يقدم الروائي العراقي هنا قراءة لرواية محرر (الكلمة) التي سبق أن نشرناها في (الكلمة) قبل عامين، وقد صدرت مؤخرا في طبعة ورقية وفي بغداد. يحلل فيها أهميتها كنص روائي أولا وكشهادة مهمة على مرحلة دامية من تاريخ العراق، وعلى تجربة شخصية للروائي نفسه الشاهد والضحية في آن.

من باطن الجحيم: وثيقة الشاهد/الضحية

فلاح رحيم

يقولُ سولجنتسين، في مدخل كتابه "أرخبيل الغولاغ"، إن بعض الناس ينصحُك بنسيان الماضي وعدم التدقيق فيه لأنك قد تخسر عيناً إن فعلتَ ذلك، ويردُّ على هؤلاء بالقول إنك إن نسيتَ الماضي ستخسر العينين معاً. وكتاب الروائي العراقي سلام إبراهيم يدخلُ في باب التدقيق في الماضي، وإطالة التحديق في فصلٍ محدد من فصوله الفاجعة، صار يمرّ علينا إمّا بوصفه شعاراً سياسياً مختزلاً ندينُ به الدكتاتورية وإمّا بوصفه جزءاً من جدال عقائدي يسعى إلى مطالب سياسية بعينها. والمقصود هنا مأساة الأنفال، وجريمة استخدام النظام االدكتاتوري السابق الغاز الكيمياوي ضد شعبه في كردستان. يتناول سلام إبراهيم بتفصيل إنساني مؤثر معايشتَه الشخصيةَ، بوصفه ضحية وشاهداً في آن واحد، لحادثيْن مأساويين احترق بلهيبهما آلاف الأبرياء من الأكراد القرويين والأنصار المتحصنين في جبال كردستان هرباً من جنون النظام. أما الزمانُ فهو الخامس من حزيران عام 1987، وكان الحادث يومها استخدام النظام لغاز الخردل، ثم الحادي والعشرون من آب 1988 عندما عاد النظام ليستخدم غاز الأعصاب. المكان هو في الحالتين وادي زيوه في مجرى الزاب الأعلى خلف العمادية.

يمتازُ السردُ الذي تقدّمه هذه الوثيقة الفريدة للحادثيْن بدقة الرصد التي تبقي على الرغم من انشغالها بالحدث على تلك الشحنة المحمومة من الألم والاكتواء التي ترتّبت على كون الراوي ضحية تعرض للإصابة في إحدى الحادثين، وكان الاكتواء جسدياً محسوساً في الأصل، لكنه ظلّ يعذّب الروح حتى لحظة الكتابة. وأعتقد أن قدرة الراوي على تحقيق المزاوجة بين رصد الحدث والاحتراق به تعود في ركن مهم منها إلى رغبة الراوي المشغول بطموحات أدبية في التسجيل والمتابعة. يقول سلام إبراهيم إنه ظلّ يعيش التجربة بوصفه ممثلاً في فيلم يصور مأساة بشرية، وهو إحساس ساعده على احتمال ثقل التجربة وعنفها وعلى مراقبتها أيضاً. والمؤكد أن سجلات الوثائق العراقية محظوظة لوجود شاهد له حساسية سلام إبراهيم وانشغالاته في مأساة مروّعة كتلك. السبب الثاني في قدرة الراوي على الموازنة بين الرصد والاكتواء وجود زوجته الناشطة السياسية العراقية ناهدة جابر جاسم (بهار) إلى جانبه طوال فترة وجوده في كردستان. وهو أمر أتاح له حيّزاً عائلياً يشدّ عزيمتَه ويقوّيه من جهة، وينأى به عن فخّ التهكّم أو الرثاء للنفس الذي يكون الأعزب المستوحد عرضة للسقوط به في مثل هذه المواقف.

تبرزُ في سياق السرد الوثائقي الذي يقدّمه الراوي شخصيات كبيرة بمعاناتها ومواقفها المقاومة في ظروف صعبة محبطة، لكنها شخصيات يزداد الميل إلى تهميشها ونسيان معاناتها في الخطاب السياسي العراقي المعاصر. إنه حشد كبير من أسماء الأكراد والعرب الذين واجهوا القصف الكيمياوي والتشرد في منطقة المثلث العراقي التركي الإيراني، آلاف العوائل الكردية المنكوبة التي أخرجتها الأنفال من قراها الآمنة. لكنها ليست مجرد أسماء كتلك التي تتراكم دون ملامح في سجلات الضحايا. فضلاً عن المشاهد التفصيلية الفاجعة التي تتخطى كلّ تأويل واختزال، هنالك صور شخصية فوتوغرافية للضحايا تتيح للقارئ رؤيةَ ملامحهم والتفاعل مع عذابهم، في مسعى من الراوي إلى الحدّ من أيّ محاولة لحذف الوجود الفعلي للأفراد في هذه المأساة التي صارت تعالج على نحو متزايد وكأنها صدام بين كتلتين كبيرتين لا ملامح لهما، هما العرب والأكراد.

يبدأ سلام إبراهيم، الشاهد الضحية، مع زوجته ناهدة رحلتَهما إلى كردستان بدافع أيديولوجي تاركين ابنهما المصاب بالربو في مدينة الديوانية خلفهما، ولكن هذا الدافع الأيديولوجي يندمج منذ البداية بدافع شخصي يجعل من المتعذر على إبراهيم مهادنة سلطة البطش التي قتلت أخاه كفاح إبراهيم ومجموعة كبيرة من شباب عائلته في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات. سرعان ما يبرز في السرد منظور مغاير، فإبراهيم الذي عاش التجربة واكتوى بنارها ثم أقام في الدنمارك لاجئاً، تعلّم من كلّ ذلك الحكمة الصعبة التي تخرج من جحيم التجربة، وصار يحرص على النأي بسرده عن الأيديولوجيا والتأويل. إن كلّ محاولة للفهم والتفسير والإدانة تسيء إلى معاناة هؤلاء الأفراد المفجوعين وتحوّلها إلى علّة باهتة في سجال سياسي وأيديولوجي عقيم. وهكذا نتوفر على سرد ساخن حارق يوفر للضمير العراقي والعالمي وثيقة نادرة لابد من نشرها وقراءتها بتمعّن.

هنالك في هذه الوثيقة المؤثرة لحظات محتدمة تكتفي بذاتها لتأكيد معناها. فالراوي يصف إصابتَه بغاز الخردل عام 1987 وصفاً تلقائياً مؤلماً، ولا يشغله ذلك عن وصف إصابات رفاقه الذين يحرص دائماً على تقديمهم للقارئ كأفراد، ونشر صورهم قبل أن يبدأ بوصف إصاباتهم الفاجعة، وكيفية مساهمته مع مجموعة كُلّفت بدفن الضحايا واستعادة الباقي منهم على قيد الحياة. ونقرأ هنا عن الطبيعة الخاصة للإصابة بهذا السلاح الفتّاك، إذ أقدم الضحايا جميعاً على الانتحار بسبب ما أصابهم من هستيريا وهذيان ويأس. كذلك ثمة وصف للنزوح الكبير لمجاميع كبيرة من العوائل القروية الكردية باتجاه الحدود التركية بعد جرائم الأنفال، شارك فيه سلام إبراهيم وزوجته ناهدة، التي كانت قد أصيبت بالسلّ حينها، كضحايا قبل أن يكونوا شهوداً للتاريخ. وكان يتوزعهما قلقُ القبض عليهما من قبل السلطات التركية بين الأكراد بوصفهما من العرب، إذ لا مبرر لوجودهما في كردستان إلا النشاط السياسي، وهو ما يعني في مثل هذه الحال إمكانية تسليمهما للحكومة العراقية، وعناء التجربة وشدّتها في ظروف التيه الشاقة.

تحقق هذه الوثيقة الثمينة المؤثرة غايات كثيرة، لكن أهمّها كما أرى هو سعيها باتجاه مضاد إلى الميل المتزايد إلى بلقنة العراق، والشرق الأوسط عموماً، وتحويل شعوبه إلى كتل صمّاء بدون ملامح. لا يمكن لمن ينتهي من قراءة هذه الوثيقة إلاّ أن يستحضر صورة الكردي البسيط الذي طالما صادفناه في حياتنا، ووجدنا أنفسَنا نقفُ معه في حفرة شقاء واحدة طوال العقود السالفة، ولا يمكن لمن يقرؤها وهو يرى، على شاشات الفضائيات العربية التي تخصّصت بتطبيع الفجائع، مجاميع بشرية من العوائل المشرّدة، إلا أن يستحضر هول تجربة الذعر والانكشاف التام أمام المخاطر التي عاشها الأكراد في تلك المحنة. إنها محاولة لإعادة الاعتبار للفرد وإنسانيته المهددة اليوم كما بالأمس بمطامح السياسيين التي لن تجد صعوبة في تبرير مثل هذه الجرائم على أساس شعارات بالية. بدلاً من جمع الحطب لنيران جديدة، يدعونا سلام إبراهيم إلى الاحتفاء بالضحايا والعلوّ بفرديتهم فوق كلّ دعوى منغلقة على ذاتها.

 

روائي ومترجم عراقي مقيم في كندا

 

صدرت الرواية عن دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2013