لا يتردد كاتب هذه المجموعة في الكشف عن مفهومه للقص عبر عتبة مرصعة بمقولات، وأقوال، لكتاب خبروا عالم القص ودهاليزه. وتتأرجح هذه المقولات بين حدين اثنين:
1-حد التماثل بين الكون والذرة، المحيط ونقطة الماء، السنبلة والحقل، الكائن والعالم. ولعل هذا ما يفسر التماثل بين (الكوسمولوجي) و(الإيبيغرامي) إذا صح التعبير. فالكائن قد لاتتجاوز مساحة وجوده- بالقياس إلى العالم أو الكون- الذرة المتناهية في الصغر، لكن أحلامه، وهواجسه وهلوساته، تتجاوز الجبال طولا وعرضا.
2- أما الحد الثاني- وهو جوهر القص الدائم- فيتجسد في المفارقة المنتجة بدورها للمبكي والمضحك، الذي يتشظى في مكونات القص( حدث/ شخصية/لغة..) ليصل إلى مستويات متعددة من الدلالة التي قد تكون سخرية،أحيانا، أوخفة روح، أحيانا أخرى، دعابة، أحيانا،أو نكتة سوداء، أحيانا أخرى، نقدا مرا، أحيانا، أو هجاء- واليد على القلب- أحيانا أخرى، سذاجة مقصودة، أحيانا، وسوء تفاهم(كيبروكو)، أحيانا أخرى، يتسبب في خلق التباسات عديدة، في الموقف والحدث واللغة السائدة بين السارد والشخصية، بين الشخصية والشخصية الأخرى المعارضة أوالمؤيدة. أو تجليات المفارقة تنسحب على البنية النصية- السردية- برمتها من خلال التالي:
أ -العنوان: أربع قصص طويلة جدا(ص.11) لومضات قصصية لايتجاوز كل مقطع منها السطرين في أحسن الأحوال. غير أن الدلالة تجعل منها قصصا تأخذ بعدا (أنطولوجيا) في المقطع الأول، وبعدا كاريكاتوريا- في المقطع الثاني- ) فيه تتغير فيه المواقع بين الرائي والمرئي، وبعدا قدريا يقطر مأساة في المقطع الثالث، وأخيرا ، وليس آخرا، تأخذ الدلالة بعدا طباقيا- البياض والسواد- يكشف عن سوءة من سوءات الغرب الكاشفة، بدورها، عن أسلوبه في الكيل بمكيالين.
ب-الشخصية: الكائن الإنساني في الكثير من هذه النماذج يتحول إلى كائن آخر. فهو أشبه بالجرذ(قصة الجرذ/ص.13) الذي لايتوقف عن الجري طوال اليوم بين (أنفاق مترو المدينة الكوسموبوليتية) ص،13. والسارد لايتردد في الإنتقال من ضمير الغائب المتعلق بجرذ من الجرذان، إلى ضمير المتكلم المفرد الذي يعلن فداحة المأساة، كاشفا عن الجرذ الحقيقي الذي لم يكن سوى السارد.(الجرذ أنا يجري في أنفاق مترو المدينة الكوسموبوليتية) ص.13.
الشخصية القصصية، إذن، تفقد هويتها الإنسانية في واقع لايدين بالولاء إلا للسلطة، أو المال، والتشيئ، والنمطية المنتصرة لنظرية القطيع، والأحكام المسبقة عن الآخر التي تدور في فلك الإرهاب والتخلف الحضاري..ومن ثم تتعطل الوظائف الإنسانية بسبب هذا الحصار الخانق.
ج- نموذج آخر يجسد ما سبق ذكره من خلال نص حمل العنوان التالي: ثوان من ألف ليلة وليلة (ص16)، والمفارقة واضحة بين الثانية والليلة، على مستوى الزمن، وعلى، من ناحية أخرى، على مستوى التحويل الذي جعل من شخصية شهرزاد شخصيىة متمردة على سلطة شهريار بواسطة حكي جديد يفضح استبداد الملك وجنونه.تصبح المفارقة ، إذن، مستشرية في جسد القص: لغة وكلاما وموضوعا ومواقف صادرة عن شخصيات تعيش (وضعها الأنساني)، في سياق صراع شرس بين ماهو كائن ، وما يجب أن يكون.
تشترك هذه المجموعة مع المشترك في الكتابة القصصية المغربية المعاصرة. وعلى سبيل المثال نذكر بعض عناصر هذا المشترك:
1-إشكالية الكتابة عن الذات، من جهة، وعن الآخر(كائنا حيا/ قضية مركزية/لحظات مسترجعة عبر الذاكرة، أو من خلال صيغ التناص المتجددة). يمكن الرجوع إلى النصوص التالية:
(قوارب بيضاء) التي تتداخل فيها هجرتان: هجرة الذات المسحوقة بالفقر، وهجرة الذات النصية التي تتسامي على اليومي نحو الحلم المزدوج المحقق للرغبتين.
(وصية فرناندو أيينسا الحادية عشر للكتاب): والنص تحول على يد السارد الذي أضاف للوصايا العشر للكاتب المشار إليه، وصية جديدة تجسدت في النص الذي كان أشبه بطرس يقوم على الكتابة والمحو إلى الحد الذي ذابت فيه كل الوصايا، بما فيها الوصية المضافة، استناد ا إلى أن الكتابة، في جوهرها، تقوم على رفض الوصايا.فعوض البحث عن التعاليم ، يجب الإنخراط في التجربة.
وهناك نصوص أخرى طرحت إشكالية الكتابة من مواقع مختلفة، انسحبت على السرد، من جهة، وعلى المرسل والمتلقي، من جهة ثانية.(هذه القصة ص،49: قصة مرقمة التي تقوم على تفكيك علامات – لغة الصمت-الوقف في سياق تفاعل لغة الصمت بلغة الكلام/حروف أبي حيان..ص،57)
2- إشكالية التناص الذي انتشر في النص القصصي المغربي المعاصر من مواقع عدة. ولاشك أن مرجع ذلك يعود إلى أننا نملك الدموع ذاتها والضحكة ذاتها والحزن ذاته. نختلف في المسبب – بالكسر- والمسبب- بالفتح- ، ونشترك في الجوهر الإنساني. هكذا يصبح النص القصصي شبيها بالسمك الأسطوري الذي أورده بعض الرحالين المغاربة، والذي يمنح بعض أجزائه للراغب فيه شريطة أن يحسن توظيفه. وإذا حدث العكس يضرب السمك عن العطاء. لاوجود لنص قصصي نقي، والقاص-كما أصبح متداولا- يشرب خمرة معتقة في أكواب جديدة.ومن ثم عالجت بعض قصص المجموعة قضايا الذات المفردة، و قضاياالذات الجماعية التي أكدت على الهم الجماعي الذي لم يتنصل منه السارد بأي صيغة من الصيغ.
من هنا حضر( كافكا) ، بشكل غير مباشر في قصة ( المسخ)،التي تحول فيها ( جريجوري سامسا) إلى حشرة ، وتأرجحت فيها الشخصية –في قصة المجموعة الحاملة للعنوان ذاته، بين البشرية والحيوانية على ظهر قطعة معدنية تحركها عصا ساحر خفي. وحضر (هاملت) من خلال شخصية جربت كل شئ ،وانتهت إلى المصير المحتوم.وحضر (شكسبير)، مرة أخرى، من خلال( الملك لير) الذي تمرد على وضع دفع إليه دفعا. وحضر (إدجار ألان بو) ، بشكل غير مباشر، من خلال القط الأسود الذي طاردت لعنته كلا من الساردين، متحولا إلى كابوس، في النوم واليقظة (بو)، وإلى ضيف لدى الشرطة- القط الأسود.ص.48- بعد أن بلغت عنه قطة الجيران! وحضر، أخيرا، وليس آخرا، أبو حيان التوحيدي الممتد في حفدة ماثلوا ألسنة اللهب المتصاعد من ركام المحروقات.
من أهم الإضافات التي قدمتها المجموعة، في سياق السرد القصصي القصير، نحت شخصية(أبوالعز) الشبيهة بالشخصية المقامية، مع امتلاكها لخصوصيتها المميزة. في مقاما ت الهمذاني الخمسين يتناوب على السرد (عيسى بن هشام) راوي الحكاية، وبالمقابل نجد شخصية (أبي الفتح الإسكندري)- بطل المقامة- الذي يلعب دور التنوير ، بعد اكتشاف أمره، في نهاية المقامة.
في مجموعتنا الحالية ، يلعب (أبو العز)، في أربعة نصوص من قصص المجموعة، دورا مقنعا مزدوجا يقوم على الثنائيات التالية:
+- ثنائية العقل والجنون (حكاية الكرسي) ص،17، التي تقوم على صوت الحكيم- صوت التاريخ- وهو صوت العقل، وتقوم، أيضا، على التعجيب والتغريب والمبالغة التي قد لا يقبلها العقل.
+- ثنائية الصلاح والفساد ( درس في الخيانة) ص،55، وهي تستند إلى قناع الظاهر والباطن، الحقيقي والمزيف.
+- ثنائية الإيثار والأثرة (درس في الأنانية) ص،37، وهي تقوم على اقتناص الفرص، وتمرير خطاب المداهنة والرياء.
+- ثنائية العارف المتجاهل: وهي ثنائية تقوم على اللامبالاة المقصودة من طرف (أبو العز) بعد أن عرف أسرار اللعبة (زقاق التاريخ الطويل)ص،31..
1-عبدالجبار خمران: قوارب بيضاء. سندباد للنشر والإعلام. القاهرة2010 .