يتناول الناقد المغربي فيلم "حصان الحرب" لستيفن سبيلبرغ، يسرد العلاقة بين البرت وحصانه وتواشجات الإنساني فيها، ويحلل مفاصل التوتر الدرامي في اللغة السينمائية وجماليات الصورة. ليخلص للقول أن الفيلم فعل ملحمي، سيحتل مكانة بين ما تخبئه الذاكرة من روائع سينمائية.

«حصان الحرب» قصة تدين الحرب والدمار

ولع ستيفن سبيلبرغ بجو الحرب وعالم الطفولة

سليمان الحقيوي

بعيداً عن الخلاف النقدي الذي أثاره العرض الاول لفيلم "حصان الحرب"، وبعيداً كذلك عن معرفتنا السابقة بالمنحى الفني للمخرج ستيفن سبيلبرغ، فإن مشاهدة فيلم حصان الحرب كافية، لوحدها، أن تجعلنا نؤمن من البداية أننا أمام عمل ملحمي كبير، سيحتل مكانة بين ما تخبئه الذاكرة من روائع سينمائية خالدة، وبالتالي فنحن أمام فيلم سينمائي ينضاف إلى السجل الإخراجي العظيم لهذا المخرج الفذ.

مهما اختلفت عاداتنا في تلقي السينما، ومهما كثرت تلك العقبات النفسية التي قد نضعها بيننا وبين بعض التيمات السينمائية، فإن فيلم حصان الحرب يعجلك تشدّ انتباهك لقصته، فلا إبهار بصري، ولا خيال علمي مما ألفناه لدى ستيفن سبيلبرغ يحول بيننا وبين شفافية الفيلم، وما يحضر من صاحب ملحمة "الفك المفترس" سوى كفاءته المهنية المضمونة، التي مكنته من الانتقال بين تيمات سينمائية عديدة دون أن يفقد لمسته الفريدة؛ وهذا شيء نلمسه منذ الدقائق الأولى من عمر الفيلم حيث سيساهم تضافر مجموعة من التقنيات؛ موسيقى تصويرية تهز النفس، ومشاهد طبيعية تؤطر مكان التصوير، وغياب شبه كلي للحوار في سبيل الكشف عن بداية مشوقة هي ميلاد حصان تحت أنظار الفتى "البرت" ومنذ هذه البداية ستنشأ بينه وبين هذا الحصان علاقة حب قوية، بعد ذلك سيباع الحصان في مزاد علني، ولحسن حظ ألبرت فإن أباه "بيتر مولان" استحضر بعضاً من عناد المخمورين بعدما شذته للحصان عاطفة غريبة، لذلك سيستمر في المزاد وسيظفر بالحصان، لكن بمبلغ كبير مستدان، فيثير ذلك غضب الزوجة "روز/ املي واطسن" فتساهم ضمانات البرت بتربية الحصان وتعليمه في إطفاء شيء من غضبها. وبتوالي أحداث الفيلم تتقوى علاقة الحب بين البرت وحصانه جوي، الى أن تقطعها طبول الحرب العالمية، ويضطر الأب إلى بيع حصانه للجيش ويعلن الفراق بين جوي والبرت، فيبدع سبيلبرغ في تصوير لحظات هذا الفراق المر في مشاهد تحرك فينا ابعد نقط الإحساس، ثم يقطع البرت وعدا لحصانه بأنه سيجده مهما فرقت بينهما الظروف، لتنطلق مسيرة جوي في ميادين القتال والمعارك وتقذف به الظروف في كل الاتجاهات، ومن هناك سيقتنص المخرج لوحات حربية يتقنها جيدا حيث ستذكرنا هذه المعارك بافلام من قبيل "انقاد المجند رايان"، وسيخوص بنا في مآسي هذه الحرب وسط مساءلات وراء جدواها والدمار الذي تخلفه، وتستمر رحلة الحصان بتوالي المحطات لكنه يخرج في كل مرة منتصرا، كل ذلك والبرت لا ينسى حصانه للحظة واحدة، وبعد أن ضاق بهذا الفراق سينخرط في سلك الجندية ليزيد من فرص لقاء "جوي" وستتقاذفه الأقدار شأنه شان حصانه، لكنهما سيلقيان في لحظة كتبها القدر بلغة الغرابة والعاطفة.

لقد كانت علاقة البرت وحصانه، هي الموضوعة الأساس، ولكنها كانت مدخلا لعديد من الموضوعات الانسانية الأخرى برع في تحريكها "لي هال" و"ريتشارد كورتيس" اللذان اقتبسا هذا العمل عن مسرحية الكاتب " ميكايل موربورغو" وسيصلا بلغة الحوار أقصى دلالات اللغة السينمائية المكتوبة، سواء في فترات قوته أو حينما سيتوارى وراء لغة الكاميرا، ويظهر توافقهما مع المخرج في اختيار تقنية السرد الكرونولوجي، دونما حاجة لتقنية الاسترجاع او الكسر، مما كان سيترتب عليه قلق في تلقي قصة كهاته، فكانت الحاجة إلى طريقة سرد تقليدية وجمالية في الآن نفسه، ولم نلحظ أبدا طغيان الحوارات الطويلة إلا في المقامات التي احتاج فيها الفيلم لبناء الاحداث والربط بينها، لذلك كان التشويق عامل ركز عليه فريق العمل من خلال الحوار.

ما يثير إعجابي في ستيفن سبيلبرغ منذ معرفتي القديمة به هو اشتغاله مع فريق عمل واحد يوافقه نفس الاختيارات الجمالية، وهو في كل أعماله يحاول ما أمكنه الاحتفاظ بنفس الفريق، وهذا ما يفسر وجود الموسيقار جون ويليامز وراء ابداع الموسيقى التصويرية لهذا العمل، وهو الذي سبق وان اشترك مع سبيلبرغ في أغلب أعماله، بالإضافة إلى ثقة المخرج الدائمة في مدير التصوير" باينس كيمنسكي"؛ طبعاً هذه الاختيارات بعيداً عن منطق الصداقات مثلما يحصل في سينمانا نحن، ولكنه نابع من كفاءة مهنية تؤكدها التحف السينمائية التي انتجها هذا الفريق. إن بصمات المخرج في حصان الحرب عصية على الإحاطة التامة؛ ويكفينا اختياره الاشتغال على قصة يكون بطلها حصان في إشارة رمزية إلى الموت المأساوي الذي تعرضت له آلاف الأحصنة في المعارك، بالإضافة إلى إعطاءه الفرصة للممثل الصغير جيرمي اريفن الذي جلبه من التلفزيون، وقدم له دور العمر، كما يظهر منحاه الإبداعي في مساءلته لجدوى الحرب وتركيزه على مآسيها، وهي رسالة خصصا لها مشهدا بلغت فيه ذروتها التعبيرية، حينما سيقع الحصان جوي مكبلا بالأسلاك الشائكة بين ساحة تفصل بين كتيبتين فيحرك صراع الحصان مع الموت مشاعر الجنود من كلا الطرفين وفي نفس اللحظة يقرر جنديان، واحد عن كل كتيبة، الصعود وإنقاذ هذا المخلوق الذي يصارع الموت أمامهم، وهناك سيدور حوار بينهما يتعمق فيه المخرج في الكشف عن رفض الحرب، وفور انتهاءهما من انقاد الحصان سيعود كل منهما الى مصيره المظلم؛ وهي فرصة اقتنصها المخرج ليسرد بعضاً من مشاهد الحرب وقسوتها، ومقابلة ذلك برسائل الولاء والشجاعة والصداقة، والتقاط مثل هذه الرسائل ليس بجديد عن سبيلبرغ فرفضه للحرب يظهر في مجموعة من أعماله السابقة، كما أن ولعه بعولم الطفولة سمة يتسم بها جزء كبير من منجزه السينمائي.

لقد فرضت القصة على المخرج الاعتماد على الفضاء الخارجي الكاشف لذلك ستلتقط كاميراه مناظر طبيعية رائعة، وهذه المناظر كانت كافية لعقد مقارنة بينها وبين ماتخلفه الحرب من دمار، كما أظهرت هذه اللوحات اعتماد المخرج على مختلف مصادر الاضاءة واعتماده على التصوير من زوايا متعددة، وهذا العمل لا يظهر أبداً اعتماداً كبير على الجانب التقني والخدع البصرية التي تميز افلام سبيلبرغ، بل يعتمد على ما يلائم قصة الفيلم فقطـ، كما ان جو الحرب فتح الفيلم أمام شريحة عريضة من الجمهور، تتجاوز فئة الاطفال ممن استهوتهم قصة "جوي" و"البرت". والفيلم انتهى بنفس الايقاع البطيء الذي بدا به، ولا نفسر ذلك أبدا بانعدام تحكم المخرج في محطات عمله، ولكن النهاية كانت تقتضي الانتهاء بنفس النسق تقريبا، لتعود نفس المشاعر وتتحرك مع نهاية الفيلم في مشاهد لقاء "جوي" و"البرت". وكل هذه العناصر جعلت الفيلم يتمتع بما اصطلح عليه الناقد "بيرسي لوبوك" الصورة الكلية، (أي ما يبقى عالقاً في ذهن المتلقي بعد فراغه من العمل وانصرافه لاموره الخاصة زمناً قد يطول أو يقصر، وطبعاً هذه العملية لا تحدث مع كل عمل ولكن مع عمل أدبي أو فني رائع).

قد لا يختلف اثنان على أن حصان الحرب هو عنوان أحد أجمل الأفلام السينمائية، وهذا الحكم بغض النظر عن مصدره فهو حكم منصف لهذا العمل، ومن سوء حظ الفيلم أن فترة انتاجه تصادف أحد اقوى سنوات هوليود انتاجا وجودة، فكانت لائحة الترشيح للأوسكار مزدحمة بأعمال سينمائية رائعة من قبيل: فيلم (الفنان وشجرة الحياة، مونيبال، وفيلم المساعدة...)، لذلك لم يحصد الجوائز، ولكنه عوض ذلك باستحسان الجمهور، وترك لنا مساحات شاسعة للتأمل في رسائله العميقة.

 

كاتب من المغرب

soulayman.h@gmail.com