يستبين الباحث السوري المرموق أن عماء كيميائي الطاغية الوحشي انتشر في الغوطة الشرقية، كترجمة لذعر النظام من تقدّم الجيش الحر في مناطق دمشق وحلب وإدلب وحماة وعموم الجنوب، إضافة للصمود العظيم المترافق مع تنفيذ هجمات مضادة كان أهمها العمليات في الساحل، ويتأمل ضرورة أن يكون الحساب محليا.

المجازر الكيميائية

الحساب في الغوطة وليس في واشنطن

صبحي حديدي

غالبية عظمى من التعليقات على المجزرة الكيميائية، التي تعرّضت لها مناطق في الغوطتَين الشرقية والغربية، اتفقت على جمهرة أسباب ـ نابعة من منطق بسيط تماماً، في الواقع ـ ترجح لجوء نظام بشار الأسد إلى هذا الخيار الأقصى، بهذه السوية من الوحشية العمياء، وفي هذا التوقيت تحديداً. ثمة، في المقام الأوّل، ذعر النظام من التقدّم العسكري المضطرد الذي تحققه كتائب الجيش السوري الحر، في هذه المناطق أسوة بتخومها؛ وعجز الوحدات الموالية عن مواجهة هذه السيرورة، رغم استخدام صنوف القصف الكلاسيكة كافة، الجوية والصاروخية والمدفعية. وهذه حال ليست جديدة، بالطبع، وتتواصل بصفة حثيثة منذ سنة ونيف، وابتداءً بأولى الاختراقات ضدّ خطوط انتشار الجيش الموالي، في أحياء الميدان وبرزة وجوبر والقدم والتضامن ومخيم اليرموك.

وثمة ذلك الذعر الثاني، المتصل بالهزائم التي مُني بها جيش النظام في ريف حلب وإدلب وحماة، والتي كانت تتكامل مع هزائم أخرى في حوران والمنطقة الجنوبية عموماً، وما اقترن بالعمليات هذه من ارتسام صيغة جديدة في تناسق الجبهات القتالية بين مجموعات الجيش الحرّ. ورغم أنّ الصيغة بدت، وما تزال، وليدة العفوية، والمبادرات الفردية التلقائية، ومقتضيات التطورات الميدانية الصرفة؛ فإنّ معنويات جيش النظام الآخذة في انهيار، وتردّي أداء وحداته، وتفكك خطوطها، وتبعثر جهودها، وانعدام صفة التخطيط القيادي المركزي… عوامل أتاحت، من جانب ثانٍ، الارتقاء بالصيغة هذه من مستويات الصمود في المكان، وإيقاع ما أمكن من خسائر في صفوف النظام، إلى مستويات تنفيذ هجمات مضادة ناجحة، واغتنام أراضٍ ومواقع ومستودعات سلاح.

وثمة، ثالثاً، طراز الذعر الخاصّ الذي دبّ في نفوس الفئة المتنفذة من رجالات النظام، والقشرة العليا من ضباطه بصفة خاصة، جرّاء عمليات ‘الجيش الحرّ’ في بعض قرى الساحل السوري. ولقد بدا جلياً أنّ أنساق ذلك الذعر انعكست، على نحو شرطي مباشر، في هيئة ردّات فعل عسكرية متعجلة، مرتبكة تماماً (كما في سحب وحدات من جبهة حماة، ونقلها على عجل إلى الساحل، والمجازفة باحتمال تحريرها على يد الجيش الحرّ، الأمر الذي حصل هكذا بالفعل). الوجهة الثانية لتلك المنعكسات الشرطية اتخذت منحى انتقامياً، وحشياً وهمجياً وعشوائياً، تجلى أوّلاً في مجازر الغوطة الكيميائية، وقد يتجلى ـ مجدداً، لدى أية مناسبة، ثانياً وثالثاً وعاشراً ـ في ما لا عدّ له، ولا حصر، من الأفعال البربرية العمياء.

وليس خافياً (إلا عند أنصار النظام، المتواطئين مع خياراته هذه، المتعامين عنها عن سابق قصد وتصميم، المصفّقين لها بوصفها "ممانعة" أو "مقاومة" ضد "التكفيريين"، المشاركين في تنفيذها على الأرض…)، أنّ أرباب النظام وضباطه، وبشار الأسد شخصياً على رأسهم، يؤمنون بأنّ قتل مئات السوريين، والأطفال منهم بصفة خاصة، في دقائق معدودة، هو واحد من أفضل سُبُل رفع المعنويات المنهارة. وإذْ يبدو الأمر همجياً صرفاً، وغير آدمي على أيّ نحو، في تفكير امرىء عاقل متصف بالحدود الدنيا من طبائع التفكير الإنساني؛ فإنه ليس طبيعياً وعادياً ومقبولاً، فحسب، في نظر الآمر بإلقاء سلاح دمار شامل فتاك على بشر نيام، بل هو مدعاة بهجة وفرح وانتصار. وذلك الآمر لا يفكّر في قطعان الفرحين المبتهجين إلا بوصفهم حيوانات انتقام، أو أدنى ربما، تقف خلفه لانها تفرح لسفك الدماء وتبتهج، إشباعاً لغريزتَين: تهدئة المخاوف من الآخر، حتى إذا كان رضيعاً وطفلاً؛ وإشباع عصاب الانعزال، الأقلوي أو الطائفي أو القطيعي، المريض الملوّث.

والمرء، بالطبع، يراهن على أنّ أمثال هؤلاء السوريين، حيوانات الانتقام الراقصة على جثث الأطفال، ليسوا موجودين إلا ضمن نسبة مطابقة لأولئك الوحوش الآمرين بالذبح الجماعي؛ أو، حسب رهان آخر وطنيّ أكثر، أنّ النسبة ذاتها ليست إلا تلك العابرة المؤقتة التي لا يجوز أن تُرى في صفة الظاهرة، أو تُعمم اعتباطاً على أيّة جماعة. وبهذا المعنى فإنّ المشاهد المروّعة التي خلّفتها المجازر الكيميائية في الغوطتين ينبغي أن تهزّ ضمائر السوريين، أجمعين، أياً كانت ولاءاتهم وانحيازاتهم، وأن تكون لها سمات تطهيرية عند جميع السوريين؛ ما خلا، بالطبع، أولئك الذين أمروا بتنفيذ المجازر، إذْ أنّ انتماءهم إلى الإنسانية عامة، وليس إلى الصفّ السوري وحده، أمر مطعون فيه أساساً.

وليس أقلّ سوءاً من هؤلاء، القتلة الآمرين بارتكاب المجازر، إلا ذلك الفريق الذي ينزّههم عن ارتكابها؛ أو يلقي باللوم على المعارضة في "استفزاز" التسبب بوقوعها، أو حتى بالمسؤولية المباشرة عن تنفيذها، كما فعلت إيران وروسيا؛ أو، في فئة ثالثة ليست أدنى انحطاطاً، وضع النظام والمعارضة في سلّة واحدة، من حيث استخدام الأسلحة الكيميائية. أمّا الصفّ المنافق، الذي يكتفي بالإدانة اللفظية، أو ذرف الدموع مدرارة على الضحايا، أو يطالب بتحقيقات أكثر تمحيصاً لاستخدام (وبالتالي احتمال عدم استخدام!) هذه الأسلحة؛ فإنه يشمل الغالبية الساحقة من ‘أصدقاء الشعب السوري’، عرباً وعجماً على حدّ سواء، والرئيس الأمريكي باراك أوباما على رأسهم.

وهكذا، اختفى سيد البيت الأبيض، ذلك اليوم، حين تقاطرت أخبار مجازر الغوطة وتواترت مشاهدها الهولوكوستية، وتصدّرت الصحف غرباً وشرقاً؛ واختفى معه وزير الخارجية، ثمّ وزير الدفاع، ورئاسة المخابرات المركزية… فلم يظهر إلا جوش إرنست، النائب الأوّل للسكرتير الصحفي، الذي أعرب عن ‘قلق’ الولايات المتحدة إزاء تقارير الهجمات الكيميائية. الذي ظهر أيضاً، وإنْ على نطاق آخر يخصّ الكونغرس، كان الجنرال مارتن دمبسي، قائد الجيوش الأمريكية، الذي قال ـ في رسالة إلكترونية إلى النائب الديموقراطي إليوت إنجل ـ "إن أي تدخل عسكري أمريكي في سورية لن يكون في مصلحة الولايات المتحدة، لأن ‘المعسكر الذي نختار دعمه يجب أن يكون مستعداً لتعزيز مصالحه ومصالحنا عندما تميل الدفة لمصلحته. والوضع حالياً ليس كذلك".

طريف، مع ذلك، أنّ أوباما هو المعنيّ الأوّل بتداعيات هذه المجازر الكيميائية، لأنه صاحب الوعد الشهير بأنّ استخدام أيّ سلاح كيميائي سوف يغيّر قواعد "اللعبة"، وبالتالي سوف يستدعي خطوات أخرى تصعيدية من جانب واشنطن، ضدّ النظام السوري. وقبل شهرين، فقط، كان أوباما قد أعاد التأكيد على هذا الخطّ، ثمّ تابع طرائق الالتفاف على تبعاته (التي كان هو الذي ألزم نفسه بها!)، حين أكّد: "مهمتي هي أن أزن المصالح الفعلية الحقيقية والشرعية والإنسانية لأمننا القومي في سورية، ولكن أن أزنها على أساس الخطّ الأساس الذي رسمته، وهو البحث عمّا هو أفضل لمصلحة أمن أمريكا والتأكد من أنني لا أتخذ قرارات مرتكزة على أمل وعلى صلاة، بل على تحليل صلب بمصطلح ما يجعلنا أكثر أماناً، ويكفل استقرار المنطقة".

كذلك اعتبر أوباما أنّ استخدام الأسلحة الكيميائية في سورية ما يزال مسألة ‘تصوّر’، أي أنه احتمال ‘انطباعي’ فقط، وليس واقعة ملموسة ومرئية، تستند على أدلة مادية قاطعة. الإدارة، استطراداً، ليست متأكدة بعدُ، أو ليست متأكدة نهائياً وقطعياً، من أنّ النظام السوري قد تجاوز ذلك الخطّ الأحمر الشهير. لهذا يصعب على البيت الأبيض "تنظيم تحالف دولي" حول أمر "مُتصوَّر" فقط؛ و"لقد جرّبنا هذا من قبل، بالمناسبة، فلم يفلح على نحو سليم"، قال أوباما، في إشارة صحيحة إلى الخطأ الذي ارتكبه سلفه جورج بوش الابن في العراق. كان مدهشاً، مع ذلك، أنّ ذلك المنطق التأويلي اتكأ على منطق تبريري ينسفه، أو يبطل سلامته: أنّ إدارة أوباما تقرن القول بالفعل حين تتيقّن، أو حين تعلن اتخاذ موقف محدد، والدليل على ذلك ما فعلته مع أسامة بن لادن، ومعمّر القذافي!

والحال أنّ أيّ خطّ أحمر، لأيّ سلاح كيميائي أو جرثومي، لم يكن ذريعة أوباما في التعجيل بتصفية بن لادن، أو في في قيادة تحالف أطلسي ضدّ القذافي؛ وكلا المثالين لا يضيف جديداً في تثبيت مصداقية أوباما، رئيس القوّة الكونية الأعظم؛ وليس لأيّ منهما، أيضاً، تأثير مباشر حول اتضاح أو غموض السياسة الأمريكية حول سورية، بافتراض وجود سياسة كهذه أصلاً. من جانب آخر، أما تزال إدارة أوباما تواصل التشكيك في واقعة استخدام الأسلحة الكيميائية، بعد مجازر الغوطة؛ أم أنّ مئات القتلى، اختناقاً أو شللاً، وعشرات المشاهد الفظيعة التي تفحصها خبراء الأسلحة الكيميائية وقادتهم إلى الجزم باستخدام تلك الأسلحة… لا تشكّل، بعدُ، أدلة ملموسة قاطعة؟

ولا مفرّ، اليوم، من استعادة افتراض سابق، حوّلته مجازر الغوطة الكيميائية إلى حقيقة ساطعة، أخلاقية وإنسانية وسياسية في آن معاً: إصرار أوباما على حصر الخطّ الأحمر في استخدام النظام السوري للأسلحة الكيميائية، جعل الأسد يعطي لذاته كلّ ضوء أخضر ممكن، لاستخدام كلّ سلاح، من المدفعية الثقيلة، إلى القصف الجوي، فالبراميل المتفجرة وصواريخ "سكود"، مروراً بمجازر العقاب الجماعي ومذابح التطهير الطائفي. ولأنه عبر كلّ، وأيّ، خطّ أحمر في ارتكاب الفظائع بحقّ الشعب السوري، فإنّ الأسد بلغ تلك المرحلة التي بات الوصول إليها محتماً: أن يختبر إدارة أوباما في خطها الأحمر، ذاته، فلا يستخدم الأسلحة الكيميائية على هذا النحو الهمجي والوحشي الأقصى، فحسب؛ بل أن يفعل فعلته على مبعدة كيلومترات قليلة من فندق الـ"فور سيزن"، حيث يقيم الفريق الأممي المكلف باستقصاء استخدام الأسلحة الكيميائية!

وعلى شاكلة أوباما، ورهط المنافقين من "أصدقاء سورية"، ثمة من يتساءل ـ جاداً، بعد كلّ تلك المشاهد الهولوكوستية في الغوطتَين الشرقية والغربية ـ عن غرابة اختيار النظام لهذا التوقيت بالذات، حين تكون الأنظار معلقة على أعمال فريق التفتيش الأممي. تُنسى، هنا، اعتبارات الذعر الثلاثة التي سيقت في الفقرات الأولى من هذه السطور؛ مثلما تُسقَط من الحساب تلك الخيارات الانتحارية التي لم يتوقف النظام عن الاستقرار عليها، منذ انطلاقة الانتفاضة الشعبية، في آذار (مارس) 2011؛ وتُغفل، أخيراً، حقائق سيناريوهات التصعيد الهوجاء التي صار النظام أداة تنفيذها، لصالح موسكو وطهران، والنيران التي صارت سورية باحة إشعالها بالنيابة عن إسرائيل.

ويبقى أنّ حساب قاصفي أطفال سورية بالأسلحة الكيميائية ليس في واشنطن أو باريس أو الرياض أو الدوحة أو اسطنبول، ذات يوم آت لا ريب فيه؛ بل في عين ترما وزملكا وعربين وحمورية، وسائر القرى والبلدات والمدن السورية التي كانت ضحية مرور البرابرة الجدد، في تاريخ سورية العريق العتيق.

 

(كاتب وباحث سوري يقيم في باريس)