يقدم لنا هذا النص الشعري بعضا من ملامح التجربة الشعرية الكردية المعاصرة، ومن خلال شاعر وناقد ساهم بشكل جلي في التعريف بالشعر الكردي المعاصر. النص أساسا كتب باللغة الكردية وقام الشاعر بترجمته الى العربية. النص يؤشر على حوار "هوياتي" في الأساس، من خلال خصوصية حافظت عليها الترجمة مما خلق للنص حالة من "الالتباس" تدفع للقراءة وشغفها.

رجل من الوهم

مهدي زريان

تقديم النص الشعري:

"رجلٌ مِنَ الوَهمْ و مَجذوبْ" : جمعة الجباري

"مهدي زريان" هو ذلك الشاعر الصوفي الجهبذ، الذي يتوسد الوهم ويزمل جسده الواهن العاري ببردة الخيال وينتعل الطرقات المغبرة، الموحشة و المظلمة  بقدمين متشققتين حد العظام من كثرة الأسفار، الباحث والتائه خلف الوجود وايجاد الكينونة البشرية، التي اضاعها ابونا آدم..

هو تلك المشاعر المبعثرة التي يكاد يضيع فيها، دون القدرة على لملمة شتاتها، حيث اكاد اجزم انه ذلك (المجذوب) الذي يجري في طرقات المدينة وازقتها المتعرجة حافي القدمين، ممزق الرداء، خالي الوفاض، خاوي البطن، شاحب الوجه ومعدم؛ جننه الوجود القسري للإنسان المليء بالخطايا، المستهتر الأخلاق المجنون الافعال والمفعم بالذنوب والآثام..

انَّ النص الصوفي ينهض اللغة ، كما في النص السوريالي والرمزي ، الى دور هائل في التعبير عما هو خفي، وشائك، وقصي، ومحاولة الامساك بما يصعب الامساك به: النبض الخفي للروح وهي تلتاع في توقها، وشطحاتها، وصبواتها المدمرة. لذا؛ فان هذا النص لا يستمد شعريته من قانون قبلي، كالوزن أو القافية، بل من بئر الروح، من تفجر لغتها الاشراقية، ومن انثيالها الطليق، الغض، المتناقض كالحلم .

إن النص الصوفي والنص السوريالي، كليهما، ينطلقان غامضين، كثيفين، من النبع ذاته، فالشعر السوريالي نشاط صوفي، عدا أنه "يرفض أي انتماء ديني" وهو يصدر عن "الحرية والحلم والرؤيا" كما يقول أدونيس. وتجسد الكتابة الصوفية حنينا عميقا الى المطلق. كما تكشف عن نزوع مدمر، هو في حقيقته ، تجل لتوتر حاد، بين الذات والآخر. "بين اللحظة الحاضرة والزمن الأبدي، بين امكان القائم الآن والمكان الآخر".

وهكذا ينضم النص الصوفي الى تلك النصوص التي تسهم جميعها، في خلق مناخ ابداعي لا عهد للكتابة به، مناخ يحرر الشعرية من قيد الوزن والقافية، ويعود بها مرة أخرى، خصيصة في النص أو في اللغة تحديدا وما تشتمل عليه ابنيتها وعلاقاتها من اشتعال وفتنة . وهنا نوردُ لهذا الشاعر المجذوب قصيدة ابداعية تكاد تكون انطباعات مصورة طبقاً له، بعنوان: "رجلٌ من الوهم" كتبها باللغة الكوردية، مع ترجمتها الى اللغة العربية الرصينة:

 

رجـلٌ مـن الـوهم

يكادُ المَطرُ يهطل

من ثنايا الأصابعِ المتجمدة للغيم

انتَ تحبُ المطرَ كثيراً..

أيمكنُ أن تعطيني هذه المظلة؟

أنا وحيدٌ اليوم اكثر من أي وقت

وأنت وحيدٌ أكثر من أي عصر!

لا املكُ عنواناً.. وأنا بهذا العري

بين الكفِّ المتشقق والمُدمَّى

لهذه الشوارع الخريفية..

الملآى بالأوراق المتساقطة

لكلماتِ العشق غير الملفوظة !

وأنت خلفَ زقاقٍ ما..

لاتجدُ ضحكة بريئة ضائعة..

لطفلٍ ما.

حيث قبالة ذلك:

أبٌ وأمٌ قلقين ضحَّيا بكثير من الدموع والآهات

أيمكن ان تدلني طريقاً؟

يأخذنا صوبَ البحر

كي أريك هناك المسافة:

بين الأنفاس الزرقاء للبحر

والحُضن العطوفِ للسماء..

كم هما قصيرتان وعاريتان من الحجاب

كي اقول لكِ هناك..

لم يكن ذبول الورود في عمر قصير

 ذنب الفصول !

أو هجر السنونو لاسقُفِ بيوتنا

فلم يكونوا عديمي الوفاء

وأنا.. لم تسنح لي الفرصة..

تحت ضوء قمرٍ هادئ

كي اسرد لكِ قصتي الموسومة

بالغموض وماضيَّ المليء

بالمشكلات والانكسارات..

آهٍ ياصديقي العزيز

يكاد المطر يهطل بغزارة

فتجمدني برودة هذا الطريق الطويل

لحظة إثرَ لحظة !

أيمكن ان تعيرني ملابسك ؟

أتظن بأنَّ هناك استدارة

في نهاية هذا الزقاق الحجري ؟

من أجل سكينة امواج الروح الحبلى بالآلام

أهناك ظل..

يأوي هذه الاجساد المتعبة للحظات؟

أو هناك باب..

للدخول الى الاطمئنان؟

أهناك شباك

تطير منها نظراتنا

في سماء حقيقة مسالمة

تتبع قزعا أبيضاً؟

لا يا صديقي..

 لا..

ففي نهاية هذا الزقاق

هنالك امرأة..

تظن أن التضحية جزء من الأنانية.

هي تقول:

الآمال والرغبات حلقة مستهلكة..

في أصابع الوجود الهزيلة !

وتظن أنَّ البحث عن العاطفة

بحثٌ عن الضوء..

هي في البلعوم المظلم للكهف

تقول دائماً:

العشقُ مسافرٌ حالم

متأخراً يصل الى غايته..

والتمسك بالأمل

خطأ فادح !

يا لي من منهك ياصديقي

فأرجوك دلني طريقاً

يوصلني الى بستان

لاخضرار الخيال!

يا لبرودة هذا الطريق

كم هو بلا عنوان

يكاد الصوتُ في بلعومي يتجمد

أيمكن للحظات..

ان تعطي لفاحتك لرقبتي ؟

يا لهذا المكان الباعث على الالم

إني ضجر من هذا الطريق

لا أظن أنه سيأخذنا الى البساتين التي تقع

بين الأنفاس الرطبة والتبرعم الخجول لجلنار

والأوراق العطرة لليمونها..

والفراشات الملونة

تصطاد أحلام طفولتنا الشفافة !

لا أظن سنجد بعد الان بستاناً

لترتاح الروح فيه

وتتعمد من الاثام والجرائم

لاتحاول عند استدارة هذا الزقاق

قراءة الخطوط المتكسرة لقدري

في رماد ذاكرتي الماضية والحالية

لن تربح جذوة واحدة

لتمنح القوة لخطواتك الباردة

التي تخطوها بتثاقل

على المحيا المبلل للطرقات النائمة !

كنتُ دائماً في المساءات المتأخرة

احتضن ركبتي وأسند ظهري

لشجرة هرمة على ارصفة

الطرقات العارية من الوان الخيال والوحدة

وتتساقط ..تباعاً.. اوراق الايام المتشابهة

على حذائي..الذي لم تسنح لي ربط قيطانهما لحد الان.

كانت أمي تقول لي دائماً:

لاتسرف في العاطفة !

لكي لاتجد نفسك يوماً

في مخاطر سفر العشق.. خالي الوفاض

لاتفعل يابني..

وتدقق في رقاص ساعاته

وتودع نفسك لدقاتها الفجة

ستشيخ سريعاً !

ولكن يا رفيقي..

لم استفد من نصائح أمي!!

لاتنسى ..

أيها الوحيد الأوحد في هذا الطريق الخالي

إذا وصلت الى البحر؛

خذ خصلة من شعرهِ

حتى لاتبتلعكَ صحراءٌ ظمأى

وقل للصحارى

إنني جئت من سواحل البحار

كي احرق هذه الخصلة الفضية

ستمتلئ أكفكن القاحلة بالمياه !

إذا وصلت الى بستان..

قل له:

إنني احملُ حياتي معي

وسأمنحها لك .

أمهلني هنيهات

كي أجد بين البراعم الخجلى للرمان

وأوراق النارنج العطرة

احلام طفولتي الهاربة !

هذا الدرب لاينتهي

كلما تمادينا فيه أصبح أكثر فراسة

أترى سيوصلنا الى اي مكان؟

ويوجد هناك اشخاص

يفهمون من لغة رجلٍ وحيد !؟

هذا المطر يهطل بشدة لدرجة

تكاد الارصفة تنغمر بالمياه

إنكَ تحب المياه كثيراً

هل يمكن ايضاً ان تمنحني هذه الأحذية !؟

إنك الآن تحت غزارة هذا المطر

وعلى جسد هذا الشارع النائم

عارٍ تماماً..

عارٍ..

كلياً..

مثلي كما في السابق !

ولكن مختلف.

أنت جميلٌ متعرياً

لاتحتاج ابداً للمظلة والأردية واللفاحة والحذاء

لتحميك من قطرات المطر وأمواج المياه !

منحتك المياه لونها..

فالمطرُ لايستطيع تخفيف لونك !

آهٍ ما أتعبني..

لم أعدْ قادراً على قطع كل ذلك الطريق

منذ وجودي

تبلعني استدارة طريق وتتلفني استدارة اخرى

وبما انني لا استطيع الاستفادة

من تجربة نهر..

وبما انني لا أقدر على قراءة روح

قطرة ماء !

إذن ما فائدة قطع كل تلك

الطرقات والأزقة بهذا العري !؟

مصادقتك يا صديقي بلا هوادة !

فها هو في عنق ذلك الزقاق

هبَّت ريحٌ قوية متجهة الى هنا..

أظن أنه ينوي

اقتلاع المظلة من يدي

لاتنسى..

لو اقتلعت يد الريح المعدومة من اللون

المظلة من يدي

فعد الى داخل ارديتك؛

لأنه..

أنا مجرد رجل من الخيال والوهم

تبللني قطرة من المطر..

أذوب وأصبح لاشيء !!

ومرة اخرى أنت عارٍ خلف شخص اخر

تبحث في الازقة عن عنوان،

فلن تجد: لا ضحكة طفل

و لا ظلٌّ لاستراحة !

استدارة طريق تبلعك

واستدارة اخرى تتفلك

وتصبح وهماً مرة اخرى

وتترك ظلاً من ورائك..

على كل تلك الطرقات

وعنق كل تلك الازقة

التي لاتنتهي الى الأبد!!

 

شاعر كردي

mehdizrian@yahoo.com