لوصف القاهرة في الجزء الأول وباريس في الجزء الثاني، جاعلا منهما صورتين حيتين للجحيم والجنة الـ"موجودان في هذه الدنيا." (ص. 57) إن القاهرة وباريس تشكلان في هذا الباب "قطبي العلاقة الأفقية" التي هي عصاب الرواية. هذه الرواية، هي بمعنى ما، ترجمة لجنسين أدبيين هما المقامة والرواية. أما بالنسبة لرواية الساق على الساق فإن البطل مترجم، مثله في ذلك مثل الكاتب. بالإضافة إلى ذلك، هناك حضور المرأة في رواية الساق على الساق، بخلاف حديث عيسى بن هشام، حيث لا تظهر المرأة إلا لماماً. ومع ذلك، يستنتج الناقد أنه "لم يكن للشدياق ولا للمويلحي أن ينفصلا عن التراث العربي." لأنه ليس بمقدور "اللغة أن يطالها النسيان" على ما يبدو (ص. 61)

يثير المقالان الثالث والرابع مسألة الافتتان بما يمكن أن نسميه أثر الذات عند الآخر. يناقش الناقد هذا الأثر أو الحضور انطلاقاً أولا من العلاقة التواشجية والملتبسة في آن بين رسالة الغفران للمعري وبين الكوميديا الإلهية لدانتي ألغييري، وثانيا اعتماداً على مقطع في الجزء الأول من رواية ضون كيخوطي، حيث يتم الحديث عن أصل الكتاب، المترجَم، بحسب الراوي، عن العربية. إن الفرضية المُوجِّهة للنقاش ههنا هي أن العرب لا يلتفتون إلى ثراتهم إلا حين يتحدث عنه الآخر، أو حين يكونوا حاضرين فيه بشكل ما. في هذا الباب، يمكن القول إن دانتي قد خدم رسالة الغفران بأن أعطاها حياة جديدة على المستوى الثقافي في جدلية المدين والدائن بحسب الناقد، إذ أن "الأدب الذي لا يستدين، أو الذي لم يعد يفعل ذلك، أدب محكوم عليه بالموت." (ص. 64) في حالة ضون كيخوطي، يجد القراء العرب أنفسهم 'موجّهين' نحو قراءة معينة، "قراءة جزئية، متحيزة، وبالتالي مشوهة وعمياء." (ص. 66) في المقابل، يقترح الناقد قراءة مغايرة تأخذ بعين الاعتبار مفهومين مركزيين عند ثيرفانطيس، هما الكتابة باعتبارها نسجاً من جهة، والترجمة من جهة أخرى؛ الكتابة باعتبارها نسجاً تطفو على السطح عند ثرفانطيس "عندما يتحدث عن الترجمة" (ص. 66)، كما لو كان الأمر يتعلق بنفس المفهوم. هكذا، يبين الناقد أن لجوء ثرفانطيس إلى حيلة الترجمة وتخيل مخطوط عربي هي سنّة قديمة. غير أن الإحالة على كاتب عربي تبقى مع ذلك غير مفهومة كلية. لذلك يستشهد الناقد بمقولة لأحد الفلاسفة المدرسيين من القرن الثاني عشر، أديلار دو باث  (Adélard de Bath)، الذي يقول: "تلافيا للإعتقاد أنني، أنا الجاهل، استقيت أفكاري من صلبيُ، أعمل على أن تبدو كأنها مأخوذة من دراساتي العربية. إنني أتحاشى، إذا استثقلت عقول مُتخلفة أقوالي، أن أكون أنا الضحية." (ص. 69) بيد أن موقف ثرفانطس مغاير تماماً على ما يبدو، لأنه يبرر إقحامه للمخطوط وللعرب في روايته بكذبهم: "جميع أهل هاته السلالة كذابون"، وهو ما يُأوّله الناقد على أنه براعة في "رواية الحكايات..." (ص. 69)

في المقال الأخير من الفصل الثاني، يعود بنا الناقد إلى المرحلة الاستعمارية من خلال مساءلته للمنهجية النقدية المتبعة من طرف الباحث المغربي عبد الجليل الحجمري في كتابه صورة المغرب في الأدب الفرنسي من لوتي إلى مونتيرلان (بالفرنسية). يعتقد الناقد أن "موقفنا من الأدب الاستعماري يطبعه الالتباس." (ص. 72)، ذلك أننا –نحن المغاربة- ننفر من هذا الأدب، لأنه يحيلنا على صورة مغايرة للصورة "التي نكوّنها عن أنفسنا" ولكنه "يبهرنا في الوقت نفسه" لأننا مهتمون دائما "بما يعتقده الآخرون عنا، فردياً أو جماعياً." (ص. 72)

بحثاً عن ما يمكن أن يكون "الحقيقة الموضوعية"، يُسائل الناقد مفهوم الهوية، هذا "النحن" الذي قد يدعي معرفة الماضي على حقيقته"، مستحضراً في هذه المساءلة، البعد والمغايرة إلا إذا كان تصور هذا "النحن" مبنياً على فرضية الوصل والاستمرار وفق خط مستقيم. للخروج من هذا المأزق، يقترح الناقد دراسة الأدب المغربي المعاصر للأدب الاستعماري للتمكن من المقارنة بين صورة المغرب والمغاربة في أدبهم من جهة وصورة المغرب والمغاربة في الأدب الاستعماري. هذا التصور قد يفضي يوما ما إلى تكوين فكرة عن صورة فرنسا في الأدب المغربي خلال مرحلة الاستعمار ومقدماته.

في المقال الأول يدرس الناقد علاقة الكاتب المغربي الفرنكفوني عبد الكبير الخطيبي مع اللغة الفرنسية اعتماداً على مقولة لهذا الأخير، يقول فيها: "يحصل لي أن أقدم نفسي كمغربي، وكغريب محترف." (ص. 79) تبدو اللغة الفرنسية هنا مثل ملجأ وهروب من الذات، لكنها أيضاً تشبه "حسناء شريرة غريبة" (ص. 80) يؤطر الناقد دراسته لهذه العلاقة الملتبسة في نائية دينامية تربط بين فضاء الكتّاب القرآني، أو ما يسمى في العامية المغربية "المسيد"، حيث يُطلب من الكاتب التّمرُّن "على الخط" (ص. 79)، من جهة ومجال الكتابة من جهة أخرى من خلال آخر كتاب له. في كلتا الحالتين، يرى الناقد أن هناك طلباً، حيث يكتب: "في بداية المسار الفكري للخطيبي كما في نهايته، نلحظ الحضور البيِّن لطلب. بتأكيد الناقد على حضور فكرة الطلب، يلمحُ إلى واحد من أهم تقاليد الكتابة في الأدب العربي الكلاسيكي. أما في المقال الثاني، فإن الدراسة تنصبُّ على جدلية 'اختيار' لغة الكتابة والخطأ من خلال درس اللغة في رواية الحب مزدوج اللغة، حيث يتساءل الناقد ما إذا كان الخطيبي قد ضلّ اللغة؛ ذلك أن وضعية السارد في هذه الرواية وضعية شاذة، فهو يتموضع في وضعية "الإبن غير الشرعي، الذي يُقبل على مضض أو يُتبنّى ولا يُعترف به اعترافاً تاماً" (ص. 84)، معتمداً على استراتيجية الترجمة. في النهاية، يؤكد الناقد أن إخطاء اللغة قد يؤدي إلى تشويش العواطف، (إلى الضيم كما يقول الجاحظ). في المحصلة، يؤكد الناقد مقولة الضيم وهو يتحدث عن رواية الخطيبي: "أن يضل المرء اللغة، والإسم، والشريك، هاته على ما يبدو هي القاعدة في رواية الحب مزدوج اللغة ! حينئذ تغدو الحياة ضلالا، وعواطف مشوّشة، من غير ملاذ أو أمل في الخلاص." (ص. 86)

المقالين الثالث والرابع يتطرقان لدراسة بعض الجوانب الفكرية للكاتب المغربي الفرنكفوني، إدمون عمران المالح من خلال روايته ألف عام في يوم وكتابه الأخير رسائل إلى نفسي ذي النفس السيرذاتي. في المقال الثالث، يقترب الناقد من مفاهيم الترحال والتيه وعدم الثبات والخفة التي يرى فيها خصالا لبطل الرواية. لكن هذا الترحال، الذي من بين إحدى تجلياته الغرابة في العلاقة مع اللغة، ينتهي بالوصول، أو بالعودة إلى اللغة التي تُربط، عن طريق شبكة من الدلالات بالحليب والمطبخ. يخلص الناقد إلى التأكيد على أن ذكر اللغة العربية في ارتباط دائم مع المطبخ، ليس صدفة أبداً. لسان الكاتب مفلوق، إذن، وها هي ذي 'المتربصة' تخرج من بين ثنايا الفلق.

يقارب المقال الرابع رسائل إلى نفسي من خلال استعمال الكاتب لأسلوبيْ التعريض والتلميح، رابطاً إياهما بمفاهيم الاغتراب والمنفى. يستعمل إدمون عمران المالح صيغة الغائب للحديث عن نفسه، كأنه يتحدث عن شخص آخر. إنه بهذا المعنى يفرغ جنس السيرة الذاتية من حمولتها، فتصبح الشخوص مجرد أحرف (B.V. و J.P. مثلا)، كما لو كان هدفه هو دفع القارئ إلى البحث عن هويات تلك الشخوص.

خصص الناقدُ مقاله الخامس في هذا القسم الأخير لمقاربة بعض لوحات الفنان التشكيلي المغربي عبد النبي الأمين الدمناتي. بين الحنين والانطباعية، يتفحص الناقد بعض خصائص لوحات الدمناتي، مهتماً على وجه الخصوص بالكشف عن مسببات التضارب الحاصل بين غياب وجوه للبشر من جهة، وتمتع الخبز بوجه من جهة ثانية، ذلك أن "شخوص الدمناتي، رجالا ونساء، لا وجوه لهم". يفسر الناقد ذلك بالقول إن "هذا الاختيار الجمالي مرتبط بواقع اجتماعي معيّن، وحقبة تاريخية محددة." (ص. 93) فظهور الوجه علامة على "تفرد الشخص، واستقلاله الذاتي، وفرديته." (ص. 93)، وهذا الوضع في تضاد مع الثقافة التي ترمي إلى إعطاء قيمة أكبر للجماعة والأمة والتآزر القبلي. أما أن يكون للخبز وجه في لوحات الدمناتي، فمردُّه،(وهذا ما يُفهم من ربط الناقد بين علاقة صاحب الفرن بالخبز من جهة، ووجه الخبز في لوحات الدمناتي من جهة أخرى)، إلى تواجد أمارات خاصة كانت تمكن صاحب الفرن من التعرف على أصحاب الخبز، وهكذا فإن لكل لوحة من لوحات الدمناتي وجهاً متفرداً رغم ارتباطها "بالأخريات في انسجام واضح." (ص. 94)

في المقال السادس، يقارب الناقد عبد الفتاح كيليطو، رواية فانتازيا للكاتب التونسي الفرنكفوني عبد الوهاب مديب، انطلاقاً من مفاهيم عديدة منها الازدواجية اللغوية والترجمة والغرابة والتوازي بين ثقافة الشرق و ثقافة الغرب في المتن الروائي. إن وضعية الكاتب من وجهة النظر هاته، تجعله وسيطاً بين الثقافات. وهذه الوساطة نابعة بالدرجة الأولى من تمرين الجمع بين "الأضداد" في استعارة ملتقى الطرق، حيث تلتقي العديد من الثقافات. ويخلص الناقد إلى أن الكاتب التونسي يروم مواصلةَ "الطموح العميق للجاحظ والتوحيدي والغزالي وابن رشد" حيث أنه "منبهر باللقاءات المتعددة اللامتوقعة" (ص. 97) الكفيلة بإنتاج معاني جديدة.

أما "نسيان اللعبة"، الذي يتلاعب بعنوان رواية محمد برادة، لعبة النسيان، فيحاول استنطاق مكنون المتن الروائي عن طريق مساءلة اسم الشخصية المركزية، الهادي، ووضعية الأب المنسي في الرواية للوصول أخيراً إلى فعل الكتابة الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأم. حضور الأب في الرواية رمزيٌّ، فهو يترك وصية "أصرّ فيها أن يواصل الهادي دروسه في جامعة القرويين." (ص. 99)، لكن الابن سيتخذ مساراً مخالفاً. يلاحظ الناقد أن "الهادي قد دفن جميع أحبائه، أمه وخاله والزوجة الأولى لخاله" (ص. 98)، لكن المفارقة هي أن الهادي "لم يدفن أباه، وما كان بإمكانه أن يفعل" (ص. 98-99) لأن الأب بقيَ حاضراً عن طريق بدائله: المعلم والخال، بيد أن هذه البدائل لا تطابق صورة الأب مطابقة تامة. كان الأب يريده أن يصبح "راوياً، ناقلاً للتراث" (ص. 99)، لكن سفره إلى الرباط لاستكمال دراسته سيجعله يبدأ بقراءة الروايات المصرية والفرنسية ويشرع في التمرُّن على الكتابة، "فقد كلفته أمه أن يكاتب خاله. كانت تقول له: أكتب" (ص. 101)، لذلك أصبح "الهادي ناقل الكلام، حامل-قلم أمه." (ص. 101) تبدو رواية لعبة النسيان، من منظور استرجاعي، كما لو كانت "رسالة موجهة إلى الأم" 102، ذلك أن كل رسالة هي "رواية قصيرة وكل رواية" هي "رسالة مطولة." (ص. 102)

في مقال "في صفحة للعروي"، يُقارن الناقد بين الاستهلال المصدِّر لكتاب السّنة والإصلاح لعبد الله العروي وبين افتتاحية حي بن يقظان. هذا النوع من الاستهلال يحيل على تقليد تاريخي عريق، يكون فيه الكِتاب جواباً عن سؤال أو أسئلة وُجّهت إلى الكاتب. ورغم الفرق "الشاسع بين الاستهلالين" (يجيب العروي امرأة منفية لا ترتبط بأصلها إلا من باب الاسم، في حين أن ابن طفيل يخاطب رجلاً)، فإن هناك نقاط التقاء بينهما، إذ أن الحكاية العائلية لتلك المرأة لا تختلف كثيراً عن حكاية حي، كما يبين الناقد ذلك، اعتماداً على عملها في "سفينة وسط المحيط"، وكذا وضعيتها في المنفى التي توازي وضعية حي بن يقظان. ينتهي الناقد إلى استنتاج فريد حين يربط بين حلم الكاتب بالانقطاع بجبال الألب لدراسة كتاب واحد هو القرآن وبين وضعية المُخاطبة في المنفى، وهذا الاستنتاج مفاده دعوة الكاتب الصريحة للمرأة للمشاركة في الكتابة، حين يقول لها: "عوض أن تطالعي للمرة العاشرة مؤلفات ستفنسن وهرمان ميلفل، لماذا لا تستبدلينها بكتابنا العزيز." (ص. 106) ينهي الناقد مقاله القصير بهذا السؤال المحير: "ألا تعلمنا قصة حي بن يقظان أننا لا نكون قط وحيدين في جزيرة خيالية؟" (ص. 106)

في المقال الأخير، يتطرق الناقد لدراسة البعد السحري في مجموعة أحمد الصفريوي القصصية، المسماة سبحة العنبر، حيث لا يوجد "أي انفصال بين العالم الأرضي والعالم السماوي" (ص. 107) ووفاءً لمنهجه في النقد، الذي يربط بين نصوص حديثة ومعاصرة وأخرى كلاسيكية قديمة، يقرأ الناقد عالم أحمد الصفريوي القصصي انطلاقاً من ألف ليلة وليلة، معتمداً على العتبة كملمح فني وبعد أجناسي يربط بين الحكاية والرواية.

يبدو من العرض أعلاه (ولكن من خلال كتابات أخرى)، أن الناقد عبد الفتاح كيليطو يحاول دائماً الربط والوصل، بدينامية خلاقة، بين نصوص حديثة ومعاصرة من جهة، وأخرى ضاربة في القدم من جهة أخرى. ورغم أن هناك دائماً، مبدئياً، فرقاً بين الزمن الثقافي الكلاسيكي والزمن الثقافي الحديث، فإن الناقد يكشف عن علاقات تواشج واتصال بين هذين العالمين اللذيْن يبدوان مختلفين في أول وهلة. وإذا كان عبد الفتاح كيليطو قد بيَّن بشكل واضح الحضور "المتربص" للغة الأم في جميع اللغات المكتسبة الأخرى، فهل بإبمكاننا، اعتماداً على المنهجية عينها، صوغ فرضية يكون هذا التساؤل المشروع مبدأها: هل يمكن اعتبار الأثر النقدي الثر للمفكر والناقد الكبير إدوارد سعيد، ذي الجنسية الأمريكية والأصل الفلسطيني، أثراً "مفلوق اللسان"؟

 

سلا، المغرب.